والحقيقة إن ما نسميه بالفكر السليم لا بد أن ينفي وجود المتعالي ما دام لا يؤمن إلا بالتجربة، وما دام لا يفهم منها إلا أنها كل معرفة يتوصل إليها عن طريق الإدراك الحسي؛ فالمتعالي لا يقع بطبعه في مجال التجربة، وإذا أردنا بالتجربة تلك المعرفة التي نكتسبها عن طريق الاتصال بالعالم الخارجي أو العالم الداخلي، فلا يمكن أن تكون هناك معرفة بالمتعالي. وهذا هو الموقف الذي انساق إليه «كانط» بنقده للعقل الخالص؛ فلقد وجد نفسه مضطرا إلى إنكار تجربة المتعالي، واستحالة معرفته معرفة مباشرة، وكان أن جعله فرضا أو مثالا يرى العقل الخالص ضرورة وجوده، ويحاول بطبيعته أن يقترب منه وإن كان يعلم أنه لن يستطيع أن يدرك حقيقته أو يصل إلى كنهه. نقول: إن «كانط» كان مضطرا إلى اتخاذ هذا الموقف من المتعالي بعد أن حدد موقفه من التجربة؛ فالتجربة عنده هي معرفة الموضوعات عن طريق الإدراك الحسي، أما موضوعية الموضوعات - إن جاز التعبير - فلا يمكن معرفتها إلا بتطبيق أشكال الفهم ومقولاته عليها؛ فليست التجربة تلقيا سلبيا لمعطيات العالم الخارجي، ولا هي فعل تلقائي من أفعال العقل، بل هي مزيج منهما جميعا، ومن هنا عبارة كانط المشهورة: «الموضوعات بغير تصورات عمياء، والتصورات بغير موضوعات جوفاء». المهم أن كانط ينازع في وجود موضوع متعال أو في إمكان التجربة والمعرفة المتعالية، وهو في هذا منطقي مع نفسه ، فما من شيء عنده يمكن أن يكون موضوعا للمعرفة حتى يستمد من التجربة، ويطبق عليه الفهم أشكاله ومقولاته، ولن يغير من موقفه هذا تسليمه بوجود ما يسميه بالشيء في ذاته (وهو تعبير كشف المثاليون من بعده عن تناقضه البين في الحدود، فما هو في ذاته لا يمكن أن يكون شيئا)؛ ذلك أنه يجعل هذا الشيء في ذاته فكرة أو مثالا للعقل الخالص، يفترض وجوده دون أن يستطيع بطبيعته معرفة حقيقته أو فهم كنهه.
ولسنا في حاجة إلى بيان ما في فكرة المتعالي عند كانط من قصور، فهو - في فهمه لها - ملتزم بالتراث الميتافيزيقي الذي تلقاه عن «فولف» وأتباعه، وهو في نقده لها ملتزم بالمهمة التي أخذها على عاتقه حين أقام بناءه النقدي العظيم، وأراد به فيما أراد أن يكفكف من غلواء هذا التراث الميتافيزيقي ويرسم له الحدود التي لا ينبغي له أن يتجاوزها بحال، ولسنا كذلك في حاجة إلى أن نشير إلى القصور الذي نجده في تصور كانط للتجربة على أنها المعطى الحسي الذي ختم عليه الفهم بخاتمه ووضعه في قوالبه ومقولاته، فمعنى التجربة أوسع بكثير من أن تقتصر على المعطى المحسوس، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن التجربة بمعناها الحق لا تكون كذلك حتى تكون تجربة بما لا يعطى أو يحس. ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع الفكر أن يفكر في نفسه - فجوهر الفكر في هذا الانعكاس على ذاته - ولا قامت تجربة فنان أو شاعر أو متصوف، ولا تجربة حب أو مخاطرة أو موت، ولو لم تكن هناك تجربة أخرى غير تجربة المحسوسات والعينيات لما استطاع ديكارت مثلا في التأمل الثاني من تأملاته العميقة الصافية أن يذهب إلى أن تجربة الذات لنفسها أكثر يقينا من الأدلة الرياضية، ولما أمكنه بالفكر وحده أن يصل إلى عبارته المشهورة التي ما تزال تحير الناس: أنا أفكر فأنا إذن موجود.
ولتجربة المتعالي درجات تختلف في عمقها وأصالتها، فمن علاماتها أنها تصيب الإنسان حين تصيبه بالدهشة الحقيقية والقلق الحقيقي، فمع الدهشة يصبح الموجود بما هو موجود شيئا غريبا ومفاجئا غير مألوف، شيئا تنظر العين إليه فكأنها تراه لأول مرة، ويدركه العقل فيسأله ما أنت؟ ومن أنت؟ وإلى أين تصير؟ هذا القلق الحقيقي الذي لا يكون قلقا من شيء بل إحساسا غامرا مفاجئا بالضياع تعبر عنه فكرة باسكال المشهورة (الفكرة 212) أجمل تعبير حين تقول: «إنه لشيء مفزع أن يحس الإنسان أن كل شيء يملكه ينزلق منه.»
