الإهداء
تقديم
الفكر ... تطور
أنت لا تنزل النهر مرتين
وعلو وتحرر
كهف أفلاطون
وحيدا مع الواحد
تعلموا أن الإنسان يعلو على الإنسان
ودهشة واحتجاج
الدهشة أصل الفلسفة
অজানা পৃষ্ঠা
لا
وشجاعة وتواضع
أيها الإنسان! لست إلها؟
عن الشجاعة
والفكر قدر
قدر المفكرين حزين
العود الأبدي
والفكر عزاء
عزاء الفلسفة
وحوار ولقاء
অজানা পৃষ্ঠা
لوحة رفائيل
مدرسة الحكمة
خلاف حول الإنسان
ومعرفة وحقيقة
ما هو الشيء؟
حذاء فان جوخ
إشارة إلى المراجع
الإهداء
تقديم
الفكر ... تطور
অজানা পৃষ্ঠা
أنت لا تنزل النهر مرتين
وعلو وتحرر
كهف أفلاطون
وحيدا مع الواحد
تعلموا أن الإنسان يعلو على الإنسان
ودهشة واحتجاج
الدهشة أصل الفلسفة
لا
وشجاعة وتواضع
أيها الإنسان! لست إلها؟
অজানা পৃষ্ঠা
عن الشجاعة
والفكر قدر
قدر المفكرين حزين
العود الأبدي
والفكر عزاء
عزاء الفلسفة
وحوار ولقاء
لوحة رفائيل
مدرسة الحكمة
خلاف حول الإنسان
অজানা পৃষ্ঠা
ومعرفة وحقيقة
ما هو الشيء؟
حذاء فان جوخ
إشارة إلى المراجع
مدرسة الحكمة
مدرسة الحكمة
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الإهداء
إلى أستاذي الدكتور «ف. شتروفه» بجامعة فرايبورج (بألمانيا) أهدي بعض ما تعلمته منه.
অজানা পৃষ্ঠা
تقديم
ليس هناك فلسفة بغير تفلسف، أعني بغير مشاركة في مسائلها، وتجربة حية لمشكلاتها، صحيح أن هناك عددا لا حصر له من الحقائق التي يستطيع الإنسان أن يتعلمها من تاريخ الفلسفة، وصحيح أيضا أن تاريخ الفلسفة لا غنى عنه لكل من يريد أن يتفلسف، غير أن الاقتصار على ترديد آراء الفلاسفة - كما يقول «كانط» في عبارته الجميلة في نهاية «نقد العقل الخالص» - يحيل الإنسان إلى «نسخة من الجبس» تكتفي بالترديد وتعجز عن الإضافة والإبداع. فتاريخ الفلسفة هو تاريخ البحث في المشكلات الفلسفية قبل أن يكون مجموعة من المذاهب والنظم والنظريات، والفلاسفة أناس مثلنا من لحم ودم، لا آلات مفزعة تصنع أفكارا مجردة وكلمات جافة مخيفة، لقد واجهوا مشكلات عذبتهم، ووقفوا أمام ألغاز في الكون أو في أنفسهم حاولوا أن يجدوا لها حلا. ولا جدوى على الإطلاق من أن «نعرف» أن «أفلاطون» كان ينادي بنظرية المثل، أو أن «أرسطو» كان يقول بتركيب الأشياء من مادة وصورة، أو أن «كانط» قد وصف المكان والزمان بأنهما صورتان أوليتان للعيان أو المشاهدة، لا يتم للإنسان فهم أو إدراك إلا في إطارهما؛ لا جدوى من معرفة هذا كله إذا لم نعرف قبل هذا شيئا عن «الإشكال» الذي جعل أفلاطون وأرسطو و«كانط» ينظرون هذه النظرة إلى الواقع أو إلى المكان والزمان، وإذا لم نشعر باللغز الذي أرقهم ودفعهم إلى البحث عن الحل الذي ذهبوا إليه. وإذن ففهم المشكلات الفلسفية لا يكون بحفظ مذاهب الفلاسفة وآرائهم، بل بتجربتها ومكابدتها على أنها مشكلاتنا نحن، وطبيعي أننا لن نستطيع أن نفهمها الفهم الصحيح حتى نضعها في داخل تطورها التاريخي، ولكننا لن نستطيع كذلك أن ننظر إليها على أنها «مشكلاتنا نحن»؛ حتى نعود فنضعها في تاريخنا ونسأل أنفسنا: ماذا يمكن أن تقوله اليوم لنا؟ فالفلسفة مجموعة من المشكلات والأسئلة التي لا تكاد تختلف من عصر إلى عصر إلا في أسلوبها وطريقة صياغتها والإجابات التي يحاول أبناء كل جيل أن يقدموها لها، ويعكسوا على مرآتها أفكارهم وهمومهم وضعفهم وقوتهم وأحلامهم وأشواقهم وتخريفهم وسخفهم أيضا؛ ولذلك كان من أصعب الأمور على دارس الفلسفة أن يجد المرجع الذي يعطيه كل شيء عنها؛ لأنه سيكتشف بعد قراءة مئات الصفحات - بل آلافها - أنه لم يعرف بعد ما هي الفلسفة! وليس الأمر كذلك في سائر العلوم التي نصفها بالعلوم الوضعية، فيكفي أن نمد أيدينا إلى كتاب في تاريخ الفلك أو الطبيعة أو النبات أو الاجتماع؛ لنعرف موضوع هذا العلم وحدوده وغايته. ذلك هو سر الخطر والإغراء الذي تنصب الفلسفة شباكه لكل من يغامر بالسير على دربها الممتع الخطر، إنه لا يلبث أن يجد أن كل المصابيح التي أخذها من أيدي الفلاسفة لا تكفي لإنارة طريقه، وأن عليه أن يكتشف هذا الطريق بنفسه، ويفكر فيه بالاعتماد أولا وأخيرا على نفسه. صحيح أنه لن يستغني عن هذه المصابيح التي زوده بها تاريخ الفلسفة، ولكنها كذلك لن تعفيه من البحث عن مصباحه ووضع الزيت فيه وتنظيف زجاجه من حين إلى حين!
في هذا البحث الدائب المستمر تكمن حقيقة ما يسمى عادة بالفلسفة الخالدة
perennis ، فليست هذه الفلسفة الخالدة هي التي تبحث في علاقتنا بالوجود الكلي وفي علاقته بنا فحسب، وليست هي التي تكتفي بالإجابة على الأسئلة التقليدية، بل هي التي تحيي مشكلاتها الباقية وتخلق مشكلات جديدة كلما استطاعت، وتجعلنا نفكر فيها ونحياها اليوم، لا بل نفكر فيها ونحياها الآن، بذلك تصبح الفلسفة هي التفلسف، كما يصبح التفلسف ضرورة باطنة، ورسالة دائمة لا يستطيع الإنسان أن يتخلى عن حمل أمانتها ومسئوليتها إلا إذا أراد التخلي عن حقيقته كإنسان.
إن الفلسفة هي التي تفتح عيوننا على معنى وجود العالم ووجودنا، وتضع أيدينا على ما فيهما من إشكال في ذاته، إلى الحد الذي نكف معه إلى الأبد عن التماس الحلول «النهائية» أو وضعها في صيغة مريحة أو قالب ثابت من تلك الصيغ والقوالب التي يزخر بها تاريخ الفلسفة. إنها تريد أن تفهم، ولكي تفهم لا بد أن تبحث، ولكي تبحث لا بد أن تكون حرة، فليست الفلسفة ولن تكون في الكتب أو الحروف المكتوبة التي فقدت مع الزمن سحرها القديم، وجدير بنا أن نذكر أن سقراط إمام الفلاسفة ونموذج الفلسفة لم يكتب - لحسن الحظ - حرفا واحدا، وأن حياته وموته ما زالا يخجلان الجميع، سواء أكانوا من المثقفين العاديين أم من موظفي الفلسفة الأكاديميين. فلقد تفلسف سقراط بحق، والفلسفة عنده كان معناها البحث؛ معناها أن هناك أشياء يمكن أن ترى وأن تقال، وإلا كانت مجرد ثرثرة وهراء وسحب نعيش فيها، كما كان أرسطوفان يزعم عنه ظلما، ولا شك أنه لم يكن من قبيل الصدفة أن يحيا هذا الفيلسوف الحق إلى جانب البسطاء من الناس يناقشهم ويناقشونه في الشوارع والطرقات، فلعله قد وجد لديهم فهما للتهكم الفلسفي واستعدادا للدهشة لم يستطع أن يعثر عليه عند أدعياء المعرفة وكهنتها الرسميين، ولعله قد أحس بفطرته أن مكان الفيلسوف مع الناس، وأن جذوره ممتدة في نفس العالم الذي يضمهم وإياه. وهل يفعل شيئا آخر غير التعبير بالكلمات عما يحسونه جميعا من أسرار الروح والجسد والموت والحياة؟ ألا يعبر عن اللحظات التي تتجدد فيها حياته ويتسع أفقه محاولا أن يجعل تجربته الذاتية تجربة مشتركة، وأن يوقظ معاصريه ويفتح أعينهم على مفارقات الوجود التي يطوونها بين جوانحهم في صمت؟ ألا يقول لهم: إن الموت كامن في الحياة، وإن الفلاحين - بل شعوبا بأكملها كما يقول مونتني - تموت باستمرار كما يموت الفيلسوف؟ ألا يعلمهم أن الإنسان، لكي يكون إنسانا بحق؛ ينبغي عليه أن يكون شيئا أكبر قليلا من الإنسان وأقل قليلا منه؟
1
كل هذا يؤكد أنه إذا كان التفلسف هو محاولة الكشف عن معنى العالم أو الوجود الشامل، فإن الإنسان لا يمكنه أبدا أن يتفلسف بالخروج عن الموقف الإنساني أو من خارجه، فهو لا يستطيع أن يفكر في الحقائق الأبدية حتى يبدأ من حقيقته الفانية، ولا يمكنه أن يعلو فوق العالم حتى يهبط إلى أعماقه، ولا يسعه التفكير في الأسئلة الخالدة: من أين؟ وإلى أين؟ حتى يعيش لحظته الحاضرة ويبدأ من يومه الراهن؛ فالفيلسوف ملتزم بالتاريخ الذي يعيش فيه، والناس الذين يحيا معهم، ولكنه كذلك غير ملتزم، بمعنى أنه لا بد له من الاحتفاظ لنفسه بحق التحرر من كل قيد ممكن، سواء جاء من الدين أو التقاليد أو أفكار العصر؛ ولذلك فهو مضطر أن يحيا في هذه الازدواجية، أعني أن يعيش على الدوام في حالة من الارتباك، والارتباك هو نقطة ضعف الفيلسوف، وهو كذلك فضيلته، إنه يعلم أن بحثه الدائم عن الوجود الشامل أو المعنى والحقيقة ... إلخ؛ لا يجيز له أن يبعده عن تيار التاريخ ولا عن عالم الظواهر من حوله، كما يعلم أن انشغاله الضروري بعالم الطبيعة والبشر لا يصح أن يشغله عن الكل والمطلق والمعنى، إنه لا يتعالى فوق تناقضات العالم والعصر، ولكن كذلك لا يريد أن يغرق نفسه فيها، ولعل هذا هو معنى العبارة التي ذكرها أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس
Theaitetos
عن تلك الفتاة الثراقية التي أغرقت في الضحك عندما رأت الفيلسوف طاليس يسقط في نبع الماء؛ لفرط استغراقه في تأمل النجوم.
