مقدمة
أمين الريحاني
جبران خليل جبران
ميخائيل نعيمة
أمين مشرق
إيليا أبو ماضي
رشيد أيوب
وليم كاتسفليس
نسيب عريضة
عبد المسيح حداد
مقدمة
أمين الريحاني
جبران خليل جبران
ميخائيل نعيمة
أمين مشرق
إيليا أبو ماضي
رشيد أيوب
وليم كاتسفليس
نسيب عريضة
عبد المسيح حداد
ما وراء البحار
ما وراء البحار
تأليف
أمين الريحاني وآخرين
جمع
توفيق سعيد الرافعي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فقد سبق لنا في خاتمة كتابنا «أمين الريحاني»، أننا وعدنا القراء بإطلاعهم على شيء من أساليب النبوغ العربي، فيما وراء البحار، ووفاء بوعدنا نشرع في تقديم مختاراتنا، من كتابات أساطين الأدب العربي في البلاد الأمريكية، ولا يعزب عن فكر المطالع اللبيب أننا أشرنا هنالك إلى سبب تقديم الأستاذ الريحاني وإفراده بكتاب خاص، وهو حلوله دار الضيافة بالشرق، وسبقه غيره من أدباء السوريين في الاهتمام بزيارة بلاده الشرقية؛ مسقط رأسه ومهد طفولته، الذي منه درج، للوقوف على حالها، واكتناه مسائلها. وما فاتنا الإشارة إلى أننا نعرف من أدباء السوريين في مهجرهم من هم والريحاني رضيعا لبان أو فرسا رهان، إن لم نقل بتفوقهم على الريحاني نفسه، فوفاء للأدب بحقه، وتكريما للعلم وأهله، من الزائدين عن حقيقته، والمانعين لحرمته، والحافظين لمودته؛ وجب علينا أن نبادر فنشفع كتاب «أمين الريحاني» بكتاب النبوغ العربي؛ ليطلع الشرقيون على مبلغ علم أحفاد الفينيقيين في مهجرهم، فيعرف مقدار نهضتهم وكيفية منازعهم، فلا يبخس الناس أشياءهم.
وحسبنا فخرا أن الريحاني، وكل من نختار له شيئا في كتابنا هذا، ممن ترعرع في بلادنا، وتغذى بغذائنا، ونشق ريح لبناننا. ودليلنا أن القراء الكرام قريبو عهد بما كتبناه عن حياة الريحاني، وكيفية نشأته، ومبدأ هجرته، وهو أحد رجال تلك النهضة العلمية، التي تضم بين أحنائها نبغاء السوريين في دار هجرتهم، وفي طليعتهم الأديب النابغة جبران خليل جبران، فهو أحد أعضاء الرابطة القلمية، وابن لبنان الجميل، ورضيع ثدي العلم في الرياض البيروتية. وقد قاسمهما النشأة والنبوغ زميلهما النحرير مخائيل نعيمة. فبعد أن ارتشف من معين العلم في سوريا، هاجرها إلى البلاد الروسية؛ طلبا لمزيد العلم، وتجويد الاطلاع، ثم أم البلاد الأمريكية، وهناك تجلى نبوغه وأدبه، بعد أن دخل إحدى جامعاتها، فزاع صيته وعلا قدره بين جميع من يتذوق طعم الآداب. ولا يغيبن عن بال القارئ ذاك النابغة، وعضو تيك الجامعة إيليا أبو ماضي، شاعر العرب الأمريكي، وحفيد لبنان الكبير، وربيب الدراسة في البلاد المصرية، ونزيل القارة الأمريكية، وصاحب أحد الدواوين الشعرية. وما أنس من الأمجاد، لا أنس المتأدب الهمام عبد المسيح حداد، صنو هؤلاء الأعضاء الناهضين، وكذلك النوابغ: رشيد أيوب، وأمين مشرق، ووليم كاتسفليس، ونسيب عريضة؛ أركان الأدب القوي، وحصنه الحصين.
وحسبنا من سيرة هؤلاء الأفذاذ النابغين، أنهم أنصار الآداب العربية، في بلاد لا صلة بينها وبين آداب الشرقيين، فقد كتبوا وجودوا، ونظموا فأبدعوا، وترنموا فأطربوا، ونادوا فأسمعوا. بيد أنا ونحن في مقام الاعتراف بالجميل، وحب اطلاع القراء على شيء من مختاراتنا من كلام أولئكم الأدباء، رأينا من الحسن، أو مما لا مندوحة لنا عنه، أن نلفت ذهن قارئنا الفطن إلى نقطة هامة، وبودنا أن نجعلها نصب عينيه، وأمام خاطره، حين مطالعته كتابنا هذا، بل ومطالعة كل ما نختاره من كتابات إخواننا في المهجر، وهي أن هذه الطائفة المتأدبة، قد تضلعت بعد هجرتها بآداب الغربيين، فخالطت تلك الآداب نفوسهم، وانطوت عليها جوانحهم، فربما تغالوا فيها حينما يريدون مزجها بالآداب العربية، فلا يراعون في شعرهم قوانين القريض العربي، ولا يتقيدون بأوزانه وقوافيه، بل يطلقون لملكاتهم الأعنة خلف الأساليب الغربية، فيجيء شعرهم ونثرهم رافلا في حلله الغربية، أكثر منه اتشاحا بالحبرات اليمانية، والبرد النجدية، والأكسية العراقية، والسمات العربية، ولكل وجهة هو موليها.
على أننا لو أرجعنا البصر إلى تاريخ الآداب العربية، لرأينا من رجالات الأدب العربي وفحول القرون الأول، من قد سرى إلى أذهانهم شيء من هذه الأساليب، وقتما استوطنوا الجزيرة الأندلسية، إلا أنهم أدخلوه على الأدب العربي، مع مراعاة مقومات اللغة التي ينتمون إليها، ويحافظون على مشخصات آدابها.
وقصارى القول، أننا نغبط أنفسنا بنشر هذه الآثار، التي نرى فيها نفعا كبيرا لجمهور أهل الأدب، فثقتنا بالقراء الكرام، وحبهم للاطلاع على نافع الموضوعات، وحسن مؤازرتهم لنا، بإقبالهم على مطبوعاتنا؛ حبب إلينا إجهاد النفس في هذا العام، بطبع عدد غير قليل من الكتب الاجتماعية، والسياسية، والأدبية، والتاريخية.
وإنا نختم مجهودنا، بهذا السفر النافع لمن يطلع عليه، وينظر في صفحاته بإمعان، ثم ندع اليراع في هذا العام، طلبا لراحة الجسم وترويح الفكر؛ فإن لبدنك عليك حقا، والسلام.
