الجزء الأول
إلى مؤسس بناء الحريةالأمير الجليل المرحوم مصطفى فاضل باشا
مقدمة
الجرائد المصرية في سنة 1892 وما قبلها وما بعدها
السياسة الإنكليزية بمصر في سنة 1892
المرحوم عبد الله النديم وأستاذه
حزب تركيا الفتاة
مذابح شهداء الحرية من إخواننا الأرمن
جرائد العثمانيين الأحرار بمصر وغيرها
فرار مراد الطاغستاني من الآستانة إلى مصر وسبب ذلك
حال الأحرار وجمعياتهم بعد هرب مراد من الآستانة
وقع ما كتبه الأحرار على دوائر الظلم بالآستانة
أبو الهدى بالآستانة وبمصر
ماذا كان يريد أبو الهدى؟
اللورد كرومر وأحرار العثمانيين
بين التابع والمتبوع
أنا في حزب الأحرار
الأميرة الجليلة الفاضلة «نازلي هانم»
الجنرال أحمد جلال الدين
الشيخ محمد ظافر المدني
عزت العابد
شر جديد
بعض ما مر علي بنظارة المعارف
الحرب العوان
محمد باشا الجركسي المعروف بأبي لحية
شتم وضرب وقتل
السياسة الحميدية
الجزء الثاني
مقدمة
كيف نفوني إلى سيواس؟
السجن
أعوان النقمة
السجن الجديد
الأحرار في بطون الأرض
بعض ما وقع أيام سجني
من السجن إلى الباخرة
نظرة في حال فروق
وداع فروق
صامسون
كتاب إلى الصديق الأوفى رفيق التلمذة
إلى سيواس
سيواس
وفاة الحاج حسن حلمي باشا والي سيواس
زفرة من زفراتي
ما كابده أهل بيتي في فروق
قدوم رشيد عاكف واليا على سيواس
كلمة في الأناضولي
جغرافية ولاية سيواس
آثار القدماء في سيواس
تلخيص الخلاصة في تاريخ سيواس
رجال الدين في سيواس
أقيال سيواس وسراتها
إخواني في النفي
كيف مرت أيامي بسيواس؟
أهل سيواس
الأمة والشورى
ملخص الصور
الجزء الأول
إلى مؤسس بناء الحريةالأمير الجليل المرحوم مصطفى فاضل باشا
مقدمة
الجرائد المصرية في سنة 1892 وما قبلها وما بعدها
السياسة الإنكليزية بمصر في سنة 1892
المرحوم عبد الله النديم وأستاذه
حزب تركيا الفتاة
مذابح شهداء الحرية من إخواننا الأرمن
جرائد العثمانيين الأحرار بمصر وغيرها
فرار مراد الطاغستاني من الآستانة إلى مصر وسبب ذلك
حال الأحرار وجمعياتهم بعد هرب مراد من الآستانة
وقع ما كتبه الأحرار على دوائر الظلم بالآستانة
أبو الهدى بالآستانة وبمصر
ماذا كان يريد أبو الهدى؟
اللورد كرومر وأحرار العثمانيين
بين التابع والمتبوع
أنا في حزب الأحرار
الأميرة الجليلة الفاضلة «نازلي هانم»
الجنرال أحمد جلال الدين
الشيخ محمد ظافر المدني
عزت العابد
شر جديد
بعض ما مر علي بنظارة المعارف
الحرب العوان
محمد باشا الجركسي المعروف بأبي لحية
شتم وضرب وقتل
السياسة الحميدية
الجزء الثاني
مقدمة
كيف نفوني إلى سيواس؟
السجن
أعوان النقمة
السجن الجديد
الأحرار في بطون الأرض
بعض ما وقع أيام سجني
من السجن إلى الباخرة
نظرة في حال فروق
وداع فروق
صامسون
كتاب إلى الصديق الأوفى رفيق التلمذة
إلى سيواس
سيواس
وفاة الحاج حسن حلمي باشا والي سيواس
زفرة من زفراتي
ما كابده أهل بيتي في فروق
قدوم رشيد عاكف واليا على سيواس
كلمة في الأناضولي
جغرافية ولاية سيواس
آثار القدماء في سيواس
تلخيص الخلاصة في تاريخ سيواس
رجال الدين في سيواس
أقيال سيواس وسراتها
إخواني في النفي
كيف مرت أيامي بسيواس؟
أهل سيواس
الأمة والشورى
ملخص الصور
المعلوم والمجهول
المعلوم والمجهول
تأليف
ولي الدين يكن
الجزء الأول
ما كان أهنأني وأسعدني
لو كان ينفع معشري قلمي
أنا لي فؤاد لا أنزهه
لكن يراقب ما يقول فمي
إلى القراء
بهذا الكتاب أشياء، وقد فاتته أشياء، وفي أحوال العالم ما يمنع الإفصاح بكل ما يدور بالخلد. على أنني لا أحب أن أخرج من هذه الدنيا قبل إظهار ما عندي من الخوافي، فإذا وفقني الله إلى أمنيتي تلك كنت سعيدا.
حين تذهب دول الظلم ويذوق الناس نعيم العدل يقرءون مثل كتابي هذا بارتياح.
وإذا وهب الله أقوامنا من الترقي أكثر مما نالوه وبقيت أنا حيا بينهم كلمتهم بما يخالج صدري تصريحا لا تلميحا.
مؤلف الكتاب
إلى مؤسس بناء الحريةالأمير الجليل المرحوم مصطفى فاضل باشا
قائد كتائب الحرية والأحرار الأمير المرحوم مصطفى فاضل باشا الشهير.
أيها الأمير
أنطقت كمالا وأصحابه، واخترت الصمت. ولدت بنفسك غنيا ومت لوطنك فقيرا. علمت محب الحرية كيف يغنيها فغناها، ثم طربت فشربت كأسا هي الحمام، في حب حبيب هو الوطن . ما كنت شاعرا ولكن خلقت الشعراء. فلما جئت في لداتي لم نجد ما نقول بل كررنا ما قاله الأسلاف من تلامذتك.
لو أمست البلاد العثمانية كلها قبرا لك وحدك، وخيط كفنك مما يتسرب من آماق بنيها من الأشعة، وأقيم لك تمثال من الذهب أطول من برج «إيفل» عشر مرات، وكتب مدحك على أديم الأرض من شمال البالقان إلى جنوب اليمن، لكان ذلك دون قدرك.
هذا كتاب فصوله كثيرة، ولكنها فصلان، لي في كليهما شئون؛ أما الفصل الأول فبيان لمحنة الأمة، وأما الفصل الثاني فاستخراج العبرة من تلك المحنة. وقد ذهب الشر وجاء الخير ولكن ضعت أنت في الفترة.
هذا كتاب أهديه إلى اسمك الخالد، لا تقربا إليك بأمل دنيوي، إذ لا سبيل إليك، بل تشريفا لي ولكتابي، ثم اعترافا لك بفضل لا يخالفني فيه أحد. فليطب مضجعك، ولتتغمدك الرحمة، وليسق ثراك الغيث أيها الأمير الفاضل الجليل.
ولي الدين يكن
مقدمة
1
كتابي سر في الأرض واسلك فجاجها
وخل عباد الله تتلوك ما تتلو
فما بك من أكذوبة فأخافها
ولا بك من جهل فيزرى بك الجهل
سيشهد من يتلوك إن كان عادلا
بأن بني حواء ما بينهم عدل
للمؤلف
بين فروق ومصر نجي من الغيب تتراوح به الرسل فتقصر في بلاغه، وتتحمله النسائم فتعجز عن تأديته. لكل عند صاحبتها لبانة، ولكل لدى الأخرى مكانة؛ شدت أواصر القربى بينهما فأحكمت، ثم رثت فتراخت، ثم دبت بين الأم وبنتها عقارب الجفوة، فكادت تنفرج مسافة الخلف وتنفصم عرى الود؛ ولكن تدوركتا من حيث لم تحتسبا، فباتتا على ريب من أمريهما، فمتأمل في حاليهما يقول:
وكل مظهر للناس بغضا
وكل عند صاحبه مكين
ومتسل بواحدة عن الأخرى ينشد:
تسلى بأخرى غيرها فإذا التي
تسلى بها تغري بليلى ولا تسلي
أما فروق فهي الغانية، بزت حليها وحلاها، واستغنت بجمالها عن تجملها، عروس الطبيعة الناشز، المنعمة الممنعة، تهب الصبابة وتسلب الجلد. للملوك مصارع من حسنها، وللرعايا مصارع من ظلمها. يقيم على غرامها إلى الأبد من نظر إليها نظرة واحدة.
وأما مصر؛ فهي الفتاة، أنسها قريب وملالها أقرب؛ أكبر من أمها سنا، وأقدم منها بالحضارة عهدا؛ رائعة الخلق والخلق، عروب، لعوب، نئوم، مكسال، صادق حبها، كاذب وعدها ووعيدها.
الفاتنتان تتباينان فتتراجعان، ولا تستمران على قطيعة.
أما بنو فروق، فمغلوبون على أمرهم؛ قضي عليهم ألا يتحاصوا من الحياة الدنيا إلا الهموم، يعيشون فيها، لا يرون بها شمسا ولا زمهريرا (ولا يسمعون لغوا ولا تأثيما)، عاليهم ثياب من نار، كلما شوت منهم جلودا بدلوا بها جلودا. تتعاقب الآناء وهم سكارى حيارى، كأن عهدهم بالحشر قريب، ينظرون من خلل اليأس إلى بارق الأمل.
وكأنه برق تألق بالحمى
ثم انضوى وكأنه لم يلمع
يكاد البرق يخطف أبصارهم، كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا. أوصدت دونهم أبواب القبول وحيل بينهم وما يشتهون. فأيد بسطت ضارعة بالذلة، ووجوه عنت منقبة بالمسكنة، وأبصار زاغت وفي لواحظها نعاس الخمول، وقلوب شقت وفي أشطارها معاني الشكوى. وما يغني التطلب! أقعدت العزمات وصغرت الهمم، وفاضت النفوس وراحت الآمال، وبوعد بين الشباب وبين الوصال.
أما لو أن زهور الرياض مقل، وقطرات الطل دموع، وأنفاس النسائم زفرات، وأغاريد الطيور نحيب، والأقاحي ثغور تناجي، والبراكين أفئدة تتقد، والقيامات أنات الضمائر، وخطوب الدهر أحزان بنيه؛ لقل ذلك عند وقوف المتأمل على أجداث إخواننا الشهداء. ألا بنفسي تلك اللحود، صمت نازلوها ونطقت صناديقها، ألا ما لمثل هذه الأفئدة البشرية هذه الشجون. بلى هي قوى كهربائية لها من كل ويل تيار.
أما بنو مصر، فمغلوبون على أمرهم؛ ذاقوا مرارة الذل أولا، ثم بدلوا منها أريا شهيا، وأوتوا رخاء وعيشا معللا جانبه. أسفرت لهم الحرية، عدوة الملوك وحبيبة الشعوب. راموها زرقاء فأتت حمراء، وما تلك بحمرة خجل ولا حمرة دم؛ إن هو إلا الحياء يورد الخدود ويقصر الخطى؛ فهم مغبوطون وهم حاسدون، ذلوا لها حين استعصت، ودلوا عليها حين سلست، وأنساهم عذب الوصال مر الهجران.
ليقف من شاء من أبناء حواء على منارة من منارات فروق، وليدع طرفه يرود تلك الهضاب في أبرادها السندسية، وليفسح له مجالا في مسارح خلت من أوانسها، وليرم به إلى قرارات كالدراهم. تلمع بكرة وتلتهب أصيلا. مراودها الغزل ومسالكها العفاف. فإذا بدا له «البوسفور» في ازرقاق عبابه، وتجعد أديمه، وازدهار شطيه، واطلاع أقماره، فليرجع البصر إلى منازل كأنها لعب أو علب، كأنها بنيت بعضها فوق بعض. فلينصت هنالك قليلا، وليسأل بعدها عما سمع ورأى. أما والله ليصيحن بملء فيه منشدا قول المعري:
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
رب دار كأنها قفص البلبل، في وسط حديقة كأنها طبق زهر، ثم فتاة أفرغ الله نوره فتكونت منه، يدخل عليها داخل وهي غارقة في هواجسها، فتقول له: ما أخر أبي؟ ما أبطأ بأخي؟ لم لم يحضر هو ...؟ وهو معلوم، فيقول لها أبوك نفي وأخوك سجن وهو ... ضاع بين الأزرقين، السماء و«البوسفور». فلا أدري، بل لا أود أن أدري ما يكون من لحظيها إذا أسبلا بكاء، وما يكون من ذلك الوجه إذا رفع في يأسه وحزنه إلى السماء، وقال فمه مرة واحدة: آه!
وليقف بعد ذا من أراد على قمة الهرم الكبير في مصر، وليتأمل بنت إيزيس وأوزريس؛ أما والله لا يلبث أن يرى الوجوه الضاحكة، خلال المغاني الآهلة، فيبدو لتأمله فرق ما بين العاصمتين.
2
بفروق قصر وبمصر قصر؛ القصران مصدران للأحكام، وموردا للآمال، هما كشقي المقص؛ إذا افترقا أحاطا وإذا تجمعا فرقا. هما الصرحان تطل منهما المعالي ويشرف سلطان القوة. يقلبان ولا يتقلبان، على أيهما وقف البصر خشع وأيهما حضر بخيال النفس هالها! يا داري العزة ما الخورنق والسدير! ما إيوان كسرى وما قصر الحمراء! ما ربع مية يطيف بها غيلان وهو معمور! بل ما إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد!
تطاولت الأيدي حتى انتهت إليهما، فما بقي مكان خاليا إلا وطرقه طارق منتاب، أحيطا، فمنعا، فعزا، فأرهبا، ثم اغترا، فأعملا، فأذلا، فأغضبا، ثم زادا، فأفنيا، فأثارا. وما هي إلا صيحة أخذتهما فتساقطت تلك اللبنات الذهبية، وقعقعت هاتيك العروش، وقضي الأمر . وكذلك يستدرج ربك بعباده من حيث لا يعلمون.
مضى زمان العمل وجاء زمان الحساب. وقد قال شاعر العرب:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه
ليس الكريم على القنا بمحرم
القاضي هو الحق، والمخاصم هو الأمة، ومن كان نصيره تاجه وصولجانه فالأمة نصيرها الله.
3
قلت (له) قبل اليوم بنحو الثلاث عشرة سنة من أبيات لي:
ضع الأمر في موضع الإعتبار
فإن الزمان زمان العبر
ولا يفرحنك زوال الخطوب
فكم إثرها من خطوب أخر
مصاب مرير إذا ما انقضى
تلاه مصاب عليك أمر
حياتك أمست حياة التساوي
فلست تساء ولست تسر
إذا ما أماني الهوى برزت
وكل خفي بها قد ظهر
وشام بصير وأصغى سميع
وراحت ترود المعاني الفكر
وقال زمانك كيف التحامي
وناداك دهرك أين المفر
هنالك تشكو كما كنت تشكى
ويجري بما لا تشاء القدر
واليوم لا أجد ما أزيد على هذا المقال.
4
أضحت مصر منذ سنة 1517 ولاية عثمانية، عاشت سلسة القياد، لينة العريكة، إلا ما كان يأتي به بعض المتغلبين من بقية السيف، من ساداتها الأول منذ سنة 1766.
وفي سنة 1794 أخرج نابوليون الأول من الجيش العامل في فرنسا؛ فهم أن يقصد إلى الملك العثماني لينظم مدفعيات العثمانيين، لكنه استبقى لفرنسا حتى سلط مدفعياتها على الهرمين في سنة 1798 وهزم عنهما مراد بك وإبراهيم بك، ثم أجفل إلى بلاده وأخرجت جنوده الجنود العثمانية والبريطانية.
وقد شاءت الأقدار أن يغنم مصر سليم الأول ويخسرها سليم الثالث، كما رفع فرنسا نابوليون الأول ووضعها نابوليون الثالث. وشتان بين سليمنا الثالث ونابوليونهم الثالث. إن سلطاننا كان حرا وحكيما وعادلا، ولكن جنى عليه الجانون.
فلما اطمأنت مصر بعض الاطمئنان إلى محمد علي الأول بعد سنة 1811؛ دخلت في تاريخ جديد.
فإذا تأملناها منذ أخذها العثمانيون إلى يومنا هذا؛ رأينا الغرابة فيها من ابتداء سنة 1892 وما تلاها من السنين. وسيأتي الكلام على بعض تلك النوائب إيثارا لتخليدها.
5
وهبتني مصر تجارب ووهبتني فروق تجارب، وكتابي فيه مواهب العاصمتين ومختصر من تاريخ القطرين وعبر من وقائع القصرين؛ فمن قال فيه إنه دفتر الحسنات والسيئات فقد صدق، ومن قال فيه إنه ديوان السياسة فما أخطأ. على أني أتمثل بقول أبي الطيب:
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت
مني بعلمي الذي أعطت وتجريبي
الجرائد المصرية في سنة 1892 وما قبلها وما بعدها
كانت الجرائد المصرية إلى سنة 1892 معتدلة السياسة على اختلافها في مذاهبها، ولم تكن السياسات إلا ثلاثة ضروب: عثمانية محضة مسالمة للاحتلال الإنكليزي. وهي التي امتازت بها جريدتان يوميتان «المقطم» و«النيل». وفرنساوية مصرية. وهي التي اختصت بها: «الأهرام» و«المؤيد». ومصرية محضة مع إنصاف المحتلين. وهي التي سارت عليها جريدة «الوطن».
فأما «المقطم»؛ فقد ثبت على سياسته إلى يومنا هذا، ولم يبد منه أدنى تغير فيؤاخذ عليه. وأما «النيل» فقد تغير في أواخر أيامه وظهر تغيره للعيان؛ وما غيره صاحبه بل غيرته أنا. على أنه لم ينتقد السياسة البريطانية ذاتها، بل استكبر حمايتها للأحرار العثمانيين ممن هبطوا مصر ليستمتعوا بحريتها ويحتشدوا بها على حرب الحكومة المستبدة المنقرضة، فكنت أنا وصاحب النيل - رحمة الله عليه - ننكر على الأحرار مساعيهم ونأبى مشاركتهم فيها. ومن هنا يتبين للمتأمل أن اختلاف «المقطم» مع «النيل» لم يكن إلا من الوجهة العثمانية الداخلية، وذلك لأن أصحاب «المقطم» نشئوا في أعظم مدرسة غربية أسست في الشرق. وهي الكلية الأمريكية الكائنة ببيروت، وأخذوا علومهم عن أعظم حكيم غربي قطن الشرق؛ وهو طيب الذكر الدكتور كارنيليوس فانديك؛ فعرفوا التمدين العصري وبرعوا في العلوم الجديدة، وأشربوا الحرية فشبوا عليها وكأنهم ولدوا في أوطانها. وصاحب «النيل» لم يكن كذلك؛ فإن الرجل كان من الراسخين في العلوم العقلية والنقلية مما نحله إياها أحزاب الفكر القديم؛ فكان مؤرخا فقيها وكاتبا ألمعيا، ولكن لم يخل قلبه من التعصب. كانت نفسه الكبيرة لا تستحب النزوع عن القديم ولا تستطيب شيئا من الجديد، فاهتديت أنا برأيه، ولكن وقعت في أخطائه.
وأما «الأهرام» فكان صاحباه - رحمهما الله - محميين بقوة فرنسا، فلم يريا من المروءة أن يخالفاها في سياستها الاستعمارية. ولولا ما سبق منهما من الإفراط في التعصب لها لكان عذرهما أوسع . على أنهما سعيا لخير مصر من حيث ظنا أنه صواب. ولم ينصفا الإنكليز بل أصرا على حربهم، ولم يذكرا للقوم يدا وإن جلت ولم يسترا لهم هفوة وإن صغرت. وأما «المؤيد» فقد ظهر واهي القوى، شديد العزيمة، خلق الجلباب، جديد الهمة، رابط الجأش، جميل الصبر، يعاني الشدائد ويعاين المهالك، رحب الصدر باسم الثغر، فكان يزداد كل يوم شهرة، ويجد من إقبال الناس عليه ومؤازرتهم له ما يبعث نشاطه ويستعيد فتوته. ولم يرض صاحبه أن يمشي في الأرض مكبا، بل سار في مناكبها شامخ العرنين، سامي الطرف، بادي الخيلاء، ثم جنح إلى السياسة الفرنساوية شيئا على يد صديقه من قبل وخصمه من بعد المرحوم مصطفى كامل، رئيس الحزب الوطني الأول ومؤسسه، وصاحب المسيو «دلونكل» أحد ساسة الاستعمار في فرنسا إذ ذاك. وقد أمسى «المؤيد» محالف «الأهرام» كما أصبح «النيل» مخالف «المقطم».
فكانت جريدة «الوطن» وحدها تغني مصر كما تهوى مصر، بل كما يجب عليها لمصر. حفظت العهود؛ عهود أجدادها؛ الصيد الأول، نسل الشمس، وخدمت قومها كما أراد قومها. ولما كان الأقباط، أولو مصر، قوما امتازوا بحب وطنهم وشرف نفوسهم وبعد هممهم ومحبتهم الجد ومجانبتهم المعايب؛ لم تثن هماتهم عداوات البعض من مواطنيهم المتعصبين، وكما حموا مجدهم على قلتهم وكثرة حسادهم وظلم حكامهم أعانوا جريدتهم فعاشت لهم واستفادوا بها.
على أن هذه الجرائد لم تكن متمتعة بمثل حريتها اليوم؛ فإن قانون المطبوعات الذي وضع في سنة 1881، ونصب معه البارون مالورتي الشهير مديرا لقلم المطبوعات، ضيق الخناق على أرباب الصحف والأقلام، وسلب الأمة المصرية حريتي الفكر والسياسة.
فكانت الجريدة من الجرائد تنشر الخبر لا يوافق سياسة الحكومة، فيأتيها الإنذار من الداخلية تنشره في أول عدد يصدر منها بعد وروده، وإذا أنذرت مرتين ألغيت في الثالثة، وقد يحكم عليها بتعطيلها شهرا أو أكثر أو أقل. وقد تلغى بغتة. وكل ذلك على ما يبلغ ذنبها وجنايتها السياسية. ولكن لم يطل أمد هذا الظلم، وأعلنت حرية المطبوعات في وزارة الرجل الحر مصطفى باشا فهمي، وكان ذلك في أواخر سنة 1892 على ما أظن، ثم أتت الوزارة الرياضية فهمت برفع هذه الحرية، فلم تفلح وذهبت غير مأسوف عليها.
غير أن الجرائد المصرية لم تشبه أخواتها في الغرب بحال من الأحوال، لا في عهد أسرها ولا بعد عتقها. وسبب هذا النقص اتحاد الصحافيين على استرضاء الشعب؛ فهم يرون أن الشعب المصري لا يحب في صحفه إلا أن تكون هكذا، وفاتهم أن الجرائد هي ألسن العقلاء تنطقها الحكمة ولا يستميلها الهوى، وأن الواجب عليها أن تقود لا أن تقاد.
وكم أسف أجده عندما أتذكر ماضي الشباب، أيام كان الفتى منا شغله مقالة يكتبها أو قصيدة ينظمها لتذكرها له الصحف السيارة ناعتة إياه بالفاضل والأديب. أيام كان الشاب منا يقضي ليله في معاقرة ولهو وسماع، ثم يصبح فينادي في الصحف باسم الوطن ويدعو إلى مكارم الأخلاق، وإذا صادف من أديب غرة انبرى له طالبا مناضلته طامعا في مساجلته، اقتساما لشهرته، ولك يقال إنه ناظر فلانا فغلبه. كانت أمامنا ساحات المطبوعات متباعدة الأطراف، مباحة الحمى، نجول فيها كما نحب، نقول فنجد من يسمعنا ونهذر فنلقى من يشاركنا. فيوما نحن أعداء «قوم» نحض الناس على مقاتلتهم، ونزين لهم مناوأتهم ونحبب إليهم بغضتهم، ويوما نحن أنصارهم نفديهم بالأرواح ونبغض من يريدهم بسوء؛ ذلك بأننا دخلنا أبوابا لم نكن أهلا لدخولها، وادعينا السياسة وما كنا إلا فتيانا لا يعلم الواحد منا أحوال نفسه، فكيف كان يتسنى لنا كشف غوامض حارت فيها الدهاة وأخطأها أهل الصواب.
هكذا، يأتي على المرء حين من الدهر يؤلمه تذكر ماضيه ويخجله. وما أشد عصر الشباب إغراء للشباب! وليت هذه العظات تنال رخيصة، فيستعاض بها ما خسرته الحياة على قصرها، إلا أنها غالية أثمانها الأعمار.
وهنا لا أجد بدا من الاعتراف بأن حرية الجرائد اليوم بلغت أقصى غاياتها، ولكنها أساءت إلى الأدب والأديب؛ فقد منحت الجرأة لقوم من الأميين والبعيدين عن معالي السياسة، فصرت الأقلام بما يضر وعجزت عما يفيد.
السياسة الإنكليزية بمصر في سنة 1892
في 8 يناير سنة 1892 جاء من «فينا » إلى رئاسة مجلس النظار بمصر تلغراف هذا نصه:
إن نبأ وفاة سيدي ووالدي قد أدهشني؛ فهو مصيبة عظيمة على عائلتي وعلى القطر المصري بأجمعه. ومتى وصلتني منكم الأخبار الأكيدة عن الوابور الذي سيعد لسفري من تريستا، أسافر بلا إبطاء، وأخبركم بالتلغراف عن ساعة السفر، وأنني على يقين أن الأعمال تستمر سائرة على أحسن محور بهمة عطوفتكم ورفقائكم ريثما أصل إليكم.
كان هذا التلغراف رجع الصدى لآخر مثله نعى توفيقا العادل إلى عباس البار، فرددت ألسن الكهول قول الشاعر القديم:
هناء محا ذاك العزاء المقدما
فما عبس المحزون حتى تبسما
ثغور ابتسام في ثغور مدامع
شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما
وكررت ألسن الفتيان قول الشاعر الجديد، شاعر الأميرين:
بين ماضي الأسى وآتي الهناء
قام عذر النعاة والبشراء
نبأ معذر نفى بعضه بع
ضا فكان السفيه في الأنباء
حتى إذا ازدحمت الجموع وتأهبت عابدين للترحاب بالأمير الفتى، ألهم جني القريض ذاك الشاعر الجديد إلهامه فقال:
إن خيلا حملن سيزوستريس ال
عصر أولى الجياد بالخيلاء
فردت الشبيبة المصرية بقوله:
وطني قبلتي وأنت إمامي
بك فيه لوجه ربي اقتدائي
ثم خفتت الأصوات وتطلعت الأعناق، فدوت المدافع من القلعة. فإذا هي تحيات يزفها محمد علي الكبير من مرقده العالي لابنه الأمير بالنيابة عن أبنائه المصريين.
هنا اضطرت إنكلترا أن تغير سياستها التي سارت عليها بمصر من سنة 1880 إلى هذا التاريخ المتقدم ذكره، وكانت تلك السياسة قائمة على تأييد المقام الخديوي وحفظ القطر المصري من أن تمد إليه يد الطامع، وأن تصلح شئون مصر ويزداد عمرانها. وقد رأت من ود الخديوي المرحوم توفيق باشا وصدق ولائه ما ذلل لها الصعاب، فاشتركت معه واستعانت به على القيام بجلائل الأعمال. وبات العرابي ومن خدعهم في سيلان يتحسرون على مصر، ولسان حالهم يقول:
فهيهات هيهات العقيق ومن به
وهيهات خل بالعقيق نواصله
فأما السياسة البريطانية الجديدة فلم تزد في تغيرها على زيادة الانتباه لسياسة عابدين الجديدة. هنالك شرخ الشباب وخطر المقام وقلة التجربة وكثرة المطامع استدعت ذلك الانتباه ، حتى قال طيب الذكر اللورد «سالسبري» في 10 فبراير سنة 1892: «إن الحكومة الإنكليزية لا تدع مصر فتتسلط عليها دولة أخرى أو تقوم فيها الفتنة.»
ولقد قال «أرل ددلي» في خطبة خطبها في 9 فبراير سنة 1892 بعد خطبة العادلة الفاضلة الشهيرة فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمى: «أنا على ثقة أن سمو الأمير الجديد سيكون كفؤا للقيام بأعباء ملكه على توالي الأيام.»
على أن المعية المصرية أخذت تتهيأ لسياسة جديدة بما تدرجت فيه من التغيير الجديد قبل ذلك بأيام.
ففي 25 يناير سنة 1892 عزل المرحوم خليل بك ثابت التشريفاتي الثاني بالمعية، وموسى بك عصمت معاون التشريفات. وفي 27 يناير سنة 1892 صدر أمر عال بقبول استعفاء ثابت باشا وذي الفقار باشا. وقبل ذلك؛ أي في 11 يناير، أحيل على المعاش أحمد باشا الياور الخديوي الأول، وعين بدلا منه عبد الله باشا فوزي، وأحيل على المعاش أيضا علي بك ثابت قوماندان المراسلة الخديوية، وعين مكانه محمد بك توفيق (هو محمد باشا توفيق الذي توفي بعد أن نال رتبة الفريق). وفي 5 فبراير من السنة عينها أحيل على المعاش علي بك حافظ رئيس قلم الترجمة، وعين مكانه أحمد بك شفيق (هو الآن أحمد باشا شفيق).
ثم حلت النقمة بسبعة من عملة التلغراف بالمعية، فصدرت الإرادة بفصلهم جميعا من أعمالهم، وعينت إدارة السكة الحديد في القاهرة سبعة غيرهم، وذلك في 8 يونيو سنة 1892.
وكان الناس يستشعرون بتجدد في أحوال المعية كلها، كما وقع ذلك التجدد في تغيير رجالها. فباتوا يتوقعون يومه بصبر اضطراري ونظر اختياري، حتى آذن صبحه بابتسام. وإني لذاكر في هذا الفصل قبل الدخول في بيان شيء صورة التقرير الذي سيره السير أفلن بارنج «هو اللورد كرومر» إلى طيب الذكر ماركيز «سالسبوري» ليكون توطئة لما سيتلوه من الكلام.
صورة التقرير منقولا تعريبه عن مجموعة المقطم الشهير
مصر القاهرة، في 9 فبراير سنة 1892
مولاي
كانت عادتي قبل سنة 1891 أن أبعث إلى فخامتكم أو إلى أسلافكم بتقرير سنوي في مالية الحكومة المصرية. ولكني في السنة الماضية كتبت أول مرة تقريرين، أحدهما في المالية المصرية فقط ، والآخر في تقدم الإصلاح الإداري الذي تم بوجه الإجمال في القطر المصري مدة السنين اليسيرة الماضية. وقد قصدت في هذا التقرير الذي أتشرف بعرضه على فخامتكم أن أوضح، بالإيجاز، النتائج التي أدركتها مصر، سواء كانت في المالية أو في الإدارة العمومية بعد تقريري الماضي في 29 مارس سنة 1891.
المغفور له الخديوي السابق.
أهم الحوادث السياسية التي حدثت بعد كتابة تقريري الماضي في 29 مارس سنة 1891 وفاة سمو الخديوي السابق رحمه الله، وذلك في 7 يناير سنة 1892 بعد أن مرض أياما قلالا.
وقد كان رحمه الله في مقام عظيم المصاعب طول أيام اشتغاله بالسياسة؛ فإنه ارتقى سرير الخديوية في شهر أغسطس سنة 1879 وهو يومئذ ابن سبع وعشرين سنة. كانت البلاد قد أمست على شفا الدمار بسبب الإسراف والتبذير في المالية وسوء الإدارة العمومية، وكان نظام الجيش قد اختل اختلالا عظيما بسبب الحوادث التي جرت قبل تنازل إسماعيل باشا؛ فثار الجيش وتمرد بعد ارتقائه رحمه الله بزمان قصير، واقتضت الأحوال مجيء جيش أجنبي لرد النظام. ولم أكن أنا بمصر في الثورة العرابية، ولكني كثيرا ما سمعت الثقات الأكفاء يتكلمون عن تصرف الخديوي المرحوم في تلك الشدة، ويطنبون في مدحه إطنابا عظيما. ولم يزل مركزه بعد الاحتلال البريطاني محفوفا بمصاعب عظيمة، وإن كانت مختلفة عن المصاعب الأولى في نوعها؛ فإن سموه امتاز بكونه مصلحا معتدلا، وكان خبيرا بأحوال بلاده، يعلم حق العلم بأن إصلاحها يجب، بحكم الضرورة، أن يتم تدريجيا، وكان يدري جيدا أنه لا بد من استخدام عدد يسير من الأوروبيين المنتخبين مدة من الزمن، وذلك مع شدة رغبته في ترقية أبناء وطنه إلى المناصب التي يكونون فيها محل الاعتماد وتلقى عليهم العهدة والمسئولية. أما الخدمة التي خدمها الموظفون الأوروبيون في الحكومة المصرية للقطر المصري، فالناس كلهم يعترفون لهم الآن بهم، وهم أقل كرها لوجودهم عندهم، وأقل حذرا وتخوفا منهم بالنسبة إلى ما كانوا عليه قبلا.
فاقتضى في غضون ذلك أن يكون هناك شيء كثير من حسن السياسة والتمييز لإجراء معظم الإصلاح على يد الأوروبيين بلا إساءة إلى أهالي البلاد ولا مس حاساتهم. وحسن السياسة هو ما اشتهر به الخديوي المغفور له وفاق فيه، فكان من جهة يشد أزر مشيريه الأوروبيين ويؤيدهم تأييدا لولاه لما جاءت مساعيهم في تحسين أحوال البلاد بنتيجة تذكر، ومن جهة لا ينسى أن النظامات الأوروبية الشوروية والإدارية يجب إن تغير في الصورة والجوهر، وتكيف بحيث تصير صالحة لحاجات الأمم الشرقية.
وكان رحمه الله يعلم أيضا أن أعظم المخاطر التي يجب اجتنابها هي الإسراف والتبذير في المالية، والاستبداد في الحكومة؛ فلذلك جعل علم الزمان الماضي نصب عينيه، فكان في معيشته العمومية أول من يكره غيره الإسراف والتبذير ويؤيد سلطة القانون، كما كان أيضا في معيشته الخصوصية التي هي حرية بأن يقتدى بها من كل الوجوه.
فلهذه الأسباب وغيرها مما تيسر سرده يحق لأبناء مصر ولكل الذين يهتمون بأمورها أن يندبوا فقيد مصر الذي عاجلته منيته فاخترمته قبل أوانها؛ لا سيما وأنها وافته حينما زالت المصاعب التي خصت بخديويته في بداءتها، وابتدأ يجني ثمار جده الدائم الشديد وجهده الثابت الجهيد لتحسين أحوال مصر في السنين اليسيرة الماضية.
وزد على ذلك أيضا أنه منذ سنة أو سنتين، زاد نصيبه الخصوصي في تولي الأمور وإداراتها بنفسه، فتوفر الخير والفائدة لبلاده، وكانت الثقة به آخذة في الازدياد والتعاظم في نفوس الموظفين والوطنيين والأوروبيين الذين مازجوه، وفي نفوس الأهالي عموما، وكانوا يزيدون كل يوم اعتبارا لصدقه واستقامته وصحة حكمه وحسن تمييزه. والحق يقال إن الناس على اختلاف طبقاتهم حزنوا حزنا حقيقيا على وفاته في شبابه.
وأضيف على ما تقدم أن سموه طالما شكر وأثنى في حديثه معي على ما فعلته حكومة جلالة الملكة لإنقاذ بلاده من الفوضى في أيام الفتنة العرابية. وقد كان سموه طول أيام حكمه على غاية الصداقة والمودة مع حكومة جلالة الملكة ومع الإنكليز الموظفين في الحكومة المصرية، وكان يعلم حق العلم أن الغاية الوحيدة من السياسة الإنكليزية في الديار المصرية إنما هي خير المصريين ورفاهتهم؛ وعلى ذلك كان يجري في معاملاته معهم ومع سواهم.
ومما يزيدني رغبة في إيفاء سموه حقه بهذه الشهادة هو أنه نظرا إلى صعوبة مركزه أخطأ كثيرون حقيقة تصرفه، ولم يصيبوا في فهم البواعث التي كانت تبعثه على أفعاله، وإذا قلت ذلك فإني أقوله عن ثقة بعد تقادم عهد العلاقة الشديدة التي كانت بيني وبين سموه.
ولما توفي إلى رحمة ربه خلفه بكره سمو البرنس عباس باشا حلمي على عرش الخديوية عملا بنص الفرمان الشاهاني الصادر في 8 يونيو سنة 1873. أما الفرمان الناطق بتولية سموه فلم يأت من الآستانة حتى الآن، ولكن جلالة السلطان بادر بعد وفاة الخديوي السابق فاعترف له بالخلافة الشرعية على الخديوية ... إلخ، ويتلو هذا الكلام ثناء على مقام الإمارة الجديدة، ولولا طول التقرير لذكرته برمته في هذا الفصل.
ويستدل من هذا وما يتلوه، أن السياسة البريطانية كانت إلى عام 1892 سياسة ود وصفاء. قام العرابيون على أمير البلاد عصيانا وطغيانا، ووقفت الحكومة العثمانية وقفة الغريب لا تدري أي طريق يجب عليها أن تسلكه. وقد عرضت عليها إنكلترا إرسال جنودها العثمانية إرهابا للعاصين وعقابا، ووعدتها أن تحرس لها جنودها بدوارعها؛ فصدرت الإرادة السلطانية بإرسال عدد كاف من الجنود العثمانية التي كانت إذ ذاك بجزيرة كريد، إلا أن المرحوم الشيخ أسعد وكيل الفراشة وشى إلى السلطان بأن الأسرة الخديوية اتحدت مع الإنكليز على إعلان الاستقلال المصري والنداء باسم الخلافة لتوفيق باشا؛ فصدرت إرادة سلطانية ثانية نسخت الأولى، وبقي الجنود في كريد كما كانوا. وكتب الشيخ أسعد إلى العرابي وأعوانه يحضهم على الثبات ويعدهم بجعل الإمارة المصرية في نصابهم، إذا هم تمكنوا من طرد هذه الأسرة من مصر. فلما يئس الإنكليز من انتباه الحكومة العثمانية وارعواء المتمردين كلموا الثغر الإسكندري بألسنة المدافع وهبطوا مصر إن شاء الله آمنين.
فلما كانت الإمارة الجديدة التي ظهرت في عام 1892، وسبق منها ما سبق من التغيير الدال على تغير القلوب وجب على الإنكليز الانتباه.
ولما سقطت الوزارة الفهمية الأولى وحلت محلها الوزارة الرياضية حسب المخلصون لمقام الإمارة أن قد تم لهم ما يريدون ، وأن الزمان رجع إلى شيمة الوفاء وتاب عن الغدر. ولكن لم تلبث هذه الوزارة أن أشارت على الإمارة برأي كله خطل، فكان انتقاد الإمارة على الأعمال الجندية بما لا يوافق المجاملات السياسية مغضبا للقواد الإنكليز الذي يدربون الجيش المصري ويصلحونه. فاستعفى السردار كتشنر باشا ومن هم تحت أمره من الضباط واضطرت الإمارة إلى الاعتذار خطا وشفاها. وكانت الإمارة استدعت رئيس الوزارة الرياضية بالتلغراف سائلة إياه رأيه، فأشار عليها بالاعتذار وقفل راجعا من ساعته.
ولم تكتف الإمارة المصرية بهذا القدر من إعلان العداء للمحتلين وإظهار الإخلاص لجماعة من أهل البطالة والعرافين، فاتخذت بدار الإمبراطورية العثمانية من تعتمد عليهم وتحمل الهدايا إليهم. ومن هؤلاء عزت العابد وعبد الله النديم والمرحوم جمال الدين الأفغاني، ولا إخال أن في أكثر الفضلاء من المشتغلين بمثل هذه الأشياء من يكون نسي سفر الإمارة إلى الآستانة، متقدمة جماعة من أهل الشبيبة المصرية، معتمدة على آراء من ذكرت من رجالها، وقضية المضبطة التي قامت لها القيامة إذ ذاك معروفة، وما أريد من هذا كله إلا تجديد الصلة بين التابع والمتبوع في الظاهر، وبث الفتن في الباطن.
ثم ظهر مصطفى كامل وراح ينتصر بالمسيو دلونكل أحد أعضاء مجلس الأمة الفرنساوي وناظر المستعمرات في فرنسا في أواخر سنة 1894 تقريبا، وكان هذا الوزير ووزير الخارجية إذ ذاك المسيو هانوتو من أضداد الاستعمار الإنكليزي، ولم تكن فرنسا اقتنعت بنصيبها من البلاد المغربية بدل البلاد المصرية، فرحب الوزيران بالشاب المصري واستخدماه في آرابهما، فكان لهما أشد من البنان طوعا وأكبر من الظل انقيادا، فخلق مصطفى كامل من العدم وخلقت السياسة البريطانية الجديدة معه. ولما بدت على تلك السياسة التي كانت آية في الولاء والسلم آثار الاشمئزاز، بلغ الخوف من القلوب مبلغه، حتى لقد اضطر جماعة من أولي الحماسة إلى إنكار المضبطة متقدمة الذكر، وكانوا يريدون الاحتجاج بها على الاحتلال عند القصر السلطاني.
فرأى كبار الساسة في إنكلترا بذل النصح أولا والإرهاب ثانيا، فكلم اللورد كرومر مقام الإمارة مرارا ناصحا غير مخادع؛ فلم يجد ذلك نفعا ولم ينتبه أحد إلى ما في هذه السياسة العوجاء من الخطأ العظيم، ثم تبدلت وزارتان، إحداهما لم تدم أكثر من الأربع والعشرين ساعة، ورجعت الوزارة الفهمية في حكمتها وسداد رأيها، فعاشت تعاني الشدائد وتجاهد في الإخلاص للبلاد جهادا. غير أنها لم تفز كل الفوز، إذ كانت الحيل التي يتدبرها جماعة خافية عنها، ولو خيرت لاختارت طريق الإصلاح مع الوقار.
وإني لأعجب من قوم حببوا إلى الإمارة الاستمرار على سياسة العداوة للمحتلين، وأذكر جيدا أني لاقيت بعض وجهائهم (والأمانة تقضي بستر اسمه في هذا الكتاب)، فقال: أتدري ما يراد بالمحكمة المخصوصة؟ قلت: وما أدراني ذلك. قال: هي ضربة على الإمارة، ولو بقي عبد الله نديم بمصر إلى اليوم لما أقدم هؤلاء على أمر كهذا. قلت له إقدامهم على طرده من مصر دليل على احتقارهم له ولشيعته، وتركته لا يحير جوابا. ومثل هؤلاء أسسوا الإحن في قلوب المصريين، ولقنوهم أقوال السوء، وغشوا الإمارة وآلوا بها إلى ما لا أحب بيانه في هذه الفصول.
على أن المحتلين أصروا في طلب العفو عن العرابيين من الإمارة، وما زالوا بها حتى أجابتهم إليه. وقد أرادوا أن يعرفوا الأمة أنهم قوم لا تحمل صدورهم دخلا وأنهم لا يستثمرون أحقادا. ولا أظن أن رجلا يشفق على بنيه إشفاق اللورد كرومر على المصريين؛ فهو أبو حريتهم ومصدر إنصافهم ومورد سعدهم، إلا أنه كان يخدم من لا يحبونه.
المرحوم عبد الله النديم وأستاذه
لا أذكر هنا ترجمة الرجل لكيلا أخرج عن الصدد، فليلتمسها من يطلبها في مظانها. وأنا ذاكر له ما أعرف من أحواله ومقاصده، مبين بعض ما تيسر من تقلبات الأيام معه؛ فقد كان له أشياع يأتمرون بأمره ويسيرون تحت علمه.
إن عبد الله النديم انتحل لنفسه السيادة وجاراه إلى تسميته باسمها جماعة من محبيه، ولكن اتصل بي ممن حضر مجالسه وسمع حديثه وألم ببعض أموره أنه لم يكن في طباعه ما يشبه طباع السادة. وما كان إلا رجلا من الرجال، ذكي القلب، شديد العارضة، ذرب اللسان، سريع الخاطر، حاضر البديهة، ظريف المحاضرة، حلو الشمائل. وكان كذلك جريئا على من يخافه، كثير الوقيعة بمن يعاديه، محاسدا أهل الفضل ممن هو دونهم، سهل الغضب، صعب الرضاء، مدمن الهجاء، دائم السخط؛ فمن صاحبه على حذر منه فاز بوده، ومن وثق به ضاع وضاعت ثقته معه. قرض الشعر فلم يملك له ناصية ولا فاز منه بسهم، ورام الزجل فوفر منه حظه وحلا في فمه نشيده، فكان يرتجله ارتجالا ويسابق أهله فلا يشقون له غبارا.
هذا عبد الله النديم صاحب «الطائف» و«التنكيت والتبكيت» من قبل، وصاحب «الأستاذ» من بعد. اختفى بعد ثورة العرابيين، وكان حارثهم ابن حلزة أو عمرهم بن كلثوم. رغا فتجمعوا، وعقر فتفرقوا، ثم آوته قرى الريف، فبات كأبي زيد السروجي يحترف الحرف ويتنقل في الأزياء والأشكال، فيوما هو واعظ ويوما هو ماجن ويوما هو عالم ويوما هو خليع. وما زال كذلك يطوف في البلاد حتى تعرفه بعضهم فوشى به إلى الحكومة، فجيء به إلى نظارة الداخلية، عليه غبرة ترهقها قترة، فأظهر الذلة والاستكانة ووعد بالتوبة والإنابة. فزين بعض شيعته لمقام الإمارة المصرية أن تعفو عنه بعد ذلك فعفت، فبدأ بعدئذ في نشر «الأستاذ». وبيان النديم مشهور ومألوف تفهمه العامة وتبتذله الخاصة، ولو مسح على كلامه بشيء من جزالة اللفظ وسمو المعنى، وأمعن النظر في غلطاته فاجتنبها؛ لصح أن يعد من كبار الكتاب. فقد شهدت له ببعض الذوق السليم وأعجبني ترسله، وقرأت له في «الأستاذ» مقالة عنوانها «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا» فعلمت أن البيان سجية في الرجل، وكتابه المسمى «كان ويكون» يجوز أن يقال فيه إنه ابن قريحة وقادة.
ومن المعلوم عند أهل الدهاء أن حزب العرابي وإن تمزق شمله بعد نكبة صاحبه بقي مختبئا في مكامن خوفه اختباء الأفاعي في جحورها؛ وكذلك الفزع يستولي على أهل الدعوة فيلجم أفواههم ويكبهم على أذقانهم. فلما عاد النديم وأعاد لهم نغماته تطربوا وعرتهم هزة أفلتوا بها من مرابطهم، فقال فصدقوا ودعا فأجابوا، وما زال في غلوائه وهم في غوايتهم، يدعو إلى الفتنة ويحض على الثورة، والإمارة تحبوه ما يقوم أوده ويطلق لسانه حتى آل أمره إلى الطرد، فترك مصر مأسوفا عليه من أشياعه، مغضوبا عليه من العقلاء.
وقد أخطأ اللورد كرومر. وقد يخطئ عظماء الساسة، فطلب من الإمارة أن تكلمه في الخروج، فكان كلام الإمارة له كلاما يدل على قصر في النظر وخطل في الرأي وضعف في الإرادة ومجاملة حيث يجب العدل. وظن اللورد كرومر أن عبد الله النديم إذا دام على نشر «أستاذه» حدثت ثورة في البلاد، فأراد الاقتصاد في المكاره والاجتناب للفتن. ولو كنت أنا في مقام اللورد لتركته يقول حتى ينفد ما عنده، فإن للباطل جولة ثم يضمحل، وليس بمصر قوم يقدمون على الثورة ولو كانت مداعبة، وإن قوما ثاروا أو أثيروا ومعهم خمسمائة ألف مقاتل لم يصبروا في ميادين الحرب إلا ساعات معدودة لأشد من النعائم إجفالا وأسرع في الهزيمة من الظباء عدوا، فلا يقومون إلا إذا مد السماط وصفت الصحون.
مضى النديم، رحمه الله تعالى، واستخلف بعده آراء مشى فيها على إثره أشياعه، وقد جرى لي معه شأن ليس هذا محل ذكره، ولربما جاء الكلام عليه في سياق الحديث مما يلي الفصل الحاضر، وإنما أحدث بيننا الخلاف أنه كان عدوا للعثمانيين؛ وهو من قدماء من يقولون «مصر للمصريين»، ونحن نقول مصر للعثمانيين. ويظهر من أمور كثيرة أن مقام الإمارة المصرية وثق بالنديم ثقة لا يتخللها الريب، فكان يحسبه قادرا على كل شيء، ومن أجل هذا قال أكثر الأمراء من الأسرة الحاكمة في مصر: إن مقام الإمارة يقرب منه النديم؛ لأنه عدو أسرته وجنسه. وبهذه السياسة المضحكة آل الأمر إلى الاعتماد على مصطفى كامل. وقد كان كامل ممن يرددون نغمات النديم، وإنما ميز المقلد عن المجتهد إلمامه باللغة الفرنساوية واستطاعته بيان آرائه للغربيين، ولم يفز النديم بمثل ذلك.
وقد أخبرني من لا يتهم بكذب أن مقام الإمارة المصرية اتخذ النديم وسيطا بينه وبين يلديز في أمر المصاهرة، وسيأتي ذكرها، وكاد يفلح في سفارته لولا أشياء دسها عليه خصم من أخصامه بالآستانة، وبذا بطلت الثقة أو كادت.
حزب تركيا الفتاة
ملك من الملوك، شديد البطش، قاسي الفؤاد، دائم الحقد، جريء في غضبه، خائف في حيلته، مطلق اليدين على أمة تتوجع ولا تدري مكان وجعها، يبعث بأمره إلى رجل من رجاله فيجرده من ماله ونشبه، ويسلبه عزه وسلطانه، ويخرجه من بين أهله وجيرته ويسجنه صاغرا. كل ذلك لنصح نصح به، أو قول صدق فيه، أو حق عرف حبه له، أو ظلم أبى أن يعين عليه. ثم يفرق أهله ويشرد أولاده، ويقفل باب داره، ويختم عليها رجال الشرطة بالشمع الأحمر، ويمسي الرجل وذووه خبرا من الأخبار! هذا هو الاستبداد.
دولة عظيمة، جم ثراؤها، رغد عيش أبنائها، يتقلبون في النعم، ثغورهم باسمة، وألحاظهم غير زائغة، يتسابقون ولكن إلى المجد، يتنافسون إلا أن تنافسهم في الفضل، ربوعهم آهلة وخيراتهم عميمة، لا يخافون مسيطرا إلا كتابا هو القانون، ولا يتقون معاديا إلا الأجل المحتوم، أيديهم مطلقة في عمل ما يفيد، مغلولة عن عمل السوء، تخفض الملوك رءوسها أمام إراداتهم، وتنصاع الحكومات إلى إشاراتهم، لا يعرفون الحزن إلا وصفا، ولا يجهلون من السرور طمعا ولا شكلا! هذه هي الحرية.
الاستبداد الذي اشتكاه العثمانيون هو أكبر مما جاءت به هذه السطور، والحرية التي كانوا يقنعون بنيلها أقل بكثير مما مثلته في الكلمات المتقدمة. نعم كانت الأمة تريد شيئا ولا تدري ما هو، كانت تشكو ولا تعلم ما يشكيها، بل كانت لا تطمع أن تعلمه. فلما حل ميقات الخلاص انتفضت، فتساقطت من عليها نبال الظلم، ووقفت مستبسلة لا ترجو إلا الله، ولا تريد إلا الوطن، حتى إذا ذاقت وصال الحرية واستمتعت بجمالها وشبابها علمت أنها كانت تئن من أجل ذاك، ودرت أن هذا ما لا بد منه لحياة الأمم.
يحسب أكثر الناس أن أبناء تركيا الفتاة محدثون. كلا ثم كلا. هذا فريق عريق مطلبه مترق بترقي الأجيال. وأول من هاجر من الأراضي العثمانية ناقما هو الأمير «جم» الذي يسميه الأجانب «زيزيم»؛ وهو ابن محمد الثاني من ملوك آل عثمان. ولد في سنة 1459، وهاجر مغلوبا من أخيه بايزيد الثاني في سنة 1482، وراح إلى أوروبا تضيفه السجون وتتقاذفه أيدي الملوك، حتى قضى في أسر البابا «إينوسان» الثامن في سنة 1495 مسموما. على أن هجرة «جم» لم تكن من أجل إصلاح، ولكنها كانت النموذج الأول.
إلا أن الأمة العثمانية، وإن انتابتها النوائب وتعددت فيها آفات الاضمحلال، أسعدها الله مرارا بقوم تداركوها وانتشلوها من وهدتها. وإذا كان «الصقولي» الشهير مجددا بناء هذه الدولة؛ فإن «محمدا الكوبريلي» أنالها في سنة 1661 من الثراء والجاه ما لم يفز بمثله معاصره «ريشليو». وقد شاء الله أن يسير فيها على إثره، بل أن يفوته حفيده «مصطفى الكوبريلي» الشهير الوطني الذي لمع نجمه بعد سنة 1691. وما هؤلاء إلا رجال تركيا الفتاة. فعلوا ولم يقولوا؛ أصلحوا لأنهم أرادوا؛ ولم يطلبوا الإصلاح لأنهم قدروا على فعله.
أما مذهب التجديد الحق، وقلب الإدارة العثمانية القديمة إلى إدارة عثمانية جديدة على منوال الإدارات في الممالك المتمدنة؛ فأمر لم يكد يخطر على بال أحد من قدماء العثمانيين قبل سليم الثالث؛ فإنه أول سلطان بل أول عثماني ألهم هذا الرأي؛ رأي القلب من القديم إلى الجديد. ولي الملك في سنة 1789 بعد عمه عبد الحميد الأول، فرآه مضعضع الأركان بادي الضعف، ففطن لوجوب الإصلاح، وأوشك يشرع في إنجازه، لولا أن تعجلته الصروف بما لم يكن في الحسبان. فدخل الجيش النمساوي بلغراد والجيش الروسي بندر إسماعيل، ودارت رحى الحرب حتى اضطر أن يرضى بهدنة «ياس» سنة 1792، ودخل بونابارت مصر واحتل الفرنساويون بر الشام، فاستعان على طردهم بإنكلترا، واستخلص مصر من غاصبها في سنة 1802. وقد ثار الوهابيون في أرض الحجاز، وثار علي باشا «التبه دلنلي» في يانية، وثار الصربيون، وقامت القيامة في داخل البلاد، وانهمك هذا السلطان الجليل بإطفاء هذه الفتن حتى أتى عليها، ثم رأى أن لا بد من إبطال الجنود «اليكيجرية» وجمع جنود مرتبة مدربة على النسق الأوروبي؛ فقد أيقن أن لا خير في أولئك الجبابرة الذين ظهرت سطوتهم في النهب والقتل والاعتداء على إخوانهم من بعد ما افتضحوا وخذلوا في حرب النمسا وروسيا. فأسس ثكنات عديدة وشاد «الخمبرة خانة» والمهندسخانة، ونظم بعض الفرق من الجنود الجديدة. وبذا ثار اليكيجرية عليه وخلعوه في سنة 1807، ثم خنقوه في سنة 1808 بأمر من مصطفى الرابع الذي ولي الملك من بعده. فقضى سليم الثالث شهيد الإصلاح، وبقي عمله ناقصا إلى أن أتمه السلطان محمود وطهر البلاد حتى لم يترك فيها من اليكيجرية أحدا، واستراح واستراحت معه الأمة؛ ومن هنا صح لنا أن نعد سليمان الثالث أول مؤسس لتركيا الجديدة أو تركيا الفتاة فعلا.
ثم شاءت الأقدار أن تنال البلاد العثمانية نصيبها من التمدين على يد الرجل الحر، الشهير ببيانه ودهائه مصطفى محمد رشيد باشا. ومن عجائب النوادر أنه ولد في سنة 1802، وهي السنة التي تهادن فيها سليم الثالث مع الفرنساويين بعد إخراجه إياهم من مصر. ولم يكن لهذا الرجل في صباه من يعينه ويربيه سوى أمه، ولا من يحميه في شبابه سوى ختنه علي باشا المعروف ب «الإسبارطة لي» وذلك إلى سنة 1826. وقد عرف فضل نفسه، وعرف السلطان محمود فضله بعد سنتي 1828 و1833، وكان برتو باشا يريد أن يستخدم رشيدا في إصلاح هذا الملك، فلم يمهله الدهر إلى إنجاز إرادته، ونكب بالنفي ثم بالقتل، وبقي رشيد من بعده واهن القوى واهي الأمر. وقد اختص بمودة إنكلترا وولائها؛ ومن أجل ذلك لقي من فرنسا من العدوان ما أحبط كثيرا من مساعيه. وما لقيه من أعدائه المقربين من السلطان كان أشد وأنكى. ولولا هؤلاء السفل الذين يتزاحمون على أبواب السلاطين ويتخاصمون على المكاسب؛ لاستفادت الأمة من جد أعاظمها، ولم يذهب نصبهم في غير جدوى. كذا بلي رشيد بحساد أبطلوا أعماله وحالوا بينه وبين خير البلاد، ولم يزل يتولى زمام الصدارة ثم يبارحها من سنة 1846 إلى سنة 1857 حتى قبضه ربه إليه؛ فهو ثاني المجددين بعد سليم الثالث، وأول من هذب اللغة العثمانية واستخلصها من حوشي الكلام ومستهجنات العجمة، وفتح باب الإصلاح اللغوي لشناسي الشهير.
ولقد جاء بعده رجلان عظيمان ، أحدهما عالي باشا؛ وهو نابغة المحررات الرسمية في اللغة العثمانية، نشأ في عز رشيد المتقدم ذكره، وانتسب إليه وتفرد بحذقه ودهائه. ولي الصدارة في نحو سنة 1281 هجرية، وبقي يغادرها ويعاودها خمس مرات، وكانت ولايته الصدارة خامس مرة في سنة 1283 وبقي فيها إلى آخر عمره. ولئن فاز عالي باشا في تذليل المصاعب اليونانية التي ظهرت في سنة 1274؛ فلقد خاب في معضلة كريد التي أتت في عهد صدارته وقفل غير فائز منها بعدما قصد إليها بنفسه، وكان عالي باشا من القائلين بالترقي في المألوف والإعراض عن المستجد، وكان يؤثر رضاء السلطان على رضاء الأمة، وكان يطارد أنصار تركيا الفتاة الذين وجدوا في عصره؛ حتى لقد قامت الحرب بين كمال بك مع ضيا باشا وبينه، كلاهما عاداه، وطالت الحروب واشتدت الخصومات، فألفاه أعداؤه خشنا عند المجس وصعبا لدى المراس ما دام حيا، ومثله فؤاد باشا الشهير الذي ولي الصدارة في سنة 1278، فكان أول ما أتى به من جلائل الأعمال أن سعى في عزل مصطفى فاضل باشا من نظارة المالية، ووشى به إلى السلطان حتى أوقع بينهما العداوة والبغضاء، وحرم بذا الأمة من أبي الحرية وموجدها. ولبعض الكتاب في فؤاد هذا مبالغات لا طائل تحتها، ولم يكن الرجل إلا من أنصار الفكر القديم. وقد مات بعدما اختل عقله بالغا من العمر خمسا وخمسين سنة.
على أن أبا الحرية وصاحبها الأمير الجليل المرحوم مصطفى فاضل باشا نال الشرف وحده في مجاهدة الاستبداد، فكان هو ورشيد باشا قطبي المجد في الملك العثماني، ولكن تكاثرت عليهما الأعداء، وقلت الحيلة، وبقي للأخلاف من بعدهما أن يسيروا على إثريهما.
ولي الأمير فاضل نظارة المعارف ثم نظارة المالية، لا يتقاضى راتبا ولا يراقب كسبا، بل جاد بقناطير من الذهب ورثها من أبيه، فأهدى المعرض الأول الذي أقيم بالآستانة العلية خمسا وعشرين ألف ليرة، وأهدى السلطان مرادا الخامس خمسا وسبعين ألف ليرة، وهاجر من عاصمة الملك يؤم بلاد الغرب حتى استقر به النوى في باريس سنة 1765، وكان استصحب معه الشاعرين الكاتبين الشهيرين كمال بك وضيا باشا، فجاهد بماله ورأيه، وجاهد صاحباه بقلبيهما ويراعيهما، فهزا قصور الظلم هزا. وسار على طريقه شهيد الحرية والوطن مدحت باشا الشهير، وما زال يجاهد ويعمل حتى تمكن من خلع عبد العزيز في قصة معروفة يطول شرحها، وأجلس على سرير الملك مرادا الخامس.
فبينا يجتهد الأمير مصطفى فاضل مع صاحبيه اجتهاد أبي حنيفة وصاحبيه، إذ أتى عبد العزيز. وقد تخلص من عالي وفؤاد بموتيهما واستخلص لنفسه محمودا نديما المعروف عند العثمانيين بنديموف، وإنما سمي بذلك لأنه كان صنيعة آغناتيف، وأول من جعل السياسة الروسية رابحة السوق في المابين. فانطلق هذا الخئون في زمان صدارته يرتكب من الموبقات ما لم يسبقه إليه سواه، استغوى السلطان عبد العزيز حتى أغواه، وحارب به الحرية والأحرار، ثم طلع مدحت في سماء الصدارة، فعنت الوجوه وشخصت الأبصار.
ولا بد لي من ذكر شيء من لائحة أبي الأحرار المرحوم الأمير مصطفى فاضل قبل الكلام على مدحت وأعماله. هذه اللائحة أنفذها الأمير مصطفى فاضل إلى السلطان عبد العزيز حين مهاجرته إلى باريس، وأودعها من الحقائق والكلام الموجع ما نزل على المابين نزول الحديد المذاب. وهذه اللائحة كانت كإعلان حرب من حزب تركيا الفتاة الذي تأسس إذ ذاك على السلطان المستبد.
قال مؤسس الحرية الأمير فاضل بعد الديباجة: أصعب ما يدخل قصور الملوك هو الحق. ومن يحيطون به يخفون الحق حتى عن أنفسهم؛ لأن هؤلاء لما عاشوا في مركز الحكومة وبين لذتها حسبوا أن المشقة التي تكابدها الرعية هي من فتورها، وهم يزعمون أن وقوع الدول في الضعف هو من حوادث الكون التي لا حيلة في درئها.
لا بد من جرأة في الصدق؛ ليبصر الحق من غير وقوع في الأوهام الباطلة، ولا بد من جرأة أكثر من ذلك لبيان الحق للملك. وهذا الصدق لم يتخط عبدك أبدا، وإثباتا لذلك أرجع إلى ذاكرة جلالتك ومن كانوا سببا في نفيي إلى ديار الغربة.
نعم، لم تتهيأ لي إلى الآن خدمة ترى الآثار البادية لهذه الصداقة واستعدادي لها ؛ أي لم أتمكن من خدمة صالحة تستوجب إصلاح وطننا وإعادة الحياة إليه، ولكن أول من أماط الحجب عن وجوه الدول وعرض سيئات حكومتك وجراحاتها لذاتك الهمايونية، وجل أفكار عبدك متجهة إلى خدمة ذاتك الشاهانية. وإني؛ لإخلاصي لذاتك الهمايونية ومحبتي لوطني، لم يبق لي صبر للتفرج عن بعد على الأسواء التي أحاطت بنا ظاهرا وباطنا، وإذ كنت على ثقة من المروءة التي اتصف بها قلبك الشاهاني عددت من وظائف التابعية أن أبين هذه الأسواء مرة أخرى، غير كاتم منها واحدا؛ لنجد لنا سبيلا إلى خلاصنا في حينه.
مولاي صاحب الشوكة، إن ما يقوم به في دولتك من أعمال الفوضى رعاياك المسيحيون، هي كلها من أعمال أعدائنا في الخارج. على أن الإدارة الحاضرة أيضا لها من ذلك نصيبها الأوفر؛ لأن أعمالا لم يكن بها بأس فيما سلف من الأزمان تلوح اليوم وكأنها ظلم وجور على الرعايا من كل جنس، والأوروبيون يحسبون أن المظلومين والممتهنين والمحقرين كل التحقير في تركستان هم من الأمة المسيحية المحكومة. وليس الأمر كذلك؛ إن المسلمين - ولا تحميهم دولة من الدول الغربية - سحقوا ومحقوا أكثر من الملل غير المسلمة، المسلمون كابدوا هذه الكرب إلى الآن بما اتصفوا به من النخوة في الصبر والانتظار. أما الأوروبيون فلا يعلمون ذلك. على أن المسلمين لما كانوا من دم ذاتك الشاهانية التي بيدها زمام حكومتهم، يعدون محبتهم وطاعتهم لعرش سلطنتك من الأوامر القرآنية، ولكن ائذن لي يا مولاي صاحب الشوكة أن أقول لك: إنه لم يبق للملة الإسلامية جلد، لا على الإخلاص ولا على احتمال الكرب. إن أصوات السخط وإن عولجت بالإسكات ما عولجت، أخذت ترن في كل صوب؛ فإنزالهم إذن إلى هذه الدركة من اليأس مضر بنسلك وبهم.
إن من سيئات أصول الإدارة الحاضرة التي ربما كانت على من يخالف رضاءك الشاهاني خاصة ويخالف رضاء الوكلاء أيضا، بل من أنواع الظلم التي لو علمت به ذاتك الهمايونية لأزاحته. إن أعراض التناقص بدأت تبدو في سلالة الأتراك يوما بعد يوم، وإن البعض من عبيدك الصادقين الذين يفتخرون بأنهم من هذه السلالة العلية يرون قلة هذه الأمة فيأسفون أسفا حقا، ولئن كان السبب الأصلي لهذا خطأ الأصول العسكرية، إلا أن الأمر الذي يخيف عبدك أكثر من ذلك ليس هذا، بل الذي يخيفني جدا من أحوالنا الآتية هو - كما يرى في الملل المحكومة - ازدياد سوء الأخلاق الذي عرض لأمتنا العثمانية وتمكنه كل آن وانتشاره.
مولاي صاحب الشوكة، محا آباؤنا قبل أربعمائة سنة إمبراطورية الشرق من على وجه الأرض، وجاءوا البلدة المشهورة التي اتخذها قسطنطين مقرا لملك العالم في أبهتهم وجلالهم وسكنوها، فما كان هذا الشرف التاريخي الذي أحرزوه ناجما عن غيرة دينية أو شجاعة عسكرية، بل كانت الغيرة الدينية والشجاعة العسكرية عكسا لأشعة أخلاقهم الملية، وإنما نالوه لأنهم كانوا مطيعين قوادهم، ولكن هذه الطاعة كانت قائمة على أساس حرية اختاروها وقبلوا بها من أنفسهم، وكان قلب كل منهم وعقله حرا فيما يختار. ولا أدري أية حرية فطرية وأي شمم غريزي اجتمعا فيهم واستحدثا لهم نظاما، وجعلا أخلاقهم الحية ومشاربهم في حالة من الاطراد. هذا هو السبب، سهل لهم الظفر بدولة عظيمة قامت فيها حكومة الظلم وأضحت الذلة والمسكنة وكل المعايب الأخرى دستورا للعمل.
هذا ما تيسر نشره من لائحة الأمير الجليل مصطفى فاضل، وكنت أود تعريبها برمتها إيثارا لدرر حكمها وإقرارا بفضلها لولا ضيق المقام. ولمدحت باشا وإسماعيل كمال بك ومراد بك لوائح عديدة رفعت إلى عبد الحميد الثاني من بعد، سخر بها وبكاتبيها، وزاد إسرافا في الدماء واستمراء للظلم.
وقد كان في خلع عبد العزيز والبيعة لمراد موعظة لعبد الحميد، نبهته إلى العناية بذاته دون ملكه حين أفضت السلطنة إليه بعد أخيه مراد. رأى الشعب موغلا في ظلم الجهالة، لا يدري من نعم الحياة شيئا. وأبصر قوما من نبهاء العثمانيين يقودهم مدحت أبو الدستور، فقال أستميلهم كلهم باللين، حتى إذا خضعت رقابهم وملكت نواصيهم أعملت فيها الشفار القاطعة واقتطفت رءوسهم اقتطافا، وكان مدحت أخذ عليه عهدا بخطه ألا يحيد عن أسلوب الدستور، وألا يستبد برأيه، فرضي بذلك ساكن «يلديز» وأصدر إرادته بإنفاذ القانون الأساسي الذي كان اشترك في تحريره كمال بك وضيا باشا وحرفه سعيد باشا، وفتح مجلس الأمة في سنة 1877 إلى أن ثبت قدمه، وكان اسم مدحت يكاد يغطي على اسم السلطان، فدبت في فؤاده نيران الحسد وأكبر أن يعلوه أحد رعيته مجدا وسؤددا ويسلبه محبة الأمة، ولا يدع له من الملك إلا تاجا أذهبت تألقه الأيام وأبلت جدته العصور، فأضمر له الشر. ولكن كيف يقوى على ذلك ومعه رقيبان لا يغفلان عنه ولا تسام ذمتاهما بأغلى المهور؛ وهما كمال بك وضيا باشا، وكانا جعلا مستشاريه ومراقبيه، فدعا مدحت ذات يوم إلى قصره وقال إن وجود رقيبين عليه يخفض جانبه ويذهب بهيبته ويحقره في أعين أمته، ولعبد الحميد في مثل هذه المضايق حيل لا تخذله، ومدحت وإن عرف بسعة العقل وخلاص الطوية وكثرة التجارب؛ لم يكن من نظراء عبد الحميد في مكايده؛ فدخلت عليه الحيلة ورضي بما نوى سلطانه واستكان.
وما لبث السلطان العثماني أن استطار كمالا وضيا كلا إلى بلدة يحتكمها ظاهرا ويبيت عانيها باطنا. واستشعر مدحت بعاقبة الأمر، وكاد يقضي ندما ولات ساعة مندم. ظفر الجبار أول ظفر وهدم سدين قويين بينه وبين الاستبداد.
عالي باشا.
فما بقي على طاغية الشرق إلا أن يتخلص من مدحت إما بسلم وإما بحرب، ولا سبيل إلى أحد الأمرين. فأقام يترقب الفرص، وفي العين قذى وفي الحلق شجا. فلما كانت سنة 1877 وجعل الجنرال أغناتيف مندوب روسيا في الآستانة يقترح مطالب كلها فضول، وأبى نواب الأمة قبول تلك المطالب، طاب السلطان نفسا وتحفز للوثوب على فريسته، فأعلنت روسيا الحرب المشئومة وخرجت الدولة العثمانية مكسورة القوادم منهوكة القوى، وعقدت معاهدة «سان إستفانو»، وكان مجلس الأمة تفرق جمعه، ومدحت أسقط من مقام الصدارة وطرد من وطنه، إلا أنه بادر إلى برلين وما زال ببسمارك حتى استرضاه بعقد مؤتمر برلين بعدما أقنعه بالحجج الدامغة بأن زوال الملك العثماني يفضي إلى فقدان التعادل في أوروبا ويئول إلى حرب تهلك الحرث والنسل وتأكل كل غارب ومنسم.
هكذا هزم الجيش العثماني، وتفرق نواب الأمة؛ فمنهم من ضافته السجون، ومنهم من أدلي إلى قاع البحر أو نفي إلى الولايات البعيدة، أو هرب ومكن من الخلاص؛ فطاب الوقت لعدو الدستور والمتيم بالاستبداد، وبقي القانون الأساسي ينشر كل سنة في التقويم العثماني الرسمي «السالنامه» وفجر بميثاقه من ينتحل لنفسه اسم الخلافة لرسول الله.
ولما كان هذا السلطان مرزأ بحب النفس والجاه والمال، شديد الجبن، دائم الوسواس، قليل الثقة بأشد رجاله إخلاصا، كثير الارتياب، لا يزول من قلبه الحقد ولا يفارقه حب الانتقام، سل للأمة سيف البغي، فجندل سراتها وأذل أعزتها وجعل سافل ملكه عاليه، فألقت له الأمة الطيبة بمقاليد الأمور، وأذعنت له أيما إذعان.
ولما أصبح الأوائل من رجال تركيا الفتاة. وقد انصدع شملهم، لم يبق منهم إلا من غلب عليه الخوف فآثر السكوت على مضض أو فتنه المال فاختار النفاق؛ حتى لقد صار جماعة من علية القوم وفضلائهم من رجال القلم جواسيس ووشاة وأغدقت عليهم الهبات وفسدت الطباع، فنم الولد على أبيه، وعادى الأخ أخاه، وخان الأمين الأمين، وراجت أباطيل التعصب؛ فتزلف حملة العمائم والطيالس إلى سدرة الملك حيث يدر النوال وترتفع الأقدار.
وإنما نقم رجال تركيا الفتاة على الملوك العثمانيين جهلهم وخمولهم، وما ألفوه من البذخ والترف، وما جروا عليه من ظلم الرعية والتأله عليهم، وإنكارهم على الأمة ما تطلبه من العدالة وهي أصل الحرية والمساواة والإخاء؛ واستكبروا أن يكونوا كالملوك في البلاد المتمدينة. وأبناء الملوك عندنا لا يربون على ما يفتح أذهانهم ويهذب أخلاقهم ولا يتقنون من العلوم إلا مبادئ في أمر الصوم والزكاة والصلاة ولا ينظرون من الكتب المؤلفة إلا في كل قديم منها، مشحون بما لا يسعه العقل من «آلتي بارمق» و«أنوار العاشقين» و«علم حال»، ولا يتعلمون إلا ما لا يذكر من اللغة العثمانية في كتب مثل «التحفة الوهبية» و«بند عطار» و«كلستان» و«بوستان»، ولا يلقنون إلا بعض كل ما كان غريبا من جيده ورديئه ، ثم هم يرون كيف يعيش آباؤهم ومن هم فوقهم سنا؛ فينغمسون في الملاهي ويقضون أيامهم بين الأبكار العون من الولائد، في قصف وعزف ومعاقرة ولهو، وهم بمعزل عن أمور الملك، ولا يأذن لهم بمعاناتها أحد ممن ولي الأمر خشية ورقبة.
أما رجال الدين وهم عيال الرجال، فينبشون عن منسوخة الأحاديث وغير الصحيح منها، فلا يروون للملوك إلا ما كان حثا على طاعتهم مثل قولهم: «قلب السلطان بين أصبعي الله يقلبه كيف يشاء.» وقولهم: «الملوك ملهمون.» وقولهم: «اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.» كل ذلك يفسدون به أخلاق الملوك تقربا إلى جفانهم واستجداء لحبواتهم، فما يخرج هؤلاء إلا يدخل السائلون المادحون، ونسميهم مسامحة شعراء؛ ليمدحوا الظالم سفاك الدماء وناهب العباد، فيقولون له: «إن بين غلائلك لعدلا من الله وبين جنبيك لروح القدس. يا مجزل العطاء ومولى النعم، يا من يخصب بأمرك المحل وتجري الرياح، وتنقاد لمشيئتك الأقدار، وتحسد السماء الأرض إذ كانت موطئا لأقدامك، يا ظل الله وباني الكون، يا من عتبته فوق الأفلاك ...» إلى غير ذلك مما يستحي من ذكره ويشمئز من سماعه كل من كان في فؤاده مثقال خردلة من العقل والإنصاف. ولا يكتفي أمثال هؤلاء بما أجملنا قليله، بل يختلقون لأنفسهم ما يمكن في قلوب الملوك مكانتهم ويعليها، ويتحكمون به على الأمة وهي غافلة عنهم، فيروون مثل قولهم «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.» ويأتون بآيات من القرآن العظيم لا تصدق في أحد منهم، كقوله تعالى: «إنما يخشى الله من عباده العلماء» وفيهم من بلغت به القحة إلى أن قرأ لفظة الجلالة مضمومة والعلماء مخفوضة، ففسر الآية الكريمة بغير معناها الأصلي.
أما الحكومة العثمانية، فلم تشبه حكومة في الوجود، وما انتظم لها أمر في ماضيها ولا في حاضرها. ومثل رجالها كمثل سكان الخيام في زمان الجاهلية؛ إذا وليهم سيد عاقل واتخذ بطانة خير وحاشية عدل أنعش نفوس محكوميه، وأحيا موات آمالهم، وإذا وليهم غاشم جب منهم الغارب والسنام، وأذاقهم مضض الذل ومرارة العذاب. تجبى أموال الرعية بلا حساب، فيضيع بعضها في جيب الجابي وبعضها في جيب من هو فوقه، فلا يبقى لبيت مال الدولة إلا ما يتصدق به عليه السارق والناهب. فضالة ينفق جانب منها على طرب الملوك ولذاتهم وجانب على المقربين من الغرانقة، ويبقى الموظف الصغير صفر اليد أو تدرك آمره رحمة فينبذ إليه بما يسد به رمقه.
فإلى مثل هذا نظر رجال تركيا الفتاة وتوقعوا منه سوءا وأحبوا أن يفدوا ملكهم ووطنهم بأرواحهم.
فؤاد باشا.
وإذ كان الأوائل من رجال تركيا الفتاة فني أكثرهم، ولم يبق من شيعتهم من يعول عليه كما تقدم ذكره في هذا الفصل؛ أخذت جماعة من الناشئين الأحداث ممن تأدبوا بأدب كمال، وتعلموا من كتبه الخالدة على ممر الدهور، واستناروا بآرائه وآراء من كان معه، تنوب عنهم، فكانوا يتشاكون فيما بينهم مما يرون من سوء المصير. وقد أبغضوا السلطان لما اقترف من الآثام ولحنثه بيمينه، وكان كلما أحس السلطان بنهضة سلط أعوان نقمته فشرد دعاتها وبدد سراتها وكاد لها كيدا. ولقد بث الجواسيس وفتح أبواب السعاية والنميمة لكل خامل الذكر عاثر الجد لئيم الأصل، فمن دله من هؤلاء اللؤماء على نبيه ليذهله، وفاضل لينتقصه، وعائل يؤيم أهله، وبيت يخربه على صاحبه، أجزل عطاءه ورفع منزلته. ولقد أقصى عن دار الملك كل أريب صادق وفي، وقرب منه كل خئون ممقوت.
فلما حدثت المذابح الأرمنية التي وقعت في سنة 1894 حنق أكثر أنصار الحرية من العثمانيين، واستحوا أن يدعوها تمر بهم غير متألمين، فكان فيمن حنق على الحكومة الحميدية مراد «الطاغستاني». رفع كتابا طويلا إلى عبد الحميد أدمج له فيه وصف التهلكات المحيطة بالملك العثماني، وأبان له عن مصير الظلم. إلا أنه أحس بالشر وعرف أن عبد الحميد لا يترك جرأته بلا حساب، فخرج من الآستانة طالبا نجاته، فنزل بمصر وأصدر فيها جريدته «ميزان» التركية التي كان يصدرها بدار السلطنة قبل دخوله في خدمة الحكومة، وكان السلطان أمر إذ ذاك بتعطيلها لما نشر فيها من الرثاء لكمال بك الأعظم شهيد الأدب والوطن ، وكان لمراد منزلة كبرى في قلوب كثيرين من تلامذة المكتب الملكي؛ لأنه كان معلما لهم في التاريخ، ففازت جريدة «ميزان» من الشهرة والإرهاب بما أفزع عبد الحميد على سريره، ثم قضت الصروف على مراد بالخروج من مصر، فسافر إلى «جنيف» وأعاد إصدار ميزانه هنالك، وألف جمعية لمكافحة الدولة الظالمة، وجعل نفسه رئيسا لها. وإذا ابتلى الله العثمانيين بالحسد وحب الرئاسة في مثل تلك الأوقات نشأ الخلاف بين مراد وبين أحمد رضا. كل رأى نفسه أولى من صاحبه بأن يستقل بالأثرة ويتفرد بالسيادة، وكل رأى في مناوأة الظلم رأيا لا يشاكل رأي صاحبه. فأخذا يتراجحان ويتباريان حتى استرجع مراد إلى الآستانة بعدما ترك لاسمه دويا في أرجاء أوروبا والممالك العثمانية ملأ الأسماع وكاد يستولي على القلوب، وتفرقت من بعده جمعيته ولم تقم لها قائمة منذ ذلك.
ورأى عبد الحميد في رعيته أمارات الضجر، واستشعر من أذكياء الأمة انتباههم؛ فعمد إلى قوته يضرب بها ضعفهم، وغفله الله عن اصطناعهم بالجميل وإخضاعهم بالعدل وسياستهم بالحكمة، وزين له البغي أعوانه وقربوا منه أسبابه؛ فضاعف عدد الجواسيس واستبد على الناس فداخلهم حتى في وليماتهم ومناحاتهم، ففني صبر المتحالفين وخاف العقلاء عاقبة هذا الجور، فاجتمع فريق من الفضلاء وألفوا «جمعية الاتحاد والترقي العثمانية» في نحو سنة 1889، وجعلوا مركزها الأعظم بسلانيك، ومركزها العظيم بمناستر، ونهض أنور ونيازي يتقدمان صفوف المجاهدين في سبيل الحق ويستصرخان بكل صادق الود ثابت العزم من كبار الأمة وأهل نجدتها حتى كان هذا الانقلاب.
نعم وفت الجمعية وأبطالها بعهدهم، فوفى الله بعهده. وإنما قرب لهم الأسباب وسهل لهم إدراك الطلبة إفراط عبد الحميد في الظلم ومبالغته في الإساءة. وقد آنس ذلك قبولا في طبيعة الرعية للخير واستعدادا للمجد واستحقاقا للفخر، فقويت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة.
وإذا لم يشأ رجال الجمعية المقدسة وبطل الحرية نيازي الكبير أن يقولوا شيئا في تاريخ الجمعية وكيفية تألفها، واعتذروا بأن هذه الأسرار لا يمكن إفشاؤها، فأولى برجال التدوين إمساك القلم عن الخوض في هذا العباب تفاديا من الشطط واجتنابا للوم الأصدقاء.
مذابح شهداء الحرية من إخواننا الأرمن
مثل هذا الفصل يحتاج إلى أنامل «روبنس» مصور اللوح الشهير الذي سماه «مذبحة الأبرار»؛ فإن أنامل الشاعر المجيد والكاتب المبدع لا تفي بغرض ولا تأتي بفائدة في وصفه. الكلام على مذابح، والمذابح فيها جثث، والجثث معصفرة بالدماء، والدماء تجري على بطاح، والبطاح بها حجارة صلدة وهشيم يابس ونهر دافق، ومشهد العين غير خيال الفكر، والفكر يستمد من العين؛ فهي ينبوع العلم، والفكر مجلي المعاني؛ فليكن الكلام على قدر الإمكان لا على قدر الواجب.
البلاد العثمانية تعمرها أمم شتى، متباينة الأجناس ومختلفة المذاهب، جمعت بينهم القوة وفرقهم العدوان؛ فهم إخوة يسكنون دارا واحدة ويستظلون بسماء واحدة، وينهلون ويعلون من مياه متجانسة منذ سبعة أعصر. ولكنهم مع ذلك متنافرون، يسقيهم وطنهم بكل صاف نمير، ويسقونه بالدم المسفوك. أهم على مقربة من الموضع الذي يزعم أهل القصص أن قابيل قتل هابيل فيه، فعدتهم الحال بمرض أحد الآباء، قتل الأخ لأخيه؟ أم اختاروا سبيل الجناية حبا في الجناية؟
السلف أخطأ الحكمة ولم يحسن السياسة. كذا قال التاريخ، ولا بد من تصديق التاريخ. هم أحبوا الأنبياء وشاءوا أن يكونوا كالأنبياء ألسنا لا قلوبا، وحالا لا ذاتا. فما اختاروا من قصة موسى إلا عبادة العجل، ولا من تاريخ عيسى إلا الصلب، ولا من وقائع العدناني إلا حال أبي لهب. تشاغلهم بأنفسهم لم يدعهم يرون غيرهم، وصيحاتهم منعتهم عن سماع أصوات الأمم. حتى إذا تضاءلت شمس الشرق ولم يكف شعاعها لإنارة ربوعها، وطلعت بآفاق الغرب شموس كثيرة، وقفوا وقفة المجهود ينظرون إلى بعض. فإذا بهم دامية أظفارهم، دامية أنيابهم، دامية لهواتهم، بادية أجسامهم، تعلوها أطمار بالية رثة، حسبوها بقايا ثياب، فإذا هي قطع أكفان!
قال قائلهم: هلموا نطلب علما. صدق القائل، لله در القائل! ما أكبر عقل القائل! وما هي أن أنشئت المكاتب وفتحت المدارس وألفت الكتب على النمط الجديد. وقالوا: ما لنا وللأديان، تلك أمور بين الخالق وخلقه. القلوب ألواح محفوظة لا يقرأ ما فيها إلا الله ، وما نحن إلا إخوة؛ وحدة حال ووحدة مصير لا يتفقان. فغم ذلك الصفاء أهل الدين أولي التعصب، من يعمرون المساجد ليستغنوا بها عن تكاليف المنازل فيتخذونها مساكن، ويشيدون الزوايا والتكايا ليصيبوا فيها مآكلهم وأقواتهم، فهبوا يغالبون المخلوق باسم الخالق. وأتت الدولة الحميدية وشيد صرحها الممرد «يلديز»، فوجدوا منه أكنافا موطأة للمزاحمين، وآذانا سميعة للواشين. قالوا: النبي يأمر. قال: وأنا خليفته أفعل. قالوا: الدين يفرض. قال: وأنا حاميه أقوم بما فرض. وماذا فعل لا در دره؟ جعل بيوت الحكومة كالمساجد ترن على سلالمها أصوات المؤذنين، وصير المكاتب كالمدارس الدينية تقام فيها الصلوات وتقرأ كتب الدين، ويزرع التعصب في قلوب الشباب فتنمو معه نفوسهم وترسخ عليه طبائعهم، فكان المفطر منهم في رمضان يزج في السجن، والقاتل مطلق السراح يمشي في الأرض مختالا. - ألا تخشى يا ولي الدين أن تغضب المتدينين بهذا الكلام؟ - كلا. - ألا تجده سابق أوانه؟ - كلا. - أتجرؤ بعدها أن تسكن البلاد العثمانية؟ - نعم، لأكثر فيها من مثل هذا الكلام، ولست وحيدا في إنصافي، وأهل الإنصاف عددهم كثير. - إذن، فأنت جدير بالرثاء. - ربما رثيتني اليوم وحسدتني غدا. إذا سكت الكاتب الحر اثني عشر عاما، ثم لقي الحرية ينطق بمثل ما ترى. فلا تقل سكت دهرا ثم نطق كفرا، ولكن قل:
وذو الشجو القديم وإن تسلى
محب حين يلقى العاشقينا
أرى حولي أحرار العثمانيين فأغنيهم بغنائنا، ولكل امرئ غناء يطربه، ثم الحروف التي توصف بها الدماء تكون حمرا، فلنرجع إلى ما كنا بصدده.
تعصب أكثر العلماء وجهل الرعية وظلم الحكومة أتى البلاد بثلاث مذابح مختلفة: أولاها مذبحة الشام، وقعت في سنة 1860، أضرم جاحمها وأجزل وقودها أحد الباشاوات بأمر من الباب العالي؛ فطلبت إنكلترا وفرنسا من الحكومة العثمانية تحقيق الأمر وعقاب من تثبت عليه جريمة التحريض، فذهبت إلى الشام هيئة محققة اشترت رضاء الباشا وسارت على ما أمرتها به الحكومة. غير أن إنكلترا وفرنسا لم تقنعا بذلك وأصرتا على طلب التحقيق، فتبين ذنب الباشا، فطلبت هاتان الحكومتان إعدامه ليكون عبرة لغيره، وكان سفير إنكلترا في الآستانة إذ ذاك «أرل رسل» ومعتمدها في بر الشام «اللورد دوفرين». فزعمت الحكومة العثمانية أن قتل الباشا قد يستثير المسلمين ويدفعهم إلى قتل المسيحيين عامة انتقاما وتشفيا، وربما تعدى ذلك إلى رعايا الدولتين، فكان جوابهما الإصرار بعقاب الباشا، فأعدمته الحكومة التي أوعزت إليه بالفتنة ولم تحدث هنالك أشياء مما ادعت تخوفها منها.
البطريرك نرسيس.
ثم وقعت مذبحة البلغاريين في سنة 1877. وقد حمى الباب العالي زعماء الفتنة وذهبت مساعي «اللورد بكنسفيلد» غير مجدية نفعا.
ثم جاءت المذابح الأرمنية، ولا بد من إعادة النظر قليلا في أسبابها لكي يتسنى لنا استخراج نتائجها.
أكثر الناس لا يعلمون ما حمل بعض إخواننا الأكراد على مباغضة إخواننا الأرمن؛ فهم يلتمسون الأسباب ولا يجدونها، وإن من تلك الأسباب التي خفيت عنهم أن قبائل من الأكراد كانت فيما مضى من الزمان أرمنية، ثم آثرت التدين بدين الإسلام إبقاء على حريتها وتوكيدا لنيل رغائبها. فبزت قديمها ورفلت في جديدها، إلا إنها ظلت محقرة عند أخواتها مرزأة في غلوائها؛ فمن هذه القبائل المتغيرة قبيلة «ماميقون» الكردية، كانت من إمارة «ماميقونيان» الأرمنية، وقبيلة «بكران» الكردية، كانت من إمارة «باقرادونيق» الأرمنية، وقبيلة «ريشقون» الكردية كانت من إمارة «روشتونيق» الأرمنية. والمتأمل في توافق الأسماء لا يرى مناصا من التسليم بصحة ما رواه التاريخ.