2
অজানা পৃষ্ঠা
بهذا يضمن الفيلسوف - إن كان في مغامرة التفلسف ضمان لشيء! - ألا يتلاشى فكره في التجريد أو يتحجر في الجمود، وأن يظل فعله الفلسفي حيا وخالدا، إنسانيا ومتعاليا فوق الإنسان، واضحا ومحاولا الكشف عن الغموض، وبهذا أيضا تكون «الفلسفة الخالدة» هي في نفس الوقت «الفلسفة الحية»، ولا تكون الفلسفة إلا هذه الحركة المعذبة المتصلة بين السؤال والجواب والغموض والوضوح والمطلق والنسبي والإنساني وما يتجاوز حدود الإنسان، ويصبح من واجب هذا «الكائن الوسط» - الذي نسميه الإنسان - أن يقبل هذا القدر القاسي النبيل في شجاعة وثقة، ويحمل مسئوليته في أمانة وكبرياء، حتى يمكنه أن يحيا مشكلات الفلسفة ويحييها، ولا يكتفي فحسب بتأملها والتفكير فيها، وبهذا يصبح أول حرف في الفلسفة هو الإنسان نفسه، الذي يحاول ويعاني ويصارع ويتقدم على الدوام ويحقق نفسه في كل فعل يقوم به كجهد خلاق، وثورة حية متجددة. وتسكن الفلسفة في قلب الحياة والتاريخ، في المكان الذي تولد فيه الأحداث، باحثة عن المعنى والغاية، مبتعدة بنفسها عن طموح العمليين وتجريد المذهبيين.
في هذا البحث الدائم تكمن حقيقة «الفلسفة الخالدة» التي أشرت إليها من قبل؛ فهي أشبه ما تكون بنظام شامل يتسع للفلاسفة في كل العصور، وتتنفس فيه آراؤهم، وتنبض أفكارهم وهمومهم. ولكنه كذلك نظام معاصر نستطيع نحن أيضا أن نجد مكاننا فيه، ونحس بالمشكلات التي عذبت من قبلنا، ونجيب عليها كذلك إجابات مختلفة عن إجاباتهم. «فالشك» مثلا ليس مسألة أثارت بعض الفلاسفة ومرت من زينون الإيلي إلى السفسطائيين إلى ديكارت، بل هو مسألة تطرح نفسها علينا في زمننا الحاضر وفي موقفنا الراهن. وليس معنى هذا أننا لا ندخل «مدرسة الحكمة» أو «معبد الفلاسفة» إلا لنلتقي بأفكارهم الخالدة فحسب، بل لا بد لنا كذلك أن نعرف حكمتهم وحماقاتهم وهزائمهم وانتصاراتهم وحقائقهم وسخافاتهم. وليس ما يمنع أيضا من الاهتمام بالأمراض التي كانوا يشكون منها في المعدة أو الصدر؛ اهتمامنا بتفاصيل مذهبهم أو ظروف مجتمعهم وحياتهم؛ ذلك لأن الفلسفة - هذا الجنون المعقول! - حاضرة دائما في كل فيلسوف، وليست حقائق الفلاسفة أو خرافاتهم سوى ذكريات على طريق واحد، مهما تعرج أو امتلأ بالسدود والمطبات، فهو يتحرك على الدوام حركة تبدأ في كل لحظة ولا تنتهي؛ فليست الفلسفة في نهاية الأمر مجموعة من المذاهب والآراء التي تعبر عن نفسها بالأفكار المجردة، بل هي قبل ذلك ملحمة من تجارب الحكمة، تمتلئ فصولها بالسلب والإيجاب والنجاح والفشل والتقدم والتأخر، ويتصل فيها الماضي بالحاضر، ويلتقي المفكرون من حيث لا يعلمون؛ ليضعونا أمام المسئولية التي تحتم علينا في كل لحظة حاسمة من لحظات حياتنا أن نجرب تلك الحكمة، ونسير على هذا الطريق؛ لنثري حياتنا ونوسع آفاق شعورنا، ونكون نظرتنا الشاملة في العالم والإنسان، ونتمسك بالقيم التي نادى بها الفلاسفة ودفع بعضهم حياته من أجلها.
لذلك كانت الخطوة الأولى على هذا الطريق هي إيقاظ السؤال الفلسفي في نفس القارئ من جديد، والرجوع به إلى الحالة الأولى للتفلسف، أي إلى الدهشة الأصيلة التي جعلت أقدم الفلاسفة يسأل هذا السؤال السهل العسير: ما هو الوجود؟ وكانت لحظات الاندهاش أو العلو أو الشجاعة والتواضع أو الاحتجاج ... إلخ، التي تتحدث عنها الصفحات القادمة لحظات من فعل التفلسف نفسه، ومحطات على هذا الطريق الطويل الشاق، وألوان من المواقف الحاسمة التي وقفها المفكرون، واستطاعت فيها الفلسفة أن تكون عونا لهم على مواجهة قدرهم أو أدت بهم على العكس من ذلك إلى مأساة هذا القدر؛ ولهذا كله فإن هذا الكتاب لا يهدف إلى التعرض لتاريخ الفلسفة أو مذاهبها، بقدر ما يهدف إلى تمهيد الأرض الصالحة لفعل التفلسف نفسه، وتطهيرها من كل ما يعوقه من عقبات تنجم عن التزمت أو الكسل أو الإغراق في التفاصيل والجزئيات. إنه يريد أن يشرك القارئ في ذلك البحث الخالد عن المعرفة ويأخذ بيده إلى «مدرسة الحكمة» التي لا يحدها مكان ولا زمان، لعله أن يدخل في حوار مع أصحابها، ويذوق طعم المشكلات التي تعذب عقولهم أو تملأ عليهم وجدانهم، حتى يفوز من ذلك بزاد يعينه على طريق الحياة، ويحيي فيه جذوة السؤال عن حقيقته وغايته ومعنى وجوده وحريته.
وإذا كان الكتاب لا يهدف - كما قلت - إلى عرض مذاهب فلسفية ولا الوقوف منها موقف المؤيد أو المعارض، فليس معنى هذا بالطبع أنه يسوي بين الفلسفات جميعا كما لو كانت - على حد تعبير هيجل - قططا سوداء في حجرة مظلمة، بل معناه أنه يعرض جوانب من فعل التفلسف الخالص نفسه؛ فهو الخيط الذي يمكنه أن يهدينا في متاهات الآراء المختلفة، ولا بد من البدء بتفهم حروفه لنفهم بعد ذلك لغات الفلاسفة المركبة الغامضة، ولا بد أيضا من تجربته والتمرس عليه قبل الخوض في الكلام عن المذاهب أو التصدي لها بالمعارضة أو التأييد، فإذا أفلح هذا الكتاب في أن يوقظ في القارئ محبة الحكمة أو يغريه بممارستها، وإذا استطاع - على الأقل - أن يقدم له بعض اللحظات الأولية التي تعبر عن الجهد الفلسفي وتضع قدم المتفلسف على الطريق، فقد حقق أقصى ما يطمح إليه كاتبه.
عبد الغفار مكاوي
القاهرة في يناير 1967
الفكر ... تطور
أنت لا تنزل النهر مرتين
سماه بعض القدماء ب «المعتم»، وبعضهم الآخر ب «الفيلسوف الباكي»، وغلبت عليه هذه التسمية جيلا بعد جيل، منذ أن كانت كتاباته كاملة بين أيدي معاصريه. ويقال إنه أودعها في معبد الآلهة أرتيميس، وتعمد أن يدونها بخط غير واضح حتى لا يقربها إلا القادرون على فهم أسرارها، إلى أن ضاع معظمها ولم يبق منها سوى مائة وثلاثين شذرة متفرقة يتألف بعضها من عبارات صغيرة، وبعضها من جملة واحدة أو كلمة مفردة. أما الاسم الذي خلعه عليه أبوه فهو هيراقليطس بن بلوسون من مدينة أفيسوس في بلاد اليونان، وأما تاريخ ميلاده فيرجع إلى حوالي عام 500 قبل الميلاد.
وهيراقليطس هو آخر الفلاسفة المعروفين بالأيونيين وأكبرهم، أحاطت به هالة من العظمة والوحدة والكبرياء والتفرد، جذبت المفكرين إلى شخصيته العجيبة على مدى العصور، وتمثلت فيه غضبة المفكر الذي يدق ناقوس الخطر ليوقظ النيام ويرفع عصاه ليعيد موكب الجماهير إلى منبع الحكمة، نشأ في بيت ثري نبيل، وتخلى عن وظيفة الكاهن الموروثة في أسرته إلى شقيقه الأصغر، ورفض أن يشارك في حكم المدينة التي ولد فيها، أو يشرع لها القوانين؛ لا عن أنانية أو تكبر، بل لاعتقاده بأن دستور هذه المدينة ومواطنيها قد بلغوا من الفساد حدا يعجز معه عن إصلاحهم: «من الخير للأفيزيين أن يشنقوا أنفسهم واحدا واحدا، وأن يتركوا المدينة لغير الذكور؛ فهم الذين طردوا هرمودوروس (أحد أصدقاء هيراقليطس) أكرم رجالهم قائلين له: ليس منا من يفضلنا في الكرامة، وإن وجد فينبغي له أن يعيش في بلد آخر وعند قوم آخرين.»
অজানা পৃষ্ঠা
1
وراح هيراقليطس يعبر عن احتقاره المر للجماهير الذين يسميهم بالكثيرين والذين يرقدون على حد قوله: «شباعا كالبهائم»،
2
ويسفه آراءهم ويزري بشعائرهم وطقوسهم، إيمانا منه بأن «الواحد حين يكون عظيما يفضل عنده عشرة آلاف»،
3
وأخذ يسلط نظرة القاضي القاسية على أسلافه، فهو يعترف أن هوميروس هو أحكم اليونانيين جميعا،
4
ولكنه ينصح هؤلاء اليونانيين مع ذلك بأن يطردوه من مدينتهم، وينهالوا عليه وعلى الشاعر أرخيلوخوس ضربا بالسياط!