توفيق الرافعي
القاهرة في مايو سنة 1922
أمين الريحاني
إن حاجتنا إلى التهذيب اليوم، لأشد منها إلى السكك الحديدية والتلفونات. إن حاجتنا إلى العلم الصحيح الذي يهذب الأنفس، ويرقي العقول، ويثقف الأخلاق، لأشد منها إلى العلوم اللغوية، والفقهية، واللاهويتة، والخنفشارية، والتهذيب الصحيح ينبغي أن يعم عناصر الأمة بأسرها على السواء، ليأتي بفائدة تذكر للأمة، وعندي أن أشد الويل والبلاء، إنما هو في بيت يعيش تحت سقفه الجاهل والعالم معا. إن وطننا بهذا البيت أيها الأخوان، وعناصر الأمة فيه كأفراد تنافرت أذواقهم وأخلاقهم، وتعددت صبغاتهم القومية والدينية، وتباينت فيهم درجات المدارك والعلوم، فإذا ارتقى عنصر من عناصر الأمة دون سواه، يلتجئ غالبا إلى المهاجرة، إذا ظلت العناصر المنحطة واقفة في طريق ترقيه، كالسد في وجه المياه، أما الآية:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ، فالتاريخ لا يشهد على صحتها إلا مرة في الألف؛ لأن الطبيعة لا تسمح أن تكون المعجزات فيها مبتذلة، والغالب المبتذل هو أن الأكثرية إن كانت في المجالس النيابية أو في الطبيعة تتغلب على الأقلية.
على حكومتنا الدستورية إذن أن تنتبه إلى هذا الأمر الخطير، إن كانت ترجو أن ترتقي الأمة وتحيا. على حكومتنا أن تباشر تأسيس المدارس الوطنية العمومية الإجبارية المجانية، المجردة عن كل صبغة دينية، وإن كانت لا تباشر قريبا، فلا ترج يا أخا الحماسة، كبير خير من هذا الانقلاب، ومن هذا الدستور، ومن هذا المجلس النيابي.
أظنك تعلم أيها القارئ العزيز، أن لا غاية لي من الكتابة والخطابة والتأليف، سوى نشر المبادئ الحرة، والتعاليم السديدة في الأمة، وأن من تجرد عن المآرب السياسية، وعن الأغراض الشخصية المادية، يرسل كلمته في الناس، دون أن يراعي خاطر أحد من الناس. منذ خمس سنوات عدت إلى وطني، من العالم الجديد، وحتى الآن ما عرفت من الرؤساء المدنيين والدينيين، إلا من أحب أن يعرفني، أو من جمعتني به التقادير، قضيت هذه المدة كلها بعيدا عن الرئاسة والسياسة، فبان لي أن في طاقة الإنسان أن يعيش سعيدا، دون أن يتزلف من السياسيين والأمراء، أو عمال الحكومة والرؤساء، نعم عشت محروما هذا الشرف العظيم، فكانت همومي الأدبية ومتاعبي السياسية أقل من هموم سواي من الأدباء.
عسى أن يعذر القراء مني هذه الكلمة الشخصية، فما قلتها إلا لأبني عليها قاعدة عمومية، هي جديرة باعتبار كل من زاول صناعة الكتابة، وأحب أن ينفع الناس بعلمه وأدبه، إن التقرب من العظام، وبالأخص أصحاب السيادة منهم، يفقد الكاتب مزية الحرية والاستقلال؛ هذه هي القاعدة العمومية، التي قلت من أجلها كلمتي الشخصية، تكلمت عن نفسي، وما كنت لأفعل ذلك في غير هذه الأحوال، لأؤكد لكم أيها الإخوان أن الآراء التي أبديها والمبادئ التي أنادي بها، إنما هي ثمرة علم لا يعرف التفريق والتحزب، ولا يفرق بين الجنسيات والأديان.
أحب أن أردد بعد هذا التمهيد، كلمتي السابقة عن المدارس الوطنية، وأردفها بكلمة ليست بأقل منها أهمية، وهي «صيحة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح تذهب غدا بالأوتاد.» إن الأمة العثمانية لا تصير حقا أمة واحدة متحدة راقية، إلا إذا تأسست في البلاد المدارس الوطنية العثمانية المجانية الإجبارية، وتلقن فيها العلوم أبناء المسلمين، وأبناء الدهريين، وأبناء المسيحيين، وأبناء اليهود معا. بقي علي أن أقول كلمتي الأخرى: إننا لا نصير أمة راقية حرة بكل معنى الكلمتين، إلا متى صار أدباء المسيحيين وأدباء المسلمين يتباحثون في أي موضوع كان، دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا، دون أن يثير ذلك في شعب الملتين غبار الجهل، وسموم التعصب، بل إذا كان لا يحق للمسلم أن ينتقد المسيحيين في شئونهم العمومية الاجتماعية، ولا للمسيحي أن ينتقد المسلمين، فلسنا والله بأمة واحدة، وليس وطننا بذاك الوطن المجيد الجامع، الذي يعبد في هيكله كل أبنائه، على اختلاف المذاهب والعناصر والجنسيات، بل إذا كنا لا نتجرد عن صبغاتنا الدينية، في شئوننا الوطنية والاجتماعية، فحريتنا أيها الناس كلمة مقولة، وإخاؤنا لفظة غير معقولة، والمساواة عندنا قاعدة باطلة مرذولة.
نعم يا سيدي، إذا كان إخواننا المسلمون، لا يساعدوننا في نشر التعاليم الحرة في الأمة، إذا كانوا لا يؤيدون قولا وفعلا آراء آباء الحرية والدستور، إذا كانوا لا يرددون صدى أحرار المغرب وعلمائه، ومن ينحو اليوم في الشرق نحوهم من الأحرار الأصفياء والعلماء؛ فعبثا يحاول أبطال الدستور والحرية تجديد حياة الأمة، والمسلمون العنصر الأساسي في الأمة. وأما انتصار الجيش، فلا مجد عظيم فيه، إن لم يتبعه انتصار في العلم والتهذيب؛ لأن الجيش وإن دمر معاقل الحكومة الاستبدادية، فنصره لا يزيل الجهل الذي أسست عليه تلك الحكومة، وما زال الجهل سائدا في الأمة، سيان عندي إن كانت الحكومة فردية استبدادية، أو حرة نيابية، إن لم تباشر الحكومة في تدمير حصون الجهل. إذن يعود الجهل فيدمر حصون الحكومة، ولا يتم لها ذلك إلا في تأسيس المدارس العمومية الوطنية، مجردة عن كل صبغة دينية؛ حيث أولاد المسلمين، والمسيحيين، واليهود، والدهريين، يتلقنون كلهم العلوم على أستاذ مدني واحد، وتحت سقف واحد، ومن كتاب واحد، وعلى طريقة وطنية واحدة. وما هذه ببدعة أنادي بها؛ فإن مكتب الصناعة في هذه المدينة، أسس على هذه الطريقة الوطنية، وحبذا لو أحيته اليوم الحكومة، فيكون مثالا للمدارس العثمانية العمومية الإجبارية. وعبثا نحاول توحيد العناصر المتعددة في الأمة، إذا كان التعليم لا يوحد على هذه الطريقة الوطنية الجامعة الحرة.