ولم تزل الأضغان تتزايد بين هذه القبائل وأخواتها الأرمنية؛ حتى أدت إلى التقاضي إلى السلاح. وإذ لم يكن عند الأكراد ما عندهم اليوم من السلاح الجيد والعدة الوافية، كانوا يهزمون أعداءهم تارة وينهزمون أمامهم تارة أخرى، ولكن عقلاء الأرمن أوجسوا من دوام هذه المعارك شرا، فأحبوا أن يحلوا الوفاق محل الشقاق، وأن يستعيضوا بالاتحاد عن الخلاف، وأول من انتبه منهم لهذا الرأي الصواب هو البطريرك الشهير «نرسيس». وبين سنة 1878 وسنة 1879 قام وفد من بيكوات الأكراد يريد القدوم إلى الآستانة للمذاكرة مع البطريرك في هذا الباب، فلما أحس بذلك عبد الحميد أكمن للبيكوات من اغتالهم في طريقهم وأحل بهم الردى، وهكذا خابت آمال «نرسيس» الحكيم.
ثم عن لعبد الحميد أن يتخذ سذاجة الأكراد وعداوتهم للأرمن ذريعة للإيقاع بالأرمن، وليجعل للرعية ما يصرفها عن الاشتغال بأعماله، ويستزيد لنفسه قوة يركن إليها عند الفزع الأكبر؛ فاستحدث الآلايات «الحميدية» من أخلاط وزمر؛ فمنها الكردية وهي الأكثر، ومنها العربية، ومنها الجركسية، وجهزهم بالسلاح الجديد وأمدهم بالميرة وكل ما يحتاجون إليه جما وافرا، وحين فاز الأكراد بهذه الأهبات وباتوا مدججين سلاحا والأرمن معازيل، رجحت كفة الأكراد في الضراب وخفت كفة الأرمن، وعليهم دارت الدائرة. هذا ما يتعلق بالأرمن مع الأكراد.
ولكن يجب أيضا النظر إلى المذابح الأرمنية من جهة أخرى.
الأرمن كابدوا من ظلم المسلمين والحكومة المستبدة، لا سيما في طريق بر الأناضولي، ما لا تصبر عليه القلوب، وحملوا من الضيم ما تكل عنه المتون. ولكنهم أبناء الشرق، وأبناء الشرق نفوسهم أبية، فنشطوا إلى العمل في جد متواصل طلبا لما يستخلصهم من إذلال إخوانهم إياهم، فما وجدوا سبيلا هو أقرب إلى المراد وأنفذ إلى النجاة من طلب العلم والصناعة، والاستفادة من معجزات العصر الجديد؛ فكان منهم المهاجرون إلى أقاصي البلاد، والمتزاحمون على أبواب المكاتب، والمتنافسون في تشييد مكاتب أرمنية. وما برحوا يتراكضون إلى الاستنارة بأنوار المعرفة حتى توافوا إلى مشرق نورها ومطلع نيراتها، وهم كلما زادوا توغلا في العلم زادوا معرفة بأساليب الحياة، فغيروا ما رأوه غير صالح من قديم العادة واستبقوا ما كان صالحا، فما مضت أعوام قلائل على نهضتهم هذه إلا برزوا على مواطنيهم من المسلمين. أما المسلمون فلم يريدوا النزوع عن ميراث السلف إلا قليلهم، وعدوا الاستفادة من علوم الغرب واقتفاءه في ترقيه شائنا لكرامة الدين. وعند التفاضل ظهر فرق الأمتين وأحرز الأرمن قصب السبق، فكان هذا داعيا إلى حسد المسلمين لهم وامتعاضهم منهم. والأرمن عرفوا حد ما عليهم للحكومة وما لهم عليها؛ فرضوا أن يهبوها حقها وأن يطالبوها بحقهم، وكبر هذا على الحكومة لأنها كانت لا تحب النصفة، وكبر على المسلمين لأنهم لم يكونوا يعلمون أن للأرمن حقا على الحكومة، وهم يعلمون أن الحق لا يكون إلا للمسلمين دون سواهم. نعم، كان في جماعات المسلمين رجال رزقوا العلم وأشربوا حب الوطن اعترفوا لإخوانهم المسيحيين بالحق، وأرادوا إنصافهم، وودوا مشاركتهم في مطالبهم. غير أن قلة العدد خذلتهم في مناوأة الحكومة والسلطان الظالم، وظلوا في أعين الجهلاء بمنزلة الأعداء.
وكانت بمدينة «وان» شركة اسمها «مياتسيال أنكرجون»، ومعناها الشركة المتحدة. أسست لاستحضار ما تحتاجه المدارس الأرمنية من كتب ودفاتر وأقلام وقراطيس وغيرها من الأدوات المكتبية، وجعلت لهذه الشركة شعب في سائر الولايات العثمانية، ونصب لها مديرا رجل من جلة الفضلاء اسمه «مغرديج بورتقاليان أفندي». ولما رأى تخلي المسلمين عما يرمي إليه بنو جنسه، واستحكم اليأس من فؤاده وأفئدة من هم على شاكلته من نجباء الأرمن، أسس جمعية خفية في «وان» سماها «جمعية آرمناقان»، وذلك في سنة 1880، وجعل أساس مقصدها حماية الحقوق الأرمنية من الضياع. وفي سنة 1885 قبض عليه وعلى أحد رفاقه في سعيه؛ وهو البطريرك السابق المرحوم «خريميان» أفندي وأخذا إلى الآستانة، وكان وشى بهما البعض إلى السلطان. ولما لم يجدوا ما يرجح التهمة عليهما أخلوا سبيلهما، فسافر «بورتقاليان» أفندي إلى «مرسيليا»، وأصدر فيها جريدة باللغة الأرمنية سماها «أرمينيا». وهي لا تزال تنتشر إلى اليوم، وانتقل مركز الجمعية أيضا إلى «مرسيليا» وهو كائن هنالك إلى يومنا هذا.
وفي سنة 1885 حين كان البطريرك السابق «أورمانيان» مطرانا بأرضروم، أحست الحكومة المنقلبة أن قد أسست هنالك جمعية أرمنية اسمها «خنجاق»، فأخذت إلى الآستانة أناسا كثيرين لتستطلع منهم سر الجمعية وما يتعلق بوجودها، فلم تقف منها على عين ولا أثر، وسافر «أورمانيان» إلى الآستانة، وبقيت الحكومة بين الشك واليقين في التصديق بوجودها. وإنما أسست هذه الجمعية بباريس، وولي رئاستها رجل من رعايا الدولة الروسية اسمه «نظريك»، ثم جعل فرع تابع لها في أرضروم.
وقد ألفت بعد هذه جمعية «طروشا غيان» أو «طاشناقساغان» في «جنيف». وإذ كان أكثر أعضائها من الأرمن التابعين لروسيا، لم تكن محلا لثقة إخواننا من الأرمن العثمانيين. وهذه الجمعية تميل أيضا إلى مذهب الاشتراكية. وهناك جمعيات أخرى لا أعلم من أحوالها ما أوثره بالذكر، فلا أرى مندوحة للخوض في أعمالها.
الحرج يعلم الحيلة، وتوالي العقاب يستولد البغضاء ولو كان عدلا، فكيف به إذا كان ظلما، ودوام الإساءة يحول دون استعادة الصفاء. هذه ثلاث قضايا ضرورية فرغ العقلاء من التخالف فيها، لما حقت على إخواننا المظلومين عملت جمعياتهم بفحواها. وفي سنة 1890 قامت جمعية «خنجاق» بواقعة «قوم قبو»، وهي براعة الاستهلال في النهضة الأرمنية. وفي سنة 1896 قامت جمعية «طاشناقساغان» بواقعة البنك العثماني، كلتا الواقعتين وقعت في عاصمة الملك العثماني لتكون بمشهد من أعين سفراء الدول وبحضرة عبد الحميد. أرادت الجمعيتان الأرمنيتان أن تعلما حكومة الاستبداد أن الشعب الأرمني نفض عنه تراب الذل، وأنه يأبى الاستمرار في طاعة كلها تكلف، فجاءوا لسائر إخوانهم العثمانيين بمثال من النخوة كان يجب أن يحذوا على منواله. غير أنه لم يقر عينا بذلك سوى فريق من رجال الحرية أضجرهم الظلم. أما الباقون من المتعصبين والجهلاء ومن أسعدهم الاستبداد وعلت أقدارهم في دولته، فقد أغضبهم ذلك وأقبلوا بجموعهم يقتلون الأرمن، فكثرت المذابح وحمي الوطيس بين العنصرين المسلم والأرمني بعد أن كان الأمر بين الأرمن والحكومة، وذهب كثير منهم غدرا إذ لم يكونوا من جمعية من الجمعيات الثائرة ولا ممن شاركوهما في أمر من الأمور.
فلما وقع القتال بين هذين العنصرين العثمانيين زادا كلاهما بعدا عن صاحبه، ونبتت بينهما الإحن، فعلم الأرمن أن لن يكون مقام رغد في البلاد العثمانية، وعدوا أنفسهم غرباء فيها، فكان منهم المطالب بإحياء دولة «أرمينيا» ليعيشوا فيها منفردين، وكان منهم من يؤثر الصبر ليرى ما سيكون من عاقبة البغي، وكان منهم من يحب الهجرة إلى أمريكا وأوروبا تاركا وراءه وطنه وإخوانه، يأسا لا هجرانا، وفرارا لا تحولا؛ فأدى ذلك وما تلاه من تعمم القتل والسبي فيمن هم بالأناضولي من الأرمن إلى توسط الدول الأوروبية، وطلبها من الحكومة المستبدة كف أذاها عن المسيحيين وإنفاذ ما تعهدت به للدول من الإصلاحات، فلم يجد كل ذلك نفعا. وجملة ما احتال به عبد الحميد على الحكومات المتمدينة حتى خدعها تنصيبه لبعض ولاة الأناضولي معاونين من مسيحيين ومسلمين، وفتحه باب الهجرة لمن يريد «ترك التابعية» من الأرمن؛ وهو أمر يراد به ظاهره دون حقيقته، فكم رأيت جماعة من الأرمن يطرقون أبواب الحكومة طالبين الإذن بالسفر إلى أمريكا، فيطالبهم رجال الحكومة بما يكون عليهم من جزية ومال. فإذا فعلوا ذلك كلفوهم إثبات براءتهم مما عساه يكون صدر عليهم من حكم وأعيق عن الإنفاذ أو لم يكن انتهى من المحاكم. فإذا كان هذا طالبوهم بضمان على ألا يعودوا ثانية إلى الأقطار العثمانية. فإذا جاءوا بذاك الضمان أمروهم ألا يدعوا وراءهم مالا ولا عقارا ولا أهل قرابة، وأن يدعوا في دائرة البوليس صورهم الفطوغرافية ليعرفوهم بها إذا عادوا. وبعد هذا العذاب الطويل يسمعون من وقاحة المأمورين وشتمهم وانتهارهم ما تندى له الجباه، ثم لا سبيل إلى إنجاز شيء مما سبق ذكره إلا إذا جاء المهاجرون بالدراهم وبذروا في الحباء تبذيرا.
ولربما خرجوا مسافرين ومعهم نساؤهم وبناتهم، فتتلاحق بهم خيل اللصوص ويحيط بهم جماعة من السفل، فيصيبهم من مكروههم ما يعيقهم عن الخلاص. وويل لهم إن رجعوا يومئذ مستصرخين بعدل الحكومة أو طالبين خلاص من سبي منهم، إذن تقوم عليهم القيامة ويعظم الخطب. وقد صدق أحد شعراء الحماسة إذ يقول:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذن لقام بنصري معشر خشن
عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
طاروا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته
سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا
شدوا الإغارة فرسانا وركبانا
من الوقائع ما تروع القارئ وتستطير لبه، فكيف بكاتبها وهو يتكتم منها ما لا يقوى على تسطيره طورا رحمة وطورا حياء. والأنباء الآتية من الأقطار البعيدة يحسبها البعض مبالغا فيها ويحسبها البعض مختزلة، ولكن الذين يظنون بها المبالغة أكثر؛ فمن سمع في سائر البلاد ما نزل بالأرمن من المصائب قال هذه من مكر الأرمن ولم يشأ تصديقها، ثم هناك أناس يقولون لنا إن الأرمن أعداء لنا ويزعمون أنهم هم المعتدون دائما، وأن المسيحيين لا يخلصون للمسلمين ودا ولا يصفون لهم سريرة، وينعتونهم لنا بالكافرين وأهل النار وغير ذلك من كلام الجهل والجنون، وبسطاؤنا يصدقون هذه الباطلات حسن ظن منهم بقائليها، ولبعدهم عن مواضع العلم وفهم الحقائق. فإذا ذكرت لهم تلك الفظائع لم تهز منهم موضعا من قلب، ومنتهى إنصافهم أن يقولوا إن الأرمن جنوا على أنفسهم.
هذا كلام قد يعذر عليه الجاهلون من السوقة والمحرومون من نعمة العقل، ولكن ما عذر جماعة من المؤلفين وأصحاب الصحف ورجال الرأي إذا قالوا ذلك. أما والله وددت أن أطاوع القلم في جماحه، ولكن أخاف مأثور القول.
المذابح الأرمنية التي كانت بالآستانة وبغيرها من أقطار الأناضولي ذكرت في حينها، فمنها ما جاء مفصلا في الجرائد وطيرها البرق في روايات مختلفة، ومنها ما كتب في رسائل خاصة بها. والتزام الإيجاز في هذا الكتاب يمنع استعادة ذكرها. غير أن هناك أشياء قد لا تكون ذكرت، بل ربما كانت خافية عن كثيرين ممن يستقصون مثل هذه الوقائع. أذكرها لتكون أمثلة لما كابده إخواننا المظلومون. وهذه النوادر أرويها عمن شهدها ممن عرفتهم بسيواس.
لما اتصل بأهل سيواس ما جرى للأرمن افترقوا فريقين، فأما فريق المسلمين فأخذ يتأهب لمحاربة الأرمن إذا بدر منهم اعتداء عليهم، وأما فريق الأرمن فذهب خاصتهم إلى جماعة من الأجانب يسألونهم إن كان هناك ما يخيفهم، فذهب هؤلاء الأجانب إلى خليل رشيد باشا وإلى سيواس إذ ذاك، واستطلعوه جلية الأمر، فقال لهم إن الأمن معتدل في نصابه، وأن لا خوف من وقوع أمر جلل، وأنه ساهر لتنام الرعية. ثم شاع بين المسلمين أن الأرمن على أهبة دائمة، وزعم جماعة من الرعاع أن أرمنيين أبصرا أربع سيدات مسلمات في الطريق فاعترضاهن وقالا لهن غدا نقتل رجالكن ونتخذ بعضكن ساقيات وبعضكن ولائد، فزاد ذلك من حقد المسلمين، والأرمن لا يعلمون شيئا مما يقال عنهم من هذا القبيل. غير أنهم باتوا يتوجسون خيفة حين بدت على المسلمين أمارات الغضب وألفتوا عنهم الوجوه. وما مضى بعد ذا طويل زمن حتى قام المسلمون وأعملوا في الأرمن القتل والفتك، ودخلوا بيوت التجارة، وأكثرها في بناء عظيم اسمه «طاش خان»، أبوابه من الحديد، فما زالوا يضربون تلك الأبواب بالمعاول ويرمونها بالرصاص حتى انفتحت لهم. فما تركوا هنالك شيئا. وتلاحق الجنود والوالي يصيح بدار الحكومة ليكفوا وهم لا يكفون، وبعد قتال دام يومين كفت المذابح، ومما تقشعر منه الأبدان أن بعض أولئك الوحوش كانوا يذبحون من عثروا عليه من الأرمن بالمناشير. وقد رأى قوماندان الرديف الفريق محمد خلوصي باشا الذي توفي منذ عامين أناسا من المعتدين أحاطوا بأرمني وكان يصنع له أحذيته وله قبله دين لم يوفه، فاستجار الأرمني بالقوماندان، وقال: يا مولاي، عبدك يقتلونه ولا ذنب له، مرهم بحق مروءتك أن يهبوا حياتي لأولادي الصغار، قال القوماندان: أنت كافر وأولادك كفرة، وأشار إلى من أحاطوا بذلك المسكين أن يجهزوا عليه ففعلوا. وقد انتهز السفل هذه الفرصة فاختطفوا البنات ونهبوا المال نهبا لما، فترى اليوم أكثر تجار الأرمن وقد أصبحوا لا يملكون قوت يومهم، وأثرى بمالهم المنهوب غيرهم من اللصوص، فأمسوا من التجار.
ولو كان المسلمون أنصفوا إخوانهم المسيحيين، بل أنصفوا أنفسهم واتحدوا في القيام يدا واحدة على الحكومة المستبدة؛ لنالوا حريتهم منذ أعوام مديدة، ولاستبقوا محبة إخوانهم.
نعم، غضب الأرمن من المسلمين عامة، ومنا معشر الترك خاصة، ولا يبعد عن العقل أن يكونوا اتفقوا بينهم أن يتخذونا أعداء. فإذا صح ذلك فهو أمر حادث ولكنهم لم يكونوا كذلك؛ فيا طالما بكوا لبكائنا وشاركونا في ضرائنا، ومنعناهم أن يشاركونا في سرائنا، وكانوا يظنون أننا شركاؤهم في التشكي من استبداد المستبدين، فرأونا صاغرين لا نأتي حراكا ولا ننطق بلوم، ثم لم نبت أن خضبنا الأكف بدماء نحن أحوج الناس إلى حقنها .
كثير من الأرمن تركوا جمعياتهم وشاركوا أحرارنا وقالوا: نحن عثمانيون فلتكن رغائبنا عثمانية، وخالفوا بعض القائلين من أبناء جلدتهم بإحياء «أرمينيا الجديدة»، وقالوا هذا محال ولو كان لما أفاد.
فمن فضلائهم الذين فقد منهم العثمانين دعائم مجد رفيع وسيف نجدة ماضي الغرارين الشاعر الأديب الفاضل المرحوم «ناربي لوسينيان». مات في سنة 1894 مسموما. هذا النابغة هو من رجال الرهبانية، وله آثار تفتخر بها الأوطان، كان صادق النية حر النزعة، عثمانيا جسما وروحا، ولكن استكثره عبد الحميد على العثمانيين كما استكثر غيره، فسقاه الردى وأسكت يراعا نحن أحوج العباد إلى صريره.
كفى كفى، ولنختم هذه الصحيفة السوداء، وليكفنا منها أن ستشهد بها علينا الأيام، فإذا قرأها العثماني الصادق فليتخذها ذكرى وعبرة، وإذا قرأها غير العثماني فليثق أن هناك ناقمين كثيرين مثل كاتبها. وإذا التقى حر بيتيم من أيتام هذه المذابح وقال أنا ابن من ذبح بالمنشار، أو رأى فتاة في أسرة لابسة سوادا كنجم الثريا يبدو في الظلام وقالت أنا بنت من طعن في فؤاده، أو قرب مجلسه من سيدة أيم وكان محبا لزوجها وقال لها أين صديقي فلان فاغرورقت عيناها وقالت له قتله ابن عمك فلان؛ فليطأطئ الرأس وليقل: لألبسن معكم ثياب الحداد، ولأحمين عرضكم، ولأكونن لكم أخا ومعينا ما دمت حيا. وإذا وقف على قبر قفر الجوانب في بلقع يغلي هجيره وتسفي الرياح عليه المور، فليقل: عليك السلام أيها الأخ الشهيد الأرمني المظلوم، نعم ما طل حيث كنت ولا وتر لك دم؛ فلإن جار عليك المتعصبون فلينصفن من بعدك الأحرار.
جرائد العثمانيين الأحرار بمصر وغيرها
عشق الحرية أضنى أفئدة العثمانيين، وفي الغرب ناس كادوا يسأمون وصالها، والعشق يصقل الفكر ويبري اللسان ويسير الأقلام، وعلى قدر امتناع الشيء تكون الصبوة إليه «أعز شيء على الإنسان ما منعا.» ولا غرو أن ابن ورقاء على فننه، والريح في هزيزها، والماء في خريره، والشجر في حفيفه، نعم والرعد في زجله، والليث في زئيره، كل ينشد الحرية، فكيف ابن حواء وفيه من كل مخلوق خلق مودع في باطنه باد في ظاهره.
عرفنا «هوميروس» في «إلياذته»، وسمعنا «دانتي» يندب «بياتري»، وفهمنا «شكسبير» من «روميو وجوليت»، وقرأنا «غوطا» في «فوست»، وسمعنا «هوغو» وهو يجهر ب «الأصوات الباطنية»، وتلونا ما جاء به «نامق كمال» في «سلستره»، وأنشدنا مع «شوقي» قوله:
صوني جمالك عنا إننا بشر
من التراب وهذا الحسن روحاني
فإذا كل يغني الحرية وكل يناديها، وهل في العشق ما يستدر عبرة أو يصعد زفرة لولا امتناع الحرية؟!
ما زالت الحرية - منذ كانت - تطرق باب كل فؤاد فيفتح لها، حتى طرقت باب فؤاد عبد الحميد أكثر من ستين عاما فلم تقدر على فتحه.
الحرية طافت بلاد الله، فكلما دخلت أرضا أعتقت المعتقلين فيها، فلما طرقت تركيا اعتقلت في سجنها ب «يلديز».
الاستبداد استنجد «فالاريس» و«نيرون» و«الحجاج» و«جنكيز» و«هلاكو» و«تيمورلنك» على الحرية، فهزمتهم معه وقهرته معهم. ولكنه حين استنجد عبد الحميد دام نصره عليها ثلاثا وثلاثين سنة.
لو لم يكن على وجه الأرض أمم أخذوا الحرية من ملوكهم قسرا، وإن هذه الأمم تشارك عبد الحميد في استنشاق الهواء لكان غير فان، فأما وقد نالت رعيته الحرية وأنفه راغم فلن تطول أيامه.
كريهان يؤذيهما طيبان: الجعل يؤذيه ريح الورد، وعبد الحميد يؤذيه نسيم الحرية.
ولقد حكم عبد الحميد الأجساد ولم يحكم القلوب، اشترى طاعة بعضها برهبة بطشه والرغبة في دنانيره وأبى عليه بعض القلوب؛ وبذا هان عليها سلطانه وحقر فيها ذهبه، فخرج قوم عليه بأقلامهم حين دخلوا حصونا لا تنالهم فيها أسيافه، فقالوا فيه ما يخلد مع اسمه خلود الدهر، وفتحوا عيون الغافلين إلى عيوبه، وما سكنت العاصفة التي عصفت بأنفاس «كمال» ورجال عهده إلا هاجت غيرها. ولا حاجة بنا إلى ذكر كل صادح وباغم فيتسع لنا الميدان، وحسب القارئ الكريم أن يلم بالأهم فيكفيه طلب المهم.
الشاعر الحر الشهير المرحوم ناربي لوسينيان.
كاتبان من كتاب العهد الجديد من عهدي الحرية عليهما السلام، أحدهما جاور ربه، وا أسفاه! وهو خليل غانم، وثانيهما لا يزال حيا ، والحمد لله، وهو محمد قدري.
فأما غانم فهو أبو المقالات الرنانة في جريدة مشورت الفرنساوية وغيرها، جاهد جهاد لا وان ولا متخاذل، واشتدت وطأته على الظالمين فطلبوه بكل حيلة وحاربوه بكل شر، فما فتنوا له لبا ولا زعزعوا له جأشا.
وأما محمد قدري فقد كان يكتب في «المقطم» جريدة العثمانيين، ويذيل مقالاته بإمضاء «محمد قدري العثماني»، ثم كتب في جريدة «قانون أساسي» التركية، وجريدة «القانون الأساسي» العربية؛ وهو صاحب الكتاب التركي المشهور الذي سماه «استنصاف». حاول عبد الحميد إرجاعه إلى الآستانة أو إسكاته فأعياه ذلك. وقد قال بطل الحرية «نيازي» في «خواطره» التي نقلها إلى العربية مؤلف هذا الكتاب. إن كتاب «استنصاف» وغيره من كتب الأحرار فتحت قلبه وشددت عزيمته لخلاص وطنه.
ولقد ظهرت جرائد كثيرة في أوروبا ومصر وأمريكا، واتحدت كلها في الحملة على حكومة الاستبداد والمطالبة بما للأمة من حق مهضوم. وأسس هذه الجرائد واشتغل بتحبيرها وإفاضة الحكم فيها جماعة من نجباء العثمانيين وأولي الرأي والمنزلة الرفيعة بين فضلائهم؛ فمنها التي دامت على ولائها للحق وواصلت جهادها في سبيل الحرية، غير مستضعفة في كفاح ولا محجمة في مزدحم، ومنها التي انقطعت عنها وسائل البقاء فسكتت وتركت صيحاتها ترن في آذان الدهور.
وإني لذاكر في هذا الفصل كل جريدة لم أنس مبلغ جهادها، وتارك ما لا أذكر وقائعها، وأرجو ألا يحسب ذلك مني سوى زلة زللتها غير مختار. وهذه الجرائد هي:
مشورت (التركية والفرنساوية):
صدرتا في باريس ثم صدرتا في جنيف، أنشأهما أحمد رضا رئيس مجلس المبعوثان الآن.
المشير (العربية):
أنشأها بالقاهرة واختص بتحريرها صاحبها صديقي القديم سليم سركيس.
عثمانلي:
أنشأها في «جنيف» صديقي الدكتور عبد الله جودت، واشترك في تحريرها مع المرحوم إسحاق سكوتي ونوري أحمد وطونه لي حلمي.
لسان العرب:
كان يحررها المرحوم الشيخ نجيب الحداد.
بنتي وجريدة قوقوماو:
وهما لجماعة من الأحرار لم يذكروا أسماءهم، وكان عبد الحميد لا يغضبه شيء مثل كلمة «بنتي»، ومعناها: الأبله الذليل.
النبراس:
كان يحررها الفاضل الجاويش.
بصير الشرق:
أنشأها رشيد بك، وكان يحررها مع الدكتور إسماعيل إبراهيم، وكانت تصدر باللغتين التركية والعربية.
ييلديرم:
ومعناه الصاعقة، كان صاحبها إبراهيم أدهم.
جورجونه:
كان يحررها الشاعر التركي الشهير أشرف.
سنجق:
كان أصدرها أحمد صائب، ثم استبدل اسمها فصيره «شوراي امت».
ميزان:
كان يصدرها مراد الطاغستاني بالتركية بمصر، ثم أصدرها في «جنيف».
أمل:
كان يكتبها المرحوم حسن فهمي.
اجتهاد:
أصدرها صديقي الدكتور عبد الله جودت بعد أن ترك جريدته الأولى «عثمانلي» وجاء مصر، وكان تقبل أن يكتب فيها بكل لغة، وهي منتشرة إلى الآن.
ترك:
كان يكتب فيها الدكتوران نجم الدين عارف المناسترلي وشرف الدين مغمومي.
قانون أساسي (التركية)، والقانون الأساسي (العربية):
كان يكتب فيهما الخواجة محمد قدري العثماني ومؤلف هذا الكتاب.
الإنذار:
كان يحررها يوسف حمدي يكن شقيق المؤلف أيضا.
وقد ظهرت بأوروبا وأمريكا جرائد جليلة القدر عظيمة الخطر، مثل: «كشف النقاب» التي كان ينشرها بباريس الأمير أمين أرسلان، و«كوكب أمريكا» و«الأيام» وكلتاهما صدرت بأمريكا.
كل هذه الجرائد طالبت حكومة الاستبداد بحرية الأمة وشدت في ذم ظلم عبد الحميد ودعته إلى الإنصاف، وخاطبت العثمانيين في الانتباه إلى ما هم صائرون إليه؛ فطاردها الظالم مطاردة من لا يعرف السأم، وأكثر من اتخاذ الجواسيس، وجعل المراقبة الشديدة على البريد، وبالغ في منع هذه الجرائد من الدخول في البلاد العثمانية لكيلا يقرأها أفراد الأمة فيتنبهوا إلى أعماله، ويكونوا مع الأحرار يدا واحدة عليه، ثم حاول أن يستغوي من يكتبون الصحف وأن يستجلبهم بالمال، وتمكن من نيل مأربه مع البعض منهم ولم ينجح مع الآخرين.
أما «مشورت» فكانت من حزب الإصلاح الديني، ومثلها «ميزان»؛ فإن صاحبيهما ما استعانا على عبد الحميد إلا من الوجهة الدينية، و«القانون الأساسي» كذلك، وسبب اتخاذها هذه الخطة أنه لم يمكن مخاطبة العثمانيين إلا باسم الدين، وا أسفاه.
أما «عثمانلي» و«اجتهاد» و«المشير»، فكانت جرائد من الطبقة الأولى. وقد سبقت لي مناظرات مع صاحب «المشير» قبل دخولي في فريق المطالبين بالحرية، أظهر فيها من قوة الحجة وحسن البيان وشدة النفس ما خيل لكثير من الناس أننا أعداء، وما كانوا يعرفون أننا نقضي أكثر أوقاتنا معا على أحسن ما يكون من الإخاء. وسليم سركيس رجل يندر مثله في رجال الصحافة، وكانت جريدته محبوبة عند أولي الذوق السليم مطلوبة من ذوي الأدب والظرف؛ لأن صاحب «المشير» كان يتخير الفصول ويجيد الكلام، فما ظهر عدد من جريدته إلا رأيت فيه كل ما يطيب للنفس ويخف على السمع. وإنه لشهم جريء، إذا جاءه وعيد زاد إقداما، وإن سيم في ذمته أعرض عن النفائس إعراض الكريم؛ فهو من أنصار الحرية الذين يفتخر بهم الوطن. هو صحافي منذ أكثر من عشرين سنة، يشهد له «لسان الحال» و«المشير» و«المؤيد» و«مجلة سركيس». ولقد عانى من مطاردة الحكومة المستبدة ما لا يصبر عليه سواه، بعثت وراءه من يغتاله قتلا فسلمه الله من شره، وطلبته من الحكومة المصرية فكانت قلامة ظفره أمنع من عقاب الجو. وقد سجن مرتين فلم يزده السجن إلا رفعة في عيون الفضلاء.
والسجن إن لم تغشه لدنيئة
سوآء نعم المنزل المتودد
وأما «ميزان»؛ فإن صاحبها مرادا رجل له علم بالتاريخ؛ وهو معدود من الطبقة الثانية من الكتاب. جاء مصر وللناس فيه ثقة وللحكومة العثمانية منه وجل، فكانت «ميزان» كالصاعقة المنقضة على رأس عبد الحميد، منعته الكرى وكادت تفلح فيما تسعى إليه. دعا عبد الحميد ناظم باشا ناظر الضبطية إذ ذاك إلى قصر «يلديز» وقال له: ما أكبر ذنبك وما أصغر همتك! أمرتك أن تطارد كل من يقرأ «ميزان»، والتقارير تأتيني بأنها تجيء إلى فلان وإلى فلان، أكذا طاعتك لسلطانك؟! قال ناظم: يشهد الله والناس بما أجد في مطاردة «المفسدين»، ولكني لا أدري ما أصنع، وكلما أمرت رجال الشرطة بالانتباه وإدمان النظر في ذلك؛ وجدت نسخ «ميزان» في جيوبهم. وخرج ناظم وهو كاسف البال ضائع الرشد.
غير أن مرادا كان معجبا بنفسه متكبرا دائم الازدهاء، لا يدين للحق فلم يحسن البداية ولا النهاية.
وممن الجرائد التي عوضت ما خسرته الأمة بفشل «مشورت » التركية وخيبة صاحبتها «ميزان»؛ جريدة «عثمانلي» سابقة الذكر. وقد كان تأسيسها في سنة 1897، ثم تلتها اجتهاد ولغتها تركية، وكانت تقبل كل مقالة تأتيها بأية لغة كانت. وصديقي الدكتور عبد الله جودت هو مؤسس «جمعية الاتحاد والترقي العثمانية» وسكرتيرها، وإنه لمن الفضلاء الذي يزينون عقد الحرية، ما شئت من أدب رائع وخلق مطبوع ونفس صريحة وعقل راجح وضمير لم يتطرقه الرياء ولم تهتد إليه الأهواء، حر متناه في حريته، يقول الحق ويعلم أنه ضائره، فلا يبالي عاقبة ولا يخشى حسابا.
و«القانون الأساسي» كان له شأن يذكر، ففيه سيرت هذا القلم مجاهدا، وقلت لعبد الحميد: «فلأهزن به أركان قصرك هزا»، فلم تدعني الأيام أصدق وعدي وأقوم بوعيدي، وهزت «يلديز» وأمالت عماده قنابل الأحرار. فإذا كان دوي رعودها رجع ما صرت به الأقلام، فالحمد لله ولا فخر، وإن كانت منبعثة من أفئدة أمة أجملت الصبر حتى تنفست عن البارود، فالفخر أعظم.
وجريدة «الإنذار» التي كان يكتبها شقيقي يوسف حمدي يكن كان لها دور وله شأن؛ فكم بالقصور من أعداده، جمعت من «العتبة الخضراء» ورفعت إلى العتبة العلياء. وأذكر هنا منها هذه الأبيات التي قالها صاحب الإنذار في العدد الرابع الصادر في سنة 1317، وفيها إشارة لا تخفى على اللبيب، قال:
إذا صحا النائم من نومه
وهم ذو الهمة في يومه
عادت لنا أيامنا مثل ما
نرجو وعاش المرء في غنمه
يا قوم هبوا هذه رقدة
طالت وذو الإثم على إثمه
حكم رشاد الدين مقصودنا
وإنما الإقبال في حكمه
فليحتكم هذا وظلامنا
أراحنا الرحمن من ظلمه
كانت هذه الصحف حجة على الغرب تدحض ما يتهم به الشرق من خمول واستسلام للظلم. كان الشعب العثماني يئن فتكذبه ملوك أوروبا وساستها الذين اشترى قلوبهم عبد الحميد بمال الرعية، فيخطبون على منابر التمدين بما يعظمون به الظالم في عيون من لا يعرفون ظلمه، وهذه الجرائد تقول لأولئك العظماء: أنتم غير صادقين، وتبين لهم وجوه ظلاماتهم، مستندة في دعواها على الظاهر من الأعمال دون الخفي، ثم كان لأصحاب الصحف العثمانية الحرة أحبة وأعوان يحتالون في إدخال تلك الصحف في الأقطار العثمانية بوسائل دقت عن أفهام المراقبين والجواسيس، وكانوا يطلعون عليها كل من يأمنون جانبه ولا يخشون منه وشاية من خلطائهم، فتحدث أقوالها الحقة في نفوسهم ما لا يحدث الغرام، وتلعب بألبابهم كما تلعب بها بنت الكرم؛ وبذا بات الأكثرون من عقلاء العثمانيين متحدين قلوبا وآمالا، متواطئين بلسان الحال على احتقار العصر الحميدي.
ويشهد الله وكل محب للحق أن إخواننا العرب؛ لا سيما مسيحيي السوريين منهم، كانوا أشد الناس ضجرا وأعظمهم أنفة من احتمال الذل؛ فهم الذين تاقت نفوسهم إلى الفضيلة العصرية من وراء حجب الاستبداد، فأقبلوا على مصر وعلموا إخوانهم المصريين إنشاء الصحف واتخاذ المطابع واحتراف الأدب العصري واصطفاء الحرية. هذا مع أنهم محرومون في بلادهم من التمتع بمثل هذا النعيم. غير أن حب المعالي في أكثر النفوس طبع لا تطبع؛ وإلا فمن علم الطير ترجيعه، ومن وهب البلبل حب الورد؟ ولما طال عليهم احتمال الضيم هجروا أوطانهم وضربوا في أقطار الأرض يجوبون قاصيها ودانيها، يحلون من منازلها آهلها وخاليها، أعوانهم عزائمهم وبضاعتهم عقولهم، فحيث عثرت جدودنا انتهضت جدودهم. فكان «المشير» وهو جريدة أسبوعية صاحبها غني علما فقير كيسا، منتشرا كجريدة يومية، فتذهب نسخه البرازيل وفيلادلفيا وسائر أقطار أمريكا وأوروبا وآسيا، والبلاد العثمانية كان يدخلها في غفوة من أعين الرقباء، وكان يراسله بعض الأعالي من رجال القلم ورجال الرأي ممن لا أصرح بأسمائهم إذ لم أستأذنهم في ذلك، وما لبث المشير أن أعاش صاحبه وعاش بفضل صاحبه.
وجرائدنا التركية لم تدم كثيرا، إذ لم يكن في مصر والبلاد الخارجية أناس كثيرون يقرءون اللغة التركية، والذين يقرءونها أو يفهمونها من الأتراك الذين استوطنوا مصر من الأزمان السالفة لا يهمهم من السلطان إلا كونه سلطانا، وهم يعتقدون أن لا حق للأمة في مشاركة الملوك في أعمالهم، وأن الرعية عبيد للملوك، أمروا بالطاعة لهم وإن ظلموا، والشكر وإن أساءوا. يتحدثون بذلك في مجامعهم، وبأيديهم السبح، وأمامهم النارجيلات (الشيشات)، يمتصونها حتى تستطلع حبابها . يؤتى لهم بالشاي منقوعا وبين يديهم جماعات من المشايخ منهم المدعون لعلوم الكيمياء القديمة، ومنهم أولياء الله الناطقون بالغيب «بالسرياني»، ومنهم المتصوفون من أتباع الرفاعي والكيلاني ومحيي الدين العربي والبكطاشي والمولوي، ومنهم أئمة الشرع ورواة الأحاديث والمفسرون. كل هؤلاء يكفرون الأحرار ويدعون لعبد الحميد، ويمدون أنامل أكلت أطرافها حبات السبح، يجرون بها دراهم أعوانهم عدا بطلا وجشعا ولؤما، كانوا يؤثرون حب عبد الحميد على حب العادل الحميد.
فمن من هؤلاء القدماء الصلحاء الأتقياء يشك في صدق الحاج السيد الشيخ زيد مثلا وهو لابس عمامة كأنها كيوان، وفي يده عصا كأنها عمود الصبح، وعليه جبة خضراء كأنها ملاءة الربيع، وفي رجله خفان أصفران كأنهما سفينتان من النحاس الأصفر، وفي عنقه سبحة هي أطول من ألفية ابن مالك، ثم يصدق ما جاء به سليم سركيس وهو رجل مسيحي ما قرأ على شيخ، أو يؤمن بما يقول به غيره من أحرار الترك والعرب، وهم متعلمون في أوروبا أو البلاد العثمانية على معلمين أتوا بهم من أوروبا. والمسلمون من إخواننا المصريين كانوا ولا يزال أكثرهم متمسكين بتلك الآراء القديمة. فأحر بأولئك العثمانيين المقيمين وراء جبال الأناضولي ألا يعرفوا من الدنيا إلا مقدار ما يرون في بلادهم. كل هذه المصائب كانت عوائق دون نجح المجاهدين من الأحرار.
قلت إن صحف المجاهدين كانت تنتهي إلى من يقرءونها من أنصارهم في غفلة من عيون الرقباء، ولم يكن ذلك دائما؛ فكثيرا ما وقعت بأيدي قوم من الكاشحين تسابقوا بها إلى قصر الملك وأسلموها إلى حملة العرش، وأسلموا من جاءت من أجله إلى الزبانية الموكلين بتعذيب العباد، فألقي منهم في البحر من ألقي وسجن من سجن ونفي من نفي، بل ربما تذرع قوم إلى نيل أمانيهم باتهام آخرين زورا وبطلا وادعائهم بأنهم يراسلون أصحاب «الأوراق المضرة» أي الصحف الحرة، فباءوا بالهبات والوسامات والرتب. وقد فتح هذا الترغيب باب التنافس في مصر بين من يحبون الرتب والألقاب من سراتها وأغنيائها، فتزاحموا بالمناكب عن ابتياع ما ينشره الأحرار من الجرائد والكتب ، يجعلونها في صناديق عليها أقفال من الحديد، يرسلونها إلى القصر الحميدي أو يستصحبونها معهم ليتقدموا بها إلى معبودهم الفاني. ورأى ذلك بعض السفل فتشبهوا بالأحرار في إنشاء الصحف وتأليف الكتب. ولقد كان أكثرهم لا يعرف الكتابة، فيستكتب غيره بأجر يسميه له، وعشاق الرتب يجزلون لهم العطاء ويكتبون إلى القصر السلطاني أنهم ساعون في إسكات المفسدين أعداء «أمير المؤمنين»، وأنهم استرضوا فلانا وسيرتضون فلانا.
ومما ينبغي أن يدمج في كتابي هذا ليتلوه أخلافنا على ممر الدهور أن دار الإمارة المصرية كان لها في هذا المعترك راية القائد؛ فقد سال منها النضار حتى فاض عن الأكف وعلق بالأقدام. وكم من بريد بين مصر وفروق يروح واحد ويغتدي واحد، وكم من رسائل وسفراء أحسنوا البلاغ وانقلبوا فائزين. يا رب صندوق ترى ظاهره فتخال به ذخائر وتحفا وهدايا مما يهدى به الملوك، وما حشوه إلا أوراق مشتراة غلب عليها كاتبوها أو أخذت ممن لا يحرص عليها لولا الخير المفاض.
ومن أجل هذا قامت الحرب عوانا بين الإمارة والأحرار كما سيجيء خبره في الفصول الآتية واشتد النزاع.
وبينما تدور هذه الأدوار إذا بأنور ونيازي بطلي الحرية وغيرهما من حماة حقيقتها وخلصائها يتدبرون ويفكرون. وإذا كانوا تورثوا من نامق كمال وفضلاء زمانه قليل كتب وأخبار، بعثت نجدتهم وحثحثت نخوتهم، جاءتهم هذه الصحف الحرة كالأدوية للمرضى، ولكنها شفتهم من داء الخمول وابتلتهم بداء العشق، عشق الوطن وهو أقتل للأجساد وأحفظ للنفوس.
قد استشفيت من داء بداء
وأقتل ما أعلك ما شفاكا
فرار مراد الطاغستاني من الآستانة إلى مصر وسبب
ذلك
مراد رجل من أهالي طاغستان، هاجر من بلده قاصدا إلى عاصمة السلطنة العثمانية وهو في مقتبل عمره وعنفوان شبابه، لا يملك من الدهر إلا همومه، يزجي راحلتي الفقر والأدب، وما كان الأديب صفة بل كان الأديب رغبة.
كان قدومه الآستانة في صدارة المرحوم «محمد رشدي باشا المترجم المعروف بالشروانلي» في نحو سنة 1293، فلاذ بركن هذا الصدر واحتمى بجاهه، وأقام ببابه وأكب على طلب العلم ما استطاع له طلبا، فأصاب منه حظا غير قليل، ونظر في التاريخ فأحاط به علما، واشتغل بالأدب فأجاد الكتابة؛ حتى إنه ليعد من رجال الطبقة الثالثة، بل الطبقة الثانية أقرب إليه. وجملة ما يجوز أن يقال فيه إنه بعد أن أبطل له عبد الحميد جريدته «ميزان»، التي كان يصدرها بالآستانة بسبب رثائه للأديب الأعظم نامق كمال، أدخل في نظارة المعارف، ثم أخذ يتدرج في الترقي حتى انتهى إلى وظيفة «قوميسير الديون العمومية» براتب شهري لا يقل عن المائتي ليرة. ولم يكن بعاصمة السلطنة العثمانية من يجهل شهرة مراد ولا من لا يثني على حريته ويعجب ببيانه. وألوف من تلامذة «المكتب الملكي» أقاموا على تمجيده وإطرائه إذ قرءوا عليه التاريخ، وعرفوا منه أحوال من سلف من الأمم، وعرفوا من كتابه الذي ألفه لهم في هذا الباب مترجما أكثره من اللغة الروسية ما أتاهم بأجزل الفوائد.
ولقد نال مراد من إقبال عبد الحميد عليه وعنايته بأمره ما رفعه فوق كثير من نظرائه والراجحين عليه، حتى خال العامة من العظماء أن قد حان لمراد أن يولى الصدارة.
فلما كانت المذبحة الأرمنية التي وقعت في سنة 1894 نقمها مراد فيمن نقمها من العثمانيين الأحرار، ورأى الملك العثماني رهينة مهالك لا تسهل تفديته منها، فكتب لائحة مطولة أبان فيه ضجرة العقلاء وسخطهم، ولام السلطان لوما لا يجرؤ عليه كل امرئ، ورفعها إليه وتحتها توقيعه وخاتمه، وكان مراد حمل لائحته إلى قصر عبد الحميد ولم ينفذها مع أحد، فدفعها إلى من دفعها إليه، وقال له: أخبر مولانا السلطان أني مقيم هنا ببابه على انتظار ما تقضي به إرادته. ويروي البعض أنه مثل في حضرة السلطان فلقي عتابا رقيقا خاف على نفسه عاقبته، وأيقن أن عبد الحميد لا يتركها له، وأنه إذا عاتب إنسانا عاتبه في حياته وضربه في عمره. فخرج من بين يديه وهو غير آمل أنه ملاق أهله، فما انتهى إلى باب القصر إلا تنفس تنفسا كادت تتصدع له أضالعه، فأسرع إلى بيته واشتغل ليلته باتخاذ أهبته للسفر . فما أشرق الصباح إلا ودع أهله وبنتيه وخرج متنكرا لائذا بالهرب، وسهل الله له أسبابه، فما أحس به أحد ولا علمت الحكومة المستبدة بهربه إلا بعد أن أجاز ساحة سلطانها وبعد عن أيدي أعوانها.
ما خلت أن عبد الحميد وجد بفرار أحد من العظماء ما وجد بفرار مراد؛ وذلك لأسباب منها مكان مراد بين رجال القلم، وشهرته التي عرفه بها الخاصة والعامة، وكثرة تلامذته، وهم بلا ريبة على رأيه ووظيفته التي عرفه فيها كثيرون من الأجانب، وأنها وظيفة ذات شأن في الدولة العثمانية، ثم وقوع هربه في زمان اشتداد المشكلات بعد المذبحة الأرمنية. وقد قرأ عبد الحميد لائحته، وعلم أن مرادا يعرف أشياء إذا هو وصفها ببيانه المألوف وأذاعها بين الناس أفسد على الظالم سياسة ظلمه، فاتقد الجبار غيظه وسقط في يده.
أما العثمانيون، فذهب كل جماعة منهم مذهبا واختلفوا في ذلك أقوالا وآراء، حتى لقد كان فيهم من ظن أن عبد الحميد أنفذه سرا في حاجة يقضيها له في البلاد الأجنبية، وأنه تواطأ مع مراد على أن يكون سفره هربا مبالغة منه في حفظ السر وكتمانه. إلا أنهم عرفوا خطأ زعمهم بما رأوه من مطاردة السلطان، حتى لمن كان يعرفه معرفة غير صميمية، فتفرقوا إلى فريقين: فريق يرى أن مرادا كافر نعمة، وأنه خائن، وأنه مدفوع إلى عمله هذا بيد عدو في ثياب صديق، وفريق يرى أن مرادا قام بما يجب عليه نحو وطنه، وأن مثله بعيد عن أن تستهوي لبه المطامع وأن تستغويه الأهواء.
وأما الأجانب؛ فقد أعجبوا بمراد وواقعته أيما إعجاب، واعترفوا أنهم كانوا أساءوا الظن بالعثمانيين حين وصفوهم بالأذلاء الأغبياء، الذين تتهلل نواجذهم كلما وقعت سياط المتغلبين على ظهورهم، وكان أكثر الناس فرحا وابتهاجا أصدقاؤنا الإنكليز؛ فإن فيهم من وهبه المال الجزيل عن طيب نفس، وذلك الواهب الجواد هو إدارة جريدة «التيمس» المشهورة على ما يقال.
حال الأحرار وجمعياتهم بعد هرب مراد من الآستانة
ما وطئت قدم الطاغستاني أرض مصر إلا ابتسمت ثغور الأحرار، وانتعشت أرواحهم ، وتجددت آمالهم؛ فالتفوا حوله وحشدوا تحت رايته ورضوه لهم زعيما ولمذهبهم إماما ولكتائبهم قائدا، وقالوا هو الصمصامة العضب لا تفل مضاربه ولا تقي دونه السابغات. ولما رام الكلام سكت لديه المتكلمون، وأوسعوا له من مكان الأستاذ، فظهر ولسان حاله يقول:
لقد علمت قيس بن غيلان أنني
إذا قلت «أما بعد» أني خطيبها
فصدر العدد الأول من «ميزان» باللغة التركية يقل معاني كالوحي في ألفاظ كالرسل، تتلى على الظالم فيخشع لها قلبه وتزور جوانبه، ونقلت بعض الصحف الكبيرة في مصر وغيرها فصولا كثيرة من فصوله، وكاد يتعزى الأحرار بمراد عن كمال، وبدا الخذلان في جانب من يعارضون الأحرار ويكذبونهم (وكنت أنا من الفريق المخذول). وجاءت الرسائل برقية وغير برقية تطالب فيها الحكومة العثمانية الحكومة المصرية بإعادة مراد إلى الآستانة أو طرده من مصر، أو عدم الإذن له بإصدار جريدة فيها؛ فلم ينل عبد الحميد من لجاجه سوى الفشل وسوء المصير، والفضل في ذلك للورد كرومر حبيب الأحرار ومصلح مصر ورجلها العظيم.
وقد كان في إدارة جريدة «القانون الأساسي» خاتم منقوش عليه باللغة التركية هذا الكلام: «عثمانلي اتحاد وترقي جمعيتي»، ومعناه «جمعية الاتحاد والترقي العثمانية». كان الأحرار يكتبون أوراقا فيها وعيد وإنذار، ينفذونها إلى قصر عبد الحميد ليغيظوه وينغصوا عليه أيامه، وكم ورقة أرسلت مختومة بهذا الخاتم وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، انخلع لها فؤاده، وقضى بليلة سليم لا تبرئ أوجاعه رقى أبي الهدى ولا تمائمه. وإنما حفر هذا الخاتم ليكون للجمعية التي كان يراد إنشاؤها بمصر تابعة لجمعية «الاتحاد والترقي العثمانية» المؤسسة إذ ذاك بباريس. فسافر مراد إلى أوروبا وبقي الخاتم مهملا بمصر. وهذا يدل على أن هذا الاسم كان استنبط في زمان الطاغستاني، وأنه لم يكن لجمعية الاتحاد هيئة تابعة بمصر إلا قبل إعلان الدستور ببعض السنين.
أسست جمعية تركيا الفتاة برئاسة مراد، فلم تعمل عملا يذكر؛ لأن مرادا كان قئولا ولم يكن فعولا، وأنه ليبدو له الصواب في رأي رآه غيره فلا يقره، بل يجهد نفسه في جرحه ورده أنفة منه أن يكون لآخر عليه حق التقدم في فضل. سجية تلك فيه لا يستطيع النزوع عنها. فلما انتظمت جمعيته أحب الاستبداد بالأمر، ولم يرض أن يكون لغيره كلمة مسموعة. وكان إذا هم بعض الأعضاء ببيان رأي يراه في عمل من الأعمال قاطعه وأومأ إليه بكفه يأمره بالسكوت. وبذا جانب كثير من الأحرار مرادا وشيعته، ورابهم أمره وحذروا تقلبه. على أن الأحرار كبروا في أعين الناس، وبدت على أعمالهم بشائر الفوز، واتخذهم عبد الحميد شغله الشاغل وهمه المبرح؛ فسهر الليالي لكيدهم، وتدبر الحيل للإيقاع بهم، وأحس من نفسه العجز عن الاستمرار على عداوتهم. ولو دام لهم ذلك الصبر والجهاد لنالت الأمة العثمانية حريتها من منذ ذلك العهد.
هذا والأجانب عن أعمال الأحرار كانوا يسمون حزبهم حزب «تركيا الفتاة»، وكان العثمانيون يدعونهم بحزب «الزون ترك»؛ أي الترك الفتيان. ولم يكن لاسم «جمعية الاتحاد والترقي العثمانية» شهرة ذائعة تسترعي الأسماع وتملأ القلوب إلا في أواخر أيام الاستبداد، حين أخذت تخاطب الحكومات وتجهر بعداوتها للحكومة الحميدية.
على أن مرادا لم يحسن العمل إلا في انتقاد الحكومة المنقلبة؛ فقد أجاد فيما كتبه كل الإجادة وأخرس مناظريه، فكان الفضل في كل عمل وإن جل ودق راجعا إلى مراد دون رجاله وأنصاره، وكان عالم العثمانية مطويا في شخصه، فلما فاز هو فاز حزبه، ولما هزم هزموا معه. وليس من الصواب أن أقول هزم؛ فقد كان في مأمن من الهزيمة، ولكن غلبه اليأس بتمادي الاجتهاد، وأضجره طول الاغتراب، وتجدد حنينه إلى الأهل والسكن، ثم ربأ بكبره أن ينازعه فيه منازع، فقيل له في العودة إلى عاصمة الملك العثماني وهو في تلك الحال، فأجاب بالرضى وأسلم نفسه وأنصاره وانقضى أمره.
وقع ما كتبه الأحرار على دوائر الظلم بالآستانة
لم يهمل عبد الحميد شاردة ولا واردة مما كتبه الأحرار في صحفهم وأسفارهم إلا أحاط به خبرا وأحصاه عدا، ونظر فيه وتأمل قريبه وبعيده، وفكر في جليه وخفيه. فما رآه حجة عليه تلطف في إزالته غير مظهر أنه أزاله خشية من هجاء الأحرار، وما لم يكن كذلك تركه على أصله غير مبدل من حاله شيئا. ولكن أمرين كانا شديدين على نفسه شهوة ولزوما: إعلان الدستور والتخلي عن الاستبداد. هذان أمران ما حدثته نفسه أن يرضي فيهما الله ولا عباده، وكان كلما ذكر له خصومه مثلبة من مثالبه غلت مراجله وهاج غضبه في خوف تبدو على وجهه آثاره وإن بالغ في تكتمه.
ولقد قال الأحرار في صحفهم إنه منع الجرائد العثمانية عن ذكر اسم «محمد» عند الكلام على النبي
صلى الله عليه وسلم
وكان الأمر كذلك، ولكنه لما رآهم يكثرون من تعييره بهذا الأمر انتهى عنه، وذكرت الجرائد بعد ذا اسم النبي صريحا؛ وإنما أراد بفعلته هذه تكذيبهم ليحدث الشك في قلوب من يقرءون أقوال الأحرار.
وقالوا عنه إنه يخاف أبا الهدى؛ لأن عنده صورة فتوى بخلعه مختومة بخاتم شيخ الإسلام المرحوم الشهير «عرياني زاده»، وأن أكثر الداخلين في الطريق الرفاعي ينتصرون لأبي الهدى. فلما بلغه قولهم هذا أضمر الشر لشيخه المحبوب. وفي ذات يوم أمر به فجاءه وبين يديه بعض الوزراء والمقربين، فقال له عبد الحميد: بلغني عنك أنك تفهم الناس أني أخافك على نفسي، وأنك تقدر على مناوأتي. هذا وأنت غرس نعمتي وإن قدرك لأحط عن أن يسمو إلى تراب قدمي، ثم بصق على وجهه وأخرجه من حضرته، وبقي بعد ذلك أبو الهدى شهورا لا يطرق له باب ولا يوطأ له بساط.
ومن هذا القبيل ما أورده هنا على سبيل الفكاهة وتتمة للفائدة؛ وهو أن عبد الحميد كان اتخذ «منيرا» سفير الدولة العلية في فرنسا سابقا، سيفا يضرب به الأحرار، فكان سفيره وكان جاسوسه أيضا، وكانت ظهرت في «جنيف» منذ عشر سنين قبل الآن جريدة هزلية تصويرية باللغة التركية تدعى «به به روحي»، وصدر عدد من أعداد هذه الجريدة وفي الصحيفة الأولى منها صورة عبد الحميد. وقد جلس على كرسيه وأمامه رجل من بطانته في يديه صندوق كبير عليه عدد كثير من طوابع البريد، وتحت الصورة هذه المحادثة:
حامل الصندوق :
أرفع إلى أعتاب مولاي الأعظم هذا الصندوق الذي أرسله عبده المخلص «منير بك» سفير الدولة بباريس؛ فقد أودعه كل ما استطاع جمعه من «الوريقات المضرة» التي ينشرها «الزون ترك» أعداء الدين والدولة لتصدر إرادته الشاهانية بإحراقها.
عبد الحميد :
لا تزال التجارب تزيدني كل يوم إعجابا بمنير وثقة بولائه، وليت لي كثيرين مثله يغالبون أعدائي ويتقدمون إلي بصدق الحب والولاء، فأجزل لهم المكافأة وأحبوهم المزيد. هلم إلى هذا الصندوق وافتحه لأنظر ما فيه من عجائب هؤلاء الأغرار.
وفي الصحيفة الثانية من ذلك العدد، عبد الحميد وقد استلقى على ظهره فوق كرسيه وفتح ذراعيه وقطب حاجبيه وامتقع لونه وبرزت مقلتاه وانقلب وجهه فكأنه إسفنجة مبتلة، والصندوق مفتوح وقد خرج منه صاحب «به به روحي» وفي يمينه مسدس يصوبه إلى صدر عبد الحميد، ورجل بطانته باهت عاض بسبابته، وتحت الصورة علامة الاستغراب تتلوها أصفار كثيرة، هكذا: !00000000.
ولما وقعت هذه النسخة بيد عبد الحميد كتب إلى «منير» يأمره ألا يرسل إليه صندوقا كما تقدم ذكره إلا بعد أن يتحقق بنفسه مما فيه، وأن يحكم قفله ويختم بخاتمه!
وكان لما يكتبه الأحرار وقع آخر في نفس عبد الحميد، أدركه كل فطن عارف بأحواله ومختبر حقائقه. وذلك أن الأحرار كثيرا ما كانوا يشيعون في جرائدهم أنه مريض، وأنه يود أن يعتزل الملك، فكان يبادر إلى تكذيبهم في جرائده لأنه لم يكن يرضى أن يشاع عنه أنه مريض ولا أنه على نية الاعتزال.
وكان الأحرار يختلقون أنباء لا أصل لها، فيكتبون في صحفهم أن فئة منهم على أحسن أهبة وسلاح سيظهرون قريبا بالآستانة، فتذهب جماعة منهم لاستخلاص السلطان مراد، وكان معتقلا بقصر «جراغان»، وتذهب جماعة إلى خلع عبد الحميد وسجنه مكان مراد. فتصل هذه الصحف الآستانة، فتقوم لها القيامة ويشتد الهول، ويطفق رجال الشرطة يتراكضون يمنة ويسرة صعدا وصببا، يطلبون تلك الفئة التي أخبرت عن ظهورها الجرائد الحرة، فما رأوا نفرا متجمعين إلا انقضوا عليهم وأمسكوا بتلابيبهم وجروهم إلى رؤساء الشرطة يستنطقونهم. فكان هذا وما ماثله من الفصول المضحكة في مرسح الإدارة الحميدية.
وكان عبد الحميد وأعوانه يتسلون عن إدراك أمانيهم في جلب الأحرار والانتقام منهم بأن ينتقموا من إخوانهم الذين هم في قبضة أيديهم، فما اتهم أحد من أولئك المساكين بمراسلة الأحرار أو أخذ صحفهم أو الكلام عنهم تلميحا أو تصريحا إلا أخذوه إلى دار التعذيب، فأثقلوا قيوده وشدوا وثاقه وأروه من صنوف الأذى ما يقضي به نحبه بين أيديهم. وإنما كان يجرؤ عبد الحميد على تلامذة المدارس ممن لا يتوسم فيهم القدرة على الكتابة ولا على الهرب، وكذلك من لا شهرة لهم من صغار المأمورين. أما الذين يبلغه عنهم أنهم من رجال القلم ومشاهير الكتاب فيكفيه منهم أن يتوعدهم ويبث لهم من يراقبهم ويأتيه أخبارهم، وربما ضاقت الحال ببعض الأدباء ولم يجد سبيلا لاستزادة راتبه، فيكتب إلى عبد الحميد يقول له: إن اشتداد الأزمة عليه ومراقبة الجواسيس له وتكاثر الأعداء يضطره إلى ترك وطنه واختيار الغربة، وأن مثله لا يعاني كبير كد في الاسترزاق بعلمه وفضله إذا يمم أرضا يعيش في أكنافها أمثاله. فإذا اتصل هذا الوعيد المستظرف بالملك الأحمر بادر لوقته فاستدعى المتوعد إلى قصره وأجزل عطاءه ورفع درجته ووعده خيرا.
كان فخري بك المصري متهما عند السلطان بأنه من حزب تركيا الفتاة. ولقد سأل السلطان مرارا واستعطفه كثيرا ليأذن له بالسفر إلى مصر ليصلح شئونه ويتعهد أراضيه وأملاكه، فظن السلطان أن فخري بك يريد السفر ليتحد مع الأحرار في محاربته. وإذ كان فخري من أهل الثراء والفضل أيقن عبد الحميد بصحة ظنه، فلما زار الآستانة سمو الخديوي في سنة من السنين توسط في الاستئذان لفخري بك، فنال الإذن وأحضره معه على يخت المحروسة. فانتبه لذلك أحد الأدباء الفقراء، ورأى فرصة لا تسنح كثيرا، فاستكتب أحد المصريين الذين كانوا هربوا من مصر إلى الآستانة تقريرا يقول فيه للسلطان: إن الكاتب المعروف فلانا كتب كتابا إلى فخري بك المصري يعده فيه بالسفر ليلحق به، وأن قد جعل فخري راتب ذلك الكاتب عشرين جنيها شهريا، وأن الكاتب على أهبة السفر. وقال: إذا كان أمير المؤمنين يشك في صدق عبده هذا فما عليه إلا أن يصدر أمره إلى إدارة البريد العثماني في «غلطة» ولا يلبث أن يؤتى له بذاك الكتاب، فأخذ المصري المتجسس تقريره ورفعه إلى عبد الغني (آغا دار السعادة) إذ ذاك، فصدرت الإرادة إلى إدارة البريد، وجيء بالكتاب وظهر صدق الجاسوس، فجاءه شكر من السلطان على إخلاصه ولم يحسن عليه بعطية أبدا، وجيء أيضا بالأديب المتهم وسئل عن الأمر، فاعترف معتذرا بشدة الحاجة وما يعانيه من ضيق ذات يده، فأمر له السلطان بعطية سنية قدرها خمسون جنيها وأدخله في إدارة الأملاك السنية براتب لا يقل عن العشرين جنيها، فلما بلغ الجاسوس ما جرى أسرع إلى صاحبه فهنأه وطلب له المزيد، ثم قال له: كنت وعدتني بأن تعطيني نصف ما تأخذه من السلطان. وقد أخذت خمسين جنيها، فهات لي النصف.
الكاتب: لم يجر بيننا كلام مثل هذا، وإني لأنهاك أن تعود إلى مطالبتي بما ليس من حقك.
ففارقه الجاسوس ساخطا ناقما، وذهب من ساعته إلى قصر عبد الحميد وأخبر عبد الغني أن ما أتاه به أول مرة كان تواطؤا بينه وبين الكاتب، وأن لا مخابرة بينه وبين فخري بك، فلم يجده اعترافه هذا نفعا ولم يلحق بالكاتب ضررا، وخرج من القصر مطرودا، وما بقي له إلا إثم التجسس.
ولما استمر مراد الطاغستاني على إصدار «ميزان» بمصر ثم «جنيف»، ونشر في جريدته أحاديث جرت في «يلديز» بين خاصة عبد الحميد، وأخذ يسمو إلى أن نشر أحاديث جرت بين عبد الحميد نفسه وبين مقربيه، غير مضيع منها حرفا، كبر الأمر على المستبد وعلى رجاله، فداخله الريب حتى في أمنائه، وشك المقربون بعضهم في بعض، وزادت الوشايات عن ذي قبل؛ فلا الصديق يثق بصديقه ولا الوالد يأمن على سره ولده، وعظم الوجل واشتد الحرص في القلوب. فلما كثرت الظنون وتنوعت أخذ البعض يذهب إلى أن لمراد رجالا حتى في قصر السلطان يوافونه بأخباره، وزعم بعضهم أن بالآستانة بل بقصر الملك جمعية خفية تتآمر على اغتيال عبد الحميد؛ فمن قائل إن ولي العهد هو رئيس تلك الجمعية، لا بل رئيسها هو المشير فلان أو الوزير فلان، وكثرت تقارير الجواسيس على عبد الحميد إلى أن عجز عن استيفاء قراءتها كلها.
صاحب القانون الأساسي العثماني وشهيد الحرية مدحت باشا.
وقد طمحت نفس الاستبداد إلى أكثر مما تقدم؛ وذلك أن عبد الحميد كان اشترى بعض الصحف الأوروبية والعثمانية، وخصص لأصحابها رواتب لتدافع عنه وتحارب له الأحرار. وهذه الجرائد المشتراة بدماء العثمانيين لتكذب على العثمانيين وتمتهن العثمانيين موجودة إلى اليوم، لم تحتجب منها إلا قليلات كانت تبدو بمصر، وكان أصحاب هذه الجرائد يذهبون إلى الآستانة كل عام، فيقضون بها أياما وشهورا يحتالون على عبد الحميد، فيسرقون دراهمه، ويحتال هو عليهم فيسرق قلوبهم، وكل يظن أنه يغش صاحبه، وكل صادق وكل كاذب نفسه. إلا أن عبد الحميد انتصر على الأحرار بهذه الجرائد؛ فلقد احتقرها أكثر الناس استخفافا بأربابها ورموها تحت أقدامهم، ولكن الذين فعلوا ذلك هم العارفون بمن يصدرونها، الواقفون على أحوالهم وسيرهم. أما القاطنون في البلاد البعيدة ممن كانت ترسل إليهم ولم يعرفوا عن أصحابها إلا ما يرونه على رأس الجريدة كقولهم «صاحب الامتياز هو سعادة فلان» أو «يقوم بتحرير هذه الجريدة هيئة من مشاهير الكتاب ورجال السياسة ... إلخ إلخ.» فلا عجب إذا انخدعوا بهذه الألقاب والجمل الساحرة. والعثمانيون القاطنون صميم الأناضولي أقرب خلق الله إلى الانخداع.
اضطر عبد الحميد وأعوانه إلى ركوب هذا الشطط تخوفه من جرائد الأحرار، ثم تألمه مما كان يكتب فيها عنه.
وقد شاهد المنقطعون إلى تحقيق الأمور أن أكثر المأمورين العثمانيين كانوا يستحون مما يكتبه فيهم الأحرار، وما يصفونهم به من الخمول والجهل والتذلف إلى الرؤساء وعدم المعرفة بما عهد؛ فكان منهم عمال ألا إليهم من يجهد نفسه لكيلا يصدق فيه ما يقوله الأحرار، وكان منهم من يقول: هؤلاء أعداء الخليفة والمسلمين، هم أنصار الفرنجة يريدون أن نصبح كلنا مجردين من الدين، فيجب أن لا نلتفت إلى أقوالهم ولا إلى مفترياتهم.
ولما بدت على وجوه المأمورين وكبار رجال الدولة آثار الخوف والوجل مما يكتبه مراد في «ميزانه»، ويكتبه غيره من الأحرار في جرائدهم؛ انتبه لذلك بعض الشبان ممن زاد نصيبهم من التعلم وأوتوا الذكاء، ففر كثير منهم إلى الأقطار الأجنبية وإلى مصر التي كانت مهبط ملائكة الحرية، وشاركوا إخوانهم المجاهدين في جهادهم، وبقي غيرهم بالآستانة ليوافوهم بما يتجدد فيها من النبأ اليقين، فكان هؤلاء المجاهدون مقيمين في وسط النار تحرق ما حولهم، ولا يصيبهم منها سوى حرق تبقى أياما ثم تزول. وقد يذهب منهم وقودا لها من يذهب. وبهؤلاء ملئت السجون ومواطن النفي، ولقبهم العاتون المتعصبون ألقابا وسموهم أسماء ونعتوهم نعوتا، فقالوا: المتفرنجون والكافرون وأعداء الدولة والدين، وأضحى شقاؤهم في الولايات أشد، فكان الولاة وأكثرهم رجال الحكومة يضربونهم ويحبسونهم، وقد يهدرون دماءهم ويبيحون للناس نهبهم ويذلونهم إذلالا؛ وفي ظلم أنيس باشا أحد ولاة «قسطموني» سابقا واعتدائه على المنفيين عبرة للسائلين.
أبو الهدى بالآستانة وبمصر
رجل نشأ في «خان شيخون» - وهو اسم قرية من قرى حلب - مجهول النسب والحسب، فقيرا من المال والعلم، لا نصير له إلا عقل ما تجلى شعاعه على داجية معضلة إلا أنارها، وسيم المحيا طلقه، فتي العزيمة ماضيها، طموح النفس إلى كل سؤدد، صبور على المكاره، إذا نال جشع وإذا حرم شبع، لطيف ظريف، لا يمل مجلسه، شمائله أندى من الزهر، وهيبته أعظم من هيبة السبع، إذا تقاعس تحالم، وإذا قدر بطش غير راحم، يبدي على صفحته ما يريد ويكن في ضميره ما يريد، لا يخذله تلون ولا تلجلج، لجام نفسه بيده يصرفها كيف يشاء وأنى يشاء. ذاك هو أبو الهدى المعروف عند العثمانيين والمصريين.
ادعى النسب وربط أسلافه ببيوتات وبطون كثيرة؛ فهو رفاعي خالدي قرشي هاشمي علوي، ثم غساني تبعي، ثم عالم فقيه نحوي لغوي أديب مؤرخ متصوف فيلسوف، فلكي طبيب عراف، ولي شاعر كاتب سياسي إداري مالي عسكري بحري بري، ثم هو مستبد جاسوس، وحر دستوري، فاسق تقي، مبذر ممسك ، جبان شجاع، قوي ضعيف، حبيب عدو، خائن وفي، يتقلب في هذه النعوت والصفات ما بين غمضة عين وانتباهتها، ولولا خوف الهجر لقلنا إنه كل يوم في شأن.
أحرز أشرف الألقاب فقيل له «صاحب السماحة والسيادة»، وكني بأجمل الكنى، فدعي «مستشار الملك، حامي العثمانيين، سيد العرب»، ولكن غلبت سورة الحق على كل هذه الأباطيل، وسمي «أبا الضلال»، فبقي له هذا الاسم صفة حتى لقي به ربه.
وليس ببعيد أن يكون أبو الهدى ولد مطبوعا على الخير راغبا في المعالي، فسلك الطريق إليها كما أراد وكما أراه عقله. ولعله كان يظل مقيما على الإنصاف لو وجد منهم الإنصاف. ولكن كثر مزاحموه وجم حاسدوه، فاضطر إلى محاربتهم غيرة على أربه وحفظا لحياته؛ وهو في دهائه ووفرة تجاربه عالم بأن نعم الملوك تتكنفها النقم، فنازل أعداءه منازلة لا مشفق ولا آمن، وأيقن أنه إن غفل عنهم برهة دبروا له من المكايد ما يذهب بعزه ويقصيه عن سلطانه، فجعل كلما أتاه منهم شر أرسل عليهم مثله، دقة بدقة، وما تشمر لحربه إلا كبار الرجال من أهل الحظوة عند السلطان، فما زال بهم حتى بزهم واحدا واحدا، وبقي مكانه كالطود الراسخ لا تزعزع قواعده الصروف ولا تترقى إليه الهمم.
استمال فريقا من الرجال، منهم الأمراء وأهل الثروة وذوو الحكم في البلاد، فأظهر لهم الود واستعمل قدرتهم في أغراضه. ووفد عليه العلماء والشعراء والكتاب يستعينون به على قضاء حوائجهم، فأخذ بناصرهم وأكرم وفادتهم وأدنى منه مجلسهم، فكان منهم من يؤلفون الأسفار ويعزونها إليه، ومنهم من ينظمون الأشعار ويروونها عنه، فتناقلت الألسن ما بدا من فضله المتزود به، وسهت الأفكار عن نقصه الكمين فيه. على أني لا أقول نقصه، ومن أين لنا أنه كان ناقصا؟ وهل يقدم أكثر الناس على المكاره إلا مضطرين، وإن كان منهم من يتشهاها ويستهتر بها؟ على أن ضرورات الحياة أشقت أبا الهدى من حيث أسعدته، وحطته من حيث رفعته، فعاش، وهو حبيب الناس، عدوهم، وألف الحيل لما رأى حياته ونشبه لا يسلمان إلا بها ، وقلت ثقته بالناس، وقلت رغبته في مصافاتهم؛ فعاش وأشد الناس ملازمة له أشدهم خوفا منه.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
أتى على أبي الهدى حين من الدهر يفزع اسمه الولاة على مقاعد ولاياتهم، ويرهب الوزراء بل الصدور وهم على أرائك حكومتهم؛ ينفذ إلى أحدهم وصاة في أمر لا يجرؤ عليه غيره ولا تجيزه قوانين الدولة ولا يرضى به عبد الحميد؛ فلا يستطيع أحد أن يظهر له مخالفة ولا أن يضمر في نفسه مماطلة، وكم أمر السلطان أمرا وأبطله أبو الهدى، وكم شكا الرجال كثرة ما يقترح لهم فما أفادهم ذلك ولا ضره، وكان عبد الحميد يقول: «عجبت لهؤلاء الخونة الذين يحسدون شيخي وليس فيهم من يليق به أن يكون من خدامه. يكتب لي الواحد منهم كتابا يطلب من فيه بدرة مال أو رتبة لا تكاد تذكر؛ وهو مع ذلك يتعسف الحيل ولا يهتدي إليها سبيلا. أما أبو الهدى فإن سألني سألني عن ثقة وظرف، ولا يتدنى بقدره إلى طلب ما يكون مشاعا يمكن أن ينازعه فيه غيره، بل يطلب مني ما يفتخر الشريف بنيله؛ فهو الأمير وأولئك هم الصعاليك.»
وما زال أبو الهدى مجدا في طلب خصومه؛ وهو كلما أدرك واحدا جلد به الأرض وداسه بقدميه، فلا يقوم بعدها أبدا؛ حتى سخر الله له عزت العابد، فثبت أمامه وناوأه في وجهه، فكانا ككفتي الميزان؛ إذا رجح أحدهما خف صاحبه، اشتدت وطأة كل منهما على الآخر، وضاعت بينهما مصالح الأمة والدولة. وانقسم عامة الناس إلى حزبين: أحدهما هدائي وثانيهما عزتي، فما يبرم هذا أمرا إلا ينقضه ذاك، ولا يفتح ذاك بابا إلا يغلقه هذا. ولما رأى الناس من العابد ثبات قدمه في مصاولة أبي الهدى جنحوا إليه بآمالهم، ولاذوا بركنه عند فزعهم، وسر بذلك عبد الحميد، فاتخذ كلا من المتفاضلين رقيبا على مفاضله، ورأى سائر أعداء أبي الهدى ألا يختلفوا في محاربته، فاتحدوا عليه ورضوا بعزت العابد زعيما، فساروا تحت رايته وعملوا برأيه حتى كادوا يغلبون الصيادي ويزيحونه من طريقهم.
أما أبو الهدى؛ فقد قرع باب السعادة في أول أمره داعيا باسم الدين، وسار في طريق حياته سالكا مسلك المتصوفين، فكان يأتي عبد الحميد كل يوم بعجيبة من العجائب؛ فآونة يبلغه سلام النبي، وحينا يقص عليه رؤيا يزعم أنه رآها ويفسرها له على ما يلائم هواه ويرضيه، ثم يدعي لأبيه ولنفسه كرامات لا وجود لها، وكان عبد الحميد محبا لهذه الأشياء، ويظن أنها من أقرب الوسائل إلى استدامة حكمه. غير أن أبا الهدى تعدى ما كان رسم له، فأفهم سيده أن السالكين طريقة الرفاعي من دراويشه كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، وأنهم يجلونه ويتفانون في حبه، وأنه إذا نابه أمر قاموا عن بكرة أبيهم انتصارا له، فكان عبد الحميد يسمع ذلك فيصدقه أو يضطر عقله إلى تصديقه لأمر يعلمه هو، ولكن حيل أبي الهدى تعدت السلطان إلى غيره، فكان له رجال يبتدعون له الكرامات وينتحلون المعجزات لأبيه. ولقد روى لي الكاتب المصري الشهير المرحوم إبراهيم بك المويلحي نادرة منها قال: كنت ذات يوم عند أبي الهدى. وقد غص مجلسه بقوم من أصحابه وشيعته، وكلهم جلوس كأن على رءوسهم الطير، فأخذ أبو الهدى يحدثنا بأمر وقع لأبيه، قال: رحمة الله على سيدي الوالد، ما أظرف ما كانت تصدق به كراماته؛ خرج ذات يوم شديد الهاجرة في حلب يريد التنزه، فاشتد عليه القيظ وعلم أنه لم يصب في اختيار وقت النزهة، فانثنى راجعا إلى باب داره حتى إذا وافاه جلس على عتبته من فرط ما أصابه من التعب، وأخرج منديلا له وجعل يمسح به عرقه المتصبب على جبينه، وإنه لكذلك إذا برجل يقود حمارا له عليه زنبيلان مملوءان خيارا، فاشتهت نفس سيدي الوالد من ذلك الخيار، وسأل البائع أن يزن له منه رطلين، والرطل الحلبي يساوي أقتين ونصفا، ففعل الرجل، ولما انتهى من وزن الخيار وأخذ ثمنه وهم بالانصراف التفت، فما راعه إلا زنبيلاه وليس فيهما ولا خيارة واحدة، فأخذ الرجل ينوح وينتحب ويقول : أين ذهب هذا الخيار؟ لم يمر بنا أحد فنقول سرقه. فتبسم سيدي الوالد وقال: كم كان بزنبيليك من الخيار؟ قال الرجل: سبعون رطلا، فدفع إليه سيدي الوالد ثمنه وقال: أنا أكلته، فنظر الرجل في وجه الوالد مليا ثم صاح: والله إنك لقطب الزمان وغوثه. وانكب على قدميه يقبلهما، فطيب الوالد الرجل وقال: لا عليك بأس، ولكن عاهدني ألا تبوح بما رأيت لأحد، فعاهده الرجل على ذلك ومضى في شأنه. قال المويلحي: فما أتم أبو الهدى كلامه إلا نهض رجل في أخريات الجالسين وقال: يا مولاي عفوا، إنه لم يكن بالزنبيلين سبعون رطلا بل خمسة وتسعون كما أخبرني به البائع نفسه. قال أبو الهدى: لله أنت، ما أحفظ قلبك، والله لقد أنسانا الزمان ذلك. قلت للمويلحي: يا إبراهيم بك، هذه ليست بكرامة، وإذا صحت الرواية فأبو أبي الهدى جمل أو ثور وليس بغوث ولا شيطان.
وقد كتبت وأنا بالآستانة رسالة صغيرة طبعت بمصر سميتها «الخافي والبادي من فضائح الصيادي»، ذكرت فيها أشياء كثيرة من هذا القبيل لا أرى بي حاجة إلى استعادتها هنا.
وكما انتصر أبو الهدى على خصومه بالوشايات انتصر عليهم بالجرائد، فوجه إلى مصر في نحو سنة 1892 رجلا من دراويشه اسمه السيد كمال الدين الدمشقي، فأتى هذا الرجل إلى مصر محملا بالمال مصحوبا برعاية أبي الهدى وقوته، وكان خليعا ظريفا وسيم المحيا، يمشي وكأنه مروحة في يد الحسناء، فأصدر كمال الدين جريدة القاهرة التي أسسها سليم فارس، ثم نشرها من بعده محمد عارف الكاتب الشهير، فكأن خيبة الجد استكثرت على «القاهرة» سابق «مجدها» فأرادت أن تنزلها بعد الرفعة إلى أسفل الدركات، فأخذت تنشر جريدة القاهرة كل أسبوع بعد أن كانت تنشر كل يوم، وسودت صفحاتها بمقالات الدراويش وأهل المجون بعد أن كانت ترصعها باللآلئ أقلام مشاهير الكتاب في عهد سليم فارس ومحمد عارف، وأتتها قصائد الصوفية مطولة باردة مظلمة كليالي الشتاء.
وقد اشتغلت الدسائس بين مصر والآستانة، فأخذ كثير من الأغنياء يحبون كمال الدين المال ويتخذونه شفيعا إلى أبي الهدى في استجلاب رتبة أو وسام أو قضاء حاجة دخلت فيها المشكلات، وأخذت جماعة من رجال عزت العابد تنتصر بالمعية، وأخذت المعية تطارد كمال الدين. وبذا عرف المصريون من مكانة أبي الهدى ما لم يعرفوا من قبل، فأقبلوا على سفيره المعمم يمشون وراءه، ودخل أبو الهدى أبوابا لم تكن تنفتح له لولا جريدته ودرويشه، فقصد إليه المتنازعون مع المعية في أمر جزيرة طاشيوز، وتحملوا إليه الدراهم، ويممه أصحاب وقف العلماء في قضية الأزهر، ثم تاجر بالرتب والنياشين فربحت تجارته.
أشعر شعراء الترك وأكتب كتابهم الأديب الأعظم نامق كمال بك الشهير.
وكان المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني صديقا لأبي الهدى، وكان كل يخاطب صاحبه بيا ابن العم، ولا يصبر أحدهما على فراق الثاني يوما واحدا، فسعى بينهما بالنميمة عبد الله النديم حتى تنافرا، وبلغت منهما العداوة والبغضاء أن بات كل يطلب موت بغيضه؛ ومن هنا بدأت الحروب الصيادية، وتنازل القرنان، ولولا أن المنية تداركت الأفغاني لظلت الحرب إلى يوم إعلان الدستور، وسيأتي الكلام على هذه الوقائع في فصل خاص بها.
ولقد نفع أبا الهدى كثرة حاسديه؛ فاتخذ فرط بغضهم له برهانا على إخلاصه لعبد الحميد، وجعل يوهمه أنه لو كان خائنا مثلهم لما أبغضوه. وما أراح ذلك عبد الحميد، ولكنه أظهر الارتياح، فصاحبه على ريبة من أمره، ثم خافه على نفسه، فبات يدبر له ما يرديه. غير أن أبا الهدى أحس بالشر وعلم أنه إن وقع مرة لن تقوم له بعدها قائمة، فأسر إلى قوم يعلم أنهم لن يحفظوا له سرا أن عنده صورة فتوى بخلع عبد الحميد من شيخ الإسلام المرحوم عرياني زاده مكتوبة بخطه مذيلة بخاتمه، وأنه لا ينشرها إلا إذا أوجس على نفسه خيفة. فنقل هذا الكلام إلى عبد الحميد، فهاج له وساوسه واستطال سهاده وحال بين أبي الهدى والهلاك، وكان أبو الهدى كثير الدالة على سيده، فكثيرا ما قاطعه أسابيع لا يطأ فيها بساطا له، وإذا كتب يسأله عن أمر لا يرد عليه جوابا حتى يسترضيه سيده بحاجة يقضيها له.
وكان أبو الهدى يركن في الشدائد إلى رأي ابنه حسن خالد بك؛ وهو شاب ظريف سهل الخلق ذكي الفؤاد حاضر البديهة، يشبه أباه وجها لولا لحية كثة كست عارضي أبيه، ولم تنبت بعارضيه. جرت عادة هذا الشاب أن يذهب إلى قصر يلديز ويطوف بدوائره ويتجسس على رجال القصر كلهم. وقد برع في استراق السمع واختلاس ما يكتب بنظرة ترتد إليه بعدما ترود خلال كتب الغيب، فيرجع إلى أبيه وعنده النبأ اليقين بما كان وبما يكون.
وكان لأبي الهدى جاسوس آخر اسمه جميل، حلبي الأصل، زوجوه جارية من جواري عبد الحميد، واستخدموه بإدارة الجمارك (أمانة الرسومات)، وجعلوا له راتبا للتجسس، فكان هذا الرجل لا يرفع وشاية إلى عبد الحميد إلا باستشارة الصيادي، فأمسى الصيادي وله جاسوسان: أحدهما ابنه يأتيه بأنباء سيده، وثانيهما جميل الحلبي ينقل عنه إلى عبد الحميد ما يتفقان على نقله.
على أن أبا الهدى مع ما ذكرته عنه من تعدد موارد رزقه وتيسر الكسب له لم يكن ذا وفر، بل كان كثير الديون، إذ اضطرته مواقفه مع خصومه إلى الاستمرار على التبذير، ثم كلفه بالتشبه بأهل السماحة وإظهار الأريحية والجري على سنن الكبراء من السلف في إجازة المادحين وفتح باب داره للقاصدين من الضيوف والدراويش كان يستنفد ما في خزانته، فيقترض من رجل صيرفي اسمه توفيق أفندي الداغستاني. هذا ولم ينل صلة من عبد الحميد إلا فرقها على الخاصة من شيعته القائمين بأمر دعوته.
ماذا كان يريد أبو الهدى؟
ذهب كثير من الناس إلى أن أبا الهدى كان يريد أن يجعل نفسه خليفة، وأن يجعل الخلافة في العرب كما كانت. وهذا افتراء محض. أجل كانت نفس الصيادي طامحة لكل ما يعليه كما أسلفت في الفصل المتقدم، ولكن نفسه لم تحدثه بشيء من ذلك؛ فقد عرف خطر هذا الأمر ومسافة بعده عن الإمكان، وإنما هاجمه أعداؤه بمثل هذه الأقاويل طلبا للإيقاع به وإقصائه عن عبد الحميد. وما غاظ أبا الهدى أحد مثل كاتب هذا الكتاب. وقد قلت فيه ما لم يقل غيري وزعمت أنه كان يسعى في قلب الخلافة والاستئثار بها. ولكنه زعم ليس بصحيح، وإنما أردت أن يبعد عن عبد الحميد ويخف ضرره عن الدولة.
وكان أحب الأشياء إلى أبي الهدى أن يصير شيخ الإسلام؛ لأن صاحب هذا المقام له التصرف المطلق في نصب القضاة وعزلهم، وفيه من الوسائل لاستجلاب الدراهم ما لا يتحصل في مقام غيره، ولأبي الهدى دراويش ومادحون يحب أن يقلدهم مناصب رفيعة في الولايات ليكسبوا فيها ويكسبوه معهم، ولكن عبد الحميد لم يسمح له هذا السماح ووقف وسواسه بينه وبين أماني شيخه المحبوب. على أن أبا الهدى عاش ما عاش غير يائس من الفوز بمأربه.
ثم الخلافة، وهي الملك في عرف أهل البدعة والتعصب، لا يحلم بها أبو الهدى ومن هم على شاكلته من رجال التصوف؛ فهم قوم يميلون إلى إظهار النسك في أنهارهم وادخار اللذات إلى لياليهم، ولأحب إليهم أن يقال فيهم إنهم أهل الله ومقربوه ومن لا يرد لهم دعاء ومن جعل الأكوان وما بها من حي وجامد طوع مشيئاتهم. والولي ينفع الخليفة ويضره ويرفع البلاد ويضعها، وليس الخليفة كذلك. وأهل التصوف يبدون الورع ويسرون الطمع؛ فهم يأكلون ويشربون خفية. فإذا هم جلسوا إلى طالبيهم ادعوا الصوم وتنزهوا عن مشاركة الناس في حالاتهم من ضرورة الأكل والشرب والنوم، وكيف كان يقنع أبو الهدى بأن يكون خليفة على العرب وهو يدعي أنه يفعل ما يريد بالرغم من الخلفاء ودول الأرض كلها. أما طمعه في أن يكون شيخ الإسلام فذلك لكي يقال إنه رجل كلف بخدمة الدين، ذو وجد بنصرة الشرع؛ فيزيد الناس فتنة بظاهر ورعه ويزيد الناس فتنة بجاهه وحبائه.
أكبر برهان على صدق ما أقول أن أبا الهدى لم يخاصم من الصدور ورجال الدولة إلا من أبوا الانقياد إلى رغائبه من استخدام تابعيه أو من بدءوا بعداوته. أما رجال التصوف والمنتحلون العلم؛ فقد شن عليهم الغارات وأنزل بهم البلاء، ولو لم يتعرضوا له بعدوان، وذلك بأن هؤلاء مشاركون له في الصفات التي يحب التفرد بها.
كان الشيخ محمد ظافر المدني - رحمة الله عليه - رجلا جاهلا. وإنه لأشبه الناس برؤساء الصوفيين الذي نراهم في القطر المصري ويسمون أنفسهم مشائخ السجادة، وكان من رؤساء طريقة صوفية اسمها الشاذلية، عرف بالصلاح واجتناب الزخارف وحب التواضع، وقد اتصل بعبد الحميد في ولاية عهده أيام كان عبد العزيز سلطانا على العثمانيين، فلما ولي الملك عبد الحميد زاد حبا للشيخ ظافر وأجزل عطاءه، وشاد له تكية هي باقية إلى اليوم على يسار الطريق الموصل إلى قصر «يلديز». وربما جاء ذكر الشيخ ظافر في أحد الفصول الآتية. هذا الشيخ المسكين كابد من أبي الهدى ما لا يدخل تحت الحصر، ولولا مكانته عند عبد الحميد وانتصار جماعة من أعداء أبي الهدى له لحل به من البلاء العظيم ما حل بغيره. وقد اتخذ مصطفى ظافر ابن الشيخ ظافر وسائر أخوته وعمه المرحوم الشيخ حمزة مع عزت العابد، فأمكن له أن يقاوم أبا الهدى ويقف أمامه طول أيام حياته.
