نعم، نعم، إن هذه كلها «لمواضيع عصرية»، والذين ينظمون فيها لا شك «عصريون» سائرون مع العصر لا وراء، وإنما ينقصهم أمر واحد، وذاك أن يسيروا ولو بعض الطريق وراء الشعر، فقد ساروا أجيالا وراء الزحافات والعلل.
لا بد لنفسي ونفسك يا أخي، وأنفس من ينظمون «عقود» المديح الفارغ والرثاء الشائن والغزل الذي لا غزل فيه، من أن تستفيق يوما من غيبوبتها الطويلة، حتى أنفس من ينظمون التاريخ ليأتيها يوم تنفتح فيه أعينها، فترى الشمس والفضاء، ولا تستفيق أنفسنا إلا إذا شعرت برعشة الحياة في داخلها؛ لأن الحياة فينا لا خارجا عنا، وما التأثيرات التي تحدثها فينا الطبيعة أو الحياة الخارجية، إلا منبه لما كمن في داخلنا من العواطف والأفكار، فلولا عواطفنا ولولا أفكارنا، لكان ما ندعوه «الطبيعة» صحيفة بيضاء. إن الحياة إرث مشترك، ولي فيها ما لك، غير أن ما ينتفع به كلانا من هذا الإرث، يتوقف على ما تنبه فيه من العواطف والأفكار؛ لأنها مفتاح إهراء الحياة العجيب، الذي كلما ولجت منه بابا أدى بك إلى باب سواه.
أي يا أخي، إن عواطفنا وأفكارنا، هي ما استيقظ من الحياة فينا، ومن الغريب أنه كلما تحركت فينا عاطفة أو تململ في داخلنا فكر، تأتيهما ساعة تلفظهما النفس، كما تدفع الحامل الجنين من أحشائها عند اكتمال دور الحمل، كأن النفس لا تعرف ما في داخلها إلا إذا انتصب أمام عينيها. وكما أن الحامل تجهض وتعود فتحمل، كذلك النفس كثيرا ما تلفظ عواطفها وأفكارها قبل الأوان فتظهر ناقصة مشوهة، لكنها أبدا تعود فتحمل وتعود فتلد. والنفس التي تولد عواطف جميلة، وأفكار حية ناضجة، هي النفس المستيقظة، النفس الشاعرة، وما تولده مثل هذه النفس، هو الفن، والفن إذا اتخذ الكلام ثوبا كان شعرا.
أما النفس التي لا تولد إلا أوزانا صحيحة وقوافي رنانة، فهي النفس المصابة بالعقم، ولا بد لهذه النفس من أن تتلقح يوما بجرثومة الحياة، فتجد في داخلها عواطف وأفكارا، لا أوزانا وقوافي فقط.
لقد نبهتني يا أخي إلى أمر ما كنت غافلا عنه، حين قلت لي إن شعراءنا في هذه الأيام قد تعدوا أبواب الشعر القديمة، وإنهم يفتشون عن مواضيع جديدة تجول فيها قرائحهم. فذكرت لك بعض تلك المواضيع، وضحكت منها، وضحكي كان ممزوجا بالمرارة والأمل؛ أما المرارة فلأن شعراءنا لا يزالون يبحثون عن الشعر في رغوة الحياة وفقاقيعها، وأما الأمل فهو أنهم ببحثهم عن مواضيع جديدة، لا بد من أن يعثروا يوما على الشعر، فيدركوا أنه لا ينحصر في عشرات من البحور، ولا في ألوف من الأبواب. ففي كل عاطفة باب، وفي كل فكر بحر، بل إن في مظهر واحد من مظاهر العاطفة الواحدة ألف باب وباب، وفي ثنية واحدة من ثنيات الفكر الواحد ألف بحر وبحر. ومتى أدركوا أن مصدر الشعر طي النفس، عكفوا على درس نفسهم، وتفقدوا زواياها وخباياها، حتى إذا ما عثروا هناك على عاطفة ترتعش وفكر يتململ، صاغوا لتلك العاطفة ولذاك الفكر لباسا من الكلام يليق بهما. وليس من الكلام ما يليق لباسا للعاطفة الحية، والفكر المستيقظ، إلا ما جمع منه بين تأليف ألوان الرسام، وتناسق أشكال النحات، وتوازن خطوط البناء، وترابط إلحاق الموسيقى.
حينئذ يا أخي تثمر قرائحنا، فيكثر شعرنا، وتقل زحافاتنا وعللنا.
أمين مشرق
(1) الداء العياء
ظهرت منذ مدة في مجلة «الهلال» قصيدة «لأمير الشعر » أحمد شوقي بك بعنوان «درة شوقية». ثم رأينا بعد ذلك في أحد أعداد «السائح» مقالا لميخائيل نعيمة ينتقد فيه تلك القصيدة انتقاد شاعر صميم، ونقاد ماهر، لا تلهيه رنات القوافي، ورقصات الأوزان عن الجد في تطلب المعاني الرزينة. فكان أن تلك «الدرة» - بعد أن تفحصها نعيمة بمكرسكوب شاعريته، ونقر عليها بمطرقة قريحته - لم تكن درة، بل كانت صدفة براقة تصلح للعب الأولاد. أما البالغون المدركون، فلا قيمة لها عندهم.
لا شك أن كثيرين من ذوي الذوق السليم، وأنصار الحرية الأدبية في أميركا ومصر وسوريا، لا يترددون في الانتصار لناقد القصيدة على ناظمها. ولا شك أيضا في أن ألوفا من مريدي «أمير الشعر» وتابعيه، يودون لو أعطي لهم، أن يتخذوا الفضاء صفحة يخطون فيها بدلا من الشمس علامة سؤال، وبدلا من القمر علامة تعجب، ويصورون بسائر النجوم والمذنبات هذه العبارة: «من هو هذا النعيمة ليتجرأ على رفع بصره إلى عرش أمير الشعر؟!»
অজানা পৃষ্ঠা