جلست مرة في قهوة من قهاوي البحر، أتفرج على الناس يسبحون، تأملتهم في تلك الحالة الطبيعية، وقد تجردوا عما يميز البعض منهم عن البعض، وقلت في نفسي: أين المسلم الآن؟ وأين اليهودي؟ وأين الكافر؟ وأين المسيحي؟ رأيتهم يسبحون كلهم في بحر واحد ، تحت سماء واحدة، وهم لا يستنكفون من أمواج تلعب حول قلوبهم، كأنها قلب واحد، وتغسل أجسامهم كأنها كلها جسم واحد. فقلت في نفسي: متى يا ترى تصير عقولنا مرنة نشيطة قوية كأجسامنا؟ متى تصير أنفسنا كأمواج هذا البحر، فلا تخضع إلا لناموس واحد، هو ناموس الله؟ أو في الأقل، متى تصير متساهلة كأبداننا، فتسبح في بحر الآداب الواحد، وتحت سماء العلوم الواحدة، دون تنافر ودون شقاق؟
نظرت إلى البحر وأنا جالس في تلك القهوة، فرأيت هناك المدرعات الحربية الأوروبية، ومنها المدرعتان الإفرنسيتان «لاڨريته» و«فكتور هوغو»، فكرهت الإقامة في بلاد لم تزل تحتاج فيها إلى مثل هذه المظاهرات الكاذبة، وهل كنا نشاهد المدرعات الأوروبية بصفة رسمية في بحرنا لو تأسست عندنا المدارس العمومية الوطنية، منذ ثلاثين سنة، هل كانت تلطخ المذابح تاريخنا، فتلحق بنا وبوطننا العار والشنار، لو وحد منذ ثلاثين سنة التعليم، فنمت في قلوب العثمانيين عاطفة وطنية شاملة، وانتشر روح التساهل الديني في الأمة؟
لا يا إخوتي، أنا لا أحب أن أرى هذه المدرعات على شطوط بلادنا، أنا لا أحب أن يلتجئ أحد عناصر الأمة إلى دولة أوروبية، أنا لا أحب أن أرى «فكتور هوغو» في بحر بيروت، بل أحب أن أشاهد روح فكتور هوغو متجلية في أرواح أبناء بيروت، لا أحب أن أرى «الحقيقة» على شواطئ سوريا، بل أحب أن أراها في قلوب أبناء سوريا، أحب أن تحمينا المبادئ السديدة، لا المدافع والمدرعات، أحب أن يحمينا العلم الخالص من الغش والتعصب المجرد من كل مصلحة جنسية أو دينية، أحب أن يحمينا الإخاء العثماني، والجند العثماني، والعلم العثماني. (1) الكنيسة والجامع
1
لم أر بين سائر أماكن العبادة التي أعرفها (وقد حملت نفسي المنسحقة وركبتي التعبتين إلى هياكل عديدة) أفضل من الجامع، وما أدراك ما الجامع! هو المكان الذي يؤثر علي بديموقراطيته أكثر من سواه، لما فيه من شواعرها المتنوعة، فليس في الجامع ما يداهن الأغنياء، أو يكسر قلوب الفقراء، أو يرد ثقيلي الأحمال، أو يغفل الورعين. وليست بشاشة الجامع بمقاعده المزدوجة، ولا رغبة الناس فيه لصدقاته، والخدمة التي تقام فيه نهار الجمعة مأخوذة من القرآن، ولهذا لا تحرف ولا تبدل، بل هي دائما لحن من البلاغة، تعشقه الأسماع، فيحدث خشوعا في القلوب لدى اتجاه الأفكار نحو العلاء.
الجامع كبير، يسع عادة جماعة الخطباء، حتى والعابدين النوام، ويبقى بعد ذلك فراغ لا يحد، فالمنبر لا يكون أبدا قريبا من الزوايا الساحرة الشكل، التي تظل جماعة المسلمين ونفوسهم، وهم على اختلاف طبقاتهم، يجتمعون للصلاة تحت سقف واحد، فتجد بينهم درويشا متمتعا، وشحاذا أعمى، وحمالا منهوك القوى، وأعرابيا عليه غبار البرية البعيدة، وكلهم يؤمون الجامع، بتمام ورع وخشوع، طلبا للراحة بعد العناء، أو لإغماض عيونهم لغفوة قصيرة، فبعضهم يسجدون أمام المحراب، وآخرون يتمددون على الرخام البارد، تحت الأروقة، حين يكون شيخ جليل، أو أمير عريق في النسب راكعا على سجادة عجمية ثمينة، يخر ساجدا ثم ينهض قائما في صلاته.
هنا درويش يتمتم قائلا: بسم الله الرحمن الرحيم، ويعد خرزات سبحته، إلى أن تصل نفسه درجة الغيبوبة.
وهناك فقير يتثاءب، متبعا تثاؤبه بقوله: يا الله يا كريم، ويخر مكبا على وجهه، وهناك بدوي ممدد تحت الرواق كأنه جثة هامدة، وليس من ملحد أو جاهل يتعدى على أحد المصلين أو يعكر عليهم ...
الجامع ميناء، يرتاح إليه الشحاذ والأمير، وهيكل يضم المؤمنين، وناد يقبل أولاد الله على السواء. هو حيث يعثر المنبزذ على حجر يسند إليه رأسه، فتكتنفه رهبة القبة الواسعة، التي تعلوه، وما يتخلل سكينة ذلك المكان الرهيب إلا كلمات: يا الله، يا كريم، التي تدفعها الصدور وقتا فآخر.
ولو أن الجامع قائم في سوق النحاسين، لندر وصول صوت إليه من الخارج، يؤذي رهبة المكان وسكينته، وإن النفس فيه لتخشع من هذا السكون، فتدعو الجسد، ويسبح العقل في العلويات، فينبه النفس بلا صنوج ولا أجراس، بلا آلة موسيقية، ولا جوق مغنين، بلا رسوم ولا تماثيل، ولكن بأضواء الإيمان الدائمة، التي لا تطفأ تندفع النفس لتجد سبيلا لها من خلال السكون الفائق الوصف، والرهبة التي لا تحد، إلى العزة الإلهية، إلى الإله الواحد، إلى الله.
دخلت ذات يوم جامعا في إحدى القرى؛ لأستريح، وقد خلعت حذائي عند الباب متأملا بهذا التقليد الحكيم؛ لأن لذلك دواعي روحية وحسية، فإنه إذا كان من الدناسة أن تدخل بيت الله وحذاءك في قدميك، فكم بالحري إذا لطخت سجاد الجامع الثمين بأوحال الطريق وغبارها؟ ناهيك أني خلعت حذائي امتثالا للعادة، ولأنه كان مضيفا على قدمي أوحال، وأخال كثيرين يرتاحون إلى هذا التقليد، ويجدون به فرحا كما شعرت.