وقد وقع لأبي الهدى مع الشيخ أسعد وكيل الفراشة - رحمه الله - أكثر مما وقع له مع الشيخ ظافر؛ فقد نال أسعد من الحظوة لدى عبد الحميد ما لم ينله أحد قبله، وفاقه فيه أبو الهدى بعده، ولعل من سيقرءون كتابي هذا من المصريين لا يعرفون أسعد الذي أتى ذكره عرضا في هذه السطور، ولولا أن ذكره خارج عما نحن بصدده لأجملته لهم في كلمات، ولكنني أقول لهم إن هذا الرجل يعرفه العرابي وبعض الخاصة من حزبه؛ فقد كان يكاتب العرابي ويعده بجعل الخديوية وقفا عليه ومن يتلوه من ذريته، ويبلغه سلام عبد الحميد ورضاه. وقد أصاب أسعد جنون في عقله لم يعش بعده كثيرا، ومات وأنا بالآستانة.
وكان الشيخ الجربي قصد إلى الآستانة في أحد السنين، ويعرف المصريون ما اتصف به الجربي من حسن المنطق وجودة القريحة وبيان الأسلوب، فلما اتصل ذلك بأبي الهدى همه وأورثه القلق، وخاف أن يطول بالآستانة مقامه فينال حظوة عند عبد الحميد ويتغلب عليه، فبادر من ساعته إلى القصر السلطاني وما خرج منه إلا وصدر الأمر بإقصاء الجربي عن الآستانة.
ولإن اشتغل أبو الهدى في كثير من أوقاته بمهام الملك، فما ذلك إلا ليقول عبد الحميد: إن الله آتى هذا الرجل من علم كل شيء أوفر نصيب، وكان يقول لكثير من الناس: لو شئت لكلمت الطيور وساميتها إذ تحلق في الجو ولخاطبت النمال ودعوت الوحوش فأجابت. كل هذا أراد به ادعاء الولاية والحظوة عند خلاق الكائنات. وكثيرا ما تباهى برجل يسميه سيدي القطب المهدي الرواس، يقول إن هذا القطب كان أستاذه وأنه لقنه كل ما يعلم واتخذه صاحبا لما رأى فيه من مخايل الذكاء، وذكر أن قطبه الرواس تفرس وجهه ذات يوم فقال على البديهة:
إن خافيك الذي غيبته
هو باد ظاهر في حاضرك
اجل قلبا في حمانا إننا
نحن قمنا بالذي في خاطرك
فقلت: ما الذي أراد بقوله «قمنا بالذي في خاطرك»! قال: أراد ما لا ينبغي أن تعلمه لا أنت ولا أمثالك.
هذا الملك الروحاني المدعى هو أكبر عند جميع المحتالين من أهل التصوف من الملك الدنيوي؛ فقد قضوا على ملوك البلاد أن يمتثلوا لإشاراتهم وأن يرفعوا أقدارهم وأن يهابوا جانبهم، وما خاطبوا ملوك الإسلام إذ خاطبوهم إلا زعموا أن الله أوحى إليهم بذلك، وعقلاء الشرق هم رجال الطبقة المتوسطة بين الملوك والسوقة، قليل ما بقي بالشرق من علم هو مقسم بينهم. أما الملوك والسوقة فمتساوون علما وفهما. وإذا امتاز الملوك عن إخوانهم السوقة في أشياء من السياسة فذلك محمول على كثرة معاناتها وتجريبها والاضطرار إلى ممارستها. وقد رأيت من جهلاء الناس غير المنقطعين إلى العبادة كثيرين لا يصدقون أكاذيب مشايخ الصوفية.
ومما لا أرى بأسا من ذكره في هذا الفصل أنا أبا الهدى عثر في مكتبة «آيا صوفيا» على شيء من الجفر المنظوم، ذكر في أوله أنه كان من محفوظات السلطان مراد الرابع، فطاب أبو الهدى بهذا الكتاب نفسا وأخذه من المكتبة واحتفظ عليه. فلما كانت المذبحة الأرمنية التي وقعت سنة 1894 رفع هذا الكتاب بنفسه إلى عبد الحميد، وإذا فيه إشارة بالحمرة على بيت من الشعر هو هذا:
ويحترق الأرمني الخبيث
بما كان أضمره فاستعر
فكان هذا معوانا لعبد الحميد على الجهل؛ فقد شد به عزيمته وأمضى مضاربه وباء بحسن الجزاء من عدو الناس وجزارهم، وظهر لمن اتبعه من الجاهلين ظهور الأولياء.
أجل، تكلم أبو الهدى كثيرا في أمر الخلافة حين حفلت مجالسه وأقبل عليه بالسمع أشياعه، فقال إن الخلافة كانت عربية وينبغي أن تبقى عربية، ولم يبال بمن ينقل عنه هذا الكلام إلى عبد الحميد. وهذا غاية في المكر. ود أن يرتاب عبد الحميد في أمره ويتوهم أنه يعمل على غصب الخلافة منه ليزداد خوفا وليعيش معه على المسالمة. هذا وأبو الهدى أعلم الناس بأمر الخلافة وبعده عنها، ثم لم يكن كلفا بها كلفه بادعاء الكرامة.
وما كان أكثرني تعجبا من دراويشه حين يذكرون له كرامات لا يصح تصديقها في مثل هذا العصر، زاعمين أنهم رأوها رأي العين. أخبرني كمال الدين الدمشقي أن العقارب في بيت أبي الهدى لا تؤذي أحدا، وأنه نهى دراويشه عن قتلها، فقال: دعوها لن يصيبكم منها أذى، وقال: كثيرا ما ننام الليل وفي فراش الواحد منا واحدة أو ثنتان من العقارب، ولا يخطر لنا على بال أنها ستؤذينا. وحدثني أبو الخير وهو خليفة أبي الهدى قال: بينا نحن مع السيد في أحد أذكاره إذ أخذته سكرة، فعمد إلى حسام كان على الأرض فأغمده في صدر أحد الدراويش حتى لخرج النصل من ظهره شبرا، فأخذ منا الروع مأخذه، فما هو إلا أن استل الحسام وبصق على موضع الجرح فالتأم لوقته ولم يترك له أثرا.
هذا الذي أراده أبو الهدى في حياته. وقد نال منه ما نال، وبمثل كلف المتمهدي في السودان ومن ظهر باليمن، ولو طالت أيام الاستبداد ومات أبو الهدى في دولته بعد سنين لكان قبره كقبر الولي يزار وتقام فيه الصلاة، ولألف له من يسيرون على نهجه من بعده كتبا يذكرون فيها من كراماته ما فاته في أيام حياته. على أن ما بناه الباطل يهدمه الحق، وفي إقبال الحظ ورفعة الدولة ما يسهي المرء عن الصواب، ومن رأى أبا الهدى في أيام عزه وشهد مصرعه بعد إعلان الدستور علم أن الباطل مهما طال قصير. وليت هذه العظات تنفع أبناء الشرق فيقلعون عن الاستمساك بتلك الأضاليل التي خذلت السلف وأشقت الخلف، ولا يعتمدون إلا على الجد في أمورهم.
اللورد كرومر وأحرار العثمانيين
خير ما يقال عن اللورد كرومر أنه كان أبا مشفقا للمصريين وظهيرا كبيرا لأحرار العثمانيين، قدم مصر زمان أشكلت أمورها وجمت مخاوفها فشد أزرها وأنهضها وسط مخاوفها ووقف بها على حد التصافي، فكان لها كالطبيب النطاسي، كلما شكت وجعا بادرها بالدواء بما يزيله، وظل إلى يوم فارقها يتحدث بفضله من عرفوا حسن مقاصده، وأدركوا مبتدأ أمره، غير أنه بلي بقوم لا يشكرون صنيعة وإن جلت، ولا يحمدون حالا وإن صفت، فنالوا منه وسفهوا عليه، فكان حظهم من ذلك كله أن قال الناس إن هؤلاء ليسوا أهلا للحكومة. ما أصاب مصلح مصر من كيدهم سوء، بل زادت محبته تمكنا من قلوب محبيه، وزاد أهل السداد إعجابا بحلمه كما زادوا إعجابا بحكمته.
ثم قضت الضرورة أن يسلك اللورد كرومر مع بعض الجهات المصرية طريق الخشونة، ردا للشر بالشر، فلما جاء فرمان الخديوية لأمير البلاد أبى الإذن بتلاوته قبل الاطلاع عليه، ثم طلب تغيير بعض أحكامه فيما يتعلق بالحدود بين مصر والبلاد العثمانية، فأذعن لذلك الباب العالي بعد جدال طال أياما، وأصر على طلب إخراج عبد الله النديم من القطر المصري، وأسقط الوزارة الرياضية الأخيرة، ولم يشأ قبول الوزارة الفخرية، فسقطت بعد أن عاشت أربعا وعشرين ساعة. هذه أشياء يؤاخذ عليها اللورد كرومر من لم يعرف كيف وقعت. أما الذين خبروا الأمور وعرفوا أنه أحرج في حلمه واضطر إلى ركوب هذا المركب الخشن؛ يقولون إنه لم يفعل إلا بعض ما يجب عليه. وأنا ذاكر هنا ما جربته بنفسي من كرم طباعه وما عرفته يقينا من مؤازرته لأنصار الحق .
مصلح مصر «اللورد كرومر».
كانت بعض الجرائد الإنكليزية كتبت في وصف الجنس التركي فصلا هو غاية في الذم، ثم ظهرت بعض الجرائد الحرة العربية فحذت حذوها. أما الجرائد الإنكليزية، فكانت ناطقة عما في فؤاد المرحوم المستر غلادستون، فأرادت كشف الغطاء عن مساوئ الحكومة المستبدة التي انقلبت. غير أنها جعلت لومها خاصا بالترك قياسا منها بأن الترك هم أولو الأمر في تلك الحكومة. وأما الجرائد العربية الحرة فكان كلامها كلام من تجرع مرارة الظلم وعاش تحت أثقاله حتى عيل صبره؛ فهو كلام عثمانيين يشتكون عثمانيين. فآلمني كلام الفريقين وأوهمني اتفاقهما في البيان أن هنالك قصدا آخر. فشبت الحرب يومئذ بيني وبين إخواني أولئك، وبالغت في التحامل على أصدقائي الإنكليز، ولما أنشأ مراد الطاغستاني ميزانه وادعى الرئاسة على الأحرار زدت لهم بغضا وذلك لأمور نقمتها على الطاغستاني لا أذكرها في هذا الكتاب لكيلا يشوبه شيء من أشياء لم تكن إلا بين شخصين؛ وبذا خسرت ود كثير من إخواني العثمانيين مثل الفضلاء أصحاب المقطم وخلاني النجباء وفي مقدمتهم الكاتب التركي الشهير علي سعاد بك وسليم سركيس أفندي صاحب المشير وغيرهم؛ إلا أن صاحب المشير لم يشأ أن يجعل خلاف الرأي خلافا قلبيا، فكنا عدوين في مناظراتنا وأخوين في معاشراتنا. ولقد حفظ غيبتي ووفى لي بوده. وأصاب اللورد كرومر من قلمي ما أصاب إخواني العثمانيين.
هذه أشياء أذكرها مع ما أجد بذكرها من الألم لتكون عبرة لغيري فلا يقع في مثلها كما وقعت فيها. وإنما يحزنني منها أني أسأت الظن بقوم هجروا بلادهم لينقذوها من الظالم المستبد، وأني ظننت بالظالم خيرا فأخلصت له الود. كل ذلك أنفة أن يكون مثل الطاغستاني من حماة وطني وثقة مني بأن للطاغستاني آرابا يسرها بوطنيته الظاهرة. وشاء الله أن أزور وطن ميلادي الآستانة، وأشهد مصارع الشهداء من إخواني الأرمن، وأقف على حقائق كانت عني غامضة. ورجع مراد وترك زعامة الأحرار، فعدت إلى مصر وكان عبد الحميد أصدر إرادته بجعلي مراقبا للجرائد مكان عبد الله النديم بعد موته ، فاستقلت بعد أن ذكرت الجرائد في أقسامها الرسمية خبر تعييني.
ويروق لي أن أذكر هنا واقعة حال جرت لي؛ ذلك أن المعية أنفذت إلي أحد مستخدميها في عصبة لا أعلم من رجالها إلا نفرا قليلا، وأنا إذ ذاك بالإسكندرية أريد السفر إلى الآستانة لأرى عما لي كان هناك. فجاءني الرسول في عصابته ليلا وجعل يتوعدني بالضرب والتحقير إذا أنا لم أكتب له ورقة أقول فيها إن كل ما أدافع به عن عبد الحميد زور وبهتان. فكتبت له الورقة التي طلبها ودفعتها إليه، فلما كان الغد رجعت إلى القاهرة وقصدت إلى قصر الدوبارة ومعي اثنان من أصحابي، فاستقبلنا المستر «بويل» وأظهر لنا من البشاشة والظرف ما لا أنساه له إلى اليوم، وقام اللورد كرومر بمناصرتي خير قيام، وبقيت الإمارة لا تدري كيف تتحامى نبالي وكيف تخفض شماسي، ولو كان اللورد كرومر وسائر إخوانه الإنكليز ممن يسرون الأحقاد لأغضى عن شكاتي ولأخرجني من دار حكومته على أسوأ حال. هذا جميل لا أزال أذكره له وأشكره من أجله كلما هبت الشمال من بلاده تحمل أرج السلام، ولأسجلن وده في فؤاد لا يكتم ما يخجل صاحبه ولا يضيع بين مكنونه شيء من الجميل.
وما لاقاه المقطم من أعدائه أعظم؛ فكم تآمروا عليه جماعات وقصدوا إلى إدارته ليضربوا أصحابه ويلحقوا بهم كل سوء فتعجلتهم الحكومة المصرية بحماة الأمن، ففرقوا المهاجمين ودفعوا عن المقطم شرهم. وكم حاولت حكومة الاستبداد كسر تلك الأقلام التي نمقت ديباجة المقطم والانتقام ممن صرت في أناملهم، فحال اللورد كرومر بينهم وبين ما يشتهون.
ولما طاردت الحكومة المستبدة صاحب المشير وجدت في طلبه بما في ذرعها من وسائل الشر، وخاف ذاك العثماني الحر على نفسه بغيها؛ لم يجد أمامه من يستصرخ بعد له مثل اللورد كرومر. وإني لأقتبس من آخر عدد للمشير صدر بعد إعلان الدستور ما جاء بقلم صاحبه في حكاية واقعة، قال: دخلت ووقفت بحضرة الرجل الجليل فقال: ما هو مذهبك؟ - بروتستاني. - من عادة البروتستانت أن يعلموا أولادهم الكتاب المقدس ، فأنت عارف حافظ لآياته. - نعم. - ألا تذكر قول الكتاب والأنبياء: «لا تقل شيئا في رئيس شعبك.» و«يد الله على قلب الملك» ... إلخ؟ - نعم، أذكر ذلك. - ولكنك تطعن على حكومتك طعنا جارحا؛ فإنني قرأت بعض مقالاتك (وكان المشير يومئذ يصدر باللغتين العربية والإنكليزية). - لو علم الرسل والأنبياء بمثل هذه الحكومة ما قالوا قولهم.
فتبسم، فقلت: جنابك تقرأ عن مصائبنا في الجرائد ثم تنسى. وأما نحن فنشعر بها كل حين. وترقرقت الدموع في عيني. فسكن روعي وصرفني قائلا: إذا طلبوك فأنت لا تزايل مصر إن شاء الله.
فانصرفت مسرورا، حتى إذا كان المساء دعيت ثانية، وأنبئوني أن قد وردت تعليمات من إنكلترا بعدم تسليم المجرمين السياسيين.
وما عضد اللورد كرومر أحرار العثمانيين وأخذ بناصرهم في هذه الواقعة وحدها، ولا اكتفى من الجميل وتأييد الحق بمثل ولا مثلين، بل أخذ يواصل أعماله فيما هو ميسر له من المعروف. ولما لجت المعية في إبادة الجماهير العثمانية الحرة وأبلت في ذلك بلاءها؛ رأت أن تتم الفتح المبين بأخذ المطبعة العثمانية من صاحبها المرحوم صالح جمال. فدست له يومئذ من ساومه عليها عند أشد حاجته إليها، فلما أخذ ثمنها أو بعضه أقبل أناس من قبل المعية فعمدوا إلى أبواب المطبعة فحموها، وإلى دفاترها فختموها، وإلى رسائلها فجمعوها. وبينا هم في شغلهم بأعمالهم هذه إذا باللورد كرومر وقد طلع عليهم طلوع البدر على ركب ضل عن الطريق، فاستخلص تلك الدفاتر والأوراق وأخذها إلى دار الوكالة البريطانية، وهي لا تزال محفوظة فيها إلى يومنا هذا، وكان ممن شهد هذه الملحمة التي استعرت نارها بين الحق والباطل شقيقي يوسف حمدي يكن أحد الذين جاهدوا مع الأحرار إذ ذاك.
ولو فازت المعية بتلك الدفاتر والكتب لاستخرجت منها أسماء كثيرين من المجاهدين العثمانيين القاطنين تحت سيطرة عبد الحميد؛ فمنهم من كان مشتركا في جريدة القانون الأساسي التي كانت تطبع في المطبعة العثمانية، ومنهم من كان يوافيها بمقالاته وما يبلغه من أعمال الحكومة المستبدة. ولو عرف عبد الحميد أحدا من هؤلاء وهو يطاردهم في ليله ونهاره؛ لأنزل به نقمته ولأدلاه إلى أسماك البوسفور أو كبله بالحديد حتى تفيض نفسه ولخسرت الأمة العثمانية من أبنائها من هم عدتها ليوم شدتها.
وإن بهذه الصنائع تمكن ود اللورد من قلوب المجاهدين العثمانيين، وبها سيخلد له الثناء في كتبهم كما خلد للأمة الإنكليزية العظيمة التي منها نشأته ومنها أخلاقه. غير أن كثيرا من أهل المعرفة ومصطنعي الجميل بلوا بقوم يعادونهم حين لا داعية للعداء، كذا كان اللورد كرومر مع جماعة من المصريين، حاولوا أن يكذبوا بأقوالهم فعاله وأن يغطوا بباطلهم على حقه. وما ذلك بضائره أبدا. غدا تشهد كتب التاريخ بفضله على من ينكرونه، ويستغفر أبناء العصر الآتي لذنوب أبناء هذا العصر، وإنما حدا بي إلى كتابة سطوري هذه ما يحدو بكل ذي كلف بالحق، وما باللورد من حاجة إلى من يستنصف بكلامه؛ فقد استنصف لنفسه بكتابه الذي سماه «مصر الحديثة»؛ فهو الكتاب لا ينسيه القدم ولا تمحو سطوره الحقب. هكذا يظل منقوشا على القلوب. وإذا لم تبلغ قصيدة من الشهرة مبلغ «قفا نبك»، فلن يبلغ كتاب من الشهرة مبلغ «مصر الحديثة». وكم كتاب وكم كاتب! ما قلت العظات ولا أقصرت الحوادث في الإنذار، ولكن بعض الأفئدة لا تهتدي الحكمة إليها السبيل.
بين التابع والمتبوع
هذا العنوان يذكرني قول شاعر الأمير في مطلع قصيدة له كان قالها بعد سنة 1892 على وجه التقريب؛ وهو قوله:
جددت عهد تواصل وتلاق
وعطفت مشتاقا على مشتاق
لقد صدق الشاعر فيما قال، وكم جرى القريض على لسان بغرض ولم يرده الضمير، فوافق الواقع المقال؛ ثم مهجتان خفقتا معا، وسكنتا معا؛ فما استخف الشوق واحدتهما إلى ركوب البحر إلا أقلق الثانية حين أكرهها على الصبر، حتى إذا التقى البصر بالبصر أنشد لسان كل منهما قول ابن معمر العذري:
ولما تلاقينا عرفت الذي بها
كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
وكأن فترة ما بين عهد أبي الفداء وعهد فتاه سنة من النوم، وكأن تلك الخلات تنوسيت على مر الأيام. فيا له من يوم أغر محجل جلس فيه السلطان الخامس والثلاثون لاستقبال الأمير السابع من البيت العلوي، وفتحت أبواب «يلديز» لمن ماشى ركاب الأمير من وفود المصريين، وقيل لهم: هذه جنة الدنيا أزلفت لكم، وتلك رياضها حصباؤها الدر وترابها المسك، وتلك حياضها مترعة بصافي النمير غير آجن، ومدت الموائد وطاف عليهم مقربون يتلون عليهم بشائر من عند السلطان، وانقلبوا بعد ذلك إلى أهلهم فكهين.
الدكتور عبد الله بك جودت.
ورأى بعد ذا جماعة من خلق الله أن يجعلوا بين التابع وبين المتبوع حرمة صهر، ويجددوا لحمة نسب ألهمها الله إلهامي باشا ابن المرحوم عباس باشا الأول وزوج «منيرة» سلطانة بنت السلطان الجليل عبد المجيد خان. وكاد يستدرجها الله بمدرجة النسيان، ولكن شتان ما بين الصهرين؛ فما كان إلهامي صاحب الأمر بمصر ولا من يرجى ليحكمها. وقد أقام بعاصمة الملك العثماني وبقي عضوا بالمجلس الأعلى «مجلس والا» حتى جاور ربه في سنة 1277 بالغا من العمر خمسا وعشرين سنة. أما غيره فليس كذلك؛ فهو صاحب بلد ووارث ملك ورب حكومة لا يودع سريرها ليبدل به سرير نوم، وأميرات البيت العثماني لا يزايلن عاصمة ملك هن كواكب سمائه. وإلى هذا نظر أبو الهدى وبه استمسك عند السلطان، ولو كان بينه وبين خاطب ذلك المجد ود ووحدة قصد لاحتال له في نيل أربه ولكفاه أن يعود من الغنيمة بعد الكد بالقفل.
فلما باتت آمال المعية غير ذات نتاج وكبر عليها أن ينازعها أحد الدراويش حظوة القرب من عرش الملك بعد استنجادها بمثل جمال الدين وعبد الله النديم والشيخ ظافر وغيرهم؛ وقفت النخوة العلوية بينها وبين «فروق»، ودب الجفاء بين الأب وابنه. وفي سنة 1894 قدم مراد الداغستاني إلى مصر وأصدر بها «ميزانه»، كما ذكرته في أحد الفصول المتقدمة. فنزل بالمعية على الرحب والسعة، وأكرمت هي مثواه وأنزلته منزل التكريم، وكانت استخدمت رشيد بك صاحب جريدة «بصير الشرق» معاونا بالخاصة الخديوية، فاتحد مراد ورشيد بك مع رجل بالمعية اسمه «ع» بك، وبلغت الثقة بهؤلاء الثلاثة أن باتوا أصحاب الكلمة في صرح الإمارة ودانت لهم الرقاب وعنت لهم الوجوه، وبذا تباشر الناس وظن أكثرهم خيرا وأيقن المجاهدون في سبيل الحرية أن سيرسل الله لهم ملائكة نصره.
وإذ ضاق عبد الحميد ذرعا باستمرار الأحرار على مطالبته بالدستور ومقاضاته إلى الرأي العام بما يكتبون من كتبهم وجرائدهم، ورأى قوميسرية الدولة بمصر لا تبرم أمرا ولا تنقض رأيا وأنها شغلت عن أمورها بالصيد والقنص واقتناء الخيول ومواصلة الأسفار بين القاهرة والإسكندرية، وأنها لا تتقدم صفوف المجاهدين فيتخذها عدوة له ولا تبدي له من دلائل الإخلاص ما يحمله على الثقة بها والركون إليها، وبينا يصيح الظلم من داخل الفؤاد الحميدي؛ من لهذه المعضلات يكشف غماءها ويجلو عن يقينها؟ إذا بعزت يناديه: أنا لها. والله لأنغمسن لك في نجيعها وأخوضن أهوالها، ولأنفذن إلى أعدائك نفوذ رمياتك إلى قلوب شهدائك، وأرسل ابن هولو إلى الإمارة المصرية أن انفضي ثيابك من غبار العار وأخلصي سرك وجهرك لسلطان البرين والبحرين، ودعي قوما ينشدون ضالة أفقدها سوء المصير. فما استهلت سنة 1897 إلا استشعرت المعية بضرورة الإذعان. رأت نفسها نائية جانبا عن رضاء عبد الحميد مستهدفة لغضب الإنكليز، وهي كلما عولت على ود امرئ خابت آمالها فيه حتى أصبحت كما قال الطغرائي:
فلا صديق إليه مشتكى حزني
ولا حبيب إليه منتهى جذلي
فاستخارت أولي مشورتها، فبذلت ألف جنيه اشترت بها ما عند الأحرار الذين بمصر من بقايا آثار وأوراق وكتب وجرائد، وملأت بها صندوقا كبيرا وأنفذته مع «ع» بك إلى الآستانة. وفي تلك الأوراق نسخ من رواية «كيوم تل» باللغة التركية ابتاعتها بمائة جنيه. وأرادت المعية أن تجري حينئذ على مصداق المثل التركي «رمى طائرين بحجر واحد.» فأوصت رسولها بالسعي في حل المعضلة التي كانت استجدت في وقف «قواله وطشيوز» فوقف أمام «يلديز» ولسان حاله يقول:
لي في معاليك آمال أرجيها
فهل سمحت بإنشاد فأبديها
وما لبث المعتمد أن طير رسالة برقية من «فروق» وقعت في «المنتزه» مبشرا ونذيرا، وعاد بعد ذلك يلتمع على صدره الوسام المجيدي الثالث، وحق فيه قول القائل:
إذا كنت في حاجة مرسلا
فأرسل لبيبا ولا توصه
غير أن الأحرار لم يجملوا الود ولم يحفظوا الجميل، بل انقلبوا على مدر المال ومفيض النضار، وأصدروا جريدة «القانون الأساسي» بالعربية والتركية، بعد أن كانوا يصدرونها بالتركية وحدها، وأصدروا جريدة «عثمانلي» بالتركية والإنكليزية. وقد أفادتهم الألف ليرة أكبر فائدة فأكملوا أهبتهم واتخذوا سلاحهم ونادوا الظالمين.
ألا لا يحسب الأقوام أنا
تضعضعنا وأنا قد ونينا
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ونظروا إلى «يلديز» ومن يتقربون إليها وأنشدوا ساخرين:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا
وأبنا بالملوك مصفدينا
وبدل رضاء القصر الحميدي غضبا، ونادى مناديه سيفا ونطعا. وخذلت المعية أحلافها وأنصارها، وعاد الجفاء إلى سابق عهده، وكثرت الوشايات والسعايات، وبينا هي كذلك إذ حلت إحدى النقم بحاميها وموئلها عزت العابد، وكان أرسل أحد أبنائه إلى مدرسة من مدارس باريس؛ فاتهمه أحد أعدائه عند السلطان بأنه أرسل ابنه ليكون واسطة في مراسلته للأحرار. فبلغ ذلك ابن هولو، فبادر من وقته واسترجع ابنه وجعل يؤنبه على مخالطة الأحرار، وقال لن ترجع إلى باريس. ولكن الولد كان على علق لبه بتلك العاصمة الفاتنة، وشجته شواطئ «السين» بجسورها العالية ومسارحها الحافلة؛ فأجاب إليها داعي الصبا وطار على أجنحة الشوق لا يلوي على من خلف وراءه من أب ولا غيره، فكم من وشاية يومئذ وكم من سعاية! لو أدرج ابن هولو في تلك الأوراق التي رفعها أعداؤه ليحطوه لكانت أكفانا له ولمن يلوذ به، فكان كالشاعر الذي يقول:
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال
ولقد أفلح الكاشحون وخر عزت على وجهه، فلزم بيته وانقطع عن «يلديز» وانقطع أصحابه عن طروق داره. وقال أبو الهدى وأحلافه إن ابن عزت لحق بأمير مصر ولجأ إلى عابدين ورسل منها إلى القبة، فأفرد له مكان خاص به وبات ضيفا كريما بجوار مضيف كريم، فأشار على عبد الحميد جماعة من مقربيه أن ينفذ إلى مصر جاسوسا ممن يثق بهم ليتنسم له الأخبار ويطلع مولاه على ما يدور بعابدين من الأعمال؛ فقدم مصر ذلك الرسول المتنكر مستصحبا معه آخرين جربهم وعرف حسن بلائهم. فكان هؤلاء الشياطين يرصدون قصر الإمارة، وجاسوسها «ز...» يقتص أثر جماعة غيرهم، ويواصل أسفاره من الرحمانية إلى الغربية إلى الإسكندرية، ولا يدري ما قدر له في الغيب.
ولما لاحت تباشير النجح على ما دبره رجال عبد الحميد طلبوا المزيد، وقالوا: إذا رميت فأجهز. فاستفزوا جمهورا من أهالي جزيرة «طشيوز» واستقدموهم إلى الآستانة مشتكين مما لحق بهم من الضر بقطع أشجارهم، طالبين نقلهم من الجزيرة إلى موضع يكون بمعزل عن هذا الاعتداء، فكتبوا بذا عريضة وقالوا في وقف «قواله» ما لا أحب أن أقوله الآن. فوقعت العريضة موقع القبول عند خاقان البرين والبحرين وطيب نفوسهم ووعدهم النظر في أمرهم والأخذ بناصرهم، وبقي واحد من الجمهور بالآستانة ليأتيهم بما يتجدد من الأنباء.
وقد حدثت أمور في دائرة الأميرة الجليلة الطيبة الذكر عصمت هانم بنت المرحوم الأمير طوسون باشا. وتلك الأمور هي فيما يتعلق بالأعمال الإدارية. فقضت الحاجة بسفر الجنرال أحمد جلال الدين باشا زوج الأميرة إلى مصر للنظر في مهام تلك الأمور. فظن رجال «يلديز» وخلصاء قصر الإمارة أن سيقدم الجنرال مصر ليخاطب أحرار العثمانيين النازلين بها في العودة إلى الآستانة. ومنهم من أذاع بين الناس أن سيكون للجنرال موضع بالقوميسرية العثمانية ليرقب الغازي مختار باشا ويستطلع خفايا أعماله تخرصا وتلفيقا. فبادر «م. س» باشا وأنفذ إلى صديقه «م. ش» باشا كتابا يستبطئ فيه أعماله ويذم سكوته وسكوت قصر الإمارة ويظهر التعجب من تغافل صاحبه عن هذه الفرصة التي سنحت لاستعادة الصفاء بين التابع والمتبوع بعدما بلغ التجافي حده، ويعده بالرتب العالية والهبات الجذلة. وما اتصل هذا الكتاب بيد «م. ش» باشا إلا ترك شواغله وانصرف عن همومه، واستدعى إلى داره صاحب «عثمانلي» وجعل يؤنبه على إصدار جريدته، ويقول له ينبغي علينا أن نتكتم عيوبنا عن أعدائنا وأن نستر على زلات رجالنا، فما لكم تنشرون من مساوئنا ما انطوى؟! أتريدون أن نفتضح عند خصومنا فنعيش مذممين على ألسنتهم منتقصين في أعينهم؟! وعند سلطاننا لو شئتم ما يفرج المكروب ويحيي ميتة الآمال. فكان مخاطبه يسمعه ويتبسم ويقول: إن مع العسر يسرا.
أما الجنرال أحمد جلال الدين باشا فلم يأذن له عبد الحميد بالسفر، وقال له: أنا أعرف أن الغازي مختار باشا حاسد لك، وأعرف أنك صلب في عنادك، وأخشى أن تذهب إلى مصر فيقع بينكما ما يستحدث أمورا عظيمة، فأخر سفرك في عامنا هذا، وربما تدبرت لك في سبب جديد يؤدي إلى مقصودك. فلم يجد الجنرال بدا من الرضاء.
وروي أن ابن هولو لما كثر مغالبوه وبدت لمنازليه مقاتله عمد إلى مصاولتهم بكل حيلة يتنبه لها ذهنه، ولو كان فيها خراب الملك ودثور آثاره؛ حتى عرف ذلك الأجانب قبل العثمانيين، فقال له ذات يوم المسيو «كمبون» سفير فرنسا بالآستانة إذ ذاك: عجزت دول أوروبا عن حل المسألة الشرقية في أعوامها المديدة ويوشك أن تحلها أنت فيما دون العام! ونقل هذا الكلام ناقله إلى عبد الحميد، فحقدها عليه واستبقى الانتقام إلى زمان يهون فيه الانتقام، وكان أعداء عزت والمعية المصرية واقفين لهما بالمراصيد، فلما سافر البرنس عزيز إلى نجد أقاموا «يلديز» وأقعدوها، وبالغوا في وصف ما سيتلو ذلك من الفتن، وقالوا: هو أمر الخلافة آن لأعوانه أن يجاهروا به. ثم أظهروا القلق من ذهاب الإمارة إلى جهة العريش، وما برحوا بعبد الحميد حتى حملوه على أن يأمر بزيادة الجنود في العقبة ليكونوا على أهبة إذا عاد الأمير مجتازا بالطور. فأيقن الحزب الهدائي أن النصر حالفهم وأن قد عقدت رايات المجد على سيدهم. وسخر الله للصيادي أمرين تذرع بهما إلى الإثراء والإيقاع بأعدائه؛ فقصد إليه أولياء وقف «طشيوز» وكالوا له المال كيلا، ولحقت بهم دائرة البرنس حليم طالبة مظاهرتها في قضية العلماء والسيدة نزاكت هانم قبل أن نظرت بالمحكمة المختلطة بمصر في 14 فبراير سنة 1898، ووجد خليل الله هنالك صدرا رحيبا ومنزلا آهلا، وحملت الهدايا البلورية من «كارلسباد» وكان الأمر مقضيا.
وبينا أبو الهدى وشيعته في غرورهم يفرحون بما حل بعزت وأعوانه من خيبة وخسران إذ روعهم الله بالسفرة الشكيبية، فنزلت على رءوسهم نزول القضاء المبرم، فبدلوا بأنس القرب وحشة النوى، وبخفض العيش عناءه، وطارت الرسائل البرقية بين السيد الصيادي وحبيبه بمصر؛ فانتعشت أرواح عزت وحزبه وأخذت الحظوة مأخذها الأول. فأصابت الإمارة المصرية حظها وقالت: لست بتاركتك يا «يلديز» هذه المرة، واعتصمت بحبل منها لا يرث بتقادم الزمان وتقلب الحدثان. ولقد صدق المتنبي إذ قال:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
ولا يطمعن القارئ الكريم في بيان شيء من السفرة الشكيبية؛ فتلك قصة تكفي فيها الإشارة ولا يحتمل الأدب من أمرها أكثر من الإشارة.
وقد رأى بعضهم هم المعية ونصبها في استرضاء أناس من الأحرار العثمانيين وإسكاتهم، والسعي في إرجاعهم إلى الظالمين؛ ليجزوا نواصيهم ويرتاحوا من صراخهم المستمر لإيقاظ الأمة، فأجمعوا بينهم على أن يدعوا وجود جمعية سرية بمصر تسمى «جمعية شفق»، وأن هذه الجمعية ذات شأن عظيم، وأن لها من الأسرار ما لو كشف عنه الغطاء لحارت فيه العقول، فطربت المعية لهذا الخبر طرب الثمل وقالت في نفسها: الآن دار فلكي سعدا وأتاني الدهر مسالما. غدا أستطلع هذه الخفايا وأبعث بها إلى «يلديز» كعبة الآمال. وما كان إلا مثل رجع الطرف وإذا على أبوابها أقوام أكلت السنة الممحلة غواربهم ومناسمهم، أقبلوا يدفع بعضهم بعضا، فقيل لهم: هاتوا ما عندكم من الأسرار، قالوا: بل هاتوا أنتم ما عندكم من الدنانير وأسمعونا رنينها في أكفنا وأرونا لمعانها بأعيننا، فتلك المفاتيح لهذه الكنوز، فانفتحت لهم ميازيب الجو تهمي نضار خالص، وما ناب المستخبرين من «شفق» إلا احمرار بقي كالورس على وجوههم.
وقد كاد يفوتني ذكر «الماركي» المشهور الذي كان معتمد إحدى الدول العظمى بمصر؛ فلقد كان مستشار الإمارة باطنا وصديقها ظاهرا، وثقت بوده وأخذت برأيه حتى أحدث الجفاء بينها وبين اللورد كرومر، وكان «الماركي» يبشر الإمارة بقرب خروج الإنكليز من مصر، ويعدها من لدن حكومته بالنصر التأييد، فذاع بين الناس أن هذا المستشار أشار على الإمارة بالسعي في انتحال الخلافة ، مظهرا لها مكان الدولة العثمانية من الخطر، مذكرا إياها بأن الخلافة أخذت من مصر وأنها ستعود إلى مصر، زاعما أن دولة أيدت محمد علي الأول حتى تبوأ سرير الإمارة المصرية الجديرة بأن تتوج سليل مجده بتاج الخلافة، فوقعت هذه البشائر من القلب الفتي وقع القبول، ولكن عظم المطلب وقلة الأنصار ثنيا عنان الصبا. وهنالك لعبت أنامل الرقباء فجاءت الأنباء ساكن «يلديز» وفيها من الزيادات ما قدر على إيجاده أربابها، وكان من تلك الزيادات أن المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني والمرحوم عبد الله النديم المصري سبقا الناس إلى إقرار البيعة بالخلافة الجديدة للخليفة الجديد.
وليس في قراء كتابي هذا من يكون نسي كيف كان غضب عبد الحميد وكيف حظر على الإمارة المصرية أن تزور الآستانة، كما أنه ليس بينهم من نسي كيف ساء هذا الغضب المعية المصرية، وكيف بذلت جهد طاقتها في استرجاع الرضاء الحميدي. لو شئت أن أستقصي تلك الأعمال لرأيت هذه الصحائف أضيق من أن تسع قليلها. غير أني لست تاركا كل ما أعلم. ولا أريد أن أخرج من هذه الدنيا كاتما حقا أنا من شهوده، وتأبى ذمتي أن يعلن الدستور العثماني وينقرض أشياع الاستبداد، فيظهر بعد ذلك بعضهم مغالطين قائلين: الآن نلنا المراد، هذا عيدنا ويوم فوزنا، وما هو بعيدهم ولا بيوم فوزهم لو أنصفوا قليلا.
نعم أن المعية حاربت أحرار العثمانيين وحاربت حرية الأمة العثمانية بأسرها. هذا أمر ينبغي أن يسطر في تاريخها؛ فهي هي التي استعانت على جماعة من شبان العثمانيين بذهبها وحاجتهم وقد قطع عنهم المدد وامتنع عليهم الرزق. فلما غلبتهم على أمرهم وجهتهم إلى الآستانة. وقد اتخذت ذلك عادة لها، فصارت كلما صفا ما بينها وبين «يلديز» زادت في الاقتراح؛ فيوما تطلب الفوز بوقف ويوما تطلب الإنعام بقصر. وكلما تكدر ذلك الصفاء عمدت إلى استغواء أناس من أسرى الاغتراب ومطرودي الحظ؛ فقدمتهم على مذابح الظلم.
وإلى القراء أسماء إخوان لي عرفتهم بالآستانة وبمصر، ثم التقيت بهم في سيواس، وقد نفوا إليها بعد أن توسطت المعية في عودتهم إلى الآستانة، وضمنت لهم ألا يمسهم بها سوء.
فائق أفندي الملقب لقصره ب «كوجك فائق»؛ أي فائق الصغير، شوقي أفندي، صلاح الدين أفندي، فائق أفندي، خالد أفندي، توفيق أفندي. وقد أرسل مع هؤلاء مصطفى وجداني أفندي، ولكنه نفي إلى جزيرة رودس ونفي أيضا ستة آخرون إلى جهات مختلفة، وهؤلاء كلهم أحياء يرزقون. أقاموا نحو العشرة أعوام فوق جبال سيواس يلاقون من مشاق الاغتراب وآلام الظلم ما لا يصبر عليه غير المجاهدين. وما قيل في المعية لهم إننا مشترون ذممكم ومساوموكم في وطنكم بالمال، بل قيل لهم أنتم أنصار الحرية وجنودها المتطوعون، ونحن معجبون بما أنتم قائمون به من مناصرة الحق والذود عن الوطن، ولكن تعلمون أن مثل عملكم يحتاج مالا كافيا ورزقا موصولا، وأكفكم اليوم صفر من المال، وإذا طال الأمر ربما كنتم عيالا على إخوانكم الآخرين. وعندنا الرأي الصواب، أن ترجعوا إلى بلادكم وتكفوا أنفسكم ذل الحاجة في هذه البلاد التي لا تعرفون لغة أهلها، ولا تجدون لكم فيها من الكسب ما يقوم بأمر معاشكم، ولكم علينا أن نستعطف عليكم السلطان. فإذا جاء عفوه ذهبتم إلى وطنكم وهنالك تتقاضون من الرواتب ما تجعلون بعضها إعانة لسائر إخوانكم المجاهدين. فإذا تأمل المنصف في متكلم هذا الكلام ونظر إلى حال سامعيه، وفيهم أناس لم يذوقوا طعاما منذ يومين - قد سخر منهم أهل مصر وقالوا: هؤلاء الصعاليك يريدون أن يصلحوا الدولة العثمانية - عرف كيف كان اضطرار أولئك الغرباء المجاهدين إلى الرجوع، وكيف كان فوز المعية عليهم.
وقد أوفدت المعية بعد ذلك بعض أبناء «بدرخان» باشا الشهير إلى الآستانة، وكان لها مع أحدهم واسمه صالح بك حرب عوان وشأن لا كالشئون.
وأين هذا من واقعتها مع المرحوم محمود باشا «الداماد» وولديه الأميرين الحرين؛ فتلك لعمر الذمة إحدى الكبر؛ رأت عبد الحميد يجتهد في استرجاع ذلك المجاهد العظيم إلى الآستانة لينتقم منه، ويصب عليه وعلى ذويه أسواط عذابه، وكان الداماد بباريس، فخفت المعية إليه واستقدمته إلى مصر واعدة إياه بمؤازرته وتخفيف حاجته ليواصل جهاده مكفي الحاجة مطمئن الفؤاد، فخدعته ظواهر المقال، وأقبل مع ابنيه يؤم منزل الكرم وينزل بساحة المجد، ثم أقام أياما لقي فيها من أقلام السفهاء وأحلاف الباطل ما استكت له مسامعه. وما راعه إلا قائل من المعية يقول له ارجع إلى الآستانة، ولك علي أن أطلب لك العفو، فما بلغ هذا الكلام سمع الأمير صباح الدين أكبر أنجال الداماد إلا تطاير الشرر من عينيه، وقال لأبيه: إذا كنت تنوي الرجوع فأنا لا أنوي الرجوع، وخرج من عنده حنقا وسافر من ساعته إلى باريس مستصحبا معه أخاه، واضطر والده الكريم أن يلحق به إلى عاصمة الحرية، وبقي يواصل فيها جهاده مع شبليه حتى قبضه الله إليه.
كذا كان ما كان بين التابع والمتبوع، يختلفان فيتذرعان إلى الوفاق بكل ذريعة ولو ذهبت بأرواح العباد، ويتوافقان فيتبادلان الهدايا والتحف؛ وهي إما قصور شيدت بدماء الأمة، وإما أوراق بالية مما حبره فحول كتاب الأحرار، وإما شبان هجروا أوطانهم واستخلفوا للفقر والذل أهلهم وعشيرتهم في سبيل الوطن، فتخرب تلك الدور ليعمر قصران أحدهما صرح الخليفة وثانيهما بيت الإمارة.
ومالي لا أذكر في هذا الفصل ما وقع للمرحوم صالح جمال صاحب المطبعة العثمانية مع المعية من أجل مطبعته؛ فذلك مما يحلو إيثاره مع ما سبق بيانه من المكارم؛ فقد أتت المعية في سياستها تلك بأساليب من الخدع الحربية تصفر لها الأنامل؛ وجهت من قبلها رجلا ليشتري المطبعة العثمانية حين جرى ما جرى بين صاحبها وجماعة من جمعية العثمانيين الأحرار فيما يرجع إلى حساب المطبعة. فما برح هذا الرجل يغالي في الثمن حتى وقف عليه البيع، فأراد أخذ المطبعة بما فيها من كتب وأوراق ودفاتر، ولما أبى ذلك رجال الحزب حجز رجل المعية على المطبعة بما فيها، وكانت المعية تريد أن تستخرج من تلك الدفاتر أسماء المشتركين في جريدة القانون الأساسي، وأن تأخذ رسائل من يراسلون الأحرار من إخوانهم المقيمين في البلاد العثمانية؛ لتبعث بذلك كله إلى عبد الحميد، فينتقم هو منهم كما يريد . وقد كبر الأمر على أحرار العثمانيين، فأرسلوا بعضهم إلى اللورد كرومر يعلمونه بما هم صائرون إليه، فأخذ تلك الأوراق إلى دار الوكالة البريطانية، ولا تزال فيها إلى اليوم؛ وبذا مكن الله عدله، وخلص مئات بل ألوف من الأحرار كادوا يقعون في مخالب المفترس الكاسر لولا اللورد كرومر. وقد أشرت إلى هذا في أحد الفصول المتقدمة في معرض الكلام عن مصلح مصر ونصير العثمانيين.
ولقائل أن يقول: كانت السياسة تقضي إذ ذاك بمثل هذه الأمور، ولو أن المعية شاركت الأحرار في جهادهم لأدى ذلك إلى مسائل قد لا يصل إلى كنهها القادمون. فأقول هذا يجوز. غير أنه ليس في الناس من طالب المعية بشيء هو فوق وسعها. ولقد كان في القدرة أن تتغاضى وتترك هؤلاء المجاهدين في جهادهم غير معترضة لهم بخير ولا بشر. فإذا عذلها عاذل من جراء ذلك فالجواب هو تقول: بلادنا حرة وأنا لا قبل لي بمخالفة النظام ولو أمكن لي منع هؤلاء لفعلت. وإذا لم يكن للمعيد بد من مطاردة الأحرار واسترضاء المستبد، فيكفيها أن تكلف أحد رجالها مخاطبة الأحرار ظاهرا في الكف عن الحروب القلمية، وأن تدع ذلك يذكر لها في صحف الأخبار، فتسقط في مجادلتها حجة الظالمين.
ولكن أمراء الشرق إلا قليلهم، يحبون الاستبداد طبعا، ولهم في ذلك فلسفة لا يفلح في تخطئتها برهان؛ فقد لقنوا منذ صباهم عقائد من قوم يفتون بتحريم الشيء في يومهم، ثم يفتون بتحليله في غدهم، والحال واحدة ومأخذ الحكم واحد. فأيقن هؤلاء المسيطرون المتألهون أن الله خلق العامة من أجل الخاصة، وخلق الرعية لتؤنس الملوك في وجوههم؛ فكيف يطمع بعد ذا صاحب عقل أن يدخل ذرة من الإنصاف في تلك القلوب؟!
يسافرون إلى أوروبا أم يؤتى لهم بأساتذة أوروبيين ليتعلموا منهم ما يتعلم أمراء أوروبا، لا يفلحون؛ سواء عليهم علموا أم لم يعلموا، أنصفوا أم ظلموا. هم الملوك يجب أن يقدسوا، وأن يقرن ذكرهم إلى ذكر الله. وإذا لم يكن ذلك كذلك، فما لهؤلاء المؤرخين يذكرون لنا في كتبهم عواقب ما صار إليه الباغون. أكانت بينهم وحدة مصلحة، فتواطئوا على الكذب وافتروا إثما وبهتانا على ملوك زمانهم، أم هذه زيادات تخرصها المتأخرون؟
هذه صورة الرجل الحر، العثماني الصادق، حسين بك طوسون، أحد نخبة الضباط الذين يفتخر بهم الوطن. وقد فاتني ذكره سهوا في عداد إخوانه الذين خلصهم من الأسر غير مبال بما يقع فيه من الخطر. وقد فر إلى أوروبا ثم عاد مختفيا كما يراه القارئ في صورته هذه، وبقي سجينا حتى أعلن الدستور، فخرج من السجن بهذا الزي الجركسي الجميل.
وكان عبد الحميد رجلا جاهلا لم يتذوق لذة العلم، ولم يتحل بشيء من الفضل، وكان يكاد يكون أميا. ولقد بلغني أنه لم يتمكن من قراءة أية ورقة من غير أن يساعده عليها مساعد. ولقد زار بعض العواصم الأوروبية مع عمه عبد العزيز، فشغل بتجسس أخيه المرحوم السلطان مراد عن أن يستفيد شيئا من آثار العلم والصناعة في تلك الأقطار. وما نشأ إلا في قصر تضاحكه الولائد في حرمه، ويسجد له المماليك لدى بابه. فإذا جلس جلس إليه المتفيهقون الثرثارون وعلى رءوسهم تلك العمائم التي لا أجد ما أشبهها به غير رءوس البصل، فيفيضون له في وصف الحور والغلمان، وكيف تزوج بهرام جور بنات السبعة ملوك كما ذكر في كتاب «هفت بيكر» وما كان من قبيله. غير أن صاحبنا ليس كذلك؛ فهو أمير أدبه أبوه فأحسن تأديبه، وراضت شبابه مدارس الملوك، وأخذ ما عرف من علومه عن أساتذة من رجال الفضل ونخبة أهل البلاد المترقية في العلم. أما لو كان عبد الحميد موزورا فما صاحبه بمأجور.
وإني ممن لاحظتهم العناية وخطروا على باب الإمارة؛ فقد سعت للإيقاع بي وأنا بالآستانة، ووشت بي إلى عبد الحميد، فأحلني السجن ونفاني بعد ذلك إلى سيواس كما سيأتي ذكره في فصل خاص، فلها علي حق الكرامة ولن أبرح أشدو بتلك المنن حتى يذهب ربيع الحياة.
كل هذه الإحن كادت تنطوي صحائفها ويسدل عليها ظلام النسيان. ورأيت قوما يطرون الإمارة بما لم يكن في سوابق آلائها، فقلت: يا سبحان الله! أهذا مبلغ إنصاف الناس؟ أبسمة واحدة في آن واحد تنسي بكاء مئات من عباد الله طوال الليالي؟ ورسول كان جاسوسا يصبح الآن شفيعا ويظل قبرك يا صالح جمال مهجورا لا يزوره زائر ولا يحييه في طريقه سائر؟ وتستقرين أيتها الأجسام الطاهرة في أجداثك المجهولة حزينة أرواحك في آخرتها كما كانت حزينة في دنياها، وتسير تلك المواكب خافقة أعلامها متسابقة بشائرها ويصف العثمانيون إجلالا لمن حارب إخوانهم تحت رايات عبد الحميد. يا ويل تلك الضمائر، ما أصبرها على الأذى! وما أغراها بهوى النضار!
روحي أيتها الأرواح المستطارة من أقفاص الفناء إلى فضاء الأبد، لا تتحاومي على مزدحم الآمال، ارجعي إلى بارئك مستصحبة غيرك من أرواح الشهداء في خالية العصور، قولي يا رب تبكي الشيعة على شهيد كربلاء، وتبكي كل أمة على شهدائها. وهاك أهلنا باتوا غارقين في الحداد، سر قومنا بمجد كنا سلالمه، وداسوا بعد ذلك قبورنا ونسوا بلادنا وأكرموا أعداءنا، فخذ بحقنا ما لنا سواك من نصير.
أخليتما داري أيها القصران، وأخليتما دور إخواني، وأقصيتماني سبعة أعوام طوال أتت علي في ريق الشباب وزالت عني وقد بلي الجسم، وحكمتما على هذا الخاطر بالجمد، وقد عودته على جولات طالما أعجب بها المتأدبون، ورفعتما السدود بيني وبين آمال تخذتها ذرائع إلى مكافحة الحوادث في ذودي عن وطن أنا من أبنائه، وما رجعت إذ رجعت إلا وقد أبدل البيان حصرا والشباب كبرة والبأس وهنا والأمل يأسا، ورأيت منكما المقال ورأيت منكما المودود، فإيه يا دهر يا أبا العجائب. ما أعرفك بمواضع النقص من بنيك!
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
أنا في حزب الأحرار
الوطن يشكو ظالمه
حتى م تبكي العين طال البكاء
أما لحزن بت فيه انقضاء
قد خنتني يا دهر قد خنتني
ما كنت أحجوك قليل الوفاء
إن أبد ما بي يعيني سرده
أو أخفه يزدد بطول الخفاء
ماتت أماني ولما أمت
أحيا إذن لليأس لا للرجاء
كيف أعزي القلب عما مضى
ويل لقلب ما له من عزاء
ما زلت أدعو للهدى معشرا
ضلوا فلما يجد طول الدعاء
ضاع ندائي حين ناديتهم
لو لم أضع ما ضاع ذاك النداء
هذي رسوم قد محاها البلى
وذي قصور قد علاها العفاء
فحيثما تسع تجد مأتما
باك ومبكي وآبي البكاء
ليس صباح بصباح لهم
ولا مساء لهم بالمساء
في ذمة الله رجال قضوا
طال بهم تحت القبور الثواء
لا التاج ذاك التاج من بعدهم
ولا بهاء الملك ذاك البهاء
يا أرض ميدي إنها دولة
مادت وأنت اضطربي يا سماء
تشقى «جراغان» بسجينها
ويجتلي بيعته من يشاء
يا رب هذي كعبة شيدت
ركنا وهذا خاتم الأنبياء
أساءني بينهما ظالمي
وقد كفى بينهما أن أساء
عاش المدى أرضي وطاء له
عيشا هنيئا وسمائي غطاء
أعدم قوما بت أرثيهم
وا لهفي ماذا يفيد الرثاء
كانوا غيوثي بت لا غيث لي
كانوا نمائي فعداني النماء
أقول والظلم بآفاته
يحتث للملك مطايا الفناء
لا ييأس المكروب من فرجة
ولا عليل أبدا من شفاء
العدل سلطان شديد القوى
ينصره الله بجند القضاء
هذه هي أبياتي التي استهللت بها كتابي الذي كنت سميته «مائة برهان وبرهان على ظلم عبد الحميد السلطان». أذكرها هنا لا استدلالا بها على بلاغة معنى أو فصاحة لفظ، فليس بها شيء من صناعة الكلام سوى الوزن والروي، وإنما أريد أن أستعيد ذكر أيام خلت كان فيها هذا اليراع شاكيا ولم يكن مثل يومه حاكيا.
في اليوم الثاني والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1897 دخلت إدارة المقطم وولجت مكتب الأستاذ الدكتور فارس نمر، فنظر في وجهي مليا يريد أن يتعرفني جيدا، فقال: هل من حاجة فأقضيها؟ وكان يحسبني أتيت المقطم لعمل من أعمال الإدارة، فدفعت إليه مقالة عنوانها «نرجع إلى الجواسيس»، فلما وقع نظره إلى الإمضاء مد نحوي يمينه مصافحا وقال: أهنئك بتطوعك لخدمة الوطن، وأهنئ الوطن بقلمك. وأسس الله المودة في قلبينا منذ ذلك العهد.
ولقد قلت في آخر تلك المقالة ما أنقله إلى هذا الفصل بحرفه ؛ وهو :
هذا قلم أرن القوس صائب الرمية، عرفه من هنالك. فلأجرينه حتى لا تبقى من دار الظلم لبنة على لبنة وبياض على سواد، ولأسيرن قوارعه شزبا في كل قاتم الأعماق شاسع الأطراف، إلى أن يقول نصير الحمية لبيك، ونستريح وإخواننا مما نحن فيه.
على أنني لم أنل شرف الاستمرار على خدمتي، وكان خلاص الوطن على يد قوم رآهم الله أجدر مني بهذا الفخار.
أجل قد طهر الله حزب الأحرار من مراد الداغستاني، ولو بقي فيه لما سطرت في مناصرة الأحرار حرفا واحدا؛ فقد كان عبد الحميد ظالما، وكان مراد محتالا، وكان عبد الحميد يحب الواشين، وكان مراد يود ألا يكون له واش غيره، فلم ترض نفسي أن أجتمع معه ولا على خدمة الوطن وخلاصه. هذا عناد يؤاخذني عليه كل ذي إنصاف، ولكنني لا أستطيع له إنكارا، ولتبقى لي هذه الجناية مسطورة في سجل آثامي بهذا القلم الذي أصبح غازيا في حرب الاستبداد.
ولقد قضت عثمانيتي أن أقف إلى جانب المجاهدين من أبناء وطني حين خفتت أصوات كثيرة، وخيل لي عجب الشباب أني أستطيع أن أنفع بلادي، فشاركت يومئذ الأستاذ الفاضل محمد أفندي قدري العثماني في كتابة بعض الفصول بجريدة القانون الأساسي، فساء ذلك رجال الاستبداد، ورفعت القوميسرية العثمانية تقاريرها إلى عبد الحميد حتى خيل له أن ولي الدين إذا استمر على الكتابة قامت القيامة، فقصد سكرتير القوميسرية محسن بك منزل العم إبراهيم باشا يكن وطلب إليه أن يكون وسيطا له في إسكاتي، فكان جوابي له جواب من لا يتزحزح عن موقفه، وواصلت الاجتهاد بعزم أشد التهابا وأمضى نفوذا.
ثم جاء مصر أحد وكلاء الدعاوى، وخاطب في أمري كثيرا من الناس، فمنهم من تخلى عن مشاركته ومنهم من أراد مشاركته، ولكن غير واثق بالنجاح. فقابلني ذات يوم رجل من رجال الصحافة وقال لي: أرجوك أن تغدو علي غدا في داري؛ فإن عندي رجاء إليك أريد أن أحملك قبوله، ولكن لا بد من التكلم معك كلاما طويلا حتى تعرف حقائقه. ولما كان الغد ذهبت في الميعاد المضروب إلى دار ذلك الداعي. فإذا هو يتطلب المقدمات لمحادثتي في الأمر الذي دعاني من أجله، فتعرفت ذلك في وجهه، فقلت له هات ما عندك موجزا فإن وقتي لأضيق من أن أضيقه فيما لا يجدي، قال: جاءني منذ يومين صديقي فلان؛ وهو من وكلاء الدعاوى بالآستانة. وقد أسلمني مقالة شديدة الطعن يزيف بها أقوالك في ذم السلطان ورجاله، وفيها من الأدلة على بطلان دعاواك ما لا يدحض، وطلب مني نشر المقالة في جريدتي، وأنا استمهلته إلى أن أراك وأخاطبك في ترك الخصام وأدعوك إلى الهدون. فما رأيك في ذلك؟
قلت: إني ليحزنني أن تؤخر نشر مقالة ربما كانت لك من ورائها منافع. هذا وينبغي لرجال الصحف ألا يحابوا فيما يظنون أنه الحق. وأنا أقرأ ما تكتبه. فإذا رأيتك مصيبا فيه اعترفت لك بالحق ورجعت عما يتبين لي أنه باطل. وإذا رأيتك مخطئا رددت عليك قولك أو تركتك وإياه جانبا وآثرت السكوت. وليس من الإنصاف أن تهمل نشر مقالة تعرف أنها ناطقة بالصواب وتدع صاحبها ينتظرها بغير طائل.
قال: أنا لم أخدع صاحب المقالة، وكما أنك صديقي هو أيضا صديقي، ولكني أردت أن أقرب بينكما وأن أجعل اتفاقكما بالحجة.
قلت: ما لي وله؟! كل يعمل على شاكلته. وإذا كان صاحبك يرى عبد الحميد بريئا مما يوصم به فليبق كذلك، لعل له عذرا ونحن نلوم، ألا ترى أنني أقمت زمنا أدافع دون عبد الحميد، ولم يرجعني عن الإخلاص له جدال ولا دليل إلا ما رأيته بعيني وجربته بنفسي. وعسى أن تعلم الأيام صاحبك من مثالب سلطانه ما يقلل أنفته ويكسر من عزمه، ثم هممت أريد الانصراف، فأمسك مخاطبي بذراعي قائلا تمهل ريثما نتفق معك على أمر.
قلت: أراك غير تاركي يومنا، فماذا تريد؟ دع الإشارات وهات ما عندك من الأمر الصراح.
قال: أما وقد أبيت إلا البيان، فهاك ما عندي. يريدون أن يرجعوك إلى الآستانة كما فعلوا بمراد وغيره. وهذه فرصة لا يضيعها عاقل. وقد علمت أن مرادا مقيم هناك بحال يحسده عليها السعداء. ومن يمنعك إذا أنت أحرزت هنالك جاها منيعا أن تنصر الحق وتنفع إخوانك وبلادك؟ ولا أكتمك أن السلطان مل الاشتغال بأمر الأحرار أو كاد. فإذا هو أهمل يوما أمرهم وأرسل حبل كل على غاربه، ومحا الله آية ظهورهم، أخاف عليك أن تحشر يومئذ في زمرتهم وتلاقي من الأهوان ما يلاقون. وما لي ولهذه الأحاديث في غير جدوى، أنا ضمنت للرجل بمالي عليك من الدالة أن ألاقيك به. فهل أنت واعدي بذلك؟ فما دون الزيارة شيء لو أجبت إليها. تعال غدا ولنذهب إليه معا.
قلت: لا ضير. وفارقته على أن أعود إليه في الغد، فلما آن موعد اللقاء جئت داره فإذا هو في انتظاري، فحملني في عربته وانتهينا إلى منزل رحيب بجوار البنك العثماني في القاهرة، فاستقبلتنا سيدة علمت بعد ذلك أنها حليلة غريمي، فجلسنا إليها وأقبلت علينا تحادثنا فإذا هي شرقية مقيمة على شرقيتها في كل أطوارها، مع أدب غض وعقل راجح. وبينا نحن كذلك إذ وافانا الغريم، فرأيته قد تبادل مع صاحبي نظرتين فاجأهما مني لحظ شاعر يرمي الأغراض طائرة فيصيبها، وتم بيننا التعارف. ثم أراد أن يبدأني باللوم على ما جرى به قلمي، ولكنه وقف غير متقدم في شوطه، وأيقن أن مثله لا يجادل مثلي، فاختار الصراحة غير تارك مكره وقال: سمعت عن ولي الدين من أصحابه أنه يجل عن أن يتهم في ذمته، وأنه لا يقاس بغيره ممن كشفت الأيام عن مكنونات ضمائرهم. وقد رأيت في مقالاته ما يؤيد قولهم، ولكنني مولع بمناظرة الفضلاء، وأرى أنه لو دخل في خدمة الحكومة العثمانية وصدق في خدمتها كما تقضي به عثمانيته أتى بلاده بالخير الجزيل. أجل يا ولي الدين، إن الحكومة العثمانية في حاجة إلى إصلاح ما بها؛ فقد أشكلت أمورها واشتدت خطوبها وعظمت بلاياها، وما دواؤها إلا من كان مثلك ممن لا يخشى في الحق لومة لائم.
قلت: إن بلادا تبيت في حاجة إلى مثلي لجديرة بالرثاء، وما قدري أنا بين الرجال حتى أصلح ملكا كبيرا أريد فساده من يوم خلقه.
قال: أنت لا تستطيع أن تصنع وحدك شيئا، والجنرال أحمد جلال الدين باشا لم يسع في استرجاع الأحرار إلا لأمرين؛ أولهما: وعد السلطان له بإعلان الدستور بعد رجوعهم. ثانيهما: جعلهم في وظائف يساعدون بها إخوانهم على ذلك. ولست وحدك فتستعظم الخدمة، بل هناك آخرون ولوهم أمورا لا يقدر على تدبيرها غيرهم. ونحن لا نختار للوطن إلا من نثق بمضاء عزيمته وصدق نيته، ولو لم أكن سألت عنك الثقات من أصحابي وأتبعتك نظري على غير علم منك حتى وقفت على جلية أمرك لما سعيت في التوصل إلى محادثتك. ولك الرأي في القبول وفي الرد، ثم اعلم أنه جاءني أناس ممن يدعون الانتصار للحرية، وطالبوني بالاتفاق معهم على إسكاتهم وساوموني ذممهم، فكان حظهم مني الإغضاء عنهم. ولقد بلغت الجرأة من بعضهم أن توعدوني بذمي في جرائدهم إذا أنا لم أجبهم إلى مطالبهم، فلم ينالوا مني سوى الخذلان.
قلت: أفارقك الآن وأعود إلى بيتي فأتدبر الأمر وأتبين دقائقه، ولي من أثق بآرائهم ولا أستغني عن مشورتهم، وأنا من أنصار الشورى، فلا يجوز لي إهمالها في أموري بعدما قضيت بوجوبها في أمور الناس. ولا ألبث أن آتيك بما يقر عليه رأيي، ثم ودعته وانصرفت مع صاحبي وفارقته هو أيضا وعدت إلى بيتي.
هذه الذكرى تبعث الشجون وتقف بالمرء موقف الشك حتى في ذاته؛ فوالله ما أدري أتعجيل مغنم أم حب وطني استخفني! ظللت ليلتي مفكرا أطالع صحائف الماضي من تاريخ حياتي، فإذا بالأربع وعشرين سنة من أيام عمري إذ ذاك لا تفي باستنتاج عبرة ولا بمعرفة صواب. شباب منشؤه الشرق ومجاله الشرق، وأيام خلت بين الدفاتر والأقلام في تصوير خيالات لا حقيقة وراءها، ومكتسب نزر من العلوم يكاد لا يعد شيئا. أريد ولكنني لا أدري ما أريد ولا كيف أريد. قلت أظل أخدم الحرية حتى ينصر الله جيشها وتخفق على بلادي رايتها، ولكن الرجل أخبرني أن خدمتي تؤخر حصولها، وأن السلطان لا يضن بها إذا اختار السكوت طالبوها. قلت أذهب إلى الآستانة وأقيم فيها على مناصرة إخواني المجاهدين وأعمل على خير وطني، فلم يعدني الشك وقلت من لي بمن يضمن لي صحة ذلك. ثم من هذا الرجل الذي سخره الله لي ليقف في وجهي ويقيد يميني حتى لا تخط في سبيل الحق حرفا، ويكم فمي فلا ينطق في نصرة الحرية كلمة، وما له علي من سلطان، وأنا في مأمن من كيده إذا شاء أن يكيدني! وهل هو صادق فيما يخاطبني به؟ أم يريد أن يسرق مني فؤادي؟ ولقد نظرت إلى صور من جاهدوا في سبيل الحرية وهي معلقة أمامي على الحائط، وفيها أبو الأحرار وحاميهم مصطفى فاضل العظيم، وشاعر الوطن وشهيد هواه نامق كمال، فخيل لي أنهما يرميان إلي بألحاظ ملؤها عتاب، كأنهما يريدان أن يقولا لي أكذا حبك لبلادك؟ أنت لا أقال الله عزتك جندي خائن؛ اعتقلت سلاحك وبرزت في ميدان الحفاظ، ولما رأيت التماع النضار بأيدي الأعداء ملت إليهم وتركت من وراءك من أعوان نجدتك وإخوان غزوتك غير متلفت نحوهم، ألهذا رجوناكم يا أعقاب السوء وعباد المال وحثالة رجال البأس؟! فأقف صامتا واجما لا أدري ما أجيبهما به. غير أني قلت ليس بيني وبين الجماعة إلى الساعة أمر مبرم فأوخذ به، وأنا لو شئت لأنلتهم من بغيتهم طول الحسرة عليها، وعقدت العزم على أن أخاطب من أثق برأيه وأعرف بعد نظره.
ولما كان الغد بكرت نحو مستشاري، فأطلعته على قصتي من أولها إلى آخرها وقلت له: الآن لك حكمك.
قال: يا ولي الدين، سافر على حب الله، ومن أحب الوطن أحب الموت في سبيله. فإذا صدق القوم في وعدهم وأقر عبد الحميد الدستور، فحسبكم أن تكونوا يومئذ غارسي أعواده ومجتني ثمراته، وإن نابكم من خطبه ما عساه يكون أضمره فتلك سبيل إن منكم إلا واردها، وإنه ليسليكم أنكم ذاهبون في خلاص الوطن. ثم اعلم أن الجنرال جلال الدين لا يقاس بغيره من المقربين، أولئك يبيعون أولادهم إبقاء على حظوتهم، والجنرال لا يدخل في مأزق يشك في الخروج منه؛ وهو إذا استشعر تحت الأمر بشر يؤثر الموت على أن يعيش متهما في ذمته.
قلت: غدا يذيع بعض المفسدين بين الناس أني سافرت إلى الآستانة طلبا للمال، وأني بعت وطني بيعا.
قال: دع الناس وما يقولون، ما سلم من ألسنتهم أحد قبلك فتسلم أنت، أنت في شأنك وانفع وطنك إذا استطعت له نفعا؛ فإن كان في الناس من يعرفك حق المعرفة فقد كفيت عنده شر الملامة، وإن كان فيهم من لا يعرفك فبينك وبينه الأيام. أنت رجل بغير نصير، ولو كان لك حزب يتحدث بصنائعك ويبلغك بالمدح عنان السماء لاستقام في عليائه جدك وأقبلت دولتك، وبينا نحن نتحادث إذا بخادم مستشاري الجليل يستأذن لغريمي، فأذن له، فدخل علينا مسلما، وأطلعه مستشاري على ما خاطبني به، ولم نلبث أن تم بيننا التراضي على سفري.
ولقد رأيت كثيرا من رجال الحرية وأنصارها الذين لبوا دعوة عبد الحميد وتسابقوا إليه يرجون ثوابه، يحاولون اليوم إنكار ما كان من عودتهم ليقول الناس إنهم كانوا معذورين، ومنهم من يقول أنا كنت آخر الراجعين، ومنهم من يقول أنا لم أرجع، وكل هذا تضليل وبهتان، بلى هو أعظم من التضليل والبهتان. ويا خجلة المرء عند نفسه أن يكون منافقا وأن يكون جبانا، ووالله ما أدري ماذا يرجون وماذا يتقون؛ فإن كانوا يرجون أن يجازوا بالوظائف العالية، وأن يسير خلفهم العامة هاتفين: ليحي أبطال العثمانية، ليحي حماة الدستور؛ فهذا فخر ابتذل حجابه وبات جديده خلقا. وإن كانوا يتقون ما ينزل بالخونة والجواسيس من العقاب، وعلموا أنهم هم الخونة والجواسيس، فتعسا لهم إن جمعوا الخوف إلى اللؤم، وفي خلة منهما ما يغني عن أختها، لعمري لنعم المناط للعدل عقدة حبل تقضي بها للعدل حقه، وأنا امرؤ رجعت إلى الآستانة رجوعا ليس فيه ما يخجل الحر؛ ومن أجل هذا أقول غير مستشعر خوفا ولا آمل نفعا: لوطني مني حياتي وكل ما كان دونها على أن أعيش عثمانيا وأموت عثمانيا.
ولنرجع إلى ما كنا بصدده: كتب غريمي إلى الجنرال أحمد جلال الدين يخبره بما كان من رضائي، فجاءه الجواب بسفري مع والدتي وأخي يوسف حمدي يكن، فسافر غريمي معنا إلى الإسكندرية وفيها نزلنا بنزل «أبات». ولقد رأيت على باب النزل فخري باشا ومحمود شكري باشا. أما الأول فلم يكن يعرفني إلا اسما، وأما الثاني فكان يعرفني جيدا، ولكنه لم يكن محبا لي بعد ما جرى بيني وبين المعية. فأشار غريمي إلى الأميرين بيده واضطرني إلى السلام عليهما، فحيياني أجمل تحية وانصرفت. وقد قال محمود شكري باشا لغريمي: أما وقد أخذت هذا، فهات المدافع وارم بها أي «قصر» شئت.
ولما استقرت قدمي على ظهر الباخرة المسماة «توفيق رباني»، وأقلعت بنا تؤم «فروقا» بين آذي البحر وزبده، وأخذت يد الفضاء ويد الماء تنطبقان على البر، جرت على لساني هذه الأبيات التي أذكرها هنا لإشارات فيها لا تخفى على اللبيب. قلت:
قد دعاني داعي فروق إليها
فأجبت الدعاء حين دعاني
أنا أهوى بين البلاد فروقا
وهي أيضا بين الورى تهواني
وتمر الأيام لا أنساها
وتكر الأعوام لا تنساني
يا ربوع الهوى بأية كأس
قد سقاني فيك الهوى من سقاني
بلبل مشتك وورد سميع
انظروا كيف يصنع العاشقان
خبر الناس أيها النيل عني
واشهدا معه أيها الهرمان
لم أودعكما ملالا ولكن
وطني في خطوبه ناداني
كذلك انقضى ذياك العهد، وانطلقت بنا السابحة الهوجاء في وخدها وخببها صافرة زافرة، حتى إذا كان أصيل اليوم الخامس بعد الرحيل ارتفع لنا دخان علمنا أنه الأرض، ثم تعاقبت البيوت البيض بين الأشجار الخضر فإذا نحن بمدخل الخليج.
سلام عليك أيها الوطن، يا مأملي وجنتي، يا أيها البلد الذي لم تغيبك عن روحي مرامي النوى، ولم تتغلب على تذكري إياك ملاهي الصبا، تفقدك ناظراي في محاسن الأشياء، فإذا بك تتمثل في أشدها علاقة بالنفس، وتطلبك خاطري في معاني الكمال، فإذا أنت ديوانها المرتب، سمعت سويجع الأثلاث على مطلولة العذبات، فغلبتني الغيرة عليك ووددت لو مزجك الله بروحي مزجا، الآن أحس بالعجز عن إيفائك من الوصف حقك . لو كان كتابي كتاب رواية أو أدب لأطلت الكلام بما أقضي به بعض ما يجب علي نحوك، ولكن هل ذلك نافعي في هواك، وبي من الشوق إليك ما لو كان بالبحر لغيض ماؤه، وبالأرض لسالت شعابها.
مقامي بالآستانة في جمعية الرسومات (الكمارك)
خرجت في الفصل المتقدم عن أسلوب المؤرخ إلى أسلوب الشاعر. ما حيلتي! هاجت فؤادي ذكرى أيام مضت، وللطرب مقادير كما للأسف مقادير، وحسبي ما تقدم، قد اتأدت، وللقارئ الكريم من سجية العفو ما يستطرد قلمي على قرطاسي.
أنا ولدت بالآستانة، وخرجت منها في نحو الثالثة من عمري، ثم زرتها ما بين سنة 1895 وسنة 1896، فأقمت بها حولا كاملا، وانثنيت إلى مصر كما أشرت إلى ذلك في أحد الفصول التي مرت، وبقيت بمصر نحو الثمانية أشهر وأخذت إلى الآستانة، فكانت هذه هي المرة الثالثة التي قدر لي أن أنشق ريا تلك الربا وأعل صافي مياهها. وقد صدرت الإرادة الحميدية بجعلي عضوا بجمعية أمانة الرسومات (مجلس إدارة الجمارك).
فدخل بي في قاعة رحبة تدور بجوانبها مكتبة واحدة مصنوعة من الخشب، سوداء اللون، مكسو أعلاها بالجوخ الأحمر، وتدور معها من جانب دون جانب كراسي مصفوفة مكسوة أيضا بالجوخ الأحمر. تلك مقاعد الأعضاء، وفي صدر المكان مما يلي الجهة اليسرى من مدخل القاعة مكان الرئيس الأول وإلى يمينه مكان الرئيس الثاني واسم كليهما رضا بك. وفي المكان مكتبة صغيرة أمامها كرسي؛ ذاك مكان كاتب الجمعية يجلس فيه ويتلو على الأعضاء ما يجب أن ينظروا فيه من المضبطات وغيرها.
فلما قدمت إلى الرئيس الأول أو رضا الأول رحب بي قليلا، وأكرمني بسيجارة لم يمهلني إلى استكمالها، وأشار بيده إلى المكان الذي خصص لي (بعد أن علم أني من أصحاب الرتبة الثانية من الصنف الثاني!) فكان مكاني قريبا من باب القاعة من الجهة الواقعة على يمين الداخل. فما استقر بي الجلوس إلا وارتفعت أيدي الأعضاء مشيرة بالتحية، فأجبتهم بمثلها أو أحسن منها وظللت مكاني لا أدري ما سيكون من أمري. ولم ألبث أن جيء لي بقهوة يمانية في فنجان مذهب كبير كأنه الدلو، فجعلت أعب فيها عبا ولا أمصها مصا. وإني لأجيل طرفي يمنة ويسرة لأرى ما يصنع أولئك الأعضاء رجال الدولة الذين شرفني الله بأن حشرني في زمرتهم، فرأيت بعضهم يقرءون أوراقا متراكمة أمامهم، ثم يجعلون تحتها تواقيعهم، ورأيت بعضهم يوقعون على الأوراق من غير أن يقرءوها، ورأيت بعضهم يتسارون ويتغامزون، ورأيت بعضهم يتسللون إلى خارج القاعة إلى حيث لا أدري ما يصنعون، ثم يرجعون. كل هذا وأنا فارغ اليد من العمل، جالس كالصنم غير المعبود، فعراني السأم وكاد يتغشاني الكرى. وقد استطال لبثي كأني مجذوم بين صحاح.
فتقدم نحوي الرئيس وأشار إلي أن اتبعني، فتبعته إلى حجرة معاون أمين الرسومات. وأمين الرسومات بمنزلة الناظر والرسومات أمانة أي «مصلحة». والأمين رجل ممن أحرزوا رتبة الوزارة اسمه نظيف باشا، كان ناظر المالية. والمعاون رجل اسمه محمد علي بك، ممن نالوا رتبة البالا (تأتي دون الوزارة)، وكانت كلمة المعاون أسرع أثرا وأمره أمضى نفوذا؛ لأنه كان متزوجا أخت امرأة الباشكاتب تحسين. فدخل رئيس الجمعية حجرة المعاون ودخلت أنا على إثره، فرأيت مكانا ضيقا في صدره مكتبة أمامها كرسي عليه رجل عظيم الجثة ذو لحية أوروبية سوداء إلى اصفرار، كبير العينين وسيم الوجه؛ فقدمني إليه الرئيس، وبعد ذلك سأله عما يجب في أمر تحليفي.
فقال المعاون: لا بد من انتظار الأمين، وسيحضر غدا. فخرجنا من عنده، ولما كان الغد دعيت إلى حجرة الأمين، فرأيت فيها الرئيس ومكتوبجي الأمانة (السكرتير) والمعاون وكاتب الجمعية، يتوسطهم الأمين؛ وهو رجل طويل القامة، أسمر اللون، يحسبه من يراه أول مرة أحد كتاب بيت المال، له لحية كالرغوة، ووجه كالصك العتيق، فسألني الكاتب إن كنت توضأت، فقلت: لا، قال لا بد من الوضوء. قلت: لا أعرف كيف يتوضأ الناس. فنظر في وجهي باهتا وسكت، فأقسمت للجماعة يمينا وهذا مضمونها: «أقسم بالله لأكونن صادقا للحضرة السلطانية والدولة العلية ولا أنحرفن عن الأمانة في جباية أموال الدولة.» نطقت بهذه الكلمات واضعا يمناي على المصحف ، فلما انتهت اليمين هنأني الحاضرون وعدت مع الرئيس إلى قاعة الجمعية.
فما استقر بي الجلوس إلا جاءني الكاتب بأوراق بعضها فوق بعض فتركها أمامي. قلت في نفسي: هنا يزل قدمك يا ولي الدين، أين أنت من أعمال الكمارك، وهل هذه مثل أبياتك وفصولك، تنقش به طروسك وتتلوها على مستمعيك! فمددت يميني وأخذت ورقة من تلك الأوراق، فوالله للغة اليابان أو اللغة الهيروغليفية أقرب إلي منها فهما، لم أجد إلا أرقاما بإزائها كلمات ومصطلحات لا علم لي بواحدة منها، فتركت هذه الورقة جانبا وأخذت أخرى غيرها، لعلي أجد فيها شيئا يصل إليه فهمي. فإذا هي أسوأ حالا وأحكم عقدة، فظللت حائرا لا أدري ما أصنع. وقد اشتد ما بي، فبقيت أتناول ورقة وأطرح ورقة كأني في حانوت وراق، وأنا كلما أوغلت في الاختيار زدت عجزا عن الفهم، فرجعت إلى التي أخذتها أولا، فوقعت عليها ثم أتبعتها بغيرها، ولم أزل حتى أتيت على الجميع، وكان الرئيس يلحظني شذرا ويعجب بي ظنا منه أني أفهم هذه الأشياء. فلما آن أوان الانصراف دنا مني قائلا أكثر الله من أمثالك، ضقت والله ذرعا بهؤلاء الذين تراهم على مقاعدهم فليس فيهم من يدري ماذا يعمل، وما للجمعية منهم إلا هذا الغرور الذي تراه. وقد رأيتك تتأمل الأوراق تأمل من لا يدع لفكره شبهة في عمله، وإني لأرجو أن تكون نافعا لنا.
قلت في نفسي بعدما شكرته: اللهم هذا ثناء باطل وعبدك هذا مخطئ، وأنا أبعد الناس عن معرفة ما دعيت له، ولكنني سأجهد النفس في معرفة ما أجهله، ولو كلفني ذلك أشد النصب.
فخرجت ولم أنتظر خروج الرئيس، فمشى أمامي الحجاب يوسعون لي الطريق وأنا أحيي من يقفون لي إجلالا، وأناجي الله في ضميري أن يهب أصحاب المقطم من الضعف ما وهبني ليؤخذوا إلى الآستانة ويكونوا أعضاء بالمجلس العلمي في باب مشيخة الإسلام، وأن يكون سليم سركيس وكيلا لأمين الفتوى.
ثم مرت الأيام وأنا لا أنقطع عن مكان وظيفتي، باذلا قصارى الهمة في تعود أمورها والمعرفة بأساليبها ، فكنت أسمع بأسماء بعض الأعضاء ولا أراهم. أولئك أبناء المقربين والمحتمون بجاههم. كانوا يتقاضون رواتبهم غير مكلفين أنفسهم تعب الحضور إلى مقر وظائفهم لأخذها، بل كانوا يرسلون من قبلهم أناسا يأخذونها لهم.
ولقد تعارفت في جمعية الرسومات ببعض أعضائها معارفة لم تزد على المحادثة في حجرة «الاستراحة» وتعاطي السلام، وبقي آخرون لم أر وجوههم، وإني لأجهل إلى اليوم أسماءهم؛ فقد كنا نحو الثمانية والأربعين عضوا، ما كان يحضر منهم إلى وظيفته غير العشرين. فممن عرفتهم من أعضاء الجمعية رفعت بك؛ هو حفيد فؤاد باشا الشهير الذي توفي في فرنسا، كان فر إلى أوروبا ثم استرجعه السلطان حيث استرجع مراد بك. هو رجل حسن المحاضرة طيب الطباع، ولكنه كان مولعا بشاربيه أكثر من ولعه بأعماله؛ فما جالسته يوما إلا رأيته يبرمهما ويرفع طرفيهما تشبها بإمبراطور ألمانيا. ومنهم راسخ بك؛ وهو ابن المرحوم عابدين باشا الشهير الذي كان واليا على جزائر الأرخبيل، وذهب إلى «يلديز» طالبا الإذن في البقاء بالآستانة وجعله صدرا أعظم، فسقوه قهوة ما استقرت في جوفه ساعة حتى قضى نحبه في القصر وأخرج إلى بيته ميتا. وراسخ بك هذا شاب مهذب الأخلاق طاهر السريرة، عرفته قبل دخولي الجمعية. غير أني لا أجد بدا من الاعتراف بأنه كان من المتناهين في الكبر والغرور، ولا أنسى قوله لي يوما وقد جلس قبلها إلى جانبي ثلاث مرات من غير أن يكلمني كلمة واحدة: كيف حالك يا سيدي ألبك؟ وقولي له: كما تراني منذ ثلاثة أيام، لم أتغير فيها أبدا، فلم يحر جوابا واختار الصمت.
ومن رفاقي بالجمعية حكمت بك، غير الذي تقدم ذكره. وقد نفي إلى سيواس بعد نفيي إليها، فصار رفيقي في منفاي أيضا. هذا رجل أحبه كثيرا، وأنا أواخذه على خلات وددت لو نزهه الله عنها، رأيته يحسد بعض أصحابنا، ورأيته يتزلف فنهيته فأنكر علي ذلك، وكان يحب «الدوندرمه» كثيرا، أبصرته ذات يوما أكل منها ستة أطباق متتابعة، وكنت حين أمازحه بسيواس أذكره بذلك فتقوم بيننا القيامة. ومنهم رفعت بك ؛ وهو من أسرة كردية لها مكانة بين الأكراد، نعم الرجل هو لولا تنسكه وتورعه، كنت أرتاح إلى محادثته لولا ما يدخل فيها من أحاديث العبادة والتقوى حتى لتكاد روحي تزهق ضجرة، ومنهم علي ساجد بك، وهو من أحرار العثمانيين، شديد المضاء في حريته، يكاد يكون كاتبا مجيدا، بلده إزمير، سافر منها إلى الآستانة طالبا امتياز جريدة يصدرها بإزمير، فوشى به بعض الجواسيس إلى السلطان وقالوا يريد أن ينشئ هذه الجريدة ليبث فيها الأفكار الحرة شيئا فشيئا، فرأى عبد الحميد أن يجعله عضوا بجمعية الرسومات ووعده براتب قدره عشرون جنيها في الشهر، ثم لم يخصصوا له سوى نصفها، ووعده الصدر الأعظم إذ ذاك وهو خليل رفعت باشا بأن سيزاد له باقي راتبه بعد زمان قليل، فأخذ علي ساجد يكتب له الكتاب وراء الكتاب يذكره بوعده، متوعدا إياه بالخروج من الآستانة، ثم هبت عليه نفحة من نفحات الشباب، فأرسل إلى الصدر الأعظم رسالة برقية قال له فيها: كنت أرجو أن تعرف قيمة وعد العظيم ولكنك حمار، فأخذ من الجمعية وأرسل إلى قسطموني منفيا، وبقي هنالك إلى أن أعلن الدستور. ولله ما كابد هذا الشاب من الظلم وما ذاق من مضض العيش على عهد والي قسطموني المستبد خائن الوطن، وعدو أبناء آدم أنيس باشا. تلك مصائب لا أعادها الله ولا أعاد أيامها، وكان علي ساجد يألف معاهد اللهو وينقطع إلى لذاته، فلم يعجبني منه سوى إقدامه على المخاوف وجرأته على الظالمين.
أما رفاقي الذين لم أرهم على مقاعد وظائفهم ولا مرة واحدة، فمنهم حسن خالد الصيادي الرفاعي القرشي الهاشمي العدناني الحلبي؛ وهو ابن أبي الهدى، وسبق الكلام عليه، ومنهم أنجا زاده عبد الغني الطرابلسي، كان صفي أبي الهدى ثم تهاجرا، فلجأ عبد الغني إلى عزت العابد وباح له من أسرار الشيخ بما لا تستقيم له هذه السطور، واضطر بعد ذا إلى مصالحة أستاذه وطلب الإذن له بالذهاب إلى الحج، فأذن له السيد ودس له من رماه برصاصة ذهبت بحياته، ومنهم كيلاني زاده ، باشا ، أصابه من لؤم الصيادي ما كاد يقضي على حياته، وغير هؤلاء كثيرون نسيت أسماءهم ولا أذكر منها اليوم واحدا.
هكذا ذهبت أيامي بجمعية الرسومات، تأتي الأوراق مكتبتي فتستقر عليها ما شاء الله ثم تنتقل إلى غيري، وليس لها مني سوى التوقيع.
ويا شد ما كنت أضحك إذ يجس أحد الأعضاء الزر الكهربائي الكائن أمامه، فيسرع إليه الحاجب في ثيابه المخملة ويقف أمامه مكتفا يديه منتظرا إشارته، فيرفع العضو عند ذلك رأسه قائلا: هات قدحا من الشاي أو هات طبقا من «الدوندرمه»، فأقول: قاتلكم الله وأنا معكم، يا عيال الحكومة وطفيليتها، وملوك المقاعد وعبيد الرواتب. لو أنصف الدهر لنال هؤلاء الحجاب مكانكم ولأصبحتم أنتم مكانهم؛ فهم أصدق منكم خدمة وأنفع سعيا. آه يا عبد الحميد، ما أبصرك بقلوب رعيتك! أخذت أنت ما لا تملك ووهبت من لا يستحق، وجعلت خزائن ملكك نهبا مقسما بينك وبين أولي المطامع.
لم أشك تأخر راتب ولا طول كد. غير أن الذمة وقفت بيني وبين ذاك الخفض الذي كنت فيه، رأيتني أنقد المال وليس لي فيه حق، يحبس القروي ويضرب لكل قرش من قروشه وأنا قاعد على الكرسي الفخيم يسير الحجاب بين يدي ليوسعوا لي الطريق. تلك لعمر الله سرقة سيعاقبني فؤادي عليها ولو عفا الله عنها.
فقلت: أبعد بذلك المال وأبعد بتلك المقاعد! وكتبت إلى السلطان رسالة برقية أسأله فيها نقلي إلى وظيفة أحسن القيام بمهامها، فرأى أن ينقلني عضوا إلى المجلس الأعلى بنظارة المعارف مع زيادة راتبي زيادة تبلغ حد الكفاية، فصدرت الإرادة السلطانية بذلك، فأسرعت إلى جمعية الرسومات وودعت من استطعت أن أراه من رفاقي وداع من لا يرجو التلاقي أبد الدهور، وخرجت أيمم نظارة المعارف، وأنا لا أدري أفيها أحد يعرفني أم ليس لي فيها أحد، فدخلتها خائفا مترددا كمن يلج غابات لا يدري ما وراءها.