5
ولم ينج الشاعر هزيود من هجومه المفزع، ولا نجا أعظم اليونانيين من لسانه السليط، إنه يتهمهم جميعا بأنهم علموا الناس أن يحشوا رءوسهم بالحفظ والمعرفة، مع أن «كثرة المعرفة لا تعلم العقل.»
অজানা পৃষ্ঠা
6
وأنهم يتبعون منشدي الشعب، ويجعلون من الرعاع معلمين لهم؛ لأنهم لا يدرون أن الكثيرين أشرار، وأن القليلين طيبون. ويغالي في هجومه فيصف فيثاغورس وأصحابه بالنصابين والغشاشين، ولا يعترف لأحد من السابقين بفضل المعلم، بل يقول في كبرياء واعتزاز بالنفس: «أنا الذي قمت بالبحث في نفسي.»
7
وفي هذه الكلمة الأخيرة نغمة لم تسمع من قبل في فجر الفلسفة، ف «الأنا» تعلن لأول مرة عن نفسها وتطالب بحقها، ويتكشف أفق جديد لم يعرفه الإنسان من قبل: هو أفق الذات، فها هي ذي عميقة عمق الهاوية، لا يستطيع غواص أن يصل إلى قرارها، متسعة الأرجاء، لا يملك أحد أن يلمس حدودها: «لن تستطيع خطاك أن تعثر على حدود النفس، ولو سرت في كل طريق، عميق هو معناها «لوجوس» شديد العمق.»
8
وفي هذه العبارة يبدأ علم النفس ويصل أيضا إلى أبعد غاياته، فلا نكاد نعرف شيئا قيل عن النفس الإنسانية أشمل أو أصدق من هذه العبارة، إنها تحملنا على تصديق ما يروى عن رأي سقراط في هيراقليطس؛ فقد قيل: إن الشاعر المسرحي يوريبيدز قدم إليه مؤلف هيراقليطس وسأله عن رأيه فيه، فرد عليه سقراط قائلا: «إن ما فهمته منه شيء رائع، أما ما لم أفهمه فإنني أومن بصحته، غير أنه يحتاج إلى غواص من ديلوس!»
9
ولقد حاول الغواصون على مر العصور أن يخوضوا في بحره المظلم، ويصطادوا اللؤلؤ والنضار من لغته الزاخرة بالصور والرموز والأسرار، رأى فيه هيجل الأب الحقيقي لمذهبه في «الروح المطلق» الذي تتلاقى فيه الأضداد فتستريح، ويتعانق عنده الفكر والوجود بعد طول فراق، وترسو عليه سفينة المصير بعد رحلة الصراع والضياع، وأحبه نيتشه حتى كاد أن يكون هيراقليطس ثانيا يحيا في العصر الحديث حياته ويتعذب عذابه، ويواجه العالم كله بتحديه وتمرده وانفراده، وفتنت هيدجر منه دعوته الجريئة إلى الاستماع إلى صوت الوجود أو الحقيقة أو «اللوجوس»، فتحدث عنه حديث من يحاول الرجوع إلى المنبع الحقيقي الذي تدفقت منه الفلسفة في تاريخها الطويل، والتربة الأصيلة التي انقدحت فوقها شرارة التفكير الملهم في الوجود، قبل أن يتحول هذا التفكير الخالص على يد سقراط إلى بحث في الإنسان والأخلاق، ويصب على يد أفلاطون وأرسطو ومن تبعهما في قوالب العقل والمنطق والمذهب. فلنحاول اليوم معا أن نقف على شاطئ هذا البحر المعتم الزاخر ما دمنا عاجزين عن السباحة معهم فيه، ولنجرب القناعة بالصدف والمحار ما دمنا لا نملك الغوص فيه بحثا عن اللؤلؤ والنضار. •••
ها هو ذا هيراقليطس يبرز من بين الأمواج الأبدية وينادي: لست أرى إلا التحول والتغير، لا تخدعوا أنفسكم ولا تلوموا حقيقة الأشياء، بل لوموا قصر نظركم إن ظننتم أنكم تبصرون أرضا ثابتة في بحر الكون والفساد. أنتم تخلعون على الأشياء أسماء، وكأنما هي ستبقى إلى الأبد، ولكن النهر الذي تنزلون فيه للمرة الثانية ليس هو نفس النهر الذي نزلتم فيه أول مرة.
إنه ينظر إلى العالم بعين الفنان أو بعين الطفل،
অজানা পৃষ্ঠা
10
وكما يلعب الفنان والطفل لعبهما البريء، فكذلك يلعب العالم مع نفسه، وكذلك تلعب النار الحية الخالدة، فهي تتحول تارة إلى ماء وتارة أخرى إلى أرض، وتبنى وتخرب كما يبني الطفل قصورا من الرمال على شاطئ البحر ثم يملها فيهدمها.
ولكن وراء هذا المهرجان البهيج الذي يتقلب عليه النور والظلام، واللعب والضرورة، والهدم والبناء، يكمن القانون والعدالة والنظام، أو ما يسميه في كلمة واحدة ب «اللوجوس»، «إن استمعتم إلى اللوجوس ولم تستمعوا إلي، فإن من الحكمة أن تتفقوا على القول بأن الواحد هو الكل.»
11
كلمة مشهورة من كلمات هيراقليطس، أو شذرة من الشذرات المأثورة عنه. الكلمة تتحدث عن الاستماع والإنصات إلى اللوجوس (المعنى أو العقل أو الكلمة أو المقال)، كما تتحدث عن المفكر الذي ينصت مع المنصتين ويدعوهم إلى الاستماع إلى صوت الحقيقة لا إلى أصوات الفانين، إنه يعبر لهم عما يقوله «اللوجوس»: الواحد هو الكل، ويكاد أيضا أن يقول: الكل هو الواحد، غير أنه لا يعطيهم حكمة مريحة توفر عليهم مشقة التفكير، ليستخدموها في شئونهم اليومية مثلما يلجئون إلى حكمهم البليدة المأثورة، بل الأولى أن يقال: إنه يسير بهم على طريق شاق عسير، لعل معاصريه لم يطيقوا السير عليه، ولعله يبدو لنا نحن بعد أكثر من عشرين قرنا وقد ازداد مشقة وعسرا.
الواحد هو الكل، والكل هو الواحد
ما أسهل أن ينطق اللسان بهذه الكلمات! وما أسرع ما يوهم نفسه بأنه قد فهم معناها وأدرك المراد منها! ولكن ما أكثر المعاني التي تعشش في هاتين الكلمتين: الواحد والكل! قد ترد الكلمتان على لساننا للتعبير عن فهم سطحي أو تصور من تصوراتنا اليومية العابرة، ألا نقول في حديثنا اليومي حين يفيض بنا الملل أو عدم الاكتراث: كله واحد؟! كأنما نحاول بالحكمة المتعبة الكسولة أن نتخلص من همومنا ومتاعبنا؟! ألا نلجأ إلى هاتين الكلمتين فنصنع منهما قالبا نضع العالم كله فيه، أو نؤلف منهما صياغة نفسر بها الكون كله؟ ومع ذلك فقد تطوي الكلمتان كل مشقة التفكير وكل كتمان المفكر، عندئذ نحاول أن نقتفي خطاه ونسير على طريقه، لا نكاد نملك إلا السؤال الذي يولد السؤال، والترجمة المألوفة لكلمة هيراقليطس المحيرة - وكل ما قاله هذا المفكر المظلم محير! - نقول: إن من الحكمة أن ننصت لما يقوله «اللوجوس»، وأن ننتبه إلى معنى ما يقول: إن الواحد هو الكل، فاللوجوس يقول شيئا، أو بالأحرى يريد أن يعلن عن شيء، هذا الذي يقوله ويريد أن يعلنه هو: الواحد هو الكل، أو الكل هو الواحد.
ولكن هل في وسعنا أن نزعم أننا نفهم ما يقوله اللوجوس؟ وكيف نتصور أن الكل هو الواحد، أو الواحد هو الكل؟ إن هذه الكلمة تحيرنا وقد كنا ننتظر منها أن تهدينا، وربما كان عزاؤنا الوحيد معها أن نعرف أن من الخير دائما للفكر أن يتجول بين أحراش المجهول بدلا من أن يسير على الطريق الهين اليسير، وأن يتعذب ويقلق بدلا من أن يخلد إلى الراحة والسكون، فقد عذب المفكر اليوناني المبكر سؤاله عن الموجود، فكان هذا السؤال هو نقطة انطلاقه، وكان «اللوجوس» هو الأحرف الأولى لقدره ومصيره. وإذا كان العالم كله اليوم يطبق نماذج العلم الغربي والتكنيك الغربي، فلم تكن هذه النماذج المعقدة إلا نهاية تطور طويل بدأ بسؤال الحكم اليوناني الأول عن طبيعة الموجود.
12
الواحد هو الكل، هو التعبير عن طبيعة اللوجوس، واللوجوس يقول لنا كيف يكون الواحد هو الكل، ذلك أنه يجمع الأضداد المتفرقة في ذاته، كما يجتمع الليل والنهار، والخريف والصيف، والحرب والسلام، واليقظة والمنام. واللوجوس هو وحده الذي يقدر لهذه الأضداد المتباعدة أن تجتمع فيه، وهو وحده الذي يحملها على التجلي والظهور، فإذا نحن استمعنا إلى ما يقوله «اللوجوس» استمعنا إلى حقيقة «الكل» التي اجتمعت في «الواحد»، الواحد الأبدي الخالد يتحدث إلى هيراقليطس وإليه وحده، ماذا يقول؟ يقول: إن الواحد هو الكل، وكل ما في الكون من موجودات - مهما قل شأنها وتضاءلت قيمتها - فهي عنده الحقيقة كلها، وما خرج عن الأصل والمنبع فلا بد أن يرتد إلى الأصل والمنبع من جديد.
অজানা পৃষ্ঠা
الكل هو الواحد والواحد هو الكل
ونستطيع أيضا أن نقول: إن الكل يصدر عن الواحد، كما أن الواحد يصدر عن الكل، كلاهما مرتبط بالآخر في تجانس وانسجام متبادل، وكلاهما متفق ومختلف في آن واحد ... ولن نتبين العلاقة بينهما حتى نفهمها فهما «ديالكتيكيا»، أعني في إطار علاقة التوتر القائمة بينهما.