ولم يكن يدخل الجامع سوى مصلين، رجل وقور طاعن في السن في إحدى الزوايا، وشحاذ قريب من العراء جامد في الزاوية الأخرى. أما أنا فقد جلست على حصير تحت رواق، مسندا ظهري إلى عامود ممددا ساقي، وكنت إذ ذاك كأني في منزلي. إن الراحة والاسترخاء من أصول التعبد الحقيقي، وهما مما تجد في الجامع في كل ساعة من ساعات النهار، وفي كل ساعة من ساعات الليل، ولقد صليت كما أحببت، وخرجت مع رفيقي في الصلاة وأخوي بتسبيح الله. أما الشحاذ فكان حمالا، وقد ترك حمله عند الباب، وإذ تعذر عليه رفعه أسرع الشيخ المهاب لمعونته، مشمرا كميه الحريرين عن ساعديه، مبتدئا بقوله: «بسم الله.» وانحنى الحمال تحت حمله الثقيل، وقد تشنجت رقبته بالحبل المشدود حول رأسه، ثم خطا متناقلا، ولكن خطوات ثابتة بقوة الله، والتفت الشيخ إلي وقال لي مشتبها: أأنت مسلم؟ فأجبته، وأنا أشد حذائي، ولكني أعبد الله وأكرم النبي، عندئذ دعاني لمناولة الغذاء على مائدته؛ فإن الغرباء الذين يلتقون في الجامع يصبحون إخوانا.
ذكرني هذا بزورتي لمدينة نيويورك، محجة أميركا، حيث ذهبت للصلاة في كنيسة الأغنياء، وهي بناية أنيقة صغيرة خشبية، يدل ظاهرها على أنها هيكل للعبادة المسيحية، وتاريخها يرجع إلى جيل؛ إذ ركبت تركيبا لا بناء، أبعد أن أتى بأخشابها من إنجلترا، وبراغيها الأول أيضا، إلا أن نوافذها ذات الزجاج الملون المشوش الوضع، الخالية مما يستدعي النظر، أو ما ينبه المخيلة جديدة وصحيحة، ولكنها سخيفة مطلية بطلاء يقربها من شكل العاديات ، أو أسطورات التاريخ القديم، وأخالها مصنوعة في أميركا. أما أثمانها فتكال بالذهب ككل شيء تافه في هذه البلاد العجيبة، وقد لاحت لي نافذة منها تثمن بألف ريال، مهداة إلى الكنيسة من مدام «مثرية»، وأخرى أثمن منها من المستر «غني». أوليس من الغضاضة أن نذكر أسماء حقيقية في ميدان سخاء كهذا؟ إني لأعجب كيف أن أولئك المسئولين عن تشويه حيطان الكنيسة الخشبية، لم يتستروا استحياء. أقول «تشويه» عن قصد وروية، فإني لا أطيق رؤية شبابيك ملونة الزجاجات، على حائط خشبي رقيق، عليه شارة هندسية خارجية، تشوه جماله وتمنع انعكاس نور الشمس عليه.
إلا أن الإحسان لا يعيش في الظل، بل ينفخ ببوقه على السطوح في رائعة النهار فيها: أيها البوق النحاسي، إني لم أسمع صدى رناتك في تلك الجوامع المملوءة هواء نقيا، في ذلك الشرق الهادئ.
ومما يستحق الملاحظة أيضا، تلك المقاعد الكنائسية المربعة الزوايا، التي تستطيع أن تضع مكانها عدة كراسي بين ذات مساند وهرازة، وهي مركبة بطريقة تجعل أربابها يجلسون وجها لوجه، كأنهم جالسون في بهو. أولئك هم أغنياء أميركا الذين يتربعون في أبهائهم الكنائسية، ولماذا يا ترى يجزأ مكان العبادة إلى مقاطعات؟ ولم لا تكون الكنسية كالجامع الفسيح المطلوق للهواء النقي، لا ضرائب عليه، تؤمه وتبقي ما تشاء من الوقت حينما تشاء؟
إن المقاعد الكنائسية تسبب صلاة طويلة، وضريبة مرسومة، وضغطا على حرية الفرد. ولقد ترغب في أن تذهب إلى الكنيسة لقضاء خمس دقائق لتنبه روحاني، فتقضي خمس ساعات، إذ تحصر في المقعد، وغالبا إما تعكر على الآخرين أو يعكر عليك الآخرون ما يجول في مخيلتك.
ولقد علمت أن مقاعد كنيسة نيويورك لا تباع، ولا تؤجر، ولا تعرض للمصليين، ولكنها تقتنى اقتناء، فكأنها ملك لصاحب، أو عرش لرب، يتحول بالإرث من أب إلى ابنه، فلا يستطيع الغريب أن يدخل بيت الله للصلاة، إلا إذا أراد أن يقف عند الباب بفارغ صبره، وإن حصوله على خلاص لنفسه، لأسهل من حصوله على مقعد ليريح ركبتيه من عناء الوقوف.
أما أنا فقد جلست على مقعد مضيفي، وأخال مضيفي حصل عليه بالقوة؛ لأن جلدة كتاب الترانيم تحمل اسما غير اسمه، وهم اسم إحدى العائلات العريقة، المتسلسلة من عائلات إنكلترا القديمة، وقد طرأت على هذا المقعد تقلبات عديدة، بتنقله من يد صاحب إلى آخر، حتى لم يبق من فراغ قليل على جلدة كتاب الترانيم لوضع اسم جديد.
يقاسي الأغنياء قليلا من إجحاف يسببه غناهم، فعنهم قال مؤسس الديانة المسيحية نفسه أشياء مؤلمة، وقد حرم عليهم دخول السماء بمثل ضربه، فوا الحالة هذه لا يجب أن يعدموا الحق، بأن يجعلوا لأنفسهم سماوات أخرى على الأرض، في كنيسة صغيرة، حيث يستطيعون أن يناجوا ربهم دون مقاوم أو معكر. ها هنا أولئك الأغنياء المساكين، يحبسون أنفسهم ردحا قصيرا، ولا حق لأحد من سائر سكان الغرباء، أن يتطفل عليهم بدقائقهم المكرسة للعبادة، فهم يستوون جالسين في متكآتهم، برزانة وتأنق، يرنمون النشيد المائة والسادس والسبعين، أو المزمور الواحد والخمسين، خاشعين، يستوعبون الإيمان بكل مسامعهم، وشاعرين بسلام داخلهم، وسلام مع العالم، ومع الله.
وهذه حال الواعظ، الذي لا يلقي عليهم من المنبر شيئا من أمثال الناصري - عن الغني والعازر - أو عن الجمل وثقب الإبرة، إن هذا المحترم يراعي شعوريته وأميالهم.
ليغفر لي الله ما ذكرته هنا؛ فقد أتيت الكنسية لأصلي لا لأغالط. وأما أولئك الذين قد يكونون المسببين لي هذا التغيير العقلي السيئ من قريب وبعيد، وحاضر أو غائب، فأنا أبتهل إلى الله أن يغفر لهم ويرحمهم.