أنا بنظارة المعارف
قلت أرى أن أذهب إلى «المحاسبه جي»؛ وهو بمنزلة مدير الحسابات في الحكومة المصرية، فأرسلت إليه بطاقتي مع الحاجب، فبادر إلى استدعائي لعنده ، فلما توسطت حجرته نهض واقفا وتقدم نحوي خطوات، ومد إلي يمينه محييا. وهذا المحاسبه جي رجل اسمه شكري بك الحسيني، ينمى إلى بيت من بيوتات الحسب في المقدس، قدم الآستانة فصاهر أحد الباشاوات المعروفين، وبذا نال من الترقي ما جعله بالمكان الذي رأيته فيه، فلما جلست إليه أقبل علي يحادثني، فأخبرني أن زهدي باشا ناظر المعارف لم يحضر، وسألني الانتظار إلى وقت حضوره ليدخل بي إليه ويعرفني به. قلت: ما في الانتظار من بأس. ثم ما لبثنا أن أخبرنا الحاجب بحضور الباشا، فتركني شكري بك مكاني وبعد دقائق قضاها عنده جاء فأخذني معه وأدخلني إلى حضرته، فإذ هو رجل كهل بادن منتفخ الوجه، ذو لحية بيضاء تبدو في خلالها شعرات سود هي من بقايا ما ترك الشباب، فتقدمت مشيرا بالسلام، فرفع يمينه قليلا جوابا لسلامي وأومأ إلي أن اجلس فجلست، ثم التفت نحوي ليكلمني فقال: هل سبقت لك خدمة في الحكومة؟
قلت: نعم، كنت من أعضاء جمعية الرسومات، بقيت فيها نحو العامين، والآن نقلت إلى المعارف. - هل حلفت اليمين القانونية؟ - هل يبقى مستخدم في خدمته عامين ينظر في أعمال الحكومة من غير أن يحلفوه اليمين؟! - حسن، وماذا تعرف؟ - لا أعرف شيئا. - وكيف يجعلونك عضوا بمجلس المعارف الأعلى إذا كنت لا تدري شيئا؟! أمدرسة هذه جيء بك لتتعلم فيها؟
فرأيت كلام الرجل غليظا كطبعه، فقلت في نفسي: الرأي أن أكلمك بما تفهم، فاللهم عفوا عما سيجري على لساني، لا أنطق به مختارا بل مضطرا، وقلت: إنما قلت لا أعرف شيئا تأدبا، وإلا فإني من أكبر الراسخين في اللغة العربية واللغة التركية، يشهد الملايين ممن قرءوا ما أكتب أني من شعراء الطبقة الأولى ومن الكتاب الآخذين بنواصي الكلام؛ نظرت في العلوم قديمها وحديثها، قريبها وبعيدها، فأصبت منها الحظ الأوفر. هذا وأنا أحسن الكتابة والكلام باللغة الفرنساوية، وأخذت من فنون علمائها ما لم يفز بمثله غيري، ولي مؤلفات بالعربية والتركية هي حجة العلم لنقض الجهل. فجعل الرجل يستمع حديثي ويتأمل وجهي كمن يريد أن يبلو محدثه، فعلمت أني كبرت في عيني هذا الناظر الغبي، وأيقنت بعدها أن خير ما يحفظ للمرء كرامته في عاصمة الملك العثماني هو أن يكون مدعيا لما ليس فيه من المزايا. وكان شكري بك جالسا أمام زهدي باشا غارقا في صمته يصغي إلى حديثنا ولا يشاركنا فيه، فقال له الناظر مشيرا نحوي بيسراه: خذ هذا وادخل به إلى المجلس. فسلمت وخرجت وأنا لا أدري كيف أكتم ضحكا يكاد يغلب علي هنالك، فأمسك شكري بك بيدي ونزل بي إلى قاعة المجلس الأعلى.
فلما ولجنا الباب رأيت مكانا رحبا في وسطه مكتبة مستطيلة كالخوان، على طرفها الكائن بصدر المكان رجل كالقبرة، يكاد لا يجده متفقده لولا عمامة كقرص من الجبن الكريتي تشرف على مكانه، وعلى الجانب الأيمن للداخل أعضاء كلهم معممون، وعلى الجانب الأيسر آخرون على رءوسهم الطرابيش. فتقدم بي شكري بك إلى الجالس بصدر المكان وغمز ذراعي قائلا: هذا هو الرئيس حيدر أفندي. ولما صرنا أمامه قدمني إليه وتركنا وانصرف، فدار الرئيس بعينيه في الجلوس، ثم التفت نحوي قائلا: ما ثم مكان خال، الأعضاء أكثر من الكراسي عددا، فاجلس إلى جانبي حتى يخرج أحد الجالسين فتجلس مكانه، وخاطب الحاضرين يعرفهم بي، فسماني لهم وبالغ في مدحي كما أسر إليه شكري بك قبل انصرافه، هنالك ارتفعت الأيدي بالسلام وابتسمت الثغور ترحيبا. ثم خرج بعض المعممين فجلست مكانه، وإني لأجيل ناظري يمنة ويسرة لأنظر ما يصنع هذا الجمع، فرأيت في الموضع القريب من باب القاعة رجلا ربعة القامة، كث اللحية أسودها، ممتلئ الجسم، على ناظرتيه «نظارة» بيضاء يقرأ بها أوراقا أمامه ويوقع تحتها، فدلتني هيئته وأطواره على أنه رب فضل، وعلمت بعدها أنه أمر الله بك الشهير، وكان في مواجهتي رجل نحيف الجسم ذو لحية سوداء أيضا اسمه راسخ أفندي، حادثته قليلا فظهر لي من حديثه أنه أصاب حظا من العلوم الآلية، وأنه يقول الشعر ويجيده بالتركية والفارسية على الأسلوب القديم، فقلت في نفسي هذا مجلس المعارف الأعلى، ولا بد أن يكون هؤلاء الرجال من جلة أهل الفضل والمتقدمين على كثير من علماء زمانهم، فخير لمثلي أن يختار السكوت لكيلا ينكشف جهله وتصاب مقاتله. فإذا تعودت الأعمال ووقفت على حقائق الأشياء أتيت لهم بما يتجدد لي من رأي تكون وراءه فائدة تستفاد.
وبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل قيل لي إنه أحد كتاب قلم المجلس، قد زرر «سترته» أدبا، وأمسك أوراقه بيديه وتقدم حتى قارب مكتبة صغيرة هي على يسار الرئيس، فوضع عليها الأوراق ووقف ينتظر الأمر، فقال لي راسخ أفندي: الآن يقرأ الكاتب علينا ما ينبغي أن ننظر فيه من الأوراق. فإذا انتهى من تلاوتها أبان كل منا عما يرى. فإذا رآها على ما يجب وافق عليها، وإذا رأى موضعا للإعراض اعترض. فتناول الكاتب ورقة تلاها بصوت عال وأنا أسمعه وأتأمل حال الأعضاء، فرأيت واحدا يسر لمن هو جالس إلى جانبه حديثا، وآخر يكتب كتابا، وثالثا يأكل الحمص، ورابعا أثقل النعاس هامته، وخامسا يقرأ جريدة في يده، وإذا كلهم كما قال الحسن بن هانئ:
كأن أرؤسهم والنوم واضعها
على المناكب لم تخلق بأعناق
فهالني ما رأيت حتى خيل لي أني بين جماعة من أبناء السبيل نزلوا بدار مطعم وأقاموا ينتظرون غداءهم. واستمعت ما يتلو الكاتب، فإذا هو استئذان من النظارة بصرف مائة وعشرين قرشا لإصلاح أنابيب المياه في مدرسة من مدارس البنات لا يحضرني الآن اسمها. فلما انتهى الكاتب من التلاوة وشرح الرئيس للأعضاء مجمل ما تلاه، قال أحدهم: فليكن.
آخر :
لا، لا يكون أبدا.
ثالث :
ولم لا يكون؟
رابع :
نعم، صدق فلان، هذا لا يكون أبدا.
خامس :
أنت لا تدري من هذه الأمور شيئا، تكلم فيما تدريه ولا تشغلنا بهذرك هذا.
سادس :
أرجو ألا يطول هذا الجدال وإلا اضطررنا إلى الدخول معكم فيما لا نريد.
الرئيس :
كفى كفى، يظهر لي أنكم توافقون كلكم على صرف العشرين والمائة قرش.
الجميع وفيهم المخالفون :
نعم نعم، كلنا نوافق.
فوالله ما رأيت مشهدا هو أنفى لصبر وأجلب لضحك مما رأته عيناي، فيا لك من مبرك إبل أنا أحد أذواده، فعاودني هنالك شيطاني ونفخ في أذني نفخته، فقلت لمعمم كان باركا إلى جانبي: ما قدر ميزانية المعارف؟ - لا أدري. - كيف لا تدري ثم توافق على احتساب مبلغ منها؟ - وما يعنينا نحن من ذلك؟! لينظر في الأمر من هم فوقنا، وما جيء بنا هنا لنحاسب الناس على كل ما يقولون، أنا أحب ألا أتعدى ما رسم لي. وأنت جئت اليوم، فلا تدري من أعمال المعارف شيئا، فأولى لك ألا تعجل في الرأي وألا تكشف مقاتلك لمحاسديك. قلت: وهذه فائدة استفدتها. وقد ذهبت هيبة المجلس من عيني، وأيقنت أن هذا البناء الذي يظل رجال العلم في الإمبراطورية العثمانية لا يئوي إلا أناسا هم نخبة جهلائها، فأشفقت على وطني وتمنيت ألا أعيش حتى أشهد مصرعه.
فلما كان المساء، وآن للمستخدمين أن يخرجوا من بيوت العمل إلى مضاجع الراحة أو معاهد اللذات، تلفع كل ذي عمامة عباءة، ولبس كل ذي طربوش معطفه (بالطوه)، فدنا مني راسخ أفندي وقال لي: كم جعلوا راتبك؟ - لا أدري. - أنصحك لوجه الله الكريم، لا تتأن في أمر لك نفعه وعليك ضرره، اذهب من ساعتك إلى الناظر، فقل له كم جعلتم زيادة راتبي؟ أنت لا تعرف زهدي باشا، سل عنه مستخدمي المعارف يخبروك خبره؛ هذا رجل سوء، ما قدر على ضرر يضر به أحدا وتأخر عن تعمده، وربما أدى به حلمك إلى الاقتصاد من راتبك وجعل ما اقتصده من نصيب غيرك. ادخل عليه الآن قبل أن يخرج، ثم إياك والإفراط في التأدب والتحشم، هذا رجل جاهل يحسب الأدب خضوعا وتذللا، فلا تملكه ناصيتك فهي في قبضته.
فما أتم راسخ كلامه إلا هرولت نحو السلم، وجعلت أصعد فوقه درجتين درجتين حتى بلغت أعلاه، وأنا لا أجد نفسا أتنفسه، فدخلت حجرة الناظر بعدما استأذنت، مخالفا لما أشار به علي ناصحي من ترك الاستئذان، فرأيت شكري بك الحسيني عنده، فسلمت ولم أمهله أن يسألني عما أريد، بل وضعت يدي على جانب مكتبته معتمدا عليهما، وقلت له : جئت لأعلم مقدار راتبي.
هنالك زوى عني وجهه وقال: هذا ينظر فيه حين يجيء وقته. فتركته وخرجت. فإذا راسخ في انتظاري أمام باب النظارة، فلما رآني أومأ بعينيه يسألني عما كان، فقصصت عليه الخبر، فقال: إذا رجعت إلى بيتك ففكر في أمرك علك تهتدي إلى ما يريح خاطرك. ثم إنه سلم علي وفارقني.
ولا يفوتن القارئ الأريب أني لم أنتقل طول أيام مقامي بالآستانة من نظارة المعارف إلى نظارة غيرها، فحسبه قليل ما جاء في هذا الفصل، وسأعود إلى الكلام على المعارف كلما أدى إليها سياق الحديث، ولنرجع إلى ذكر أشياء تقدمت ذلك، وقعت قبل أن أفارق جمعية الرسومات؛ فإن لها شئونا لا يخلو ذكرها من فائدة.
الأميرة الجليلة الفاضلة «نازلي هانم»
كريمة أبي الحرية والأحرار الأمير المرحوم مصطفى فاضل
لا يسع نطاق كتابي ترجمة حياة الأميرة الفاضلة، ولا نحن بصددها فأزين بها صحائفي، ولا أريد أن أستعيد هنا ما سبقني إليه الكاتبون من بيان أعمالها التي يفتخر بها أهل الفضل، ولكنني ذاكر طرفا مما وقع لها في إحدى زياراتها بالآستانة لوقوع ذلك بمقربة مني. وقد وددت أن أطبع صورتها في طالعة هذا الفصل. غير أن أهل الشرق عامة والعثمانيين خاصة لم يتعودوا هذا، وفي القلوب من التعصب ما يجعل عملي مستهجنا، ويستثير علي الأضغان؛ وبذا أحجمت عن مخاطبة الأميرة فيما كنت أتمناه، فلتبق صورتها بموضعها من التكريم في قلوب المعجبين بفضلها، ولتتكلم آثارها إذا سكت مادحوها.
أجل، تجاسرت الأميرة الفاضلة على شخص الاستبداد في حصنه المنيع، وعلى رأسه تاج الخلافة، وفي حركة شفتيه شقاء العباد وسعادتهم، فما بهرتها «جلالته» ولا هالها بطشه وقدرته، فتراءت له في صورتها الجميلة ونفسها الجليلة مرأى الشمس تنير الأبصار ولا تحدق إليها الأبصار، وكأن روح أبيها كانت تصحبها كلما تمثلت بين يدي الملك الظالم، وكأن روح أبيها كانت تشير إليها بما تخاطب به عدو أبيها وعدو أبنائه الأحرار.
إني ذاكر في هذا الفصل تعريب كتاب تركي كانت أنفذته الأميرة الفاضلة إلى عبد الحميد، فغصه وأسهده ، وسيبقى حجة عليه في كتاب تاريخه إلى آخر عهد الناس بالدنيا.
الكتاب كانت أنفذته الأميرة من القاهرة في 22 أوكتوبر سنة 1896، وذلك حين جاءها أن عبد الحميد ناقم عليها لحضورها بعض اجتماعات مؤتمر تركيا الفتاة الذي التأم في تلك الأيام بباريس. وقد تتابعت الوشايات يومئذ لعبد الحميد تحرضه كلها على الأميرة، وكانت حجة المستبدين في تخطئة فاضلة الشرق أنه لا يجمل بعقائل الإسلام أن يسافرن إلى بلاد النصارى ويخالطن أعداء الخليفة، ولو رزقهم الله أقل ما يرزق عباده من عقل أو إنصاف لفاخروا بها النساء من سالفات ولاحقات، ولقالوا إن التي خطبت الناس يوم الجمل لم تأثم، وقد أدى ذلك إلى سفك الدماء، فكيف تأثم من حضرت مؤتمرا ألف ليستخلص الوطن من يد قاتله؟!
صورة كتاب الأميرة الفاضلة إلى عبد الحميد نقلا عن جريدة «حذام» التي كان يصدرها شقيقي يوسف حمدي يكن:
القاهرة في 22 أوكتوبر سنة 1896
مليكي
قرأت مع الأسف الشديد في جرائد أوروبا التي وردت في هذا الأسبوع أن مولاي الأعظم غاضب علي غضبا شديدا، وعلمت أن السبب في غضبه حضوري مؤتمر «تركيا الفتاة» الذي عقد بباريس؛ ولهذا أرجو الإذن لي ببيان ما يدور بخلدي في هذا الباب.
إن استهدافي للغضب الملوكي ليس بالأمر الحادث، ولكنه مستمر منذ أربع سنوات، وإذا وجب أن يميز من حل بهم ذاك الغضب سهل تعيين الفئة التي ينبغي أن أحشر في عدادها. غير أن حضوري مذاكرات هذا المؤتمر ليس تذرعا للشهرة؛ فهو إذن منزه عن كل غرض ذاتي.
يذكر مولاي الأعظم أنه قال ذات يوم للمرحوم خليل باشا شريف: «إني مغرم بكلمة الحق.» ولقد بشرني المرحوم بهذه البشارة الملكية، وتعاهدنا كلانا منذ ذلك ألا نحيد عن كلمة الحق.
قرأت ما ينشره هذا المؤتمر من زمن مديد، واطلعت على اللوائح التي رفعها إلى الأعتاب الشاهانية. ولما كانت هذه المنشورات بمثابة كلمة حق في وصف الدمار الذي بانت فيها الممالك المحروسة الشاهانية؛ رأيت أن أحضر مذاكرته عند نزولي بباريس.
فشهدت من الجميع منتهى الود والولاء للمقامي الملوكي وللوطن والأمة، ورأيت الجميع باكين لحال الوطن الذي بات على شفا الفناء، فهاجني ذلك وتذكرت أن مولاي كان مغرما بكلمة الحق، فظننت وا أسفاه أنه ربما تسلى عن ذاك الغرام. ولكن هز فؤادي ما عاهدت الله عليه وأيقنت أن العشق يزول والعهد يبقى.
لما زرت الآستانة منذ أربع سنوات أوصاني بعض المقربين بأن أرفع إلى مولاي عريضة أستقيل بها من هفواتي. ولما لم يكن لي علم بهفوة تكون سبقت لي لم أقدم على هذا الأمر؛ فقد تغيرت سياسة مولاي مع الإنكليز وذهب الرضاء الذي كان توسط لي في نيله المرحوم السير هانري لاير. وإني لأتلقى بكل ارتياح توسط الإنكليز لي في إحراز رضاء مليكي. بلى، أشكر اليوم ما أصابني من الغضب الملوكي، وإن في بعدي عن مشاهدة ما وقع بالآستانة من الزلازل وما نزل بالرعية من الفقر وما جرى من دماء المظلومين الذي ذبحوا كما تذبح الأضحية وعن سماع استغاثات المظلومين وتأوهاتهم ما يسليني وما أحمد الله على بعدي عنه. وسأستمر لذا على العمل بنص الأمر الملوكي الذي أبلغتنيه الحكومة المصرية غير رسمي ما دامت لي الحياة.
على أني لا أبرح داعية بطول عمر مولاي وبقاء دولته، ولا أبرح داعية بأن يعود له سالف غرامه بكلمة الحق. فإذا قدر الإله ليزولن بؤس اليوم كما تزول الرؤيا المفزعة، فيصبح سعيدا مهنأ، ويلفي رعيته في رغد بالاتحاد والحرية؛ فإن رعيته لا تريد منه إلا أن يكون أبا مشفقا. لعلي تجاوزت الحد وأسأت البيان، فلست أدري مبلغ وقع ما أتشرف بعرضه. فليثق مولاي أن كلام أصدق عبيده في زماننا هذا لا يختلف عما جرى به قلمي، وليوقن مولاي أن ورقتي لم تسطر إلا بخالص النية وصادق الولاء.
بنت المرحوم مصطفى فاضل باشا المصري
خادمتك
نازلي
أميرة ورثت فضل أبيها كما ورثت مجده، تقيم أمثالها بظل شاهقات القصور، يسحبن ذيل الإمارة مختالات في حلل التيه، تسفر في سماء معاليها على الوطن فتكسوه نورا! لعمرك لهي واحدة الشرق وسيدة السيدات المتحجبات.
وصل كتاب الأميرة إلى يد عبد الحميد، وكم كتاب قبله لم يحرك له نخوة ولم يبعث له همة! لقد أسكن الله بين جنبيه روحا أعوذ بالله أن تكون من روح عبد المجيد؛ هي روح أجنبية عن المعالي، يزهقها الحق ويحرقها الحلم، هي وسواس يحرك جسدا لا يحلو على أديمه نعمة من نعم الله. فلما استقرأ الكتاب استشاط غضبا واربد وجهه وغلب عليه طبع أكلة البشر، فلو كانت الأميرة عنده ساعة رنت في آذانه كلماتها لنشب فيها أظفاره وأنيابه، ولكنه اكتفى من الانتقام بما خص الله به أهل العجز من المجبنين، وحقد حقدا لا تزيله من صدره تقلبات الأيام. وما زال يتلطف في استدعائها إلى الآستانة واعدا إياها الخير والمزيد حتى أجابت دعوته بعد سنة 1898 على وجه التقريب.
فتقدمت الأميرة إلى الآستانة ونزلت فيها بمنزل الجنرال أحمد جلال الدين، ثم دعاها إلى «يلديز» فأكرم وفادتها وأظهر لها ما لا يكنه فؤاده، فلما عادت إلى مصر ظن أن قد أصبحت في عداد أعوانه، وأنه إذا شاء حارب بها أعداءه دعاة الحرية، فخاب ظنه، وندم إذ أفلتها من يديه بعد أن حسبها وقعت في حبائله، فلم ينفع الندم. ولقد بلغ بغض عبد الحميد للأميرة الفاضلة أن خاف رجاله أن يذكروا لها اسما في القصر كلما أتى ذكرها في جريدة من جرائد أوروبا. ولقد كدت ألقى حتفي يوم كتبت للأميرة خطابا أنفذته إليها من الآستانة بعد سفرها، فلا أدري كيف علم بها الجواسيس وأخبروا به عبد الحميد، وأحمد الله إذ لم يكن بذلك الخطاب شيء من السياسيات. ومنتهى ما لقيت يومئذ أني سئلت عما يدعوني إلى مراسلة الأميرة، فقلت لمن سألوني إن بيتي ينمي إلى بيتها؛ فهي الأصل وأنا الفرع، وقد دام اتصالنا بوالدها المرحوم ما عاش أبي وما عاش أعمامي، ولم نبرح مخلصين لهذا البيت العالي ما شاء الله.
وأعجب ما في السياسة الحميدية أن أعوان عبد الحميد أنفسهم كانوا يسخرون منه ليستمطروا هباته، فكان أكثرهم يكذبه فيما يشي به إليه، فيزعم له أن عنده أنباء الأميرة وأنه بث عليها الأرصاد ليستطلعوا له أسرارها، وكان عبد الحميد يصدق ذلك.
ولولا أنفة وحكمة فطرت عليهما بنت الأمير الفاضل، وصدق ود من الجنرال أحمد جلال الدين؛ لتمكنت مخالب الظالم من ذلك الفؤاد الكريم، ولأصابه ما يصيب كل ذي رأي من الهفوات التي لا ينسيها توالي الأعصار، ولكنها نبذت كل وعد واستحقرت كل وعيد، وجاءت تاركة عبد الحميد يندب خيبته في سبيل التغلب عليها.
الجنرال أحمد جلال الدين
كان ينبغي علي أن أذكر هذا الفصل في طالعة الكلام على رجوعي إلى الآستانة؛ فإن الجنرال أحمد جلال الدين كان الوسيط بيني وبين عبد الحميد؛ وهو الذي نزلت على داره حين قدومي الآستانة؛ وهو أول رجل قابلته في تلك السفرة. غير أنني تجاوزت عن الإطالة وطويت ذكر أشياء لا فائدة تحتها، فليس لها شأن يستلفت نظرا أو يسترعي سمعا.
إني رجعت إلى الآستانة ثقة بوعد أحمد جلال الدين ألا يصيبني بها هوان، فقلت حسبي وعده. ولقد قال لي: إذا رأيتني لا أقدر أن أذود عنك مكروها تلطفت في خلاصك وإخراجك من الآستانة. وكلام أهل النجدة ينبعث من الفؤاد وعلى قدر جرأة المرء يكون صدقه، وأحمد جلال الدين جريء الجنان لا يروعه مخوف وإن جل ولا يملأ عينيه خطر وإن عظم.
رأيت هذا الرجل بموضع لا يرومه المتطاولون، منيع الحمى، مرهوب البطش، نافذ الكلمة، يقيم في بيت تزدحم على بابه الأفواج، فمن حله أمن غارات المطاردين وبات بموئل لا تطول إليه ولا يد عبد الحميد. هذا كلام ربما حسبه قوم مبالغا فيه. كل من أقام بفروق شهرا واحدا عرف ذلك، وإنما ثبت قدمي الرجل في موقفه احتقاره الموت وازدراؤه بما كان فيه من جاه رفيع. ولقد حلت به نكبة عبد الحميد قبل ذلك، فشد وثاقه وصاحت السلاسل على ساعديه وقدميه، ونفي إلى حلب وأقام بها ما شاء الله أن يقيم، فنصره حقه وخذل أعداءه باطلهم.
هذا رجل رباه السلطان المستبد، أخذه صغيرا لا يميز الخير من الشر، وأظله بظله وقيده بقيوده . فلو نشأ ظالما مثله سفاكا للدماء كذوبا حولا قلبه لمهد له العذر تعوده ذلك، ولكنه غلبت عليه البداوة الحرة، وللبداوة حرية لا تطاولها حرية التمدين، فغلبت نفسه على وساوس الغرور ونزق الشباب، وعاش صحيحا بين جرب، وللدهر من العجائب ما لا ترقى إليه العلل. غير أني آخذته على أمور وددت لو سلم منها؛ فقد رأيته مطواعا للمخادعين، آمنا عواقب الفتنة من قوم كان واسطة عقدهم وملتقى أهوائهم، ورأيت ذكاءه في التمييز بين الناس دون ذكائه الذي يقدم به على المخاوف. وهذه خلال تؤذي الأحرار وتحرم أكثر الرجال أن يجتنوا ثمرات مساعيهم. على أن أصلها عدم المبالاة والإهوان بالحوادث.
ثم إن أحمد جلال الدين لم يتخرج من مدرسة ولم يتعلم من العلوم ما إذا أضيف إلى ذكائه الفطري زاده رونقا وحباه كمالا، كل ما عرفه عرفه تجربة وممارسة. وقد تعود الأناة وروض نفسه على مجانبة الطيش. فإذا جرى في مجلسه كلام على أمر لا يعرفه أمسك عن الخوض فيه، ولم يتعسف الرأي كما يتعسفه أكثر الناس، وإذا تكلم في أمر سبق إليه علمه أعجب به سامعوه إعجابا.
ولما امتحن عبد الحميد صدق ربيبه وجرب إصابة رأيه رمى به الدواهي ففرج له غماءها وأزاح مخاوفها، فكان يتكل عليه في شدائده ولا يحبه، وما أحب عبد الحميد أحدا من الناس ولا أبناءه الذين من صلبه. ولقد عرف لدى العثمانيين باسم «سر خفية»، ومعناه رئيس الجواسيس، وكان ذلك من حظ المظلومين، فكم أنصف منهم من حاق به الظلم، وكم أغضب عبد الحميد ليرضي فقيرا لا يملك قوت يومه، وما عهد الناس عليه تجسسا ولا عرفوا له مثلبة تشبه التجسس، والرجل لا يملك اليوم لنفسه ضرا ولا لغيره نفعا، ولو افتريت عليه كذبا وبهتانا لما لحقني منه سوء. غير أني أقول لا مرتقبا جزاء ولا طالبا شكورا. لعمري لنعم الرجل الهمام أحمد جلال الدين.
ولا أنسى ما سمعت منه كثيرا بمحضر من حاشية عبد الحميد من الكلام الذي يتجاسر عليه حر من الأحرار. ولقد دعاني ذات يوم إلى منزله وقال لي: بلغني أن قد جاء الآستانة شاب ممن كانوا في جنيف، ونزل متنكرا بمكان في «بيرا» لا أعلم أين هو، والأحرار لا يخفون عنك أنفسهم، فاذهب وفتش عليه حتى تجده، فقل له إن فلانا يهديك سلامه ويقول لك إنه اتصل به أن جماعة من الجواسيس يفتشون عنك. فإذا وجدت سبيلا إلى داري فلا تبطئ في الالتجاء إليها، وإذا تعذر عليك ذلك قل إني استدعاني أحمد جلال الدين، وأنا لا أذهب إلا مع رجاله. فقضيت يومي أسأل عن الشاب الذي ذكره لي فلم أجد له أثرا، وأخبرته بذلك في المساء فغمه الخبر، وقال: سأبذل كل مرتخص وغال في معرفة مكانه لأجعله في مأمن من شر أعدائه.
وكانت العداوة بلغت مبلغ الكمال بيني وبين أبي الهدى، فجاءني منه الوعيد بعد الوعيد، وكنت كتبت في سيئاته فصولا نشرت بجريدة الرائد المصري الذي كان يصدرها بمصر صديقي القديم نقولا أفندي شحادة، وانتحلت لنفسي إمضاء زهير؛ إذ لا يصح لموظف في الحكومة أن يراسل الجرائد. وقد قلت قصيدة خاطبت بها عبد الحميد أذكرها ها هنا إيثارا لواقعتها:
ألا اقتل، أمير المؤمنين، أبا الهدى
فقد جار في الإسلام ما جار واعتدى
سعى مفسدا بين الرعية جاهلا
فلم يستطع ثم استطاع فأفسدا
تظن به خير ولا خير عنده
وما هو إلا الشر في جبة بدا
رفعت، أمير المؤمنين، مكانه
ليرشد للحسنى وما كان مرشدا
فأكبره قوم ودانوا لأمره
وأصبح يدعى في البرية سيدا
يقول غدا يرجو خلافتي الورى
ومن ذا الذي يرجو خلافته غدا
عفاء على العلياء إن رضيت به
وويل على الأمجاد إن هو مجدا
يهددني بالبطش لا در دره
ويعلم أني لا أبالي مهددا
كأني لم أنصب له أمس غارة
أقام لها الدنيا بكاء وأقعدا
ولم أرم فيه من سهامي صائبا
ولم أجر فيه من سيوفي مجردا
بلى رعت منه مهجة ذات مرة
وأوقدت فيها الغيظ حتى توقدا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
فغصته هذه الأبيات فما ساغ له ريق، وأقذته فما اغتمض له جفن ، وأذكى علي العيون والأرصاد، وأتبعني بجماعة من رجاله ليوقعوا بي في غرة مني. فكلمت في أمره أحمد جلال الدين. فإذا قلبه يتلظى عليه غيظة وحنقا، فقال لي: هون عليك الأمر، فالخطب أصغر مما تظن، ودعني أنازله بالبأس ونازله أنت بالقلم.
قلت: هذا رجل شديد الوطأة على خصومه، صعب الكريهة، سابغ الدروع، تصرد سهام راميه وتصيب سهامه. فنظر أحمد جلال الدين إلي نظرة ملؤها الأسف وقال: كنت أحسبك أعظم جرأة مما أرى.
قلت: عندي رسالة صغيرة كتبتها، اسمها «الخافي والبادي في فضائح الصيادي»، وأريد أن أطبعها بمصر.
قال: نعم الرأي، ولكن على ألا تتعرض للسلطان؛ فإني أخاف أن يبطش بك. أما أبو الهدى فلك أن تقول فيه ما تريد على ألا تذكر شيئا غير الحق؛ فإني رجل لا أحب النصر بالباطل. هنالك كتبت رسالتي وبعثت بها إلى مصر مع أخي يوسف حمدي يكن، فطبعت، فباع الطابع رحمه الله نسخها. وقد بيعت النسخة الواحدة منها بجنيه، وبقي لي ولأخي من الكسب تعب الكتابة والطبع.
ولقد زرت الجنرال أحمد جلال الدين باشا يوما، فرأيت عنده الميرآلاي الدكتور عزت بك، وكان عالجني في سفرتي الأولى إلى الآستانة، فلما رآني أحمد جلال الدين قال للدكتور: أعد على ولي الدين ما كنت تقوله لي الساعة. فوجم الرجل، فقال له أحمد جلال الدين: ليس من الرأي أن تخاطبني في رجل وهو غائب وأن تسكت وهو حاضر، وأنت لا بأس عليك، وما على الرسول إلا البلاغ.
قال عزت بك: إن أبا الهدى أرسلني إليك لتأذن لولي الدين في الذهاب إليه؛ وهو يقول لك: لا تخف عليه، إنه بمنزلة ولدي ولا يصيبه عندي سوء، وما أدعوه إلا لأعاتبه عتاب الآباء للأبناء.
قال أحمد جلال الدين: أعدت الآن رسالتك بمسمع من غريمك، وها أنا ذا أعيد جوابي لك بمسمع منه أيضا. بلغ عني أبا الهدى أن يده لأقصر من أن تصل إلى ولي الدين بشر، وأنا لا أمنع ولي الدين عن زيارته إذا هو شاءها، ولكنني أمنعه بعد ذلك أن يدخل لي بيتا. ثم التفت نحوي وقال: وأنت ماذا تريد؟
قلت: أرى ما تراه.
ولقد أظهر أحمد جلال الدين من النخوة ما أوثره له مع أجمل الثناء. أما عزت بك فرجع إلى أبي الهدى وأخبره الخبر، فوقع على فؤاده كالسهم إذا أصاب صميمه، وسكنت عواصف الغضب في فؤاد عدو لو ظفر بي لأحرقني بالنار.
وكان بنفسي شيء في رجوع مراد الداغستاني إلى الآستانة. وقد اختلفت الروايات فيها، فزعم جماعة أن عبد الحميد استرضاه، وقال آخرون: لا بل التمس هو من الأسباب للرجوع حين نفدت دراهمه. وإذ كان رجوع الداغستاني هو على يد جلال الدين سألته يوما أن يخبرني بما وقع، فأخبرني أن عبد الحميد استدعاه ذات يوم وقال له: رأيت أن أؤخر إعلان الدستور إلى أجل غير محدود؛ وذلك لأن الأمة لم تكن متهيأة له، فأما وقد عرفت مزاياه وظهر من أبنائها من يهجرون أوطانهم ويستصغرون المهالك في طلبه، فقد آن لنا أن نهبهم طلبتهم. ولكن هذا لا يتم وفي أوروبا مثل مراد وغيره يملئون الصحف ويواصلون الجهاد، ومثلي لا يرضى بأن يقول فيه الناس إنه خاف جماعة من رعيته خرجوا عليه فأعلن الدستور مكرها لا راضيا. فاذهب إلى هؤلاء الناس وقل لهم أن يرجعوا إلى بلدهم، وليمر على رجوعهم بعض الشهور وأنا أحلف لك بشرف المتقدمين من أجدادي أني أعلن الدستور بعد ذلك.
قال أحمد جلال الدين: فخرجت من عند عبد الحميد وأنا أكاد أطير فرحا، وقلت في نفسي: لا يوثق بكلام هذا الرجل ولكنه آلى يمينا لا يحنثها أبدا. فأدركني الحاج علي باشا رئيس قرناء السلطان إذ ذاك وقال: أمرني مولاي أن أبلغك صدور الإرادة إلى البنك العثماني باعتماد كل ما تطلبه من المال على حساب السلطان، فتبسمت له ابتسامة ازدراء عرف المراد منها، وخرجت ولم أجاوبه بشيء، ولما التقيت بمراد الداغستاني ورفاقه قبل مراد بغير شرط، إلا أن رفاقه طلبوا المال وقالوا إن علينا ديونا ولا نستطيع أن نسافر قبل قضائها. ومنهم من رضي أن يكف عن الكتابة في طلب الدستور على أن ينقد مالا يعيش به في أوروبا، وألا يكره على العودة إلى الآستانة. فأديت سفارتي وقلت إنني لم أكلف بسماع اقتراح. وقلت لهم: أنا لا أحب الدخول في أمور مالية، ولكنني سأكتب إلى السلطان مطالبكم، ولا أدري إن كان يرضاها أم يأباها، ولما جيء لي بالكتاب وقد كتب على ما يريدون أمسكت القلم بيدي وقلت: وددت لو انكسرت يميني ولم أكتب مثل هذا الكتاب. أما مراد الداغستاني فلم يرض بالمال الذي أمر به السلطان، ولكنه اقترض مني ألفي فرنك ليشتري بها بعض الهدايا لبنتيه، وتم الأمر ورجع مراد إلى الآستانة.
وقد أنفق أحمد جلال الدين في سفرته هذه من ماله الخاص نحو العشرين ألف جنيه، ولما سئل عن مقدار ما أنفق قال: لم أعده إلى الآن. إن هو إلا قطرة من جود مولاي السلطان. ولم يستعض عن ذلك كثيرا ولا قليلا.
وإذ وفق الله أحمد جلال الدين إلى استرجاع أكثر الأحرار واستراح عبد الحميد قليلا من سهر الليالي ومراقبة العباد، وبقي جواسيسه لا يتهمون إلا رجالا ممن لا يخرجون من أسوار الآستانة؛ راع ذلك حساد جلال الدين وقالوا: لقد فاز عند السلطان أيما فوز، فلا تنفع فيه الوشاية ولا يضره الحسد، ولكن المحاسدين لا يملون والأعداء لا يغفلون. وقد عرف ذلك أحمد جلال الدين قبل وقوعه، فقال للأحرار الذين خاطبهم في ترك النضال: إني منذ اليوم من الهالكين؛ أسعى لأرجعكم. وهذا السعي ينفعكم ولا يضركم ويشرح صدر السلطان، غير أن لي أعداء سيجعلون نجحي وبالا علي. وقد صدق فأله وجعلوا نجحه وبالا عليه، وذكروا عند عبد الحميد أن أحمد جلال الدين لو لم يكن متواطئا مع الأحرار لما استطاع إسكاتهم. وكيف خاب غيرهم في مخاطبتهم وأفلح هو؟! ولم يثق الأحرار بكلامه ولا يثقون بكلام غيره؟! فصدق عبد الحميد هذه الأكاذيب وقلب لأحمد جلال الدين صفحته لما رابه أمره، فأذكى له العيون والأرصاد وأقصاه عن حظوته، وتخذه لنفسه محاربا ولسطوته مغالبا.
شهدت كل هذا بعيني وأنا إذ ذاك بالآستانة أزور منزل جلال الدين وأغشى مجالسه، ولو بلي غيره بما بلي لنجا بنفسه من بين تلك الشدائد، ولاطرح عن كاهله أعباء ينوء بها كل قوي النفس صبور على المكاره.
رأيت قوما يطرقون باب هذا الشهم ويتهافتون على موائده ويتخاطفون هباته، ثم يرمونه بسهام لا تخطئ. وقد رأيت أحمد جلال الدين قليل التفرس؛ وأهل الجرأة لا تفرس لهم، وإنما يتحرى البواطن ويستقري السرائر كل قلق الجأش مستطار الفؤاد. فإذا استرسل جلال الدين في حديثه لم يبال بمن حضر مجلسه من الناس كراما كانوا أم لئاما. وقد يبلغ عبد الحميد أن جلال الدين قال فيه كذا وكذا، وأنه نال منه بحضرة كثيرين، فيسر له الحقد ويضمر له الانتقام. ولقد انتقم منه بأن سلط عليه فهيما المشهور، كان رجاله يطوفون بيت جلال الدين ليلا حذرين خائفين أن يحس بهم أحد ممن في البيت فيطول همهم.
الشيخ محمد ظافر المدني
لعل قراء كتابي لا يجهلون الشيخ محمد ظافر ولا سيرته. غير أن أكثر ما يقال عن الأخيار كما يقال عن الأشرار، كله غلو وجله بهتان. وقد سمعت الناس يتكلمون كثيرا عن هذا الرجل من قادح ومادح، فأما القادحون فأنصار أبي الهدى ولا يجوز الاعتماد على كلامهم، وأما المادحون فأنصاره هو ولا يصح أيضا الوثوق بكلامهم، فكان الصواب أن أبلوه وأختبره بنفسي. أردت ذلك كثيرا ولم أتمكن منه إذ لم تأت الفرص بما يجمعني وإياه، وأنا رجل قليل الجرأة على الناس، لا أقدم على غشيان منازلهم إن لم يسبق بيننا تعارف، وما زلت أسكن ما بقلبي من هذا الشوق حتى حان الحين، فجاءني ذات يوم رجل من معارفي يخبرني أن آل ظافر يودون التعارف بي، وأنهم معجبون بما هجوت به أبا الهدى، فسرني ما بلغني ولكن إعجابهم بهجائي أبا الهدى أحدث في قلبي الريب، فقلت لصاحبي: سأنظر في ذلك، على أني أخبرك مذ الآن أني لا أحب أن أكون البادئ بالزيارة. إن أولي الجاه والحظوة يزدرون بالمتطفلين عليهم. فإذا بدءوني ألفوني أهلا لمودتهم . قال: لك علينا ذلك، ولولا ثقتي منهم بشدة الرغبة إليك لما فاوضتك في ملاقاتهم ولا حببت إليك مخاطبتهم. ثم فارقني الرجل غير ضارب ميعادا لتلك الزيارة ولا لعودته إلي، ومضت على ذلك أيام قلائل، وفي أصيل ذات يوم وقفت أمام باب داري عربة خرج منها ثلاثة رجال، فعرفت أحدهم وهو ذلك الرجل الذي كان عرض علي زيارة الظوافر. أما رفيقاه فلم أعرفهما بادئ بدء ولكني فطنت أنهما أو أن أحدهما لا بد أن يكون من أبناء الشيخ محمد ظافر.
فلما أدخلوا علي قال دليلهم مشيرا إلى النحيف منهما: هذا عطوفة مصطفى بك ظافر. ثم أشار إلى البادن وقال: هذا محمد أفندي الأسير نجل العلامة الشهير الشيخ الأسير صاحب الأسفار الجمة التي عرفها العلماء. فكان مجلسنا مجلس صفاء، منزها عن الغيبة والمفاخرة والكبرياء. ولم يشأ مصطفى ظافر أن يبادرني بذكر شيء عن أبي الهدى، وتعمدت أنا أيضا الصمت عن ذكره، وجعلت أنشد لهم بعض قصائدي وأقص عليهم ما حضرني من الأخبار؛ فلم يطق محمد أفندي الأسير صبرا ورأى أن يجسني بشيء من دهائه، فقال: يزعم بعض الناس أن أبا الهدى ناقم عليك كثيرا، وأنه لا يهنأ له عيش دون الإيقاع بك؛ فلقد آلمه ما كتبت عنه في الجرائد، وأظنه الآن يتدبر لك مكيدة يكفى بها شرك.
قلت: له أن يصنع ما يشاء، ولي أن أصنع ما أشاء، وأشقانا من إذا ظهر خافيه استعصى عليه الجدال. أنا لا أزاحم أبا الهدى على مقام، ولا يجوز أن يكون بيننا تنافس؛ فهو ولي السلطان وأمينه وأنا أحد أفراد الرعية. وهو درويش من الدراويش وأنا رجل من رجال القلم وموظف من موظفي الحكومة. على أني أحاربه لا مختفيا ولا خائفا؛ فإن كان عنده ما يبطل به كلامي فليأت به، وإذا لم تكن لديه حجة تدحض ما أقول فليربأ على ظلعه: ما تقول إلا الحق، ولكن من لهذا الذي تنازله أن يدين للحق، ولو أنصف لاستراح وأراح، غير أني سائلك عن شيء أود ألا تبخل علي بجوابه، ولئن كان العهد بمعرفتك قريبا فليس العهد بمعرفة فضلك قريبا. - هات ما يعن لك. فإذا كان مما أعرفه أرضيتك بالجواب. - يقولون إن عندك صكا بخاتم محمد قدري العثماني، كتبه على استلام مبلغ من الدراهم أنفذها إليه أبو الهدى، وبتلك الدراهم أعيدت جريدة «القانون الأساسي العربية» بعد أن عطلها صاحبها لضيق ذات يده. فإذا كانت هذه الرواية صحيحة أرى أن تدفع هذا الصك إلى سيدنا (يريد الشيخ محمد ظافر)؛ وهو يرفعه بنفسه إلى السلطان وتكون لك من وراء ذلك فائدة تجني ثمراتها ما دامت لك الحياة، ويلقى أبو الهدى من العقاب ما هو أهله. - نعم الرأي، ولكن الصك الذي تسألني عنه كان عندي، ثم مزقته وأنا قادم إلى الآستانة. قلت ربما فتشوني في الكمارك فوجدوا علي هذه الورقة فيحل بي من غضب السلطان ما لا أحب. ولو كان هذا الصك بيدي الآن لما رضيت الانتفاع به، نحن قوم لا نعرف التجسس ولا نحسن السعاية، ولأن يفوز علينا أعداؤنا خير لنا من أن نفوز عليهم بمثل هذه السعايات. وفيما أكتبه ويقرؤه الناس ما يغني عن تعسف الحيل ومغالبة الرجال بالدنايا. فقرأ مصطفى ظافر في وجهي الضجر، فأومأ إلى صاحبه ليكف، ولما هم الثلاثة بالانصراف تقدم نحوي مصطفى ظافر مصافحا مصافحة ود، وقال: والدي مشتاق إليك؛ وهو شيخ كبير لا يفارق البيت كثيرا، فلو زرتنا يوما لزرت دارا تسعد بقدومك. ولنا مجالس طيبة لا نغتاب فيها أحدا ولا ننطق فيها بشر. فوعدته بذلك وجعلت الميعاد يوم الجمعة. وذهب القوم وبقيت وحدي، فقلت: يا سبحان الله! إذا كان الظوافر على ما رأيت من محمد أفندي الأسير فقد ساء فيهم ظني. نعم إن أبا الهدى رجل سوء وينبغي أن يحارب بكل سلاح ينفع في حربه. أما اللؤم فلا قبل لي به، وإذا كنت أريد أن أحاربه بمثل سلاحه فخير لي أن أسالمه وأن أنتفع بجاهه وكلمته. على أنني لا آمن على نفسي الخطأ في الحكم إذا زعمت أن ما يقوله الأسير يقوله محمد ظافر نفسه. هذا الأسير صنيعتهم ويجب أن يتقرب إليهم بإظهار الود والإخلاص، وربما استوجب عليه كلامه هذا لوما وتأنيبا حين يرجع ما ابن الشيخ.
فلما كان يوم الجمعة استصحبت الدليل الذي سبق ذكره وقصدت إلى تكية الظوافر الكائنة على يسار شارع «يلديز» بالآستانة. فإذا بناء شامخ الأركان رحب المكان، تحيط به قضبان الحديد، فخم ظاهره عار عن الزخرف باطنه، فسعى بنا خدام التكية إلى حجرة واسعة، ولم يطل بنا الانتظار، وإذا شيخ أبيض اللحية متوسط القامة أكحل الناظرتين وسيم المحيا، يسنده في مشيه خادمان له، فأشار إلي صاحبي بأن الداخل هو الشيخ ظافر، فدنونا منه فحيانا وحييناه، وجلس وجلسنا إليه، فأقبل علينا بحديثه، وقال إنه سعيد برؤيتنا، وكان صاحبي عالما بما ينبغي أن يخاطب به حملة العرش والمقربون، فقال: كدنا والله ننهب الأرض نهبا شوقا إلى مولانا، وما خاطبت ولي الدين في زيارته لمولاي إلا ورأيت به من الشوق ما لا يبالي به المرء الشدائد. فتبسم لنا الشيخ وقال: حفظكم الله.
وكان بعض الشياطين أخبرني أن أحد الدراويش قال ذات يوم للشيخ محمد ظافر: إني رأيت مولاي في منامي جالسا على يمين الله والملائكة بين يديهما خشع الأبصار. فاعترض على كلامه أحد الحاضرين، فقال له الشيخ: دعه، إنما ينطقه إخلاصه ويريه إخلاصه. ومن صفت سريرته قرب عند الله مكانه. فقلت في نفسي: أمتحنه. فإذا كان كلام الراوي صحيحا علمت ذلك من حديثه وإذا كان كذبا تبينته، ولكن الشيخ سبقني إلى السؤال فقال لي: هل تأتيكم من مصر جرائد؟ - لا؛ فإني لم أطلب لأرباب الصحف أن يرسلوا إلي صحفهم؛ فإني أخاف أن يتذرع بذلك بعض أعدائي إلى ما يطيل همي. - نحن أيضا لا نقرأ الجرائد، ولكن بعضها يأتينا على سبيل البركة، وابني مصطفى ظافر يحب المؤيد كثيرا؛ وهو يقول إنه أكبر جريدة عربية بل أكبر جريدة شرقية، وكل من قرأ المؤيد شهد لصاحبه بالفضل. وقد بلغني أنه من أكبر الشعراء وأن كلامه كله سجع لا تكلف فيه.
وقد كان المرحوم عبد الله النديم يمدح لنا المؤيد، وأخبرني عزت بك (عزت باشا العابد) أن جرائد مصر كلها تعترف للمؤيد بحق السبق، وقال لنا: لولا الشيخ علي يوسف لأعلن الإنكليز امتلاكهم مصر.
فجعلت أستمع هذا الكلام من الشيخ الجالس أمامي، ولاحت مني التفاتة إلى صاحبي الذي جاء بي إلى التكية، فرأيته مطرقا خجلا، وقد ساد بيننا السكوت دقائق معدودة، وإنا لكذلك وإذا بمصطفى بك ظافر قد دخل علينا، فحيانا واستأذن والده في الذهاب بنا إلى حجرته، فأذن له، فدخلنا حجرة رأيت بها شيخا آخر ينطق الشيب على مفرقه ولحيته، فتبادلنا السلام والمصافحة، ولما استقر بنا الجلوس أومأ مصطفى إلى ذلك الشيخ وقال: الأستاذ العلامة الشيخ إبراهيم السنوسي من سادات المغرب، هو ضيفنا الكريم ومن المغرمين بشعرك. فأجبت مصطفى ظافر بما يوافق المقام، ثم دخل الحجرة رجل أسود اللحية معمم، فدنا مني وأمسك بيدي ووقف أمامي قائلا: أهلا وسهلا بعطوفة البك، حلت البركة، تشرفت التكية، أنا والله محبكم المخلص، الله يطيل حياتكم ويحفظكم، الله ينصركم على أعدائكم، الله لا يخيب لك رجاء، الله لا يسوءنا فيك، الله يعطيك البركة، الله يعلي قدرك، الله يكفيك شر ما تخاف.
فكاد والله ينفد صبري من كلام الرجل ودعائه؛ فقد كان يرتجله ارتجالا غير ساعل ولا متوقف، فبادرني صاحبي قائلا: هذا إبراهيم بك ظافر نجل الأستاذ الكبير وأخو عطوفة مصطفى بك. فقلت: أنعم وأكرم. وأخذنا نتحادث مع الشيخ السنوسي، فرأيت منه رجلا عالما متفقها كثير التعصب، مصدقا لأضاليل الأولين، تمكنه من العلوم الشرعية أعلا قدره في نظري، واستأنست به واستطبت حديثه. ثم خرجنا من التكية بعدما لقينا فيها من الإكرام والترحيب ما لا أستطيع ذكره في هذا الموجز، ومحمد أفندي الأسير كان يومئذ متغيبا عن التكية، وكثرت الزيارات منذ ذلك بين الظوافر وبيني، فأنس إلي مصطفى ظافر وأخذ يفضي إلي بأسراره ويشكو ما لاقاه من عداوة أبي الهدى له، وكان يقول لي: إن أبي رجل درويش فقير، لا يريد من هذه الدنيا إلا وقتا يعبد الله فيه ويصلي على نبيه. وقد بلغ من الحظوة عند السلطان ما لم يبلغه سواه، فلا نال رتبة ولا رضي وساما ولا طمع في وظيفة يزاحم عليها أهل المطامع، بل عف عن كل لذة وانصرف إلى الله عن كل جاه، وآثر الآخرة على الأولى؛ فهو يحب الفقراء ويجلس إليهم ويستطيب مجالسهم، ولا تمت به نفسه إلى مخالطة الكبراء أولي المطامع. فوالله ما أدري ماذا يريد منه أبو الهدى، وهو مع أبي على طرفي نقيض، تسمو نفسه إلى المعالي ويحب الألقاب ويتعشق الوسامات ويفتتن بحب المال، وهل ينال أبي شيئا يحرم هو منه؟ حسبنا ما نحن فيه، هذه نعمة من الله لا نستطيع أن نوفيه عليها شكرا، فلا نريد أكثر منها ولا أحسن منها.
قلت: يخيل لي أن أبا الهدى شديد الوطأة عليكم، وأنه لا يألو في نكايتكم جهدا، ولكن هل تعلم لذلك سببا؟ فليس من العقل في شيء أن يناوئكم طلبا للمناوأة. - السبب حسد أبي الهدى لأبي؛ يرى السلطان مقبلا علينا برضائه واضعا آلنا تحت حمايته، غير مانع عنا خيرا، فيسوءه ذلك؛ وهو يريد ألا يحب السلطان غيره وألا يقبل بدولته على سواه، وكثيرا ما وشى بأبي ودس له الشر، ولكن نجانا الله من كيده. وكم قال له السلطان أنا واثق بود الشيخ محمد ظافر، معتمد على صدق ولائه، فلا تخاطبني في أمره بما لا أحب. غير أن عادة الشر تغلب عليه، فيسبق لسانه خاطره وينال منا ومن أعراضنا ويرمينا بكل نقيصة، وله رجال يدخلون بيتنا يطئون بساطنا ويصيبون من طعامنا، ثم يذهبون إليه بأحاديث ملفقة يستزيدها هو من عنده ما شاء. - وأنتم ألا تنازلونه كما ينازلكم؟ أبوك له من الدالة على السلطان ما يمنع بها حماه ويكيل لعدوه مكيالا بصاع. - لما كان المرحوم السيد جمال الدين والمرحوم عبد الله النديم على قيد الحياة كانا يغيظانه حتى تتبادر شئونه من عينيه. ولقد أطالا سهاده وضاعفا همه، فما كنت تسمع له إلا صخبا وعويلا متواصلا وشكايات إثر شكايات يطرق بها باب السلطان. ولما ألف فيه المرحوم النديم كتابه الذي سماه «المسامير» قامت له قيامته وجعل يهدر كما يهدر الفحل إذا هاج، ولو مد الله في أيامهما لعاجلاه بما يلقى به حتفه، ولكن لكل أجل كتاب. وكان السيد جمال الدين إذا ذكره في مجلس السلطان لم يسمه إلا أبا الضلال. ولقد استشاط عبد الله نديم غضبا ذات يوم وكان دعي إلى قصر السلطان، وسئل هنالك أن يكف عن هجاء أبي الهدى والسلطان مطل عليه من كوة يسمعه ويراه، فصاح النديم بأعلى صوته قائلا: لقد قلد مولانا السلطان أبا الضلال وسام الافتخار، فلألبسنه أنا وسام العار يلازمه في حياته ويصحبه إلى قبره بعد مماته، فخاف من بالقصر من وعيد النديم وأخذوا يتلطفون في إسكاته ولم يستطيعوا ذلك إلا بعد جهد أضناهم.
عزت العابد
قال لي مصطفى ظافر يوما: هل لك في زيارة عزت بك العابد؟ (لم ينل إذ ذاك رتبة الوزارة) فقد رأيته يثني عليك أجمل الثناء، وقال لي إنه يحب أن يعرفك ذاتا كما عرفك اسما.
قلت: هذه فرصة لا تضيع، وما بي غنى عن معرفة أولئك الذين أحاطوا بسلطان العثمانيين، وأضحوا سورا بينه وبين رعيته.
قال: إذن فانهض معي لنزوره. فخرجنا، فلما انتهينا إلى يلديز ولجنا الباب الكبير الذي يدخل منه إلى القصر، وأخذ يسير بي إلى أن انتهينا إلى دائرة عزت. فإذا هو رجل ربعة القامة نحيف الجسم، أسود اللحية باسم الوجه، فتلقى مصطفى ظافر بالترحاب وتقدمت نحوه فسماني له صاحبي، فصافحني وأجلسني بمقربة منه، ثم أراد أن يتمثل ببيت من الشعر فلم يحضره، وجعل لسانه يتلجلج ولا ينطق به، فاختار ترك الإنشاد ورضي بالحديث.
قال: قضى مرضي ألا يهنأ لي عيش بأنس ولا بشيء من نعم الحياة. وقد أمر مولانا السلطان أن تخصص لي باخرة صغيرة أتنزه عليها في الخليج. فإذا جاء ميعاد النزهة أرسل - أعزه الله - يخبرني بالميعاد، فأنهض إلى باخرتي وأرود بها البوسفور، ثم أعود فأدخل إلى حضرته، فأتملى بتقبيل أذياله وأنصرف بعد ذلك إلى بيتي. غير أن نزهتي هذه لا تسرني كثيرا؛ فقد أظل بالباخرة وحيدا لا أجد من أحادثه، فرأيت أن أخاطب بعض الأحبة أن يزوروني ساعة خروجي لأستصحبهم معي وأخلص من ملل الوحدة. وقد خرجت الآن مع عبد الجليل أفندي، فانشرح فؤادي وطابت نفسي. ويا ليتكما تذهبان معي يوما، هنالك ما يفجر ينابيع الشعر في فؤاد ولي الدين.
قال مصطفى ظافر: إن ولي الدين لا يحب أن يبرح منزله إلا مكرها، وإذا تركت الأمر له فلا تنتظر زيارته إلا نادرا، ولكنني سأحتال في استصحابه يوما لنشاركك في هذه النزهة.
هكذا قضينا نحو ساعة في حديث لا فائدة فيه، والسبب في ذلك أن مكاننا كان مكان خوف، وعلى عزت جواسيس وعلى غيره أيضا جواسيس، وأنا لم أشأ أن أبادئه بذكر شيء تجنبا لما عساه يأتي من جراء كلامي، ولكيلا يحسب العابد أني أذم أبا الهدى تحببا إليه فيتهمني في قلبه بالنفاق وسوء الأخلاق. غير أننا لما أردنا الخروج أمسك عزت بيدي وخاطب مصطفى ظافر قائلا: أرجو أن تأتي مساء يوم مع ولي الدين إلى منزلي لنتعشى معا. فضمن صاحبي له ذلك، وفي مساء يوم من الأيام زارني مصطفى ظافر ومعه ورقة من العابد يدعوه بها إلى العشاء، ويرجوه ألا يألو جهدا في أخذي معه، فذهبنا. فإذا بيت مدخله مفروش بالرخام الملون، فاخر الأثاث حسن الترتيب، فسار بي رفيقي حتى ولجنا حجرة واسعة ليس بها أحد، وإلى يسار الداخل حجرة أخرى سمعنا بها أصوات أناس يتكلمون، فخرج منها رجل وإذا هو عزت، فما وقعت عينه علينا إلا بادر نحوي آخذا بيميني، ثم قال: تعال أقاسمك ما رزقنا الله. هذا جعل للشعراء. أما رفيقك فهو تقي وابن تقي، دعه وحده في مراقبته. فتبسمت وأنشدت قول الصفي الحلي:
يرنون بالألحاظ شزرا كلما
صبغت أشعتها أكف سقاتها
فأخذ عزت بيدي ودخل بي إلى الغرفة التي سمعنا منها حديثه مع أصحابه. فإذا رجلان أحدهما عبد الجليل أفندي أحد الموظفين بإدارة الريجي، والثاني لا أعرفه، وفي أحد أركان المكان مائدة عليها ما لذ وطاب من العرق الشامي وأنواع الأطعمة (المزة)، فناولنا عزت كأسا وقال لي: قل فيها شعرا ثم اشربها.
قلت: لم أستصحب معي شيطاني، ولا أدري إن كان يهتدي إلى موضعي فيأتيني أم يدعني الليلة أخرس لا أنطق بشيء. ومجمل القصة أننا أصبنا راحنا ونلنا طعامنا، ثم خرجنا إلى الحجرة التي دخلناها أولا، فأخرج عزت من «جيبه» ورقة بها قصيدة (أظنها للفاضل النبهاني)، فأشار إلينا أن أنصتوا وراح ينشدها علينا، فسمعت شعرا غير جيد ولكنني آثرت السكوت ولم أعب منه شيئا، فقال عزت: هذا رجل من رجال أبي الهدى، ولكنه صلي بناره، فلجأ إلى ركني وأنا حميته نكاية بأبي الضلال. آه، ماذا أقول لكم أيها الإخوان؟ أقالني الله من خدمتك يا سلطان يا عبد الحميد، وأذهب الله عني كل عز نلته على يديك، قولوا بالله آمين. فقال الحاضرون: حاش لله أن نجيبك إلى طلبك، هذا دعاء لن يتقبله منك الله، وكم عند مولانا السلطان مثلك من صادق يحبه ويفتديه بحياته!
قال: هذا الذي سيجلب علي البلاء، أنا والله أحبه وأهابه وأعلم أن محبتي له مهلكتي، ثم أية لذة أجدها في حياة كلها خوف ونصب؟! الناس إذا أمسوا رجعوا إلى بيوتهم، فعاشوا بين أهلهم وأحبابهم، وأنا كالضيف في بيتي. لقد أنزع عني ثيابي وأذهب إلى فراشي، فلا أمهل أن تأخذني سنة من نوم إلا والرسل تتبع الرسل يتعجلون ذهابي معهم إلى القصر، فأذهب وأنفي راغم، وكثيرا ما يكون استدعائي لأمر غير ذي بال أو ليسألني سؤالا لا يفيده شيئا، فأظل هنالك ساعات طويلة، وحين أهم بالعودة إلى داري أجد الليل وقد نزع جلبابه ونصل إهابه، فأبقى بالقصر ولا أعود إلى مساء اليوم الثاني. والناس يحسبون عزت العابد رافلا في حلل السعادة بالغا من العز منتهاه، تعالوا انظروا وحدته في حجرته وكيف تجري مدامعه ثم احسدوه إذا شئتم.
قلت: يا سيدي، هذه حالك من دون المقربين، أم كلهم كذلك معذبون؟
قال: الشكاية على قدر الأعباء، أما المصيبة فمتوزعة بيننا على السواء، أنت تخرج من هنا وتذهب إلى بيتك فتجلس إلى أهلك أو صحبك، وإذا شئت خرجت إلى معاهد اللهو وصنعت كل ما تشتهيه نفسك، لا يعارضك في ذلك معارض، فمن من رجال القصر يقدر أن يذهب حيث تذهب؟ ومن منهم يجد متسعا في وقته ليأنس إلى أهله أو من يحبهم ولو كان مرة واحدة في الأسبوع؟! هذا ما لا يحلم به أحد منا. ولولا مرضي لما وجدت إلى هذه الراحة سبيلا. وقد أزف الوقت وبلغ السهر مداه، فاستأذنا من مضيفنا في الذهاب وسلمنا عليه وخرجنا، ثم ودعت مصطفى ظافر ورجعت إلى بيتي، فلما خلوت إلى حجرتي أشعلت سيجارتي وجلست أدخن بها وأتفكر فيما رأت عيناي وسمعت أذناي.
فقلت: ويل لهذا السلطان، يقيم خاصته على أبوابه كرها لا رضاء، ولو أمنوا غدره لولوا من قصره طالبين نجاتهم. هذا عزت العابد، أهل الآستانة وسائر أهل الأقطار العثمانية يحسبونه في نعمة ليس وراءها مطمع؛ كل يتمنى لو نال أقل ما نال هو من عز باهر وسلطان قوي؛ وها هو الساعة أمامي تكاد عبرته تسبق كلامه. غير أن ما أشكل علي فهمه ولم أجد له إذ ذاك جوابا شافيا، هو المعرفة بحقيقة عزت؛ أهو خائن كما يزعم الناس أم غير خائن؟ فإن كان ما يزعمون صدقا فما هو الدليل على صدقه؟ وإن كان كذبا فما هو الدليل على كذبه؟ كلا القولين بلا مرجح يرجحه. أما ما رأينا من شكايته المرة فلا يعتد به، وربما اشتكى خوفا من عواقب خيانته وانكشاف أمره للناس، وربما اشتكى أيضا أنفة من مشاركة عبد الحميد في آثامه وحياء من أن يكون من أبناء أمة ويعمل مع عدوها على قتلها. نعم، قال إنه يحب عبد الحميد، وحاشية الرجل الظالم لا يستطيعون أن يقولوا غير ذلك؛ فهم يعرفون غضبه ويحذرون نقمته. ولقد قال أيضا إن حبه لعبد الحميد مهلكه يوما. وهذا منتهى ما يقدر أن يقوله قائل في مثل موضعه. فنمت وأنا أمني النفس باستجلاء تلك الغوامض يوما وإن أبت إلا امتناعا.
إلى هنا أكتفي بهذا القدر من الكلام على ظافر وعزت، وسأرجع الحديث إلى ذكرهما لاتصاله بذكر غيرهما.
شر جديد
لما أتم شقيقي يوسف حمدي يكن بعض أعماله التي جشمته السفر إلى مصر، وفرغ من طبع رسالتي المسماة «الخافي والبادي» عاد إلى الآستانة، فأقام معي نحو العام أو أكثر، ثم أراد السفر إلى مصر زاعما أن طول مقامه بالآستانة أكسب فكره الخمول، وأنه يريد أن يتنسم نسائم الحرية التي درج من عشها وعاش في ديارها، وإنما أراد أن يصدر بمصر جريدة ينشر فيها ما رآه بالآستانة من آثار الظلم وطلائع الدمار. تبينت ذلك في حديثه وإن كان بالغ في كتمانه ظنا منه أني ربما منعته عن إتمام بغيته، فسررت وأظهرت التغابي وتمثلت بقول القائل:
إذا مقدم منا ذرا حد نابه
تخمط منا ناب آخر مقدم
وقلت في نفسي ليس من العدل أن أقضي على هذا الشاب بما قضيت به على نفسي، فليغن الوطن غناءه، وليجاهد ما استطاع إلى الجهاد سبيلا. ثم زودته عناقا وقلت: سر يكلؤك الله، فإن أتاني منك ما يعلي ذكرك وإلا فهذا فراق بيني وبينك. فوصل أخي إلى مصر وأصدر بها جريدته التي سماها «الإنذار» وأرسل إلي نسخة منها في مظروف على يد رجل أجنبي يعلم مودته لي، فلما نظرت في الجريدة وتأملت ما يخاطب فيها عبد الحميد من الكلام أوجست في نفسي خيفة وقلت: هذا باب من أبواب الشر أنا فتحته على نفسي. ولقد سبق السيف العذل وما بقي إلا النظر في جواب سديد ألجم به أفواه من يسألونني غدا. ثم زارني في ظهر الغد مصطفى ظافر وأخذني معه إلى تكيتهم، فقال لي ونحن في الطريق: دعاني باشكاتب السلطان أمس إلى القصر، فلما دخلت عليه وجدت بين يديه نسختين من جريدة اسمها «الإنذار»، فمد إلي نسخة منهما وهو يقول: انظر هذه الوريقة التي أصدرها أخو صاحبك، واعجب لجرأة ولي الدين كيف يعيش بأنعم السلطان ثم يرسل أخاه إلى مصر ليعتدي على مصدر نعمته. قال مصطفى ظافر: فلما أخذت الجريدة ورأيت عليها اسم شقيقك دهشت حتى لم أدر ما أقول، ولكنني تغلبت على ما عراني من الدهش وقلت: يا مولاي، إن ولي الدين من أسرة كريمة؛ وهو رجل عاقل لا يقدم على مثل هذه الأمور، وأخوه شاب صغير السن، ومصر الآن مزدحمة بالهاربين من عدل مولانا السلطان، فلا شك أن بعضهم أغواه واستهواه فتجاسر على عمله هذا وهو لا يعلم مبلغ جرمه. وما يضر قدر الخليفة في عليائه أن يجهل عليه بعض الغلمان ويجعلوا أنفسهم بمنزلة من يعرفون حقائق الأشياء؟! حسبه أن كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها يشدو بثنائه، وأن المنابر في جوامع المسلمين تميل طربا عند ذكر اسمه، وإذا شئتم كلمت ولي الدين في هذا الأمر ومحضت له النصح، وما إخاله إلا غاضبا إذا اتصل به هذا الخبر. أما أنت يا ولي الدين، فينبغي عليك أن تكتب لأخيك كتابا يكون رادعا له عن غيه. فلا يغرك حلم السلطان؛ فإنه والله إذا غضب لم يبال شيئا. وأخوك في شبابه لا يدرك هذه الأمور، فانظر ما أنت فاعل. أما أنا فقد وعدت الباشكاتب أن أعود إليه بجواب منك فيه مقنع، وسأقول له كلاما يخفف غضبته ويبرئك لديه.
قلت: جزاك الله عني خيرا. أما جريدة أخي فلا أعلم بها إلا الساعة، ولا أكذبك أني أسفت لما فرط منه أشد الأسف، ولكن حيلتي في الأمر قليلة. وفي غد ذلك اليوم جاءني رسول من عند فائق بك ابن المرحوم لطفي آغا، وكلاهما من قرناء السلطان (جمع قرين، يراد به النديم الخاص)، فلما أدخل بي إليه قال لي: بلغ ولي النعم أن لك أخا اسمه يوسف حمدي يكن، وأنه ذهب إلى مصر وأصدر بها جريدة اسمها «الإنذار» ينتصر بها لأعداء الدولة وخائني الوطن الذي يقيمون بمصر ويسمون أنفسهم «الزون ترك»، ومولانا يأمرك أن تكتب إلى أخيك تسأله عما يريد من وظيفة أو مال على أن يكون ما يريده غير متعد حد الممكنات، وأن يرجع عن معاداة السلطان. وهذه فرصة لا تسنح لكل الناس، فاكتب إلى أخيك بذلك وقل له يرسل جوابه إلي باللغة التركية، فوعدته بإنجاز ما أراد، ورجعت إلى منزلي، فقلت في نفسي: الشباب له سكرة تطول سنين عديدة، وربما أكتب ما يريدون فيصادف من شقيقي ضعفا في نفسه فيرضى فيحل به وبي ما نخاف، وإذا كتبت له كتابا آخر أحذره من كتابي الأول فلا آمن أن يقع في يد من لا يرقب ذمة ولا يخشى لها عتابا ويحل بنا يومئذ البلاء العميم. ومن لي بطريق في غفلة من أعين الواشين والرقباء! فلم أجد بعد كل تأمل وتدبر مخلصا سوى الإذعان، فكتبت إلى شقيقي كتابا باللغة التركية أدعوه إلى ترك الجدال والعودة إلى الآستانة وأبشره بنيل ما يريد، وجعلت كتابي في مظروف أخذته معي مفتوحا وأسلمته إلى فائق، فأرسله من القصر السلطاني إلى دار البريد.
وفي ذات يوم جاءني صديقي الكاتب التركي الفاضل «س. ت» بك. وقد كان يحرر القسم التركي في بعض جرائد الآستانة، ثم عين بالخزينة الخاصة السلطانية، فأخذ يلتمس العبارات ليؤدي بنا الحديث إلى سفرة أخي لمصر، فلما أعياه الطلب ورأى كثرة المقدمات تضل عن الصدد اقتضب الكلام اقتضابا فقال: أنا أعرف أنك لا تحب من أخيك أن يكتب شيئا فيه ذم للسلطان، ولا يمكن أن يسافر أخوك من نفسه طلبا لإصدار جريدة في هذا السبيل، ولا بد أن يكون أرسله قوم ممن لهم بمصر مقاصد يطاردونها. وهذا ما لا يفعله إلا آل ظافر؛ فإن قلت إن الشيخ الكبير لا يعنيه من أمر الجرائد شيء وإنه بخيل لا يجود بالدرهم ولو كان فيه طول عمره. قلت لك: نعم، ولكن ابنه مصطفى ليس كذلك؛ فهو أبو المشاكل، وكل ما يلاقيه أبوه هو منشئه. ولو سلك مصطفى طريق أبيه وترك عداوات الرجال وأغضى عما يبادئه به أعداؤه لانقلبوا له أصدقاء. والآن وقع ما وقع وقضي الأمر؛ فإن كتموك ما دبروه بالأمس فما أحسبهم يكتمونك اليوم، وهم يعرفون منك فرط الحياء والتمسك بالود، ولئن فعلوا فأنت قادر على استيضاح ما تريد بأن تتوعدهم. فإذا فعلت ذلك لم يجدوا بدا من بيان ما أغمض عليك.
قلت: يا فلان، هذا كلام حسن الانتساق، ولكن الفائدة منه منعدمة. فماذا تريد أن تقول؟ قل وأوجز ودع هذه الخطبة إلى وقت آخر.
قال: ما أراني خاطبا. ومجمل الأمر أني موجه إليك من أحد المقربين، ولا أستطع أن أذكر لك اسمه جريا على ما اتفقنا عليه؛ وهو يريد أن يعلم ألآل ظافر شأن في سفر أخيك أم لغيرهم؟
قلت: يا فلان أراك رضيت لنفسك صناعة كنا نذمها معا؛ فإن كنت بدلت برأيك السابق غيره فإني لا أزال على قديمي، ولا أسديك نصحا في الرجوع إلى سابقك، فذلك له أول وليس له آخر. ومن أوقعه سوء الحظ في مجاهله ضاقت عليه المسالك ولم يجد إلى الهداية مهيعا. اذهب إلى من زودك رأيه وأعارك لسانه فقل له إني أخو يوسف حمدي يكن. ولكنني لا أعرف من فؤاده إلا ما يبديه لي. أما آل ظافر فقد كان مصطفى معي؛ وهو أول من جاءني معاتبا؛ وهو أول من طلب إلي استرجاع أخي، فخرج صاحبي يجر فضول أذيال الخزي. وكان ذلك آخر عهدي به.
وإلى هنا نفد الصبر. فرأيت ألا أصبر على الضيم الطويل، فأقمت أتدبر فيما يفتح لي أبواب النجاة لأخرج من هذا الوطن؛ لعلي أجد في البلاد الحرة من يسمع رثائي حين أرثيه. وما كابدته من آلام الاستبداد يكفر عن سيئاتي في العودة إلى حيث دفن الحق وقامت مناحات الشهداء. فجرت هذه الأبيات على لساني ونمقها قلمي، فجعلت أرددها طول ليلتي. وإني لذاكرها في هذا الفصل عسى يكون في القراء من يحب كلام الشعراء حين تخترق قلوبهم وتمازج دخانها حسراتهم. قلت:
ألا مرشد لي بعد ما ضل من عقلي
أأندب أم لا يحسن الندب من مثلي
تندمت لا أني تورطت ذلة
ولكن لأني ما ربيت على الذل
يعاتبني قلبي على ما فعلته
فأسكت علما بالذي كان من فعلي
وأحمل أعبائي على السخط والرضا
لعلي بعد اليوم أرتاح من حملي
ولو أحد قبلي بشقوته ارتضى
رضيت ولكن ما ارتضى أحد قبلي
فيا مجد آبائي أثبني إقالة
تنقلت في عهدي من الصون للبذل •••
يهددني بالقتل من ليس فاعلا
ويا ليته يوما يمكن من قتلي
فأجتاز دهرا خيره مثل شره
وأخلص لا أبكي لهجر ولا وصل •••
عذولي لا يرتاح يوما من العذل
وما بي من جهل فأعذل في الجهل
رأى رجلا لم ينتزع ثوب جده
فقال ألاقيه بشيء من الهزل
دنوا دنوا يا معاني فإنني
سأملي بك الشكوى على الدهر ما أملي
يرى معشر فضلي فيرجونني به
وهيهات لا نقصي يفيد ولا فضلي •••
يخاتلني لحظ الجميل فأنثني
عليه ومن أدري من اللحظ بالختل
وقد كنت عن شغل الهوى متفرغا
فأصبحت من بعد التفرغ في شغل
وعاد لي الليل الذي كنت ساهرا
وعاودني السهد الذي كنت أستحلي
أحب الحسان البيض وهي تحبني
كأن الحسان البيض أبدعن من أجلي
يصيب إذا ترمي فؤادي نبلها
ويصرد إذ أرمى محاسنها نبلي
وما أنا بالمظلوم منها وإنما
جبلت على حب الزيادة في العدل
لقد كدت أنهى النفس لولا اعتلاقها
عن الوجنات الحمر والأعين النجل
وتلك لعمري للأكارم سبة
أبى لي يوما أن أقارفها أصلي •••
كلي يا ليالي همتي لسكونها
أجدك منها أنها أبدا تغلي
سئمت تكاليف المعالي ولا أرى
لأهل النهى بين التكاليف ما يعلي
بلى وازدهتني كبرة عن طلابها
غداة استوى فيها أخو المجد بالنذل
ولم يرض نبلي أن أرى متنبلا
وقد علموا ليس التنبل كالنبل
رمى الله في عيني زماني بالقذى
ولقاه تبلا لا يقصر عن تبلي
تواثبني منه الخطوب كمعشر
أتت بعد قتلاها تطالب بالذحل
أراني إما ناحيا قصد شرة
وإما مقيما في جوار من المطل
لقد أكلتني الحادثات ولم يكن
لها كافيا لحمي فتشبع من أكلي •••
وما مسلم للموت بين عداته
يقاد له قود الجنيبة بالحبل
غريب له أهل يرجون أوبه
كما آب من نأي سواه إلى الأهل
توافوا به للنار أذكوا ضرامها
وأوفوا لها بالرضف والحطب الجزل
بأعظم مني لوعة بمعاشر
هم أوقروا متني وهم قيدوا رجلي
مضى كل شيء كان للنفس سلوة
وهذي البقايا لا تعزي ولا تسلي
أعيذك يا أرض الأساود أن يرى
بك الماء غورا غير ري ولا ضحل
وأن تنبتي ما ليس تجنى ثماره
وأن تتغشاك السحاب بلا وبل
وعرفت حينئذ أن مقامي في أرض مسبعة، فما راعني إلا شيطان من أبي الهدى يحرق علي البلاد ويأبى أن يراني ضاربا بين أضواحها وأجزاعها. وافاني مصطفى ظافر ليلا، فرأيت الفزع باديا على وجهه، فقلت: ما وراءك؟
قال: قامت القيامة علينا وعليك. أبو الهدى أوعز إلى أحد الجواسيس واسمه «ضيا» فوشى إلى السلطان بأن بالآستانة جمعية خفية تعمل على الفتك به والانتصار لأعدائه، وأن رئيس هذه الجمعية هو المشير فؤاد باشا، وأني ورضا بك (هو الآن رضا باشا نزيل مصر) والشيخ أسعد شقير إمام آغا دار السعادة (هو الآن نائب أنطاكية بمجلس المبعوثان) ومحمود أفندي نديم (آخر وظيفة له هي متصرفية قره حصار التابعة لولاية سيواس) أعضاء هذه الجمعية، وأنك أنت قلم الجمعية؛ تنشر بجرائد مصر ما نحن نتفق عليه، ثم تأتي هذه الجرائد باسمك إلى إدارة البريد الفرنساوي فتوزعها علينا وعلى من يقول برأينا. وقد أخبر الجاسوس أن بإدارة البريد طردا من الجرائد جاء باسمك من مصر، فأنفذ السلطان أحد رجاله ليأخذ له ذلك الطرد فأبى البريد أن يسلمه إياه، هنالك كلموا سفير فرنسا المسيو قونستان، فأمر البريد أن يسلم الطرد وأن يسلم أيضا كل طرد ترتاب فيه حكومة السلطان، وقال: نحن لا نريد أن يكون بريدنا واسطة في دخول الدسائس إلى البلاد العثمانية، ولما نظروا الطرد وجدوه مكتوبا باسمك، فظهر صدق الجاسوس، واليوم أخذوا الشيخ أسعد شقير إلى نظارة الضبطية، وتولى الناظر وقدري بك رئيس الجواسيس استنطاقه. وقد بادر محمود نديم إلى «يلديز»، وأخبر عبد الغني (آغا دار السعادة) وعبد الغني بادر إلى السلطان شاكيا وباكيا، وقال إن أعدائي يريدون احتقاري، وقد أخذوا إمامي، وربما لحقه السوء ظلما وعدوانا. فصدرت إرادة السلطان باستدعاء الجميع إلى «يلديز» والاستمرار على التحقيق هنالك.
وقد كان أبو النصر يحيى السلاوي عندنا في يومنا هذا، فأخبرنا أن شفيق باشا ناظر الضبطية وقدري بك رئيس الجواسيس دعواه إلى النظارة وسألاه عما يعلم عنك، فقال لهم إنه يعرفك كما يعرفك سائر رفاقك الذين معك بنظارة المعارف، فقال له قدري بك: وهل يكتب ولي الدين فصولا في ذم السلطان ويبعث بها إلى جرائد الأحرار بمصر؟
فقال السلاوي: لا علم لي بذلك، وإذا كان ولي الدين يكتب فصولا كما ذكرت أفلا يخاف على نفسه العقاب حتى يطلع الناس عليها؟ وهل علمتم عليه شيئا من هذا القبيل؟
قال قدري بك: كلا، وإنما نسألك لنتعرف ذلك منك، فأما وقد ذكرت أنك لا تعرف شيئا من أسراره فلا حاجة إلى زيادة الأسئلة، ونحن نوصيك ألا تخبر ولي الدين بشيء مما جرى لك معنا. فأجابهم السلاوي إلى طلبتهم وانصرف.
قلت لمصطفى ظافر: ومن ضيا هذا الذي تذكره؟ وأين هو الآن؟
قال: هو رجل أظنه من إزمير؛ وهو الآن في «يلديز» لا يريدون أن يطلقوا سراحه حتى يتم التحقيق ويظهر صدقه من كذبه. وقد بادرت إليك مخبرا بما وقع فكن على حذر.
قلت: وما ينفع حذري الآن؟ وهل تحسب القوم يغفلون عنا بعد أن بلغهم عنا ما بلغهم؟ وما لي من حيلة سوى انتظار ما ستجري به الأقدار.
ثم مضى على هذه الواقعة نحو الأسبوع، فاتصل بي بعد ذلك أن الذين تولوا تحقيق القضية قالوا للجاسوس: من أين عرفت أن ولي الدين اتفق مع من سميتهم على أن يكتب إلى الجرائد في ذم السلطان؟ ومن أين لك أن هذه الجرائد ستأتيه أو هي أتته وأنها محفوظة بإدارة البريد الفرنساوي؟
قال: كنت ذهبت إلى الباب العالي، فرأيت الشيخ أسعد شقير ومحمود نديم وولي الدين خارجين من شورى الدولة، وكانوا عند مصطفى ظافر، فجعلت أمشي خلفهم وأستمع ما يقولون، فوعيت كلامهم كله ولم أضع منه حرفا واحدا.
قالوا له: صف لنا ولي الدين.
قال: هو رجل عظيم الجثة، له لحية شقراء وعينان زرقاوان. فلم يمهلوه إلى أن يتم كلامه ، وهنالك هدده أحد رجال القصر بالويل والثبور إذا لم يعترف بالحقيقة. وتركوه وحده في حجرة ليتمعن فيما هو صائر إليه، فهاله الأمر وأحس بالشر وأيقن أن لا خلاص له مما وقع فيه، فطلب أن يعيدوه إلى المحققين. فلما مثل بين يديهم قال: إن أبا الهدى عرض علي كتابة تقرير أتهم به من عرفتم أسماءهم، وأعطاني ثلاث ورقات من أوراق البنك العثماني قيمة كل واحدة منها خمسة جنيهات، وكل الذي سمعتم مني لقننيه أبو الهدى. وأنا رجل فقير ولي حاجة شديدة إلى أقل من هذا المال، فغلبتني الحاجة فأنجزت ما أراد. فلما سمع المحققون كلام الرجل ورأوا أوراق البنك بأعينهم أبلغوا السلطان ما وقع، فأمر بكتمان الأمر. كل هذا جرى ولم أعلم به إلا بعد أن جرى.
ولما علم فؤاد باشا بالواقعة قصد إلى «يلديز»، وبينما هو يريد الصعود إلى عند الباشكاتب التقى بأبي الهدى في طريقه. فتقدم نحوه وبادره بالشتم، وكاد يرمي به تحت أقدامه لولا تضرعه وبكاؤه، فأمسك عنه فؤاد باشا وقال له: أنا بمعزل عن هذا القصر وعن مطامعه، وليس لي وإياك شأن. فإذا أنت لم ترعو وحدثتك نفسك بالعودة إلى مثل فعلتك هذه رميتك على الأرض ووطئت رأسك بأقدامي، ففارقه أبو الهدى وهو لا يصدق بالنجاة.
فدلني مرة رجل من معارفنا على ما يستوقف دوننا دهمات أبي الضلال، وكان من رأيه أن ننشئ جريدة بجنيف تنشر بالتركية والعربية والفرنساوية، نذكر بها مثالب هذا العدو الغاشم ونبين مخازيه ليحذره السلطان بعد ذلك أو ليضطر إلى حذره تنصلا منه أمام رعيته، فكلمنا في ذلك رضا باشا وأسعد أفندي شقير. غير أن رأي أسعد أفندي كان موافقا لرأيي في جعل الجريدة جريدة حرة محضة. وقد صدق إذ كنا أقدر الناس على معرفة ما يقع بيلديز، ولو شئنا لنشرنا نص كل إرادة سلطانية من قبل أن تبلغ إلى الباب العالي، ولكن مصطفى ظافر خاف على نفسه وأبيه غضب السلطان، وقال: إذا ظهر أمرنا يوما فماذا يصيبنا؟ أما أنتم فتسجنون أو تنفون ، ولكنني أنفى وأسجن وأزيد عليكم بما يحل بأبي في كبره وبإخوتي من بعده ما يبدد شملنا ويفني حتى أعقابنا، فلما رأينا هذا الخلاف عدلنا عن الأمر. وكان «ح. ح» يريد السفر إلى مصر، فقال لمصطفى ظافر: إنه سيتفق مع صاحب المؤيد على إصدار جريدة أسبوعية تكون لسان حالنا. ولما وصل مصر أتت كتبه وليس فيها شيء سوى الثناء على بدائع مصر وعلى صاحب المؤيد حامي مصر والمصريين!
بعض ما مر علي بنظارة المعارف
عاد الحديث
ليت هذه البلايا التي داهمتني خارج وظيفتي هادنتني وأنا فيها، فأتسلى بما صفا من شطر الحياة عما كدر من شطرها الآخر، فمن يملأ إذن هذه الصحائف بهذه المخازي؟ وماذا كان يتسنى لي من الشكاية لو تساوى الطيب والرديء في تناوبهما؟ هيهات! ذاك زمان عبد الحميد الثاني، يظل الكاتبون يكتبون فتنفد المعاني وتمتنع الألفاظ ولا يحصى لتلك المساوئ عد ولا يمكن لقليلها شرح.
لما مر علي بعض الشهور بعد نقلي إلى نظارة المعارف، ووقفت على ما تيسر لي من أعمال المجلس الأعلى؛ أخذت أعترض على ما أراه مخالفا، وأرشد إلى ما أحسبه موافقا، فساء ذلك رفاقي وجعلوا يؤاخذونني على ما أجري عليه من هذا المنهاج. وأبغضني زهدي باشا ناظر المعارف وغضب علي أنصاره وشركاؤه في النهب، فأنفذ إلي علي غالب بك مدير الأوراق حاجبه يدعوني إلى حجرته. وكان راسخ أفندي أحد الأعضاء الذين سبق ذكرهم في أحد الفصول المتقدمة جالسا إلى جانبي، فالتفت وسألته من هو غالب بك الذي يدعوني إلى حجرته؟ فقال لي: هو مدير الأوراق بنظارة المعارف، وهو ألباني الأصل شرس الطباع، لا يخاف أحدا ولا يكرم أحدا، فأرجع إليه حاجبه بكلام لين لا يهيج له غضبا؛ فقد ضرب يوما أحد أعضاء مجلس الأنجمن (مجلس مراقبة الكتب والمؤلفات الأخرى)، والمضروب رجل هرم اسمه طاهر أفندي، ضربه في حجرته بهذه النظارة بمشهد من موظفي المعارف كلهم، ولم يستطع أحد منهم أن يعارضه. ثم ذهب طاهر أفندي باكيا معولا ورفع شكواه إلى السلطان، فلم يغنه ذلك فتيلا وما سأل الضارب أحد، ولا أقول إنه ربما ضربك، ولكن من يضمن لنا أنكما لن تتضاربا.
قلت: إن مدير الأوراق لا يقدر أن يأمر أحد أعضاء المجلس الأعلى، ومن أجل هذا كنت أود ألا أذهب إليه، ولكن لما كان الرجل ممن يتوعدون ويضربون ولا يسألون عما يفعلون فقد وجب علي أن أبادر إليه لأرى ما سيكون من أمره. ثم تبعت الحاجب إلى حجرة علي غالب، فدخلت عليه وهو جالس أمام مكتبته، يكاد يكون مضطجعا عليها، وخلفه سجادة على الحائط قد سمر عليها صولجان من الخشب وأشياء أخر لا أذكر الساعة ما هي. فسلمت عليه، فأجابني على سلامي قاعدا، فقلت: أخبرني الحاجب أنك تريد أن تكلمني. وها أنا بين يديك لأسمع ما تقول. - تفضل بالجلوس. - الوقت لا يسع إطالة الكلام، فقل ما بدا لك ولا حاجة بي إلى الجلوس. - أراك كثير الاعتراض على قرارات المجلس. وأنت تفعل ذلك لتظهر للناس أنك رب معرفة وأنك لا تخفى عليك خافية. ولكنك تخطئ في كثير من اعتراضاتك. - إن من حقي أن أعترض وأن أوافق، وما جعلت في المجلس إلا من أجل ذلك. أما الخطأ فلا أسأل عنه؛ والمراد أن يبدي كل رأيه وليس بين الناس من تكون آراؤه كلها صوابا. - نعم، ولكن الذين يكثرون من الاعتراض لا يفلحون، وأنا من المخلصين لسماحة الأفندي (يريد أبا الهدى) ولعطوفة البك (يريد عمي المرحوم فائق بك، وكان من أشد أصدقاء أبي الهدى)، فرأيت أن أنصحك في الرجوع عن جهل الشباب. فإذا قبلت نصيحتي شكرتني عليها في مستقبل زمانك، وإن أبيت إلا تماديا ندمت حين لا ينفع الندم. - نحن الآن بنظارة المعارف ولسنا بتكية أبي الهدى ولا بمنزل عمي، وأنا لا أقبل رأي أحد في أعمالي؛ فإن كان عندك رأي غير هذا فهاته. - ألا تريد أن تقلع عن اللجاج؟ - أتريد أن تتوعدني. إذن فاستمع: أنا رجل لا أبالي بالوعيد، وأعلم أنك من المسيطرين بهذه النظارة وكفى؛ فقد صبرت على كلامك طويلا، وكنت أريد ألا أحضر إجابة لدعوتك لتعلم أن مدير الأوراق لا يصح له أن يدعو أحد أعضاء المجلس. ولكنني علمت أنك تتوعد الناس، فحضرت لأعلمك أني لست ممن يخافون وعيدا، وإذا لم تبادر إلى الترضية طائعا أكرهتك عليها إكراها، فبهت الرجل من هذا الكلام وما سمع مثله من قبل، فجعل يتأملني من رأسي إلى قدمي. وكنت أكلمه وأضرب بيدي على مكتبته، ولما وصلت إلى آخر كلامي ضربت على تلك المكتبة ضربة قوية قلبت دواته، ثم قلت له: أنتم أناس لا تميزون بين الناس، ويستوي عندكم طيب وخبيث، ولو اعترضكم ذو جأش رابط يكم أفواهكم ويخفض من شماسكم لما تعديتم أطواركم ولوقفتم عند حد الأدب. فلما أتممت كلامي مشيت خطوات إلى الباب غير مسلم فسبقني إلى الباب وقال: ما كنت أحب أن تخرج من عندي غاضبا، وإنما حدا بي إلى هذا الكلام مودتي لك وإعجابي بك.
