ومن ثم نستطيع أن نصوغ عبارة جديدة على نحو عبارة فتجنشتين وإن كانت تختلف عنها كل الاختلاف، فنقول: «إن ما لا نستطيع أن نتكلم عنه، لا نستطيع أن نقول عنه: إننا لا نستطيع الكلام عنه»، عبارة محيرة ولا شك! ولكنها على عكس ما قد يبدو من ظاهرها، لا نعرف الخبث ولا نقصد التلاعب بالألفاظ، إنها تنقلنا إلى آخر حدود اللغة، حيث يكون العجز عن الكلام أصدق من كل كلام، ولكن لماذا تقف اللغة الموروثة ويقف الفهم العادي موقف العاجز أمام المتعالي؟
لقد اعتمدنا في نقدنا السابق لما سميناه بالفهم السليم (أو الحس المشترك
Common-sense ) على أن المتعالي ليس شيئا ولا يمكن الحديث عنه أو التفكير فيه كما نتحدث في العادة عن شيء أو نفكر في شيء، وكشفنا عن الموقف غير الميتافيزيقي الذي يقفه ما نسميه بالفكر السليم والذي أوجزناه في هذه العبارة التي لا يفتأ يرددها ويجعل منها شعارا لنفسه: «الكل كل والعدم عدم.»
والواقع أننا لا ننكر أن الفهم السليم قد يتجاوز العالم ويعلو عليه، ولكن هدفه الدائم من هذا العلو هو إثبات العالم. وإثبات العالم عنده هو وليد إثبات الذات التي تريد تحقيق السيطرة على العالم. وإذا حدث له مرة أن فكر في الموت فهو عنده النهاية الظاهرية للحياة، تلك النهاية التي تتبعها حياة لا تعرف الموت، والفهم السليم لا يريد بذلك أن يفهم أن الموت ليس حدثا يختم كل أحداث الحياة ويضع نهايتها، بل هو شيء يحيط بالحياة في كل لحظة، لا بل إن الحياة نفسها من لحظة الميلاد إلى لحظة الاحتضار ما هي إلا موت متصل؛ ولهذا وحده استحقت أن تعاش، فالفهم السليم لا يهمه في الحالين إلا أن يثبت قوته المطلقة ويؤكد سيطرته على العالم. ألا يعتقد أنه يفهم كل شيء أو يستطيع أن يفهم كل شيء؟ فكيف لا يذهب إلى التحكم في كل شيء وإثبات أنه هو كل شيء؟ ألا ينسى الفهم السليم بذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يتصور «كل شيء» بدون أن يتصور العدم و«اللاشيء»، وأنه لا يستطيع أيضا أن يعلو فوق كل شيء حتى يتخلى عن كل شيء؟ وإذن فالعلو الذي يحاوله الفهم السليم - إن حاول على الإطلاق - إنما هو علو فاسد لا يرتفع بصاحبه فوق العالم إلا لكي يعود فيسقطه فيه؛ ذلك لأنه ليس علوا على الذات والعالم من أجل العلو في ذاته، بل من أجل إثبات هذه الذات وتأكيد سيطرتها على العالم.
فإذا لم يكن هذا هو العلو الحق، فأين نجده إذن؟
قلنا: إن العلو يكون فوق كل شيء على وجه الإطلاق، ولا بد لنا الآن من الوقوف عند هذا الشيء الذي نريد أن نعلو عليه.
كل ما هو موجود فهو معين ومحدود، وكل ما هو معين ومحدود فهو محتوى في محل، وكل ما يقال عنه: إنه «في غيره» فهو يقبل العلو عليه، لا بل يلزمنا بهذا العلو ويدعونا إليه، ولكن العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا يمكن أن ينتهي بنا إلى شيء أخير، وإلا لزم العلو عليه أيضا، كما لا يمكن أن يفضي بنا إلى ما «في محل»؛ لأن كل «ما في محل» فهو قابل بالضرورة أن يعلى عليه، وعلى ذلك فإن العلو على كل شيء على وجه الإطلاق لا يمكن أن يؤدي إلى شيء أو موضوع، ولا يمكن أن يصبح هو نفسه شيئا أو موضوعا.
لقد عرفت فلسفة الوجود - وبالأخص عند هيدجر - وجود الإنسان بأنه موجود في العالم، وكلمة «العالم» في أصلها اليوناني واللاتيني تعني
cosmos ، كما تعني
Mundus
অজানা পৃষ্ঠা