انتهت الصلاة، ولكن القسم الجوهري منها لم ينته، بل سيقام في الزقاق الضيق أمام الكنيسة؛ حيث شرذمة من البوليس، يهتمون بحركة العربات الذاهبة والآتية، حينذاك يتقدم قطار سيارات متعددة الألوان والأشكال، متألقة، يحف بها الحشم، وعلى دفتها سائقون بهيئاتهم المتشامخة، وتظهر العربات المتلألئة تجرها الجياد المطهمات، فيثب منها الغلمان المرتدون أثوابهم الخاصة، ليفتحوا أو يقفلوا أبواب العربات.
غوغاء غرور ... ضجيج ... تصلف، معرض مدهش لإظهار أبهة وفخفخة، فتعال معي يا أخي المسيحي؛ تعال معي إلى الجامع.
جبران خليل جبران
(1) وعظتني نفسي
وعظتني نفسي ، فعلمتني حب ما يمقته الناس، ومصافاة من يضاغنونه، وأبانت لي أن الحب ليس بميزة في المحب، بل في المحبوب، وقبل أن تعظني نفسي كان الحب بي خيطا دقيقا مشدودا بين وتدين متقاربين. أما الآن فقد تحول إلى هالة، أولها آخرها، وآخرها أولها، تحيط بكل كائن، وتتوسع ببطء، لتضم كل ما سيكون. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون والبشرة، وأن أحدق متبصرا بما يعده الناس شناعة، حتى يبدو لي حسنا، وقبل أن تعظني نفسي، كنت أرى الجمال شعلات مرتعشة بين أعمدة من الدخان. أما الآن فقد تبدد الدخان واضمحل، فلم أعد أرى سوى ما يشتعل.
وعظتني نفسي، فعلمتني الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولدها الألسنة، ولا تضج بها الحناجر، وقبل أن تعظني نفسي، كنت كليل المسامع مريضها، لا أعي سوى الجلبة والصياح. أما الآن فقد صرت أتوجس بالسكينة، فأسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور، مرتلة تسابيح الفضاء، معلنة أسرار الغيب. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني أن أشرب مما لا يعصر، ولا يسكب بكئوس لا ترفع بالأيدي، ولا تلمس بالشفاه. وقبل أن تعظني نفسي، كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد، أخمدها بغبة من الغدير، أو برشفة من جرن المعصرة. أما الآن فقد صار شوقي كأسي، وغلتي شرابي، ووحدتي نشوتي، وأنا لا ولن أرتوي، ولكن في هذه الحرقة التي لا تطفي مسرة لا تزول. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني لمس ما لم يتجسد ولم يتجمد ولم يتبلور، وأفهمتني أن المحسوس نصف المعقول، وأن ما نقبض عليه بعض ما نرغب فيه، وقبل أن تعظني نفسي، كنت أكتفي بالحار إن كنت باردا، وبالبارد إن كنت حارا، وبأحدهما إن كنت فاترا. أما الآن فقد انتثرت ملامسي المتكمشة، وانقلبت ضبابا دقيقا يخترق كل ما ظهر من الوجود؛ ليمتزج بما خفي منه. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني استنشاق ما لا تبثه الرياحين، ولا تنشره المجامر. وقبل أن تعظني نفسي، كنت إن اشتهيت عطرا طلبته من البساتين، أو من القوارير والمباخر. أما الآن فقد صرت أشم ما لا يحرق ولا يهرق ، وأملأ صدري من أنفاس زكية، لم تمر بجنة من جنات هذا العالم، ولم تحملها نسمة من نسمات هذا الفضاء.
وعظتني نفسي، فعلمتني أن أقول «لبيك» عندما يناديني المجهول والخطير، وقبل أن تعظني نفسي، كنت لا أنهض إلا لصوت مناد عرفته، ولا أسير إلا على سبل خبرتها فاستهونتها. أما الآن فقد أصبح المعلوم مطية أركبها نحو المجهول، والسبل سلما أتسلق درجاته؛ لأبلغ الخطر. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني أن لا أقيس الزمن بقولي «كان بالأمس وسيكون غدا»، وقبل أن تعظني نفسي، كنت أتوهم الماضي عهدا لا يرد، والآتي عصرا لن أصل إليه. أما الآن فقد عرفت أن في الهنية الحاضرة كل الزمن، بكل ما في الزمن، مما يرجى وينجز ويحقق.
وعظتني نفسي، فعلمتني أن لا أحد المكان بقولي: «هنا وهناك وهنالك»، وقبل أن تعظني نفسي، كنت إذا ما صرت في موضع في الأرض ظننتني بعيدا عن كل موضع آخر. أما الآن فقد علمت أن مكانا أحل فيه هو كل مكان، وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني أن أسهر وسكان الحي راقدون، وأن أنام وهم منتبهون. وقبل أن تعظني نفسي، كنت لا أرى أحلامهم في هجعتي، ولا يرصدون أحلامهم في غفلتهم. أما الآن فلا أسبح مرفرفا في منامي إلا وهم يرقبونني، ولا يطيرون في أحلامهم إلا وفرحت بانعتاقهم. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني أن لا أطرب لمديح ولا أجزع لمذمة، وقبل أن تعظني نفسي، كنت أظل مرتابا في قيمة أعمالي وقدرها، حتى تبعث إليها الأيام بمن يقرظها أو يهجوها. أما الآن فقد عرفت أن الأشجار تزهو في الربيع وتثمر في الصيف، ولا مطمع لها بالثناء، وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرى في الشتاء، ولا تخشى الملامة. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني وأثبتت لي أنني لست بأرفع من الصعاليك، ولا أدنى من الجبابرة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أحسب الناس رجلين؛ رجلا ضعيفا أرق له أو أزدري به، ورجلا قويا أتبعه أو أتمرد عليه. أما الآن فقد علمت أنني كونت فردا مما كون البشر منه جماعة ، فعناصري عناصرهم، وطوبتي طوبتهم، ومنازعي منازعهم، ومحجتي محجتهم، فإن أذنبوا فأنا المذنب، وإن أحسنوا عملا فاخرت بعملهم، وإن نهضوا نهضت وإياهم، وإن تقاعدوا تقاعدت معهم. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني وأفهمتني أن السراج الذي أحمله ليس لي، والأغنية التي أنشدها لم تتكون في أحشائي، فأنا وإن سرت بالنور لست بالنور، وأنا وإن كنت عودا مشدود الأوتار فلست بالعواد. •••
وعظتني نفسي يا أخي وعلمتني، ولقد وعظتك نفسك وعلمتك، فأنت وأنا متشابهان متضارعان، وما الفرق بيننا سوى أنني أتكلم عما بي، وفي كلامي شيء من اللجاجة، وأنت تكتم ما بك، وفي تكتمك شيء من الفضيلة. (2) بين ليل وصباح
اسكت يا قلبي، فالفضاء لا يسمعك.
اسكت فالأثير المثقل بالنواح والعويل، لن يحمل أغانيك وأناشيدك.
اسكت فأشباح الليل لا تحفل بهمس أسرارك، ومواكب الظلام لا تقف أمام أحلامك.