يقول هيراقليطس:
13 «على أن الكل يديره (يحكمه، يدبره، يوجهه) البرق، فالبرق يكشف الكل، ونوره الخاطف يظهره ويجليه.» والبرق هنا هو الاسم الذي كان اليونانيون يطلقونه على «زيوس» كبير الآلهة، ورب البرق والرعد والصواعق؛ ومن ثم كان زيوس كبير الآلهة هو اللوجوس، وكان اللوجوس أو «الواحد هو الكل» هو أكبر الآلهة، وهو القدر الذي يحكم الكل، ولكن هل يجيز لنا هذا أن نقول: إن زيوس واللوجوس والواحد والكل شيء واحد؟ هل نفهم منه أن هيراقليطس يقول بوحدة الوجود؟ إن هيراقليطس لا يعلم مذهبا ولا يقول بنظرية، إنه مفكر، والمفكر يدعوك إلى التفكير معه، ولا شيء غير هذا، ولقد حير معاصريه كما حير الأجيال التي جاءت بعده حين قال كلمته المشهورة:
14 «إن الواحد - المتصف وحده بالحكمة - يريد ولا يريد أن يسمى باسم «زيوس»، هو يريد أن يسمي نفسه زيوس، وهل هناك اسم يليق به أفضل من اسم كبير الآلهة؟! ولكنه يعود فينفي ما يريد؛ إذ أين لمنبع الحكمة كلها وكيف لقدرها الوحيد أن يحيط به اسم من الأسماء؟»
هيراقليطس هنا ينفي ويؤكد في آن واحد، وينسب للآلهة ما يسلبه من البشر، ويدفع بالتفكير لأول مرة على طريق «الديالكتيك» الذي يسمح بالتناقض والمفارقة، ويجمع بين الأضداد والمتقابلات على الطريق الطويل الذي وصل إلى قمته عند هيجل، وها نحن أولاء نلمس اليوم آثاره في الصراع السياسي والمذهبي الدائر بين الشرق والغرب، فكلمته السابقة تحتوي في ظاهرها على التناقض؛ حين تؤكد أن الواحد الحكيم يريد ولا يريد أن يتسمى باسم زيوس. غير أن هذا التناقض لا يعبر عن ضعف في الفهم أو خطأ في الحكم، بل ينبع من تفكير لا يطيق الجمود عند حالة واحدة ولا الوقوف عند طرف واحد، بل يتحرك دائما من حالة إلى حالة ، ومن طرف إلى طرف (وهو ما نسميه عادة بالتفكير الديالكتيكي).
ثم يعود هيراقليطس فيحيرنا معه حين يقول عبارته المشهورة: «إن الطبيعة (فيزيس) تحب التخفي»، فالطبيعة هنا (أو الجوهر أو الحقيقة) التي من شأنها أن تظهر وتنمو وتتجلى، تحب مع ذلك أن تكمن وتتخفى. عبارة تنطوي على المفارقة، ولكن المفارقة قائمة في جوهر الطبيعة نفسها، فمن دأبها أن تحجب نفسها، وأن تخفي عن الإنسان حقيقتها،
15
ولولا أنها تحب الاختفاء وتمنع نفسها عن طالبيها لما جذبت إليها الفلاسفة، ولما سمي هؤلاء محبي الحكمة والمشتاقين أبدا إلى القرب منها والتشبه بها. «الطبيعة (ونستطيع أيضا أن نقول: الحقيقة أو الجوهر) تحب الاختفاء.»
هذه الكلمة تلخص جوهر الفلسفة كلها.
অজানা পৃষ্ঠা
فالفلسفة طريق صاعد إلى الحكمة، وشوق دائم إليها، وكلما ازددنا تفلسفا؛ ازددنا توغلا في هذا الطريق الموحش الوحيد، هذا الطريق الصاعد هو الذي نسميه عادة «بالديالكتيك»، وكلما ازداد نصيبنا من التفلسف ازداد حظنا أيضا من هذا الديالكتيك، عندئذ نجد كل شيء في الوجود في صراع وتغير دائمين، فما من شيء إلا وهو في صراع مع الضد المقابل له، وما من شيء إلا وهو في صيرورة متصلة وتحول مستمر، ونهر الحياة يسيل على الدوام؛ فنحن لا ننزل فيه مرتين. ومن العبث أن نتشبث بالموجة؛ إذ لا تلبث أمواج أخرى أن تجرفنا، ولا يلبث تيار الماء أن يتجدد تحت أقدامنا. أنت تنزل في النهر الواحد ولا تنزل فيه؛ ذلك أن النهر الواحد لا يبقى نفس النهر، وأنت أيضا لا تبقى على ما أنت عليه، فنحن ننزل في نفس الأنهار ولا ننزل فيها، ونحن نكون ولا نكون؛ ذلك أننا نتغير على الدوام، وإن احتفظنا أمس واليوم وغدا بأسمائنا. كل شيء يسيل على الدوام، كل شيء يخطو إلى الأمام ولا يبقى على حاله، كل شيء يتغير ويتبدل، وما لشيء على وجه الأرض من ثبات، وكل ما هو موجود فلا بد له أن يهوي إلى العدم، إن كان يريد أن يتشبث بالوجود، والدهر طفل يلعب، ويرتب الأحجار على لوح كبير، وما أروعه من لعب ملوكي يقوم به طفل صغير:
16
نهار وليل، شتاء وصيف، حرب وسلام، شبع وجوع. وتعم الحرب وينشب الصراع بين جموع الأشياء، وينشأ كل ما في الوجود بمقتضى الصراع والتنازع؛ فالحرب هي أم الأشياء وملكتها جميعا، تجعل البعض آلهة وأبطالا، وتجعل البعض الآخر بشرا، وتحيل البعض عبيدا، كما تجعل غيرهم أحرارا.
17
غير أن الأضداد تلتقي في النهاية، والأعداء لا يلبث الصلح أن ينعقد بينهم، ويجتمع الكل وما ليس بكل، ويتألف المتجانس والمتنافر، وينسجم القوس مع الوتر. وليس معنى هذا أن الصراع سيتوقف إلى الأبد، أو أن تيار الحياة سيجف، وعجلتها ستكف عن الدوران، بل معناه أن التحول مستمر، وإن كنا سندرك الثبات من وراء التحول؛ ذلك أنه يتفرق ثم يتجمع، ويبتعد ثم يقترب، ولا يلبث المجتمع أن يتفرق من جديد، ولا يلبث القريب أن يبتعد. غير أن الواحد في تحوله باق، ونفس الشيء هو الحي والميت، والمستيقظ والنائم، والشاب والعجوز، والحلو والمر، والطريق الصاعد والهابط والمستقيم والملتوي واحد ونفس الشيء، والخير والشر واحد ونفس الشيء أيضا، إنه عنده هو الكل، كما هو عنده الواحد. والحياة جرة تمزج العسل والمر، والنصر والهزيمة، والليل والنهار بلا انقطاع. وإذا كان نهر الوجود يسيل على الدوام، فإن الأبدي يتدفق أيضا على الدوام في جميع الأشياء، وإنما يكشف الصراع بين الأضداد عن العدالة الكامنة وراءه، وتدل الكثرة المتغيرة على الوحدة الباقية.
ولكن ما هو هذا الذي يبقى وإن تحول، ويدوم على رغم التغير والتبدل؟ إن هيراقليطس يسميه تارة بالإله، وأخرى بالدهر، وثالثة بالطبيعة أو الحقيقة أو الجوهر، إنه عنده هو الكل، كما هو عنده الواحد. النهر الذي يسيل دائما وتتغير مياهه في كل لحظة، ويظل مع ذلك هو نفس النهر؛ فأنت تخوض فيه وتحس بتدافع الأمواج من حولك، وانسياب المياه على جسدك، وتعرف أن النهر واحد، ولكنك تعرف أيضا أن المياه تتغير فيه، والأمواج تذهب وتجيء، وأن حياتك موت لغيرك، كما أن موتك حياة للآخرين، وفي كل لحظة تسبح فيها في النهر يأتيك الدليل على أن النهر واحد ومتغير، وأن جسدك واحد ومتغير أيضا، وتعرف أن الزمن باق وإن أفنى كل ما فيه؛ ذلك أنك لا تنزل النهر الواحد مرتين.
وعلو وتحرر
كهف أفلاطون
يمهد أفلاطون للحديث عن رمز الكهف في نهاية الباب السادس من جمهوريته، لكن الحديث نفسه يبدأ مع بداية الباب السابع. إن سقراط - الذي يجري أفلاطون على لسانه كل فلسفته - يتحدث إلى جلاوكون. الأول يصور الحكاية ويصف الكهف، والثاني يعلن عن دهشته التي تستيقظ في نفسه شيئا فشيئا، لنسمع الحديث معا قبل أن نبدأ في الكلام عنه:
سقراط: والآن، قارن طبيعتنا من وجهة نظر التربية ونقص التربية، بمثل هذه التجربة.
অজানা পৃষ্ঠা
تأمل هذا: أناس يقيمون تحت الأرض في مسكن أشبه بالكهف، مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار، في هذا المسكن يقيمون منذ الطفولة مقيدين بالسلاسل من سيقانهم ورقابهم، حيث يظلون في نفس الموضع، فلا يملكون إلا أن ينظروا إلى الأمام ليروا ما يواجههم، إنهم - بسبب هذه القيود والسلاسل - عاجزون عن إدارة الرءوس فيما حولهم، في استطاعتهم مع ذلك أن يبصروا نورا يأتي من أعلى ومن بعيد، وإن كان ينبعث من نار تلمع خلفهم، بين النار وبين المقيدين بالسلاسل [أعني في ظهورهم]
1
يمتد في الجهة العلوية طريق بني على طوله - تصور هذا - حائط منخفض شبيه بالأسوار التي يقيمها المهرجون [أصحاب الألعاب البهلوانية] أمام الناس، لكي يعرضوا عليهم ألعابهم.
قال: هذا ما أراه.
تأمل كذلك كيف يعبر الناس على طول هذا الحائط الصغير حاملين مختلف الأشياء؛ من تماثيل وصور حجرية وخشبية، وغير ذلك مما يصنع البشر، فيتحدث بعضهم مع بعض كما هو منتظر، ويصمت البعض الآخر. - صورة غريبة هذه التي تتكلم عنها، هكذا قال، ومساجين من نوع غريب.
قلت: إنهم يشبهوننا، نحن البشر، ماذا تحب أن يكون عليه الأمر؟ مثل هؤلاء الناس لم تقع أعينهم منذ البداية - سواء كان ذلك من أنفسهم أو من غيرهم - إلا على الظلال التي تلقيها النار على حائط الكهف المواجه لهم.