قلت: ومن أين لنا هذه المودة وأنا لم أرك إلا الساعة وليس بيننا سابق معرفة فتستوجبها علينا؟! ثم انصرفت. وفي الغد جاء علي غالب إلى الحجرة التي يستريح بها الأعضاء إذا فرغوا من المذاكرة، واعتذر لي عما فرط منه بالأمس. غير أن الواقعة كانت باتفاق بينه وبين ناظر المعارف. فلما جرى مني ما جرى من الرد والإباء رأى الناظر أن يعاقبني عقابا يكون رادعا لغيري؛ فرأى أن يغيظني بتأخير صرف شهريتي. وقد فعل ولكنه خاب في ذلك أيضا. فلما أبصر الأعضاء ما جريت عليه؛ شكروا إقدامي ودنا مني راسخ أفندي، فقال لي: إذا هممت بالخروج فانتظرني حتى نخرج معا. ففعلت، فسار بي إلى حديقة بقرب «آيا صوفيا» جلسنا بقهوة فيها، فقال لي: رأيتك ذا جنان ثابت ونفس أبية. وقد أعجب الأعضاء بما جرى لك مع علي غالب وناظر المعارف، ولكن هذا كله آخره العطب. نحن بالآستانة، وهنا رجال لا يخافون إلها ولا يرقبون ذمة، فمن ترجو أن يكون نصيرك إذا تكاثر عليك الأعداء ووقعت بأيديهم؟ - أرجو أن يكون نصيري الحق. - هذا كلام حسن ولكنه لا ينفع. وما دعوتك هنا لأجبنك وأرجعك عن إقدامك، بل دعوتك لأخلص لك النصيحة؛ فإني أكبر منك سنا وأكثر منك تجربة. وما أشابت الأيام فودي إلا بعد أن انتابتني حوادثها بما يذهل العقول. فيجب عليك أن تتمسك بمحبة السلطان ودع كل امرئ سواه تعش آمنا، ولا يكن لأحد إليك من سبيل. فإذا سمعت امرأ يغتاب السلطان اكتب بذلك تقريرا وارفعه إليه، وإذا جرى لك مثل الذي جرى بينك وبين علي غالب بادر إلى القصر واكتب بذلك إلى السلطان. هذا سلاح لا يفل غربه ولا تنبو مضاربه، وكلنا متسلحون به، فإذا رضيت بنصيحتي نلت المرام وفزت حيث يخيب منازعوك. - أراك تدعوني إلى أمر لم أخلق له، وأنا أحب إلي أن يفوز علي خصومي من أن أفوز عليهم بالتجسس؛ فإن كان هذا مبلغ رأيك فهو رأي لن أتبعه، وإذا كنت أنت ممن يتجسسون فلن يتقارب قلبانا ولن تحدث بيننا ألفة ما دامت الحياة. - أنا لا أدعوك إلى التجسس بأن تتبع الناس في خطواتهم وتنصت إليهم في أحاديثهم، بل أدعوك إلى إخبار السلطان عمن يأخذون رواتبهم بفضله ثم يعملون على ما يضره. والمخلص لدولته لا يخفي عن سلطانه أمرا. - هذه فلسفة لا يمكن التغلب عليها. كل رجالنا يقولون مثل ما تقول، وكلهم يتجسسون كما تتجسس أنت. أما أنا فلم أتعود ذلك، وصعب على الإنسان ما لم يتعود. وإني لأشكرك إذ عرفتني نفسك فقد كنت أحسبك بمعزل عن هذه المسالك، والآن كشف لي الغطاء باعترافك. ولما فرغت من كلامي نهضت واقفا وحييته تحية المودع القالي، ولما رجعت إلى بيتي وفكرت فيما جرى لي بالمعارف، رأيت ترك الآستانة والهجرة إلى أوروبا أمرا لا بد منه.
ثم سخر الله لي ما استوقفني مضطرا؛ وذلك أن عبد الكريم بك أحد أحفاد الصدر الأعظم الشهير المعروف بالصقولي بعث إلي كتابا يقول فيه إن نظارة المعارف قررت بناء معهد جديد تسميه دار الأيتام، وستنفق عليه أربعة آلاف جنيه؛ وهو مبلغ كبير لو استبقته لغرض غير هذا كان أحسن. ولي أرض بالقرب من أبي أيوب الأنصاري بمكان يقال له «سودليجه» وهذه الأرض واسعة جدا، وفيها من حجارة البناء ما يكفي لما هو أعظم من دار الأيتام. وأنا أهب هاته الأرض هدية مني إلى المعارف لا أطلب عليها ثمنا ولا عوضا، ولا أريد شكرا ولا إعلانا ولا شهرة. فأشرت عليه أن يكتب عريضة بذلك إلى نظارة المعارف. فكتب، وأخذت العريضة معي وقدمتها باسم صاحبها على الوجه الرسمي، وأقمت أياما أنتظر ما سيكون من جواب ناظر المعارف، فلم يجب بشيء، وكان ينبغي عليه أن يبعث بهذه العريضة إلى المجلس الأعلى لينظر فيها ويكتب بعد ذلك خطاب شكر لصاحبها. وكنت أطلعت الأعضاء على العريضة قبل تقديمها إلى الناظر، فاتفقت مع جماعة منهم في مخاطبة رئيس المجلس، ولكنه تنصل عن تبعة المسألة وقال: نحن لا نعلم هذه العريضة رسميا، ولا حق لنا في طلب ما لم يرسل إلينا. فكان كلامه موافقا لنظام المعارف. وعلمنا أن زهدي باشا اتفق مع بعض الناس على ابتياع أرض بجهة اسمها «قزيل طوبراق» لتكون دار الأيتام قريبة من داره، ويتمكن من تفتيشها متى أراد. واتصل بنا أنه سينفق ألفي ليرة ثمنا للأرض وأنه سيحفظ الباقي لنفسه. فجعلت أعيب خطة الناظر بمحضر من الأعضاء وفيهم المخلصون له، وأقول بصوت عال: ما هذا الاختلاس! إذا كان زهدي باشا الذي سرق من نظارة المالية مائتي ألف جنيه أيام كان ناظرا عليها نقل إلى المعارف ليسرق منها دراهمها، فنحن لا نشاركه لا في سرقته ولا في عارها. فنقل هذا الكلام إلى الناظر، فزاد علي حقدا وبات لا يطيق ذكر اسمي بمجلسه. وقد انتصر له الأعضاء المخلصون، وشاء الله أن يفتضحوا فضيحة تكون عظة لغيرهم؛ وذلك أن عبد الرحمن بك ناظر المدرسة السلطانية كتب إلى المعارف يبين لها أن قد ظهر عجز كبير في واردات المدرسة فباتت دون مصاريفها، وأشار على النظارة بإلقاء القسم الثالث من درجات أجرة التعليم، فكتبت المضبطة بذلك وأرسلت إلى المجلس للتصديق عليها، فالتزمت السكوت حتى وضع الأعضاء أختامهم ولم يبق أحد منهم مخالفا، ثم أخذت المضبطة وكتبت على هامشها: إن نظام المدرسة السلطانية قبل بإرادة سلطانية، وليس للمجلس أن ينسخ إرادة السلطان. فأخذ الأعضاء ينظر بعضهم إلى بعض، فسألني الرئيس من أين لي ذلك؟ فقلت: إن نظام المدرسة السلطانية مطبوع. وقد وزعته النظارة على الأعضاء. فأخرج الرئيس من مكتبته نسخة ونظر في أولها فإذا مكتوب عليها هكذا: «صدرت الإرادة السنية السلطانية بقبول هذا النظام واتباعه في المدرسة السلطانية.» فكاد والله يسيل لعابه خجلا، وحاول أكثر الأعضاء أن يمحوا أسماءهم بألسنهم ولكن الحبر الزيتي لا ينصل له صبغ، فتركتهم في حيرتهم وأشعلت سيجارتي وجلست أدخنها وأنظر إليهم.
وكان يقع بمجلس مراقبة الكتب (الأنجمن) ما يقع بالمجلس الأعلى، حتى حدث خلاف بين الرئيس حسيب أفندي وبين بعض الأعضاء، ومنهم الشاعر التركي الشهير صديقي حيرت أفندي. ولكن تغلب الرئيس على الأعضاء واستقل بخاتم المجلس رغما من المخالفين له، وأيده زهدي باشا الناظر، وكان حسيب أفندي صنيعته. وقد آلى الرئيس لا يدخل المجلس أو يعزل حيرت أفندي وأبو النصر يحيى السلاوي. ولقد نال ما أراد وثبت على كلامه، فنقل السلاوي عضوا إلى جمعية الرسومات، وأنزلت درجة حيرت إلى مفتش المكتبات، ولم يغن اعتراضهما شيئا.
الحرب العوان
ما زلت أنوي الخروج من الآستانة، وأنا أشد الناس شغفا بها، ولا يقدر لي ذلك. ورأيت الهرب تهلكة على أهل بيتي؛ فإني حين أدعهم بالآستانة لا أترك لهم ما يعيشون به على حد الكفاية، وما لي بالآستانة من يعولهم من آلي وعشيرتي، وإذا أرسلت لهم مالا لم آمن عليه الضياع، وإذا أردت أن أستصحبهم معي أحست بنا الحكومة، وإن تركتهم ليلحقوا بي بعد سفري مانعتهم الحكومة السفر. فعن لخاطري أن أستأذن في السفر إلى مصر لأقيم بها شهرا وأعود بعد انقضائه. فكتبت ورقة بذلك ورفعتها إلى ناظر المعارف، فلم يرض بقبولها وقال لي: اكتب إلى السلطان؛ فإن أذن لك فلا تقوى على مخالفته، فكتبت ورقة أخرى إلى السلطان وذهبت بها إلى دائرة الباشكاتب تحسين الكائنة بيلديز. فقرأ الورقة ثم قال لي: ولم تريد السفر إلى مصر؟ - لي بها حقوق أريد أن أحفظها. وقد أردت أن أجعل لي وكيلا، ولكن جاءني الجواب بأن لا غنية لي عن سفري. - سأرفع ما كتبت إلى أعتاب السلطان، فعد إلي بعد ثلاثة أيام. فشكرته سلفا وانصرفت، فلما انقضى الميعاد غدوت عليه وأقمت في انتظاره ساعات طويلة، ثم قيل لي إنه في «الحضور»، والحضور يريدون به هنالك أنه عند السلطان، وسألتهم: متى يكون رجوعه؟ فقالوا إنهم لا يعلمون، فخرجت على غير هدى من أمري. وفي الغد رجعت إليه ولبثت كذلك في انتظاره كما وقع لي بالأمس، ومكان الانتظار فيه أناس كثيرون لهم حوائج يريدون قضاءها، فدعاني الحاجب جانبا وأخبرني أن الباشكاتب يخصني بالسلام، وأنه لم ينس ما وعدني به. وسألني أن أعاوده بعد بضعة أيام، فوافيته، فضرب لي ميعادا آخر، ثم ضرب ميعادا آخر، ثم ضرب ميعادا آخر. وأنا في كل مرة أخسر دراهمي وأضيع وقتي حتى عيل صبري ونفدت حيلتي، ولم أدر ما أصنع. فوافيته يوما وهو يتهيأ للدخول إلى «الحضور»، فسلمت عليه وقلت: سيدي، إذا كانت حاجتي غير مقضية فلا تكلفني التعب عبثا، وإن كانت مقضية فتفضل علي بما أمر به السلطان وأرحني من هذا العناء وكثرة الترداد. فقال: وما يمنع قضاء حاجتك ولم تتطلب محالا؟ ولكن غير خاف عليك ما أنا فيه من وفرة العمل وتكاثر المشاغل. فاغد علي غدا مبكرا بكور الطير وإذا لم تجدني فانتظرني إلى أن أحضر. وآمل أن ترجع بعد ذلك وقد نلت الإذن وقضي الأمر. فشكرته ثم شكرته ثم شكرته، وخرجت وأنا أعلل النفس بقرب الخلاص وأقول: إذا خرجنا من الآستانة اخترت الإقامة في أوروبا؛ هنالك أجاهد في سبيل الوطن آمنا نكايات الأعداء، ولا أدخل مصر إلا زيارة كلما اشتقت إليها؛ فإن بمصر من يحارب الأحرار وقد ملك عليهم البر في فجاجه وسد عليهم مسالك الحياة. فبت بأهنأ ليلة، على أنني لم أذق غمضا ولم يستطب الرقاد لي جنب من فرط ما داخلني من الفرح. فلما تنفس الصبح بادرت إلى القصر وأنا أستحث سائق العرب وأقول له: ما أبطأ عربتك سيرا! حتى إذا وافينا إلى باب يلديز وثبت إلى الأرض وانطلقت عدوا إلى دائرة الباشكاتب. فرأيت بعض الخدم يجمعون قطع الشمع التي بقيت من الليل ويدخلونها في جيوبهم، وآخرين يعدون سيجارات وجدوها، كانت سقطت من الوافدين على القصر، وغير هؤلاء يكنسون المكان ويصلحون من شأنه. فاتخذت لي كرسيا بمكان خال وأردت أن أدخن سيجارة لي فلم أجد معي سجاير. قلت: وهذه إحدى العظائم؛ ألم يكفني أني خرجت من قبل أن أفطر حتى أجلس هنا بلا تبغ، إن هذا لخطب عظيم. وقد طال علي الوقت واشتد بي الضجر، فقال لي الخدم إنه لا يليق بي أن أجلس على كرسي بهذا المكان المعد للأصاغر! أدخلوني إلى حجرة الانتظار للأكابر! فلبثت بها ساعات، وأخذ يتوافد عليها أهل المصالح حتى غصت بهم.
وبينا أنا كذلك أكاد أقضي كمدا وقد أمضني الجوع وزاد بي من القلق ما رأيت من الزائرين الذين يدخنون السجاير ولها رائحة أزكى من المسك الأزفر، إذ جاء حاجب الباشكاتب فدعا أحد الجالسين ثم عاد فدعا ثانيا ثم دعا ثالثا، ولكن الحجرة لا يخلو بها مكان؛ فما مضى زائر إلا جاء زائرون. واستطال لبثي إلى العصر حتى كدت أن يغشى علي، فنهضت واقفا وجعلت أمشي رويدا رويدا إلى باب حجرة الباشكاتب، فأراد الحاجب أن يمانعني فدفعته في صدره وفتحت الباب وأسرعت بالدخول. فإذا هو جالس وحده يقرأ أوراقا له، فقلت: طال الثواء ولا سؤال من لدنك ولا جواب. عشر ساعات مرت علي وأنا مقيم هنا، فهل أردت يا مولاي أن تهزأ بي؟ - كلا، وإنما تعمدت تأخيرك لأجد سعة في الوقت فأكلمك فيما أنت قاصد له. - ولكن الذي أريده لا يحتاج مناظرة ولا تأملا طويلا؛ إن هو إلا استئذان بالسفر إلى بلد من البلاد لحاجة من الحاجات. - صدقت، ولكن كنت أريد أن أعلم ماذا تريد. - ألم أذكر بالعريضة ما أريد؟ - بلى، ولكنها ضاعت، ولا أدري إن كنت رميتها سهوا مني بين الأوراق الممزقة أم هي لا تزال بين الأوراق التي «تحت العرض». فخيل لي أن المكان سقط على رأسي. أظل شهرا كاملا أنفق المال وأضيع الوقت وأجد وأكد في طلب إذن السفر، ثم يقول لي هذا الرجل بعد ذلك كله: ماذا تريد! نظرت إليه نظرة ملؤها حنق ويأس، وقلت: لأسهدن والله جفونك ولأطيلن أوجاعك، ولأجعلن أيام الحياة حربا عليك، ولأسلكن المخاوف سبلك، ولتعلمن بأية داهية رميت. وخرجت من عند مخاطبي وأنا أكاد أتميز غيظا. فركبت عربة وجدتها في طريقي وقلت لسائقها أن يذهب بي إلى جهة بك أوغلي (وهي بيرا). وكان عبد الحميد جعل بالآستانة مراكز ترسل إليه الرسائل البرقية منها. وفي «بيرا» أحد تلك المراكز، يخاطب منها السلطان ومقربيه من يشاء؛ فإن كان خطابه جديرا بالعناية عرضوه على السلطان وإن لم يكن كذلك ألقوه جانبا. ومراكز التلغرافات تقبل كل رسالة هي تعرف صاحبها أو تعرف اسمه ولو ملئت من القول الغليظ وخوطب به السلطان نفسه.
فأخذت القلم بيدي وكتبت رسالة تركية هذا معناها:
إلى الباشكاتب الكاذب بالقصر السلطاني
سخرت مني وأضعت أوقاتي فيما لا يجدي، ولم تبال كذبا وبهتانا، فانتظر ما سينشر عنك في أوروبا وغيرها.
ولي الدين يكن
أحد أعضاء مجلس المعارف الأعلى
فأخذ الموظف الرسالة وجعل يتأملني، فقلت له: إن كنت لا تعرفني فانظر في تقويم الحكومة الرسمي تجد اسمي، فقال: ولكن الرسالة شديدة ولا بد من الاستئذان من المدير.
قلت: لك ذلك. فصعد وغاب عني بضع دقائق ثم عاد، وقال: أمرنا المدير بقبول الرسالة على أن تكتب في أسفلها أنك تتحمل تبعة ما فيها وتختمها مرة ثانية. ففعلت ما طلب ودفعت له الثمن، وخرجت بعد ذلك قاصدا إلى منزلي، فنمت ليلتي نومة يحسدني عليها المؤرقون، وانتبهت في الغد وبي من الانشراح ما لا أستطيع له وصفا، فقلت: من أين لي هذا الجذل وأنا قضيت بالأمس يوما لو سمع به أهل الجنايات لاقشعرت جلودهم. وقد سدت علي المسالك وليس بيدي من الدراهم ما يكفي لحاجتي ريثما أتقاضى راتبي؟ وبعد، فإن أمام باشكاتب السلطان رسالة برقية بها من الكلام ما لم يسبقني إليه غيري. فعلمت أن لا رجاء في فرجة، ومتى حق اليأس استقرت الراحة في الفؤاد.
وإذ لم يكن من مواصلة الجهاد بد عمدت إلى قلمي وكتبت رسالة فرنساوية نشرت إذ ذاك في إحدى الجرائد الفرنساوية التي بالقاهرة، وأظنها «لوجورنال دي جيبت»، ذكرت فيها كيف اتصل تحسين بخدمة السلطان ولم يكن معروفا بين الناس بالكاتب المجيد ولا الأمير النبيل ولا الموظف الكبير، ولم يكن إلا سكرتيرا بنظارة البحرية. فلما توفي الباشكاتب الذي قبله واسمه ثريا باشا أشار لطفي آغا قرين عبد الحميد باختيار تحسين هذا لما كان بينهما من الود منذ أيام أحد الصدور الخائنين المسمى محمود نديم. والأحرار العثمانيون يسمونه نديموف لسعيه في تأييد المنافع الروسية وإيثاره إياها على منافع دولته. ثم وصفت بعض ما صنع هذا الباشكاذب منذ اتصل بالسلطان، وذكرت أني مشتغل بتأليف رسالة في بيان أعماله وشرح مفاسده ليقف عليها من كان يجهلها. فوشى بهذه الرسالة بعض الجواسيس الأجانب، فقامت القيامة على القوم الخائنين، ثم قلوب أبت الرحمة أن تدخلها وأبى الإنصاف أن يأوي إليها، بها من الشر ما يفزع الأسد بآجامها، ولو صفر لها عصفور لطارت من صفيره شعاعا.
محمد باشا الجركسي المعروف بأبي لحية
كنت قصدت إلى دار صديق لي، ثم ودعته وقصدت إلى بيتي، فبينا أنا في الطريق إذا بخادمي يهرول نحوي وقد أجهده الجري وتصبب جبينه عرقا، فلما رأيته على تلك الحال هالني منظره، فصحت به: ويلك ما وراءك؟
فقال: جاء أحد الياورية من «يلديز»، وذكر أنه طلبك بنظارة المعارف، وقيل له إنك لم تذهب إليها اليوم، ثم سألنا عنك، فأخبرناه أنك خرجت، فلم يصدق كلامنا وقال إنه لن يبرح المنزل إلا وأنت معه، ووالدتك وامرأتك في خوف شديد لا تدريان ماذا تصنعان، والرجل لا يزال هناك ولا يريد أن يذهب. وقد أرسلتني السيدة لأبحث عنك وأخبرك بالأمر لتأتي وأنت متهيئ له.
قلت له: ما في الأمر من خطر. وأسرعت في مشيتي، فلما قاربت البيت ألفيت امرأتي على انتظاري في منتصف الزقاق وهي ترتجف ولا تقدر على الكلام، فأخذت أهون عليها الأمر وأقول إن هذه ليست بأول مرة دعيت فيها إلى القصر وقد أخذت قبل ذلك ليلا. قالت: نعم، ولكن الذي يطلبك هذه المرة هو محمد باشا الجركسي المعروف بأبي لحية. فتبسمت لها وقلت: هذا صديقي، وإذا كان الطلب من عنده فكوني في راحة. لا أرجع إلا شاكرا حسن لقائه. على أنني لم أعرف أبا لحية إلا اسما، وإنما اخترت هذا الكذب لتطمئن امرأتي. ورأيت بعد ذا الجندي الذي جاء ليأخذني معه، فعلم أن أهل البيت لم يكذبوه فجعل يعتذر عما بدر منه، فاستمهلته ريثما أغير ملابسي وألبس «الريدنجوت»، وكنت أريد أن أدع أوراقا كانت بجيبي وأوصي بها امرأتي، فلم يمانع في شيء. وخرجت معه وإذا عربة تنتظرنا، فركبناها وقصدنا إلى «يلديز»، فدخل الجندي بي إلى حجرة أبي لحية، وجاء حاجبه فقادني إلى أخرى مجاورة لها وقال: إن الباشا في «الحضور» فإذا عاد أخبرتك بعودته. ولم تمر علي بذلك المكان عشر دقائق إلا والخادم يخبرني بقدوم الرجل.
فدخلت على غريمي ... أعوذ بالله! الضواري تفتك إما لإشباع بطونها وإما جريا على طبائعها. وإن أفتكها وأشدها خطرا ليمل حينا فيجلس إلى جانب فريسته يلعب بها أو يستريح بقربها. وأبو لحية لا يعرف التعب؛ فهو إذا فتك فتكته أسمع روحها ضحكته، ثم وقف متلفتا ذات اليمين وذات الشمال طالبا صيدا جديدا؛ لا يفتأ دامي الجوارح؛ فإن لم يجد شيئا ينهشه نهش جليسه، وإذا لم يكن عنده جليس نهش ثيابه أو عض نفسه، وربما أنساه طربه بعضاضه ما يجده من ألم مبرح، فيستمر عاضا، هو يعلم أن كل ذي روح يؤكل. ولقد يعنى بصحة أبنائه وأهله ويسمنهم ليأكلهم إذا عدم فريسته. يرى أن الله خلق الأنياب لتنهش، فلا يحب أن يعطلها مما خلقت له. فإذا سال الدم الأحمر على لهاته وبراثنه وهدر في حلقه سائغا مستعذبا سخنا؛ عرته هزة من تطرب وارتاح فؤاده.
رأيته أربد الوجه، ينطق الموت الزؤام على ناصيته، له عينان ملؤهما اللؤم، تحيط بذلك الوجه الخشن لحية لم أر في حياتي مثلها. لو نصبت شراكا لما تركت بمزرعة طائرا ولا بأجمة وحشا. فسلمت عليه ووقفت أمامه، وكان مطرقا فرفع طرفه إلي ومشى في نظره، ثم قال لي بصوت قبيح: أهكذا تدعنا في انتظارك طول يومنا هذا؟! أكنت تريد أن تهرب أم كنت تحدث نفسك بالعصيان؟! - كلا، لا هذا ولا ذاك، ولكن جاءني أمرك الآن فأسرعت ملبيا. فتأملني مليا ثم ضحك ضحكا عاليا وقال: أتريد أن تخدعني أنا! إن هذا لشيء عجاب. وصاح بخادمه فلما وقف أمامه قال: علي بالجندي الذي ذهب ليدعو هذا البك. فدخل وقال إنه لم يجدني بالمعارف، وإنه فتش علي كثيرا حتى تأخر، وإنه حين أخبرني بدعوة الباشا بادرت لا متوانيا ولا محجما. فسرى عنه وأمرني بالجلوس، وناولني سيجارة أشعلتها وأقمت أنتظر سؤاله.
فتنهد تنهدا طويلا ثم التفت نحوي وقال: كم تحسن من اللغات؟ - أعرف العربية والتركية والفرنساوية، ولكنني لا أحسن واحدة منها. - إذن تعرف معنى كلمة الخليفة؟ - لا يحتاج المرء إلى معرفة كثير من اللغات ليفهم معنى كلمة الخليفة. - وتعلم أيضا أن قوة الخليفة وبطشه لا حد لهما، وأنه مع ذلك كله أميل إلى العفو عمن جنى والإحسان إلى من أساء. وإني سائلك الآن أشياء، فإذا كان جوابك كما أتوسمه فيك من الصدق والأمانة لا يبعد أن يعفو السلطان عنك، وإذا حاولت الإنكار ولزمت المخادعة فتذكر أن اسمي محمد الجركسي، وأنا من يلين بالمجاملة ويخشن بالعناد، ولا أريد أن تجربني في حالة يسوءك أن تراني بها. وأنت اليوم عظيم الذنب؛ ولكن النخوة تدفع بصاحبها إلى الاعتراف بذنبه وإن عظم لكيلا يرمى بالجبن والخور.
قلت: يا مولاي، هذه أشياء كان ينبغي أن تقولها إذا أنت سألتني وأخفيت أنا عنك شيئا مما أعرفه أو أكون جنيته. وإني إذا أجبتك إلى الحق فذلك محبة مني للحق. أما الوعيد فلا يطلق لي لسانا أكون عزمت على تقييده. فسل ما بدا لك. وأنا ذنوبي كثيرة لا أعلم إلى أيها تشير، فأفصح لي سؤالك أفصح لك جوابي. - هل كتبت إلى الجرائد الأجنبية شيئا في ذم أحد رجال السلطان؟ - الآن علمت ما تريد. تسألني عما كتبت في أعمال الباشكاتب. نعم كتبت فيه عجالة أنفذتها إلى الجرائد وعدت فيها قراءها بطبع كتاب سأبدأ تأليفه قريبا، وسأذكر في هذا الكتاب ما أعلمه من سيئات الباشكاتب. - ولأي شيء تكلف نفسك هذا الشطط؟! وما يفيد الناس ذمك للباشكاتب؟! هلا صرفت قوة عارضتك وبيانك في شيء ينفع أهل بلادك؟ - وهل ينفع أهل بلادي شيء أكثر من علمهم بمن يحول بينهم وبين سلطانهم؟ أتراهم لا يرغبون أن يعلم السلطان بما يقع في بلاده فيتخلص من عدوه وعدو أمته؟ - هذا فضول منك. ومن ذا الذي طلب منك أن تخدمه هذه الخدمة؟! أم من أنابك أنت عن أهل بلادك؟! أنا أقول لك السبب في غضبك على الباشكاتب؛ طلبت إليه أن يأتيك برتبة أو وسام، فوعدك بالنظر في ذلك وقال لك إن الخليفة أدرى بمن ينبغي أن يتحلوا بالأوسمة. فغاظك ذلك، والآن تريد أن تنتقم منه. فيا ناشدتك الله أتراني أصبت في حدسي أم أخطأت؟ - إن ما طلبته من السلطان طلبته كتابة لا شفاها؛ فإن كان فيه ما يستدل به على شيء من هذا القبيل فحكمك فيما تريد، وإذا ظهر أن كلامك غير صحيح أترضى بأن تكذبه في الجرائد؟ - أكلمك هنا بقصر السلطان، وما لنا وللجرائد؟! ولا شأن لنا معها؛ فإن كان ما أقوله غير صواب فخبرني أنت بالصواب. وإنما أمرني السلطان باستدعائك لأستطلع منك الصواب. - أنا لا أجيب إلا كتابة. على أن آخذ سندا منك بما كتبته ودفعته إليك. - إذن فاكتب. ثم أشار إلى مكتبة بجانب الباب عليها ما يحتاجه الكاتب من قلم وقرطاس، فقمت إليها وكتبت ما جرى لي مع الباشكاتب من البداية إلى النهاية، ورفعت ما كتبته إليه، فأخذه وقرأه وقال: سأرفع هذا إلى أعتاب السلطان وأبلغك بعد ذلك أمره، فأتني غدا صباحا، وإياك أن تمر بمكان أحد من رجال القصر. فخرجت قاصدا إلى بيتي . ولما كان الغد ذهبت لميعادي، فكان وصولي إلى القصر قبل حضور أبي لحية، فأدخلت حجرته وأقمت في انتظاره إلى أن جاء، فحياني تحية عن عرض، ودعا بعد ذلك كاتبا له فناوله مسدسه ومفاتيح مكتبته ليضعه بها، ثم عمد إلى مصحف كان على يمينه فوق كرسي عال، فتناوله وقبله وجعله فوق عينيه ثم أعاده إلى مكانه. وحين فرغ من أعماله هذه التفت نحوي وأخذ يحادثني ويسألني عن أيام معاوية وعلي بن أبي طالب، وقال إنه يبغض معاوية بغضا شديدا، وإنه لو وقع في يديه لضرب عنقه بالسيف. وبعد حديث لم أستطب منه شيئا فارقني قاصدا الدخول إلى الحضور. وصرت في انتظاره وحدي إلى الظهر، فعاد ولم يرد الجلوس بل قال لي وهو واقف وأنا أيضا واقف: أبلغك أن مولانا السلطان يأمرك بإحضار أخيك من مصر، وأن تكذب ما كتبته في ذم الباشكاتب، وأن تأتينا بالكتاب الذي تزعم أنك ألفته أو ستؤلفه لنحرقه هنا ونرتاح نحن وترتاح أنت معنا. وقد أمهلك السلطان إلى صباح السبت، فأت إلى هذه الحجرة بعد أن تكون نفذت ما أمرك به سيدنا. - اليوم الخميس، وتريد أن أحضر أخي صباح السبت إلى هنا! إذا قلت إنك لا تعرف كم بيننا وبين مصر، أفلم يخبرك أحد بمقدار بعدها عنا؟ ألم تسأل شركات البواخر كم يوما تستغرقه أسرع باخرة للوصول إلى الإسكندرية؟! فهب أن أخي الآن واقف على رصيف الثغر الإسكندري، وأن حكومة إنكلترا أعارتني أسرع مدمرة لديها، أيكفي كل هذا لوصول أخي إلينا في صباح السبت؟! هذا ما لا يكون. وتكذيب ما كتبته مع علمي بصدقه لا أقوى عليه ولو أدى ذلك إلى ذهاب حياتي. أما الكتاب فلم أشرع في تأليفه؛ وذلك لأن عادتي ألا أكتب شيئا إلا إذا علمت أنه سيطبع، وأنا أكتب ما أكتبه وأبعث به إلى المطبعة تباعا. - كل هذا لا أسمعه منك. وما أمرت بمناظرتك، بل أمرت بأن أدعوك إلى الإنصاف. اذهب الآن واجعل جوابك مفتوحا لكيلا أتهم عند السلطان بخيانة العهد.
ولقد قضيت ليلتي على مثل أعالي الموج، فلما وافانا السبت قصدت إلى «يلديز»، وكنت كتبت ورقة ذكرت بها بعدي عن أغراض السوء وما كابدته من الباشكاتب، وكيف اتفق الناس على الشكاية من أعماله، وأبنت أن رجوع أخي ليس بيدي، وأني محضته النصح فلم يرض به مني، وقلت إني لن أقدم على تكذيب حق أنا عرفته، وإن لي من حسبي لرادا على تورط الشبهات. فأدخلت إلى حجرة أبي لحية كما سبق بيانه، وجاء هو بعد ذلك، فدفع مسدسه لكاتبه ولثم المصحف كأول مرة، والتفت نحوي سائلا عما أكون قضيت فيما بلغنيه من أمر مولاه، فدفعت الرقعة إليه فقرأها وتمعنها ثم نبذها إلى الأرض ونظر إلى وجهي نظرة مغضب، وقال: الآن ندخل معك في شأن جديد. ألا تريد أن تطيع مولانا السلطان؟!
قلت: بلى، إني أريد، ولكن شتان ما بين الإرادة والإمكان. - أراك تقول: حسبي! وما هو حسبك الذي تتباهى به؟! من أي بيت فجور منشؤه؟ - نحن لم ننشأ من بيت فجور مثلك، ووا حرباه أن يكون بقصر الملك العثماني رجل مثلك أبت مكارم الأخلاق أن تسكن نفسه! أمن أجل هذا الكلام المهذب دعوتني وأشغلتني بك منذ يومين؟! أم أمرك السلطان أن تخاطبني بذلك؟ وقد نسيت أن أذكر لقراء كتابي أنه دخل علينا رجل قصير القامة بادن الجسم علمت أنه من موظفي السفارة العثمانية التي ببرلين، فلما سمع ما خاطبت به أبا لحية قال لي: الباشا مثل والدك، ولا ضير في أن تتحالم له إكراما لسنه.
قلت: أعوذ بالله أن يكون مثله والدي. أنا لم أعرف والدي جيدا لأنه توفي إلى رحمة ربه وأنا صغير، ولكنني سمعت من أناس كثيرين أنه كان رجلا أحسن الله أدبه وعصمه مما يشين أهل الوقار. أما هذا الرجل الذي يذم حسبي ونسبي في قصر سلطان العثمانيين فلص دنيء حقير كذاب أفاك، لا يقاس بأحد حتى من السوقة. فالتفت أبو لحية إلى جليسه وقال: أرأيت كيف يستبطر حلم السلطان هؤلاء القوم؟ أما والله لو كان أمره بيدي لتوالت على أكتافه العصي.
قلت: وما يمنعك من ذلك؟
قال: خوفي من غضب سيدي الذي أعيش بأنعمه، وإني لفخور بخوفي هذا. وأنتم لا تعرفون مقام السلطان، فتبلغ منكم قلة الأدب أقصاها. وقد صدق من قال: أشد الناس جرأة على الأسد أشدهم جهلا لبأس الأسد.
قلت: ويحك! ألا تدري أن السلطان لو جعل أمرك بيدي لألجمت فاك، ولجعلت فوق ظهرك برذعة، ولأركبت الناس متنك بلا أجرة. أنت لا تعلم ما تقول، ومن العبث أن أضيع معك أوقاتي، وها أنا ذاهب فإن كان عندك ما تبلغني عن السلطان فلا أتقبله إلا مكتوبا. وخرجت من بين يديه فلم يمانعني.
ثم أرسلت رسالة برقية إلى عبد الحميد وصفت فيها ما اتفق لي مع سيافه، وقلت: إذا لم ينصفني طلبت إنصافه في جرائد أوروبا. فدعاني المرحوم عاصم بك كاتبه الخاص وأبلغني أن السلطان أسف أشد الأسف لما جرى لي مع أبي لحية، وأخبرني أنه سيحضر إلي عند عاصم ليعتذر إلي عما فرط منه، ونصح لي ألا أجيبه جوابا يؤلمه. فجاء أبو لحية وسلم علي وزعم أنه لم يرد بكلامه لي غير النصيحة، وأنه أحبني فرأى أن يخاطبني بما يخاطب به ولده إذا لم يطعه.
قلت: إذا كنت تقول لولدك في أية دار فجور نشأت، فهذا كلام أنا لا أصبر عليه. وحين هممت بالانصراف مال عاصم بك بي جانبا وقال: يقول لك مولانا السلطان: إن من حسن أدب المرء ألا يكثر من الوعيد في مخاطبة مليكه. ويريد ألا يسمع منك كلاما عن الجرائد الأوروبية.
فخرجت من ذلك القصر الذي استوطنه الظلم وأنا أكاد أعدو هربا، وقلت: يا لك من صرح شيد على خراب الوطن، فلئن مد الله في أيامي ورأيتك وقد خلت مقاصيرك وحجرك وقفت أمام رسمك المحيل وحييتك بما قاله الملك الضليل في الغابرين:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
فدخلت منزلي واستلقيت على مقعد لي وجعلت أفكر فيما مر بي من المخاوف والمهالك، وقلت: عسى يعقب الله هذا التعب راحة فأخرج لا غانما ولا غارما، كما قال الشاعر القديم:
على أنني راض بأن أحمل الهوى
وأخلص منه لا علي ولا ليا
فلبثت ثلاثة أيام لا تروعني في خلالها روائع الدهر، حتى ظننت أن الدهر عاد إلى شيمة الوفاء، ولم يبق لي شيء أخافه. وفي اليوم الرابع بينا أنا جالس في حديقة البيت إذا زائر يتقدم نحوي، فتأملته فرأيتها شابا حسن البزة والوجه، فلما دنا مني سألني: هل أنت ولي الدين يكن؟ قلت: نعم. فأخرج لي بطاقة كتب عليها اسمه، وهو ممتاز بك من موظفي نظارة الداخلية، فرحبت بقدومه ولم أسأله عن سبب زيارته تأدبا، وقربت منه كرسيا وسألته الجلوس، فجلس، وبعد دقائق قضيناها في تكرار جمل التحيات على العادة الشرقية قال لي: أرسلني إليك ممدوح باشا ناظر الداخلية لأبلغك أنه يريد مواجهتك في أمر ذي بال، ويقول إذا استطعت أن تزوره قبل العصر فاذهب إلى النظارة، وإذا لم تستطع ذلك فإنك تجده بمنزله الكائن بجهة «أرناءود كوي». وأمرني أن ألازمك في ذهابك لكيلا تتكلف تعب السؤال عن المنزل.
قلت: سمعا وطاعة. غير أنني لم أحظ قبل اليوم بلقاء الوزير، فماذا ترى يريد أن يخاطبني فيه؟ - لا أدري.
وكانت الشمس مالت إلى الغروب، فنهضت ولبست ملابسي ورافقت الرجل إلى منزل ممدوح، فأخبرونا أنه رجع من النظارة على عادته ثم دعاه السلطان إلى «يلديز»، وقالوا لممتاز بك: أمرنا الباشا أن نستبقيك مع من دعوت إلى أن يعود من القصر. فأقمنا في انتظار الناظر نحو ساعة من الزمان، فلما جاء أدخلت إلى عنده، فألفيته واقفا إلى جانب الباب فاستقبلني بأحسن ما يستقبل به قادم، وناولني الخادم سيجارة فلم يرض الباشا أن أشعلها وناولني أخرى من علبته، وأشعل لي كبريتة بيده فدخنت سيجارتي وقلت في نفسي: ترى ما وراء هذا الإكرام! فبدأني بالحديث، قال: كثيرا ما كنت أسمع الناس يتحدثون بفضلك وأدبك فأشتاق إلى رؤيتك. غير أنني لم يقسم لي أن أراك إلا في هذا اليوم، وأود ألا تكون هذه آخر زيارة؛ فإن البيت بيتك وكل من به يفرحون لقدومك. فأجبته بما يسع المقام، ثم قال لي: أأنت ابن أخي محمد فائق بك يكن؟ - نعم. - أنعم به وبك، هو صديقي من القديم وأنا ممن يفتخرون بمودته. والآن زادت جرأتي في بيان ما أريد لك، فاسمع كلامي وتأمله ولا تتعجل الاعتراض. أنا لي ولد هو أسن منك، ولي من التجارب ما لا يتاح لسنك. وقد كنت صديقا للمرحوم نامق كمال الشهير، وهو أشعر الشعراء وأكتب الكتاب غير منازع، فأخلصت له النصيحة في ترك اللجاج والرجوع إلى طاعة أولي الأمر، فلم يحفل بمقالي وسخر من نصحي، فلما خاب في مساعيه وعثرت جدوده ندم حين لا يجدي الندم. وقد رآني في أيام نكبته مرة فقال لي: صدقت يا ممدوح فيما قلت لي، وليتني كنت تبعت رأيك وعملت بمشورتك فكفيت ما ألاقيه اليوم. وإنما أبدؤك بهذا الكلام لتجعله عظة لك، إني أتاني أنك تناضل قوما من المقربين عند السلطان. وهذا ما لا أرضاه لك؛ ما لنا نحن ولهم، هم خاصة رجل نحن من رعيته، ولا يطمع عاقل في أن يعاقب السلطان أحد خاصته إكراما لمن ليس من أندادهم. إذا كنت تريد من السلطان شيئا فبالرفق والحسنى تناله. ولقد قال الحكماء: يدرك بالحكمة ما لا يدرك بالقوة. هذا كلام لم يأمرني به السلطان ولا طلبه مني أحد من مقربيه، ولكني أقوله لك متوسما فيك الرأي والسداد، وإذا شئت أن تكتب فاكتب ما ينفع بلادك. والذم لا ينفعها. ألف روايات وترسل فيها ببيانك المعلوم، أو فاكتب كتبا في التاريخ والأدب، وإذا كانت لك عند السلطان حاجة فتعال إلى بيتي ولك علي أن أكون رسولك إليه، وإذا لم أرضك فاشتمني وذمني ما شئت، أنا لا أواخذك، وأحمل منك ذلك على فتنة الشباب. أما غيري فيؤاخذك ويطالبك بحقه، والسلطان لا يذل خاصته، ولا غنى له عنهم. والآن وقد سمعت كلام أب يغار على أهل الفضل والحسب أن يصيبهم مكروه، فهل أنت واعدي بترك نضالك؟! - ما ثم من نضال، شتموني ثم اعتذروا ، وسمعت الشتم أولا وقبلت المعذرة ثانيا، فلا أنا مغبون ولا الدهر غابن. - حسبك. قد رضيت منك بما تعهدت. أما رجوعك إلى مصر فلا أراه صوابا، ولا يضيع العاقل خيرا هو بيده جريا وراء أهوائه. فشكرت كلام الرجل كما يوجبه الأدب وخرجت من عنده، وما أطربني من كلامه إلا لفظه دون معناه؛ فإن ممدوحا من رجال الأدب الذين عاشروا كمالا وأصحابه وأوتوا البيان وفصل الخطاب. غير أنه فتنه ذهب عبد الحميد وقلت قيمة الوطن عنده، فحسب الذهب يبقى والوطن يفنى، فكان من الأخسرين أعمالا.
هذه الزيارة فذة لا ثانية لها، وما سرني أن يكون لي بمودة ممدوح ملك الدنيا، وهو رجل لم تطلع الشمس على ألأم منه، وأعلم أنه خاطب كثيرين بمثل ما خاطبني؛ ليستجلب قلوبهم ويشتري نفوسهم ويلقي بهم في هلكات العار.
وقد أطلت الكلام في هذه الفصول حتى كدت أخرج عن الصدد، بل خرجت عن الصدد. وإنما أردت بذكر هاته المحادثات أن يقف القراء على عقول أركان الاستبداد وعلى تنوع أهوائهم؛ فهي منقولة إليهم بغير زيادة ولا نقص، وكأن كاتبا كان يكتب ما يدور بيني وبين هؤلاء الناس. وربما يخيل لبعض القراء أن ببعض لأخبار مبالغة فلا يصدقون وقوعها، فيقولون كيف يكتب ولي الدين كذا وكيف يتجاسر أن يقول كذا وهو في قصر عبد الحميد بين يدي خاصته؟! ولكن هذه الوقائع يعلمها كثير من الناس، وهم لا يزالون بالآستانة، ومنهم من جاء مصر وأقام بها، فإن كانوا يعلمون فيما ذكرت شيئا يخالف الصواب فليتفضلوا بذكره ولينشروه بالجرائد، وإذا هم لم يستطيعوا نشرها نشرتها أنا لهم بأية جريدة يريدونها.
شتم وضرب وقتل
عاصمة ملك أم مرسح ملعب!
كل بلد فيها من الفضائح ما يظنه الناس لا يتحصل في غيرها، وكل معشر لهم من المثالب ما يخاله المرء لا ينشأ إلا منهم. ولو تأمل حال الدنيا لبيب رأى عواصمها مكامن للأسواء ومعاشرها صناديق للعيوب. فلست أريد أن أذم ماضي فروق من هذه الوجهة؛ وما ذنب فروق وهي روضة غناء، زهرها ابتسامها ومزنها بكاؤها، جنة أراد قوم أن تكون جهنم فلم تكن. وإنما الذنب ذنب فئة باغية تقدمها عبد الحميد، فكانت كالسيل إذا دهم والطامة إذا حلت.
دخلت الآستانة وبها شاب اسمه عبد الغني بك، كان ميرالايا بالحرس السلطاني، نال من ثقة مولاه ما لم ينله أحد غيره، ومن الحظوة شأوا بعيدا وقفت دونه الهمم. استبطر عبد الحميد هذا الشاب فتركه يعتدي على الناس، ولم يقبل فيه وشاية ولا سمع فيه شكاية، فلو قيل له إن عبد الغني أضرم النار بالآستانة وأخذ يرمي بالناس في لهيبها مثنى وفرادى لقال: دعوه، أنا أمرته بذلك. ولم أعاشر عبد الغني ولم أخالطه كثيرا ولا قليلا فأقول في حقيقته ذما أو مدحا، وما رأيته منذ نزلت بالآستانة إلى يوم مقتله غير مرة واحدة. والمادحون له من أفادهم وده، والقادحون له من أضرهم بغضه، ولا يعتد بشهادة فريق منهما. غير أنه تجاوز الحد في إقدامه، فلم يرحم صغيرا ولم يوقر كبيرا، وحيث رمى ببصره سعى بقدمه. وكان لهذا الشاب آخر يغايره ويعانده، وكان دون عبد الغني شجاعة ولم يكن دونه قدرة. وقد فاق عبد الغني طولا بما أوتي من المال. وهذا الخصم الألد هو جاويد بك ابن المرحوم خليل رفعت باشا الصدر الأعظم. ولما بلغ الشر مبلغه بين المتحاسدين وسعى أناس بينهما بالغيبة والنميمة دهم عبد الغني جاويدا بأحد المنازل فسبه وشتمه وطرده على أسوأ حال، فأسرها له جاويد في نفسه، وكان له صديق حميم اسمه حافظ باشا، وهو أحد أعضاء أمانة البلدة بالآستانة، فأخذ يتودد إلى عبد الغني حتى استحكمت بينهما الألفة، ثم رماه برصاصة أصابت جبهته في خبر طويل، وفر حافظ. وأرسل بعد ذلك جماعة من قبيلة عبد الغني بك رجلا اسمه الحاج مصطفى قتل جاويدا بجسر غلطة في رابعة النهار.
وكان لعبد الحميد كاتب خاص من قبل عاصم بك اسمه كامل بك، دخل عليه جاويد يوما وكلمه في شئون بينهما لا يعلمها سوى الله، فعظم الخلاف وكبر الشر وآل الكلام إلى الملاكمة، ففاز جاويد على خصمه وضربه حتى أوجعه، فلما بلغ الأمر عبد الحميد أنعم على كامل بك برتبة البالا وعلى جاويد بوسام وأمر لهما بجائزة سنية.
واشتد غضب الصيادي على آل بدرخان إلا اثنين منهم، وهما بدري بك وعثمان باشا، فسلط على ... بك البدرخاني جماعة من الحمالين هاجموه ذات يوم، ولكنه أدخل يده في جيبه فأخرج مسدسا كان معه ورمى به في الهواء ثلاث رميات، فأسرع البوليس إلى المكان الذي دوت منه الرصاصات وقبضوا المعتدين واستاقوهم إلى نظارة الضابطة، وخلص الله البدرخاني من أعدائه. وأراد علي شامل باشا - وهو أيضا من كبار أولاد بدرخان الشهير - أن يعاقب أخاه عثمان باشا على صداقته للصيادي، فقابله في يوم من أيام رمضان إحدى السنين وهو خارج من الجامع، فضرب علي شامل أخاه ضربة على وجهه هشمت أنفه ووقع على الأرض صريعا فنقلوه إلى البيت. ولما كان يوم العيد قابل عثمان أخاه في حجرة التشريفات بسراي «طولمه بغجه» فرماه بنظرة ملؤها وعيد وخرج من بين صفوف المهنئين، وأشار بيده إلى السلطان مسلما، فأنفذ السلطان وراءه حسن باشا محافظ بشكطاش الفاتك الشهير ينذره بأنه لن يعود إلى التشريفات بعد ذلك أبدا.
وكان حسن باشا - الذي أتى ذكره في هذا الفصل عرضا - من أكبر أنصار الاستبداد، يضرب ويقتل ولا يعارضه أحد. ويروي البعض أن السبب في هذه المنزلة أن بعض الأحرار كانوا هاجموا قصر «جراغان» التي كان السلطان مراد الخامس مسجونا بها وحاولوا إخراج السلطان المعتقل وإعادته على كرسي الملك وجعل عبد الحميد مكانه. وقاد هؤلاء الأحرار السعاوي الشهير، ففتحوا أبواب القصر عنوة حتى وصلوا إلى السلطان مراد، وكان الخبر وصل إلى حسن باشا محافظ بشكطاش فأسرع إلى المهاجمين في جماعة من الجنود، ووقعت عينه على السعاوي فضربه ضربة ألقته على الأرض قتيلا. والقصة معروفة عند العثمانيين كافة، وهم يسمون هذه الواقعة واقعة السعاوي. ومن ذلك اليوم أعجب عبد الحميد بحسن باشا وركن إليه في المحافظة على حياته. وهذا الرجل ضرب يوما الحر الشهير المرحوم مانياسي زاده رفيق بك الذي كان ناظر العدلية، فشكاه ولكن لم يسمع شكايته أحد.
ولعلي شامل باشا البدرخاني واقعة أخرى تعجبني كثيرا؛ فقد التقى يوما بحسن خالد الصيادي بجهة الفنار، وكان حسن خالد ذهب إلى هناك لينزه ناظريه في جمال تلك الغانيات وقد ملأت الروابي والبطاح، فضربه علي شامل أمامهن حتى أسفه التراب.
كذا كانت فروق؛ يضرب الناس بها بعضهم بعضا، فمن كان ذا قوة وبأس شديد استوجب لنفسه الكرامة وبات ذا منعة لا تتطاول إليه الأبصار، ومن كان ضعيفا ضيم في ضعفه ولم يجد له حميما ولا نصيرا. وهنالك عبد الحميد مشرف من أوجه ينظر إلى الناس في اختلاف أهوائهم وتزاحمهم على آرابهم، فيسوق فريقا إلى حرب فريق، فمن رجحت كفته استدناه من حظيرته واختاره لنفسه، ومن خفت كفته أجهز عليه وعجل له بنقمته.
السياسة الحميدية
ليس في العثمانيين ولا في الغربيين من عرف سياسة عبد الحميد حق معرفتها. بلى أقول: ليس في خاصته وأشد الناس قربا منه من استبان مقاصده. لقد كان هذا الرجل لغزا من الألغاز حارت في فهمه العقول وقصرت المدارك. ولا أدعي لقراء كتابي أني عرفت من عبد الحميد ما لم يعرفه غيري؛ فتلك دعوى عريضة لا تقدم نفسي عليها. وإن ما أذكره لهم في سطوري هذه لضروب من الحدس قد أخطئ فيها وقد أصيب. غير أن أمرا واحدا لا أخطئ فيه ولا يجادلني فيه أحد من الناس؛ وهو أن عبد الحميد كان عدو أمته، لم يعرف مقدار جهلها في أوائل حكمه، فتولى زمامها على حذر منه، فلما مارسها وعرف من أمرها ما كان يجهل صغرت في عينه عقولا ولم تصغر في عينه قلوبا. وقد شهد لها بالبأس والفتوة واحتقار الموت في سبيل كرامتها، وعلم أن هذه الصفات الطيبة يسترها الجهل؛ فتمسك بالجهل، وأيقن أن سمو المدارك يكون على قدر العلم؛ فقضى ألا تزداد الأمة علما لكيلا تزداد فهما.
ورأى بني الشرق مولعين بقديمهم، لا يريدون أن يبدلوا منه غيره، فمشى على أهوائهم وفتنهم بالهبات، وفتح لهم باب الحسد ففرق بينهم وجعل بعضهم رقباء على بعض، ثم دلته تجاربه أن خير ما يؤيد به عرش في بلاد لم تزل على عهد البداوة أن يبدو من السلطان تعصب للدين، فجعل يستدني من مجلسه أولي العمائم ويعمر لهم التكايا ويشيد لهم المساجد، ويواصل ببره أهل النسك والزاهدين، فيقولون هذا سلطان تقي بار يحب أهل البر والتقوى؛ وهم لا يعلمون ما وراء بره وتقواه. على أنه نال بغيته فجعل لنفسه منزلة في قلوب المسلمين في بلاده وفي البلاد القاصية، وأوهم دول أوروبا أن له ركنا قويا وجانبا غير هضيم.
أما أوروبا فكان فيها المصدق وفيها المكذب، فرأى المصدقون ألا يفتحوا على أنفسهم أبواب الفتنة ويدعوا عبد الحميد في ملكه حتى يقبضه الله، ورأى المكذبون أن يستفيدوا منه بتخويفهم إياه؛ فقد علموا أنه ضعيف الفؤاد شديد الفزع، فكانوا كلما لاحت لهم بالبلاد العثمانية غنيمة أقبلوا عليها يتراكضون وأمامهم أساطيلهم وجيوشهم تتكلم النيران بأفواه مدافعها، ولا يلبث أن يهبهم حاجتهم فيرجعون ظافرين غانمين.
وقد شاء الله أن يكون في الأمم المتمدينة قوم يرثون لحال العثمانيين، ويستحثون حكوماتهم وأبناء جلدتهم على الأخذ بناصرهم وافتدائهم من أسرهم، فلم يفلحوا؛ وذلك لأن بعضهم لمع له المال في يد الظالم فعي لسانه وشلت أنامله، وبقي البعض الآخر لا نصير له حتى مل النضال وطلب الهدون. وما ظهر من العثمانيين من يدعو الناس إلى نصرتهم ويحدثهم بخطبهم إلا تغلب عليه عبد الحميد بالمال، وإذا لم ينفع في نكايته المال تغلب عليه بالحيل. ورأى الغربيون ذلك، فساءت بنا ظنونهم وصغرت منزلتنا في أعينهم، وقالوا هؤلاء قوم لا ثبات لهم على رأي، فليذوقوا الظلم حتى يتعودوه فيستطيبوه أو يملوه فيغلبوه. وبذا أمكن الله عبد الحميد من رقاب أمة استسلمت إليه امتثالا لا ذلا، وسكتت عنه صبرا لا عجزا، وأحبه منها من أحبه جهلا لا علما.
ولو اقتصر ساسة أوروبا على التغاضي عن العثمانيين لهان الأمر ولتدبر العثمانيون لأنفسهم تدبيرا يقصر دون رقابهم يد القاتل، ولكنهم في حضارتهم وشغفهم بإنصاف بني الإنسان أقبلوا على خزائن عبد الحميد، فبينا تجري دماء الأرمن أنهارا في أقطار الأناضولي، ويعلو صراخ الثاكلات واليتامى بين الصخور والوديان، وتغتذي أسماك البوسفور بأجساد الفضلاء من الأمة، وتجبى الأموال إلى عبد الحميد وأعوان نقمته وهي تسل من كبد القروي المسكين، إذا بزعيم قوم يخطب على ضريح صلاح الدين الأيوبي محييا عدو الأمة العثمانية فوق عرشه الذي اغتصبه، فيقول لأبناء الحضارة: كذب المتظلمون، إن عبد الحميد سلطان جليل عادل رحيم، ويقول أبناء الحضارة: صدق الزعيم وكذب العثمانيون.
كان أبو الهدى أشد الناس بغضا لعزت العابد، وكان العابد أشد الناس بغضا لأبي الهدى، وكان عبد الحميد مصطفيا كليهما وهو يعلم أنهما لا يتفقان في رأي ولا يجتمعان على خطة. فإن كان يظن بأبي الهدى خيرا فقد وجب عليه أن يكتفي به ويستغني عن العابد، وإن كان يتوهم بالعابد نفعا فكان من الصواب أن يستخلصه لنفسه وينصرف عن أبي الهدى. ولا يجتمع نقيضان على حق. وبذا يتبين للمتأمل أن عبد الحميد لم يرد من اختيار المتخالفين إلا اتخاذ كل منهما رقيبا على الآخر، علما منه أنهما سيسهران لياليهما في رقبة ويرتاح هو بين الرقيبين.
وأشد ما على نفس الحر أن يعيش عبد الحميد في ملكه ثلاثا وثلاثين سنة يظلم فيها رعيته ويقتل أبناءها تقتيلا، وأن يجد كثيرا من الناس يضربون بسيفه ويجادلون بحجته، وما ذاك إلا أنه أرضى رجال الدين، والعامة تبع رجال الدين.
هذا هو دهاء عبد الحميد الذي يضرب به الأمثال أكثر المتشيعين له. وهذا هو السر في استمرار حكمه طول هذه المدة. وأنا أخالف كل من يقول بذلك؛ فإن الرجل فطر على حب نفسه وولد إذ ولد جبانا مستطارا، فكان همه استطلاع أسرار الناس ليتبين إن كان فيها ما يرجع إليه بمكروه. ولو كان ذا دهاء كما يقولون لتبين الحق من الباطل ولاستطاع أن يحبب نفسه إلى مبغضيه، وذلك ما لا يكلفه شططا ولا يكسبه إثما؛ فقد خرج الآن من ملكه وهو لا يعلم من رعاياه إلا ما كان خاصا بذاته من حب أو بغض؛ وهو علم تتكنفه الشبهات ولا يؤيده إلا الوسواس. والرأي السديد لا يقيم بفؤاد الجبان؛ فإن الخوف يمنع الفكر إدمان التأمل، وكل ما يراه المرء في فزعه من الرأي يراه على غير حقيقته. وقد وقع ذلك لعبد الحميد في كثير من أموره. وما اشتد به أمر إلا استدعى وكلاءه وفاوضهم مفاوضة المقيم على جمر الغضا، فتزل قدمه وتزل أقدامهم. وربما أمر أمرا يستحدث شرا فيتجاهله ويزعم أنه لم يأمر به خوفا وذلة، ولبئست الخلتان.
وأي دهاء عند رجل كلمة تقيمه وأخرى تقعده، كما وقع له في أمر العرابي، فوعد الإنكليز بإرسال الجنود العثمانية لإخماد الفتنة، ثم انصاع لرأي الشيخ أسعد كما سبقت الإشارة إليه في أحد الفصول المتقدمة؟! بل أي دهاء عند رجل يخاف أحقر عبيده وترتعد فرائصه أمام نسائه ويكاد يميته الخوف من طفلة ربيبة تقلب مسدسا له، كما جرى له مع تلك المسكينة التي قتلها ظلما وعدوانا؟! أنا لا أصدق أن جبانا يكون ذا دهاء، وإذا كان المراد بالدهاء احتياله على الناس وابتزاز أموالهم فذلك ما لا أجادلهم فيه. وإذا كان في الناس من يظن أنه خدع أوروبا فذلك ظن كله خطأ. وإن أوروبا لأعقل أن يتلاعب بساستها عبد الحميد، ولكنهم كانوا معه على ما قال الشاعر الحكيم:
ليس الغبي بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي
بلغني أن سفير إيطاليا شدد عليه النكير في إحدى زياراته وجعل يقول له: إن الدول الأوروبية لم تر من الدولة العلية وفاء بوعد من وعودها، وأنها كلما طالبتها الدول إنجاز الإصلاح الذي ضمنته مالت إلى الخديعة والمطل، وأن هذه الحال قد تضطر الدول يوما إلى ركوب الخشن والرجوع إلى الوعيد. فحاول عبد الحميد إقناع السفير بأنه ساهر ليله مشتغل نهاره سعيا وراء ما يرضي الدول، وأن الأمة العثمانية جاهلة ومتعصبة؛ فهو يعاني الشدائد في إرشادها إلى الخير، وأنه لا يلبث أن يتمكن من ذلك قريبا. كل هذا والسفير لا يقتنع، فحار عبد الحميد ولم يدر ما يصنع ، ولما كبر عليه الأمر استدعى عزت العابد وقال له: كلم جناب السفير بشيء يكون له فيه مقنع. وأقام العابد يغالط السفير حتى استرضاه بالرجاء ولم يرضه بالبرهان. فأين كان الدهاء في عبد الحميد يومئذ وفي مثل ذلك يعرف الدهاء؟ ولا يستنجد الملك الحازم بكاتب من كتابه في معضلة بينه وبين أحد السفراء.
هذا كجوابه لمن قال له: ما السبب في إكثار السلطان من الحراس والجند حين يخرج إلى صلاة الجمعة؟ وكان سائله أوروبيا، فقال له عبد الحميد: لأمكن هيبة الخلافة من قلوب النصارى. وقد حرف الكلمة ترجمانه فقال: من قلوب الأوروبيين، فجاءت الإقالة شرا من العثرة.
وأقبح من كل ما تقدم أن عبد الحميد كان كلفا بالاستقلال، فلم يشأ أن يكون لغيره رأي في كبيرات الأمور ولا صغيراتها، وسيان لديه تولية وال وتوظيف أحد رجال الجاندرمة، كل يكون بإرادة سلطانية. وقد تولى تدبير حركات الجيش في الحرب الروسية وهو بقصره بين جواريه وغلمانه، فكانت العاقبة أن جاءت الجنود الروسية إلى عاصمة ملكه، وكادت تطأ سنابك أعوجياتها حجرة نومه لولا فضل الأسطول الإنكليزي ووقوف جباله الشم تلقاء «سان استفانو».
ولينظر القراء من اختارهم لدولته من الصدور والوكلاء؛ أما والله لم يكن بينهم ذو عقل ولا من يليق به أن يكون من الرعاة. هذا وفي الناس من يتوهمون أن عبد الحميد كان من الدهاة.
جهل الأمة وأطماع قادتها ومقاصد أوروبا من منن الدهر التي يشكره عليها عبد الحميد. والآن وقد أنزله الله من عرشه وجعل مأواه بيتا كان لا يرضى أن يهب مثله لنديم من ندمانه، وترك لنا بقية ملك يحاول كل عثماني أن يرقعها بشغاف فؤاده، فلا يجمل بنا أن نخدع أعقابنا ونوهمهم أن الرجل الذي أبت نعمة الله أن تساكنه كان ملكا من كبار الملوك.
الجزء الثاني
مقدمة
قد علم من قرأ الجزء الأول من هذا الكتاب بعض ما كان يقع بعاصمة الملك العثماني في عهد حكومة الاستبداد البائدة. وما ذاك بالكل ولا بالجل، إن هو إلا مجمل ما عرفته معرفة المشاهد وخبرته خبر المجرب، ولم أتعرض لما شاع على ألسن الرواة أو ذكر في صحف الأخبار؛ إذ لم آمن عليه غلبة الأهواء وكذب الرواية. ولكن اتهمني بعض الخلان بجعل الشكوك بمنزلة الحقائق في تسجيل التاريخ، وبالميل مع الهوى في مقاضاة الرجال، وليس ذلك من الصواب في شيء، وكيف يكون صوابا وأنا الذي عانيت صعب مراس الأيام واستهنت فادحات الخطوب وأعرضت عن بسمات المعالي لكلمة حق أقولها، ولو تكتمتها لاقتصدت في عداوات الرجال.
نظر أناس في الجزء الأول من المعلوم والمجهول فرأوا صورة اللورد كرومر وقد كتبت تحتها «مصلح مصر»، فألقوا بالكتاب جانبا وأطبقوا جفونهم وولوا عنه هاربين؛ راعهم شخص ذلك الرجل الجليل على الورق فأخذتهم سورته ولم تقو عيونهم على النظر في وجهه، فكيف بهم لو تمثلوا بين يديه ورن صوته في آذانهم. وقد زعموا بعد ذلك أني صنيعة الرجل، والرجل لا علم له بكتابي إلى يومنا هذا. وهال بعض الجرائد ما في الكتاب فأمسكت عن الكلام فيه. لم تشأ تقريظه ثقة منها بأن ستشتمها الصحف التي تشتم اللورد كرمر، ولم ترد نقده علما منها بأن سأحجها إذا دعت إلى النزال. وتراضينا في هذه القضية على السكوت.
يا حرية، ظننت بأن سيكثر المتنافسون فيك فخفت أن ينفسوا علي، وإذا هم يدعونك ولا يعرفونك؛ فلن أخاف منذ اليوم رقيبا. أنا عرفتك وهمت بك هياما، فأنا صاحبك من قبل ومن بعد. يريدون أن أكتب ما يريدون وأريد أن أكتب ما أريد. اتسعت مسافة الخلف بيني وبينهم. الشرق وطني وأنا في الشرق غريب. ولا ضير إن أعرض عن مقالي أهل زماني فغدا يتهافت عليه أبناؤهم؛ «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.»
على أنني طويت أشياء كانت ذكرت في الفهرست الذي طبعته قبل الكتاب ورضيت أن تتأجج في فؤادي حسراتها وقلت: يا نفس ردي موارد الصبر، وما أنا بالجبان في قول الحق. غير أني أشفقت على القلوب الحرة أن يذيبها حر أنفاسي. وقد أتت حالات عجزت عن تحويلها، وها أنا اليوم مقر بعجزي ومعترف بذنبي. وإذا كانت لي في ذمة الدهر أيام رجوت أن أجد السبيل إلى زيادة الإفصاح، وألا أموت نصف حر بل أن أموت حرا كاملا.
واليوم آن لي أن أنجز الجزء الثاني من المعلوم والمجهول، وسيأتي فيه ذكر أشياء كثيرة لم يسبقني أحد إلى بيانها، فأرجو ممن سيطالعون هذا الكتاب من خصومي أن يحكموا فيه ضمائرهم دون أهوائهم، وألا يتعجلوه بمدح أو ذم قبل إكمال مطالعته.
كيف نفوني إلى سيواس؟
لو كنت آمل أن سأعيش إلى يوم أكتب هذه السطور لحرصت على ما كنت كتبت في أيام شقائي. ولكن غلب علي اليأس واشتدت الضجرة، وقلت: ربما وشى بي واش إلى الحاكم الظالم فأوخذ إلى السجن ويؤخذ ما أكون كتبته إلى النار، فلا أنا أستفيد ولا الوطن يستفيد.
لي عند بعض الناس ثارات أنا أهبها اليوم لهم غير مكره. عفا الله عما سلف. ولا آتي في سياق حديثي بذكر أشخاصهم ولا أعرض بشيء مما امتازت به صفاتهم تجاوزا وصفحا، فليعذرني قارئ كتابي؛ فليس المقام مقام انتقام بل هو مقام اعتبار واتعاظ.
لما كاثرتني جموع المستبدين وهي في إقبال دولتها وقوة سلطانها، واشتعال جذوتها وامتداد حكمها، وتخاذل عني قوم كنت أعددتهم للعظائم؛ رأيت في نفسي ضعفا عن الاستمرار على الكفاح. أما النكوص على عقبي فلم أرض بعيبه وعاره، وأما الانقياد فدونه الموت وأعذب منه أشد العذاب. فرأيت الراحة في الهدون حتى أجد عدة كافية ودرعا واقية وسلاحا ماضيا وأنصارا أولي حزم ووفاء. فأقمت الليالي والأيام لا أغشى لصديق مجلسا ولا أفشي لأحد سلاما، ولزمت بيتي وانقطعت عن نظارة المعارف، فكان يزورني من الأصدقاء من لا يسوءني محضرهم ومن آمن عواقب الثقة بموداتهم. وظللت على ما ذكرت بعيدا عن معترك المتناظرين منقطعا إلى أحزاني مكبا على مطالعة الكتب وكتابة الفصول ونظم الأشعار، فطاب لي الانفراد وآنست إلى وحشة هذا السجن الذي اخترته لنفسي، ولزم الجواسيس باب داري فجعلوا يتزاحمون جيئة وذهابا وهم لا يظفرون بطائل.
فخرجت ذات يوم في حاجة عرضت، فلما كنت في بعض الطريق التقيت بصديقي القديم الدكتور ن... وهو إنكليزي الأصل، كان جاء الآستانة في أيام الحرب التي هاجت بين دولتنا وبين روسيا في سنة 1877 وكتب في الجندية العثمانية، ولما وضعت الحرب أوزارها خرج من الجندية وطابت له الإقامة بالآستانة فلم يفارقها إلا مرات قلائل. وقد تعلم اللغة التركية وعرف قراءتها، وكان له في اللغة الفرنساوية باع طويل وله بها كتابات تدل على أخذه بنواصي البيان. فدنا مني هذا الصديق ومال بي إلى قهوة كانت قريبة منا فدعاني إلى الجلوس فجلسنا، ثم جعل يصعد في نظره ويصوبه وقد عرته دهشة مما رأى من نحولي، فأنكر ما شاهد في وجهي من التغير وأخذ يسألني عما أدى بي إليه، فقلت: لزمت البيت وانقطعت عن النزهة والاستشفاء بمعتلة النسائم، فأحدث في طول اللبث وفرط الانكباب على التفكير ما ترى. - وما الذي دعا بك إلى هذا الاعتزال؟ - مللت مغالبة الغاشمين وكل عن نضالهم ساعدي، فهادنتهم حتى أستعيد قوتي أو أجد نصيرا على الحرب.
فتأمل الرجل النطاسي وجهي مليا وتنهد تنهدا سمعت له زجلا في صدره ثم قال: ألم أقل لك يا ولي الدين إنك خاطئ في إغضابك أبا الهدى؟ وقد ظننت بي الظنون يومئذ وزعمت أني متشيع له؟ وما لي والتشيع لأبي الهدى وليس له علي من سلطان؟! أنا رجل إنكليزي، وقصارى ما ينالني من غضب عبد الحميد أن يأمر بإخراجي من بلاده، فأخرج مكرها ثم أعود مدعوا فيستقبلونني بالعطايا، ولو كنت أحاول ذلك لنلته منذ أمد بعيد. وإنما كان لومي خوفا عليك من كيد رجل لم يثبت على لقائه منازل، وعلما مني بأن كل هؤلاء الذين في قصر الملك يخافون أبا الهدى على أنفسهم، ولا يجاهر أحد من أعدائه بحماية عدو يكون أبو الهدى مطارده. ولم أقل لك في نصحي شارك الرجل في مفاسده وأعنه على الخيانة وتحبب إليه بالكذب والنفاق، بل قلت لك دعه وشأنه واحترس من غوايته واكف نفسك شر بطشه. والآن ماذا تريد أن تفعل؟ - سبق السيف العذل، ما أنت باخل بنصح ولا الجد ذاهب بمأمل ولا أنا نادم على ما فات. إني فعلت حين قدرت وأمسكت حين عجزت. وإذا عاودتني المقدرة عاودت العمل. - أنت أملك مني لنواصي الكلام، وأنا أبصر منك بمواضع الرأي، فلا تغالب حقائقي بزخارفك واسمع لما ألقي عليك: تقوم من ساعتك ماضيا في حاجتك التي خرجت لها من دارك، وسأكون واسطة لإصلاح ذات بينك مع أبي الهدى. ولكن إياك أن تنقاد لهواه وتستخدم قلمك في أغراضه فتقضي بذلك لباناته، حتى إذا حاق بك سوء وقف يضحك على عقلك ويسخر من رأيك. وسأزورك في دارك بعد يومين.
فمضى صاحبي لشأنه ومضيت لشأني، وتم الصلح بيني وبين أبي الهدى على يده، وزرت أبا الهدى في بيته وزارني بعد ذلك نجله حسن خالد بك الصيادي. وبعد أن مضت على الصلح أيام توجهت إلى منزل الصيادي لأنظر ما سيبدي لي من ود أو عتاب، وقد كنا تراضينا على ألا نعيد ذكر ما فات وألا يكلف أحدنا صاحبه عملا. فلما أدخل بي على الرجل تلقاني بصدر رحب وثغر باسم وأدنى منه مجلسي وأقبل علي بوجهه وطيب حديثه، وأنا لا يطمئن له فؤادي ولا تنبسط له نفسي. وكنت أعلم أن أبا الهدى لا يفلت فريسة أمكنه الدهر منها، وأنه أشد ما يكون فاتكا إذا ظفرت يداه بعدو له. فأضمرت الحذر وأظهرت الاستسلام فإذا هو يميل علي بكله، وجرى يومئذ بيننا حديث طويل، وأطلعني على كثير من أسراره وأقرأني من أوراقه ما لو عرض على عدو غيري لنال بها من الثراء ما يبقى لأعقاب أعقابه، وحلف لي بالأيمان المغلظة أنه لا علم لابنه حسن خالد بشيء مما في تلك الأوراق، فأعدتها له وعاهدته ألا يعلم مني أحد شيئا مما أسره إلي، وها أنا اليوم أوفي بعهدي وأحفظ له سره، ولو عاش في دولته إلى يومنا هذا لحاربته حرب المستميت ولكن غير مغالب له بأسراره. وقد أيقنت بعدها أن الرجل جرى معي على غير شيمته وأنه لا يضمر لي غدرا، فأمنت غوائله واسترحت من طول الحذر، ولو كان أبو الهدى غير خائن لدولتي لحرصت على وده ولأقمت على مناصرته ما بقيت لي في الحياة بقية.
على أنني ما صالحت أبا الهدى إذ صالحته إلا لأكفى طول مناضلته وأفرج عن وجهي ما كان يمنعني عن الفرار والخلاص مما كنت فيه. وأما وقد تهيأ لي ما أردت فلم يبق إلا تشمري وشد رحالي. وبينا أنا في نقض وإبرام إذ دخل علينا شهر رمضان، فحمدت قدوم الصيام ورأيت في شغله الشاغل للناس ما يعمي أبصارهم عما أتأهب له، وأقمت أستنجز الفرص. وإني لفي داري مشتغل بما ذكرت وإذا رسول أبي الهدى يتعجل مضيي إليه. قلت: ما أتى السيد حتى أنفذك إلي؟ قال: لا أدري، ولكنه أخبرني أنه سيكون على انتظارك بعد الإفطار. قلت: بلغه أني قادم عليه. ولما ولى الرسول أنجزت ما كان بيدي من أعمالي وما أزف الوقت إلا واكتريت عربة وبادرت إلى موعدي، فتلقاني حسن خالد في طرقة الدار وسألته عما دعيت لأجله، فأبدى تجاهلا حسن عنده سكوتي، ثم أدخلت عند أبي الهدى، فاستقبلني قائما ولم أر على وجهه بشاشته التي عودنيها ولا بدت على ثغره بسماته تلك التي خدعت الماكرين، ولكني رأيت في حاله من الوجل ما كاد يستخف بحلمي، فأمسك بيدي وجعل يتأمل وجهي وأنا مستمسك بنفسي موطد قدمي ولا أدري ما نهاية ذلك كله، فأخذ يسكن روعه قليلا قليلا وثابت إليه أناته وراجعه وقاره فأشار إلي أن اجلس وجلس هو بمكانه، ثم قال: إني لفي قلق عليك منذ البارحة. - وكيف ذلك؟ - سمعت أن الشرطة دخلت بيتك وأخذت كتبك وأوراقك، وأنك قضيت ليلتك في دار الضابطة، فبت لا أدري ما أصنع ولا كيف أستخبر صحة الخبر، فما أصبحت إلا وأنفذت رسولي إليك، ولما رجع وأخبرني أنه رآك بمنزلك خف عني بعض ما كان حل بي من الجزع، ثم خبرت أن القوم أخذوا ما وجدوا عندك من كتب وأوراق ولم يتعرضوا لك بسوء، فقص علي الآن كيف كان ذلك؟ ومن هذا الذي وشى بك ولم يعلم أن وراءك أبا لا يكلك إلى من يجهل عليك؟ - سيدي، لم يحدث شيء مما تذكره، إني لأحس بشر ولا أتبينه. وقد بثوا علي العيون وأذكوا الأرصاد، وما أدري ما رابهم من أمري. - إذا لم يصح ما ذكر لي فذلك فضل من الله، ولكنني أوصيك بنفسك خيرا، افتح عينيك يا ولي الدين ولا تدع لأعدائك سبيلا إليك، ومهما يكن عندك من كتاب أو ورقة مما يحج به الخصوم خصومهم فمزقه ولا تخف بعد ذلك واشيا ولا تبال رقيبا. وإذا مسك الضر من مكيدة عدو فبادر إلي لا متريثا ولا متغافلا. فهممت أن أخبره بما عزمت عليه من الهجرة، ولكنني أمسكت مخافة أن تكون الفتنة فتنته، ثم استأذنته في الانصراف فأذن لي وودعته وخرجت من عنده لا ألوي على شيء، فما أدركت منزلي إلا عمدت إلى كتبي وأوراقي، فأخذت أتفقدها وأستخرج منها ما لا يلائم هوى القوم، وكان عندي من كتب أحرارنا وجرائدهم شيء كثير، جاءني بعضه على يد بعض أصحابي من الأجانب وأحضرت بعضه والدتي حين قدمت علي من مصر، فجعلت أمزق هذه المذخورات الغوالي تفاديا بها من ليل لم أعلم أنه لا محالة مدركي، وملت بعد ذلك على أوراقي تفقدتها ورقة ورقة، وأنا كلما أجد شيئا يستراب منه أمزقه وألحقه بغيره، ولم أزل كذلك في نظر وتنقيب حتى آذن ليلي بالبلج، فأخذت تلك الممزقات وألقيت بها في النار، وما استقل بها اللهب إلا وأنا كالآيب من احتطاب في الجبل أو كالخارج من غمرات الوغى. وكان لي بحجرة والدتي صندوق فيه أوراق وجرائد وصور نسيتها كلها ولم أتعهدها منذ قدومي الآستانة، وقد فاتني أن بذلك الصندوق ما يستطير الشرر من عيني عبد الحميد، ولكم حاول أهل بيتي أن يحملوني على فتحه وإحراق ما يكون فيه من أشباهه ونظائره فلم ألق للنصح بالا.
وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر ديسمبر الكائن في سنة 1901 جاء امرأتي المخاض، وما قاربت الشمس الغروب إلا وقد وضعت بنتا سميتها فكتوريا، تلقيناها ببسمات وتلقتنا بصيحات ، وكأن المسكينة أحست بدنو النكبة من أبيها فأجهشت لرؤيته بالبكاء، فقلت إذ رأيتها في مهدها: ما كان أسعدني بك يا بنيتي لو كنت في مأمن من طوارق الحدثان، وما بي أن أغرق في اليم أو أن أظل في ظلمات السجن، ولكن من لأمك وأخيك وجدتك من بعدي، وقد أظلكم عبد الحميد بسلطان نقمته والناس يفرون من الحر وأهله كما يفرون من المجذوم.
ومما زادني حزنا وأوسعني خبلا قعود الحظ بي عن الفرار، وكيف كان يتهيأ لي ذلك وقد باتت عندي نفساء لا تقدر أن تخطو في حجرتها وطفلان كبيرهما لا يحبو وصغيرهما رضيع، ووالدة إن أتركها أتركها للفاقة والامتهان. هذا وحول داري من الجواسيس طائفة لا تهجع الليل ولا تغدو النهار، قائمة على بابي تحصي أنفاسي وتراقب كل حالاتي.
فلما كان اليوم الثاني من شهر يناير في سنة 1902 جلست في حجرتي وجعلت أمامي ورقا وأقلاما، وأنشأت أكتب فصلا كان خطر ببالي. وقد أمسيت وأوقدت حولي المصابيح وأنا مستغرق في شغلي لا أستشعر شيئا من ذلك، فدخلت علي الخادمة تخبرني أن بأسفل الدار زائرين يريدان أن يرياني، وأن وراءهما جماعة من رجال البوليس وقوفا على باب الدار، قلت: لا ضير، أدخلي الضيفين إلى مجلس الضيوف. أما البوليس فيكونون أتوا من الثكنة المجاورة للبيت ليدلا عليه الطارقين، هنالك خرجت الخادمة، وأنا رفعت ما كان أمامي من ورق وغيره، ثم دخلت على الضيفين. فإذا هما لا يسر مرآهما ولا يبشر قدومهما؛ رجلان من أعوان النقمة وجنود العذاب، أعرفهما من وجهيهما اللذين محا الله تعالى منهما آية الأنس، وأجال في أديميهما صبيبا غساقا، وأسكن نفسيهما من السوء ما يكون معوانا لهما على أكل لحوم الناس وشرب دمائهم. أعوذ بالله من مثل تلك الوجوه! الضيفان الطارقان أحدهما محمد علي بك الذي كان رئيس الهيئة التحقيقية بنظارة الضابطة، وثانيهما إسماعيل حقي أفندي الذي كان مفتش البوليس في متصرفية «غلطة سراي». تلقيتهما بما يتلقى به الزائر غير المعروف، وناولتهما السيكارات وأسقيتهما القهوة وهما في محادثتهما لي يقلبان أوراقا وجرائد كانت على خوان قائم في وسط القاعة. وقد أحس قلبي أن وراء هذه الزيارة ما لا أحب، فأبديت التغابي وآثرت الصمت، حتى إذا فرغا مما يكرم به الضيف التفت نحوي محمد علي بك وقال: شفيق باشا ناظر الضابطة يقرئك السلام، ويقول لك إن السلطان أمره بتفتيش أوراقك وأخذ ما كان مخالفا لرضائه منها، والباشا يعلم أنك لا تدخر شيئا يغضب مولانا الأعظم، ولكن لا بد من الطاعة والجري على مشيئته، وها نحن عندك نرجي إذنك في التفتيش.
إسماعيل حقي أفندي: أترى ولي الدين بك يشك في محبة الباشا له وإيثاره إياه على كل عزيز عنده؟! ما أظنه مانعنا عن خدمة يعلم أننا مكرهان عليها، ولو خيرنا فيها لما اختار أحدنا أن يحرمه راحته ويكدر عليه صفاءه. قلت: لا بأس عليكما، لكما ما سألتما ولي إليكما رجاء فأعيناني على أكذوبة تنفعني ولا تضركما. - ما هي؟ - سأقول لامرأتي إن ناظر الضابطة محب لي، وإنه اتصل به أن سيفتش البوليس بيتي في هذه الأيام، فأرسلكما إلي لتأخذا له ما يكون عندي من الكتب والأوراق؛ فيخفيها عنده ويعيدها إلي بعد انقضاء تلك المحنة. - لك ما سألت.
هنالك دخلت على امرأتي وخاطبتها على ما توافقنا عليه، فلم تنفع الحيلة وفطنت لها، ولكنها تجلدت تجلدا لا تقوى عليه السيدات، وقعدت في فراشها وقالت: أدخلهما. فدخل الرجلان وأمالا رأسيهما سلاما، فلم ترد سلامهما، ثم أوغلا في التفتيش، فما أشكل عليهما فهم كتاب أو جريدة أو ورقة إلا أخذاها، ولما تدانيا من الصناديق التي بها ملابس سيدة البيت أعرضا عنها ولم يمد أحدهما إليها يدا. وقد وقع نظرهما على مسدس لي كان على خوان هناك فأخذاه أيضا، ثم دخلا حجرة والدتي وطلبا أن ينظرا الصندوق الذي كان فيها. قلت: هذا صندوق فيه ثياب والدتي، قالا: كلا، ليس الصندوق صندوق ثياب ولا بد من أن نراه، فتركتهما وشأنهما وقد وجدا به كل شيء؛ تلك أوراق وكتب وصور منها ما كتبه الأحرار ومنها ما كتبته أنا، ووجدا صورة عبد الحميد الفطغرافية في أوائل أيام ملكه، وصورة السلطان مراد الخامس الذي قضى شهيد السجن بجراغان، وغير ذلك مما يطول شرحه ويهول الخائنين ذكره.
فلما وقع نظر الرجلين على هذه الأوراق لمعت أعينهما وافترت نواجذهما سرورا. وكان محمد علي أخبث الرجلين، فجعل يقلب الأوراق بين يديه ويهز رأسه كمن هاله أمر عظيم، فقلت في نفسي: ما له يعطو كما يعطو حمار الوحش! وما لهذه الرأس تدور بين كتفيه وكأن تحتها لولبا يديرها! فالتفت نحوي وقال: وجدنا عندك أكثر مما أملنا.
فلم أجاوبه بكلمة، ثم استخرج صاحبه من الصندوق كيسا صغيرا كانت به أوراق بخط والدي المرحوم وصكوك وعقود وغيرها، فحاولت استرجاع الكيس غير أني لم أفلح. وإذ فرغ كلاهما من جمع الورق جعلا ما أخذاه في كيس كبير وختما عليه بالشمع الأحمر وختمت كذلك معهما، واحتملا حملهما وودعاني ذاهبين، ثم حين عاودت حجرة امرأتي وجدتها تنتفض انتفاض العصفور في ليلة قر ممطرة حتى لم أشك أن ستقضي بين يدي، فصحت بوالدتي لتعينني على مساعفة تلك المسكينة بشيء من الدواء، وإذا هي لا تقدر أن تنهض من مكانها، فأدركتني الخادمة وأخذت تعالج معي المرأتين حتى هدأ روعهما وسكنت الرعدة في جسديهما، ولكن بعد أن كادت الروح تزهق. ولما اطمأن عليهما فؤادي خرجت إلى بيت الجنرال أحمد جلال الدين، فرأيت هناك مرادا الداغستاني ولم يكن يعرفني وجها، وعلمت أن الجنرال مريض وأنه لم يقابل أحدا في يومه، فأخبرت وكيله بما كان من دخول الرجلين بيتي وأخذهما أوراقي، وأظهرت له ما بت أتوقعه من الخطر، وكان الداغستاني يصغي لحديثنا وسمع الوكيل ينطق باسمي، فعرفني وتذكر ما كان بيني وبينه من شر، فتركني حتى أتممت حديثي، فالتفت إلى وكيل الجنرال واسمه رشيد بك وهو رجل عاقل كامل التهذيب، فقال له مراد: أهذا ولي الدين بك يكن؟ - نعم، هو من تراه.
فنهض مراد واقفا وجعل يحدق في ببصره حتى لظننت أن الرجل قد جن، ومشى خطوات إلى أن صار أمامي، فكلمني قائلا: ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن تشكو أنت فيه هذه الشكاية. - وما يريبك من شكايتي؟ - يريبني منها أنها شكاية رجل حر يصيح بها رجل مستبد. - ما رأيت من استبدادي؟ - منازلتك لي أيام كنت أصدر جريدتي «ميزان» بوادي النيل، ووقوفك في وجهي ودفاعك عمن تشكو ظلمه اليوم. هذا الذي كنا نشكوه قبلك وكنت أنت تكذبنا فيه وتمطر علينا صواعقك، وجريدة النيل شاهدة عليك. وإني لأعرف لك فضلا حدثت به كل من لقيته أيام تلك المصاولات؛ وذلك أنك مظفر الحجة شديد الوطأة غزير مادة الكلام. ولقد قلت لهم إنك للخصم يقذع خصمه، ولكن يعلمه ويهذبه وكنت أوصي من معي بترك مغاضبتك والتعرض لقارعاتك. - أما ما ذكرت من منازلتي لك فما كان ذلك مكابرة في الحق، ولكن كرها مني أن أراك زعيما للأحرار. إني ذكرت في أول كلامي عنك أني تاركك حتى أسبر غورك وأستبين نفسك من خلال كلامك، فسقطت سقطة بغضتك إلى فؤادي وتخذتك بعدها عدوا لوطني وعرفتك لنفسي عدوا لدودا. وإن ترجع اليوم زعيما على الأحرار أرجع عدوا لهم. لن تجمعني وإياك وحدة حال ولو كانت في سبيل الوطن. واعلم أني امرؤ لا أثق بعلمي ولكني أثق بيراعي ونفسي، وما دام لي نفس يتردد بين جوانحي فذلك عزمي الذي أنازل به الصروف وأجاهد به في تأييد ما أعلم أنه الحق، ولندع هذا إلى لقاء آخر؛ فإني منذ ليلتنا ممن هدرت دماؤهم، وكان كلامي لمراد آخر ما تحدثت به في بيت الجنرال أحمد جلال الدين. وأيقنت أن لا فائدة من بقائي هناك، فودعت القوم وصرت إلى إدارة التلغراف الكائنة في بيرا «بك أوغلي»، فكتبت رسالة برقية نسخت منها صورا عدة؛ خصصت كل صورة برجل من عظماء الرجال، منهم: كوجك سعيد باشا وكان ولي الصدارة إذ ذاك، وممدوح ناظر الداخلية، وعزت العابد، وتحسين الباشكاتب. وكانت إدارة التلغراف تقبل كل رسالة إذا كان صاحبها معروفا ولو كانت تلك الرسالة تسوء عبد الحميد، ولكنها امتنعت عن قبول رسالتي زاعمة أن قد جاءها أمر بأن لا تقبل رسائل إلا إذا كانت موجهة إلى السلطان، وأن يكتب عليها هكذا: «إلى الأعتاب العليا»، فرضيت بما اشترطه مأمور التلغراف مكرها. وهاك فحوى رسالتي:
دخل رجال الضابط الليلة بيتي وأخذوا أوراقي وكتبي، وملئوا قلوب من بالبيت فزعا. وإنما يصنع مثل هذا باللصوص وأهل الجنايات لا بمن اختارتهم الدولة لخدمتها ورفعت مراتبهم في حكومتها. وها أنا اليوم أتظلم لصاحب هذه البلاد وأسأله إنصافي، وأن يصدر أمره بمحاكمتي لأنال براءتي مما وصمت به أو يلحقني جزائي.