اسكت يا قلبي، اسكت حتى الصباح، فمن يترقب الصباح صابرا يلاقي الصباح قويا، من يهوى النور فالنور يهواه.
اسكت يا قلبي، واسمعني متكلما. •••
في الحلم رأيت شحرورا يغرد فوق فوهة بركان ثائر.
ورأيت زنبقة ترفع رأسها فوق الثلوج.
ورأيت حورية عارية ترقص بين القبور.
ورأيت طفلا يلعب بالجماجم وهو يضحك.
رأيت جميع هذه الصور في الحلم، ولما استيقظت ونظرت حولي؛ رأيت البركان هائجا، ولكني لم أسمع الشحرور مغردا، ولا رأيته مرفرفا.
ورأيت الفضاء ينثر الثلوج على الحقول والأودية، ساترا بأكفانه البيضاء أجسام الزنابق الهامدة.
ورأيت القبور صفوفا منتصبة أمام سكينة الدهور، وليس بينها من يتمايل راقصا، ولا من يجثو مصليا.
ورأيت رابية من الجماجم، وليس هناك من ضاحك سوى الريح.
في اليقظة رأيت الحزن والأسى، فأين ذهبت أفراح الحلم ومسراته؟
أنى توارت بهجة المنام، وكيف اضمحلت رسومه؟
وكيف تتجلد النفس، حتى يعيد النوم أشباح أمانيها وآمالها؟
أصغ يا قلبي واسمعني متكلما. •••
كانت نفسي بالأمس شجرة قوية مسنة، تمتد عروقها إلى أعماق الأرض، وتتعالى غصونها نحو اللانهاية.
ولقد أزهرت نفسي في الربيع، وأثمرت في الصيف، ولما جاء الخريف جمعت أثمارها في أطباق من الفضة، ووضعتها على قارعة الطريق، فكان العابرون يتناولون منها ويأكلون، ثم يسيرون في سبيلهم.
ولما انقضى الخريف وتحولت تهاليله إلى الندب والولولة، نظرت فلم أر في أطباقي سوى ثمرة واحدة، أبقاها الناس لي، فتناولتها وأكلت، فألفيتها مرة كالعلقم، حامضة كالحصرم. فقلت لنفسي: «ويحي لقد وضعت في أفواه الناس لعنة، وفي أجوافهم عداء، فماذا ترى فعلت يا نفسي بالحلاوة التي امتصتها عروقك من أحشاء الأرض، وبالأريج الذي تشربته قضبانك من نور الشمس؟»
بعد ذلك اقتلعت شجرة نفسي القوية المسنة.
اقتلعتها بعروقها من التربة، التي نمت فيها وترعرعت، اقتلعتها من ماضيها ونزعت عنها ذكرى ألف ربيع، وألف خريف.
وعدت فزرعت شجرة نفسي في مكان آخر.
زرعتها في حقل بعيد عن سبل الزمن، وكنت أسهر بجانبها قائلا: إن السهر يدنينا من النجوم. وكنت أسقيها بدمي ودموعي قائلا إن في الدم نكهة، وفي الدموع حلاوة.
ولما عاد الربيع أزهرت نفسي ثانية.
وفي الصيف أثمرت نفسي، ولما جاء الخريف جمعت أثمارها الناضجة بأطباق من الذهب، ووضعتها على ملتقى السبل، فمر الناس أفرادا وجماعات، ولكن لم يمد أحد يده ليتناول منها.
فأخذت إذ ذاك ثمرة وأكلت، فوجدتها حلوة كالشهد، لذيذة كالكوثر، طيبة كالخمر البابلية، كأنفاس الياسمين، فصرخت قائلا: «إن الناس لا يريدون البركة في أفواههم، ولا الحق في أجوافهم؛ لأن البركة ابنة الدموع، والحق ابن الدماء.»
ثم عدت وجلست في ظل نفسي المنفردة، في حقل بعيد عن سبل الزمن. •••
اسكت يا قلبي حتى الصباح.
اسكت، فالفضاء قد أتخمته رائحة الأشلاء، فلن يتشرب أنفاسك.
أصغ يا قلبي واسمعني متكلما.
كانت بالأمس فكرتي سفينة تتقلب بين أمواج البحار، وتنتقل مع الأهواء من شاطئ إلى شاطئ.
ولقد كانت سفينة فكرتي خالية، إلا من سبعة أكواب طافحة مختلفة بألوان مختلفة، تشابه ألوان قوس القزح بنضارتها.
وجاء زمن مللت فيه التنقل على وجه البحار، فقلت سأعود بسفينة فكرتي الفارغة إلى ميناء البلد، الذي ولدت فيه.
ثم أخذت أطلي جوانب سفينتي بألوان صفراء كشمس المغيب، وخضراء كقلب الربيع، وزرقاء ككبد السماء، وحمراء كذوب الشقيق، وأرسم على شراعها ودفتها رسوما غريبة، تجذب العين وتبهج البصيرة. ولما انتهيت من عملي، وقد ظهرت سفينة فكرتي كرؤيا نبي، تطوف بين اللانهايتين البحر والسماء؛ دخلت ميناء بلدي، فخرج الناس لملاقاتي بالتهليل والتعظيم، وأدخلوني المدينة ضاربين الدفوف، نافخين الزمور.
فعلوا ذلك؛ لأن خارج سفينتي كان مزخرفا بهجا.
ولم يدخل أحد جوف سفينة فكرتي.
ولم يسأل أحد ماذا جلبت فيها من وراء البحار.
ولم يدر أحد أنني عدت بها فارغة إلى الميناء.
عند ذلك قلت في سري: «لقد ضللت الناس، وبسبعة أكواب من الألوان، قد كذبت على باصرتهم وبصائرهم.» •••
وبعد عام ركبت سفينة فكرتي وأبحرت ثانية.
سرت إلى جزر الشرق، فجمعت منها المر واللبان والند والصندل، وأدخلتها إلى سفينتي.
وإلى جزر الجنوب، فجلبت منها التبر والعاج والياقوت والزمرد، وجميع الحجارة الكريمة.
وإلى جزر الشمال، فعدت منها بالخز والوشي والبرفير.
وإلى جزر الجنوب، فحملت منها الدروع المزردة، والسيوف المشرفية، وسائر أنواع الأسلحة.
ملأت سفينة فكرتي بنفائس الأرض وغرائبها، وعدت إلى ميناء بلدي قائلا: «سوف يمجدني قومي، ولكن عن جدارة، وسيدخلوني المدينة منشدين مزمرين، ولكن عن استحقاق.»
ولكن لما بلغت الميناء، لم يخرج أحد لملاقاتي، ودخلت شوارع بلدي فلم يلتفت إلي أحد.
ووقفت في ساحتها معلنا للناس ما جلبت لهم من ثمار الأرض وطرائفها، فكانوا ينظرون إلي والضحك ملء أفواههم، والسخرية على وجوههم، ثم يتحولون عني.