قال: وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما داموا قد أجبروا على عدم تحريك رءوسهم طوال حياتهم؟ - ولكن ماذا عساهم يرون من هذه الأشياء التي يحملها الناس [خلف ظهورهم]؟ ألا يرون هذه [الظلال] نفسها؟ - كذلك الأمر في الواقع. - لو أنه كان في مقدورهم أن يتحدثوا بعضهم مع البعض عما يرون، ألا تعتقد أنهم كانوا سيحسبون أن ما يرونه هو الوجود؟ - بالضرورة. - ماذا يكون الأمر إذا لو أن هذا السجن كان يتردد فيه صدى من الحائط المواجه لهم؟ ألا تظن أنهم كلما صدر صوت عن واحد من الذين يمرون وراء المسجونين اعتقدوا أن الحديث إنما يصدر عن الظلال التي تمر أمامهم؟ - لا شيء غير ذلك، بحق زيوس.
قلت: إن أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئا حقيقيا سوى ظلال الأدوات [التي يحملها العابرون].
قال: بالطبع هذا أمر ضروري.
قلت: تتبع إذن بنظرتك، كيف يفك هؤلاء المسجونون قيودهم ويشفون في نفس الوقت من فقدان البصيرة، وتفكر عندئذ، كيف تكون طبيعة فقدان البصيرة هذه إذا حدث لهم ما يلي: كلما فكت السلاسل عن أحدهم وأجبر على الوقوف على قدميه فجأة والالتفات برقبته والسير قدما والتطلع إلى النور، فلن يقوى على ذلك إلا إذا عانى ألما [شديدا]، ولن يستطيع من خلال الوهج أن ينظر إلى تلك الأشياء التي رأى ظلالها من قبل. [لو أن ذلك كله حدث له] فماذا تحسبه يقول لو أن أحدا قال له إن ما رآه من قبل لم يكن إلا عدما، وأنه الآن أقرب إلى الوجود، وأن نظره أكثر صوابا لأنه يلتفت إلى ما هو أكثر وجودا؟ ولو أن أحدا عرض عليه الأشياء التي مرت عليه واحدا بعد الآخر واضطره أن يجيب عن سؤاله عما هو هذا الشيء، ألا تعتقد أنه سيحار كيف يرد عليه وأنه سيعتبر أن ما رآه بعينه من قبل أكثر حقيقة مما يعرض عليه الآن؟ - بالطبع. - وإذا أجبره أحد على النظر إلى النور [المنبعث من النار]، ألن تؤلمه عيناه ويتمنى أن يحولهما عنه ويفر إلى ما يقوى على النظر إليه ويعتقد أن ما رآه أوضح في الواقع بكثير مما يعرض الآن عليه؟ - الأمر كذلك.
অজানা পৃষ্ঠা
قلت: وإذا حدث أن أحدا جذبه بالقوة من هناك وشده على الطريق الوعر [إلى خارج الكهف]، ولم يتركه قبل أن يعرضه لضوء الشمس، ألن يشعر عندئذ بالألم والسخط؟ ألن يحس - وقد وقف في نور الشمس - بأن عينيه قد بهرهما الضوء الساطع، وأنه لن يكون في وسعه أن يرى شيئا مما يقال له الآن إنه الحق؟ - لن يقوى أبدا على ذلك، أو لن يقوى عليه فجأة على الأقل. - أعتقد أن الأمر يحتاج إلى التعود إذا كان عليه أن يرى ما هناك [أي خارج الكهف في ضوء الشمس]، إنه سيستطيع في أول الأمر [نتيجة لهذا التعود] أن ينظر في يسر شديد إلى الظلال، وسيكون في وسعه بعد ذلك أن يرى صور الناس وبقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء، إلى أن يتمكن أخيرا من رؤية هذه الأشياء نفسها [أي الموجودات الحقيقية بدلا عن انعكاساتها]، ألا يكون في وسعه أن يرى من بين هذه الأشياء ما [يتجلى] منها في قبة السماء، كما يرى السماء نفسها، وأن تكون رؤيته لها بالليل حين يتطلع ببصره إلى نور النجوم والقمر أيسر من رؤيته للشمس وضوئها بالنهار؟ - لا شك في ذلك. - أعتقد أنه سيتمكن آخر الأمر من النظر إلى الشمس نفسها، لا إلى صورتها المنعكسة في الماء أو حيثما ظهرت فحسب، [وسيتمكن من النظر] إلى الشمس نفسها كما هي عليه في ذاتها وفي الموضع المحدد لها؛ لكي يتأملها ويتعرف طبيعتها. - من الضروري أن يصل به الأمر إلى ذلك. - وبعد أن يبلغ ذلك سيكون في مقدوره أن يجمل القول عنها [أي عن الشمس] فيعرف أنها هي التي تضمن [تعاقب] فصول السنة كما تضمن [مر] السنين، وتتحكم في كل ما هو موجود الآن في محيط الرؤية، بل إنها [أي الشمس] هي علة كل ما يجده أولئك [المقيمون في الكهف] على نحو من الأنحاء حاضرا أمامهم. - واضح أنه سيصل إلى هذا [أي إلى الشمس وما يستضيء بنورها] بعد أن تجاوز ذاك [أي ما كان ظلا وانعكاسا فحسب]. - ماذا يحدث إذن لو أنه تذكر مسكنه الأول، وتذكر المعرفة التي كانت سائدة فيه، والمساجين الذين كانوا معه؟ ألا تعتقد أنه سيسعد بهذا التغيير الذي حدث له بينما يأسف لأولئك؟ - أسفا شديدا! - فإذا حددت في المكان القديم [بين من كانوا يقيمون في الكهف] جوائز وألوانا معينة من التكريم لكل من يرى الأشياء العابرة رؤية حادة، ويتذكر ما يمر منها في المقدمة، ثم ما يتبعها أو ما يتفق مروره معها في وقت واحد ويكون أقدرهم على التنبؤ بما سيأتي منها في المستقبل قبل غيره، أتعتقد أنه [أي ذلك الذي غادر الكهف ورأى نور الشمس والحقيقة] سيحس بالشوق إليهم [أي إلى الذين لا يزالون في الكهف] لكي يتنافس مع الذين يضعونهم موضع التكريم والقوة؟ أم لا تعتقد معي أنه سيأخذ نفسه بما يقول عنه هوميروس «من خدمة رجل غريب فقير» [أي أنه سيفضل - مثل أخيل - أن يعمل كأجير حقير في عالم العقل العلوي، على أن يكون ملكا في عالم الأشباح] وسيحتمل كل ما يمكن احتماله بدلا من أن يعتنق تلك الآراء [التي يؤمنون بها في الكهف] ويعيش على هذا النحو. - أعتقد أنه سيؤثر أن يحتمل كل شيء على أن يحيا تلك الحياة [التي يعيشونها في الكهف].
قلت: والآن تفكر في هذا، إذا حدث لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط مرة أخرى إلى الكهف وجلس في نفس المكان [الذي كان يجلس فيه]، ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه فجأة من رؤية الشمس؟
قال: طبيعي جدا أن يحدث له ذلك. - فإذا عاد إلى الجدال مع المقيدين الدائمين هناك حول الآراء المختلفة عن الظلال، في الوقت الذي لا تزال فيه عيناه تعشيان [من الضوء] قبل أن تعودا سيرتهما الأولى - الأمر الذي سيستغرق منه زمنا غير قليل حتى يتعود عليه - [ألا تعتقد] أنه سيعرض نفسه هناك للسخرية، وأنهم سيحاولون أن يقنعوه بأنه لم يغادر الكهف إلا ليعود إليه بعينين مريضتين ، وأن الأمر لا يستحق أبدا أن يشق الإنسان على نفسه بالصعود إلى هناك؟ وإذا حاول أحد أن يمد يديه ليفك عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، [ألا تعتقد] أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه فسوف يقتلونه حقا؟
قال: يقينا سيفعلون ذلك (الجمهورية: 7، 14، 514أ، 2 إلى 517أ، 7). •••
ما معنى هذا الرمز؟ ماذا تدل عليه هذه الحكاية؟
إن أفلاطون يتولى بنفسه الجواب؛ فبعد الحكاية يأتي دور التفسير (517أ، 8 إلى 518د، 7)، فالمسكن الشبيه بالكهف صورة لمكان الإقامة الذي تقع عليه أعين من ينظرون حولهم كل يوم، والنار التي تتوهج خلف ظهور ساكني الكهف - أعلى منهم بقليل - هي صورة الشمس التي تسطع في الخارج، وقبة الكهف أو سطحه الذي تتطلع إليه عيون المساجين، تصور قبة السماء المزدانة بالقمر والنجوم. تحت فلك القبة يحيا الناس مقيدين بالأرض، إنهم يحسون أن ما يحيط بهم هو الواقع، وأن ما يرونه هو الحق. لا وجود إلا الوجود الذي يرونه حولهم، ولا حقيقة إلا لما تلمس أيديهم، إن كانت أيديهم تستطيع أن تلمس شيئا! في هذا المسكن الشبيه بالكهف يشعرون أنهم يعيشون في بيوتهم، ويقيمون في العالم، مطمئنين أن لا بيت لهم سواه ولا عالم غيره.
ولكن ما شأن الأشياء في خارج الكهف لا تنعكس إلا ظلالها على حائطه؟ هي رمز لما لا يقوم للموجود وجود إلا به، وما يجعله يتبدى على هيئته التي تراه بها العين، هذه الهيئة أو هذا المظهر الذي تتبدى به الموجودات هو ما يسميه اليونان الإيدوس أو الإيديا [المظهر، المثال].
والأشياء الموجودة خارج الكهف التي يغمرها ضوء النهار، ويتفتح عليها نور العين، هي رمز للأفكار أو «المثل» كما يسميها الفلاسفة، لو لم تقع عين الإنسان على «مظهر أو مثال» الكائنات من أشياء وبشر وأعداد وأشجار ... إلخ؛ لما استطاع أن يعرف أن هذا الشيء أو ذاك بيت أو شجرة أو إنسان إلخ، لكن الإنسان يحسب عادة أن يرى هذه الشجرة وذلك البيت وما أشبه ذلك من موجودات دون أن يخطر بباله أنه لا يرى شيئا مما يرى إلا على ضوء «المثل»، ولا أن ما يسميه بالواقع مما يرى ويسمع ويلمس ويعد ليس إلا انعكاسا لهذه المثل وظلالها، إنه يحيا حياته بين الظلال، والظلال تتحكم في حياته وعاداته وأحكامه، وتقيم حوله سجنا يحجب عنه نور المثل الساطع وراء جدرانه، إنه لا يدرك أن هذا السجن سجن، ربما لأنه سجن واسع بلا جدران؛ لذلك يظن أن حياته اليومية تحت قبة السماء هي مسرح تجربته الذي لا مسرح سواه، وهي التي يستمد منها المقياس والقاعدة لكل ما يربطه بالكائنات من علاقات.