ولما فرغت من الرسالة ودفعتها للمأمور رجعت إلى البيت، فما اغتمض لي جفن ولا استقر لي جنب، وقاسيت ليلة لا تكشف أهاويلها ولا تنجاب ظلماؤها إلى أن نصل صبغها ورقت حواشيها، فتهادت إلي سنة في طيات نسائم السحر تخطر على إيقاع الطير في وكناتها، فملت على وسادة إلى جانبي وحيل بيني وبين الشهود، ثم ما لبثت أن نبهني بكاء بنيتي في مهدها. قلت: تعلمي البكاء أيتها المسكينة، إني لأرى أمامك أياما تبكين فيها على أبيك إما شهيدا وإما أسيرا. وما تكامل الصباح في ضيائه إلا أقبلت أمي وامرأتي تبكيان إلى جانبي، فنهيتهما عن البكاء وقلت: اصبرا، لعل لنا في جوانب هذا المأزق منفرجا. وأخذت امرأتي تنصح لي بالسفر قبل أن يتعاظم الأمر، وقالت: نحن امرأتان ولا يلحق بنا من الحكومة أذى ولا نلبث أن نلحق بك إذا بلغت مأمنك. قلت: وكيف السبيل إلى ذلك؟ هذه دارنا أقامت على جوانبها الأرصاد، وإن بالباب لقوما ألفت السهاد محاجرهم لا يفارقون مصراعيه قيد شبر، وما مشيت في الطريق إلا رأيت ورائي قوما يطلبونني بأوجههم الكاسفة وأعينهم الخائنة، يلازمونني ملازمة الظل حتى لأتمنى أن تخسف بي الأرض فأتوارى عن أبصارهم. ثم هبي أني أحكمت الحيلة ودانت لي فجاج الأرض وصرت إلى حيث لا يطول إلي باع الظالم المطارد، فما الحيلة في سفرك مع أمي وهذين الطفلين؟ تظلون وليس عندكم من يعولكم، ولا تدعكم الحكومة حتى تلحقوا بي، وتمنع عنكم ما أبعث به إليكم من المال، ولا ألبث أن أعود صاغرا فتكون العودة الثانية شرا من الأولى. - وماذا تريد أن تصنع؟ - سأنظر في أمري، عسى أن أهتدي إلى ما فيه خلاصنا.
هذا وعد وعدت به من عندي وأنا غير واثق بإنجازه. ولما كان المساء مضيت إلى أبي الهدى، فلما رآني صاح بي: ما وراءك؟ قلت: ورائي ما يسوء كل صديق ويسر كل عدو. - وما ذلك؟
فقصصت عليه القصة لم أدع منها حرفا إلا ذكرته، فأطرق يفكر وبدت على وجهه كآبة استكبرتها في نفسي، ثم رفع طرفه إلي وقال: وهل وجدوا عندك الكتاب؟ يريد كتابا كنت أخبرته أني وضعته وسميته «العصر الجديد»، أتيت فيه على بعض الوقائع التي جرت بين مصر وفروق، ولكني لم أتعرض فيه لعبد الحميد بسوء. وهذا كتاب كنت أنفذته إلى مصر ليطبع فيها، ولكنه تلاعبت به الأيدي ولم يسمع له ذكر.
قلت: يا سيدي، جرت عادتي أن أكتب من غير تسويد؛ وذلك أني أنقل سانحاتي في إباناتها واقتصد من الزمان بقدر ما أستطيع. - أوه! لقد أخطأت الصواب، وددت لو عثر الرجلان عندك على تسويد هذا الكتاب فتفوز يومئذ فوزا عظيما، يا ليتني علمت ذلك من قبل. ثم صاح: يا غلام! فدخل خادمه، فقال: علي بحسن خالد الساعة، فما غاب الخادم إلا عاد ومعه ابن أبي الهدى، فأقبل حتى جلس إلى جانبي، وكان أبوه مطرقا ويمينه تعبث بلحيته، فانتبه على سعلة سعلها ابنه ليعلمه بمكانه وقال: جئت يا حسن؟ - ممتثلا أمرك يا مولاي.
فأخذ أبو الهدى يقص على ابنه ما سمع مني، فما أتمه إلا ابتدره ابنه مستعلما: والكتاب؟ - أخبرني البك أنهم لم يجدوه واعتذر لي بأنه لم يتعود تسويد ما يكتب. - قضي الأمر ولا حيلة في تلافي ما فات.
وإذا لم يكن من الجلد بد أقبل علي الرجلان يعزياني، وقال أبو الهدى: لا تخف، لن يبلغ الشر بنا غايته، وإن في الكنانة لسهاما أعددتها للأيام المحجلة، فكن بمكانك من النجدة لا تذهب بذماء قلبك هذه العظائم. وسأبيت الليلة تدبيرا يتحداه الفوز وتسير على إثره الرغائب. فشكرت للرجل دعواه ونهضت راجعا إلى منزلي، فبلغته وقد كاد يتمزق صدار الليل عن ترائب الصباح، وإذا الجواسيس يتهادون في الطريق، فجاوزتهم إلى الباب حتى إذا بلغت أعالي السلم تلقتني والدتي لائمة معنفة وقالت: أي بني، ما أبطأ بك إلى الساعة؟ ولقد تركتني وامرأتك على مثل جمر الغضا. فأجملت لها الرد وتعهدت امرأتي فرأيت منها ما راعني؛ وجها تعالاه الوجل وجوانح تملك عليها الرعب وقد تمشى السقم في جسدها حتى لا ينقطع لها أنين، فجعلت أهون عليها الأمر وأقول كانت أزمة ثم انفرجت وإنها لغير معاودتنا من بعد. وما زلت بها حتى خف وقرها وهدأت لوعتها فنامت.
إن في اليأس لسكونا تجده نفس المكروب إذا بلغت الأمور أقاصيها، وإني لأشهد بصدق ذلك. وهذه تجربة ثانية ذقت فيها موتة العزم بعد ما كان بيني وبين أبا لحية. ومتى استشعر المجاهد ضياع المساعي وأيقن بخيبة الأمل ثابت إليه راحة السكون وهي آخر إعياء يجده المجهود. رأيتني في منزل نام أهله مغلوبين وليس حولي من أفضي إليه بحاجات نفسي، وكنت أريد صديقا جلدا مستحكم رباط الجأش رحب الصدر مكين قرار الصبر أحدثه بما يحدثني به فؤادي، ولكن من لي بذاك وقد تخاذل عني إخوان الصفاء وولوا كأنهم النعائم المجفلة، وأضحى لا يزاورني إلا الرجل الفاضل والصديق الأوفى مصطفى بك المخزومي والعالم المرحوم محمد صديق خان الحسيني، وكلاهما من أعضاء مجلس المعارف إذ ذاك، ثم كلاهما ينتمي إلى بيت رفيع من بيوتات المجد، أولهما عربي وثانيهما هندي، وحسبك دلالة على طيب العنصر. وما فرغت من هواجسي إلا وقد غشيني الكرى، فما انتبهت إلا قرب الظهر، وصرت أجدني واهي العزيمة خامد جذوة الشباب، فجعلت أتمثل ببيت كثير:
فقلت لها يا عز: كل مصيبة
إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
وبعد هذا كله اعترضني معضل أشكل علي استخراج غامضه واستنتاج الصواب من ثنيات شكوكه؛ وذلك أمر أبي الهدى. قلت إن كان الرجل أسر عني بغضه وأضمر لي انتقامه فما حمله على إفضائه إلي بأسرار يضارب الرجال دونها بالسيوف؟ وإن كان مخلصا لي في وده مستصفيا سريرته فما هذا اللعب الذي أراه؟ من أين جاء أبا الهدى أن ستدخل الشرطة داري وأن ستأخذ أوراقي حتى أعلمني بذلك قبل وقوعه؟ وما لبثت في استطلاع هذا السر طويل زمن، بل قيض لي الله من أطلعني على مكنونه وأسر إلي بنجواه، وسيأتي بيانه في موضعه.
ولا غنية عن ذكر ما كان بيني وبين القصر الحميدي، فعنه يتساءل القراء الكرام؛ وإجماله أن الباشكاتب تحسينا كان وجه إلي بعض حاشيته يستدعيني إلى «يلديز»، فقصدت إليه قبل مضيي إلى أبي الهدى، وكانت هذه أول زورة زرتها لهذا الخائن المائن بعد أن استعرت بيننا نيران العداوة، فما أخبر بمكاني إلا أمر بإدخالي عليه، فلما رآني تبسم لي تبسامة الخاتل، ولم يمهلني أن أسأله عما ندبني إليه بل تعجلني بقوله: كرهت أن أطيل انتظارك، وقصارى ما لك عندي أن مولانا السلطان يأمر بإحضار أوراقك من عند شفيق باشا ليكون فحصها واستطلاع ما فيها هنا بمرأى منك ومسمع. غير أن الأوراق لم تنفذ إلينا، والرأي أن تحضر غدا في هذه الساعة. قلت: لك ذلك. وخرجت غير مسلم، ثم اقتضيته في الغد فاعتذر، وقال إن الأوراق تأخرت عنه، فخرجت وأنا أقول: جعل الله عاليك سافلك أيها القصر وأوطأ الله أرجل الغالبين حجرك ومقاصيرك. وما اعتادني بعد ذا من هم جديد ولا ألم بي ملم يجدر بالذكر إلى اليوم السادس من شهر يناير الكائن في سنة اثنتين وتسعمائة وألف؛ وهو مستهل الكربة ومبدأ تاريخ الشقوة.
السجن
ما ذكر امرؤ عهده بنكبة حلت ساحته وخطر شهد هوله إلا تجددت فيه جزعاته وفزعاته، وعادته آلام كان استشعر بها في إبانات نزول الخطب واشتداد الويل. الآن يخيل لي أني بسجن الاستبداد، وأني أعاني ما خلتني فرغت من معاناته، ولولا أني قليل الاعتداد بما تأتي به الأوهام وما ينجاب عنه دخان الشك لطال همي وساء عيشي. وما ذاك الذي أذكره رجفان في الروع ولا خور في النفس، ولكنه أثر تستبقيه شدائد الأيام، لكل كارثة منه جانب ولكل فادحة منه سهم. على أني سأزجر فؤادي عن ذكر ما مضى وأنقطع من تلك العظائم إبقاء لرونق أمل أتلقى به هذا العيش الجديد الذي لبسنا لبوسه؛ فإن تجر الأقدار طوع ما أردنا من الخير فذلك نعم العوض، وإن تحل حوائل الأيام دون استتمام رغباتنا واستقرار أماننا فإن في لذة الادكار معوانا على التأسي. سبحان من جعلني راويا بعد أن جعلني شاهدا، وسبحان من أخلى تلك المعاقل بعد أن ظننا حقبة من الدهر أن لن يستفتح الزمان مغاليقها وأن لن يذل جبابرتها.
لكل ذي حياة يوم هو أشهر أيامه. وما في أيامي مثل اليوم السادس من شهر يناير، ولا في أعوامي عام مثل العام الثاني من التسعمائة والألف. طلعت علي طلائع الويل من يومه الثاني وما تلاه يوم إلا استجد لي فيه شر، خلتني مجدودا حتى إذا حياني سنحه تمنيت جذمه. فليذهب، وقد ذهب، لا أعاد الله مثل شؤمه.
أهاب بي سحرة داع من الوجد فاسمع. قلت: ما هذا الذي استفزني من كراي وأنهضني من رقدتي؟ وتقدمت إلى إحدى الكوى وجعلت أنظر منها إلى الحديقة، فإذا الوقت صحو والروض ندي والشجر موقف المتن لا تلويه نسائم، والغصون مجردة من غلائل الأوراق لا تتأود ولا تتعذر، وإذا عصافير تتطاير من أماليد إلى أماليد، برحت وكناتها وودعت فراخها فهي تتحاوم لتلتقط حبات سقطت من يد الإنسان في غفوة من حرصه، والماء كالماوية جلتها كف الصناع، تتجعد صفحته كلما عبت فيه العصافير بمناقيرها ثم يخف تجعدها ثم يعاودها استواؤها، وعلى متون الغصون قطرات من الظل هي ولا شك بقايا دموع الطبيعة حين بكت بنيها؛ فهاج المشهد بلابلي وأثار أشجاني وكدت أصيح طربا، وقلت: ندع مثل هذا ونأوي إلى الأجداث! ولكنني أشفقت على نفسي أن يطغيها حر خافيها، فالتفت ورائي وإذا بنيتي وأخوها نائمان يرتفع صدراهما وينحطان، فصبحت كلا بلثمة على جبينه وثب لها فؤادي، وبدرت من عيني بوادر شئونهما، فقلت: دموع بدموع أيتها الطبيعة والبادئ أظلم، ثم أقمت أترقب أن يتقادم العهد بالنهار علي أجد سبيلا كانت اشتبهت مسالكها أو أحدث رأيا أدرع به في لقاء الخطر المنتظر. غير أنني لم أبرح البيت يومي ذلك حتى المساء، فلما أصبت عشائي خرجت أنشد الطبيبة لتصف لامرأتي دواء وكانت اشتدت عليها أوجاعها.
فركبت التراموي متوجها إلى بيرا «بك أوغلي»، ولما هممت بالنزول تبعني رجل لم ألق له بالا. وفي بيرا مطعم يقال له مطعم طوقاتليان، يعرفه كل من زار فروق في عمره مرة، فما بلغت مكانه إلا اعترضني رجل من الشرطة قائلا: إلى أين تريد؟
قلت: وما يعنيك أنت من ذلك؟ - إني أسألك لأني من رجال الشرطة وعليك أن تجيبني. - أنا ذاهب لأدعو الطبيبة إلى عند امرأتي؛ إنها نفساء وقد أصابها نزيف من الدم لا يمكن لنا أن نتغلب عليه. - ما أظنك صادقا، ولا بد من مضيك معي إلى متصرف بيرا. - لماذا؟ - كذا أردت وكذا ينبغي أن يكون. - وإن أنا أبيت المضي معك وقلت لك: ما أنا بالقاتل ولا بالسارق ولا بالمعربد، وليس لي عند المتصرف شغل يدعوني إليه، فما أراك تفعل؟ - آخذ بطوقك وأجرك على وجهك حتى أنتهي بك إلى المتصرف. - أنت لا تعرف من تخاطب ولا تعقل ما تخاطب به الناس. خذ هذه البطاقة واطلبني في داري أو في مكان خدمتي. - لا حاجة بي إلى بطاقتك، وما اعترضتك جهلا بك، ولا بد من المضي معي. وما أتم الرجل كلامه إلا رمى بنفسه علي وحاول أن يأخذني من خناقي، فأهويت على يده بعصا كانت معي فشلت، وعاجلته بضربات كندف القطن، وأخذت منه سيفه فألقيته على الأرض ثم جعلت أدفع الرجل بقدمي واستطرده أمامي صائحا به: سر، الآن أنا أذهب بك إلى متصرفك، فلما انتهينا إلى باب المتصرفية أخذ جماعة من الأوروبيين يتصايحون: ما هذا؟ ما هذا؟ أكذا يتصيدون الناس في الطرقات ليذهبوا بهم إلى بحر مرمرة! - ماذا فعل هذا المسكين؟ - لعله سكران، لقد ضرب البوليس ضربا مبرحا.
وقد بلغت الشهامة من بعض الأوروبيين مبلغها، فدنا مني وأمسك بذراعي وهو يقول: لا تذهب، وليأخذوك قسرا إن كانوا رجالا.
فكثر اللغط بين الوقوف وعلت الجلبة وتكاثف الزحام، فأحاط بي جماعة من الجاندرمة وحيل بيني وبين الناس، فتقدمت إلى باب المتصرفية آخذا بطوق الشرطي الذي اعترضني، وإذا جماعة من إخوانه يتقدمهم قوميسير اسمه شاكر أفندي هو من أهل «بوسنة سراي»، فلما بصر بي دنا مني ومد يده إلى حزامي ليرى مسدسي فيأخذه ويخفيه، وكنت أعزل لا سلاح معي. وقد جفت يمناي ويسراي على أذني الشرطي، وإني لأجذبه إلي ثم أدفعه ضاربا برأسه الحائط، فأمسك شاكر أفندي بذراعي وجعل يعالجني حتى خلص مني الرجل. وأقبل علي بعد ذلك ملاطفا ليسكن ما هاج بي من غضب. وقد جاء أناس من الشرطة فكان منهم من يعنفني وكان منهم من يلاطفني. أما المعنف فآب مزودا بما قسم له، وأما الملاطف فكان جوابه الإعراض. وأقبل قوميسير المركز يقول لي: أرى أن تصعد إلى مكان المتصرف وتخاطبه فيما أغضبك؛ فهو أولى بجوابك وأدرى بمواقع الصواب والخطأ مما أتيت في ليلتك هذه. أما نحن فعبيد الأمر نفعل ما نؤمر به. قلت: وأين مكان المتصرف؟ قال: أنا أدلك عليه وأسعى بك إليه، ولكنه لم يرجع من القصر. قلت: سر، فسار وسرت على إثره، وما مضت على انتظاري ساعة إلا وقد أدخل بي على المتصرف.
أعوذ بالله! وجه كاللبنة وعينان كالبصقتين ولحية كالطحلب وأنف كالسواك، كل هذا يحمله عنق كخصر الهيفاء وجسد كزجاجة ملؤها صبغة اليود. لو صدق ما يقال عن العفريت وتنقب ذلك العفريت بحائط أحد الأطلال لكان دون الرجل قبحا.
تجاوزت باب الغرفة، فتلقاني المتصرف قائما باسم الثغر بادي الأنس كأنه صديق لي مقيم على ودي منذ الأعوام. وحين دانيته تبادلنا سلامين كمن يحثو التراب على رأسه، فأشار إلى كرسي أمام مكتبته وأمرني بالجلوس عليه، ثم ناولني سيكارة وطلب لي قهوة، حتى إذا فرغنا من استنفاد عبارات النفاق قال لي: ما يغضب سيدي؟ - ما ثم ما يغضبني، اعترضني رجل من الشرطة زاعما أنك أنفذته في طلبي، فحاولت مجادلته بالحسنى فلم أفلح، وكان ساعداي أفصح مني كلاما وأبلغ حجة. - أترى أنك أصبت فيما صنعت؟ - كلا، إني وقعت فيما نهيت عنه الناس ولمت على مثله أترابي. غير أني أكرهت على ما كان مني إكراها؛ استفزني ما يستفز غيري، وكما قيل في المثل: سبق السيف العذل. وقد كان في سابق خدمتي وإخلاصي لهذا الوطن شفيع لي إذا اشتدت بي الكرب. غير أن الأمة لا تعرف من يحبونها ولو عرفتهم لالتفت حولهم ووقفت في وجوه ظالميهم. - كلما أتونا بمعتد أخذ يجادلنا باسم الأمة، كأن هذه الأمة تختار لنفسها أنصارا لينادوا باسمها. - ما أنا ممن اختارتهم الأمة لنجدتها، ولكني متطوع في هذه السبيل، ولا أنا من أنصار الأمة، ولكني أحد أبنائها وجزء من أجزائها. - ألا ترهب بطش أمير المؤمنين؟
ما نطق المتصرف بهذا الكلام إلا وأثار كل ساكن في جوانحي، فقلت: أهذا مبلغ عرفانك؟ إنك لأحمق. خوف بأمير المؤمنين إحدى الدول أو ملكا من ملوكها، أما أنا فلا جند لي ولا أنا بصاحب تاج. إن أنا إلا واحد من رعيته. ومتى جاز للناس أن يخوفوا الناس بملوكهم؟! قد كنت أرجو أن تخاطبني بغير هذا الكلام، ولكنك قليل النصيب من الإدراك. تبا لك ولأمير المؤمنين الذي اختارك لتجلس على هذا الكرسي. لو أجلس عليه قرعة لكانت أحمد منك لقاء وأحسن منظرا.
فنزل هذا الجواب على قلب المتصرف كالمهل، فضرب بيده على مكتبته وصاح بي أن جاوزت في قلة الأدب حد المغفرة. فما أتم كلامه إلا وقد أكفأته على مكتبته وأهويت بين كتفيه بلكمات (ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد)، فبدت من الباب وجوه الشرطة ورأيت أني لا محالة واقع في أيديهم، فصحت بهم: إذا تقدم أحدكم نحوي خطوة واحدة تركت لكم هذا الرجل لا حراك به وألقيت بنفسي من الكوة على الطريق، ويبقى لكم مني جثة لا روح فيها. فجاء معاون المتصرف وهو أقرب الناس شبها «إلى أبي زعيزع» الذي يصنعه الصغار في مصر من الجزر ويصيحون به في لعبهم: «يابو زعيزع قوم صلي، انت صغير ومحني». فأخذ المعاون يلاطف المتصرف بكلام لا أعرفه، والتفت نحوي فقال: لا يليق بمثلك أن يغلبه الحنق. إن البك بمنزلة والدك. فقلت: حاشا؛ إن والدي عاش حرا ومات حرا. وهذا الذي أمامك لا يكون والد أحد، وأقسم لك إن أبناءه أو بناته ليبرءون منه إلى الله.
فجلس المتصرف وأخذت شفتاه تتحركان بكلام لم أسمعه، ثم رفع رأسه إلي وقال: سامحك الله. - بل أثابني الله.
ثم دعا أحد الكتاب وأسر في أذنه كلاما لم أسمعه، فغاب الكاتب وعاد وفي يده ورقة أخذها المتصرف ووقع تحتها بخاتمه وقال: أرسل هذا في مثل لمح البصر. فلما ولى الرجل نهضت واقفا وأردت الخروج، فقال لي المتصرف: إلى أين تريد؟ - إلى بيتي. - لا سبيل إلى ذلك الآن. - وما يمنعني عن الذهاب ولست مسجونا ولا محكوما علي بحكم؟ - إذا حاولت الخروج قسرا منعتك الجنود، ولا بد لك من الانتظار. - وماذا تريد أن أنتظر. - إرادة مولانا السلطان الأعظم.
فأيقنت بعد ذا أني وقعت في الشراك، فجلست، وطاف علينا الخدم بالقهوة والسيكارات، واستولى علينا الصمت؛ مجلس تعالاه السكون وأظلته دهشة الظلم ووحشة الويل، كالقبر لولا مصابيح تسطع منها الأنوار وأنفاس تتردد بين الجوانح والصدور، ما يعلق الطرف بشيء إلا ورأى فيه صورة الخطب. فلما دقت الساعة دقتها التاسعة بالحساب الشرقي بدا في الباب شخص مشى نحوه المتصرف، ثم غاب كلاهما وبقيت أنا وحدي في تلك الغرفة، فما راعني إلا قوميسير المركز وهو رجل اسمه حسين أفندي يتبعه نحو الستة من أشداء الرجال، فتقدم الرجل نحوي وقال: أرجو أن تتبعني. - إلى أين؟ - إلى مكان ضيافتك، أنت في هذه الليلة ضيفنا الكريم. - أنا لا أريد هذه الضيافة، وأحب أن أرجع إلى بيتي. - ترجع إلى البيت غدا صباحا. - ولم لا أرجع الآن؟ - لأن الساعة قبيل الصبح، ولا يجوز ذهابك في مثل هذا الوقت؛ إذ لا نأمن عليك من اعتداء معتد. - وأين المتصرف؟ - قد ذهب إلى داره. - وددت لو ذهب أحد منكم ليخبر أهلي بمكاني. - لك ما تريد.
وبعد هذه المحادثة نهضت واقفا وقلت للقوميسير أني رهين الإشارة ، فمشى أمامي وتبعنا أعوانه. وما زال يطوف بي حتى أنزلني إلى غرفة «المعاينة الطبية»، فأدخلت فيها إذ لم يكن هناك موضع هو أشكل بي منها، فلما استقر بي الجلوس جاءني شرطي فقال: إن المتصرف رآك تلعب بقلم من الرصاص كان في يدك فأرسلني لآخذه منك. - قلتم إن المتصرف ذهب إلى داره، فكيف يطلب الآن قلمي؟
فلم يرد الرجل جوابا، وأخرجت له القلم فدفعته إليه وذهب عني بسلام. وإذ كان الموسم موسم الشتاء وكان البرد شديدا ولم يكن بالغرفة التي أدخلتها كانون ولا نار لتكسر سبرات القر، جعلت المعطف (البلطو) غطائي واعتمدت على ساعدي فنمت.
فلما كان الغد انتبهت من نومي فرأيت في الغرفة رجلين، أحدهما قوميسير وثانيهما شرطي، فلما رأيا انتباهي أقبل علي الأول منهما وسألني أصائم أنا أم مفطر؟ قلت: أفي السجن تريدون أن يصوم الناس؟! أنا مفطر ثم مفطر ثم مفطر. فقال: هل لك في قهوة وسيكارة؟ قلت: قهوات وسيكارات. فأشار القوميسير إلى الشرطي فبادر ثم عاد ومعه القهوة والسيكارات، ولما تعالى الضحى دخل الغرفة جماعة من الشرطة، فتقدم نحوي رجل منهم مسلما وأخذ يعاتبني على ما كان مني في الليل، قال: لقد عذبت نفسك الليلة وعذبتنا معك. - وكيف ذلك؟ - ما أسرع نسيانك، ألم تجعل المتصرفية كلها مشتغلة بك، وضربت المتصرف وقلت في مولانا السلطان كلاما لا يليق بمثلك أن يقوله، وما صدقنا أن رأيناك نزلت إلى هذه الغرفة ونمت.
فرد أحد الحاضرين على معاتبي منكرا وقال: متى تكلم البك في مولانا السلطان كلاما كما زعمت؟! إني كنت حاضرا فلم أسمع شيئا مما ذكرت. فأجابه ثالث بأن قد سمعني أشتم السلطان. فلما رأيت تمادي الجدال بين هؤلاء الأنذال التفت إلى معاتبي وقلت: كان ما كان وأنا قلت كل ما خطر ببالي وصنعت كل ما قدرت أن أصنع، وها أنا ذا اليوم رهين السجن، فماذا تريدون مني؟ فلما سمعوا مني هذا الكلام خرجوا من عندي وبقيت مع صاحبي القوميسير والشرطي، وكان القوميسير من أهل «بوسنة سراي»، ذا همة وجد ، يأنس المرء إلى محادثته ويعجب بأدبه وحسن أخلاقه، فقلت في نفسي: يا سبحان الله! كيف رمت الأقدار بمثل هذا الرجل الشهم في سلك البوليس؟ ثم علمت أن الحاجة اضطرته، وإنها لتضطر إلى ركوب كل مركب خشن. ولقد قال لي: إن نوبتنا في الجلوس عندك ست ساعات، وسيأتيك بعدنا قوميسير وشرطي فيلبثان كذلك، ثم يأتي آخران إلى أن يمن الله عليك بالخروج قريبا. على أنني أرى بك ضجرا ويأسا ولا أحب أن تستسلم إليهما، الرجال يعرفون عند اشتداد اللزبات، وسأطلب الإذن في إحضار أوراق اللعب لنلعب معك ونعينك على ترويح نفسك من أكدارك، فشكرت للرجل ظرفه ولم أخالفه في نصحه كثيرا.
ولا يسألن القارئ الكريم عن حال من بات ينتظر إيابي في البيت، فذلك يطول شرحه ولا يستطاع وصفه، وكنت سألت القوميسير أن ينفذ أحد أعوانه ليعلم أهلي بمكاني، وكان وعدني بذلك ولكنه لم يف بوعده. ولما أصبحت والدتي وامرأتي ولم أعد إليهما أوجستا خيفة وأيقنتا أن أمرا أصابني، فتوجهتا إلى بيت الجنرال أحمد جلال الدين وسألتاه أن يستعلم لهما من القصر، ثم أخذتا تقصدان منازل الكبراء فلم تقفا على خبري، فذهبتا إلى «غلطة سراي»، وجعلتا تسألان عني كل من لقيتاه من رجال الشرطة حتى دلهما أحدهم على مكاني وأخبرهم خبري، وقد كان ممن شهدوا واقعتي مع المتصرف، فجاءتا إلى المتصرفية وطلبتا أن ترياني فلم يؤذن لهما بذلك، وبقيت في السجن أياما لا أرى أحدا من أهل بيتي ولا أسمع عنهم خبرا، أقضي أنهاري ماشيا في الغرفة أو مضطجعا على المقعد أدخن السيكارات وأشرب القهوة ولا أذوق طعاما، وفي يوم العيد؛ عيد الفطر - وقد وقع في ثالث أيامي بالسجن - جاءني رئيس القوميسيرية من قبل المتصرف مهنئا لي بالعيد، فغاظني ذلك غيظا شديدا، فقلت له، لا هنأه الله: أيرى الغبي أني في قصر «طولمة بغجة» مقيم بين أبهة الملك وعز القدرة؟! إن سره اليوم أني مسجون فربما تأتي الأيام بما يطيل إساءته، وما ذلك على الله بعزيز.
أعوان النقمة
إن في دول الظلم لأعوانا يسعدون في إباناتها، يؤتون الحكم على أعداء الاستبداد، يستحلون أموالهم وأرواحهم، حتى إذا استمرءوا الغواية وزين لهم الغرور أن يضيموهم استضعافا وأن يحقروهم استخفافا؛ وقفت النجدة - نجدة الأحرار - في وجوههم، وأهوت عليهم يد اليأس بسيف من سيوفه القاطعة، لا يصيب منهم عضوا إلا براه بري القلم. أولئك الطغام خلقوا بغير قلوب فلا يرحمون، ونشئوا بوجوه لا دماء فيها فلا يستحون، ما تفردوا بفتى حر إلا ساموه عذابا، فسخروا من عقله، وضحكوا لبكائه، فلا يزالون به حتى يواروا شمائله ويدفنوا معه فضائله. وقد كان عبد الحميد يبغض أحرار الأمة ويطاردهم؛ لأنهم أقاموا له بالمرصاد فأحصوا سيئاته في كتبهم وعيروه بمثالبه في منشورات فصولهم. أما أعوانه فلم يبغضوا الأحرار حبا في ذاته، بل رغبا في ذهبه ورهبا لبطشه. ثم لم تزل تلك العداوات تنمو في صدورهم حتى انقلبت غرائز، فبات عدوانهم للأحرار طبعا فيهم. وإني لذاكر في هذا الفصل بعض ما بقي بالخاطر من بغي هؤلاء القوم لتكون حجة عليهم خالدة خلود الأبد، وليتعظ بها سواهم.
جاءت خادمتي يوما من الأيام ومعها فولاد يكن؛ وهو أكبر أبنائي، وطلبت إلى الموكلين بحفظي أن يدخلوا به عندي ولم يتجاوز عمره العام الواحد يومئذ، فخافوا أن تكون في ثيابه ورقة أخفاها أهل بيتي، ففتشوا الطفل فلم يجدوا معه شيئا، ثم خافوا أن أكون كتبت ورقة وأعددتها ليوم يجيء الطفل وأن أنال غرة منهم فأجعلها في ثيابه، وما كتموا ذلك حتى عن الخادمة، فرجعت آيسة وهي لا تكاد تصدق ما سمعت أذناها وما رأت عيناها.
وقد أذنوا ذات مرة لوالدتي ولامرأتي أن ترياني، ولكن جعلوا لهما شرطا ألا تكلماني إلا باللغة التركية وألا تسرا إلي الحديث، فلما أدخلتا علي أحاط بنا رجال الشرطة من كل ناحية، فجعلت أمي تؤنبني فتقول: بلغني يا بني من المتصرف أنك نطقت في سلطاننا بكلام غير حسن، من أين جاءك هذا الأدب الجديد وأنت تعلم أننا نحيا تحت أمنه ونرتع في بحبوحة نعمه؟! ولا أصدق أن تكون قلت هذا الكلام ، وأنت أشد الناس إخلاصا لمولاك. فقلت: يا أماه، اقصري في ملامك، إني عنك في شغل، وإن في فؤادك مقدار ذرة من حب هذا الرجل فابرئي مني إلى الله. ثم التفت إلى امرأتي وقلت: أود أن تلزمي بيت زوجك وأن لا تجعلي لقدميك مراحا على أرض الظلم. فخرجت المرأتان وهما تذرفان الدموع.
ولما كانت الليلة العشرون بعد دخولي السجن، بلغ مني اليأس أقاصي الروح، وكانت النوبة في تلك الليلة للقوميسير شاكر أفندي الذي تقدم ذكره، فاقترب مني بكرسيه وأخذ في يده أوراق اللعب وجعل ينظر فيها على الطريقة المعروفة عند الغربيين؛ وهي المسماة «بسيانس» أي الصبر، ويزعم أناس أن نابليون الأول كان يسلي نفسه بهذه اللعبة حين اعتقاله بجزيرة القديسة هيلانة. فقال شاكر أفندي: هذا فأل مجرب، لا يخطئ أبدا، فأضمر في نفسك ما تريد معرفته وأنا أصف الورق ثلاث مرات. فإذا نجح الفأل ثلاث مرات فمرادك لا محالة ميسر، وإذا نجح مرتين فيغلب تيسره على تعذره، وإذا نجح مرة واحدة فتعذره أقرب من تيسره، وإذا لم ينجح الفأل ولا مرة واحدة، فدون مرادك اجتياز ما بين السماء والأرض. - سل ورقك أأخرج من السجن قريبا أم يطول فيه مقامي.
فنظر الرجل في الورق وأجاله ثلاث مرات فلم ينجح في واحدة منها، فقلت: سل ورقك أأرسل قريبا إلى أقاصي بلاد الأناضولي منفيا، ويكون ذلك في غفوة من عيون أهلي، ويطول في النفي مقامي؟ فامتنع صاحبي بادئ بدء، ثم أجابني إلى طلبي، فأجال الورق ثلاث مرات، فنجح الفأل فيها جميعا، فأخذ الورق وجلد به الأرض وقال: هذا فأل غير صادق. قلت: وكل فأل هو غير صادق. وتركنا بعد ذلك ما كنا فيه من الفأل، واضطجعت مكاني، فغلب علي النوم، فانتبهت على يد تهز إحدى كتفي هزا، وإذا رجل ربعة القامة ممتلئ الجسم عليه سيماء أهل الجنايات، وخلفه شرطي بيمينه مصباح فيه شمعة مشعلة؛ فنهضت فوجدت القوميسير شاكر أفندي قد انتهت نوبته وجاء مكانه رجل آخر اسمه حسين أفندي، وهو كذلك من أهل «بوسنة سراي»، وكان حسين أفندي مطرقا مفكرا، لا يبدي حراكا، فقلت للرجل الذي أيقظني: ماذا تريد؟ - أريد أن أذهب بك إلى السجن. - أولست اليوم مسجونا؟ - كلا، ما كنت إلى الساعة إلا ضيفا، ولكنك مذ الآن مسجون. - كم الساعة الآن؟ - نصف الليل. - أنا لا أبرح مكاني هذا قيد شبر. وإذا شئتم أن تذهبوا بي إلى السجن فليكن ذلك نهارا. - لا تخف. - ما أنا بخائف، ولكني لن أبرح مكاني.
فلما سمع الرجل مني هذا الكلام فكر مليا ثم ذهب فغاب عني دقائق قليلة وعاد يستعيد معي كلامه. غير أنه قال لي: الطاعة خير من العصيان. وإذا لم تذهب معي مختارا أخشى أن يذهبوا بك مكرها، وذلك ما لا أحب لك. - إذن فاذهبوا بي كرها. أما أنا فلن أختار المسير في مثل هذا الحين إلى موضع لا أعرفه. - ولكن كيف تستطيع أن تغالب الحكومة، دع عنك العناد، إن وراءه لندما طويلا. وإذا أوجست من ذهابك شرا فذلك وهم منك، وإني لأقسم لك بالله ألا يصيبك أقل مكروه. - لا سبيل إلى ما تريد، فاقض ما أنت قاض.
فذهب الرجل والشرطي الحامل للمصباح وبقيت مع حسين أفندي والشرطي المناوب، فقال حسين أفندي: أرى يا بك ألا تخالف القوم، فتحرجهم معك، ولا خوف في ذهابك مع الرجل، والسجن ليس بعيدا عنا. ثم عاد الرجل ومعه حامل المصباح، فقال لي: أقسم لك برأس السلطان أنك لن يصيبك أذى. وأستحلفك بكل عزيز عليك ألا تكرهنا على إبداء الخشونة. - حلفت لي بالله فلم أصدق حلفتك، ثم حلفت لي برأس السلطان فأيقنت صدق ما تقول، وها أنا طوع إشارتك، فاذهب بي إلى حيث تريد.
السجن الجديد
نادى السجان بأعلى صوته: من القادم؟ وجاوبه من يقودني مسرعا: لا غريب بيننا، فسمع صرير الباب واجتزنا ساحة حتى وقفنا أمام مديره، فتأمل الرجل وجهي وقيد اسمي في دفتره، وذكر من أوصافي ما يحتاجه، ثم سعى بي رفيقي إلى ناحية، فناداني أن طأطئ رأسك واصعد السلم على مهل. وصعد وأنا على إثره، فدخلنا حجرة خالية ما بها إلا خوان في وسطها وإلى جانبه كرسي فيه خرق واسع لم أنتبه له، فثبت الرجل شمعة كان أخذها على ذلك الخوان وأشار إلي بالجلوس على الكرسي، وحين أردت أن أستقر فوقه هويت من خرقه إلى الأرض حتى التصقت ركبتاي بصدري فجعلت أحاول الخلاص فلا أستطيعه، وبهت الرجل فجعل ينظر إلي دهشا ولا يتحرك من مكانه، ولم أزل أعالج ذلك الخرق إلى أن انقلب بي الكرسي على الأرض، وخرجت مجهودا ينقط جبيني عرقا، فقلت: ساء ما نتبوأ من مقاعدك أيتها الدار. ووقفت أنفض التراب عن ثيابي، وحين عاودت صاحبي السكينة ذهب وعاد وهو يحمل فرشي وكانوا أتوا به من داري قبل ذلك بأيام، فجعله على أرض الغرفة وودعني وانصرف.
فلما اطمأنت نفسي إلى الوحدة؛ هاجت لوعاتي وجاشت همومي وسالت عبرات لا يكفكفها الصبر ولا ينهنهها الوقار. ما أرخص تلك اللآلئ عند من كان على شاكلتي من أهل الضعف. هذا ذنب أقر به طائعا وأسجله على نفسي آسفا. وإن من العار على المجاهد في حب وطنه أن يغلب عليه طبع السيدات، فيبكي في موطن هو أحق بأن يبدو فيه بنخوته. ولكن كذا كان؛ بكيت ثم بكيت ثم بكيت. لا القوافي أسعدتني، ولا الحكمة صاحبتني، ولا العزيمة أهابت بي. إن هو إلا الدمع دجانا وتهتانا، بللت به مواضع ألهبها الحزن، فكنت شاعرا في نظم العبرات، ولم أكن شاعرا في نظم الأبيات.
يا لك من ليل أسود الإهاب موحش الجوانب، أظلمت هواديه، وما استنارت تواليه، ويا لك من مثوى بين تلك الألواح المحددة لتكون أرضا والمشبكة لتكون سقفا! هكذا طال الحزن فغشيني نوم كأنه الموت، ظللت صريعه إلى الصباح، وما انتبهت إلا وقد بدا النهار مفتوق الأديم أغر الطلعة، فاستويت على حرف الكرسي المخرق وإذا كوة مفتوحة في بعض الحيطان تناصفها سلالم لا أرى أوائلها ولا أواخرها، أطل منها رجلان، قال أحدهما لصاحبه: ما هذا الذي أرى؟ - لعله ضيف جديد. - لا مرحبا به، والله لكأنه من إوز البر. - مثل هؤلاء لا ينبغي أن يصطبح بأوجههم؛ فهي شؤم على من يراها. - هذا وجه خلق ليزرع فيه الفجل. - خلق ليبصق عليه.
فصحت بالرجلين: ماذا تريدان مني؟ خلياني وشأني، لست من حزبكما.
فقال أحدهما: ألا تسمع، هذا يتكلم. ما كنت أحسبه إنسانا. فلما لم ينصرف الرجلان آثرت الصمت حتى ذهبا عني. ووقفت أنظر حولي عسى أن أجد شيئا أتلهى به عما أنا فيه من العذاب، فجعلت آخذ أعواد الكبريت وأرصفها على المائدة في أشكال مختلفة، ثم أعدها ثم أشعلها واحدة واحدة، فسئمت هذا اللعب فقمت أمشي في الغرفة وأعد خطواتي، فما بلغت نحو الألف إلا وقد أضجرني العد، فرأيت أن أنظم شيئا من الشعر فاستعصى علي ولم يجر على لساني ولا بيت واحد، فجعلت أنشد ما أحفظ من أشعار القدماء، فما راقني شيء منها؛ وما زلت في هذا العناء الممض حتى أمسيت.
فلما مضت من الليل أوائله استدعاني مدير السجن إلى غرفته، فذهبت فأكرم وفادتي وسقاني الشاي وأقبل يحادثني بأطيب ما سمعت. ولما أردت الانصراف من عنده صعد بي إلى حجرته ووقف بي أمام كتبه وقال: تعلم أن الكتب السياسية أو العلمية لا تدخل بيوتنا، فكيف نطمع أن نجعلها عندنا في مواضع مثل هذا؟! ولكن أمامك من الروايات ما شئت، كلها مترجم من الفرنساوية إلى التركية، فاختر لنفسك إحدى الروايات لتكون تسلية لك في وحدتك، فسرني من الرجل هذا الظرف وشكرت له جميله، واخترت إحدى الروايات، وكان فرحي بها فرح الفقير أصاب كنزا، وبتلك الرواية قضيت ما بقي من أيامي بالسجن. وكان المدير يدعوني كل ليلة إليه فيحادثني ويخفف عني ما أجد من كمد الوحدة.
الأحرار في بطون الأرض
قد يحمل بعض الناس أكثر ما أنا ذاكر في كتابي هذا على المبالغة، فيقولون شاعر يجري مع الخيال، كما حمل بعض أصدقائي ما سبق من فصولي على هذا المحمل، ولكن الذي بلوا بمثل ما بليت به يجدونني مقصرا، ولولا جرأة تعودتها منذ خلقت لأمسكت عن ذكر أشياء كثيرة لكي لا تعتورها هذه الشبهات. غير أنني لا أبالي الثناء ولا أبالي الهجاء وإنما أبالي أن يصدق في أحدهما، فليسمع القارئ وليسأل.
أخبرني مدير السجن أن بالسجن الذي كنت به سردابا مظلما تحت الأرض، أرضه الوحل وسقفه الحجارة، لا ينفذ إليه ضياء النهار ولا يتهادى فيه نسيم الشمال. وهنالك برميل فيه ماء غير مصفى وإلى جانبه صخرة نحتت لتكون كرسيا يجلس عليه المسجون موثقا بالأغلال والأصفاد، ولا يجدد الماء الذي في البرميل إلا إذا نفد. قال: وكانوا يدعون المسجون هنالك إلى أن يموت.
قلت: أراك تخبرني أخبارك قائلا: كان ... وهل تبدل ذلك الآن؟ - نعم، تبدل كثيرا في الآستانة، وهي كما علمت أمام عيون الدول. أما الولايات البعيدة عن الثغور فلم يتبدل فيها شيء. وقد علمنا أن السلطان أمر بزيادة التعذيب في سجون الولايات البعيدة، وفيها اليوم ما يذهل أهل الرأي ويستبكي كل حر في الرجال. - وما يمنع السلطان من رقبة الدول عن إنزال العذاب بأعدائه وهو كل يوم يقتل ويسجن وينفي؟ لا تسأم ذلك نفسه ولا يمجه ذوقه. - أجل. غير أنه يقتل سرا لا جهرا. وأحوال السجون بالآستانة لا يعلمها أحد مثلي. ولقد يؤتى بالرجل المظلوم فيبقى في السجن شهورا وأعواما لا يسأل عنه سائل ولا يعرف هو الجرم الذي سجن من أجله. وأكثر أهل التهم السياسية يظلون بمعزل عن سواهم من المسجونين، فلا يؤذن لهم بمخالطة أحد ولا يهنئون بزيارة قريب من أقاربهم. أما المكان الذي أحدثك الآن بحديثه فلم ننزل إليه أحدا من الناس، ولا يعيش فيه أحد. على أننا أنزلنا إليه بعض الأرمن الذين وقعوا في أيدينا أيام الحوادث الأرمنية، وهؤلاء لم يمكثوا بذلك المكان إلا يوما واحدا، ثم نقلوا إلى سجن الضبطية ونفوا منه إلى سجون القلاع والولايات. وقد كان بالغرفة التي أنت بها الآن رجل يزعمون أنه من حزب تركيا الفتاة، بلغ منه الجزع مبلغه؛ فهم ذات يوم بالانتحار، ولو لم نتداركه للقي حتفه. ولما رأيت حاله من اليأس وما حل به من الوجل أشفقت عليه وأحببت أن أسليه بعض أحزانه، فاجتنبني وأساء بي الظن. ولقد قال لي مرة: أنا لا أحب الجواسيس ولا أتقرب إليهم ولا أدعهم يتقربون إلي. فقلت له: لو كنت جاسوسا لما عشت براتب قدره أربع ليرات طول هذه السنين. قال: أنت تزعم ذلك وأنا لا أصدقك. وكان هذا آخر ما كلمني به إلى أن من الله عليه بالخروج. - كيف يأخذون الناس ليلقوهم في البحر؟ - ذلك ما لا علم لنا به؛ لأنهم لم يأخذوا منا أحدا وألقوه في البحر، وإنما يأخذون من يريدون إغراقهم من نظارة الضابطة. هنالك خزينتهم. ولا يعلم ذلك كل مستخدم في تلك النظارة، بل يعلمه أناس من كبارهم، فهم الأمناء على هذه الأسرار. - وهل سجن عندكم كثير من الأحرار غير من ذكرت؟ - بلى. ثم اعلم أن بجانب الحجرة التي أنت بها حجرة ثانية عرضها متران وطولها متران، هذه يجعل بها من عظمت ذنوبهم من أهل السياسة، ولا يوضع فيها إلا رجل واحد، لا يقدر أن يضطجع ولا أن يجلس، بل يظل واقفا حتى تتخاذل قدماه؛ فإن باح بسره أخرج من الحجرة وأمضي فيه حكم القوم، وإن أبى إلا إنكارا بقي مكانه حتى يبوح، وما باح لنا أحد بسره، والذي أراه أنهم لا سر لهم.
بعض ما وقع أيام سجني
إنما يعرف الصديق الوفي عند اشتداد الكرب وتوالي الحوادث. أما ادعاء الود والعيش في خفضة والحال في استقرار فذلك يتساوى فيه صادق وكاذب. وفي كرام الأعادي من يشفق على عدوه إذا فلت مرته ومال ركنه، ولله أيام الشدائد؛ تعلم من حيث تستبكي، وتهب الموعظة من حيث توجع!
سجنت فأعرض عني إخوان الصفاء، راعتهم نكبتي وباعدت ما بيني وبينهم محنتي، فبالغوا في الحذر من جانبي، ورثت يومئذ حبال كانت أحكمتها الألفة في ظلال الأمن وفي ساعات الغرور، ولم يرث لبلواي ولا بكى لمصرعي سوى قليل من الإخوان وواحد من الأعداء.
أما الإخوان الذين استهانوا الأهوال في جانب الإخاء وأقبلوا على مورد الموت الأحمر يطلون حيث جندل أخوهم الشهيد، فأولئك منهم زكي الحسب مصطفى بك المخزومي، أحد أعضاء مجلس المعارف إذا ذاك، ومنهم الشهم الأوفى المرحوم محمد صديق خان الحسيني؛ وهو أحد أعضاء ذلك المجلس. وقد تقدم ذكرهما، وآخرون غير هذين الصديقين أدع ذكرهم إجابة لملتمسهم، فكان عدد الذين أهمهم أمري لا يزيد على الخمسة، جزاهم الله عني خيرا، إني عاجز عن جزائهم، ولقاهم من السعادة بقدر ما ابتلاني به من الشقاء.
وأما العدو الذي نسي يومئذ عداوته فهو زهدي باشا ناظر المعارف، كان سوسا لخزائن الحكومة، لا يدع قطعة من الذهب إلا نخر فيها، لا يرحم في سبيل آرائه صغيرا ولا يوقر كبيرا، ولا ينام عن خصم حتى يرديه ويزيله عن موضع عزه. وقد كان لي وإياه شأن من الشأن. وحين أمال الدهر عماد سلطاني وأسلمني إلى من يطيل همي وتسهيدي؛ أمر زهدي باشا بصرف مرتبي وأرسله إلى أهلي، وحمل رسوله من كلام الود وجميل العزاء ما كاد يثلج صدورهم، ثم أرسل إلي يقول: أنت اليوم رهينة السجن، لا حول لك ولا قوة، وأخشى أن يحدث لك من اليأس ما يذهب بعزك؛ فاصبر إن الصبر درع الكريم إذا نابته نائبة، وسلني كل حاجة تكون عرضت أقم لك بقضائها. فرددت الرسول أحسن رد وقلت: إن حاجة الحر في رأسه لا في صدره، وإذا بخلت الأيام بها فلا ألتمسها عند من هم أبخل منها.
وبينما أنا في السجن، لا علم لي بما تجري به الأقدار، إذا جماعة من المظلومين يقادون إلى ذلك البيت غير المحبوب، عضت السلاسل على سواعدهم عض الثقاف على صم الأنابيب، أخرجتهم يد الجور من مستقر دعتهم وقادتهم إلى مستثار فزعهم. أحد أولئك المظلومين هو المرحوم جبرائيل أفندي غرغور؛ وهو من مشاهير المحامين، وكان وظف عضوا بأمانة البلدة؛ ثم رجل من الأروام وولده معه، وهما من مشاهير تجار الجواهر والحلي. وكان السبب في سجن المرحوم غرغور أنهم عثروا في داره على بعض مطبوعات الأحرار، فأتوا به مسرعين ولم يمهلوه أن يلبس ملابسه، وإنما أقام الحجة على ذلك الشيخ الجليل أن أحد نجليه وهو نعوم أفندي غرغور كان فر إلى أوروبا ولحق بجماعات المجاهدين من الأحرار، ولم يثنه عن جهاده وعد القوم ولا وعيدهم، فقالوا ننتقم لأنفسنا من الأب إذ فاتنا الانتقام من الولد.
والرجلان الجوهريان حسدهما هاروناشي جوهري عبد الحميد، وحساد التجارة شر من حساد الدولة؛ فوشى بهما إلى مولاه زاعما أنهما من أعوان رشاد أفندي ولي عهد الملك العثماني، فحلت بالرجلين نقمة الظالم الجبار وخلا الجو لوجه هاروناشي وفاز بربحي التجارة والوشاية. وقد أرسل غرغور أفندي ورفيقاه إلى ولاية قسطموني وبها مات غرغور في سجنه، وخلص الأب وابنه عند إعلان الدستور.
هذا بعض ما جرى في السجن، وما جرى في بيتي أجلب للعبرة وأدعى للعجب؛ فقد ملك الجواسيس الطريق وأقاموا يرقبون من يزور أهلي؛ فإن كان عثمانيا تلاحقوا به وأخذوا بطوقه، وإن كان أجنبيا حاربوه بوشاياتهم وهي لا تضره ولا ترهبه.
إلى الله المشتكى من أهوال تلك الأيام، عيون يواقظ تتحرى مواضع الشبهات، وأيد تحتفر القبر لمن عز ناصره وهان جانبه، وقلوب خلت من جوانبها مواضع الرحمة فقست فهي أشد قسوة من الحجارة. وإن بداري لنحيبا تئط له الأركان وتزلزل قواعد البنيان، وحزنا يتصلصل بين الترائب والنحور، ثم امرأتان - أم وزوجة - وطفلان لا يعلمان من الحياة شيئا، أشكلت عليهما فحوى الدموع فأحرقت قطراتها وجناتهما فهما يتململان، ما حلت الأيام منهما عقد اللسان فيكون منهما معوان على الشكاية، بل ألهما الحزن إلهاما. والبكاء في الإنسان سجية، وفي ارتجالات الأعين ما لا تقوم له بدائه القرائح. سر أيها القلم، هذا زمانك، قد خلا زمن العبرات.
استنجدت المرأتان كل من ظنتا به نجدة، وطرقتا كل باب حسبتا وراءه ملجأ، فأوصدت الأبواب وتضاءلت عزمات الكرام، ثم صاح بهما الشمم: قفا، فوقفتا، ذلك إنذار اليأس يستعيد الفتوة في النفوس.
ولم أنس مما امتحنت ربعي به حوادث الأيام شيئا مر بي أوثر ذكره في سطوري هذه؛ إن في ذكره لعظة خالدة وحكمة بالغة يأخذ منهما اللبيب على قدر لبه.
أصبحت في بعض أيامي بالسجن كما يصبح من قضى ليلته على شوك القتاد؛ أردت النهوض فخانتني قدماي، فاستجمعت قوتي فعل اليائس من حياته إذا هوى في جب ذرعه ألف ذراع، فوقفت أجيل طرفي يمنة ويسرة، وهما يتساقط نورهما من أطراف أهدابهما. هذا موقف الحيرة. لو تمثل لي الموت شخصا ونزا إلي بسنانه وافتر عن نواجذه وأحدق بباصرتيه لما وجد في مهزا ولا أنس مني ذعرا. فطال وقوفي زمنا لا أدري مقداره. وإني لكذلك وإذا السجان سمعت صرير مفتاحه على قفل الباب، وبدا لي وجهه الأربد في ابتسامه القبيح، فقلت: لا حيا الله هذه الوجه. فسلم فسلمت، ثم سألته: ما جاء بك الساعة؟ - خدمتك. - جزيت خيرا، لا أريد شيئا. - ألا تفطر؟ - كلا، ولكن ائتني بالقهوة. - والدتك جاءت وهي تريد أن تراك، فطلبت إلى المتصرف أن يأذن لها في زيارتك، فأذن لها أن تراك من باب السجن ولم يأذن لها في الدخول عندك. - اذهب فبلغها عني أني بخير، وأني أطلب منها دعاءها وأستمنحها رضاها ولا أريد أن أواجهها في هذه الدار المظلمة جوانبها. - لا سبيل إلى ما سألت، وما هي ببارحة إن لم ترك بعينها.
فلم يبق إلا الرضاء، فتبعت الرجل حتى إذا انتهينا إلى دهليز السجن استوقفني جانبا وفتح الباب لوالدتي، وأقام دون ممرها سلسلة الباب، فأشارت بالتحية وأشرت بالتحية، وأومأت إليها لتعود فعادت، ورجعت إلى غرفتي مسرعا أكفكف عبرات استنزلها الهول المتجدد، وقد علمت أن الوالدة إذا رأتني بذلك المكان غلب عليها الحزن وانثنت مثقلة بفادحات الهموم، ولكن قلت الحيلة في درء ما يتوقع، فأيقنت أن لا سبيل إلى الراحة في أيدي قوم تستطيب لحوم الناس أنيابهم وتستلذ الدماء أفواههم، وأقمت أنتظر ما سيكون.
من السجن إلى الباخرة
أصبح بسجن وأمسي بباخرة، سبحان مقلب الملوين في ثنيات الأبد، خطى معجلة إلى شقوة مؤجلة، يا بعد غاية المقادير!
زارني قوميسير المركز فقال: سلام. قلت: سلام. فافتر ثغره عن تبسامة كأنها تبسامة الجدث لميت جديد، ثم دنا حتى حال بيني وبين الوجود، فأنشأ فصول الخدع فقال: أما مللت مقامك في ضيافتك هذه؟ إنا مللناك وسئمنا طول لبثك، وسنشرب القهوة عندك الليلة، فانهض غير مخذول ولا مروع. - إلى أين تذهبون بي الساعة؟ - إلى ساحل النجاة. - الحمد لله على نعمته.
فمشى البشير أمامي ومشيت وراءه حتى أجزنا باب السجن، فرأيت في طرقات المتصرفية طوائف من رجال الشرطة يتغامزون ويتسارون. وما زلنا في صعود وانحدار إلى الباب الجنوبي، فإذا عربة يحيط بها جماعة من فرسان الجندرمة، وإذا في العربة رجلان أحدهما من رجال الملكية وثانيهما من ضباط الجندرمة، فتقدم القوميسير ففتح باب العربة وأدخلني فيها، ثم وقف أمامي وقال: ما أمامك إلا كل خير، لا تخف شيئا، وسألحق بك هنالك، ويكون لي معك حديث تستطيبه.
وما أتم الرجل كلامه إلا وانطلقت بنا العربة تحيط بها الفرسان؛ حتى لظننت أني قد صرت ناظر الداخلية أو ناظر المعارف، وما برحت بنا تهوي مخارم الطبخانة إلى أن وقفت عند شاطئ البحر، وما هو إلا مثل لمح بالبصر وإذا بالباب قد فتح وإذا بنا قد نزلنا، فأقبل نحوي الرجل الملكي يستلفتني إلى زورق كبير كان راسيا على مقربة من مكاننا، فأشار يدعوني إلى النزول فيه، فنزلت وأنا في كل خطوة أتنقل من يد إلى يد.
كرة طرحت بصوالجة
فتلقفها رجل رجل
فلما استقر بي مجلسي جلس الرجل الملكي إلى جانبي وجلس الضابط أمامي، وسار بنا الزورق في موج متراكب وريح طيبة، لا يسمع من الزورق إلا قعقعة أضلاعه وإيقاع مجاذيفه وضربات الأمواج في حيزومه وجوانبه، فكنا نجتاز البواخر وعليها الرايات العثمانية والأجنبية فلا نقف عند واحدة منها، فخيل إلي أن قد دنت الساعة وأزف فراق الدنيا، وما لبثت أن راجعت نفسي وقارها وغلبتها على وجلها، فتأملت وجهي الرجلين الملكي والضابط، وإذا هما يتغامزان، فقلت قد وضح الصبح لذي عينين: أنا لا أدع هذين الصاحبين يباعدان مجلسي قيد ذراع، ومتى آن لي الغوص في اليم جمعت بطوقيهما إلي فغصنا جميعا، وإنا لعلى مقربة من «سراي بروني»؛ وهو موضع يزعمون أنه اتخذ ليلقى منه الأبرياء في البحر، فارتفعت لنا باخرة لا كالبواخر ، كأنها الزورق في حالها، خافت صفيرها بارد زفيرها، علا الطحلب جوانبها فكساها مثل السابري المضاعف نسجه، تدلى من جانبيها سلمان يصعد عليهما المسافرون وينحدرون، فرسا بنا الزورق إلى جانب الباخرة، فتبينت اسمها منقوشا بالخط الكبير «بحر جديد».
فما راعني إلا أحد صاحبي وقد أخذ بيميني وجذبني إلى نحو السلم، وما هممت بصعوده إلا وتخاطفتني الأيدي وعلت في أذني أصوات من معي يقولون «بيورك، بيورك» تفضلوا تفضلوا، فما خلصت من أيديهم إلا بعد أن بلغت أعلى الباخرة.
فأدخلت المجلس وأخذ حراسي بأطرافي. وقد اشتهت نفسي التدخين، فمددت يدي إلى ملابسي لأستخرج منها سكايري، فقبض عليها أحد الجلوس قبضة كاد يقتلعها من أصلها. قلت: ما لك؟ - ماذا تريد لتصنع؟ - أريد أن أستخرج سيكارة أدخنها.
فلما رأى السيكارة في يميني سري عنه وهدأ باله. فظللت بين القوم ساكتا لا أحادثهم ولا أجاوبهم إذا حادثوني، ولم نلبث أن جاءنا قوم من الشرطة ومعهم فراشي الذي كنت أبيت عليه في السجن وما يتزود به المسافر من طعام وغيره، وكنت سألت الملكي الذي صحبني إلى الباخرة أن يخبر أهلي بمكاني عسى أن أتزود بنظرة إليهم وأوصيهم وصاتي، فوعدني وعدا ظهر لي المطل في أعقابه. وقد طاف أهل بيتي دور الظلم يستخبرون عني، فعادوا وهم لا يعلمون لي مستقرا وادرعوا الحزن الطويل واليأس المرير.
نظرة في حال فروق
يممت فروق مدعوا ونزحت عنها مجفوا، فلا الدعوة أبطرتني ولا الجفوة كفرتني. وما زلت من لدن وطئت مهادها وعللت أنهارها وشممت طيبها ورعيت كواكبها صادق الود، مخلصا في السر والجهر. وما فروق إلا وطن ميلادي، استهلت فيها حياتي، ونما في أرضها عودي، بذلت لها روحي ولا أمن بها، ومنحتها آمالي ولا أدل بها. وكانت شقوة فغلبت على أمري وفارقتها فراق الجبان روحه، ونزعت عنها نزوع الصب عن موطن صبابته.
رأيتها اختلفت فيها الأهواء وكثرت المطامع. خليفة الله فيها يقتل عباد الله ويستحل ما حرم الله من أموالهم وأعراضهم، ورجال الدولة وحماة مجدها عصبة من أهل الحرص يسلبونها قليل ما أبقت لها الأيام من طارف لا يجمل عده وتليد لا يستطاع حفظه. ويحمل العرش يومئذ رجال كادوا يشاركون الله في ملكه وينكرون عليه قدرته، فهالني ما رأيت، وددت أن لو قامت نوادبي ولم أر تلك الفادحات، فعاهدت الله ألا أسالم خائنا ولا أسكت على عداء. وما زلت أجالدهم حتى كاثروني، وما سلاحي إلا يراع تشذر فلا يفصح صوته، وخاطر نضبت ينابيعه فلا يجري معينه. وإن أمامي لرجالا أولي قوة وسلطان، لا تأخذهم صيحة ولا يرهبهم بطش. وقد خذلني من خذل من الأنصار، فبقيت في صغر قدري وضعف ركني أسير من لا يرحم وعاني من لا يفدي.
ثم المجاهدون الأحرار يسترجعون بالرغبة أو الرهبة، والجرائد تحيي الظالم في صبحه ومسائه تحيات طيبات، ومن رزقهم الله الكفاية من أهل الثراء وحماة الذهب يتسابقون إلى عاليات المراتب، يتفننون في سياسة الفوز، فقوم يحملون دنانيرهم وآخرون يتقربون بوشاياتهم، وفريق يحكم الحيلة حتى ليخدع عبد الحميد ويسرق منه حظوته ويختلس رضاه؛ فأوجست خيفة وملئت يأسا.
يموت خليل رفعت الصدر الأعظم، فيولى مكانه سعيد، ويسرع فريد إلى فروق مطالبا عبد الحميد بالصدارة، يقول: جعلتموني واليا على قونية وهي دون قدري فأطعت واخترت الصبر، ثم دعوتموني لأولى الصدارة فقلدتم أمرها غيري قبل أن أصل إليكم. فقد أصبحت منذ اليوم حديث الناس في أنديتهم وسمرهم، يسخرون مني ويستهينون بي، فأقيلوني من ذل لم أستوجبه بعصيان. فيأتيه البشير من عند السلطان يحمل وسام الافتخار المرصع، فيرجع فريد داعيا شاكرا.
ثم تحاصر عيون الظالمين وأرصادهم بيوت المخلصين مثل المشير فؤاد والفريق أحمد جلال الدين، ويتسع مجال الشر لفهيم ومحمد أبي لحية وأبي الهدى ومحافظ غلطة سراي وناظر الضبطية، فيا من رأى عاصمة ملك تقاسم هدمها الملك والرعية!
لهفي على فروق في تلك الأيام السود! عروس في نعش أو جنة يملكها الحريق. لو وفت الأيام بأماني الجبار لنال من فروق ما نال نيرون من روما. ولقد فعل. والغرائز أكثر تشابها من الوجوه، وحوادث هذه الحياة تستعاد مختلفات، والتأملات قاصرة، والعقول حيارى ، وصحف التاريخ أهملت الكثير وحدثت بالقليل.
وداع فروق
ودع «فروق» لقد أجد فراق
ماذا تطيق! هل الوداع يطاق
هي وقفة بين التعلل والأسى
يفنى الرجاء ويخلد الميثاق
أعط المنازل حقها يوم النوى
هذا الفؤاد وهذه الأحداق
واستبق شعرك للقاء إذا دنا
حسب النوى ما تنشد الآماق
قد كان شوق ثم نؤت بحمله
فلتنظرن ما تصنع الأشواق
يا عاشقا لم يدر ما جهد الهوى
أرأيت ما يتجرع العشاق
اكتب شجونك فالشعاع يراعة
والبحر حبر والسما أوراق
فعسى يسوق الدهر ما سطرته
لبنيه بعدك فالشجون تساق
السابقوك إلى المصارع أدركوا
غاياتهم ولك استجد سباق
فاغلب بعزمك أمر حزمك وانصلت
تلحق بهم عقبى المجد لحاق
رقأت دموع قد جرت لفراقهم
لم يبق دمع بعدهم مهراق
أما الجفون فما بها متسهد
أما القلوب فما بها خفاق
والروض موشي الطرائق زاهر
أبدا وسائغ مزنه رقراق
والطير في دوحاته متجاوب
والبان في أثلاته مطراق
وجد السلو الواجدون وهكذا
كأس الهموم تعاف حين تذاق
سيفيق من سكر الصبى نشوانه
فالسابقون قد انتشوا وأفاقوا
أستودع الله الرفاق جميعهم
ولسوف يتبع الرفيق رفاق
هذا كلام ودعت به «فروق». قلته حين اختفت عن عيني، وإنما يجيش الشعر في خاطر الشاعر بمثل تلك المواقف.
على ظهر قصر سابح، في لجج البسفور، بين شطي أوروبا وآسيا، من الوطن المحبب إلى غاية مجهولة، فراق أهل وولد، من غير توديع ولا تسليم، كل ذلك تحت ليل كأنه ظل الشقاء وسماء كخاطر الواله، في حيث تتراءى تفاريق نور على البيوت كبسمات أرواح المظلومين من وراء حجب الوجود، لقد كنت شاعرا في ظلمك يا عبد الحميد.
ودعني الرجل الملكي وبقي معي رفيقه الضابط، ورجل من الجواسيس، فلما استقر بنا المجلس التفت الضابط نحوي، فقال: لا تهمن نفسك، لن ترى في سفرك هذا إلا خيرا.
فدخل الجاسوس في الحديث وجعل ينظر إلى وجهي نظر الشامت، ثم رأى ألا يكتمني ذلك، فقال: وما يهم البك من سفره هذا؟ لقد لقي جزاءه، ولو تدبر الأمر لكفى نفسه أحزانها اليوم . كلنا عرفنا أن سيكون مصيره إلى مثل ما هو فيه الآن، قضاء الله وقدره، ولا حيلة للمرء في قضاء الله وقدره. ولقد كان البك كثير الإعجاب بنفسه، يحتقر الدنيا وما عليها؛ فكم مررت به في اختياله وكبريائه فازدراني وأعرض عني بوجهه، ما حسبته نسي ذلك. قلت: ومن تكون، ويحك؟ هذا وجه أنكره ولا أذكر أني بليت بشؤمه إلا في يومي هذا. - عجبا، تبدي التغابي عني وأنت أعرف بي من ذات نفسك!
فأدركني مثل الجنون من عناد الرجل وكدت أهوي على وجهه بلطمة تهشم أنفه وتهثم ثناياه. غير أنني استحيت من نفسي ألا أكون مالكا لقيادها في مثل تلك الساعة، فزجرتها فازدجرت، ثم قلت للجاسوس: لو كنت عرفتك لنالك مني ما نال إخوانك. - كأني بك يومئذ حاملا علي بعصاك تريد أن تضربني. أما لتلقيتك كما تلقيت غيرك، فإن أقدر عليك أثأر لنفسي ولإخواني وإن تقدر علي فنحن قوم لا يضرنا الضرب ولا يؤذينا الهوان. فبقيت باهتا مما أسمع من كلام الرجل، فتركني في حيرتي وأقبل على الضابط يحادثه، فقال: كان البك منذ عامين يقطن دارا بجوار سفارة ألمانيا، وكان له ود مع الأمير محمد باشا نجل الأمير عبد القادر باشا الجزائري، وبيتاهما يومئذ متجاوران، فجاءني الأمر بمراقبتهما، فكنت أقضي أكثر أوقاتي بين المقابر الكائنة أمام السفارة، ولكن على غير طائل، فلما أعيتني الحيل وخفت ألا أعرف من أمريهما شيئا تلطفت في المكر حتى تمكنت من الاستخدام في بيت الأمير، فاستبشرت خيرا، وما راعني إلا هذا البك داخلا من باب الدار في أصيل يوم يتبعه رجل من الأجانب، فلما رآني البك أنكرني، عرفت ذلك في نظره الشذر، ولكنني لم أبد شيئا سوى ظاهر الحرمة والتوقير، فسرت بهما حتى أدخلتهما على الأمير وخرجت فوقفت وراء الباب أسترق السمع، فكان هذا البك يخاطب صاحبه الأجنبي بالفرنساوية ويترجم للأمير بالعربية؛ فقد غاظني والله ذلك وكادت روحي تخرج من شدة الغيظ. وإني لفي غيظي وإذا ثلاثتهم يضحكون ضحكا عاليا، فخيل إلي أنهم يضحكون مني، فخليت عنهم ونزلت كاسف البال، والله يعلم ما كنت أقول عند نزولي.
وقد أراد الرجل أن يسترسل في حديثه لولا أن قاطعته، فأقبلت على الضابط وأنا أرتعد غضبا، فقلت: أهكذا دأبكم؟ تبعثون بمثل هذا الرجل إلى الناس ليبالغوا في تعذيبهم وهم يحتضرون، كفى كفى، لقد أحسن القيام بما عهد به إليه. أما أنا فكما ترى، أتطلب الصبر فلا أجده، لا تحرجوني فما بالقلب جهد فيحتمل.
فأيقن الضابط أن الإناء قد امتلأ وعرف أن لنفوس المكربين ثورات تعيي على مخمديها، فعدل بالرجل جانبا وسمعته يقول له: إذا لم تخرج الساعة من هنا خرجت أنا وتكون أنت مسئولا عما يقع من الأمر. فذهب عنا ذلك الجاسوس وكانت ساعة سفر الباخرة قد دنت، فأسرع نحوي الموكلون بإخراجي من الوطن، وأخذوا يودعونني وداع القالي وأوصوا بي الضابط ونزلوا، ثم صفرت الباخرة صفيرها وانبعث من جوفها زفيرها، ثم تمايلت ذات اليمين وذات الشمال، ثم دارت إلى ناحية البحر الأسود فدارت دواليبها وقعقعت أضلاعها وتوالت هزاتها، فسألني صاحبي الضابط أن أصعد معه إلى سطح الباخرة ووافق ذلك هوى في النفس فصعدت، وإذا نحن نسير بين منظرين ما تفتحت الأعين على أحسن منهما؛ شطي آسيا وأوروبا، يتناغيان بالمصابيح، عاشقان ضنت عليهما الأقدار بالتلاقي، مررنا بهما أم مرا بنا؟ لا أعلم. صحائف أجاد الحسن فيها منمقه، نشرت فانطوت، زلت عنها الأبصار وضاقت عنها الفهوم، فرائيها متخيل وعارفها متوهم، ما شك ناظر إلى السماء وإليها أن تلك المصابيح كواكب سقطت عليها، عهدي بها في حالتيها، بينا هي عرين إذا بها كناس، يخالط فيها كل زئير ليث عندلة عندليب، تتجاور بها مسارح أرآم ومصارع كرام، تسقى من ماء معين ومن دم مهراق، تطالعها وجوه ضاحكة وأخرى مجهشة، تقسمتها مواسم الصبا؛ فهي تارة مشتى وآونة مصيف وحينا مربع، جنة يحرسها حارس جهنم، فتنتني يوم لقائها وتوشك أن تفضحني يوم فراقها. فروق يا ظلوم، خذي روحي فما هبطت علي إلا فيك، واسترجعي من أنحاء الفضاء متفرقات أنفاسي، أنت أولى بحسراتي منه، استبقي لي خاطرا أحييك به وشعرا أنوح به عند فراقك. يا نعيمي الماضي وشقائي الحاضر، ألا يضطرب ماء هذا الخليج مجاراة لجوانحي. وددت لو أن ارتطم عبابه وترامت أمواجه وأغرقتنا قبل أن نجتاز ربوعك. كان بك مهدي وأريد أن يكون بك لحدي. هنيئا يومئذ لحوتك ونونك ما أبقت الأيام من لحم على وضم، ولتتصرف رياحك بأخريات أنفاسي ولترن في أرجائك نوحاتي. الوداع الوداع يا فروق، وسلام الله عليك وعلى بنيك كلهم. هذا طريد جديد، مظلوم يلحق بمظلومين. يخرجونني منك ليلا لأراك في ثوب حدادك. أمن أجلي كل هذا؟ كلا، بل حدادك على أختك الغزالة. أنا أضيع فيك من دمعة على خد مهجور. أنا أهون على الدهر من ذرة من ذراتك ضلت بين ثنيات الأثير ...
اجتازت بنا الباخرة مرسى «بشكطاش»، فاطلع علينا من ورائها قصر «يلديز» على هضبته. وبينا نحن ننظر إليه ونستعيذ بالله منه، إذا مدفع قد دوى ثم تلاه غيره، فعددنا المدافع فكانت سبعة. وهذه عادة فروق إذا حدث فيها حريق، فجعلنا نطلب بأبصارنا مكان النار، ثم لم نلبث أن لاحت قريبة من «يلديز»، وكنت أعلم أن لن تصل إليها فحولت عنها بصري وجعلت أمتعه بما يتجدد أمامه من محاسن فروق. ظللنا على تلك الحال حتى دانينا باب البحر الأسود، فوقفت عنده الباخرة وألقت مراسيها قبيل الحصون. وكنا غلب علينا الإعياء وتواكلت أقدامنا من طول الوقوف، فأشار علي صاحبي بالنزول إلى موضع نومنا فنزلنا جميعا، وحين أخذنا مجلسنا للراحة أخبرني عن اسمه فإذا هو موسى كاظم بك، وأعلمني بوظيفته فإذا هي وظيفة ياور لناظر الضابطة ورتبته ملازم أول. وقد وجدت كلامه لا يشبه كلام رفاقه الذين تقدموا، فاستأنست به، وعرف مني ذلك فقال: سترى في الولايات حياة جديدة غير التي رأيتها في الآستانة، ويا ليتني كنت مكانك الآن. أقول لك ذلك لأني قضيت شطرا من عمري متنقلا في مدن الأناضولي، وما مرت علي ساعة في تلك المواضع وشكوت منها أمرا. - كذا ينبغي أن تكون. كل موضع يبعد عن «يلديز» يقرب من النعيم . - صدقت . وسترى مني خادما مطيعا وخلا وفيا. ولا أسألك من الجزاء إلا أن تكون جلدا وأن تجعل ما أنت فيه اليوم من محنة الدهر مغنما من التجاريب لا مغرما باليأس. - سترى مني حمالا لأثقال النوائب، صبورا على فادحات الكرب. غير أني سائلك عن أشياء أرجو أن تصدقني في الإجابة عنها. - سل ما بدا لك. - إلى أين يكون مصيري؟ - إلى صامسون، وإخال أنك ستوظف وظيفة فيها. - وما تكون وظيفتي؟ - لا أدري. - ألا أسجن فيها أياما؟ - لن تسجن فيها ولا ساعة واحدة. - ويحك، ما أدلك على طرق المكر، وما أغباني ساعة أملت فيك الصدق! قم عني إلى لعنة الله، لن أكلمك مذ الليلة. - سيدي، أنت رجل كثير الوسواس، ولولا غلبة الجزع على ذات نفسك ما اتهمتني من غير تجربة. شهد الله أني ما كذبتك في شيء مما أخبرتك به. وسواء علي صدقت أم لم تصدق. لا أحاول إقناعك. ثم اعلم أنني صحبت قبلك كثيرا من الرجال إلى الأقطار التي نفوا إليها، فما ذمني منهم أحد. وهذا إسماعيل بك صفا الشاعر التركي الشهير؛ صحبته إلى سيواس. وغيره كثير لو شئت أن آتي لك على أسمائهم لقضيت الليل في عدها. - إذن، أنا لا أسجن؟ - نعم، وبرئت من عثمانيتي إن كنت كاذبا. - لقد قامت حجتك. ولكن متى نفي إسماعيل صفا؟ - منذ عامين. أتعرفه؟ - نعم أعرفه بآثاره. وكنت مولعا بمجلته التي سماها «معارف»، ثم عرفني به أحد الفضلاء في إحدى ليالي السمر، وكان حديثنا غير طويل.
وقد استطال حديثي مع كاظم بك إلى ما بعد نصف الليل، فعلمت منه أنه ابن أخي الحاج حسن حلمي باشا والي سيواس إذ ذاك، وأنه نفي وسجن وذاق أمر طعم النوائب، وأنه لولا استشفاع عمه لقامت عليه نوادبه. فلما أخذنا حظنا من الحديث مال كل إلى مضجعه، فما انتبهنا إلا على هزج الباخرة وضرب الأمواج، فلم نر إلا الأسود الخضم في أزباده البيض وتحت سمائه المحتجبة وسحبها الداجية. شططنا عن المعاهد والرسوم ويممنا قصدا لا ندري متى نحن مدركوه، فقلت لكاظم بك: ترى، أيعلم أهل بيتي شيئا من خبري؟ - ذلك علمه عند الله، والقوم لا يخبرون الناس خبرا. - وما الحيلة في إخبار أهلي بأمري ليهدأ روعهم ويخف حزنهم؟ - أرى أن تصبر حتى ننزل بصامسون. أما الآن ونحن في عرض البحر فلا نستطيع شيئا.
هذا جواب حسن عنده سكوتي، وفي النفس من برحائها ما لا ينهض به عزم، فبقينا في الباخرة خمسة أيام، وما انتهينا إلى صامسون إلا أصيل اليوم السادس. وما مر بنا في سفرنا هذا ما يصلح للذكر سوى أن فرغ الفحم منا حين بلغنا «أركلي»، وأن الربان عانى الشدائد حتى حصل من «مورده» ما يحتاجه. ولما بلغنا حصن «سينوب» أقبل علينا من الشط زورق يقل جماعة من الشرطة يتوسطهم رجل نحيف الجسم قصير القامة أصفر اللون ذو لحية سوداء، تلوح عليه سيماء أهل الفجور، فسألت كاظم بك: ممن الرجل؟ فأخبرني أنه مدير التحريرات في متصرفية «صامسون»، وأن أباه أنيس باشا والي قسطموني عدو الأحرار الفاتك بمن نفي منهم إلى ولايته. وأنيس باشا كان أشد ظلما من عبد الحميد؛ وهو الذي غذا الأسواط من لحوم المظلومين الذي وقعوا تحت حكمه، حتى لقد استعظم ظلمه عبد الحميد وبعث إليه يأمره بالتخفيف فلم يمتثل أمره. كرهت لقاء ذلك القادم الثقيل فتنكبت طريقه، ولكنه سأل عني فقيل له إني منفي، فدنا مني وحياني، فحييته تحية كلها تكلف، وكان صاحبي كاظم بك عرف بعض طباعي فتداركنا بمحضره، ثم أشار إلى الرجل وخاطبني معرفا: البك نجل صاحب السعادة أنيس باشا والي قسطموني؛ وهو مدير تحريرات صامسون. - أهلا به. - لما سمع باسمك أسف لما أصابك. - شكرا له.
فابتدرني القادم بكلامه، فقال: إنما تعرف الرجال عند الشدائد، فلا تحزن لما أصابك، إن عفو سلطاننا مؤمل. - ما أنا بحزين. - رأيت بقسطموني كثيرا من المنفيين. غير أني لم أحفل بأحد منهم. ما فيهم من فتى كريم. ولقد أدبهم والدي فأحسن تأديبهم، وإنهم اليوم لأذل من العبيد.
فما رددت على الرجل بحرف، بل رميته بنظرة أدرك منها مرادي، فأخذ كاظم بك بذراعه وتنحى به جانبا. وقد رأيته يؤنبه على كلامه ويحذره مني. غير أنه لم يلبث أن عاودني وأخذ يكلمني، فأعرضت عنه بوجهي وتركته يهذي وحده، فذهب إلى الربان يحدثه بما قابلته به من الإعراض، فقال له الربان: ما علمنا به إلا حسن الخلق، ولكنه مكروب، والمكروب تضيق نفسه عن أشياء ربما اتسعت لها في أيام دعتها؛ فلا تؤاخذه بما رأيت منه، وأنا سائله الليلة عما أنكره منك.
وقد وفى الربان بوعده، فسألني عما انصرف بي عن مخاطبة ابن أنيس باشا. قلت: هو رجل اختلفت بيني وبينه الأهواء، ثقل على فؤادي أول ما سمعت من كلامه. فرأى الربان ألا يزيدني سؤالا، وكان ذلك آخر غرائب السفرة البحرية.
صامسون
لما نزلت مع رفيقي كاظم بك إلى البر استقبلنا رجال من الشرطة وغيرهم، وكانوا على انتظارنا، فداروا حولي وأبعدوا عني رفيقي واستبقوني وحدي في غرفة من الخشب، فمكثت فيها مدة، ثم عاد كاظم ومعه أربعة رجال من الشرطة، فأركبنا زورقا سار بنا حتى قارب دار المتصرفية؛ وإنما أركبوني الزورق ولم يسيروا بي في البر مجانبة لأعين الناس. فلما دخلنا المتصرفية صعدنا إلى غرفة استرحنا فيها قليلا، وجاء بعد ذلك رجل صحبني إلى غرفة المتصرف وكان اسمه حمدي بك، فإذا رجل حسن الوجه طلقه قام يتلقاني تلقي الصاحب لصاحبه، ثم أجلسني إلى جانبه وأظهر لي من الأنس والإكرام ما لم يخطر على بالي، وسألني عن سبب نفيي، فأخبرته بما انتهى إليه علمي، فقال: هذه سبيل سلكها كثيرون قبلك وليسلكنها كثيرون بعدك، فلا تخف ولا تحزن، أنت ذاهب إلى مدينة سيواس، وفيها يكون مقامك ما شاء ربك. إن طريقا تؤدي بك إلى النفي لتؤدي بك إلى الخلاص منه. وأنت في شبيبتك، وميدان الأمل أوسع للشبان منه للشيوخ، فكن جلدا واجعل أملك في جانب الله ثابتا. ولو كان في طاقتي خلاصك مما أنت فيه لأغنيتك عن الصبر. غير أني أستطيع أن أستبقيك بصامسون ثلاثة أيام إلى أن يشتد عزمك وأدعك حرا تسير فيها كما تريد على أن يصحبك أحد رجال الشرطة حيثما توجهت.
فشكرته بما هو أهله وقلت له: إني أحب التعجيل بالسفر. فدعا بكاظم بك وكبير الشرطة وأمرهما أن يفرجاني على البلدة، وأوصى بي كاظم بك خيرا، فخرجت من عنده متحدثا بمكارم أخلاقه.
فذهبنا إلى أحد الخانات وطلبنا إلى صاحبه أن يعد لنا غرفة نبيت فيها، وحين خلوت إلى كاظم قلت له: أرأيت كيف ظهر كذبك؟ - أي كذب ظهر لك مني؟ - ألم تقل لي ونحن بالباخرة إني أنفى إلى صامسون؟ وقد أخبرني المتصرف أني أنفى إلى سيواس. ما حملك - بالله - على أن كذبتني؟ وهل صامسون أحب إلي من سيواس؟ كلا البلدين أنا فيه غريب. - لو عرفت منك ذلك لأخبرتك اليقين. غير أني خشيت عليك الكمد، فاخترت الكذب ولا فائدة لي فيه. - دع ذا. إني أريد أن أخبر أهلي بما أنا صائر إليه. - لا سبيل إلى ذلك. أمرت ألا أدعك تخط حرفا على قرطاس، وأنت لا تحب أن يصيبني أذى بورقة لا تعلم أتصل إلى أهلك أم لا تصل. - صبر جميل. إن لي في إسماعيل صفا لأسوة، وإن لي في قربه لسلوة.
ثم إننا جلنا في البلدة ليلا، وجيء برجلين من الجندرمة ناما معنا في الغرفة، فما انزاح نقاب الليل عن وجه النهار إلا وقد أعدت لنا عربة كعربة النعش يسمونها «يايلي»، جعلوا لنا بها ما نحتاج من فرش وغطاء، فخرجت من صامسون تؤم سيواس.
كتاب إلى الصديق الأوفى رفيق التلمذة
سيدي
أجلك أن يصيبك هذا القلم بسنانه، وأجل هذا القلم أن يكمن في شقه الحقد أو أن يثأر لي منك. لا آخذ الله من أجلي أحدا، وليهنئ مبغضي ما أصابني من ضر. فهب لي من لدنك إنصافا يكون لك معوانا على قراءة كتابي هذا. لن أقاضيك إلى الناس بل أقاضيك إلى ذات نفسك. أما لتقضين لي عليك، حجتي عليك قائمة وما لك علي من حجة.
أنفذت فلانا يأخذ كتابا أنا بعثت به إلى فلان، ثم جعلت ذلك الكتاب سببا لنفيي سبعة أعوام، حتى شلت أناملي وبح صوتي وجفت ينابيع خاطري. فهلا ذكرت أن للمظلوم ربا يسمع أنينه من أعماق السجون ويرى دموعه في ظلمات الليالي.
هذا يراع ملكته ولا فضل علي فيه لغير الله الذي براه لأناملي وبراني لصريره. سيرته في خدمة أمة باد أكثرها بظلم الظالم، وباكيته على أحرار أسكنوا الأجداث ولم يمتعوا بالشباب. أكان علي في ذلك بأس أم أنا صنعت ما ينبغي على الحر أن يصنعه.
ليتك كنت طيب الشمائل فأحبك كما أريد أن أحبك، وليت إساءتك كانت وقفا علي ولم تتعدني إلى إخواني، إذن لاتخذت منك تلك الإساءة إحسانا ولأقمت على ودك ما أقامت في جسمي الحياة. لست أشنؤك؛ فإني لا أعادي إنسانا، ولكن دلني على قلب أحمله محبتك وأكرهه على قبولك. عفا الله عنك وتجاوز لك عن حقي. ما أريد تأنيبا ولا أطلب لك شيئا تبغضه، فلتجد عيناك بدموع تغسل عن قلبك حب الانتقام، وليهدك الله مذ اليوم حتى تداوي بآتيك ما جرحت بماضيك.
كاتب المعلوم والمجهول
الحمد لله كثيرا، نفست عن فؤادي هما واغلا، إذا صرت أقرن إلى هذه النظائر العالية فقد عفوت عفو قادر، والقدرة بيد الله، لا من ولا سرف. غير أني ما كنت أحسبني أحيا إلى مثل هذا اليوم.
إلى سيواس
أيها الركب سر فإن أمامي
لبعادا مرا وعيشا أمرا
غربة هذه وقد كنت أدري
أن سأرمى بها لدن كنت حرا
فالفحي يا رواسي الأرض نارا
وأفيضي فدافد الأرض بحرا
وانفحي يا ريح الشمال سموما
واقذفي يا سوائر الأفق صخرا
أنا أرضى بذا لحب بلادي
وأرى في سبيلها الموت فخرا
ركب حثحث نجبه البين، يهوي المخارم هوي الأجدل، ويترقى الشم ترقي العقاب، تستوقفه الحوائل وتستطرده المسالك، ما يخلص من وحل إلا يغوص في ثلج، لأخشابه صريف ولعجلاته دبيب. كذا مر يومنا حتى حللنا أول منزل في مكان يقال له «جقالي»، فيممنا أحد خاناته وأوينا إلى غرفة من غرفه، فنزل كاظم بك ليستحضر عشاءنا، وكان الرجلان من الجندرمة صحبانا، فرأيت على حيطان الغرفة من الكتابة ما يملأ الكتب، فقمت لأقرأها، وإذا هي مكتوبة بالتركية والإفرنسية والرومية وغيرها من اللغات، كل من نزل ذلك الخان كتب على حيطانه شيئا، فكلام يستعذب وكلام يمجه الذوق وكلام يضحك وكلام يبكي، ثم وقع نظري على بيتين للشاعر الجليل إسماعيل صفا، كتبا بيده بقلم الرصاص وتحتهما توقيعه، فخفق فؤادي طربا ووقفت أنشدهما. وهذا معناهما: مثل هذه الدار كمثل الدار الدنيا، ينزل إليها الناس ليرحلوا عنها، ما تأخذ منهم سوى زفراتهم، ولا يأخذون منها سوى حسراتهم. غير أن الراحل عن هذه قد يعاودها، أما الراحل عن تلك فلن يعاودها أبدا.