لنقطع هذا الحديث لحظة لنسأل أنفسنا: هل هناك إذن تجربة بالمتعالي؟ والجواب على هذا السؤال بلا ونعم، الجواب بلا إذا فهمنا التجربة بمعناها الحسي المباشر الذي نفهمه منها كل يوم، والجواب بنعم إذا فهمنا التجربة بمعناها الأصيل، فهي عندئذ انفعال نعاني فيه ما نجربه ونشقى به، بمعنى الانفعال كما فهمه أفلاطون فأطلقه على الدهشة وجعلها جوهر التفلسف وأصله.
فتجربة المتعالي تختلف إذن عن كل تجربة حسية وغير حسية؛ ذلك أن كل ما نجربه مما يقع في العالم من موجودات إنما يقوم على علاقة الذات والموضوع، وما كذلك تجربة الدهشة الحقة ولا تجربة القلق الحق.
فنحن لا نندهش حين نندهش حقا؛ لأن هذا الموجود أو ذاك على هذه الصفة أو تلك، ونحن لا نقلق حين نشعر بالقلق الحق من شيء بعينه نتوقع منه خطرا أو نخشى منه أذى، إننا نشعر بأننا خارج العالم، بعيدين عن نطاق كل ما هو «عالمي» أو يمت إلى العالم بسبب، على نحو ما شعر المتصوفون دائما في الشرق والغرب في تجربتهم بالمتعالي، وفي مقدمتهم أفلوطين، هذا الخروج عن العالم
Ekstasis
هو ما يسميه أفلوطين بالوجد، وذلك في رسالته عن الواحد في نهاية التاسوعة السادسة. والوجد بهذا المعنى اندهاش ونشوة وسعادة قد تصل إلى حد الجنون، والوجد، بالمعنى اليوناني للكلمة، قد يكون من معانيه كذلك الوقوف والسكينة والسكون. وأفلوطين يشير بذلك إلى المعنى الأصلي لهذه الكلمة وهو مغادرة الموضع والتخلي عن المكان أو الخروج منه، أي خروج الإنسان عن ذاته وعلوه عليها وعلى كل علاقة تربطه بالكون وما فيه، هذا الخروج من الذات هو في الحقيقة دخول إليها ورجوع إليها. ولا بد لنا لكي نعيش هذه التجربة أن نجرد لفظتي الدخول والخروج من كل مدلول مكاني يعلق بهما كما لو كنا ندخل من باب ونخرج منه، ولا بد للتجربة من أن تتخلص من كل عنصر كوني أو عالمي، كما لا بد لها أن تتجرد من كل صبغة نفسية أو اجتماعية. إن تجارب الدهشة والقلق الحقيقيين تجارب وجد، أي خروج من العالم وعلو عليه. والدهشة والقلق هما الطريق إلى تجربة المتعالي، أو قل هما التجربة نفسها، وليس معنى ذلك أن كل من يعاني القلق أو يجرب الدهشة فقد جرب المتعالي أو اقترب منه، بل معناه أن كل من يعلو فوق ذاته وفوق العالم فلا بد أن تعصف به ريح القلق وتغلف عينيه سحابة الدهشة.
قلنا: إن المتعالي ليس مما يدخل في العالم، وبالتالي لا يمكن أن يكون موضوعا للفكر؛ لأن هذا يستمد موضوعه من العالم وما فيه، فإذا كان هذا هو شأن المتعالي، فهل يعفينا ذلك من محاولة التفكير فيه والبحث عن اللغة التي نتحدث بها عنه؟ إن المتعالي لا يمكن أن يظهر في اللغة ظهورا مباشرا؛ لأنه ليس ظاهرة من الظواهر على الإطلاق، ولكن هذا لا يعني أن اللغة لا شأن لها به؛ إذ إن المشكلة ستكون عندئذ كيف نعبر باللغة عما يتعذر التعبير عنه بوسائلنا اللغوية المألوفة؟ وكيف نتكلم عما يمتنع بطبعه أن يكون موضوعا للكلام؟
يقول فتجنشتين في رسالته المنطقية الفلسفية: «إن ما لا يستطيع الإنسان أن يعبر عنه، عليه أن يسكت عن الخوض فيه.» فإن صحت هذه العبارة ففيم إذن كان كل هذا الحديث إذا كنا سنلزم الصمت في نهاية المطاف؟ وهل يكون علينا أن نطبق كلمة فتجنشتين الصادقة القاسية على المتعالي وقد قلنا: إنه لا يستطاع التعبير عنه؟ نعم ولا، والمهم بعد كل شيء هو أن نتفق على ما نريد من الصمت، فالصمت لا يقدر عليه إلا من يستطيع الكلام، والحيوان الأبكم لا يقدر على الصمت؛ لأنه لا يستطيع الكلام أصلا .
অজানা পৃষ্ঠা