أرجو ألا يطول هذا الجدال وإلا اضطررنا إلى الدخول معكم فيما لا نريد.
الرئيس :
كفى كفى، يظهر لي أنكم توافقون كلكم على صرف العشرين والمائة قرش.
الجميع وفيهم المخالفون :
نعم نعم، كلنا نوافق.
فوالله ما رأيت مشهدا هو أنفى لصبر وأجلب لضحك مما رأته عيناي، فيا لك من مبرك إبل أنا أحد أذواده، فعاودني هنالك شيطاني ونفخ في أذني نفخته، فقلت لمعمم كان باركا إلى جانبي: ما قدر ميزانية المعارف؟ - لا أدري. - كيف لا تدري ثم توافق على احتساب مبلغ منها؟ - وما يعنينا نحن من ذلك؟! لينظر في الأمر من هم فوقنا، وما جيء بنا هنا لنحاسب الناس على كل ما يقولون، أنا أحب ألا أتعدى ما رسم لي. وأنت جئت اليوم، فلا تدري من أعمال المعارف شيئا، فأولى لك ألا تعجل في الرأي وألا تكشف مقاتلك لمحاسديك. قلت: وهذه فائدة استفدتها. وقد ذهبت هيبة المجلس من عيني، وأيقنت أن هذا البناء الذي يظل رجال العلم في الإمبراطورية العثمانية لا يئوي إلا أناسا هم نخبة جهلائها، فأشفقت على وطني وتمنيت ألا أعيش حتى أشهد مصرعه.
فلما كان المساء، وآن للمستخدمين أن يخرجوا من بيوت العمل إلى مضاجع الراحة أو معاهد اللذات، تلفع كل ذي عمامة عباءة، ولبس كل ذي طربوش معطفه (بالطوه)، فدنا مني راسخ أفندي وقال لي: كم جعلوا راتبك؟ - لا أدري. - أنصحك لوجه الله الكريم، لا تتأن في أمر لك نفعه وعليك ضرره، اذهب من ساعتك إلى الناظر، فقل له كم جعلتم زيادة راتبي؟ أنت لا تعرف زهدي باشا، سل عنه مستخدمي المعارف يخبروك خبره؛ هذا رجل سوء، ما قدر على ضرر يضر به أحدا وتأخر عن تعمده، وربما أدى به حلمك إلى الاقتصاد من راتبك وجعل ما اقتصده من نصيب غيرك. ادخل عليه الآن قبل أن يخرج، ثم إياك والإفراط في التأدب والتحشم، هذا رجل جاهل يحسب الأدب خضوعا وتذللا، فلا تملكه ناصيتك فهي في قبضته.
فما أتم راسخ كلامه إلا هرولت نحو السلم، وجعلت أصعد فوقه درجتين درجتين حتى بلغت أعلاه، وأنا لا أجد نفسا أتنفسه، فدخلت حجرة الناظر بعدما استأذنت، مخالفا لما أشار به علي ناصحي من ترك الاستئذان، فرأيت شكري بك الحسيني عنده، فسلمت ولم أمهله أن يسألني عما أريد، بل وضعت يدي على جانب مكتبته معتمدا عليهما، وقلت له : جئت لأعلم مقدار راتبي.
هنالك زوى عني وجهه وقال: هذا ينظر فيه حين يجيء وقته. فتركته وخرجت. فإذا راسخ في انتظاري أمام باب النظارة، فلما رآني أومأ بعينيه يسألني عما كان، فقصصت عليه الخبر، فقال: إذا رجعت إلى بيتك ففكر في أمرك علك تهتدي إلى ما يريح خاطرك. ثم إنه سلم علي وفارقني.
ولا يفوتن القارئ الأريب أني لم أنتقل طول أيام مقامي بالآستانة من نظارة المعارف إلى نظارة غيرها، فحسبه قليل ما جاء في هذا الفصل، وسأعود إلى الكلام على المعارف كلما أدى إليها سياق الحديث، ولنرجع إلى ذكر أشياء تقدمت ذلك، وقعت قبل أن أفارق جمعية الرسومات؛ فإن لها شئونا لا يخلو ذكرها من فائدة.
অজানা পৃষ্ঠা