ثم رأيت تحت ذينك البيتين كلاما منثورا. وهذا معناه: ما أعدى حوادث الأيام! كنا نرجي أن يعيش لنا إسماعيل صفا ليكون خير خلف لنامق كمال، ولكن قضى الدهر أن ينفى إلى سيواس مظلوما، وأن يوسد التراب بين تلك الجبال. ولم أستطع أن أقرأ توقيع الكاتب لأنه بالغ في إبهامه.
هنا أدركني من الحزن ما لا أقدر على وصفه، أأمني النفس بلقاء فاضل تنحط دونه الأشباه والنظائر، وحر كان في حريته قرة عين الوطن، ثم يقدر لي أن أسمع أنينه من الصخر الأصم، ثم ينعاه إلي من لم يعلم من أمري شيئا. ألا إنني لعاثر الجد، كاذب الأمل. ألا إن ريب المنون قد رمى فأصاب كبدا ما إلى الحرية شيء أعز منها. ليت ذلك المكان أطت أركانه وتصدعت جوانبه وتساقطت علي أحجاره ولم أتبين على صفحاته هذا الخبر. جادك الغيث وأنبت ثراك أطيب الزهر يا مثوى إسماعيل صفا، وليدم ذكرك على أفواه العثمانيين طيبا تتعطر به الأفواه وتطرب به الأسماع. إن لك على الأدب وأهله لفضلا، وإن من حقك على أبناء وطنك أن يذكروا أياديك على وطنهم. رحمة الله عليك، رحمة الله عليك.
تجلدت، وكيف يتجلد من شجاه مثل شجاي! غربة وفراق أهل وأولاد، وروعة تستطير القلوب من الصدور! وبينا أنا في تلك الحال إذا كاظم بك داخلا من الباب وخلفه الجنديان، فلما رآني مستعبرا وقف أمامي باهتا لا يدري ما يقول ، فتداركته بالجواب قبل سؤاله وأعلمته ما أحدث في قلبي موت إسماعيل صفا، فقال: إن موت إسماعيل صفا ليس بالأمر القريب. بلى إنه مات منذ عامين. - ما علمت ذلك إلا الساعة، ولكن ناشدتك الله ما يدعوك إلى كتمان الصواب عن الناس. ألم يجر بيننا ذكر الرجل ونحن بالباخرة؟ فما كان ضرك لو أخبرتني بموته إذ ذاك. - ما كان يجديك علمك بموته. أكنت قادرا على أن تبعثه حيا؟! دع ذكر ما يشجيك واستبق عزمك. إن أمامنا لطريقا صعبا وسفرا بعيدا.
قلت في نفسي: ما أخبرني هذا الرجل خبرا إلا ظهر لي كذبه، وأخشى أن يكون كذلك ما أخبرني به عن مقامي بسيواس. هو يزعم أن لن أسجن. فإذا أنا سجنت فماذا أقدر أن أخجله به؟ وكان الجنديان فرغا من إعداد طعامنا، فجلسنا نتعشى وأنا صامت، وكأن كاظما فطن لما أنا فيه فاختار أن يدعني وشأني، فأعجبتني منه فطنته. وما فرغنا من الطعام والتدخين إلا وقد أثقل النوم هاماتنا فنمنا، فما انتبهنا إلا على أصوات المسافرين قبيل الفجر، فأخذنا أهبتنا وجاءنا جنديان غير اللذين صحبانا إلى جقالي، أخذا منهما النوبة، وأخذنا كلنا في الطريق. وهذه أسماء المنازل التي نزلناها من لدن أن خرجنا من جقالي إلى أن بلغنا سيواس، أذكرها مع طرف من تاريخ بعضها. وكنا نرحل عن المنزل الذي نبيت فيه قبيل الفجر ونبلغ المنزل الذي يليه أصيلا أو قبيل المغرب. «حوضة»: بلدة صغيرة أنيق منظرها متشاكلة بناياتها، بها حمام يستشفى بمائه الحار، بناه ممدوح باشا الذي كان ناظر الداخلية في أواخر أيام الاستبداد، فأجاد بناءه وأحكم نظامه. ولقد دخلته واغتسلت بمائه. غير أني لم أقدر على نزول حياضه لما في مياهها من الحرارة الشديدة؛ فإنها تبلغ الدرجة الخمسين بميزان سنتيغراد. «أماسية»: هي مدينة في الشمال الغربي من سيواس، تبعد عنها خمسة وسبعين ومائة كيلومتر، وفي الجنوب الغربي من صامسون، تبعد عنها أربعين ومائة كيلومتر. مكانها هو المرتفع الكائن في (43° 39
5 ) من العرض الشمالي وفي (33° 24
15 ) من العرض الجنوبي، على يمين النهير المسمى «طوزانلي » بحيث يتلاقى به نهير «ترس آقان صو». عدد أهلها خمسة وعشرون ألفا، سبعمائة منهم من الأرمن ونحو المائة من الروم، وما بقي فمن الترك.
هذه مدينة آماسيا الشهيرة بفاكهتها وجودة أرضها وكثرة أطلالها ورسومها وآثارها ومعاهدها. وهي من المدن القديمة، وفيها ولد «سترابون
Strabon »؛ وهو أحد مشاهير الجغرافيين من قدماء اليونان، وولد بها السلطان سليم الثاني المعروف بياوز. وقد فتحها السلطان بايزيد الأول وأنشأ بها جامعا ومدرسة وجسرين على النهر، وكل ذلك باق على جدته وروائه إلى يومنا هذا، وتعلم في تلك المدرسة السلطان محمد جلبي والسلطان بايزيد الثاني.
وفي أماسيا مقابر بعض الأمراء من بيت الملك العثماني، ودفن بها من الملوك السلاجقة «قيلج أرسلان الأول»، ومن وزرائهم «معين الدين بروانه»، والشيخ حمزة والد «آق شمس الدين»، وغير هؤلاء.
ولما كانت آماسيا لا تبعد عن حوضة إلا مسيرة ست ساعات بلغناها غير متأخرين، فكان لنا في الوقت متسع لمشاهدتها والإلمام ببعض محاسنها. على أنني لم أجد فيها من المناظر ما يبعث على الطرب أو يهيج ساكنا في الفؤاد؛ ذلك لأننا جئنا في أواخر كانون الثاني وأشجارها مجردة من ورقها وأرضها معراة من نبتها، والوحل متراكم في طرقاتها، وكان متصرفها إذ ذاك العالم الكبير المرحوم كمال بك؛ وهو غير نامق كمال بك الشهير، وكان منفيا إليها، فأحببنا زيارته ثم علمنا أنه مريض، فزاره كاظم بك وحده.
ومما أذهل عقلي أني رأيت نساء الأرمن والروم في آماسيا متحجبات، يتهادين ساحبات مآزرهن كما تفعل نساء المسلمين، فأيقنت أن المرأة العثمانية في تلك البلاد محرومة من نعم الدنيا، فتجددت لوعاتي وتضاعفت أحزاني، وقلت ما قاله أبو الطيب المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ثم عاودنا الخان الذي نزلناه فإذا جماعة من كبار المدينة جاءوا لزيارة كاظم بك؛ لأنه ابن أخي الحاج حسن باشا والي سيواس، فجعلوا يتنافسون في إكرامه والتقرب إليه. وفيمن جاءنا يومئذ أبناء طوبجي زاده، وهم فروع بيت من بيوتات الحسب الزاكي في تلك البلاد. وقد أعدوا لنا مأدبة بلغت الغاية في بهجتها، وأهدونا من تفاح آماسيا المشهور شيئا كثيرا وحملونا جانبا منه هدية للوالي، فسألني كاظم بك أن أنظم بيتا من الشعر التركي أكتبه على حائط الغرفة التي بتنا بها، فأجبته إلى ما أراد وقرأه أناس كثيرون ممن قدموا بعدي سيواس وأخبروني به. وكان يخيل إلي أن سأرحل إلى بلاد مثل آماسيا، هيهات، أخطأت الظن وخاب المأمل، فما سارت بنا العربة إلا بين صخور وعلى حجارة لا نستجلي عندها خضرة ولا نرد ماء إلا كما قال الشاعر:
صرى آجن يزوي له المرء وجهه
إذا ذاقه الظمآن في شهر ناجر «جنكل»: هو منزلنا الرابع بعد خروجنا من صامسون، موضع تبصرت فيه فلم أر بيتا ولا سكنا سوى الخان الذي نزلناه؛ وهو على سفح أكمة هناك، بئست دار المسافر تلك، قفر جرداء موحشة، لا يلم بساحتها طير، ولا يبقل في مهادها نبت، ولا يظلها سحاب، ولا تهب عليها صبا، ولا يسجع بها طير، بلغناها وقد بلغت الشمس مغربها، فلما فرغنا من الاستعداد لحاجات العشاء خرجت إلى مكان بالطبقة العليا من الخان أريد أن أتمشى. وقد خلت ذلك المكان مستشرفا، فإذا هو لا يشبه المستشرف، فقلت: تظل أنت يا عبد الحميد في قصر يلديز بين بنات الجركس، تقتل الأمة وتضحك من عقول الناس، وترمي بي في هذه الفجاج لأقيس لك جبال الأناضولي ووهادها! ألم تجد أحدا أعلم مني بالمساحة؟! إنك لقليل الخبرة بالهندسة!
ثم دعاني كاظم بك إلى المائدة ونفسي لا تشتهي الطعام، فجعلت آكل لا رغبة في الأكل بل إبقاء على قوة أستعين بها على مواصلة الأسفار. فلما رفع من بين أيدينا الطعام وملنا إلى تلك المضاجع الخشنة طار نومي واعتادني أرق شديد، وما راعني إلا جنود من البق تدب إلي من كل ناحية، بق غذي أنواع الدماء حتى اتسع وانبسط وعادت كل واحدة منه كطابع البريد، تتبختر على الوسادة تبختر الفقيه في الجنازة، فقمت إلى خوان في وسط الغرفة عليه مصباح ضئيل النور، وإذا صاحبي كاظم قائم إلى جانب النور، بإحدى يديه قميصه وبيده الأخرى عود يحذف به البق. قلت: ما لك يا رفيق الخير؟ قال: دعني، ألا ترى ما أنا فيه؟ قلت: لا عليك بأس، أفسح لي مكانا إلى جانبك. قد صار القميص قميصين. ولئن دام لنا ما نرى خرجنا هائمين في جنح هذا الليل، ثم سكت كلانا واشتغل عن صاحبه بالتقاط الحشرات، ولبئس العقود عقود نظمناها تلك الليلة حتى آذنت برحيل، فما خفقت راية الشفق على قمة الجبل إلا تبادرنا إلى السائق نوقظه بالأيدي والأرجل، ثم نبهنا الجنديين الحارسين وخرجنا من الخان بعد أن دفعنا لصاحبه حقه، وما أدركتنا العربة إلا وقد قطعنا شوطا بعيدا وغصنا في الوحل والثلج إلى الركب، وحين اعتدلت الشمس في عليائها تهاوت تلاع جنكل برءوسها وحيل بينها وبين الشهود. وطاب بعد ذلك السفر فانطلقت بنا العربة تشتد في سيرها يومنا كله ميممة «توقاد» فوافيناها في عتمة المساء. «توقاد»: مدينة كائنة على مسيرة تسعين كيلومترا من شمال مدينة سيواس، وعلى الشاطئ الأيسر من نهر «توزانلي»، يبلغ عدد سكانها أربعين ألف نسمة، خمسة آلاف منهم من الأرمن وغيرهم من إخواننا المسيحيين. هذه المدينة جيدة التربة، طيبة الهواء، عذب ماؤها، جميم خصبها، تلتف حولها الحدائق المونقة والكروم الوافية، وهي معروفة بكثرة فاكهتها وبقلها، منظفة الأسواق والشوارع. غير أنها ليس بها من آثار السلف سوى حصن خرب فيه السجن المشهور في كتب التاريخ واسمه «جارطاق بدوي». ويذهب أكثر المؤرخين إلى أن توقاد من المدن القديمة، وأنها هي المدينة المسماة عند القدماء «بريسة» أو «قومانة بونتيقة». وقد ذكر المستعصمي توقاد في معجمه. ولأهل هذه المدينة مهارة في صنع الأواني النحاسية ونسج الحرير وتطريزه، وبضاعتهم معروفة بالجودة.
فلما نزلنا الخان وأخذنا بعض الحظ من الراحة خرجت مع كاظم بك نريد زيارة المتصرف، وكان المتصرف رجلا من خاصة الجراكسة اسمه بكير باشا. فإذا دار آهلة كل أهلها جراكسة، وكلهم مقيمون على بدويتهم، فتلقونا على الرحب والسعة، وأدخلونا إلى مجلس الباشا بلا استئذان، وكان بكير باشا يعرف كاظما ولا يعرفني، فسماني له وقص عليه قصتي. فرفع الرجل موضعي وأقبل يحادثني أطيب الحديث، ثم أخذ يقص على جماعة كانوا عنده بعض أخبار البيت اليكني الذي أنا منه؛ وهو في كل حديثه يثني أجمل الثناء. وقد قال للقوم: أيكون مثل هذا خائنا؟! أم يعاقب مثله بالنفي؟! فقال كاظم بك: إن والدة فلان جركسية ووالدة أبيه جركسية. فبسم لي وقال: أصادق صاحبك؟ قلت: نعم. قال: فأنت تركي جركسي معا، كفانا الله شرك. وأخذ يلاطفني ويمازحني كأني كنت صديقه منذ القدم. ولما هممنا بالانصراف دعانا إلى مأدبة أعدها لنا، كانت كأحسن ما يستطاع في ذلك المكان، وقال لكاظم بك: لن تبرحونا غدا، إنكما ضيفاي، وقد أخبرت الوالي بذلك تلغرافيا فرضي. فخرجنا شاكرين، وكنت أحب أن أبلغ سيواس غير متأخر لأجد حيلة في مراسلة أهلي. غير أني كرهت أن أخالف بكير باشا فأقابل إحسانه بالكفران.
وفي اليوم التالي طفنا توقاد وولجنا دورها ومشينا في أزقتها ورجعنا مساء إلى بيت المتصرف مع رسول كان أنفذه في طلبنا، فودعناه وأثنينا على بشره وإكرامه، ثم أصبحنا فتوافى الوجهاء إلى الخان يودعوننا ويظهرون الأسف على فراقنا، فقلت: يا عبد الحميد، تريد ذلي ويريد الله عزي، دام أنفك راغما.
فخرجنا من توقاد على عادتنا مبكرين والطير في وكناتها، فجعلنا نتسنم الهضاب لا يتخلل صعودنا انبساط ولا انحدار، حتى رفع لنا شامخ ذو هضبات، متصل الذرى بالسحاب، تعالته تلال من الثلج كالقطن المندف، أشم، صعب المرتقى يقصر دونه الجهد وتنحل في ترقيه العزائم، تتطالع فوقه الجياد والعربات كأنها تسبح في سحاب جامد. قلت لصاحبي: ما هذا الذي نرى؟ قال: هذا «جاملي بل». - ما زدتني علما. - وما تريد أن تعلم منه؟ شاهق من شاهقات الأناضولي توسط بين «يكي خان» وبين توقاد، وستعلم ما هو حين نطلب ذروته. - وما حاجتنا إلى هذا النصب؟ أعندنا سعة في الوقت فنضيعها بالتوقل في هذه الجبال. - ذاك ما لا بد منه، ففيه طريقنا إلى «يكي خان».
وفيما نحن نتحدث إذ هبت علينا ريح صرصر نفذ بردها إلى عظامنا، ثم علت في الأفق غبرة حتى لخيل إلينا أن ذلك الشاهق يحثو على رأسه الثلج بدلا من التراب، فاستوقف السائق العربة ونزل عنها وراح يتأثر الطريق، فلما رجع سألناه عن الخبر، فقال: التبست المسالك ولا أدري أية أسير. فتقدم الجنديان اللذان كانا معنا بجواديهما أمام العربة وأشارا إلى السائق أن يسير خلفهما، وما هي إلا مسافة خمسين مترا في سفح الجبل، قطعناها في كد وإعياء، فما راعتنا إلا هزة كادت تستطير كل واحد منا من مكانه، فوثب صاحبي إلى الأرض وبقيت في العربة وحدي، فمالت إلى جانب ميلة فتدحرجت بي إلى حفرة هناك. وقد تعجلت بوثبة لم أحسنها، فوقعت غائصا برأسي في الثلج وبقيت رجلاي في الهواء، ولولا السائق والجنديان لمت في موضعي مختنقا، وما أدركوني إلا بعد أن سففت الثلج سفا، وحين فرغ رفاقي من إنهاضي ونفض ثيابي أخذوا يعالجون العربة ليقيموها وهم لا يستطيعون أن يصنعوا شيئا، فتقدم إلينا الجنديان يعرضان علينا جواديهما، فامتطى كاظم جوادا وامتطيت جوادا، وسرنا نطلب ذروة الجبل، فلما انتهينا إليها رأينا خانا واسعا فيه جماعة من فرسان الجندرمة كانوا ينتظرون قدوم البريد وآخرين من المكاريين، فتلقونا وأنزلونا في الخان، وانطلق رجال منهم بالحبال وبالجياد إلى الموضع الذي تركنا فيه رفاقنا، فجاءوا بهم وقد أضناهم ما كابدوا.
أما أنا فقد سكرت بغير راح، حرارة الكانون بعد برد الثلج، هذا ما لا يطاق، وكان الذين في الخان يعلمون ما في ذلك من الضرر، فأجلسوني ورفيقي بعيدا عن الكانون، ثم أصبنا طعامنا وأخذنا حظنا من الراحة ساعة أو ساعتين واستأنفنا المسير. لم نستشعر ضنى ولا إعياء. شتان ما بين ارتفاع وانخفاض. انبسطت لجيادنا الأرض وسهلت فقطعناها إلى «يكي خان» وكأننا مشينا على الديباج. ولا أنسى موقفي على ذروة «جاملي بل» بين فسيل الأرز وكأنه باقات زهر منتثرة على ملاءة بيضاء منشرة. نظرت إلى ما حولي فخيل إلي أني على روق سحابة جامدة، ثم نظرت عند انحدارنا إلى قرارة الوادي فضاع رائد الطرف بين اختلافات الألوان والأشكال. الماء كالزجاج، وجوانب الوادي كالطبق الصيني، وأخضر النبت وأصفره كالنقش على ذلك الطبق. وقد برد الهواء حتى أصبح كقدح من البلور أكفئ علينا، فلما توارت عنا الشمس تبدى لنا «يكي خان»؛ وهو قضاء أناف عليه جبل في شرقه منعه مصابحة الشمس، صغير بارد ولكنه غير قبيح المنظر، فقضينا ليلتنا في حديث وسمر وتجددت فينا العزائم إذ كان منزلنا هذا آخر منازلنا إلى سيواس. وقد شرد السرور النوم من الأجفان، ولو نمنا لهنأنا نومنا ولاطمأنت جنوبنا، هنالك خانات نظيفة لانت مضاجعها وطابت حجراتها، فلا تقاس بالتي نزلناها من قبل.
تطاول علينا الليل واشتد قاتمه، فأقمنا تحت سواده نتعلل بالأماني، ثم رق أديمه وخف حندسه فبدت تباشير الصباح، فنهضنا نهضة رجل واحد ورمينا بأبصارنا جادة سيواس وانطلقنا مسرعين، وبينا نحن في بعض الطريق إذا التفت صاحبي نحوي باشا مؤانسا، فقال: الحمد لله على السلامة، أدركنا دار المقام، وسترى من سيواس بلدا طيبا فلن تطيب لك مبارحتها. غير أنني أبغض منها كثرة أشجارها، حيثما تسر في شوارعها تلق أشجارا صفت على جانبيها حتى اشتجرت الأغصان بالأغصان واشتبكت الأوراق بالأوراق. - وتبغض مثل هذا الشكل يا كاظم بك؟ أما إنك لحائر القلب لا تدري ما تحب ولا ما تبغض! - أنا لا أحب الشجر الكثير. على أن في سيواس أشياء تطربني. - وما هي؟ - ملاعبها وحاناتها. - ومن أين لها ذلك؟ - وما تعجبك؟ ألا تعلم أنك قادم على ولاية من الولايات العثمانية الكبرى؟ ولسوف ترى من المحاسن ما يسرك، وإني لخائف عليك منها أن تستهوي لبك. فخذ لها أهبتك منذ اليوم ولا تدع قلبك مجزءا بينها. - لقد أنذرت فأعذرت، وما للشباب في بقية تنفق، ذهبت الأيام بجدته ونضارته وإن أنا في الحياة إلا ضيف دنا أوان رحيله.
وإلى هنا عاودنا السكوت، فأخذ كل يفكر في شأنه إلى أن دانينا الضيعة الحميدية المسماة «نمونه جفتلكي»، وهي تبعد عن سيواس مسافة ثمانية كيلومترات. فلما رأيت باسقة الأشجار على جانبي الطريق أيقنت أن صديقي كان صادقا في قوله ، وما حاذينا مدخل الضيعة إلا ألفينا عربة الوالي على انتظارنا ومعها جماعة من رجال بطانته مثل ياوره الخاص ملك أفندي ومثل مأمور التلغراف الخاص، فدنوا منا وبلغونا سلام سيدهم وقدموا إلينا العربة لنتحول إليها، فنزل صاحبي وآثرت البقاء مكاني إذ لم أكن على هيئة تصلح لركوب تلك العربة، وسرنا ميممين سيواس، فبلغناها بعد سير استمر ساعة ونصفا من الزمان.
سيواس
جانب من منظر مدينة سيواس.
استقبلتنا سيواس بوجه أربد، ما اجتزنا صفوف أشجارها المتكاثفة عند مدخلها إلا تلقتنا أعشاشها التربة وأزقتها الموحلة، فدارت العجلات فوق مهاد تراكمت عليها الثلوج والحجارة، وتخطت حفرا لكل غوصة في إحداها جهاد يستنفد الساعات ويذيب الهمم. وقد عرتني هزات ليست هزات تطرب ولا هزات ثمل، أنستني ما تقدم من مثلها في سفرنا كله، وكان دخولنا إلى سيواس يوم الجمعة 14 فبراير سنة 1902.
فذهبوا بي إلى مكان قالوا لي إنه الخان، وافتقدت صاحبي فلم أجده، فامتنعت عن نزول الخان وقلت: بلغت الروح الحلقوم؛ لأن تقع السماء على الأرض أهون علي من أن أطيعكم إلى دخول السجن مرة أخرى، تكاثروا وغالبوني، لن تدخلوني حيا. فجعل القوم ينظر بعضهم في وجوه بعض ولا يفهمون ما أريد، ثم اقترب مني أحد ضباط البوليس متأدبا محتشما وقال: ما لسيدي لا يتفضل بالنزول إلى الخان؟ قلت: ما هذا بخان، إن هذا إلا سجن. قال: إذا كان هذا الخان لا يرضيك فاختر غيره ومرنا بما تريد، فنحن في خدمتك. وفيما نحن نتكلم هكذا إذ أقبل صاحب الخان واسمه «مانوق آغا»، فحياني تحية تبينت فيها الصدق، وعرفت من كلامه ولغته أنه أرمني، فهدأ روعي ونزلت، وحين صعدنا إلى الطبقة العليا أبصرت قوما جلوسا يدخنون نركيلاتهم وسيكاراتهم وأمامهم كاسات القهوة والشاي، وفي صدر المكان فونوغراف يطرب الجلوس بما يحاكي لهم من أصوات المغنين والموسيقات. ورأيت على رءوس القوم نوعين من العمائم، وأحدهما معصوب بشاش أبيض وثانيهما معصوب بشاش أسود. فسألت عن الفرق بين الشكلين، فقيل لي إن الأبيض شعار المسلمين والأسود شعار الأرمن. فتذكرت ما يروى عن اتخاذ بني العباس للشعار الأسود حين أظهروا دعوتهم في أواخر الدولة الأموية، ولم أدرك سر هذا الفارق الجديد.
وما استقر بي الجلوس على بعض تلك المقاعد إلا جاءني مدير البوليس، (وكان يسمى سرقوميسيرا إذ ذاك)، فتلطف في التسليم وجلس إلى جانبي مرحبا ومسلما، فلما فرغنا من مطارحة الأكاذيب قلت له: ما شأني اليوم عندكم؟ - أنت معاون مكتوبجي الولاية (مساعد ثان للسكرتير). - غير أنني منفي. - وما يضرك أن تكون منفيا، وأنت حر غير مسجون ولا مقيد، تذهب أين شئت على شريطة ألا تخرج عن حدود ولايتنا.
فكاد فؤادي يثب سرورا واغتباطا، وما كان سروري ولا اغتباطي إلا بما بلغت من حريتي، فأحببت أن أظل بمكاني من الأمل ولم أشأ إكثار الأسئلة لئلا أسمع شيئا جديدا يذهب بحلاوة ذاك الأمل. وبينا أنا أحادث زائري وإذا رسول من عند الوالي يدعوني إلى داره، فكبر علي الأمر وأخجلني ما كنت مرتديا من الملابس التي التبست طرائقها وغابت ألوانها، فاعتذرت وأظهرت التعب، ولكن أقبل علي مدير البوليس يستنشط نفسي إلى الذهاب وأخذ يثني على الوالي ثناء جميلا، ويبين لي أن عدم الإجابة يحدث بيني وبينه شرا عظيما، فقمت مع الرسول متثاقلا. وما زلت أطوف تلك الأسواق الموحلة والناس يرمونني بأبصارهم حتى جئنا دار الوالي، فدخلناها وأقبل الخدام يريدون أن ينزعوا حذائي ويقدموا لي نعلين لينتين مكانهما، فأجبت كارها، فلما رأوا جوربي ممزقين وقد تبدت منهما أصابع قدمي رثوا لحالي ودعوا على من رماني تلك الرمية، ثم أدخلت مكان الاستقبال وبقيت به حتى أعدت المائدة، فلما تقدمت إليها رأيت صاحبي كاظم بك ينتظرني، فجلس كلانا وجلس معنا جماعة من المستخدمين وأخبرنا أن الوالي في بيته الآخر مع حرمه الصغرى، وأنه يريد أن يواجهنا بعد العشاء، وحين آن أوان الزيارة خرجنا وبين أيدينا الخدم بالأنوار، ندع طريقا ونأخذ في غيرها إلى أن بلغنا البيت، فصعد بنا الخدم إلى مجلس الوالي، فأقمنا في انتظاره، ولم يلبث أن أقبل علينا في ملابسه البيتية على عادة أهل الشرق ، فتقدمت مسلما فعرفني بفراسته، ثم التفت إلى كاظم بك وقال: أظنه ضيفنا فلانا. - نعم، هو ذاك.
ثم أمرنا بالجلوس ومد إلينا علبته بسيكاراته، فتناولت واحدة وأخذت أدخنها ساكتا أنتظر أن يبدأ الكلام، وإذا به مطرق مفكر لا يكلمنا ولا ينظر إلينا، وقد بدت على وجهه آثار الكآبة حتى لمحها كاظم ولمحتها، ثم رفع رأسه بعد استغراقته وأقبل يسألني عن سبب نفيي. ولما كان شرح القصة يحتاج زمانا طويلا ويجدد شجنا كاد يتقادم لم أر بدا من إظهار التجاهل، فهز الرجل رأسه وقال: قاتلهم الله، وهل يقاس مثلك بمن ينفونهم إلى هذه الأقطار؟ ولكن لا ضير، لكل كارثة لطف من الله يدرؤها، فاصبر وامتثل حكم ربك، ما بعد الشدة إلا الرخاء، واعلم - بني - أنك نازل بلدا أهله أهل دعة وسلام، وأيقن أنني لست واليا عليك وإنما أنا أبوك، فشاورني في أمورك وافزع إلى الله ثم إلي عند مخاوفك. ولا تكثر مخالطة السفهاء من هؤلاء المنفيين الذين ستجدهم في هذا البلد، وجانب فلانا؛ إنه خدين الكأس، لا يعرف غيرها؛ وهو سيئ التربية، لا يحبه أحد من الناس. فوعدته طاعة وامتثالا وخرجت من عنده راجعا إلى الخان.
فلما كان الغد بكر إلي رسول الوالي، فتوجهت إلى داره الأولى وإذا أمين الصندوق واقف في انتظاري، فتقدم إلي بورقة في يمناه ودراهم في يسراه وقال: ضع توقيعك على هذا الصك واقبض هذه الدراهم؛ لقد اتصل بدولة الباشا أنك خالي اليد، ولكن كتب إلينا من الآستانة بتوظيفك معاونا للمكتوبجي ولم يسموا لنا مبلغ مرتبك، فرأى الوالي أن يصرف إليك سبعمائة قرش تنفقها في بعض حاجاتك إلى أن يسمى مرتبك في الآستانة، فوقعت للرجل على الصك وقبضت المال، وحين واجهت الوالي أمرني أن أبعث رسالة برقية إلى أهلي ليعلموا مكاني، فكتبت الرسالة وانتهت إليهم في غداة اليوم الثاني، واطمأنت بذا قلوبهم وعرفوا ما آل إليه أمري. وكنت أوصيت الخياط أن يصنع لي ملابس جديدة فصنع ولبستها وأصلحت من هيأتي ما أمكن لي إصلاحه. فلما تهيأ لي بعض ما أردت خرجت أريد دار الحكومة، فذهب بي الشرطة إلى غرفة السرقوميسير، فتلقاني الرجل تلقي الصاحب ونهض معي حتى أدخلني على المكتوبجي وقدمني إليه، وإذا رجل محبوب الطلعة باسم الوجه نحيف الجسم ذو لحية سوداها غالب على صفرتها، فأحسن قبولي وبذل لي المودة وأبدى لي جانب الأنس والود. وبعد الاكتفاء بالحديث والتسليم قادني إلى غرفة الوالي وقدمني إليه على الطريقة الرسمية. وكان إلى جانب الوالي في غرفته رجل أسمر اللون أبيض الشاربين محبوب الوجه، استخبرت عنه فقيل لي إنه أرستيدي باشا معاون الوالي (هو بك إذ ذاك).
فعدنا إلى غرفة المكتوبجي بعد مجلس لم يطل إلا دقائق معدودة ولحق بنا معاون الوالي، فتم التعارف بيننا على أحسن منوال. هذه حالات توالت فيما دون الثلاثة أيام خلت بعد وصولي إلى سيواس، أتت ومضت ولا أدري ما هي. غير أني لا أجحدها فضلها؛ فقد كان لها شأن يذكر في تخفيف لوعاتي، وإنما سرني أن قيض الله لي مثل هؤلاء المتحببين؛ أفرج بهم غماء الهموم. ولو ألقت بي المشيئة بين أناس من غلاظ القلوب وجفاة الطباع لطال شقائي، ولقد يتخلل أيام الشدائد أويقات تكاد تنسي المرء ما يتجرعه من غصصها، وما ذاك إلا إنصاف في الدهر يتغلب عليه أحيانا. ولما هممت بالخروج من عند المكتوبجي سألني أن أعاوده إلى غرفته قبيل المساء إجابة إلى مأدبة أعدها لي في بيته، فأجبت شاكرا وخرجت.
ما أمسيت يومنا ذاك إلا وأنا في بيت المكتوبجي، فأراني ابنه سليما وبنته سوزان وهما كحمامي أيكة تدل نظراتهما على ذكاء موفر وتهذيب مستمر، ثم جاء أرستيدي باشا معاون الوالي، فكنا ثلاثة على مائدة واحدة، وكنت كلما زدت محادثة للرجلين زدت محبة لهما وأنسا بهما. وقد أظهرا من الود مثل ما استشعر به فؤادي.
وبينا نحن في مجلسنا وسمرنا إذا برجل له حدبة بين كتفيه كسنام البعير، تحمل رقبته رأسا كالليمونة اليابسة، ركب فيها وجه كالجذع المنقلب. كله ختل باد وشر كامن. قلت: من هذا؟ فقيل: هذا ترجمان الولاية واسمه المسيو عمانوئيل برويستاكي. ومما زدت به علما من صفات الرجل أنه شديد الساعد مدمن للرياضة الجسمية كثير العجب بها، وأن الرجل كريدي الأصل وأنه من أرذل الجواسيس. قلت أبعد به، ولكن ماذا أخاف من تجسسه وأنا رجل منفي مقصي. فجاء هذا الزائر غير المحبوب حتى جلس إلى جانبي. غير أننا لم نلبث أن عرف كل ما سيكون له عند صاحبه. وقد سهرنا تلك الليلة سهرا طويلا قضيناه في حديث طيب وأنس قريب، ثم تودعنا وخرج كل يريد منزله.
وفاة الحاج حسن حلمي باشا والي سيواس
انتبهت مبكرا غداة دعوة أسعد بك المكتوبجي، فما راعني إلا أغوب خادم الأوتيل داخلا غرفتي على غير عادته. قلت: ما وراءك؟ قال: مات الوالي. فبقيت واجما باهتا؛ لأن الرجل أمسى وليس به ما يشكيه. فزدت الخادم استيضاحا، فأخبرني أنه مات بالسكتة القلبية. قلت: هذا رجل حمدت لقاءه ولم أعلم له سيرة تكسبه الحمد أو الذم سوى ما كان يثني به عليه مقربوه، وليس ذلك دليلا؛ فإن كان رجلا أفاد الأمة خيرا فوا أسفاه على فقده، وإن كان امتحن جانبها بشره فالحمد لله على خلاصها منه، وليعوضها الله رجلا ينهض بجناحها الكسير ويهبها من الإنصاف والرأفة حاجتها.
ثم أسرعت إلى ثيابي فلبستها وخرجت أريد دار الوالي، فرأيت على بابها جماعات من المساكين والمشايخ وغيرهم، كل فئة قائمة في انتظار ما يعنيها، فدخلت الدار وإذا الناس كلهم متوافون متكاملون، وما دنا الظهر إلا وخرجت الجنازة باحتفال لا يستحق الذكر. فشيعنا الفقيد حتى واريناه رمسه، ورجعنا ونحن لا نتحدث إلا بحديث وفاته، فقص علينا الخبر من حضرها، قال: إنه فرغ من عشائه وجلس إلى حرمه الصغرى يحادثها، ولما حان وقت نومه استلقى على مقعد هناك وسألها أن تبادر إلى الخدم بطلب الطبيب. غير أن المنية سبقت ومات الرجل قبل أن يحضر.
ولما كان المساء توجهت إلى المأتم فجلست فيه ما استطعت، ثم خرجت مع المكتوبجي وجماعة من الموظفين، فجعل بعض الحاضرين يذكرون من مساوئ الرجل ما لا يصبر حليم على سماعه. قلت: قد آن للكتاب المطوي أن ينشر.
ثم أقبل على سيواس بكير باشا متصرف توقاد، فجعل وكيلا للولاية، وكثرت يومئذ الأقوال والظنون، فذهب أناس إلى أنه سيخلف الوالي المتوفى، وزعم آخرون أن سيخلفه غيره، وتوالت الولائم والمأدبات احتفالا ببكير باشا، فلم يبق في سيواس وجيه إلا استقبله بدعوة إلى بيته، وكنت أنا معه كالظل لا يتركني أفارقه إلا بعد نصف الليل عند انصراف سائر رفقته، وما يسفر الصباح إلا تتسابق إلي رسله.
ولقد لمحني يوما مفكرا فالتفت إلي مزدجرا، وقال لي والناس يسمعون: أي بني، لا تحمل نفسك هما، انتظر حتى يقضي الله في أمري بما يريد. فإذا أنا وليت سيواس احتلت لك في السعادة؛ فإما أخلصك من هذا النفي، وإما أفتح في وجهك طريق الهرب إلى مصر، فثقل كلامه على سمعي وأوجست منه خيفة. ثم قدر الله أن ولي سيواس الرجل الشهم والعثماني الحر رشيد باشا عاكف ابن المرحوم عاكف باشا الشهير، فانتقضت آمال بكير وأقام يرتقب أن ينصب واليا على ولاية أخرى.
وقد كثر المطالبون لحسن باشا بعد موته وتعدد المشتكون، فأبى بكير باشا أن يأذن لأهل الرجل بالسفر قبل أن يقضى دينه، وجاءت تركته بما لا يذكر من المال، وظهرت في خزينة الحكومة وغيرها فضائح تداركها من عني بها يومئذ، فعلمت أن هذا الوالي لم يرحم في استجلاب الكسب صغيرا ولم يوقر كبيرا. وقد بلغ من الجشع مبلغا لم تقدر عليه وحوش الفلاة ولا نسورها.
زعموا أنه اشترى من بعض الفقراء قنطارين من البصل، فلما ذهب البائع إلى الوكيل مقتضيا أخذ يماطله أياما حتى عيل صبره. فلزم الغريم البائس باب الباشا إلى ساعة خروجه، فتقدم نحوه ولثم طرف ثوبه ووقف خاشعا خاضعا يستعديه على وكيله ويطلب عطفه ورحمته، فتغير وجه الباشا وأشار إلى الرجل بعصاه قائلا: ألا تستحي أيها الرجل أن تطالب واليك بثمن قنطارين من البصل؟ امض لشأنك وتعلم التربية. ثم التفت إلى من حضر من صحبه وقال: لي الله، ماذا أعاني من تقويم هذه الطباع وهي تأبى أن تقوم؟ وخرج بائع البصل مخزيا ومنكسرا. فإذا صحت هذه المزاعم - وما إخالها إلا صحيحة - فالرجل ساقط المروءة بعيد عن مواضع الشرف، لا يمنعني عن الشهادة له بذلك ما سبق إلي من تودده وإكرامه. إن الخائنين يستدرجون بالمظلومين حتى يبلغوا بهم غايات التلف، ولا ثقة بود مفاجئ من غير وفي. أكثر العوادي يستنيم للفريسة وفي لهواتها دماء فريسات مضت وبين أنيابها الحتف الكامن.
ومما علمت من ماضي هذا الرجل أنه كان واليا على الحجاز، وأن أهل البدو سطوا على قناصل بعض الدول في جدة وقتلوهم، وكان ذلك في أيام ولايته في نحو سنة 1894 على ما أظن. وكانت تلك الدول وفي طليعتها الدولة البريطانية أرسلت يومئذ سفنها الحربية وطلبت محاكمة الباشا، ولكنه وجد سبيلا إلى الفرار ففر إلى الآستانة. غير أن الحكومة العثمانية لم تجد بدا من محاكمته في مجلس خاص. فقامت عليه البينة وحكم عليه بأن لا يستخدم في الحكومة ما دام حيا. ثم فرغ إلى الرشوة فاستعملها فعين واليا على سيواس، وكان يأمل أن يصير ناظرا للداخلية إذا سقطت الوزارة واستغنى عبد الحميد عن ناظر الداخلية ممدوح وشيعته.
زفرة من زفراتي
فؤاد دأبه الذكر
وعين ملؤها عبر
ونفس في شبيبتها
وجسم مسه الكبر
وآمال مضيعة
ووقت كله هدر
وعيش عذبه مضض
وعمر صفوه كدر
أما يا ليل من صبح
لمن سهروا فينتظروا
جفون الناس هاجعة
وجفني ضافه السهر
إذا سور تولت من
ك عني أقبلت سور
أفانيها فتفنيني
وأطويها فتنتشر
وحيدا فيك ذا حذر
يكاد يخونني الحذر
فلا كتب أسامرها
إذا ما شاقني السمر
ولا نظم ولا نثر
وقد نظموا وقد نثروا
سأقضي العمر في أسر
ويسعد بعد من أسروا
أرى سيواس تغمدني
كأني صارم ذكر
صدأت بها وأحسبني
سأصدأ ما جرى العمر
أيخذلني وإخواني
وينصر خصمنا القدر
فوا لهفي على سرب
تولى رعيه النمر
غدا في أرض مسغبة
جفاها النبت والشجر
قضى راعيه مذ زمن
وضلت بعده العفر •••
يقول أحبتي صبرا
وهل في النار يصطبر
عداة الحق قد ربحوا
وأهل الحق قد خسروا
ونحن أمامنا وطن
نراه اليوم يحتضر
فمن يجزع فمعذور
ولكن قل من عذروا
فيا أفق التهب حزنا
وجد بالدمع يا مطر •••
علام نلوم أعداء
على شر إذا قدروا
بلوناهم لدن شبوا
أننساهم إذا كبروا
نصحناهم فما انتصحوا
زجرناهم فما ازدجروا
لقد صلدت قلوبهم
كأن قلوبهم حجر •••
إذا ائتمروا على كيد
فإنا سوف نأتمر
فمن نخشى وفوق العر
ش مهما يغترر بشر
وفي الأيام متسع
وفي الأقدار مدخر
وفي الأحداث معتبر
لو ان الناس تعتبر
وهذا التاج منعفر
غدا والقصر مندثر
رويدا إنها دول
تدول وبعدها أخر
يظل الحق منهزما
زمانا ثم ينتصر
سيوف الله إن سلت
فلا تبقي ولا تذر
ما كابده أهل بيتي في فروق
جاءت والدتي وامرأتي لتزوراني في السجن على جاري عادتهما، وكانت المرأتان لا تأملان أن يؤذن لهما في الوصول إلي. ولكنهما قالتا: نحتال في الأمر عسى أن نهتدي إلى حيلة ننال بها طلبتنا. وإذا نفدت الحيل وسدت المسالك كلها فإن فيما نستخبر عن حال الرجل وصحته لمقنعا لنا. وإنما وصلت السيدتان ساعة أرادت المتصرفية حملي إلى الباخرة، فخشي رجال الشرطة أن يحدث من ذلك أمر يستلفت أنظار الناس، فرأوا إخراجي في غفوة من أهل بيتي، فتقدم رئيس القوميسيرية إلى السيدتين قائلا: انتظرا المتصرف، ويوشك أن يحضر الساعة. إني لأرجو أن يأذن لكما اليوم في زيارة رجلكما. ثم رأى الخادمة حاملة ولدي البكر، فقال لها: لا تقفي في هذا المكان، إني أخاف أن يبكي الصبي فيسمع أبوه بكاءه ويعتريه حزن شديد. فذهبت الخادمة مع السيدتين إلى مكان ينتظرن فيه قدوم المتصرف، وبقين هنالك إلى أن أخرجوني من سجني وأركبوني العربة، وجاءت امرأة من قيمات السجن تخبر والدتي وامرأتي أني لست هناك، وأن الشرطة نقلتني إلى باب الضبطية. فلا يسألن قارئ كتابي عن حال النسوة الثلاثة حين فاجأهم هذا الخبر. وقفن واجمات حائرات لا يدرين ماذا يصنعن.
وبينا هن على تلك الحال من الخبال إذا أحد الشرطة يتقدم نحوهن متخوفا حذرا، فلما قارب مكانهن قال: أيتها السيدات، لا تضيعن وقتكن هدرا، بادرن إلى نظارة الضبطية عسى أن تستطلعن خبرا أو تهتدين إلى طريق. ثم أبصر الشرطي رفاقا له قادمين نحوه فاختلط بهم وانصرف عن السيدات. فلما يئسن من رحمة تتداركهن خرجن متوجهات إلى الضبطية، وبقين هنالك إلى المغرب، ثم تكرم أحد ملوك الأرض فسألهن عما يلتمسن، فلما أخبرنه ذهب عنهن وغاب ساعة ثم جاء يحمل دفترا، فقرأ لهن أسماء كثيرة وليس بينهن اسمي، وقال: هو لا يأتي إلينا. وأبى أن يخبرهن بأكثر من ذلك، فلم يبق تدبير يحكم ولا أمل يرتقب، ورجعت السيدات رجوع اليأس والحسرة.
ولقد يخلق الله نفوسا تحب الخير وتستطيب مكارم الأخلاق، وتعصف بها في هذه الحياة عواصف حتى ترمي بها في مهاوي الشقاء، حيث تزدحم نفوس تعودت الشر، فتبلى بتلك الصحبة الدنسة ثم تفسد جواهرها وينطفئ نورها. وهذه القرارات النارية هي بيوت الظلم التي ندعوها منازل الشرطة ودور الحكومات المستبدة. ومن كتب عليه النحس في الأزل بمخالطة هاته المواضع عرف كيف يكون الشقاء.
أقامت والدتي وامرأتي خمسة عشر يوما وهما لا تعرفان أين أنا. كلما ولجتا باب كبير من الكبراء زعر منهما أهله وحاشيته. لم تجد المرأتان في عاصمة الملك ذا جاه من الرجال يحبوهما نصحا أو يعينهما على صبر سوى وفاء من بعض أنصار الحرية أعلنوه بزياراتهم ومشاركتهم لهما في أحزانهم. وكم من ذي رأي يومئذ بان الخطل في رأيه! قالوا: استعطفا السلطان. وهل يستعطف الذئب على فريسته؟ قالوا: قبلا الأيادي والأقدام. وهل مثل أهلي يشترون دمي بشرفي؟ لقد أغناهما الله بالصبر ووهبهما الحكمة، فامتثلتا أمره واستنجدتا العبرات. وما أنا بعاتب على مقصر في نصرة ولا متحول عن ود. إن مواطن الهلكات لا تثبت فيها كل القلوب. ولولا اقتضاء الوصف لما كان للقارئ نظر في هذه السطور السود. أصف حال الجواسيس. بئست الخليقة تشاركنا في الحياة ولا تشاركنا في الاستشعار. أخذوا بطرفي الطريق وترصدوا باب الدار، وتراءوا للزائرين في وجوه كأنها الحجارة، بردت فيها حرارة الحياة، فلا تحمر ولا تصفر، بل تبقى غبرا كالحة لو ضربتها بصوانة لارتدت عنها الصوانة.
وددت أن أصف بعض ما كابده أهل بيتي من الشدائد، ولكني لا أجرؤ على ذلك؛ هذا أسف أخاف أن أستعيد ذكره. أقر بالجبن عنده وما جبنت عند خطر قبله. لقد باتت امرأتي وهي لا تجسر أن ترضع بنتنا؛ تغير لبنها ومجته الرضيعة. فكانت لنا جارة من سيدات الأرمن تأتي ليلا فترضع الشقية بنت الشقي خلسة ثم تعود. وكانت الباعة تجانب البيت حذرا. ولم يبق محب على عهوده سوى من ذكرت في الفصول المتقدمة وسوى الصديق الشهم حسن فؤاد باشا، الجندي الحر الباسل، ناظر الدروس في المدرسة الحربية العثمانية، وكذلك أهل بيته. غير أنه لم يلبث أن أصابه بعد ذلك ما أصابني، فنفي إلى رودس وظل بها إلى أن أعلن الدستور.
ولما أنفذت رسالتي البرقية إلى أهل بيتي اطمأنت قلوبهم وعاودتهم عقولهم، فأخذوا أهبتهم وبادروا نحوي مسرعين. وكان بكير باشا لم يبرح سيواس، فأذن لي في استقبالهم وأصحبني بجندي ليكون في خدمتي. فلما رأيت والدتي وامرأتي أنكرتهما لما بدا عليهما من التغير والشحوب. ثم رجعت معهما وبين يدي ابني وبنتي أخفف بهما آلام الغربة. وكان هذا اللقاء معوانا لي على احتمال النفي سبعة أعوام، ولولا ذلك لم أستطع تجلدا.
قدوم رشيد عاكف واليا على سيواس
الوزير الحر والفاضل الجليل رشيد عاكف باشا والي سيواس ثم ناظر الداخلية سابقا وأحد أعضاء مجلس الأعيان الآن.
لما التقيت بأهلي واستصحبتهم إلى سيواس أدللت على منزل للسكن فنزلناه. بئس منزل الساكن ذاك. غرفتان في الطبقة العليا وغرفة في الطبقة السفلى. وفي جوف ذلك البناء ظلام وهواء كله بلل، كالكهف بل أحسن منه الكهف، فما ولجنا الدار إلا انقبضت صدورنا. غير أننا وطنا النفوس على الصبر وقلنا: ما نحن بخالدين فيها، وعزمنا على أن نبدل عنها بخير منها حين تستقيم الحال ونعلم مصيرنا، فأمسينا وآن لنا أن نأوي إلى المضاجع، فوقفت إلى جانب كوة تطل على الطريق وقد خلت من كل عابر، فاستشعرت وجعا في أسناني بدأ خفيفا ثم اشتد حتى كدت أجن به جنونا. قلت: وهذا هم جديد، كأن ما كابدناه لم يكن كافيا فزادنا المرض لتتم المصائب، فأخذت قليلا من الكونياك وجعلت أتمضمض به تسكينا لوجعي فما زادنا إلا شرا، وبقيت ليلتي تلك واقفا أو ماشيا أو قاعدا أو مضطجعا إلى أن أصبحت، فبادرت إلى أجزاخانة تحت المنزل أسأل صاحبها دواء يسكن وجعي، فأخذ يجرب عقاقيره في غير طائل، فلما تجاوزت الشدة ذرع الصبر طلبت إليه أن يعطيني مقدارا من المورفين وحقنة أحقنه بها تحت اللثة، فامتنع أولا ثم أجابني راضيا، فحقنت الدواء وسكن الجوع واستلقيت سكران لا أحسن الكلام.
هذه سكرة ما تجشمت لها سرى ولا طرقت من أجلها حانة ولا أجلت في طلابها كأسا، أتت عفوا حين اشتدت الحاجة إليها، وإنها لسكرة مات بحسرتها شيخ المعرة إذ قال:
تمنيت أن الخمر حلت لنشوة
تجهلني كيف اطمأنت بي الحال
فأذهل أني بالعراق على شفا
رزيء الأماني لا أنيس ولا مال
اضطجعت في ناحية من الغرفة وأقمت أستسمع شكوى من قعدوا حولي. السيدتان في نحيب والطفلان في بكاء، ولدينا زنجية كان تشبثت بالسيدتين ألا تدعاها، وهي امرأة مثل زجاجة الحبر، أخذت تتعهدني بالقهوة، وإني لساكت ساكن. تقع تلك الأصوات على أذني وكأنها تأتيني من جوف بئر، أسمعها ولا أفهمها، وكنت أود ألا أفهمها، فتأمل صحبي في وجهي فرأوا في الخد الأيسر ورما يتزايد على توالي الساعات، وما دنا المساء إلا وأنا ذو وجهين. أشهد الله ما كنت كذلك فيما سلف من عمري. فلما تكامل الليل خف فعل المورفين واعتادني الوجع، فبادرته بحقنة أزالته وأنامتني. وبقيت كذلك أياما أحمل على أيسر وجهي وجها ثانيا هو أكبر من الأصلي، حتى إذا كنا في بعض الأيام سمعنا أصوات الموسيقات وضجات العربات وضوضاء السوقة. فأطللنا من الكوى وإذا جموع تتلوها جموع يؤمون دار الحكومة، ودار الحكومة قريبة من كهفنا، نراها كل يوم ونتبين داخلها وخارجها، فأنفذت آغوب الذي يخدمني في الخان وكنت استخدمته عندي، فذهب ثم جاء يخبرنا أن الوالي الجديد قد حضر وأن الفرمان السلطاني قرئ وأن الوالي خطب الناس خطبة وعد فيها بالمساواة والعدل وأن الناس مستبشرون به. قلت: أهلا به إن كان عادلا وأبعد به إن كان ظالما، فكان وصول رشيد عاكف باشا الوالي الجديد إلى سيواس بعد وصولي بشهرين على ما أذكره.
فمكث هذا الأمير أياما لا نسمع عنه بشيء جديد، وكنا نراه في بعض الأحايين يمر بباب دارنا ومعه أركان الولاية وخواصها، فأعجبنا ظاهر هيئته؛ فقد دلت على أدب غض ونفس أبية. أما ما انطوت عليه طويته فتلك ما لا تكشفه الظنون ولا تصدق فيه النظرات.
وإني لعلى ما وصفت من السقم والسأم وإذا رسول من أرستيدي باشا معاون الوالي يتعجل مصيري إليه، فاعتذرت بما أنا فيه من المرض والوهن، فقال: هو يعلم كل ما ذكرت، ولا بد من ذهابك معي ولو كلفك ذلك عناء ومجهودا. فلبست ثيابي وانطلقت مع الرجل حتى دخلت على المعاون، فلما رآني بسم إلي وأحسن لقائي، ثم أخبرني أن الوالي حدث بحديثي، فساءه أن لم يرني وتمنى أن لو عرفني. وقال لي: ادخل الآن عليه، وارجع إلي إذا خرجت من عنده. فاستأذن لي الحجاب، فجاء الإذن فدخلت، فتلقاني الرجل بصدر رحب وأنس قريب وود محض لا يشوبه رياء، وأجلسني قريبا منه، ثم أقبل علي يحادثني فقال: عز علي يا فلان أن أراك في حال تسوءك. وقد أتاني عليك ثناء طيب ممن عرفوك هنا على قرب عهدك بهم، وبلغت أنك من بيت يكن، فنعم الحسب، أنا لا أعرف من بيتك أحدا ولكنني أجله وأحبه على الغيب. فهل لك أن تخبرني عما دعا القوم إلى نفيك؟ - هذا يا سيدي سر غامض لا علم لي به، بلاء دهمني ولم أكن له متوقعا. - كلامك لا ينقع غلة المستخبر، لا تسئ بي الظن إن كنت لا تستطيع أن تحسنه، وما سألتك إلا لأنظر في أمرك، عسى أن أجد سبيلا إلى خلاصك وإرجاعك إلى ما كنت فيه . - ما كتمت سيدي شيئا مما علمت، لقد دهاني خطب عرفت ورده ولم أعرف صدره. - إذن، فالصبر بك أولى. وإذا أنست في جانبي ثقة واطمأنت إلي نفسك فاطلبني تجدني عند أملك. وإني لموصيك وصاة أرجو ألا تغفل عنها، إياك والخوض في السياسة عند قوم لا تعلم حقيقتهم. إن في البلدة جواسيس رزقهم من هفوات المظلومين. لا أدري من هم أولئك السفلة، ولكنني سأحتال في معرفتهم وسأتدبر في إبعادهم من هذه الأرض. واعلم أنك إذا وشى بك أي واش أثمرت وشايته، وما بعد النفي إلا السجن وإلا الأغلال وإلا الموت، فاحذر أن تفجع بك محبيك وأن تروع قلوب أهلك بمصرعك.
فشكرت الأمير على هذا الكلام الذي ما أملت أن أسمعه من أحد في مثل ذلك العهد، واستأذنت في الانصراف، فأذن لي، وحين ودعته بسم في وجهي وقال: بلغني أن السيدة الوالدة معك، فقبل عني يدها ولترضني ولدا لها. فأعدت الشكر وخرجت من عنده متوجها إلى غرفة معاون الوالي، فأجلسني وسألني عما جرى بين الوالي وبيني من الحديث، فأخبرته، فسر حتى بدا السرور على وجهه وقال لي: إذا صدقت الفراسة فقد رزقنا خير وال. وكيف بك لو رأيت أعماله في الحكومة؟ أما لقد ملأ القلوب والعيون. أمس استدعى بعض المعممين من الموظفين فلما مثلوا بين يديه خاطبهم وكأنه خطبهم فقال: دار الحكومة ليست تكية ولا مسجدا، فما هذه العمائم التي على رءوسكم؟ لا أنتم كالمشايخ ولا أنتم مثلنا، أثياب أوروبية تعلوها عمائم! هذا ما لا يكون. إما أن تستبدلوا العمائم بالطرابيش وإما أن تستقيلوا. إني لا طاقة لي بمصاحبة أناس من الساقطين بين الجديد والقديم. غدا أستدعيكم، وأرجو ألا أرى فيكم من يكرهني على أن أقسو عليه.
قال أرستيدي باشا: فانصرف القوم وما جاءوا دار الحكومة غدا إلا وعلى رءوسهم الطرابيش، ثم ضرب الوالي ميعادا لحضور الموظفين وتوعد كل من يتأخر منهم عن ذلك الميعاد بالعزل، فما رأينا بعد ذلك موظفا يأتي متأخرا.
قلت: يا سيدي هذا شيء تنشرح له الصدور، فعسى أن تدوم هذه الحال وألا يتغير لنا الرجل؛ فقد رأيت الناس يسرع إليهم التغير، فيصبح العادل ظالما وينقلب المحسن مسيئا. - ليس في الوجود محال. على أن طباع الرجل ثابتة ظاهر ثباتها، وكل أقواله وأعماله تدل على نفس حرة وشمم موروث. وما زلنا في مثل حديثنا حتى آن أوان الانصراف من الحكومة، فودعت المعاون وخرجت معاودا بيتي، فدخلته وقد هاجت علي أوجاعي وعاودني قلقي، فعمدت إلى عدتي التي أسطو بها وهي حقنة المورفين، فشككت موضع الألم فسكن وسكنت وعاودني ما كنت فيه من الاستغراق. تلك حياة جديدة استفتحت بابها في سيواس، ولكنها لم تطل كثيرا؛ فقد اتصل خبري بالوالي وأرسل إلى الأجزاخانات ينهاها أن تبيعني المورفين، وكان ما عندي منه قد نفد فامتنعت أن تبيعني شيئا منه ولم يغن عني رجاء ولا إغراء بمال، فلما عاودت المنزل عمدت إلى سلك من الصلب لففته على إحدى ثناياي وما زلت أجذبها حتى اقتلعتها من أصلها واقتلعت معها قطعة من عظم الفك الأعلى. وقضيت ليالي ما أحسبها مرت على غيري، ثم عملت عملية جراحية، فلم تنجح بل ضاعفت آلامي وزادتني وجدا على وجد.
كنت دعوت طبيب الأسنان وسألته أن يتولى تلك العملية، فأخرج من جيبه سكينة مطواة غطاها الصدأ حتى لا يتبين الناظر نصلها، فتناولتها بيدي وشممتها فإذا بها رائحة الخيار، فنظرت في وجه الرجل وقلت: ألم تختر موضعا تصنع فيه السلطة إلا بين فكي؟ فمسحها الرجل على سرواله وقال: هي نظيفة. - لا والله، لن أدعك تمس فمي أو تدعني أطهر هذه السكين. - شأنك وما تريد.
فاستحضرت قليلا من الكحول أضرمت جانبا منه أحرقت به النصل ثم غسلته بما بقي، وأمرت الرجل أن يغسل يديه أمامي ففعل، ثم أسلمته فكي وجلست بين يديه، فأسند رأسي على ركبتيه وخط على اللثة العليا بسكينه خطا استشعرت به وهي تحفر في عظامي، فوثبت واقفا دامي الثغر لا تحملني قدماي، وأشرت إلى الطبيب قائلا: قم عني، لا عدت لي بعدها. فخرج من عندي الرجل متعثرا. ورأيت بعد ذلك أن أنتقل من الدار التي كانت مأوى أحزاني، فاكتريت بيتا رحبا خالص الهواء حسن المنظر وتحولت مع أهلي إليه. وهنالك جاءني ترجمان الولاية من قبل الوالي يخبرني بأن قد جعل مرتبي خمسة عشر جنيها عثمانيا في الشهر. قلت: لا ضير، سنصبر كرها إذا لم نصبر طوعا.
وقد رأى الترجمان أن يجعل هذه الزورة فاتحة للتجسس، فأخذ يقص علي أنه كان جاسوسا وهو تلميذ بالمدرسة، وأنه تجسس مرارا على عبد الرحمن بك مدير المدرسة السلطانية الكائنة في بيرا، وأن الرجل أحس منه ذلك فطرده، وأنه رفع أمر المدير إلى السلطان مستشفعا بعزت باشا العابد، فصدرت الإرادة بقبوله في المدرسة حتى أكره المدير على ذلك إكراها.
فقلت للرجل وقد فهمت ما يريد: وما يعنيني يا أخي من حديثك هذا؟ إني امرؤ لا أحب الجواسيس ولا أجد لذة في استماع أخبارهم. - أنا لست من الجواسيس الذين يتسلطون على الناس فيؤذونهم من غير داعية إلى ذلك، ثم إني لا أسترق أحاديث أصحابي ولا أخفي عنهم شيئا من أمر تجسسي، ولكنني أوذي من يبادئني بالشر. هذا أمضى سلاح يحمله العاقل. - يا سيدي، ما بينك وبيني سابقة وداد ولا دالة؟ ما لي أنا ومهنتك وعادتك وسلاحك؟ أنا رجل منفي مبغض إلى السلطان وإلى كل مخلص له، دعني وما أنا فيه والتمس لك غيري. فرحل عني الخبيث حاقدا وأضمر لي الانتقام. وبينا أنا في داري ذات يوم وإذا رسول من الوالي يستقدمني إليه، فأجبت مسرعا وأدخلت عليه ساعة وصولي، فتلقاني بوجه لم آنس إليه واستدناني منه وأمر ألا يدخل علينا ثالث، ثم التفت إلي فقال: ألم أقل لك يا فلان إن في البلدة جواسيس وإن رزقهم موصول بقطع أرزاق الناس؟ - بلى، قال سيدي ذلك. - إذن، فما حملك على أن تجلس إلى برويستاكي تحادثه وتقول له: إن لديك جرائد مصرية تريد أن توزعها على الأحرار الذين بسيواس؟ - لم أقل شيئا من ذلك. - أنا أعلم أنك لم تقل؛ لأن المراقبة على البريد شديدة، ولا تستطيع أن تستجلب عددا من جريدة مصرية إلا ويقع في أيدي المراقبين، ثم أعرف أنك معتزل مطالعة الجرائد وأنك رضيت لنفسك العزلة عن الناس دفعا لشرهم واتقاء لمفترياتهم، فسرني ما عرفت من حالك، ولكن ترجمان الولاية كذب عليك هذه الكذبة وقد صادفت أذنا مصدقة، فكتب إلي بعض المقربين يسألنا عنك ويستخبرني عما زعمه الزاعم. وإني سأدفع عنك كل ريب. غير أني لا أضمن لك النجاة كلما وقعت وقعة، فاحذر بني ولا تقبل زيارة أحد من هؤلاء.
فأثنيت على مروءة هذا الأمير بما استطاع لساني وخرجت من عنده وكل روحي معجبة به، وما بلغت المنزل إلا وفي يد والدتي خطاب تقرؤه، وإلى جانبه آخر أشارت بيدها أن خذه إنه لك. فالتقطت الكتاب وإذا هو من عند شقيقي يوسف حمدي يكن، فأخذت في قراءته فما راعني إلا خطوط سود مدت على سطوره فأخفت كلماتها، فحاولت حل تلك الرموز التي نسجت عليها دار البريد نسجها الأسود، فما استطعت مضيا، فعن لي أن أضع الكتاب على لوح من الزجاج من ألواح الكوى ففعلت. غير أني لم أستخرج إلا كلمات كقوله: بعض الباشاوات، وعصابات مكدونيا، وانهزمت العساكر. فعلمت أن شقيقي أراد إخباري بوقائع جرت في الروملي وأن مراقبة البريد استطلعت ذلك فمحته، فأسفت على ما فاتني من العلم بتلك الوقائع ولكنني كتمت تأسفي وأرسلت كتابا ألوم فيه شقيقي على تعرضه لأمور لا حاجة لي بها.
كلمة في الأناضولي
ما اتخذت حوادث الأيام مستقرا لها مثل الأناضولي. عصفت عليها رياح الشدائد، وفيها انتهت إلى السكون. من عهد رمسيس أو قبله، اشتدت فيها همم الفاتحين وتراخت. ما برحتها خيول الفراعنة إلا أقبلت عليها جياد اليونان، ثم تعاقبتها الدول مثل الأرمن والرومان ومن بعدهم إلى أن قادت إليها المقادير بناة الملك العثماني، فانتشروا في أرجائها ولا يزال ملكهم بها قائما.
أرض ذات جبال وأفلاء وكهوف وأحقاف وبحار وأنهار وعيون متفجرات، مترامية الأطراف، لا يبلغ ذرعها ولا يسبر غورها، إحدى حدائق آسيا، تفرد بالغرابة أنسيها ووحشيها، منبت الغالبين والمغلوبين، مرتقى الحضارة ومهوى البداوة، تجاورت فيها شعوب مختلفات عادات وألسنا، فلا كر الزمان ألف بينها ولا طول العشرة استحدث فيها توادا، بل قطعت العصور متغايرة متنافرة حتى بات كل شعب وكأنه عدو لجاره.
لم يفتحوا كنوز الأرض فيستخرجوا دفائنها ولم يستثمروها بحرث ولا بسقي فيؤتوا أرزاقهم منها. غفلوا عما يجب وانطلقوا يأكل بعضهم بعضا أكلا.
وقد كان من حق فاتحيها أن يعلموا أهلها لسانهم وأن يدخلوهم فيما دخلوا فيه، فلا يأتي زماننا إلا وقد استقر كل في قراره، وأصبحنا بعد ذلك وليس بيننا تنابذ بالدين ولا بالأصل. غير أن الأمر لم يكن كذلك، وليتهم إذ لم يدخلوا الإيلاف بين تلك القبائل على ما ذكرت ألفوهم بتعليمهم أو بوصل الأنساب بينهم، فكانت أواصر القربى أشد من الدين واللسان جذابا، ولكنهم ما فطنوا لهذا الرأي، ولو فطنوا له لقام في وجوههم جفاة المتورعين قومة رجل واحد.
فأما وقد سها الماضون عن هذه الدقائق فكان على أعقابهم أن ينظروا فيها ويحكموا السياسة من وجهة أخرى، ولا أرى تدبيرا يفيد بلادنا مثل عدم المركزية. هذا رأي يفزع أكثر الساسة عند سماعه، ولو أطالوا فيه النظر لبدت لهم محاسنه في أحسن الصور.
سبعمائة عام مضت والأناضولي في ذمة العثمانيين، كل دولة قامت ثم وقعت تركت فيها أثرا، والدولة العثمانية وهي لا تزال قائمة لا أثر لها في بلادها، وما ذاك إلا لأن العز بالسيف عز لا بقاء له، ولأن النجدة لا تسد خلة تحتاج الحكمة، والأسلاب والغنائم كسب المعتدي أو كسب الناهب؛ فهي أقل بقاء من الظل، وإنما يغتبط بها من اتخذ ساعده مشاوره ولم يرض صاحبا إلا قائم السيف، وأشهد اليوم أني من أمة فاتحة ذات بأس ونجدة وليست بذات رأي وسياسة.
لقد بلغت الدولة العثمانية في أيام سليمان القانوني أقصى غايات المجد والسؤدد، ولكنه لم يستكف له طماح، ما وقعت نظرته على بلد في الخريطة إلا واشتهتها نفسه. ما حمله على أن يعبئ تلك الفيالق ويسير على أوروبا. قد كان له سيف ماض وكان من حق ذلك السيف عليه أن لا يصدأ في غمده، وكانت له كتائب تموج بصناديد الرجال وكان من حقهم عليه ألا يتعودوا لين المضاجع، فجعل تاجه علمهم وسار بهم يطأ الخدود ويتخطى الرءوس من معقل إلى معقل ومن ساحة قتال إلى ميدان ظفر، يلعب بالتيجان ويستريح في قصور الملوك حتى انثنى وفي كل شعرة من شعرات جسمه قطرة من دم.
فما ضر هذا السلطان الفاتح لو أجهد هماته في إعمار بلاده ورفع المباني في مواضع الأعشاش والخيام، واستنزل أهل الغارات من أعالي جبالهم واستدرج بهم في الحضارة حتى تزول عنهم جاهليتهم ويأنسوا إلى الناس ويستلذوا أطايب الحياة.
هذا مرام يصعب مناله على من تراخت عزائمه. أما أولئك الفاتحون ووراءهم أبطال نجدتهم والعيون ملأى منهم والصدور منطوية على هيبتهم، فلا يعجزهم طلاب ذلك. ولسنا نلومهم على ما قصروا فيه عن البلوغ مبلغ المتمدينين في أيامنا، وإنما نلومهم على أن لم يتأهبوا في زمانهم كمن تأهب من ملوك الغرب، ونذم من كانوا لهم مشاورين وعندهم مقربين من رجال لم يحدثوهم إلا بأحاديث الجنة والنار والحور والولدان، ولم يشيروا عليهم إلا بالجهاد وسبي النساء وجمع الأسلاب، ولم يطربوهم إلا بسير المتقدمين من جبابرة الفرس والعرب والهند واليونان. هزوا المعاطف في كبريائها وعتوها بالمدح الكاذب، وأعانوا على المبالغة في البذخ وعلى الإفراط في التجبر، فظنت الملوك أن الرعية عبدان لهم، وأن أرواح الناس إليهم مرجعها، وأنهم أولى بالعباد منهم بأموالهم وأعراضهم.
وإن من البلية أن تنشأ الذراري على حب الفتك والانتقام. فإذا كانت هدنة أو تمادي سلم بدلوا من صهوات الجياد فرش النوم ومن بيض السيوف مترعة الأكؤس، ومن مجالدة الأبطال مغازلة القيان. وأن تصبح الأمة كلها على ثقة من حوادث الأيام، فتزعم أن لن تبدل حالها وأن لن يخلق الله غالبا لها، وأن تؤلف بين الكأس والدين ولا تؤلف بين العقل والدين.
ولاية آيدين: هي إحدى ولايات الأناضولي، تستخرج في العام الواحد أكثر من الثلاثة ملايين كيلوغرام من القطن. يباع ربعه في البلاد ويرسل باقيه إلى أوروبا، وأكثر من المليون قنطار من العنب الذي لا بذر له والعنب المعروف بالرزاقي والعنب الأسود، ويصنع من الكل الزبيب، ينتفع أهل البلاد بالقليل منه ويحمل جله بعد ذلك إلى أوروبا. ويجني أهل آيدين من التين أكثر من الأربعة ملايين كيلوغرام ومن الزيتون الذي أهمل شجره ولم يلقح ما يربي ثمنه على الثلاثمائة ألف جنيه. هذا والزراعة في تلك البلاد لم يدخلها شيء من مستحدثات الفنون العصرية، ولصوص «الزيبك» تقطع الطرق وتشن الإغارات على القرى، والحكومة لا تحرك ساكنا والمتغلبون يسلبون كل ما وقعت عليه أنظارهم.
وكم بالأناضولي من بلاد كنوزها مقفلة ومفاتيحها بيد الحكومة، لا هي تفتحها ولا تأذن للأمة بفتحها. هذه أركلي يستخرج منها الفحم الحجري ألوفا من القناطير، وفي طرابزون وأرضروم معادن من الفحم والكهرباء الأسود (الكهرمان) لم تعمل فيها يد عامل، وفي كموشخانة وطرابزون وتوقاد من معادن الفضة والرصاص والحديد والنحاس ما لا يحصيه عد، لا تنتفع الدولة ولا أبناؤها إلا بالقليل منها. وفي ولايتي قونية وأنقرة مقادير من الملح الصخري، وفي شواطئ البحر ملاحات جمة لولا مصلحة «الديون العمومية» لاندثرت معالمها وخفيت آثارها.
كان المسافر من منذ عشرين سنة سلفت يخرج في القافلة من قيصرية إلى صامسون، فيقطع في سفره أكثر من الستمائة كيلومتر وهو في كل أوقاته مطأطئ الرأس من كثرة الأغصان. كل تلك الأرض كانت حراجا أنهارها دافقة وظلالها وارفة ووحوشها سارحة وأطيارها متجاوبة. وقد أتيح لي أن أقطع نصف تلك المسافة يوم نفيت، فما ألفيت بين صامسون وسيواس خمسين شجرة في مكان واحد، خلا ما يعترض المسافر من مدخل توقاد وآماسيا وعلى «جاملي بل». أصابت المعاول تلك الجذوع فأمالتها وكان منها وقود للناس وكان منها سقائف لهم. ولم يفكر في غرس عود مكان شجرة اقتلعها. ولن يلبث سكان الكثير من الولايات الباردة مثل سيواس وغيرها أن يفنوا بقر الشتاء فلا يجدون وقودا يحفظون بناره حر الحياة في أجسادهم.
يعز على الحر أن تبيت هذه الأقطار الشاسعة على ما فصلت من الحال، وأن يظل أهلها وهم أكثر من الثمانية مليون وليس بينهم ما يزيد على المائتي ألف نفس ممن يعرفون القراءة والكتابة. وتلك معرفة لا تكشف عن البصر غطاء ولا تبعث في القلب نورا. حفظ الناس أمثالا كقولهم: «القناعة كنز لا يفنى» و«سفينة التوكل لا تغرق»، وقام بينهم رجال يقولون لهم إن الدنيا دار غرور ومستودع باطل ولا عيش إلا عيش الآخرة، وحببوا إليهم التواكل والخمول وبغضوا إليهم محاسن التمدين، فقالوا: هذه من أعمال الكافرين وهم أصحاب الدنيا ولا ينبغي لنا أن نتشبه بهم ولا أن نزاحمهم فيها، وإنهم لحاسدونا غدا في الجنة إذ نأوي إلى نعيمها الخالد ويلقون هم في النار لعذاب خالد. وبذا فترت الهمم وصغرت النفوس وقلت الآمال، فترى جماعات من الناس جالسين إلى أصل جدار أو مستظلين بظل شجرة يتثاءبون، حديثهم كله لغو وهذر، وأنسهم ذكر الغانيات وقصص الغرام، وكل رجل منهم يحمل مسدسا أو خنجرا وليس في بيت أحد منهم كتاب يستفيد منه.
على أن أهل الأناضولي شداد شجعان، أهل ذكاء، يحبون الكرم، وللأضياف عندهم منزلة السادة، والغريب في أرضهم محمي الجانب مشفع لا يشتكي وحدة ولا يعاني هما. وإن خيرهم طباعا وأكثرهم دعة وأجدهم عملا لمن أهل القرى. أولئك يبخلون بالخبز على أنفسهم ويضنون بالوثير من الفرش والغطاء على أبنائهم ويدخرون ذلك كله لضيف طارق، لا يقبلون منه أجرا ولا يسألونه شكرا ولا أحدوثة عند الناس وإنما يصنعون ذلك كرما لا تكرما.
كأن نوب الدهر التي تناوبتهم منذ العصور أبقت فيهم بقية رمق حتى جاء عبد الحميد يستنفد تلك البقية. سل عليهم سيف البغي واستحل منهم كل ما حرمه شرع، ولم يسمع منهم شكاية ولا أنس ضجرة، بل علت من جوانب عرشه أصواتهم بالدعاء وكان منهم الجازرون وكانت منهم الأضاحي.
كانت الحكومة تنفذ الفارس الواحد من فرسان الجاندرمة ليجبي لها المال من القرى فلا ينزل إلا على أبسطهم يدا وأحسنهم حياة، رجل لا يملك إلا بقرة أو بقرتين وليس له من الأرض إلا فدان أو فدانان، فيقول له : أشبع فرسي علفا، واطبخ دجاجات آكل منها ما يشبعني وأتزود منها لسفري، واسقني الخمر حتى أسكر، وابغني مغنيا أو مغنية وانظر هل عندك من المال فضلة فآخذ منها حاجتي، ثم يصبح فيطالب الرجل وأهل القرية بمال الحكومة، فما يدفع له أحدهم إلا استزاده وما يمتنع عليه أحد لخلة تكون أصابته إلا ويطرحه أرضا ويرفع السوط ويضعه من كاهله إلى قدمه، ثم يأخذ فرشه وما ملكت يداه فيبيعه ويخرج من القرية خروج الملك الغالب من المعركة. ولولا اعتقاد في أولئك المساكين بأن عاصي السلطان ملعون من الله والملائكة وأنهم مأمورون بالطاعة له وإن جار؛ لكفت نفخة واحدة من أفواههم يستطيرون بها ذلك الفارس وفرسه، ولولا هذا الجهل المخيم على عقول الأمة ما دام الحكم الحميدي ثلاثة وثلاثين عاما.
لا تزال بلاد الأناضولي إلى يومنا هذا على باهليتها، لم يتغير فيها شيء، وكلما سنحت فرصة وشاءت الحكومة أن تستفيدها بمد خطوط الحديد أو منح امتياز ينمي ثراء البلاد لعبت الجارات المجاورة لعبها، وحالت دون النجح، كما ظلت جارتنا العظيمة تعترض الحكومة في الخط الحديدي بين صامسون وسيواس. كل دولة تدعي لنفسها حقا قبلنا، ونحن لا نعترف بحق لواحدة منها، وربما جاء يوم تقبل فيه الجموع المتغلبة علينا تطأ مقابر الآباء والأجداد وتتخذ منا عبيدا وإماء، فتقول لنا يومئذ: أنتم لا تصلحون لأن تسوسوا بل تصلحون لأن تساسوا. هذه مكاتب أدخلوا فيها أبناءكم طوعا وإلا أدخلناهم كرها، وهاكم آلات الحرث والزرع فاعملوا طائعين قبل أن تعملوا مكرهين. تلك نعم يتصدقون بها علينا بعد أن ينالوا أعز شيء لدينا وهو الاستقلال. لا أحيانا الله إلى مثل تلك الأيام.
أرض تتكنفها القوقاس، وبلاد التركستان والعجم وخليجهم والبحار التي تجري فيها سفائن التجارة والاستعمار وترى منها أوروبا معقلا في شرقها يكاد ينيف على غربها، ويظل الحاكم والمحكوم مستغرقين في نوم لا تعقبه انتباهة ثم يدعوننا بسلام! هذا ما لا يكون أبدا.
جغرافية ولاية سيواس
سيواس هي إحدى الولايات الجسام التي اختطفت في الأناضولي، ينتهي شمالها إلى طرابزون ، وشرقها إلى أرضروم، وجنوبها الشرقي إلى معمورة العزيز، وجنوبها إلى حلب وأدنة، وغربها إلى أنقرة، وغربها الشمالي إلى قسطموني؛ فهي بين الدرجة الثامنة والثلاثين والدقيقة العاشرة وبين الدرجة الحادية والأربعين والدقيقة العشرين من العرض الشمالي، وشكلها شكل مثلث غير مستقيم الخطوط، وتبلغ مساحتها 83700 كيلومتر مربع، وعدد سكانها على ما جاء في إحصاء سنة 1325 هجرية هو كما يأتي:
968786
مسلمون ومنهم الأكراد والمستوطنون من مهاجري القوقاس
141643
أرمن
64501
أروام
3278
كاثوليك وأكثرهم من الأرمن
4336
بروتستانت وأكثرهم من الأرمن
229
يهود
2173
أقباط
1185016
المجموع ستة عشر وخمسة وثمانون ومائة ألف ومليون
فإذا قسم هذا المجموع على مساحة الولاية أصاب كل كيلومتر ثلاثة عشر نفسا، وعدد الذكور 618345 وعدد الإناث 566671. وإني لأتعجب أن يكون عدد الذكور أكثر من عدد الإناث في بلاد مثل بلادنا دائمة الفتن وشديدة الكلف بالتجنيد، وما ذاك إلا من حسن الطالع دام للأمة ابتسامه.
جبال الولاية
أعظم جبال سيواس سلسلتان، إحداهما تبتدئ من أدنة ممتدة من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، فتقطع سيواس من جنوبها الشرقي حتى تنتهي إلى جبال أرضروم، وكان القدماء يسمونها «أنتي طاورس» والأخرى تبتدئ من جبال أرضروم ممتدة غربا بين طرابزون وسيواس، وتسمى «بونت». وأعلى شامخات السلسلة الأولى هو جبل «قرة بل»، فعلو ذروته 3276 مترا. أما سائر الذرى فعلوها بين الألفين وبين الألفين والخمسمائة من الأمتار، وأشهر جبال السلسلة الثانية هو جبل «جاملي بل»، وعلو ذروته 2500 متر، وقد سبق ذكره في سياق الكلام على رحلتي إلى سيواس.
أنهار الولاية
في ولاية سيواس نهران هما أعظم أنهارها؛ اسم الأول «قيزيل إيرماق» ومعناه النهر الأحمر، واسم الثاني «يشيل إيرماق» ومعناه النهر الأخضر. أما «قيزيل إيرماق» فينبع في جبل «قيزيل طاغ» الكائن بقضاء «قوجكيري»، فيجري في جنوب الولاية متجها إلى الغرب الجنوبي منها حتى يدخل ولاية أنقرة، ثم يتدفق إلى الغرب في مجرى كالقوس الكبير فيطوف حدود ولاية قونية وحدود ولاية قسطموني، ثم يعود إلى الشمال الغربي لسيواس فيأخذ مجراه بينها وبين قسطموني وطرابزون، ثم يدخل ولاية طرابزون ويظل بها باقي مجراه إلى أن يختلط بالبحر. وطول «قيزيل إيرماق» ألف كيلومتر، أكثر من نصفها يجري بسيواس. وأما «يشيل إيرماق» فحاصل من تلاقي نهيرين، أحدهما نهير «طوزانلي» ينبع في شمال جبل «كوسة» وطوله 230 كيلومترا، وثانيهما نهير «جيقريق» ينبع في «جاملي بل» وطوله 220 كيلومترا، وإنما يتلاقى النهيران بعد أن يجتازا «قاز أووه»، فيمر «يشيل إيرماق» بمدينة آماسية فيتلاقى بالنهير المسمى «ترس آقان» ثم يقطع «طاش أووه» فيلحق به نهير «كلكيت» فيتدفق حتى ينتهي إلى البحر الأسود مجتازا بولاية طرابزون.
وقد شاءت الحكومة الحميدية أن تطهر «قيزيل إيرماق» وتسير فيه السفن تسهيلا للتجارة، ولكنها استكثرت النفقات فرجعت إلى العجز وسكتت.
الهواء والصحة في الولاية
الأرض في ولاية سيواس كثيرة اختلاف المواضع صعودا وصبوبا وماء وشكلا وحالا. وهذه الاختلافات تستحدث الاختلافات في الصحة، إذ لا يصح أن يكون إقليم مدينة سيواس وهي تعلو عن سطح البحر ثلاثمائة وألف متر مثل إقليم آماسيا، وهي لا تعلو عن سطح البحر إلا أربعمائة متر، وبعد فالولاية كلها جيدة الهواء خلا مواضع قليلة فيها، وتلك المواضع هي ولا ريب خير من ولايتي طرابزون وأدنة، ولولا جهل المستوطنين وإفلاس الحكومة الزائلة وخستها لخلصت البلاد من أمراض كثيرة لازمتها ملازمة المستوطن؛ فإن الحمى التيفوئيدية وحمى التيفوس لا تكفان عن الفتك، وتأتي بعدهما الحمى القرمزية ثم السل وضحاياهما قليلة ولله الحمد. أما داء الحصاة فلا يغادر سيواس أبدا. على أن زيادة المواليد مضطردة عاما فعاما؛ فهي تزداد كل عام نحو العشرة آلاف مولود.
أجل أن هنالك عظائم لا تفلح في مغالبتها المساعي، كتوالي التغيرات الهوائية في أيام الربيع وتمادي المطر أياما كثيرا يقلع ليلا ويغدق نهارا ودوام الوحل والرطوبة في الطرق كلها، ولكن مضار هذه الأشياء لا تذكر إذا قيست إلى ما يتولد من البرك والمستنقعات من الأمراض، وتلك تسهل إزالتها بمال لا تعجز عنه الحكومة لو تكلفته، هذا ودرجة الحرارة لا تتجاوز الثمانية والثلاثين في الشتاء تحت الصفر ولا الثلاثين فوقه في الصيف.
الزراعة في الولاية
ولاية سيواس هي من أكثر ولايات الأناضولي خضبا ومن أجودها تربة وأحسنها مرعى، لا يجد الباحث المجد في جبالها الشامخة وسهولها المنبسطة موضعا لا يصلح للزرع إلا نادرا، وإنما يختلف خصبها باختلاف أرضها، فما ينبت في توقاد وفي آماسية لا ينبت في مدينة سيواس وفي «قرة حصار». تجود تلك الأراضي بما يغرس فيها من أعواد وما يلقى فيها من بذور سوى ما كان خاصا منها بالبلاد الحارة كالتمر، وما كان أليفا بشواطئ البحار كأشجار الليمون والبرتقال والزيتون.
غير أن الزراعة في سيواس مهملة إهمالا، فلا أهلها يعنون بها ولا الحكومة ترغبهم فيها، وكم يرى السائر في أرجائها من أرض خصبة بالنبات البري تركها أصحابها عجزا عن استثمارها، وفن الزراعة عندهم مفقود، وليس في تلك البلاد أثر للآلات التي استحدثها العصر الجديد، ولا بها شيء من معدات النقل يبعثون به ثمرات أرضهم إلى البلاد القاصية.
على أن توقاد وآماسية تجودان من الفاكهة بكل لذيذ طيب، فليس على وجه الأرض تفاح مثل تفاح آماسيا، وعنب توقاد مشهور يخمر نبيذا ويقطر عرقا ويؤكل فلا يستنفد ولا يمل، وكرومها غاية في الحسن والكثرة، ولكنها لم تمتع بيسير ما جاد به الترقي العصري في أسلوبها.
حيوانات الولاية ووحوشها وأطيارها
البقر والغنم والماعز وداجنات الطيور في الولاية كثيرة يقتنيها الموسر والمعسر، اشتريت فيها بقرة حلوبا ومعها عجلها بثلاثمائة قرش، وفي ذلك دليل على الكثرة والابتذال، والدجاجات والحمامات الداجنة والبرية لا يحصيها العد. لقد كنا نبتاع الزوجين من الحمام البري بقرش واحد، وكذلك الحجل. أما الدراج فكنا نذهب لصيده ونجهد في طلبه والبط والإوز وسائر أجناس الطير أكثر من أن يعد، هذا مع تهافت الناس على الصيد في غير أوانه ومع كثرة الطيور الخاطفة كالعقبان والصقور، وجبال الولاية كثيرة الأرانب والثعالب والذئاب، وإنما تكثر ذئابها في الشتاء فهي تطوف جماعات فيشتد فتكها ويعم ضررها، وفي حراج العزيزية ونيكسار من الدب والوعل والخنزير البري ما لا يجهد قناصا. ولأهل الولاية سيواس كلف شديد باقتناء الخيل وأكثرها من الجنس القوقاسي، وأشدهم عناية بها وكلفا هم المهاجرون من القوقاس (الجراكسة)، ففي قضاء العزيزية وحده من الخيل نحو الثلاثين ألف رأس. وهذه الخيل أصلب من خيول العرب قوائم وأحمل ظهورا وأكثر صبرا على السير والجري، ولكن الخيول العربية أحسن منها أشكالا وأكرم أحسابا وأسرع ركضا وأسلس قيادا وألين متونا، وقل في الجركس رجل لا يملك جوادا أو جوادين. وقد يجد فرسان الجيش العثماني في سيواس حاجتهم من الخيل غير أنهم يجدون تربيتها صعبة المرام.
التجارة والصناعة في الولاية
لو كانت ولاية سيواس متمتعة بما تتمتع به بلاد الله من أسباب العمران لأفادت الدولة واستفادت؛ فإن أهلها ولا سيما الأرمن، منهم أهل جد واجتهاد لا يعرفون الملل ولا يعجزهم شيء، وإنهم مع ما بلوا به من الحرمان من الآلات والأدوات يصنعون لأنفسهم ما يكون لهم معوانا على الاستمرار في صناعتهم. عرفت صانعا من مهرة صناعها اسمه الحاج أوسكيهان، كان يصنع بنادق المارتيني والمسدسات فتفوق ما تصنعه مصانع أوروبا، ضربت الحكومة الحميدية على يده وقالت: أنت أرمني وربما أعتت قومك وأعددت لهم عدتهم من السلاح، فكف الرجل عن البنادق والمسدسات، وأخذ يصنع الأقفال والكوانين وغيرها، ثم اتهمته الحكومة بضرب النقود الزائفة فصادرت آلاته وأدواته وتركته يطلب قوته فلا يجده، فلما أعيته الحال فر مهاجرا إلى أمريكا، وبلغني بعد ذلك أنه بات يلعب فيها بالذهب، وعرفت صانعا آخر اسمه نورادنجيان، كان لا يحتاج آلة من الآلات إلا صنعها بنفسه، وله من المصنوعات ما يتباهى به كل محب للوطن، ولأهل سيواس مهارة تذهل عندها الألباب في صنع الخناجر والمطاوي؛ فقد فاقوا في ذلك على صناع شفيلد، غير أن مطاوي سيواس لا تشبه مطاوي شفيلد حسنا ولا شكلا. أما الخناجر الجركسية فليس في صناع الأقطار من ينافسهم فيها.
كذلك النجارة؛ فلقد اقتنيت من نفائس مصنوعات القوم ما لم أر خيرا منه، ولو تهيأ لي استحضار بعضه لفعلت، ولو رأى القارئ الكريم مهارة الصياغ فيما يصوغون من الحلي ذهبا وفضة لتناهى في تعجبه، كل ذلك يبدعونه ويجيدونه بلا آلة تذكر سوى ما لا تخلو منه كف حداد شرقي من مبرد ومحفر وما ماثلهما.
ومن جيد الصناعة السيواسية نسج الحرير. غير أنهم لا يبدعون في أجزاعه وأنماطه، أما النسيج فحسن دقيق وأما الألوان فكثيرة زاهية، فلا تروج في أسواق الغرب، وأهل أماسية وتوقاد متفردون بصناعة نسج الحرير.