ولكن ماذا عسى أن يحدث لو أن إنسان الكهف هذا التفت وراءه فجأة فرأى النار التي تتوهج، وعرف أنها هي التي تلقي على الجدار المواجه له ظلال الأشياء؟ لا شك أن تغيير النظرة لن يعقبه كشف الغطاء. إنه في الكهف يملك «الواقع» ويعرف «الحقيقة»، ولن يخطر بباله أن هذا الواقع ظل، أو أن هذه الحقيقة خيال. إن أقصى ما يمكن أن تأتي به أن تخل قليلا بالسلوك المعتاد دون أن تغيره، أو تزعج الظن المألوف دون أن تهدمه من أساسه، وأنى له أن يعرف شيئا عن الظلال، وهو لا يريد أن يعرف أي شيء عن النار التي تشتعل في الكهف أو عن الضوء المنبعث منها، مع أن النار شيء «مصنوع» ولا بد أن يكون مألوفا لديه؟ أما ضوء الشمس في خارج الكهف فهو على العكس من ذلك؛ شيء لم تصنعه يد الإنسان، فعلى نوره تتجلى الأشياء والكائنات تجليا مباشرا بغير حاجة إلى ظل أو انعكاس، إنه هو صورة المثل، أما الشمس فهي صورة لما «يظهر» المثل كلها أو هي صورة لمثال المثل جميعا، الذي قد نسميه مثال الخير.
ذلك هو التقابل الذي نقيمه عادة بين الظلال في الكهف وبين الواقع الذي نجربه كل يوم، بين ضوء النار المشتعلة فيه وبين النور الذي يغمر الأشياء من حولنا، بين المساجين المقيدين بالسلاسل وبيننا نحن البشر، بين الموجودات خارج الكهف وبين المثل، بين الشمس وبين مثال المثل، غير أن هذا التقابل لا يستنفد مضمون الرمز الغني كله؛ ذلك لأنه لا يكتفي بأن يروي لنا أحداثا تجري داخله أو خارجه فحسب، ولا يقف عند تقرير وضع الإنسان فيه أو فيما وراءه؛ فالأحداث التي يرويها لنا تصف كيف ينتقل الإنسان من الكهف إلى ضوء النهار، وكيف يعود من ضوء النهار إلى الكهف، ماذا يحدث في هذا الانتقال؟ كيف يتم؟ وما الضرورة التي تعود إليه؟ وما نصيبه من الأهمية؟
অজানা পৃষ্ঠা
الانتقال من الكهف إلى ضوء النهار ومن ضوء النهار إلى الكهف يتطلب تحولا وتغييرا فيما تعودت عليه العين من الظلام إلى النور ومن النور إلى الظلام، إن العين ترتبك مرتين - على حد قول أفلاطون - وارتباكها يكون لسببين: فإما أن يخرج الإنسان فجأة عن جهله الذي لا يكاد يحس به ليصل إلى حيث يتجلى له الوجود أكثر وجودا وأكثر حقيقة، دون أن يكون قد بلغ درجة من النضج تهيئه لذلك، وإما أن يسقط من سماء المعرفة الحقة إلى ظلام المعرفة المألوفة بالواقع، ويفقد القدرة على النظر إلى المألوف والمعتاد على أنه هو الواقع.
كما ينبغي للعين أن تتعلم كيف تتعود شيئا فشيئا على النور أو على الظلام، فلا بد للنفس كذلك أن تتعلم خطوة فخطوة كيف تتعود على الوجود الجديد. إن عليها أن تغير نزوعها واتجاهها من أساسه، كما أن على الجسد أن يغير من وضعه إذا أرادت العين أن تغير مجال الرؤية، ولكن لماذا يستغرق التغيير كل هذا الوقت الطويل؟ لماذا يحتاج التعود إلى هذا البطء الشديد؟ لأنه تغيير يتصل بوجود الإنسان كله ويشمل جوهره بأجمعه، ويحول سلوكه إلى اتجاه جديد، هذا التغيير الشامل في وجود الإنسان وحقيقته هو ما يسميه أفلاطون بالتربية «بايديا»، وهو ما يعبر عنه بقوله «تعديل النفس بأكملها»، وهو لذلك انتقال من حال إلى حال، وليس رمز الكهف كله سوى حكاية أو صورة تجسم لنا طبيعة التربية وتوضحها، فليست التربية أن نملأ النفس بالمعارف التي لم تتهيأ لها كما لو كنا نصبها في وعاء فارغ، بل التربية الأصيلة هي التي تغير النفس وتحولها، فتضع الإنسان في مكانه الحق وتعوده على الحياة فيه. وأفلاطون نفسه يؤكد أن رمز الكهف إنما هو صورة للتعبير عن جوهر التربية حين يقول في مطلع الكتاب السابع من الجمهورية: «اتخذ لنفسك إذن من مثل هذه التجربة [التي سيشرحها ويصورها فيما بعد] نظرة إلى [جوهر] التربية وعدم التربية الذي يتصل بوجودنا الإنساني في أساسه.»
صورة الكهف إذن تعبر لنا عن رأي أفلاطون في التربية، إنها تصور المراحل التي تنتقل فيها النفس من الظلام إلى النور، من حالة نسيان للوجود إلى لقائه وجها لوجه، من معرفة الحس والظن إلى معرفة العقل واليقين، ولكنها تصور لنا كذلك رأيه في الحقيقة [ولا أقول مذهبه، فهذه الكلمة البشعة لم تكن قد عرفت بعد!] التي تحدد بدورها شكل التربية وتجعلها ممكنة.
فالتربية تعني تغيير الإنسان كله حين تنقله من مجال تعود عليه إلى مجال آخر يظهر فيه الوجود على حقيقته. بهذا الانتقال يتغير كل ما كان مألوفا للإنسان ويتحول شيئا آخر؛ ما كان يحسبه حقيقة يصبح ظنا، والحقيقة التي لم يكن يعرف عنها شيئا تتجلى له بعد طول تعود ومراس. إنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، ويترك مجالا ليدخل في مجال، كما يترك وراء ظهره حقيقة ليشاهد حقيقة أخرى جديدة عليه.
رمز الكهف يصور لنا هذه المراحل وكيف ينتقل الناس منها وإليها؛ فهم في المرحلة الأولى يعيشون في الكهف تغلهم السلاسل من أقدامهم ورقابهم، وتقيدهم الموجودات التي يفتحون عيونهم عليها ليل نهار، ليس هناك شيء يربطهم بالعالم الخارجي سوى الظلال الصامتة المضطربة التي تنعكس فوق جدار أمامهم، هذا إذا تنبهوا إلى أنها تأتي من عالم خارجي على الإطلاق. هم يستيقظون وينامون على الأشياء التي تحيط بهم، وهم يأخذونها معهم أيضا في أحلامهم، وهم يتحدثون - إن تحدثوا - عن الظلال التي تهيم أمامهم، ولا تكاد توقظ فيهم أثرا للدهشة أو السؤال: «أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئا حقيقيا غير الظلال.»
وتأتي المرحلة الثانية، فها هي ذي السلاسل تفك عنهم ، وها هم أولاء يستطيعون أن يحركوا رءوسهم وأقدامهم كما يشاءون، صحيح أنهم ما زالوا أسارى الكهف، ولكن في وسعهم الآن أن يلتفتوا إلى ما لم يكونوا يلتفتون إليه، وصحيح أن عيونهم ما زالت ترى الظلال المنعكسة على الجدار، وأجسادهم ما تزال ترتعش من الرطوبة المنبعثة من الأرض، ولكن في مقدورهم الآن أن يشاهدوا النار التي تشتعل خلف ظهورهم وأن يقتربوا بذلك كثيرا من الوجود.
اتضحت الأشياء بعض الوضوح، واستراحت العين قليلا من الظلال، وعرف المساجين أن هناك مصدرا للضوء الشاحب الذي كان ينسكب على الأشياء، والظلال القاتمة التي كانت تتراقص على الجدار. تحررت العيون من الظلال، واستطاعت بذلك أن تقترب مما يزيد عليها في الحقيقة. ولكن هل أدركت حقا أن ما تراه الآن أكثر حقيقة مما كانت تراه؟ إن السجين الذي نال هذه الدرجة من الحرية ما زال في الواقع سجين عادته؛ إنه سيعتقد أن ما كان يراه من قبل [أي الظلام] أكثر حقيقة مما يتبين له الآن.
ولكن ما الذي يمنعه من اكتساب حريته على الفور؟ أي قناع هذا الذي لا يزال يغشي عينيه؟ إن النار المشتعلة - على ضعفها واضطرابها - تعشي عينيه، لقد تحرر حقا من سلاسل الحديد، ولكنه لم يتحرر بعد من قيود التعود والتقليد.
إن عشى العينين يمنعه من أن يرى النار نفسها، ويدرك أن ضوءها هو الذي يسقط على الأشياء ويجعلها تظهر على ما هي عليه، وهو لذلك لا يستطيع أن يدرك أن ما كان يراه من قبل إنما هو ظل الأشياء الذي كانت تعكسه هذه النار. حقا إنه يرى الآن شيئا يختلف عن الظلال، ولكن كل ما يراه يضطرب أمام عينيه اضطرابا عجيبا، وهو حين يقارنه بالظلال التي كان يراها منذ حين، تبدو له هذه الظلال ثابتة الأطراف محددة الأبعاد. ولن نستغرب عليه أن يظن في اضطرابه واختلاط الأمر عليه أن الظلال أكثر حقيقة من الأشياء التي يراها الآن على ضوء النار المتوهجة وراءه، إنه لم يستطع بعد أن يميز بين الحقيقة والوهم، ولا بين الموجود والظل؛ فالخلاص من القيود ما يزال بعيدا عن الحرية الحقيقية.
هنا ننتقل إلى المرحلة الثالثة، فقد صعد «السجين الحر» على الطريق المؤدي إلى خارج الكهف، خرج - كما نقول اليوم - إلى الحرية؛ كل شيء الآن واضح أمامه وضوح النهار، والأشياء التي تقع عليها العين لم تعد تضطرب في الضوء الشاحب الذي كانت ترسله عليها نار الكهف. الآن فقط انتقل حقا إلى الحرية، لا لأن المكان اتسع فصار بلا حدود، بل لأن ضوء الشمس يغمر كل ما هو موجود، العين ترى كل شيء على ما هو عليه، وكل شيء يبدو للعين ويتجلى في مظهره [أيدوس] أكثر حقيقة وأشد صفاء مما كانت عليه تلك الأشياء التي تضيئها النار «الصناعية» في الكهف إذا قورنت هذه الأشياء نفسها بالظلال.