فعدت إلى الميناء كئيبا مستغربا، ولكنني ما لمحت سفينتي حتى فطنت لأمر كنت مشغولا عنه بمنازع أسفاري ورغائبها. فهتفت قائلا: «إن أمواج البحر قد محت الطلاء من جوانب سفينتي، فبانت كهيكل من عظام، وعفت الأرياح والأنواء وحرارة الشمس الرسوم عن شراعها، فظهرت كأثواب رمادية بالية.»
لقد جمعت طرائف الأرض ونفائسها، في تابوت يعوم على وجه الماء، وعدت إلى قومي فنبذوني؛ لأن عيونهم لا ترى سوى المظاهر الخارجية.
في تلك الساعة تركت سفينة فكرتي، وذهبت إلى مدينة الأموات، وجلست بين القبور المكلسة، مفكرا بأسرارها. •••
اسكت يا قلبي حتى الصباح، اسكت فالعاصفة الهوجاء تسخر بهمس أعماقك، وكهوف الوادي لن ترجع بصداها رنات أوتارك .
اسكت يا قلبي حتى الصباح، فمن يترقب الصباح متجلدا يعانقه الصباح مشتاقا.
ها قد طلع الفجر يا قلبي، فتكلم إن كنت تستطيع الكلام.
هو ذا موكب الصباح يا قلبي، فهل أبقى سكوت الليل في أعماقك أغنية تلاقي بها الصباح.
هو ذا أسراب الحمام والشحارير تتطاير، متنقلة في أطراف الوادي، فهل أبقى هول الليل في جناحيك صلابة لتطير معها؟
هو ذا الرعيان يسيرون أمام قطعانهم، من الحظائر والمرابض، فهل أبقت لك أشباح الليل عزما لتسير وراءها إلى المروج الخضراء؟
هو ذا الفتيان والصبايا يمشون الهويناء نحو الكروم، فهلا نهضت ومشيت معهم؟
قم يا قلبي، قم وسر مع الفجر؛ فالليل قد مضى، ومخاوف الليل قد اضمحلت مع أحلامه السوداء.
قم يا قلبي، وارفع صوتك مترنما، فمن لا يشارك الصبح بأغانيه كان من أبناء الظلام. (3) البنفسجة الطموحة
كانت في حديقة منفردة، بنفسجة جميلة الثنايا، طيبة العرف، تعيش مقتنعة بين أطرابها، وتتمايل فرحة بين قامات الأعشاب.
ففي صباح، وقد تكللت بقطر الندى، رفعت رأسها ونظرت حواليها، فرأت وردة تتطاول نحو العلاء بقامة هيفاء، ورأس يتسامى متشامخا، كأنه شعلة من النار فوق مسرجة من الزمرد.
ففتحت البنفسجة ثغرها الأزرق، وقالت متنهدة: «ما أقل حظي بين الرياحين! وما أوضع مقامي بين الأزهار! فقد ابتدعتني الطبيعة صغيرة، حقيرة، أعيش ملتصقة بأديم الأرض، ولا أستطيع أن أرفع قامتي نحو ازرقاق السماء، أو أحول وجهي نحو الشمس مثل ما تفعل الورود.»
وسمعت الوردة ما قالته جارتها البنفسجة، فاهتزت ضاحكة، ثم قالت: «ما أغباك بين الأزهار! فأنت في نعمة تجهلين قيمتها، فقد وهبتك الطبيعة من الطيب والظرف والجمال، ما لم تهبه لكثير من الرياحين، فخل عنك هذه الميول العوجاء، والأماني الشريرة، وكوني قنوعة بما قسم لك، واعلمي أن من خفض جناحه يرفع قدره، وأن من طلب المزيد وقع في النقصان.»
فأجابت البنفسجة قائلة: أنت تعزيني أيتها الوردة، لأنك حاصلة على ما أتمناه، وتغمرين حقارتي بالحكم؛ لأنك عظيمة، وما أمر مواعظ السعداء في قلوب التعساء! وما أقسى القوي إذا وقف خطيبا بين الضعفاء!
وسمعت الطبيعة ما دار بين الوردة والبنفسجة، فاهتزت مستغربة، ثم رفعت صوتها قائلة: ماذا جرى لك يا ابنتي البنفسجة؛ فقد عرفتك لطيفة بتواضعك، عذبة بصغرك، شريفة بمسكنتك، فهل استهوتك المطامع القبيحة، أم سلبت عقلك العظمة الفارغة؟
فأجابت البنفسجة بصوت ملؤه التوسل والاستعطاف: أيتها الأم العظيمة بجبروتها، الهائلة بحنانها، أضرع إليك بكل ما في قلبي من التوسل، وما في روحي من الرجاء، أن تجيبي طلبي وتجعليني وردة، ولو يوما واحدا.
فقالت الطبيعة: «أنت لا تدرين ما تطلبين، ولا تعلمين ما وراء الطعمة الظاهرة من البلايا الخفية، فإذا رفعت قامتك، وأبدلت صورتك، وجعلتك وردة، تندمين حين لا ينفع الندم.»
فقالت البنفسجة: «حولي كياني البنفسجي إلى وردة مديدة القامة، مروعة الرأس، ومهما يحل بي بعد ذلك، يكن صنع رغائبي ومطامعي.»
فقالت الطبيعة: «لقد أجبت طلبك أيتها البنفسجة الجاهلة المتمردة، ولكن إذا داهمتك المصائب والمصاعب، فلتكن شكواك من نفسك.»
ومدت الطبيعة أصابعها الخفية السحرية، ولمست عروق البنفسجة، فتحولت بلحظة إلى وردة زاهية، متعالية فوق الأزهار والرياحين.
ولما جاء عصر ذلك النهار، تلبد الفضاء بغيوم سوداء مبطنة بالإعصار، ثم هاجت سواكن الوجود، فأبرقت وأرعدت، وأخذت تحارب تلك الحدائق الأنصاب، واقتلعت الأزهار المتشامخة، ولم تبق إلا على الرياحين الصغيرة، التي تلتصق بالأرض، أو تختبئ بين الصخور.
أما تلك الحديقة المنفردة، فقد قاست من هياج العناصر، ما لم تقاسه حديقة أخرى.
فلم تمر العاصفة، وتنقشع الغيوم، حتى أصبحت أزهارها هباء منثورا، ولم يسلم منها بعد تلك المعمعة الهوجاء، سوى طائفة البنفسج المختبئة بجدران الحديقة.
ورفعت إحدى صبايا البنفسج رأسها، فرأت ما حل بأزهار الحديقة وأشجارها، فابتسمت فرحا، ثم نادت رفيقاتها قائلة: «ألا فانظرن ما فعلته العاصفة بالرياحين المتشامخة تيها وإعجابا.»
وقالت بنفسجة أخرى: «نحن نلتصق بالتراب، ولكننا نسلم من غضب العواصف والأنواء.»
وقالت بنفسجة ثالثة: «نحن حقيرات الأجسام، غير أن الزوابع لا تستطيع التغلب علينا.»