أما الطنافس والسجادات فقد فاقت ما يصنع منها في بلاد الفرس جودة ورونقا، وقلت نسوة هنالك لا تحكمن نسج السجادات، هذه صناعة لا تكاد تجهلها فتاة سيواسية ولا يكاد يخلو منها بيت في سيواس، ولتلك المنسوجات منزلة في البلاد الغربية لا تسمو إليها بضاعة من بضاعات الشرق بأسره، ويبلغ عدد المصانع التي تصنع السجادات والطنافس في مدينة سيواس وضواحيها أكثر من العشرة آلاف مصنع، لا يعمل فيها إلا النساء والبنات. وقد تجد نساء القرى في هذه الصناعة تسلية إذا اشتدت أيام الشتاء وطالت البطالات. والطنافس في جودتها وبهائها درجات، فالطنافس المسماة «رشوان» هي المتفردة بمنتهى الرونق، لا ينصل لها صبغ ولا يتغلب عليها القدم، ومثلها الطنافس المنسوجة بقضاء العزيزية وتسمى صارز وإفشار، ودون هذه الأستار الكردية وتنسج بقرية «قرانلق» التابعة لقضاء «قانغال» وفي قرية «إيوالي درة» التابعة لقضاء «دارندة»، ودونها الطنافس المسماة «إيلبكلو»؛ فهي وإن أشبهت نوع «رشوان» إحكاما ولكنها لا تماثلها حسنا، وهي تصنع في ناحية «إيلبكلو» ثم تأتي الطنافس المعروفة بالمشبك وتنسج في أكثر القرى التابعة «لقانغال» و«يلديز إيلي» وغيرهما.
وتبقى هذه الطنافس الأخيرة منها أكثر من الخمسين عاما، تطؤها الأقدام وتستعمل في الخلوات على التراب وغيرها وهي لا تزداد إلا جدة، وكلما تقادم عهدها كثرت قيمتها.
وسجادات سيواس هي من بدائع الصنعة في هذا العصر، عرف ذلك الأجانب وأدركوا رجحانها على سجادات الفرس، فأغلوا أثمانها وتنافسوا في اقتنائها وتسابقوا إلى الإكثار منها، وفي سيواس مصنع اليوتي الشهير وهو شركة بين المسيو آلبراليوتي والمسيو بيكر والمسيو داندريا، وتختلف قيمة ما يصنع من السجادات من عشرة إلى خمسين جنيها ثمنا للسجادة الواحدة.
ولا تقف المنسوجات السيواسية عند هذا القدر، بل هناك أنواع أخر من الصوف والكتان والقطن ، ينالها الفقير ويعجب بها الغني ويتخذها المسافر تحفة وتهاداها الأحباب فيما بينهم، ويوم تمد خطوط الحديد بين سيواس وصامسون يسعد أهلها ويكثر رزقهم وتتجدد فيهم العزائم.
المعارف في الولاية
إذا لم تكن سيواس أكثر ولايات الأناضولي جهالا فهي من أكثرها جهالا؛ ذلك بأن المسلمين طبعوا على حب قديمهم فلا يريدون الجديد منه بديلا، ولا تزال في خزانات بعض المتعصبين كتب طوت معارف هذا العصر لغوها، وينظر أولئك القوم إلى ما كلف به شباب هذا العصر من المعارف، فلا يجدون فيها لذة ويكرهون تداولها بينهم. هذا شأن من في بيوتهم كتب يقرءونها، فما ظنك بمن ليس في بيوتهم إلا المسدسات ولا البنادق! أما المسيحيون فهم فريقان: قليل من الروم وكثير من الأرمن، ففريق الروم لا يفوق المسلمين في حال من الأحوال، ولا مشابهة بينهم وبين من عرفت من روم الآستانة وإزمير وغيرهما، وقل فيهم الغني ومن له جاه أو منزلة تميزه عن غيره. وفريق الأرمن بمثابة من العلم والصناعة والتجارة لا يساميهم فيها أحد ولهم السبق في كل مضمار، ولولا ما دهمتهم به المذابح من نهب أموالهم وقتل سراتهم لبلغوا شأوا تقصر عنه الهمم.
والأرمن قوم أولو جد ونشاط، كلفون بالعلوم لا يستكف لهم شوق ولا تفل لهم عزيمة؛ فهم يتسابقون إلى مدارس اليسوعيين والبروتستانت وإلى مدارسهم الأهلية فيصيبون منها الحظ الأوفر، والمسلمون يصدون عن سبيل تلك المدارس خوفا أن تفسد على أبنائهم دينهم. وإذا خالفهم في رأيهم مخالف لجوا في الوقيعة به وأطالوا اجتنابه. وكم يرى نزيل سيواس في أهل الحرف وأبناء التجار من سكانها الأرمن شبانا إذا تكلموا بالفرنساوية أو بالإنكليزية ما شك أنهم تعلموها في مدارس أوروبا. وليس في أبناء الوجهاء من المسلمين خمسة يكتبون التركية ويؤدونها صحيحة. وليس في مدينة سيواس سوى مدرسة إعدادية واحدة وهي كأحسن ما رأيت من البنايات وأوسعها، وحظها من العلم كحظ الصخرة الصماء من النبت، والكتب التي تقرأ في هذه المدرسة كتب مهجورة لا يعرفها أكثر فضلاء هذا العصر، مثل كتاب المشذب في قواعد اللغة العربية، كل تصريف فعل نصر، فترى صحائفه حواشي وأنماطا بنصر ينصر نصر منصورا منتصرا مستنصرا منصرا متناصرا. واللغات الغربية لا يحسنها الأساتذة والعناية بعلوم الدين بالغة منتهاها.
سألت بعض المتقدمين من تلامذة تلك المدرسة أسئلة فيما يعاني من الفنون فبدا عليه العجز وبهت لا يجد جوابا، ثم سألته عن أركان الصلاة والصوم فانطلق انطلاق الصقر من وكره، فأخذ مني التعجب، فقلت: ما بالك تحسن الجواب في هذه القواعد وإذا بلغت إلى غيرها غلب عليك الوجوم؟ فقال: هذه من أمور الدين، لا يكون المسلم مسلما إلا بمعرفتها، أما تلك فليست من الدين في شيء. فاستشعرت في فؤادي حسرات على تلك الشبيبة وقلت: لقد بلغ بكم السفهاء مبلغا لا يرجى بعده خيركم. وأيقنت أن للبلاد العثمانية أياما باقية من الشقاء لا بد لها أن تستوفيها.
وفي سيواس جوامع عتيقة بها معاهد للعلم يسمونها مدارس، وهم يسمون المدارس مكاتب، وقد نحوت نحوهم في كثير من مواضع هذا الكتاب، وإنما يجاور في تلك الجوامع أناس من أهل البطالة فرارا من الجندية واكتفاء من الرزق بما لا يتجشم له تعب. فإذا أفلح في علومهم أحدهم رأى في نفسه مفرد العلم وخرج في طلب الوظائف أو جلس في المساجد يعظ الناس ويضل عقولهم ويميت نفوسهم بالتعصب. ولا يطهر الله البلاد العثمانية من هؤلاء القوم إلا بعد سنين عديدة أقلها عصر وأكثرها عصران.
ومن تمام البلية أن نظارة المعارف تتخذ أساتذة مدارسها من رجال تشفع فيهم القرابات والوصايات وما يهبون لبعض رجالها من المال، فلا تختار ولا تمتحن. والتلامذة يذهبون إلى مدارسهم ومعهم الأسلحة من مسدسات وخناجر ينازل بعضهم بها بعضا. وقد يكمنون في الطريق لمن يشدد عليهم العقاب من الأساتذة ولمن يخافونه عند الامتحان، فيخرجون عليه متوعدين ولا يفارقونه إلا إذا حلف لهم الأيمان المغلظة أن يراعي جانبهم. وهذه معايب ما أظن أن لها أشباها في سائر أقطار الأرض.
آثار القدماء في سيواس
سيواس هي إحدى المدن التي كرت عليها العصور الخوالي وتعاقبت فيها الدول المختلفات، كل دولة قامت فيها أو أقبلت عليها خلفت لنفسها آثارا، فلما أتت دولتنا أخذت تمحو آثار سابقاتها غير مستحدثة شيئا تبقيه للأجيال المنتظرة، قام آباؤنا وأسيافهم وأعنة خيلهم بأيديهم يثلون العروش ويقلبون الممالك، فما ورثونا مما يورث الآباء أبناءهم إلا أخبار وقائع خفقت بالنصر راياتها. وهذه مفاخرنا التي نساجل بها أمم الأرض.
ولقد مرت بسيواس حوادث من الأيام، فأقوت معالمها ودرست آياتها. تلك إغارات المتغلبين من أمم الأرض ما زالت تأتكل حتى أكلها الأبد.
وكان من حق سيواس أن يبقى بين أنقاضها بعض النفائس من الدمى والحجارة المنقوشة والأدوات والآلات وما استعان به أهلها الأولون على مصانعة الحياة. ولكنها اليوم صفر من ذاك كله، وربما عثر المحتفرون في الأرض وقطاع الصخور على تماثيل صغار من الرخام أو النحاس، فيكسرونها ويفنونها؛ زعما منهم أن تلك النفائس آلهة الكافرين عبدوها من دون الله، فهم يحطمونها انتقاما منها إذ لم يتمكنوا أن ينتقموا من أربابها. وهنالك بقايا أطلال من أيام الرومانيين مثل الجسر الروماني الكائن على مسيرة ساعة ونصف من شمالي سيواس الشرقي، وكالقبة التي في خارج المدينة على طريق صامسون، وأنا أحسبها بنيت بعد السيد المسيح عليه السلام، ومثلها الكنيسة المسماة «خوي كسان» وهي تبعد نحو الأربعة أميال عن تلك القبة. هذه آثار لم أهتد إلى تاريخ أعول عليه في نقل أخبارها، شاهدتها مرارا في إقوائها ودثورها، فطأطأت الرأس عندها إجلالا وأنشدت ما قال صريع الغواني:
هاجت وساوسه برومة دور
دثر عفون كأنهن سطور
ولو كانت هذه الآثار في غير بلادنا لجدد دارسها ولأعيد لها رونقها. غير أننا رجال حرب ولسنا رجال عمران. ولما نظرت إلى المساجد والجوامع رأيتها أقل خرابا وأبقى على حدثان الدهر، فعلمت أن الذين عنوا بها جعلوا عنايتهم للدين دون التاريخ، وها أنا ذاكر هنا بعض ما عرفت من أمر تلك المعاهد.
المدرسة الشفائية
أنشأها كيكاوس الأول بن كيخسرو أحد الملوك السلاجقة. وقد جعلها مستشفى ومدرسة طبية، كما تدل عليه النقوش والكتابات التاريخية التي على بابها. والمدرسة بناء مستطيل الشكل في وسطه رحبة واسعة، قامت على جوانبها عمد من الصفاح تعلوها حنايا من الرخام المزين بأنواع النقوش جعلت تحتها الحجرات. وقد نقش على باب المدرسة هذا الكلام بالعربية: «أمر بعمارة هذه الدار الصحية السلطان ظل الله في العالم، أدام الله أيامه، عز الدنيا والدين، ركن الإسلام والمسلمين، سلطان البر والبحر، تاج آل سلجق، أبو الفتح كيكاوس بن كيخسرو برهان أمير المؤمنين، في تاريخ سنة أربع عشرة وستمائة.» وفي أعالي تلك العمد وأسافلها نقوش كأبدع ما رأته العيون، وعلى أبواب الحجرات نقوش وكتابات بأحرف بارزة تتضمن آيات قرآنية وأحاديث نبوية، وفي إحدى تلك الحجرات ضريح كيكاوس بن كيخسرو باني المدرسة، قبتها ذات شكل مخروط يعلوها شيء كثير من النقوش الصينية والكتابات الكوفية، وعلى باب الضريح لوح من قطع الآجر طوله خمسة أمتار وتسعون سنتيمترا وعرضه خمسة وأربعون سنتيمترا، نقش عليه الكلام الآتي بالفسيفساء:
المدرسة المسماة شفائية. «لقد أخرجنا من سعة القصور إلى ضيق القبور، يا حسرتاه! ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه. تحقق الانتقال، وتبين الرحال، عن كل ما أوشك الزوال، في الرابع من شهر شوال، سنة سبع عشرة وستمائة.»
المدرسة الشفائية.
وبين هذا اللوح وأعلى الباب موضع فيه كثير من النقوش البارزة من الصفاح والفسيفساء، وعلى الجدار هذه الآية مكتوبة بالخط الكوفي:
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
صدق الله. وكتبت فوق الباب أيضا في أقرب المواضع منه: «إنا لله وإنا إليه راجعون.»
ثم إن على جهتي باب الضريح نافذتين كتب فوق اليمنى منهما: «عمل أستاذ أحمد ...» وهو لا شك اسم الصانع الماهر الذي حلت يمينه ذاك البناء بتلك البدائع.
وفي داخل حجرة الضريح أضرحة أحدها ضريح كيكاوس والأخر لا يعلم من فيها، ولعلهم من أهل بيته. وعلى صناديق تلك الأضرحة بقايا نقوش من الفسيفساء تدل على أنها كانت مزينة بها. ومن يدري أية يد مدت إلى هذه النفائس فاستلبتها. ولقد ذهب جماعة إلى أن بأحد تلك الأضرحة جسد الأمير أرطغرل بك ابن السلطان ييلديرم بايزيد خان، ولكن ليس هنالك ما يؤيد ذلك.
هذه المدرسة التي كان صاحبها اتخذها كلية للطب ومستشفى للمرضى حل بها البلاء من تيمورلنك. وقد استحفظ ما بقي منها على ما وصفت ملوك آل عثمان وجعلوها معهدا للعلوم الدينية من منذ عام 1182، وبها اليوم من الطلاب أكثر من الخمسمائة، ولها أوقاف في القرى والمزارع المجاورة لها ينفق عليها من ريعها.
مدرسة جفتة منارة
مدخل جامع جفته مناره.
مدرسة جفته مناره.
أي مدرسة المنارتين. هي أمام المدرسة الشفائية. وقد دلت حالتها والنقوش التي بقي قليلها على بابها وجدرانها أنها كانت أعظم من المدرسة الشفائية؛ فإن ما عليها من التجزيع والتزيين تحار فيه العقول، ما شئت من رونق وما شئت من محاسن. لقد رأيت من جمال ما خلف القدماء كل رائع وكل باهر، فما أجد في كل ما مر بي شيئا أقرنه إلى هذه المعجزات الصناعية. شيد جانبا الباب في هذا الموضع بالآجر المرصوص أحسن رص، وتخلل ما بين كل آجرة وأخرى تطعيم بالصيني وبالفسيفساء، وكذلك المنارتان القائمتان على جانبي الباب وصار اسمهما علما للمدرسة.
يروى أن هذه المدرسة أنشئت لتكون منتجعا لطلب رواية الحديث. وقد زين بابها بالزينة العربية وكتب عليه الآيات القرآنية والأحاديث بالخط الكوفي، وكتب معها هذا الكلام: «أمر بعمارة هذه المدرسة الصاحب الأعظم ملك الملوك الوزراء في العالم شمس الدنيا والدين محمد بن محمد بن محمد صاحب الديوان خلد الله دولته، في سنة سبعين وستمائة.» ويؤخذ منه أن باني المدرسة هو أحد وزراء الدولة السلجوقية.
فإذا نظر المرء من الباب إلى داخل البناء رأى ميدانا واسعا فيه آثار غرف ودار رواية الحديث، آثار كان بعضها باقيا إلى أوائل زمان عبد الحميد الثاني، ثم عفت فيما عفى في عهده، وكانت نظارة المعارف بدأت في إنشاء مدرسة للصناعة بموضع من هذا الميدان، ولكنها عدلت عن افتتاحه لأسباب لا يعلمها إلا الله وبقي ما أنشأته خاويا على عروشه إلى أيامنا.
المدرسة البروجية
مدرسة البروجية أو المقصودية .
وهذه تقرب من موضع المدرستين السابقتين، وبابها مزين أحسن زينة ومحلى بأجمل نقش، وعلى حيطانها آيات وأحاديث كتبت بماء الذهب ولم يتغير من بهجتها وروائها شيء إلى اليوم. وفي داخل المدرسة ميدان رحب قامت على جوانبه العمد الحجرية تعلوها آطار متسلسلة، يتخلل تلك الآطار مواضع الحجرات، والعمد كلها منقوشة بالآيات والأحاديث.
أنشأ هذه المدرسة مظفر الدين الغازي، وضريحه على يسار الداخل من الباب، وعلى الضريح بقايا نقوش بالصيني وبالفسيفساء تدل على أنه كان ملبسا بها. وهذه المدرسة هي مما أصابته معاول تيمورلنك. وقد كتب على الجدار القائم قبالة الداخل هذا الكلام: «بنى هذه المدرسة المباركة في أيام السلطان الأعظم غياث الدين وأبو الفتح كيخسرو بن قليج أرسلان خلد الله ملكه؛ العبد الضعيف المحتاج إلى رحمة ربه الغفور المظفر ... غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين في شهور سنة سبعين وستمائة.»
هذا ويرى الداخل إلى البناء دهليزا صغيرا ينتهي إلى رحبة هي في وسطه كما تقدم، وفوق الدهليز قبة صفت بالحجارة ثلاثة صفوف حلزونية على شكل هندسي يبهر الأنظار.
كوك مدرسة
مدرسة «كوك مدرسة».
ولعل المراد بلفظة كوك السماء. وهي أشد البنايات العتيقة بقاء على غير الأيام ونوائب الحدثان. نقوشها ليست أدق من نقوش «جفتة منارة» ولا تقاربها رونقا ولكنها أكثر جدة. على بابها منارتان كذلك كالتي قبلها. منقوش من أعلى بابها: «عمر في أيام دولة السلطان الأعظم شاهنشاه المعظم غياث الدنيا والدين كيخسرو بن قليج أرسلان خلد الله دولته.» ونقش تحته: «أمر بعمارة هذه المدرسة المباركة في أيام دولة السلطان الأعظم شاهنشاه المعظم غياث الدنيا والدين كيخسرو بن قليج أرسلان خلد الله دولته؛ الصاحب الأعظم الدستور المعظم أبو الخيرات والحسنات فخر الدولة والدين علي بن الحسين، أحسن الله عاقبته، في غرة محرم سنة سبعين وستمائة.» ونقش تحته «عمل أستاذ كالويان القونوي». ويدخل إلى المدرسة بدهليز تعلوه قبة بديع شكلها، ثم يتجاوز الداخل ذلك إلى رحبة البناء، فيرى الجامع على يمينه وكل حيطانه منقوشة أحسن نقش، ومحراب الجامع غاية في البهاء، والخطوط التي على الجدران مكتوبة كلها بالخط الكوفي.
إن هذه المدرسة أصغر من أخواتها ولكنها أحفظ لجدتها، وكأن معاول تيمور نبت عنها فلم تحدث بها ضررا بالغا. وهي اليوم أعظم بنايات سيواس عمرانا.
كوجك منارة
أي المنارة الصغرى، هذا اسم شائع بين العامة لضريح عظيم هو من بقايا آثار السلجوقيين على ما يظن أكثر الناس، صلب منيف، ترتفع قبته عن الأرض ستة عشر مترا، ليس عليه من النقوش والزينة ما يملأ العين، ولكنه محكم يدل ظاهره على جودة في الصناعة. ويروى أن المدفون هنالك هو من الرجال أولي الجاه والسلطان وأنه نسل إحدى بنات السلجوقيين واسمه «الشيخ حسن بك». ولقد كتب على الضريح: «وفات مرحوم مغفور، سلطان شنكوفه شجره سعادت روضه مملكت شيخ حسن بك نور الله.» ولم يتسن لأحد تحرير تاريخ الرجل.
هذه آثار استصحبت تصاويرها معي حين غادرت سيواس، واستخرجت بيانها من التقويم الرسمي الذي وضع في ولاية الأمير الحر رشيد عاكف باشا ابن المرحوم عاكف باشا الشهير. وهنالك آثار جمة كالحصون التي على جبال آماسيا وتوقاد ونيكسار وغيرها، صمتت عنها كتب التاريخ، فلم أتمكن من ذكر شيء تكون فيه فائدة لقارئ هذا الكتاب.
واردات ولاية سيواس ونفقاتها في سنة 1323 مالية.
واردات
نفقات
غرش
نوع
باره
غرش
نوع
7435468
الويركو
2629905
داخلية
1021823
التمتع
2884537
مالية
7571053
البدل العسكري
20
4077878
ذاتية
7226590
الأغنام
5046078
شرعية
21253993
الأعشار
11084249
عدلية
36819
الأملاك الأميرية
2072450
الويركو
303781
رسوم متنوعة
3153284
الجاندرمة
367005
الحراج والأخشاب
588437
البوليس
10893
المعادن
2342260
أسهم
798551
عوائد الطابو
75777
الحراج
405701
مصاريف المحاكم
980963
حاصلات متفرقة
117009
المعارف
54912
توقيفات الرواتب
47584561
المجموع
20
33954855
المجموع
يتبين للقارئ الكريم إذا قابل واردات الولاية بنفقاتها أن النفقات تزيد على الواردات 13629705 غرش ونصف. وليس للمعارف في هذا القدر كله غرش واحد. هذا والدولة في أقاصي الحاجة، ووالي سيواس إذ ذاك رجل حازم شهم هو رشيد باشا عاكف؛ فقد وقف للسارقين والمختلسين بالمرصاد، فما وقع امرؤ منهم في يده إلا أحل به العقاب الشديد، وكان لا يستثني في ذلك أحب الناس إليه؛ فلو نما إليه يوما أن وحيده اختلس درهما واحدا لما صده عن عقابه إشفاق ولا أخذته عليه رحمة.
وكان رشيد باشا في أوائل أيامه قد استوثق من حكومة الآستانة ألا يضطر إلى التضييق على موظفي الولاية في صرف رواتبهم، وقال إن الموظف لا رزق له إلا ما يتقاضاه من أجر عمله. فإذا انقطع عنه هذا الرزق بقي حائرا بين أن يفتضح وعياله أو أن يمد يده إلى أموال الحكومة. وأعلم رجال عبد الحميد أنه لا يستطيع أن يسوس ولاية سيواس إذا لم يتقاض الموظفون أجورهم في أوقاتها. فأجيب إلى طلبه شهورا، ثم وضع عزت العابد طريقة المركزية. وهي ألا تصرف الرواتب لأصحابها إلا بإذن يأتي إلى كل ولاية من نظارة المالية، فأطال رشيد باشا شكايته ورفع إلى المابين استقالته، فلم يجد ذلك نفعا، وكانت الرسائل البرقية تأتي من الآستانة طالبة إرسال المال بمئات الألوف من القروش، فلا يجتمع في خزينة الولاية مقدار من المال إلا ويسلم إلى البنك العثماني فيحول من ساعته إلى المالية. وقد خالف دفترداران في بعض الولايات أمر المالية وصرفا رواتب شهر واحد للموظفين، فعزلا لشقوتهما وحكم عليهما بألا يوظفا في الحكومة ما عاشا، فأوقع هذا الحكم في قلب كل دفتردار رعبا لا مزيد عليه.
ولقد رأت عيناي مشاهد كلما ذكرتها وجدت لها وجدا عظيما. كنت إذا جاء آخر الشهر أذهب إلى الدفتردار مطالبا بمرتبي، وكان الدفتردار صديقا لي، فأجلس على كرسي أمامه وأظل أرى أفواج الداخلين والخارجين وهم يمرون بيني وبينه، بأيديهم صكوك تضاعفت متونها وحواشيها أرقاما وتواقيع حتى أصبحت كالتمائم، يتقدم الرجل من الجماعة محتشما متخضعا، فيحيي الدفتردار تحية العبد لسيده ويضع صكه على المكتبة التي أمام الدفتردار، فلا يلبث أن ينبذ للرجل صكه ويصيح في وجهه: لم يأتني إذن المالية بصرف غرش واحد. وقد أنفذنا طلبا ثانيا بالإذن، ومتى جاء الجواب بالقبول تأخذون رواتبكم. - ومتى يأتي الإذن من المالية؟ - ذلك علمه عند الله. - نحن يا سيدي مضيقون، ديوننا كثيرة ونفقاتنا جمة. وقد مضى علينا ثلاثة أشهر لم نأخذ فيها درهما واحدا من رواتبنا. - إن لغيركم أربعة أشهر وخمسة أشهر ، وهم بعد ذلك صابرون. احمدوا الله على ما أنعم به عليكم. إن الموظفين في الولايات الأخرى لهم من الرواتب المتأخرة سبعة أشهر وثمانية أشهر، فأنتم اليوم أحسن منهم حالا.
وقد ينتهي الجدال بهذا القدر. وقد يتعداه إلى الوعيد والشتم من الدفتردار والمطالب، فيتبادر الحجاب والجاندرمة، فيقودون المسكين إلى الباب، وهنالك جموع من الرجال والنساء والأيتام يتصايحون ويتباكون، لا يثنيهم نصح ولا يخوفهم وعيد، وكان رشيد باشا أمر بإيثار هؤلاء وتقديمهم على غيرهم إذا جاء الإذن بصرف الرواتب. ولكم ازدحم فريق من الضباط عند باب الدفتردار فغلق دونهم، ثم دفعوه ودخلوا عليه يريدون ضربه. وعهدي به في إبانات تلك الشدائد يترك غرفته ويجلس في غرفة غيرها لا يظن أحد أنه فيها، ولا يدل على مكانه يومئذ إلا كل من يعرفون له إيثارا عند الرجل.
ومن غريب ما وقع لي مع هذا الرجل أني قصدت غرفته في أشد أيامي إملاقا، وكانت تأخرت لي عنده رواتب ثلاثة أشهر، فرأيت إلى جانبه جماعة من كبار الموظفين يدخنون سجايرهم سكوتا، يراقب بعضهم بعضا، فلما بصروا بي تناولتني أعينهم، فسلمت وجلست ناحية أنتظر تفرغا منه، فكلمه أحد الحاضرين في راتبه، فتبسم في وجهه الدفتردار والتفت إلي وهو يقول: البك في أشد ما يعتاد المرء من الضيق. ولقد يأتيني فيرى ما أنا فيه من الكرب فلا تطيب نفسه إلى مخاطبتي في أمر راتبه، وها هو ذا أمامك، أرأيته نطق بحرف؟ لوددت أن يكون معي كذلك كل أصدقائي.
فلما سمعت كلام الرجل أشرت إشارة الموافق على مضض، ثم أقمت دقائق قليلة ودعته بعدها وخرجت من عنده وأنا أتعجب من لطف حيلته في إعجازي عن المطالبة. وإنما ذكرت هذه الأشياء بيانا لما كان يأكله عبد الحميد وأعوانه من مال الأمة والأمة في أشد الحاجة إليه. وأرى أن إصلاح المالية العثمانية لا يتهيأ لنا إلا بعد زمان مديد وذلك على يد أهل العلم بالاقتصاد من الأوروبيين. هذه النقائص التي استمرت طوال الأعوام لا تغالب إلا بكد ينفد فيه الصبر وتنحل فيه العزائم. ولو التفتت الحكومة الزائلة إلى حال البلاد وتبينت وجوه الفائدة لوجدت منها كنوزا تغني أمم الأرض، ولكنها عاشت تجني ولم تغرس أبدا.
تلخيص الخلاصة في تاريخ سيواس
نويت أن أتجاوز الكلام في هذا الباب إلى غيره، وأشرت إلى ذلك في أحد الفصول المتقدمة، ولكنني كرهت أن أخرج من كتابي تاركا فيه نقصا لا يعذرني عليه من يقتنيه. وها أنا أجرب سجيتي في إجادة ما أعنى به. إن لدي مظان جمة أرجع إليها في استقراء الأخبار. وبدء تاريخ سيواس لا يختلف عن غيره. إن عليه مسحة من الشك لا يزيلها يقين. وإني لأحاول أن أجعل منقولي أقرب إلى اليقين منه إلى الشك.
إن ولاية سيواس جانب من شمالي مملكة «قبادوكيا
Cappadocia
أو
Cappadoce » اسمها القديم «قابيرة
Cabira » ولعله «كبيرة» ثم سميت «سباست
Sébaste » في أيام الرومانيين، ومنه اسمها الحالي سيواس. ذكر «أسترابون» المؤرخ المولود في مدينة «آماسيا» أن سيواس كانت في أيامه عاصمة «قبادوكيا»، وروى غيره أن «مهرداد الثاني
Mithridate II » لما فتح «قبادوكيا» أنشأ لنفسه قصرا في سيواس، وزعم بعض الرواة أن «بمبيوس
Trogue Pompée
أو
Trogus Pomeius » القائد الروماني الشهير لما هزم مهرداد وقضى عليه بالانتحار بدل اسم سيواس فسماها «ديوسبوليس
Diospolis »، ولم أجد ما يؤيد ذلك في كتب الثقات.
ثم تنقلت سيواس في أيدي الفاتحين من الرومانيين واليونانيين والفرس. تمادى تنقلها على الدول من أوائل العصر الخامس قبل الميلاد إلى أوائل العصر العاشر بعد الميلاد. اختارها «نيرون
Néron » وتملكها «يوستنيانوس
Justinien »، واستقرت في حكم طائفة من بقايا اليونانيين إلى أن ظهر الغازي أحمد دانشمند بن علي بن نصر في أيام الخليفة العباسي القائم بأمر الله عام 1041 ميلادي، فاستأذنه في فتح بلاد الروم أي الأناضولي على شريطة أن يحكم هو كل أرض يفتحها، ففتح سيواس واتخذها عاصمة ملكه وأسس فيها الدولة الدانشمندية، وذلك في عام 1043 بعد الميلاد.
ولم أر في خطط سيواس ما يدل على أنها «سباست» القديمة عينها، ولا أظن أن المدينة الجديدة خطت مكان القديمة، فليس بها من الأطلال والرسوم ما يخبر عن القدم. وأكثر الناس يذهبون إلى أن مدينة «سباست» كانت على مسيرة ثلاث ساعات من شرقي سيواس على شط نهرها المشهور المسمى «قيزيل إيرمق». وهذا القول يكاد أن يكون صحيحا.
وقد دامت الدولة الدانشمندية عصرا، وملوكها ستة، هذه أسماؤهم: (1)
الغازي أحمد دانشمند بن علي بن نصر (فاتح سيواس). (2)
الغازي محمد بن دانشمند. (3)
أبو المظفر نظام الدين بن محمد المعروف بباغي بصان. (4)
الغازي جمال الدين بن نظام الدين. (5)
إبراهيم بن محمد بن دانشمند. (6)
أبو الفداء إسماعيل بن إبراهيم.
ولما ولي الملك أبو الفداء إسماعيل أقبل عليه عز الدين قليج أرسلان الثاني بن مسعود؛ وهو الخامس من ملوك الدولة السلجوقية الرومية، فغزاه وأخذ منه سيواس. ويروى أنه جعلها عاصمة ملكه.
وكان عز الدين قليج أرسلان ولى أبناءه العشر كلا على بلد، فجعل ابنه قطب الدين على سيواس، ثم استقل بالدولة السلجوقية كيخسرو وسليمان شاه. وقد رأيت أن أذكر أسماء الملوك السلجوقيين الذين أظلوا سيواس بحكمهم، مبتدئا بخامسهم لأنه فاتحها وأول من حكمها منهم. وها هي أسماؤهم مع تواريخ ولاياتهم بالحساب الهجري:
عام (5) عز الدين قليج أرسلان الثاني بن مسعود
558 (6) غياث الدين كيخسرو بن عز الدين
578 (7) ركن الدين سليمان الثاني بن عز الدين
580
غياث الدين كيخسرو (ولايته الثانية)
603 (8) عز الدين قليج أرسلان الثالث
603 (9) عز الدين كي كاوس بن كيخسرو
609 (10) علاء الدين كي قباد بن كيخسرو
610 (11) غياث الدين كيخسرو الثاني بن كي قباد
636 (12) ركن الدين سليمان شاه بن كيخسرو الثاني
644 (13) غياث الدين كيخسرو الثالث بن سليمان الثالث
664 (14) غياث الدين مسعود الثاني بن كي كاوس بن كيخسرو الثاني
282 (15) علاء الدين كي قباد الثاني بن قرامرز بن كي كاوس
697 إلى 699
وهذه الدولة السلجوقية هي التي نشرت النسل التركي في أرجاء الأناضولي. وقد ظلت قائمة في سلطانها موالية للدولة «الإيلخانية». وعاش ملوك السلجوقيين الذين ولوا الحكم من بعد غياث الدين كيخسرو الثاني ينصبون ويعزلون بعهود الملوك الإيلخانيين. حتى إذا ولي الملك علاء الدين كي قباد الثاني بن قرامرز بن كي كاوس خلع طاعة الإيلخانيين، فأقبل عليه جيش غازان محمود بن أرغون، فهزمه واعتقله في سجنه، وكان ذلك آخر العهد بالدولة السلجوقية الرومية، وبقيت آثارها من بعدها تدل على مجد مؤثل وأيام طيبة.
ولما احتاز الإيلخانيون سيواس رأى السلطان أبو سعيد وهو آخر ملوكهم أن ينفذ إلى سيواس واليا من أرومتهم، فاختار لها الأمير الشيخ حسن بن الأمير حسين بن آق بوغا بن إيلكان بن جلاير. والشيخ حسن هذا هو ابن أخت أرغون خان. وكان ذلك في عام 730. ثم توفي السلطان أبو سعيد ولم يترك عقبا يرث ملكه، وقام أمراء المملكة يقتسمونها بينهم، فنهض الأمير الشيخ حسن والي سيواس متوجها إلى العراق وأصلاهم حربا بعد حرب وأقام الدولة «الإيلكانية» أو «الجلايرية». وكان استخلف على سيواس حين خرج في غزوته الأمير «أرتنا» وهو من أمراء الجغتاي، فأحبه الناس وأخلصوا له، وكان ذا رأي وسياسة، فضم توقاد وقيصرية وأرزنجان وبايبورد إلى مملكة جعل سيواس عاصمتها، ثم ولي الحكم بعده ابنه «محمد أرتنا»، ثم تلاه حفيده علاء الدين بن محمد، فدام حكمهم نحو ثلاثة وخمسين عاما. ولما توفي علاء الدين خطب أمه، وكانت أيما، رجل من متغلبي الطوائف الجنكيزية ومن علماء التركمان اسمه أحمد برهان الدين، وكان قاضيا على أرزنجان، فبات حاكما على سيواس وما يليها.
ويروى أن قرة عثمان وهو أحد رؤساء التركمان كان مخيما بمشتى سيواس عام 793، وأبى أن يدفع الخراج الذي كان يدفعه من قبل، فسار إليه القاضي برهان الدين في جنوده وانجلى القتال عن قتل القاضي، وقبره لا يزال على مقربة من شمالي سيواس، وله شرح سماه الترجيح على أحد الكتب العربية المسمى التلويح. وفي إبانات ذلك أخذ السلطان «ييلديرم بايزيد» العثماني سيواس وأصبحت ولاية عثمانية، فجعل ابنه الأمير أرطغرل بك واليا عليها وجعل «مصطفى بك مالقوج» محافظا لها.
فلما كان عام 803 أقبل تيمورلنك التاتاري في خيله ورجله يطأ العروش ويعبث بالتيجان ويقلب البلاد ويستطير الحصون، فأناخ بكلكله على سيواس، وإنها لفي روق شبابها ورونق جدتها، فصدمها صدمة قلعت منها الأبواب ودكت الحصون وكادت أن تميد الرواسي. ولقد احتال في فتح المعاقل حيلا لا تخطر على فؤاد بشر. وكانت الجنود التي بها دافعت دفاعا أذهله، فلما صاروا في يده قال: ليس من الرأي أن يترك هؤلاء الشجعان. فأمر بهم فضربت أعناقهم. وقد التجأ إليه أكثر من الستة آلاف من الصبيان يستأمنون وعلى جباههم المصاحف، فأمر بهم فداستهم سنابك الخيل وهو ناظر، ثم اتصل به أن بسيواس جماعة من الكسالى، فقتلهم عن بكرة أبيهم، وقال: إن الكسل مرض لا تؤمن عدواه، وينبغي أن تطهر الأرض ممن ضني به. وحين فرغ من قتل الناس وثلج بدمائهم صدره صرخ بجنده أن يوسعوا المدينة تخريبا، فما رحل عنها إلا وهي أطلال وأهلها أرمام.
ثم طار هذا الخبر إلى السلطان ييلديرم بايزيد، وعلم أن ابنه الأمير أرطغرل بك قتل في تلك الوقعة، فسار بجيشه يريد تيمور، وإنه لفي سفره وقد خرج وحده ذات يوم يبترد بالنسيم إذا راعي غنم ينفخ قصبة له، فهاجت لوعته وأن فؤاده والتفت إلى الراعي فقال: «أعد أيها الراعي أعد، أثكلت ابنا مثل طغرل؟ أم انهد لك ركن مثل سيواس؟» وحين التقى ييلديرم بايزيد بتيمور، وغلبت كثرة التاتار على شجاعة العثمانيين؛ وقع السلطان العثماني وفني جنوده قتلا.
ثم امتلك أنقاض سيواس أحد أمراء الأكراد واسمه مزيد بك، وكان السلطان محمد خان جلبي فتح توقاد، فسير بايزيد باشا على مزيد بك، فحاربه وأتى السلطان به أسيرا. ولقد أعجب السلطان بشجاعته وعقله، فعفا عنه وجعله واليا على سيواس على شريطة أن يعمرها ويستعيد رونقها، فتجددت المدينة في عثمانيتها، ودامت كذلك إلى يومنا هذا.
لقد حرن القلم وتجددت الشجون، فأرجو القارئ أن يقيلني من الاستمرار؛ تلك خطوب لا أقدر أن أتولى وصفها إلا مستعرا.
أسماء الولاة والمتصرفين الذين ولوا سيواس منذ عام 1198 بعد الهجرة.
أسماء
تاريخ الولاية
مدة الولاية
يوم
شهر
عام
يوم
شهر
سنة
الوزير سيد محمد باشا
6
م
1198
11
5
الوزير سليمان باشا
11
ج
1199
22
6
1
الوزير عبد الله باشا
11
م
1200
10
10
الوزير عبدي باشا
11
ذا
1200
22
1
الوزير محمود باشا
23
م
1201
2
3
الوزير مقداد باشا
15
را
1201
7
7
4
الوزير حسن باشا
12
ذا
1205
24
7
1
الوزير السيد عثمان باشا
19
ش
1207
14
1
4
الداماد السلطاني الوزير السيد أحمد باشا
17
ل
1211
17
7
1
الوزير رجب باشا
22
جا
1213
12
8
1
الداماد السلطاني علاء الدين باشا ابن السيد أحمد باشا
5
ص
1215
27
2
الوزير كوسه مصطفى باشا
3
را
1215
11
7
2
علاء الدين باشا (الولاية الثانية)
15
ل
1217
17
9
الوزير أبو المراق الحاج محمد باشا
3
ش
1218
21
4
الوزير يوسف باشا
25
ذ
1218
11
1
1
الوزير محمد جلال الدين باشا
3
ص
1220
12
11
7
بايا إبراهيم باشا
15
م
1228
5
1
2
محمد غالب باشا (صدر أعظم سابقا)
21
ص
1231
14
7
1
علي باشا الجرخه جي
12
ن
1232
14
7
1
الوزير لطف الله باشا
17
ل
1233
13
6
1
الحاج محمد بهرام باشا
1
جا
1235
1
11
الوزير الحاج سليمان باشا
11
ر
1236
17
7
1
الوزير حسن باشا
29
م
1237
3
7
الوزير إسماعيل حقي باشا
3
ذا
1237
7
10
1
الوزير كوسه محمد باشا
12
ل
1242
2
5
4
إسماعيل باشا (الولاية الثانية)
15
ر
1244
26
9
الوزير عثمان باشا
12
م
1245
18
الوزير الحاج حسن باشا
6
ص
1245
5
1
سعيد إبراهيم آغا أحد بوابي المابين وكان عين محصلا
14
ر
1248
1
3
الوزير عثمان باشا (الولاية الثانية)
14
ر
1248
23
9
سعيد إبراهيم آغا محصلا (التولية الثانية)
8
م
1249
5
8
رشيد محمد باشا (صدر أعظم سابقا)
14
ن
1249
11
2
الوزير حافظ باشا
15
ش
1252
17
2
2
الوزير أسعد محمد باشا
3
ذا
1254
27
7
1
الفريق محمد حمدي باشا
1
ب
1256
10
الميرميران سعيد إبراهيم باشا
السيواسي (التولية الثانية)
الوزير عشقر باشا
1
ل
1259
8
الميرميران محمد باشا
1
جا
1260
10
الوزير محمد شريف باشا
10
ر
1261
8
الميرميران محمد منيب باشا
10
ذ
1261
26
8
الميرميران محمد باشا
1
جا
1260
10
الوزير محمد شريف باشا
10
ر
1261
8
الميرمران محمد منيب باشا
10
ذ
1261
26
8
الوزير محمد أسعد باشا (التولية الثانية)
7
ن
1262
28
3
الوزير عزت باشا
الوزير عشقر باشا (التولية الثانية)
2
م
1263
8
1
الميرميران عباس باشا
3
ن
1264
14
1
1
الميرميران محمد منيب باشا (التولية الثانية)
18
ل
1265
11
8
1
الوزير محمد حمدي باشا
1
ر
1267
27
4
3
الوزير إسماعيل باشا
18
ذا
1269
18
11
الوزير فيض الله باشا
17
ذا
1270
21
8
1
الوزير محمد باشا
8
ش
1272
10
4
3
الوزير محمد خير الدين باشا
19
ذ
1272
5
الميرميران الحاج أحمد باشا
24
جا
1278
14
11
1
الميرميران الحاج محمد زكي باشا
9
جا
1278
7
2
1
الوزير محمد رشيد باشا
7
ل
1279
20
6
1
الميرميران أحمد باشا
5
ر
1281
4
4
1
الوزير علي رضا باشا
4
ن
1282
29
4
1
الوزير الحاج أحمد عزت باشا
1
م
1283
20
9
4
الوزير محمد حالت باشا
3
ن
1288
6
المشير أحمد أسعد باشا
3
را
1289
7
2
الوزير محمد خورشيد باشا
3
جا
1289
25
8
الوزير محمد تقي الدين باشا
25
ص
1290
11
الوزير الحاج أحمد عزت باشا (التولية الثانية)
6
ص
1291
16
19
3
الوزير مصطفى ثريا باشا
6
را
1295
18
6
1
عابدين باشا (من رجال روم إيلي بكلربكي)
9
ن
1296
2
6
حقي باشا ابن إسماعيل باشا من رجال رتبة روم إيلي بايه سي
را
1297
12
10
1
الوزير خليل رفعت باشا
1
ر
1297
7
3
الوزير عابدين باشا (التولية الثانية)
1
م
1302
9
9
الوزير سري باشا
3
ش
1303
1
10
1
الوزير سروري باشا
30
ب
1305
12
1
الوزير محمد ممدوح باشا
12
ش
1306
10
3
الوزير خليل باشا
1
ج
1310
25
5
3
الوزير الحاج حسن حلمي باشا
27
ل
1314
3
11
4
الوزير رشيد عاكف باشا ابن عاكف باشا الشهير
24
ذي
1319
إلى أن أعلن الدستور العثماني، فعين بعد ذلك ناظرا للداخلية؛ وهو اليوم عضو بمجلس الأعيان
لقد استعنت في هذا التلخيص بمظان جمة أهمها: «قاموس الأعلام» الذي وضعه المرحوم العلامة شمس الدين بك سامي، وتقويم ولاية سيواس الرسمي الذي رتبه الفاضل الجليل رشيد عاكف باشا، وقام بتحرير القسم التاريخي فيه صديقي الشاعر التركي المجيد سامح بك فتحي، وهو من أحفاد علاء الدين باشا الداماد الذي تقدم ذكره في أسماء الولاة. وقد اعتمد سامح بك في أكثر رواياته التاريخية على «تقويم مسكوكات» وهو من الكتب التركية المعتبرة، وكنت أود أن أزيد هذا الفصل إسهابا، ولكن خفت الخروج عن موضوع الكتاب.
ومما أسفت له أني لم أجد كتابا أعتمده لأنقل عنه شيئا من تاريخ سيواس قبل الدولة الدانشمندية؛ فإن الكتب الإفرنجية لا تشفي غليل الباحث، وكل كلام تضمنته في سيواس موجز أشد الإيجاز، والكتب العثمانية أكثر منها إيجازا، فكان محصول الاستقصاء على قدر المستطاع لا على قدر الواجب.
رجال الدين في سيواس
رجال الدين في كل أقطار الأرض حرب على الناس؛ فهم يبدون غير ما يخفون ويأمرون بما لا يعملون، ومنهم من صدق إيمانه وكانت سريرته كعلانيته وهم أقل من القليل، والذين أريد ذكرهم أو الإشارة إليهم في هذا الفصل قوم فيهم فضل ومعرفة وأوتوا فطنة ودهاء، ولكن حظهم مما أوتوه أقل مما تعرضوا له من تهذيب الناس وتعليمهم، ثم غلب عليهم النفاق فاتخذوا إيمانهم ذريعة إلى المال ورضاء للسلطان، وإلا فليست التقوى سبيلا إلى شقاوة المرء، وجميل الظن بالخالق سبحانه وتعالى وعبادته لا يحملان على إيذاء خلقه، والبررة كالفجرة، لهم أنفس تشتهي وأفئدة تتطرب وأهواء تستأثر، وحسب التقي أن يكون تقيا وأن يدعو الناس بلسانه إلى انتهاج نهجه، لا مورطا ولا ظالما. والمتجاوزون حدود النصح مزاحمون للأنبياء، والمغالون في النسك مشاركون للمنافقين، والدين لا ينصر بالشطط ولا يخذل بالتهاون.
عرفت من علماء سيواس رجلا اسمه أمين أفندي، هو عضو بمحكمة الجزاء الابتدائية، وكنت أغشى منزله مع صديقي وخالي أمير باشا أحد أمراء الجراكسة بسيواس، فنأخذ في حديث الصوفية ويستعر بيننا الجدال، فكنت أجده رحب الصدر في مناظرته، صبورا على شدائد البراهين، إذا انتهى به الجدل إلى العي أمسك عن الاستمرار واستطرد إلى ذكر ملح ونوادر يستطيبها السامعون، وكان يقول لي: إن ما بيني وبينك لمختلف جدا، أنا أحاول أن أقرك على التصوف وأنت تحتال في إخراجي إلى التفرنج، وليس أحدنا بالغا أربه. وكنا في بعض زياراتنا له نستصحب علي أفندي؛ وهو من علماء قونية، يأتي كل سنة مرة فينزل بدار أمير باشا أياما ثم يرجع إلى بلده، وكان علي أفندي وعظ الناس في الجامع، فنهاهم عن اتخاذ التماثيل والصور، وجعل يقول إن الملائكة لا تدخل دارا فيه صور، فلما حضر بعض مجالسنا عند أمين أفندي أصغى إلى كلامي إصغاء المتأمل، فكان كلما أنكر شيئا سألني عليه برهانا، حتى إذا فرغنا وخرجنا نطلب منازلنا قال لي: لا عيب فيك سوى أنك شديد الانحراف عن السلف الصالح، فأقول: أما السلف فنعم وأما الصالح فلا.
وقد زارني أمين أفندي ومعه علي أفندي، فرأياني آخذا آلة التصوير أصور بها أمير باشا، فقالا لي: أهذا دأبك الدهر؟ قلت: لا، ولكنني أتلهى بذلك حين لا أجد لهوا غيره، وسألتهما أن يجلسا معا لأصورهما، فأحجما ثم انصاعا وصورتهما، ولا تزال صورتهما عندي. ولما قال أمير باشا لعلي أفندي: أتدعه يصورك وأنت تنهى عن اتخاذ الصور في البيوت؟ قال: دعني: رأيت هذا الرجل أعرف مني بالحق، فلا يقولن مذ اليوم شيئا وأخالفه فيه.
ولأهل سيواس في أمين أفندي أقاويل يكذبونها، غيظة منه وبغضا له. وقد زعموا أنه قال: إن الله تنكر ذات ليلة فدخل إحدى الكنائس، وأراد جبريل أن يدخل عليه في أمر عرض، فلما لم يجده على عرشه أكبر ذلك وانطلق يفتش عليه، فرأى الله مختبئا وراء صنم من أصنام الكنيسة. وهذا قول لا يقوله أجهل الناس، فكيف يقوله أمين أفندي.
وقد حضرت مفتي سيواس يوما في غرفة أرستيدي باشا معاون الوالي، وكان ذلك في رمضان، فأخذ المفتي يقص علينا أخبار من تقدم من الصحابة والتابعين والأئمة الصالحين، ومعاون الوالي في شغل بما بين يديه من أوراق الحكومة، والمفتي يريد إليه أن يدع الأوراق ويستمع أخباره، فقال أرستيدي باشا مازحا: أتريد أن تضطرني إلى الدخول في الإسلام اضطرارا؟ قال المفتي: كلا، وإنما أحب أن تسمع هذا الملح، عسى أن تشرح صدرك للإسلام. قال أرستيدي باشا: لقد كان الإسلام والمسلمون بخير. أما اليوم فالإسلام وحده بخير. فضحك المفتي وقال: صدقت، صدقت.
ومن علماء سيواس وأصحاب الغلو من متعصبيها ضياء الدين أفندي، ذاك الذي كان ينهى الناس أن يزاوروني، زعما منه أن دخول بيت فيه تصاوير حرام، وله كتاب وضعه في تحريم الصور وتحريم اتخاذها، وعدني أخوه أن يطلعني عليه ولم يف بوعده.
ورأيت من علمائهم رجلا اسمه راسخ أفندي، هو أحد معلمي مدارسهم، وكان ذلك يوم تلي فرمان الوزارة التي قلدها رشيد باشا والي سيواس، فوقف راسخ أفندي بين الجموع في بهرة الحلقة التي تلي فيها الفرمان وخطب الناس، وما زين له شيطانه إلا أن يخطب بكلام العرب، فما افتتح فاه بالبسملة إلا رفعت الأيدي وانطلقت الأفواه صارخة: آمين آمين، فكان المشهد هكذا:
راسخ أفندي :
بسم الله الرحمن الرحيم.
الجمع :
آمين، آمين، آمين.
راسخ أفندي :
الحمد لله ...
الجمع :
آمين، آمين، آمين.
راسخ أفندي :
الذي ...
الجمع :
آمين، آمين، آمين.
راسخ أفندي :
رفع ...
الجمع :
آمين، آمين، آمين.
راسخ أفندي :
السماء على ...
الجمع :
آمين، آمين، آمين.
راسخ أفندي :
أرضنا وأرضكم.
الجمع :
آمين، آمين، آمين.
وكان في المستمعين رجل قريبا من موضعي، استغرقته تأملاته وتعالاه إعجاب حتى سال لعابه على لحيته، فجعل يهز عنقه هزا عنيفا حتى خشيت أن يقصفه؛ فقد كان عنقه رفيعا جدا. واستمر الخطيب في خطبته فاحش اللحن قبيح اللفظ سمج التأليف مشوش الإفادة، إذا أومأ خلته يتوعد، وإذا أشار خلته يخطف، فلما انتهى قلت: الحمد لله.
وعلماء سيواس أهل دعوى ولجاج، رأيت منهم رجالا يزعمون أنهم قرءوا «السعد» مكررا وهم لا يعرفون من موضوعه شيئا، وذهب رجل منهم إلى أنه يحرم على المسلم أن يدعو غير المسلم أخاه، واحتج بآية:
إنما المؤمنون إخوة ، فقلت له: أنا لا أجادل بالقرآن، ولكنني أخالف الساعة عادتي وأثبت لك فساد دعواك وخطأك في تأويلك، قال: هات ما عندك.
قلت: إن في علم المعاني بابا اسمه باب القصر. - أعرفه. - وفي الآية قصر موصوف على صفته؛ فهذا لا ينفي الإخاء من غير المسلمين، ولو كان فيها قصر صفة على موصوف كأن تكون إنما الإخوة المؤمنون لنفى من غيرهم الإخاء.
فغضب الرجل من كلامي وقال: أعوذ بالله أن يكون في علم المعاني شيء مثل هذا الكفر، وما هو إلا اختلاق منك. وهب جدلا أن دعواك صحيحة، أيحملني ذلك على أن أصدق علم المعاني وأكذب القرآن، فأيقنت يومئذ أن الرجل ممن أفرغ في رأسه عشرون قنطارا قطرا، وآثرت إهماله وأنشدت قول أبي الطيب:
ومن البلية نصح من لا يرعوي
عن جهله وخطاب من لا يفهم
هؤلاء الرجال يحللون من الأمور ما يوافق أهواءهم، ويحرمون منها ما يخالف أهواءهم. يسطون على الناس بالسيوف من الإيمان الكاذب فلا يثبت على لقائهم إلا من:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
فما تحكم عبد الحميد في الأمة إلا بنصر هؤلاء. أما جنوده فأولئك منخدعون. ولقد فطنوا لذلك، فجعلوا صلواتهم وابتهالاتهم كلها وقفا لظالم الأمة، استجلبوا له القلوب الخالية والنفوس الطامعة، فوقفوا كلهم لقاء الأحرار، يكيدون لهم كيدا، وكانوا يدعون المنفيين في بلادهم أعداء الدين والدولة، وكانوا يذمون الشورى ويذمون من يدعو إليها ، ولو أمكنتهم غرة من الأحرار لاجتثوا أصولهم وأبادوا أعقابهم. فإذا طهرت البلاد من شر هذه الفئة راجعتها السعادة.
أقيال سيواس وسراتها
إذا جلس المرء على ممر الناس وأخذ يتصفح الوجوه ويثبت الأشباه وينفيها؛ تهادت أمامه مواكب الأشباح، هنالك الصور المتحركة تبدو وتستسر، تكاد النظرات تنبو عنها. فإذا وقف القعود على جانبي الممر ورفعت الأيدي إلى الصدور والرءوس فثم سري يمر، وكل هذا التكلف إجلالا له. والسري رجل مثلهم. وقد يكونون أجمل منه لباسا وأحسن تقويما، يلج الجمع فيوسعون له مكان السيد، وفي خطواته تثاقل ولقده تأود وكتفاه يقلعهما كأنه يحمل بينهما كرة الأرض! من سيدنا؟ هو أحد أعضاء مجلس الولاية، حضر الجلسة وخرج منها غير مشير برأي ولا ناطق بكلمة؛ وهو مع ذلك يمر بالسوق ليتخير لنفسه ما اشتهت من أكل وفاكهة، فما يبلغ منزله إلا ويتبادر إليه الخدم يكرمون وفادته، وعلى الدواوين المرصوصة في داره أناس يشتاقونه ويعدون الساعات انتظارا له، وبعد فتسليمة فاستراحة فطعام فكلام فتوديع فنوم. هذا أحلى من قول شوقي بك:
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء
إذا عرف القارئ هذا السري فقد عرف كل السراة، وإنما أستثني منهم آحادا لو عاشوا في بلد غير سيواس لكانوا من الظرف والفضل بالمكان الأرفع، وهم مع ذلك لا يمل قربهم ولا يسأم حديثهم، منهم أمير باشا. وقد تقدم ذكره في فصل سابق، هذا رجل داره محط رحال الكرام، سليل بيت له في المجد سابقات؛ وهو جركسي، أبوه المرحوم ماهر بك، كان من أمراء الأباظيين، لحق به ضيم من الحكومة فخرج عليها في جماعة من فرسانه. وقد سيرت الدولة عليه الجنود فهزمها وأعجزها طلبه وأخذ عليها الدروب والمسالك. فإذا لاح له البريد أقبل عليه في أعوانه فاستاقه وفرق ما غنمه على أهل القرى وعلى رجاله، ولم يبق لنفسه منه شيئا، فلما عم أذاه واشتدت على الناس وطأته أرسلت عليه الدولة عددا كبيرا من المقاتلة، فما زالوا يطاردونه إلى أن دخل في ولاية قسطموني واختفى هنالك ولم يعلم من خبره شيء إلى يومنا هذا. غير أن كثيرا من أشياخ الجركس يزعمون أن الجنود ظفروا به في بعض المواضع فقاتلهم حتى قتل وقتل معه أكثر رجاله وانهزم الباقون.
ولأمير باشا أشياع وأنصار جلهم من الجركس، يفضون إليه بحاجاتهم ويتقاضون إلى حكمه في خصوماتهم، وله أعداء من قومه ومن غيرهم يترقبون الفرص لإتلاف نفسه وينصبون له حبائل المكايد، فحياته حياة حذر، إذا غفل عنهم طرفة عين حل به كيدهم.
وكانت بين أمير باشا وبيني مودة مؤكدة، ثم هو من أقارب والدتي، وكنت أناديه يا خال، فرأيت من إخلاصه ونصحه ما لا أنساه مدى الدهر. أقمنا على ذلك سبعة أعوام لا نختلف في شيء، سوى أنه كان يزعم أنه أسد مني رماية وكنت أزعم ضد ذلك، فنخرج إلى حديقة له لا تبعد كثيرا عن البلد، فينصب لنا رجاله هدفا على قمة تل هنالك، فتارة أنا أكثر إصابة وتارة هو أكثر إصابة، هذا إذا كانت الرماية بالبندقية، وإذا هي كانت بالمسدس فالفوز حليفي لا محالة. وقد عاهدني أن يهيئ لي أسباب الفرار من سيواس كما أبنته في غير هذا الموضع، ولولا أن تداركنا الله بإعلان الدستور في البلاد العثمانية لنجوت من سيواس على يده.
ومن سراة سيواس رجل اسمه عبد الله بك؛ وهو ابن آغا قانغال، ما شئت من مال ومن نشب، مات رحمه الله في شبابه بمرض السل بعد أن قاسى منه ما لا يصبر عليه غيره، وكان على جانب من صغر الرأي، فصد عن نصح الأطباء إلى أن أحس بدنو أجله؛ فهم بالسفر إلى الآستانة ليتداوى عند كبار أطبائها، ولكن أدركته المنية حين لم تبق فائدة للعلاج.
ومنهم نوري بك ابن الحاج علي بك. وهذا الرجل أشبه الناس بعبد الحميد، ومن مزاياه التي أمن فيها النظير أنه ما لبس ثوبا نظيفا ولا حمل صدره قميصا إفرنكيا. وهو من أعضاء لجنة المهاجرين. وقد ترقى في مدارج العلى حتى بلغ المتمايز، ثم وقف به جده لا يتقدم قيد أصبع، ولا أعلم من حال الرجل ما يسوء ذكره غير أنه كان كثير النفاق.
ومنهم خالد بك مدير الأوراق، رجل حسن الطلعة كريم الطباع طيب المجلس، ولكنني شممت من خلائقه رائحة الختل، فاتقيته.
ومنهم الحاج نوري أفندي، مميز قلم المحاسبة، لوددت أن أروع بلقاء الذئب أعزل على ألا أراه. إني لأربأ بهذا القلم أن يسفل حتى يلتقط معايبه، ولولا لجاجة سبقت في ذكر هؤلاء القوم لأمسكت القلم عن أن يخط اسمه، وها أنا فاعل.
ومنهم إبراهيم بك، ناظر النفوس، هو من مهاجري ولاية الطونة، أتى سيواس مع المرحوم خليل رفعت باشا أحد الصدور العظام حين وجه واليا عليها، فلما فارقها الباشا بقي إبراهيم في سيواس ورضيها لنفسه وطنا.
ومنهم توفيق أفندي باشكاتب مجلس الإدارة وضياء الدين أفندي مميز المكتوبجي، وكانا في التجسس والوشاية فرسي رهان، ولا أدري أيهما أشد تعصبا من صاحبه. وضياء أفندي زارني مرة في العيد، فأبصر بين الصور المعلقة على جدار الغرفة صورة شاب من فضلاء إخواننا الأرمن وهو المسيو باليوزيان، فاشمأز وبدا الغيظ على عينيه، ثم التفت إلي وهو يقول: انزع هذه الصورة، لا ترفع صور الكافرين على جدار بيتك، ألا تعلم أن هذا الرجل هو أحد أعضاء الجمعية الأرمنية السرية؟ فقلت: ليس ذا من شأنك، فخرج من عندي وهو يكاد يستعر غيظا. أما توفيق أفندي فلم يسلم علي ولا سلمت عليه، وأبغضني الرجل وأبغضته من أول يوم اختلفت فيه بيننا النظرات.
ومنهم حسين أفندي، سرقوميسير الولاية، واليوم بدل هذا الاسم إلى مدير البوليس. رجل لا أعرف له سيئة. ولقد حمدت سيرته وكنت أزوره مستطيبا زيارته، والمنفيون كلهم يحبونه ولا يذكرونه إلا بالخير.
إخواني في النفي
كان عبد الحميد يتخذ من بعض الولايات ديارات للنفي، فما غضب على حر ولا غضب على غير حر إلا أشخصه إلى واحدة منها، وإنما اختلفت عنده مراتب النفي باختلاف الأجرام واختلاف الأماكن، فمن نفاه من خاصته امتحانا أو عتبا اختار له الثغور أو البلاد القريبة من العمران، ومن نفاه قاليا ناقما رمى به في أبعد المرامي وراء الجبال، حيث البداوة والعصبية والموت الأحمر والبلاء الأسود، وسيواس هي إحدى مواطن النقمة الحميدية.
ألفيت بها أناسا سبقوني إليها، أولئك إخواني من أحرار العثمانيين، طائفة منهم كانت آوت إلى مصر في أيام كرومر الجليل وحامي الأحرار، وطائفة كانت هاجرت إلى أوروبا أو كادت تهاجر، ما زالت الأقدار تسيرهم وتطوفهم في الآفاق حتى رجعوا كلهم إلى العش الذي استطيروا منه، فمغلوب على أمره بالحاجة ومنخدع بوعد ومستخف له الشوق، وكأن حوادث الصروف كانت مسخرة للرجل الظالم، تحارب من يحاربهم. فما استقرت على أرض سيواس قدماي إلا ولحق بي آخرون، فكنت أنا صاحب الفترة بين البريدين.
فتجدد جلدي وثبتت نفسي، وقلت: المواطن أوطان إذا تجاورت فيها الأحبة. وأقمت أياما أترقب زيارتهم لي فلم يطل ترقبي، فكانوا يتوافدون علي فرادى ثم مثنى، ولما اطمأنت قلوبهم علي وعرفوا أني غير محجوب عن الناس أكثروا الترداد في ود وصفاء لا أنساهما أبدا. وها أنا ذاكر أسماءهم على ما علق في ذهني:
الخواجة شكري (هو الآن مبعوث سيواس).
الدكتور فائق.
توفيق أفندي.
خالد أفندي.
صلاح الدين أفندي.
رضا بك.
شوقي أفندي.
رجب أفندي الألباني.
فائق أفندي.
وهذه أسماء من نفوا إلى سيواس على إثري:
البكباشي المرحوم جميل بك.
الملازم أحمد بك.
المرحوم حسن بك ويريون الألباني.
نجله نزهت بك ويريون.
المسيو لامبروس نيقولاييدس.
حكمت بك.
وكان بسيواس منفيان؛ أحدهما علي غالب بك، هو مدير الأوراق بنظارة المعارف، وثانيهما عادل بك؛ وهو أحد خزنة الكتب في مكتبة عبد الحميد التي بقصره. لقد صددنا عن هذين الرجلين لأن المتقدم الذكر منهما أحد الجواسيس الذين فتكوا بالأرواح فتك الذئاب حتى ضرب بالسيف الذي ضرب به المظلومين، والثاني رجل مذموم الأخلاق مملول الود لا يدانيه أحد من الناس. وقدم سيواس بعد ذلك منفيان: أحدهما ألبوز بك حمو عبد الحميد، وثانيهما توفيق بك متولي زاده أحد أشراف إزمير. وكان ألبوز بك يقبض كل شهر راتبا قدره 150 جنيها، وكان بسيواس منفيون غير الذين ذكرت أسماءهم، وعددهم أكثر من الخمسين والمائة. غير أنهم فرقوا في أنحاء الولاية، فأسكن فريق منهم توقاد وأسكن فريق آماسيا وأسكن الباقون بلادا أخرى داخلة في الولاية.
وقد عن لي في بعض أيامي رأي، فدعوت بمن تقدم ذكرهم من الإخوان وقلت لهم: «هذه حياة لا لذة فيها؛ نظل في سيواس حتى تفنينا الأيام ونرى إلى وطننا وقد أشفى على الهلاك، كل يوم يموت منه عضو، والظالم الجبار سالمته الأيام، فما أظنه يموت وفي الوطن حياة ترجى.» فقال قائلهم: وما رأيت لنا في الأمر؟ قلت: ما عندي رأي مختمر، وإنما دعوتكم لنتشاور في الأمر جميعا، ولكن ينبغي أن نعلم أن سبيل العمل فيما نتحدث فيه محفوفة بالمكاره، فمن أحس في نفسه ضعفا فليتنكبها، إنا نريد أنصارا ذوي عزم. لو أن في قلبي أقل الريب في صدق أحدكم ما خاطبتكم في مثل هذا الأمر، اطلبوا التدبر والتأمل، ثم انظروا ما ينبغي أن نبدأ فيه. إني أظن أن الرأي في تأليف جمعية سرية تكون على الطريقة الماسونية أو تقرب منها؛ على ألا تكون ثم رئاسة تستهوي القلوب ويتخاصم عليها الإخوان. إنا قليلون والثبات يكثرنا عددا، ولنتخير من أشراف سيواس من نأمن غدره ونثق بمروءته ومن هو جدير بنصرتنا أو مشاركتنا في بلوانا إذا حم القضاء. هذا أمر لا يستطاع الفراغ منه في مجلس واحد، والأيام بيننا، وسنزداد في كل التئام نلتئمه رأيا جديدا.
قالوا: من لنا بالسلاح والعدة؟
قلت: السلاح والعدة لهما رجال غيرنا، وإنما علينا أن نحكم تدبيرنا ونتولى استكمال جمعيتنا. فإذا أتت نوبة السلاح والعدة نظرنا في ذلك، ولن تأتي تلك النوبة إلا وحولنا رجال أولو بأس ونجدة.
فرضي الإخوان رأيي ووعدوني بالنظر فيه، ثم توالت اجتماعاتنا، فكنا نتفق على أشياء ونختلف على أشياء، حتى اتفقنا على ألا نتفق، وسلك كل بعد ذلك طريقا، وانقسمنا جماعات وكلنا أقل من أن نكون جماعة واحدة. غير أني لم أعلم على أحد من الإخوان ما يزري بحريته ولا ما يستحدث ريبا في نجدته. وقد فرق الدهر بيني وبينهم بعد إعلان الدستور ونحن متوادون ، لم يبدل أحدنا بسياسته سياسة، صبرنا على مضض الأيام ووقفنا في وجه الحكومة البائدة غير صاغرين، ولو كان والي سيواس غير رشيد باشا عاكف لقضينا الأيام في ظلمات السجون، ولكن الوالي كان حرا شهما وكان منفيا مثلنا؛ فهذا خفف ويلاتنا وجعلنا في مأمن من كيد الخائن. ولقد ذاق مر العذاب إخواننا الذي نفوا إلى خربوط وقسطموني وغيرهما، وابتلوا بولاة لو سألهم عبد الحميد أن يقتلوا الأجنة في البطون لأطاعوا.
كيف مرت أيامي بسيواس؟
العامة تقول: «الغريب أعمى ولو كان بصيرا»، هذا مثل يصدق في. إن سيواس أرض عثمانية وأنا رجل عثماني؛ فهي إذن بلدي وأنا ابنها. غير أن الغربة غربة الدار واحدة، كل أرض لم يسبق للمرء علم بها هي دار اغتراب له. وقد كانت أوائل أيامي في سيواس أيام شدائد، ضقت ذرعا حتى لا أدري أين أذهب وإلى من ألتجئ، ولولا إخواني الأحرار الذين تقدم ذكرهم لبلغ بي الحرج أقصى حدوده، وما لبثت أن استأنست بالدار وأهلها واتخذت لي رفقة صالحة من نازليها ومن أشرافها، ثم أخذت أجوب مسارحها وألم بساحاتها، فصرت بعد ذلك كأني بعض أهلها.
ولقد علمت أن الحكومة في غنية عن خدمتي، وأن المراد من وظيفتي اسمها دون حقيقتها، ورأيت الموظفين يخفون عني أوراق الحكومة التي تتضمن شيئا من أسرارها، فاخترت ملازمة الدار، وألقي في روعي أن قراءة الكتب قد تستحدث نسيانا لمصائبي وتفيدني ما لا أعلم، فجعلت أتحرى أسفارا أقتطف فوائدها وأقتبس من معارفها. فإذا حظ البلدة منها قليل، فاشتريت من القصص الفرنساوية ما أدخلت في غفوة من أعين الرقباء، فجعلت أقرؤها وأستعين بها على مغالبة البطالة، وأعارني إخواني الأحرار مما عندهم من الكتب، فشفت داء صدري وطابت بها أوقاتي، وأحببت أن أقضي بعض ساعاتي في التأليف، ولكن خوفني الأصدقاء من شر ذلك، قالوا: قد يتصل بالحكومة أمرك فتدخل الشرطة دارك وتروع أهلك وحسبهم ما لقوه بالآستانة، وإذا ظهر شيء تكون كتبته حرفوه وزادوا على ما فيه ورموا بك رمية لا نجاة لك بعدها ، فأقمت بسيواس ما أقمت لم أؤلف رسالة ولا كتبت فصلا من رسالة سوى كتابين.
وكان يجيش في صدري الشعر فأقول الأبيات أو القصيدة الطويلة وأقيدها في كتاب لا أطلع عليه أحدا. وقد ضاعت أكثر تلك القصائد إذ تساقطت أوراقها كما ضاعت عدة من غرر قصائدي بين أوراقي التي أخذها الجواسيس بالآستانة، فتلك السوانح أتلهف عليها وأبكيها ما دمت حيا.
وما مضى علي الحول إلا ولي أصحاب كثيرون من الأجانب، أولئك قوم خففت موداتهم لواعجي، ألفيت منهم ودا لا يشوبه الهوى، ما نابتني نائبة من حدثان الدهر إلا تسابقوا إلى داري بوجوه كنت أقرأ على صفحاتها سطور الوفاء، فمن هؤلاء الدكتور جويت قنصل الولايات المتحدة الأمريكية (هو الآن قنصل الولايات المتحدة في طرابزون)؛ فقد كان الرجل مني بمنزلة الأخ، وكذلك عقيلته وشقيقتها المس باوس، ولما مرض أكبر أنجالي بالحمى التيفوئيدية جعل الدكتور جويت يعوده كل يوم مرتين. وقد تولى معالجته مشتركا مع صديقي الدكتور خسرف هكيميان، وكانت المادام جويت تأتينا صباح كل يوم فتظل في خدمة المريض إلى الظهر، ثم تذهب لتتغدى، ثم تعود فتمكث عندنا إلى الليل، لم تنقطع يوما واحدا إلى أن شفى الله ذلك الطفل على يدي الطبيبين وعلى يدي هذه السيدة الفاضلة.
ومنهم المسيو لابورت قنصل فرنسا، شاب لم يبلغ يومئذ الثلاثين من العمر، كان كذلك مني بمنزلة الأخ. ولقد لمته ذات يوم على كثرة دنوه من سرير ابني في إبان مرضه، فابتسم في وجهي وقال: لا تخف علي شيئا، أبواي لقيا ربهما وليس لي زوجة ولا ولد يهمني ما يصيران إليه بعدي. فقلت: بل لك إخوان كلهم يفديك بحياته ويستزيد لك الصحة والسلامة.
ومنهم المسيو مونتي سانتو، ترجمان قنصل الولايات المتحدة الأمريكية (هو الآن فيس قنصل الولايات المتحدة في طرابزون). ومنهم المرحوم المسيو أصلان، رئيس حسابات البنك العثماني بسيواس، كان مثالا في صدق المودة، امتاز بالجرأة واستخفاف المهالك حتى أودى شهيدهما في بعض مسيره إلى الصيد، ولم يبلغ من العمر أكثر من الثمانية والعشرين عاما. ومنهم المسيو سالجاني، مدير البنك العثماني، والمسيو دوتوليدو أحد الذين خلفوا المرحوم أصلان، ومنهم المسيو بون هنري قنصل فرنسا بعد المسيو لابورت وعقيلته؛ فقد قضينا معهما شتاء كاملا، في ليال نسينا بها أننا وراء جبال الأناضولي، وخيل إلينا أننا مقيمون بباريس بين محاسنها وبدائعها.
أما الموظفون العثمانيون، فمنهم صديقي الأوفى أرستيدي باشا معاون الوالي (هو الآن عضو في مجلس الأعيان). وقد تخرجت علي كبرى بناته في اللغة التركية، لن ينسيني كرور الأيام ما لقيت من هذا الشهم وآله من جميل الود، فما استحدثت الأيام لي معضلة إلا كان حلها بيده. وأرستيدي باشا رجل من نخبة العثمانيين فضلا وأدبا، وله في وظيفته آثار تشهد له بما أوتي من الحكمة والرأي.
ومنهم أسعد بك رءوف، سكرتير الولاية (ثم جعل متصرفا لمرسين)، وأظهر في المذابح الأرمنية من الحرية والعدالة ما يتباهى به العثمانيون.
فكنا إذا جاء فصل الصيف ننصب الخيام خارج البلدة بالقرب من مصنع الدقيق الذي أسسه خليل رفعت باشا؛ فهنالك بارض النبت في ألوانه الزاهية، وهنالك الأشجار المتكاثفة والينابيع المتفجرة والأنهار الدافقة والجبال الشاهقة والنسائم المعتلة، نقيم تحت تلك الخيام المتجاورة شهرا أو أكثر كسكان البادية، تصبحنا الشمس المشرقة ويماسينا البدر المتكامل من وراء الأكمة، ونحن نرتع في تلك المحاسن، فآونة نطوف متصيدين أنواع الطير وتارة نذهب إلى منهل عذب نعل صافيه ونصيب عنده طعامنا، فلا ينتهي الموسم ونرجع إلى البلدة إلا ممتلئين صحة وشبابا، فنقضي أيامنا بذكر تلك الأوقات ونقيم على التزاور والتواد والصيد ونحوه طول فصل الشتاء؛ وهو تسعة أشهر، حتى إذا عاد الصيف عدنا إلى ما كنا فيه.
إني لكثير الحنين إلى تلك الأيام الطيبة، ولولا ما كدرها من ظلم عبد الحميد واستبداده على الأمة لتمنيت عودتها مع أولئك الأصحاب؛ فذلك العيش معلل جانبه. وهنالك الدعة والصفو كلاهما. هذه ذكرى طيبة أوثرها في كتابي تشريفا له بذكر أولئك الإخوان، وما في فؤادي أجمل وأبقى.
وقد وجدت لي أعمالا تعينني على التخلص من شؤم البطالة، فتعلمت حفر الخشب وتجويفه، وأكثرت من التمرن في التصوير الفطوغرافي والتصوير باليد، فكنت إذا ضاق صدري أجد منهما مفرجا للكربة. كذا مضت علي سبعة أعوام في تلك الأرض، فلم أعدم من الحكومة البائدة عدوا يكدر صفو الحياة؛ فقد عشت محروما من صحف الأخبار إلا ما كنت أقرؤه عند إخواني الأجانب، وكانت إدارة البريد لا تدفع إلي الكتب التي يبعث بها شقيقي ومعارفي إلا بعد أن تفض ظروفها وتعلم ما فيها، لم يغنني لديها تظلم ولا استنصاف، وكان مدير البريد والتلغراف من أكبر الجواسيس.
أهل سيواس
تقدمت في فصولي الماضية إشارات إلى أهل سيواس، فتلك متفرقات لا طائل تحتها. وهذا الذي أذكره أكثر فائدة وأخص بيانا.
إن للأمصار من بنيها أعوانا على اتساعها وتعاظم شأنها وزيادة رونقها وتوفر ثرائها، وما يصيبها من عناية الحكومات مجلوب برغبة الأهلين وطلبهم، وسيواس كغيرها من سائر المدن العثمانية، بقيت على قدمها، وما بقيت عليه في تمام محاسنه بل قامت على أنقاض لم تمسها يد مجدد من أبنائها؛ فهي عنوان فطرتهم ودليل عجزهم.
وبنو سيواس قوم تعودوا عيشهم فاستطابوه، ولئن قام منهم أناس يشكون حالهم فتلك شكاية لا استمرار لها، تبسامة من وال تنسيها وزجرة من مدير البوليس تذهب بريحها. وإن من آفات الجهل أن يعد المرء شقاوته نعيما، وألا يصدق أن في الحياة الدنيا عيشا هو أطيب من عيشه.
ما اشتاق أهل سيواس شيئا مما بأيدي غيرهم، ولا تاقت نفوسهم إلى إحراز مثله، فإذا حدثهم محدثهم بما في مدن الغرب من مظاهر العمران وقص عليهم أخبار الناس ووصف لهم الكهرباء في نورها الوهاج وقوتها التي تستخف الرواسي؛ ضحكوا ضحك غير المصدق، وظنوا أن الرجل يحدثهم بأشياء لا مكان لها في الوجود. يتساوى في ذلك أشرافهم وسوقتهم، هم يقولون: أعلى هذه الأرض بلد هو أعظم من سيواس؟ أم فيها أقطار أنهارها كأنهارنا ورياضها كرياضنا وخصبها كخصبنا؟ وإذا جاراك محدث إلى ما تعيب من سيواس، فإنما يصنع ذلك تحببا إليك وفؤاده ينكر عليك ما تقول.
وما القوم بمحرومين من العقل ولا ذكاؤهم دون ذكاء الناس، ولكن يغلب على قلوبهم بعدهم عن بلاد الله، وحياتهم التي يتقضى أكثرها على شاهقات آسيا الصغرى، وجهلهم الذي لا يقف عند حد، فيبقى ذلك العقل غير مستخدم ويظل ذاك الذكاء معطلا وغير مستثمر؛ وبذا تتعود النفوس عيش البطالة وتنشأ على العجز والذلة، ولئن كان الطمع مذموما فإن من القناعة لشرا منه. وقد رأيت من فاقة السيواسيين ما لا أقدر أن أصفه ولا أن أقارنه إلى غيره، تلك فاقة منسوجة على غير منوال، وأشد ما فيها ألا رجاء في زوالها. وإذا اقتضى الكلام على المتمولين الذين هناك، فقل إن فيهم الموسرين ولكنهم ليس فيهم الأغنياء، ومن كان مجموع ماله ألفي جنيه عد من كبار أغنيائهم، وأكبر غني هناك هو أفيونيان وكل ماله لا يتجاوز العشرين ألف جنيه.
وإن من عجائب ما استقراه العقلاء أن أكثر الأمم غلوا في الدين أكثرها تهاونا في غيره، وما ذهب بمجد اليونانيين وأخر سبق الرومانيين وأضعف سلطان الإسبانيين لجدير بأن يبلغ بالسيواسيين منتهى الشقوة. وما غلو هؤلاء القوم في دينهم ظاهرا في نسكهم وعبادتهم، بل هو بين في صدهم عن كل شيء يأتيهم من أوروبا. لقد كنت أخرج إلى بعض الخلوات مع رفقة لي، محمولين على الدراجات، فيرجمنا الشبان والصغار بالحجارة، وكم اضطررنا إلى تهديدهم بالمسدسات ردا لأذاهم، فرددناهم وما كدنا، وهم يسمون الدراجة «شيطان عربة سي»؛ أي عربة الشيطان. ولما استمر اعتداؤهم وأعيتنا الحيل في اكتفاء شرهم؛ عمد كل منا إلى دراجته فباعها.
وكانت السيدات الأوروبيات إذا خرجن للنزهة يصحبن معهن رجالهن وخدمهن لكي يردوا عنهن الأولاد إذا رموهن بالحجارة. وهذه الجرأة تجدها عند المسلمين كما تجدها عند الأرمن، وصبيان الأرمن إذا رأوا سيدة أوروبية صاحوا بها: يا مادام، جيوبك ملؤها الشياطين. وقد يغتفر المرء أمثال ذلك من صبية نقصوا تربية وحرموا علما، ولكن ما يقول المرء إذ يرى أمهاتهم يمشين محجبات ساحبات فضول مآزرهن كجماعات الإوز أو كأقطاع الغنم. ولقد يبصرن بسيدة أوروبية أو سائرة بزي الأوروبيات فيسببنها في وجهها ويضحكن من شكلها. هذا جهل لو انقلب علما لأصبحت غربان سيواس فلاسفة. ذاك والمدارس الأجنبية لا تضيع في سوى التعليم وقتا من أوقاتها، فما ظنك بها من قبل أن تدخل جنود العلم أرض سيواس.
ولا يحسبن القارئ أني أرمي بما تقدم من كلامي إلى ذم أخلاق السيواسيين، فذاك بمعزل عن غرضي، بل إن أهل سيواس من أقرب العثمانيين إلى التقويم والتهذيب، وما أظن أن في الولايات العثمانية ولاية تفاضل سيواس في دعة أهلها. ومن المستحسن من محاسنهم أن الجنايات بينهم أقل من الأقل؛ فلقد يمضي الشهر والشهران ولا تقع في مدينة سيواس جناية واحدة. ولقد كثرت في خارج المدن وفي بعض قراها سطوات الصعاليك وقطاع الطرق وأكثرهم من الجركس، ثم أبادهم رشيد باشا عاكف في أيام ولايته فحل الأمن محل الخوف.
وإذا نظرنا إلى أولئك الأقوام وحالهم حالهم من البؤس والشقاء وبقاء أكثر شبانهم بغير شاغل لهم من حرفة يحترفونها أو طريق كسب يسلكونه، وقارنا ذلك إلى اعتصامهم بالصبر وغيرتهم على الأخلاق أن ينتهي بها الفساد إلى ما لا علاج له؛ عرفنا لهم حق الأدب القومي وأنصفناهم؛ فإن الصناعات التي ذكرتها في فصولي المتقدمة قد انقطع إليها ناس عرفوا بها ولم يترسم خطاهم غيرهم، وسائر الشبان يحيون حياة بطالة ولهو لا طائل تحتها.
الأمة والشورى
من الناس من يذهب إلى أن الأمة العثمانية كانت تريد الدستور. وهذا وهم لا حقيقة له. من أين للأمة أن تدرك محاسن الشورى ولا عهد لها بها؟! لقد أقرها عبد الحميد في أوائل ولايته أياما ليخدع بها خصومه ويبث بها لهم حبائل الشر، ثم أخذ يرمي بهم واحدا بعد واحد حتى أباد جمعهم وأفنى أكثرهم، ومد بعد ذلك رواقا من الظلم احتبى تحته الراضي والساخط وقضى ألا يحاسب وألا يعاتب، فاشترى أقلاما بذهبه وكسر أقلاما بقوته، وحال بين الرعية وبين الحياة. فمن أين عرفت الشورى وكيف تاقت إليها نفوسها؟!
ما أريد غضا من جانب الأمة ولا تجاهلا لمناقبها، ولكن هو الحق الذي لا يتغلب عليه اللجاج . وليس في ادعاء غير الواقع فخر تناله الأمة، ولا في إبطاله عار يلحق بها.
إن الأمة اشتدت عليها الأوجاع، فتجلدت وكرمت في تجلدها، وما كان ذلك عجزا ولا ذلا بل وفاء وإعذارا، فكان منها من يحمل مصائبها على حكم القدر فيمتثل إيمانا، وكان منها من يتهم حاشية السلطان بإخفاء الأمور عنه ومنع شكاوى الرعية أن تصل إليه، وكان منهم من يقول إن مهب تلك الفادحات هو الغرب حيث عكف ساسته على الكيد لنا والانتقام لأسلافهم الذين وردت سيوفنا رقابهم وأذل سراتنا أعزتهم، ولم يتجاسر أحد من عامة الأمة أن يتهم عبد الحميد في نجواه، فما ظنك بإعلان عصيانه وإنكار سيئاته عليه، وإنما باح ببغضه له وجاهره بالعدوان قليل ممن تعلموا وعرفوا، فهؤلاء هم أعوان الحرية وأنصار الشورى.
إن العامة تحب الشيء إذا حببه إليها زعماؤها وتبغضه إذا بغضه إليها زعماؤها. وزعماء العامة عندنا رجال الدين، وهؤلاء لا يرغبهم في الشورى شيء مما هم منقطعون إليه؛ فهم يحبون أن يظلوا محتكمين على الرقاب، وأن يبقوا عيالا على الأمة، وأن يلثم الناس أيديهم ويملئوا أكياسهم، ثم إن عبد الحميد اتخذ منهم شيعته وذادته، فما أقر هيبته في القلوب ولا ابتاع له المودات إلا هذا الرهط. فصح إذن أن الأمة لم تكن من العلم بالشورى على شيء.
على أن فريقا - هو متوسط بين الخاصة والعامة - أخذ يبدي ضجرته بعدما طال إخفاؤها، فكان كلما اشتدت وطأة الجواسيس زاد بغضا لرجال الحكومة؛ ظنا بأن أولئك يخدعون السلطان ويخونون عهده لأمته، وكلما حاول فريق الأحرار حمل هذا الفريق على مؤاخذة السلطان أبوا وقالوا: «حاش لله، هو أعظم من أن يتهم في ذمته، أنتم خاطئون، الذنب ذنب من حملهم الأمانة فخانوها.»
قلت يوما لصديقي أمير باشا: ألا يقوم رجل من نجباء هذه البلاد فيجمع بعض الأمة في داره ويعلمها بما هي صائرة إليه من الهلاك؟ أرجو أن يكون ذلك باعثا لها على الانتباه. فقال: إن أهل الشرق لا ينبههم النصح وإنما ينبههم الجوع، فإذا هم جاعوا طلبوا حقهم .
قلت: هذا غلو منك.
قال: بل هو الحق الذي لا يختلف فيه، وما كلمتك إلا كلام مجرب.
وقد أيدت الأيام كلام صديقي، فحدث بسيواس غلاء قبل إعلان الدستور بأشهر قلائل، وأخذ التجار يغلون الحنطة ثم لا يبيعون ما في خزائنهم إلا بعد رجاء تيبس له الألسن في الأفواه، فتظلم الناس إلى الولاية، والوالي إذ ذاك في حوضة ينتظر ما قدر له من غدر عبد الحميد، فلم يتمكن من الإسراع إلى إغاثة الملهوفين، فأقبلوا ذات يوم في جموع يزاحم بعضها بعضا حتى وقفوا على باب الحكومة، فانتهرهم الجندرمة والبوليس، فهاج انتهارهم غضب المتجمعين، فحملوا على الأبواب وعلى الأجناد حملة تزحزح الجبال عن مواضعها، فغلقت الأبواب واعتصم حراسها بالقصر، وكان الدفتردار وكيلا عن الوالي، فأبرق إليه يخبره الخبر ولم يبين الأمر بيانا شافيا، فجاء أمر الوالي برد الناس إلى منازلهم وضربهم إذا أبوا. غير أن الجنود أبت الامتثال وتركت إخوانهم ينهبون المخازن ولا يتعرضون لهم بشر، وما انتهت الفتنة يومئذ إلا حين نفدت الحنطة من المخازن.
فأقبل علي أمير باشا باسما وأخذ بيدي وهو يقول: نحن لا نجادلكم فيما تعلمون، فما لكم تجادلوننا فيما نعلم؟ أرأيت يا ابن أختي كيف صدق يقيني وكذب ظنك؟ فأما وقد عرفت الأمة أنها قادرة على مغالبة الحكومة وأن صاحب الحق أقرب ما يكون من حقه إذا طلبه بساعده، فإن وراء ذلك لخيرا يرجى.
قلت: حسبك، وعظت وعظا ما خلت أني أسمعه وراء «جاملي بل»، والله على كل شيء قدير.
وكان أهل أرضروم ثاروا قبل ذلك بأشهر على واليهم، فضربوه حتى أماتوه. غير أن ثورتهم لم تكن من الجوع؛ فقد أراد ذلك الوالي نفي رجل من سراتهم، فأخذه من بيته ليلا، فخلصوا صاحبهم وعاقبوا المعتدي عقابا اضطربت له جوانب يلديز، وجاءت أخبار غضبهم هذه نيازي ورفاقه المجاهدين، فجددت عزائمهم وأحيت آمالهم.
ولئن عرفت الحكومة العثمانية الناشئة أن تسترجع الشورى من غاصبها، فذلك فضل تزيده معرفتها باستدامته، ومتى ذاقت الأمة عذب طعم الحرية وفطنت لما تنال في أيامها من الصفو والرخاء؛ أمست وهي أشد غيرة عليها من الأحرار وباتت أمة حرة بأسرها ووضحت لها خطيئات أهل الأهواء.
ملخص الصور
الفاضل الحر والهمام الأبي أرستيدي باشا؛ معاون الوالي بسيواس، ثم مبعوث إزمير، ثم ناظر الحراج والمعادن سابقا، وأحد أعضاء مجلس الأعيان اليوم.
الصديق الأوفى والشهم الأبي المسيو جويت؛ قنصل الولايات المتحدة الأمريكية بسيواس سابقا، وقنصلها بطرابزون الآن.
الشهم الأبي المسيو أوسمين لابورت؛ قنصل فرنسا بسيواس، ثم قنصلها في بنكوك.
الشهم الحر أسعد رءوف بك؛ مكتوبجي ولاية سيواس، ثم متصرف مرسين.
قلعة سيواس العتيقة.
المدرسة الملكية الإعدادية.
أولوجامع، ومعناه الجامع العظيم.
القبة الكائنة بخارج سيواس.
إحدى حفلات السباق التي أسسها رشيد عاكف باشا بسيواس. رشيد باشا في وسط الصف الأول، وعلى يمينه المستر جويت قنصل أمريكا ثم عقيلته ثم شقيقتها، وعلى يساره المسيو لابورت قنصل فرنسا، ثم آليوز بك حمو السلطان السابق.
إحدى حفلات السباق التي أسسها رشيد عاكف باشا بسيواس.
অজানা পৃষ্ঠা