অজানা পৃষ্ঠা
ولكن هل يعرف سجيننا الذي تحرر منذ لحظة أن الأشياء الآن أكثر حقيقة مما كانت عليه في أي وقت مضى؟ هل يكفي أن يغمض عينيه قليلا لتستريحا من قسوة الضوء الباهر ليعرف الحقيقة دفعة واحدة؟ إن كان تحويل البصر من الظلال إلى النار في داخل الكهف قد تطلب منه كثيرا من الجهد والمشقة، فما أشد ما يحتاج إليه الآن من صبر وعناء ليرى الشمس وما تغمره من موجودات!
إن عليه أن يتعلم أولا أن التحرر من القيود والأغلال هو أضعف درجات الحرية، وأن الحرية الحقيقية لن تبدأ قبل أن يعود عينيه على النظر والتفكير، وليست التربية إلا هذا «التوجه» ناحية الحقيقة، لا بل إلى ما هو أكثر حقيقة، ولن تكون التربية غير هذا «التعليم» والتعويد الصابر الشاق على رؤية الحقيقة، فجوهر التربية إذن يقوم على جوهر الحقيقة، ولا سبيل إلى الفصل بينهما. وإذا كانت ماهية التربية في هذا التوجيه الشامل المتصل للنفس بكليتها، فإنها تظل كذلك محاولة متصلة للتغلب على نقص التربية. وما دام رمز الكهف هو الذي يصور ماهية التربية ويرسم الطريق الصاعد إليها، فهو يصور كذلك الوسيلة إلى التغلب على الجهل والغباء والبلادة وكل ما نسميه بنقص التربية؛ لذلك لم يكن الوصول إلى نور الشمس أو نور الحقيقة هو الغاية الأخيرة من حكاية الكهف، بل إنها [وتلك هي المرحلة الرابعة والأخيرة من رحلة الكهف] تعود بسجيننا الذي تحرر من أغلاله إلى الكهف مرة أخرى، إنه يعود إلى رفاقه السابقين إنسانا آخر، ورسولا للتحرر والخلاص، فالحياة بين جدران الكهف لن تقنعه بعد ذلك أو ترضيه، وهو لا شك يدرك مدى الخطر الذي سوف يتعرض له، فرفاقه المساجين لا يعرفون أنهم مساجين، والحرية كلمة لا يفهمون عنها شيئا، والحقيقة الوحيدة التي يعرفونها هي هذا الواقع الحسي الشاحب الذي يحيط بهم، ولو تجرأ رفيقهم على الحديث إليهم عن الحقيقة الأخرى أو عن الحرية أو النور فلا شك أنهم سيسخرون منه، بل إن السخرية ستكون أهون ما يتعرض له، فليس بعيدا أن يهجموا عليه؛ لا ليضعوا قدميه ورقبته في الأغلال مرة أخرى وإلا لهان الأمر أيضا! بل ليمسكوا به ويقتلوه، وهو مصير يعرف أفلاطون تمام المعرفة أنه غير مستبعد في العالم؛ فلقد راح أستاذه سقراط ضحية له. وحين يسأل أفلاطون في نهاية الحكاية على لسان سقراط: وإذا حاول أحد أن يمد يديه ليفك عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، ألا تعتقد أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه فسوف يقتلونه بالفعل؟ وحين يسأل هذا السؤال نجد محدثه لا يتردد لحظة في الجواب، بل يقول يقينا: سيفعلون؛ ذلك لأنه قد آمن مع أفلاطون بأن الصراع من أجل الحقيقة ليس مجرد نزاع حول المبادئ والقيم والأفكار، بل هو في صميمه مسألة حياة أو موت.
ماذا يقصد أفلاطون من وراء هذا الرمز؟
إنه - كما قدمنا - يفسره بنفسه حين يقول: إن الهدف منه هو إعطاء صورة محسوسة لماهية التربية، وماهية التربية هي تحرير النفس الإنسانية بكليتها، وتحرير البصر حتى يرى الجوهر والحقيقة، وتحرير النفس والبصر مرادف للأخذ بيد الإنسان على الطريق الصاعد إلى ما يسميه أفلاطون مثال المثل، أو الخير الأسمى، كما تقول الترجمة الشائعة. لكن ما السبب في كل هذه الأهمية التي يضفيها أفلاطون على مثال المثل؟ سيقول: «إن مثال الخير هو السيد الذي يضمن الحقيقة كما يضمن إدراكها.» (517ج)، إنه هو الوجود الأسمى الذي يتيح لكل موجود أن يتجلى على ما هو عليه، أو هو الذي يضفي عليه الوجود الحق، بل إن من الأمور الواضحة لدى الناس جميعا أنه علة كل صواب [في سلوكهم]، كما هو سبب كل جمال (517ج)، إنه هو الذي يضفي الحقيقة على ما يعرف، ويهب ملكة المعرفة لمن يعرف (الكتاب السادس، 508)، وكل إنسان يحرص على أن يكون على بصيرة في سلوكه الخاص أو العام، لا بد له أن يحرص كذلك على ألا يغيب المثال عن بصره (517ج، 4، 5).
إن الكهف المليء برموزه الغنية يجعل لمثال المثل أو مثال الخير مكانه الفريد بينها؛ فهو يقابل الشمس ذات البهاء والجلال، ومصدر الدفء والحقيقة والحياة، إنها تتوهج في سناها الأبدي خارج الكهف، وعلى من يريد أن يجتلي بنورها أن يتجشم عناء الطريق الصاعد الطويل من باطن الكهف الرطب، حيث تسود معرفة الظن والحس، وحيث ترتعش الظلال والأصداء، إلى حيث تشاهد العين فتسعد، وتتملى النفس فتستريح، وهل أدل على خطورة شأنه من أن النار الشاحبة المتواضعة التي تعصم المساجين من التصادم في الظلام هي نفسها قبس ضئيل منه؟ وأن السجين الذي واتاه الحظ فرآه لا يستطيع أن يستأثر لنفسه بهذا الجمال، بل يستجيب لصوت الواجب فيهبط إلى إخوانه المساكين ليدعوهم إلى الوجود الأسمى، ويبشرهم بالحقيقة الرائعة؟ ما أنبله من رسول منقذ! إنه يعرف أن خطر الموت يحدق به، ومع ذلك لا يتردد عن أداء رسالته، لقد تجاوز المحسوس إلى ما وراء المحسوس، وارتفع من معرفة زائلة إلى حكمة باقية، وصعد من الكهف المعتم إلى الشمس المضيئة، لا كما يصعد الساكن من البدروم إلى الدور الأعلى، بل كما يخرج السجين من كهف الظلام والنسيان ليعود المربي الذي يبني الإنسان. •••
رمز الكهف صورة تجمع بين صدق الشعر ووضوح المنطق، إنها التعبير الحي عن الخير الأسمى، ذروة فلسفة أفلاطون كلها وتاجها المضيء، وهل تهدف رحلة الخروج من الكهف - أو قل من هذا العالم - إلى نور الشمس الساطع - أو قل إلى مثال الخير الأكمل - إلى غاية أخرى غير هذه الغاية؟ إن فكرة الخير هي مصدر العدل والجمال كله (505أ) وكل معرفة نحصلها تظل بدونها عبثا لا طائل وراءه، لكن الخير ليس هذا الخير الجزئي أو ذاك، بل هو الخير الكلي، أو هو مثال الخير الذي يشارك كل ما ينطوي على شيء من جمال أو صدق أو انسجام أو بهجة بنصيب فيه، أو ليس الخير بعد هذا كله ما لا يمكن أن يتنازع حوله اثنان.
على أن أفلاطون لم يقدم في أي كتاب من كتبه تعريفا محددا للخير، وإن كان في إحدى محاوراته المتأخرة «فيليبوس» يضع ثلاثة من المثل هي الجمال والتجانس والصدق، ويجعل منها معايير للحكم على ما إذا كان التعقل أو اللذة أقرب إلى الخير.
ويبدو أن المفكر حين يقترب من ذروة تفكيره لا يجد المنطق الذي يسعفه بالتعريف والتجديد؛ فيلجأ - والعذر لبشريتنا المحدودة! - إلى الرمز والصورة، ويستعير من الشاعر خياله ومن الرسام فرشاته، وهذا هو ما فعله أفلاطون في جمهوريته حين لم يجد وسيلة يصور بها طريق التربية الشاق إلى الخير الأسمى خيرا من رمز الكهف، هذا الطريق الصاعد [أو ما يسميه الفلاسفة بالديالكتيك] يصل إلى غايته عندما يتأمل سجين الكهف القديم نور الشمس.
ولكن كيف له أن يعبر عن هذه الرؤية بالكلمات؟ لا بد إذن من اللجوء إلى الرمز والصورة؛ فالخير الأسمى - كما يقول في موضع سابق (507أ) - يكشف عن طبيعته في ولده هليوس [أي الشمس]، أسمى الآلهة وأكثرها تألقا في السماء. ولكن ما العلاقة بين قوة البصر وبين إله النور السماوي؟ قد نقول: إن العين هي أكثر الأعضاء شبها بالشمس
2
অজানা পৃষ্ঠা
ولكنها لا تستمد قدرتها على الرؤية إلا من نور الشمس، بهذا النور الذي تستمده من الشمس يمكنها أن ترى الشمس نفسها، وإذا كانت الشمس هي مصدر النور، فهي بالمثل مصدر الرؤية.
والنفس في مجال المعرفة كالعين في مجال الرؤية، فإذا نحن وجهنا العين إلى عالم الليل والظلال بدلا من عالم النور والنهار؛ وهنت قدرتها على الإبصار، والنفس إن لم نوجهها إلى العالم الذي تضيئه أشعة الحقيقة والصدق؛ فقدت القدرة على الفهم والتفكير، وأصبحت معرفتها ظنا ورؤاها ظلالا وأشباحا، وكما تسكب الشمس نورها على المرئيات، كذلك يجود مثال الخير على كل ما تدركه النفس بالصدق والحقيقة، إنه الأصل في كل معرفة أو حقيقة من شأنها أن تجعل العالم المعقول قابلا للتعقل، وتهبه الواقعية والنبل والصفاء، كما أن الشمس هي مصدر النور الذي يجعل العالم المحسوس قابلا للرؤية، كما تمده بقوة الحياة والدفء والنماء، ومع أن أفلاطون لم يصف مثال الخير الأسمى صراحة بأنه إله، فهو في الحقيقة أولى المثل جميعا بصفات الإله. وإذا كانت كل ألوان الخير والفضيلة تشارك في الخير المطلق الأسمى، وكانت غاية حياة الفيلسوف الذي يهتدي بالخير والفضيلة هي التشبه بالإله؛
3
فهل هناك كمال أقصى من هذا الكمال الذي يسعى إليه سجين الكهف في رحلته المضنية إلى نور الشمس، مثال المثل وخير الخيرات أجمعين؟ وهل يكون التشبه بالإله شيئا غير هذا؟ •••
تعددت التأويلات التي ذهب إليها المفسرون لهذا الرمز الشاعري الجميل من العصور القديمة إلى اليوم، ومع ذلك فلعل التفسير الذي قال به أفلاطون نفسه في مبدأ الكلام عنه من أنه يدل على التربية أو نقص التربية؛ هو أقربها إلى الصواب، فصورة الشمس التي ترمز إلى مثال الخير الأسمى وصورة الكهف؛ كلتاهما تعبير عن طبيعة التربية، وعن موقف الإنسان من المعرفة أو الجهل، واليقين أو الظن، والتقدم أو التأخر؛ إنهما ترسمان الطريق الذي تصعد فيه الروح إلى الصدق والحقيقة والنور، حتى تصل إلى قمة المعرفة الفلسفية، ونعني بها مثال الخير.
4
ولم يكن هناك شيء يستطيع أن يعبر عما ستجربه النفس من تحول وما تكابده من مشقة وجهد حين تنتقل من الظلام إلى النور، ثم وهي تعود مرة أخرى من النور إلى الظلام لتدرك مقدار ما في وجود الإنسان بين الظلال والأشباح من هوان ومذلة؛ أقول: لم يكن هناك شيء يمكن أن يعبر عن هذا كله خيرا من صورة الكهف. كان من السهل على أفلاطون أن يلجأ إلى الطريقة المجردة المطلقة في شرح أفكاره، ولكن خطورة الموضوع - الذي هو بصدده - جعلته يعالجه على هذا النحو الإنساني الرائع؛ ليستطيع أن يبرز ما تعانيه النفس وهي تترك الشر إلى الخير وتنتقل من الظلام إلى النور، وتكابد كل ألوان العذاب التي توشك أن تنتهي بها إلى الهلاك. ولو أن الأمر كان يتعلق بالمعرفة فحسب لما كانت هناك حاجة إلى هذا الرمز الخصب، ومن ثم كان في حقيقته أكبر من ذلك وأخطر، إنه «تحرير» الإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وإذا كان سقراط - بتواضعه المشهور - يصف صعود النفس إلى الخير الأسمى على أنه أمله الشخصي الذي يعلم الرب وحده مدى نصيبه من الحقيقة (الجمهورية 517 ب6)، ففي استطاعتنا اليوم أن نقول: إنه الواجب الأكبر على الإنسان، ومهما يكن فهمنا لهذا الكهف وللمساجين الذين يقيمون فيه وللعالم الخارجي الذي تضيئه الشمس، فلا شك في أننا نحمل على الدوام مسئولية التحرر منه إلى أرض العدل والحق والنور، ولا شك أن هذا سيظل واجبا على الإنسان، اليوم وغدا وإلى آخر الزمان، ويا ويلنا إن كانت حياتنا على الأرض وكان العالم الذي نعيش فيه هو هذا الكهف المظلم! ويا ويلنا إن لم نحاول كل يوم أن نخرج منه إلى نور العدل والحرية والحقيقة!
وحيدا مع الواحد
كلمات صغيرة عن مفكر كبير
يبدو أنه لم يكن يعير الكلمة المكتوبة ما نعيرها الآن من اهتمام، فلم يخطر بباله أن يمسك بالقلم إلا بعد أن تجاوز الخمسين، وعلم عشر سنوات في مدرسته الفلسفية في روما في النصف الثاني من القرن الثالث بعد المسيح. راح يكتب في عجلة كأنه ملهم أو ممسوس، في خط لا تكاد العين تتبين حروفه، ويظهر أنه شعر بما يشعر به كل من يكتب من خيبة الأمل حين يرى أفكاره الحية قد ذوت في رداء شاحب من الكلمات المكتوبة، ومن يدري؟ لعله ندم على ما فعل؛ فعاش بقية حياته - فيما يروي تلميذه وناشر أعماله فور فيريوس - لا يحتمل أن يسمع أحدا يقرأ عليه رسائله، ولا يحاول أن يعيد النظر فيها مرة واحدة.
অজানা পৃষ্ঠা
وانتهت إلينا هذه الرسائل الساحرة كما نشرها تلميذه فور فيريوس الذي قسم منها أربعة وخمسين رسالة إلى ست مجموعات اشتهرت إلى اليوم باسم التاسوعات، غير أن أفلوطين لم يكتبها على هذه الصورة، بل أغلب الظن أنه كتبها في فيض من الإلهام، وتركها بلا فواصل أو عناوين. وليس مرجع ذلك - كما يرى تلميذه - أن بصره كان قد ضعف في أواخر حياته ضعفا شديدا، بل لا بد لنا أن نبحث عن سببه في طبيعة الموضوع نفسه، فما هو هذا الموضوع الذي سنحاول أن نقترب من حقيقته؟
على الرغم من أننا نلاحظ في السنوات الأخيرة ما يشبه حركة البعث لفلسفة أفلوطين كما تتجلى في نشر أعماله باليونانية نشرا دقيقا محققا وفي ترجمتها إلى معظم اللغات الأوروبية؛ إلا أن أفلوطين لم يقدر له أبدا أن يكون من الفلاسفة الذين يقبل الناس على قراءتهم ومناقشة آرائهم والتحمس لأفكارهم، ومع ذلك فيكاد كل مثقف أن يعرف شيئا عنه أو يردد بعض كلماته المعروفة: الواحد، الفيض أو الإشعاع الذي تصدر به الموجودات الكثيرة من الموجود الواحد الأول، التدرج الذي يهبط من العقل إلى النفس إلى المادة، المادة أصل الشر، الفناء والوجد ... إلخ. كما يكاد كل من له إلمام بالفلسفة أن يعرف أن أفلوطين قد علم أن مصير النفس التي سقطت عن الواحد هو أن تعود مرة أخرى إلى الأصل الأول الذي نبعت منه، وتتحد معه في لحظات نادرة من حياتها بما يشبه الوجد والانجذاب؛ الأمر الذي وفق إليه أفلوطين أربع مرات في حياته، على نحو ما يروي عنه تلميذه ومؤرخ حياته!
ولكن هذا التصوير لفلسفة أفلوطين لن يفرق كثيرا بينها وبين غيرها من المذاهب الفلسفية المأثورة في تاريخ الفكر الغربي، حقا إنها قد تبدو شيئا مشوقا عميقا غريبا، ولكنها ستبدو للقارئ المعاصر - الذي يفهم عن «الحقيقة» و«الواقع» - شيئا مختلفا أشد الاختلاف عما كان يفهمه القدماء منهما، وكأنها أثر تاريخي عفى عليه الزمان، وسكنت فيه نبضات الحياة. وربما كان للقارئ الذي يرى هذا الرأي عذره، فأفلوطين هو أعظم الناطقين باللسان اليوناني في المرحلة الأخيرة من مراحل الفلسفة اليونانية، اتحدت فيه عناصر هذا التراث الضخم وأينعت ثمرتها الناضجة المتأخرة، وتشكلت في صورة مذهب شامخ يطل كالفنارة الوحيدة على شاطئ بحرها الزاخر غير المحدود.
من المعلوم أن أفلوطين هو الجسر العظيم الذي انتقلت عليه الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة المسيحية والإسلامية في العصور الوسطى، وكان اتجاهه إلى الباطن هو الخطوة الحاسمة الأولى على طريق التصوف الطويل، وكانت تأملاته في العلاقة بين العقل
1
وبين الفكرة
2
هي التي جعلته يضع المثل الأفلاطونية في العقل، ويمهد بذلك للفكرة السائدة في العصور الوسطى عن «العقل الإلهي
Intellectus divinus » التي أدت في العصور الحديثة - على يد ديكارت - إلى تصورها عن «العقل الإنساني
Intellectus humans » الذي ما يزال يحاول إلى اليوم - باسم شعارات التقدم المختلفة على مر الأجيال - أن يشكل العالم ويتحكم فيه ويسيطر عليه.
অজানা পৃষ্ঠা
كل هذا معروف مشهور، يستطيع القارئ إذا شاء أن يجده في أي كتاب من كتب تاريخ الفلسفة الكثيرة، ولكن ما نريد أن نتحدث عنه اليوم شيء آخر غريب وجديد وفريد، ربما لم يكن له دور يذكر في تأثير أفلوطين على العصور التالية، وربما لم يكن من المستطاع أن يكتب له مثل هذا الدور، فما هو هذا «الشيء» الجديد؟
يقول عنه أفلوطين:
3 «أما ما هو الواحد الحقيقي الخالص الذي لا يتعلق بشيء آخر سواه، فهو ما نريد الآن أن نراه، إن كان ذلك ممكنا على أي نحو من الأنحاء.»
فما هو هذا الواحد؟
ربما كان السؤال على هذه الصورة ساذجا أو مجانبا للصواب؛ فهو يسأل عن «ما» هو الواحد، بينما يجوز أن يكون الواحد مما لا يقال عنه «ما»، ولكننا سنتركه كذلك إلى حين.
يصل أفلوطين من الناحية الفلسفية الديالكتيكية إلى فكرته عن الواحد في معرض سؤاله عن الأصل.
4
والسؤال عن الأصل أو المبدأ ليس سؤالا أفلوطينيا خالصا؛ ذلك أنه قديم قدم الفلسفة نفسها، بل إن في استطاعتنا أن نقول : إنه السؤال الأول لكل متفلسف، لقد حرك الفلسفة اليونانية منذ نشأتها الأولى، ويكفي أن نتذكر أن الفلاسفة الطبيعيين قبل سقراط (طاليس وأنكسمندر وأنكسمانس) قد فرقوا تفريقا حاسما بين الأصل وبين ما يصدر عنه من أشياء، أي أنهم رأوا أن الموجود أو الشيء يصدر عما لا يتصف بمحدودية الشيء والموجود، تشهد بذلك عبارة أنكسمندر المشهورة: «أصل الموجودات هو اللامحدود.»
5
وتتصل هذه التفرقة بين الأصل وبين ما يصدر عنه من موجودات في الفلسفة اليونانية من بعد وبخاصة عند أفلاطون، بينما نجد تلميذه العظيم أرسططاليس يحاول أن يغير من هذه التفرقة ويمهد لضياع ملامحها.
অজানা পৃষ্ঠা