ونظرت إذ ذاك مليكة طائفة البنفسج، فرأت على مقربة منها الوردة التي كانت بالأمس بنفسجة، وقد اقتلعتها العاصفة، وبعثرت أوراقها الرياح ، وألقتها على الأعشاب المبللة، فبانت كقتيل أرداه العدو بسهم.
فرفعت مليكة البنفسج قامتها، ومدت أوراقها، ونادت رفيقاتها قائلة: «تأملن وانظرن يا بناتي، انظرن إلى البنفسجة التي غرتها المطامع، فتحولت إلى وردة لتشامخ ساعة، ثم هبطت إلى الحضيض، ليكن هذا المشهد أمثولة لكن.»
عندئذ ارتعشت الوردة المحتضرة، واستجمعت قواها الخائرة، وبصوت يتقطع قالت: ألا فاسمعن أيتها الجاهلات المقتنعات، الخائفات من العواصف والإعصار، لقد كنت بالأمس مثلكن، أجلس بين أوراقي الخضراء، مكتفية بما قسم لي، وقد كان الاكتفاء حاجزا منيعا، يفصلني عن زوابع الحياة وأهوائها، ويجعل كياني محدودا بما فيه السلامة، متناهيا بما يساوره من الراحة والطمأنينة. ولقد كان بإمكاني أن أعيش نظيركن، ملتصقة بالتراب، حتى يغمرني الشتاء بثلوجه، وأذهب كمن ذهب قبلي إلى سكينة الموت والعدم، قبل أن أعرف من أسرار الوجود ومخبآته غير ما عرفته طائفة البنفسج، منذ وجد البنفسج على سطح الأرض. لقد كان بإمكاني الانصراف عن المطامع والزهد في الأمور التي تعلو طبيعتها عن طبيعتي، ولكن أصغيت في سكينة الليل، فسمعت العالم الأعلى يقول لهذا العالم: «إنما القصد من الوجود الطموح إلى ما وراء الوجود.» فتمردت نفسي على نفسي، وهام وجداني بمقام يعلو عن وجداني، وما زلت أتمرد على ذاتي، وأشوق إلى ما ليس لي، حتى انقلب تمردي إلى قوة فعالة، واستحال شوقي إلى إرادة مبدعة، فطلبت إلى الطبيعة - وما الطبيعة سوى مظاهر خارجية لأحلامنا الخفية - أن تحولني إلى وردة، ففعلت، وطالما غيرت الطبيعة صورها ورسومها بأصابع الميل والتشويق.
وسكتت الوردة هنيهة، ثم زادت بلهجة مفعمة بالفخر والتفوق: أي لقد عشت ساعة كوردة، لقد عشت ساعة كملكة، لقد نظرت إلى الكون من وراء عيون الورود، وسمعت همس الأثير بآذان الورود، ولمست ثنايا النور بأوراق الورود، فهل بينكن من تستطيع أن تدعي شرفي؟
ثم لوت عنقها، وبصوت يكاد أن يكون لهاثا قالت: أنا أموت الآن، أموت وفي نفسي ما لم تكمنه نفس بنفسجة من قبلي، أموت وأنا عالمة بما وراء المحيط المحدود، الذي ولدت فيه، وهذا هو القصد من الحياة، هذا هو الجوهر الكائن وراء عرضيات الأيام والليالي.
وأطبقت الوردة أوراقها، وارتعشت قليلا، ثم ماتت وعلى وجهها ابتسامة علوية - ابتسامة من حققت الحياة أمانيه - ابتسامة النصر والتغلب - ابتسامة الله. (4) حياة الحب
الربيع
هلمي يا محبوبتي نمش بين الطلول، فقد ذابت الثلوج، وهبت الحياة من مراقدها، وتمايلت في الأودية والمنحدرات. سيري معي لنتتبع آثار أقدام الربيع في الحقل البعيد، تعالي لنصعد إلى أعالي الربى ونتأمل في تموجات اخضرار السهول حولها.
ها قد نشر فجر الربيع ثوبا طواه ليل الشتاء، فاكتست به أشجار الخوخ والتفاح، فظهرت كالعرائس في ليلة القدر، واستيقظت الكروم، وتعانقت قضبانها كمعاشر العشاق، وجرت الجداول راقصة بين الصخور مرددة أغنية الفرح، وانبثقت الأزهار من قلب الطبيعة انبثاق الزبد من البحر.
تعالي لنشرب بقايا دموع المطر من كئوس النرجس، ونملأ نفسينا بأغاني العصافير المسرورة، ونغتنم استنشاق عطر النسيمات.
لنجلس بقرب تلك الصخرة حيث يختبئ البنفسج ونتبادل قبلات المحبة.
الصيف
هيا بنا إلى الحقل يا حبيبتي، فقد جاءت أيام الحصاد، وبلغ الزرع مبلغه، وأنضجته حرارة محبة الشمس للطبيعة. تعالي قبل أن تسبقنا الطيور، فتستغل أتعابنا، وجماعة النمل فتأخذ أرضنا. هلمي نجني ثمار الأرض، مثلما جنت النفس حبوب السعادة من بذور الوفاء، التي زرعتها المحبة في أعماق قلبينا، ونملأ المخازن من نتاج العناصر، كما ملأت الحياة أهواء عواطفنا.
هلمي يا رفيقتي، نفترش الأعشاب، ونلتحف السماء، ونوسد رأسينا بضغث من القش الناعم، فنرتاح من عمل النهار، ونسمع مسامرة غدير الوادي.
الخريف
لنذهب إلى الكرمة يا محبوبتي، ونعصر العنب، ونوعيه في الأجران، مثلما توعي النفس حكمة الأجيال، ونجمع الأثمار اليابسة، ونستقطر الأزهار، ونستعيض عن العين بالأثر.
لنرجع نحو المساكن، فقد اصفرت أوراق الأشجار، ونثرها الهواء، كأنه يرد أن يكفن بها أزهار أقضت لوعة عندما ودعها الصيف. تعالي فقد رحلت الطيور نحو الساحل، وحملت معها أنس الرياض، وخلفت الوحشة للياسمين والسيسبان، فبكى باقي الدموع على أديم التراب.
لنرجع، فالجداول قد وقفت عن مسيرها، والعيون نشفت دموع قرحها، والطلول خلعت باهي أثوابها. تعالي يا محبوبتي ، فالطبيعة قد راودها النعاس، فأمست تودع اليقظة بأغنية نهاوندية مؤثرة.
الشتاء
اقتربي يا شريكة حياتي، اقتربي مني، ولا تدعي أنفاس الثلوج تفصل جسمينا. اجلسي بجانبي أمام هذا الموقد، فالنار فاكهة الشتاء الشهية. حدثيني بمآتي الأجيال، فآذاني قد تعبت من تأوه الأرياح وندب العناصر، أوصدي الأبواب والنوافذ، فمرأى وجه الجو الغضوب يحزن نفسي والنظر إلى المدينة الجالسة كالثكلى تحت أطباق الثلوج يدمي قلبي ... اسق السراج زيتا، يا رفيقة عمري، فقد أوشك أن ينطفئ، وضعيه بالقرب منك؛ لأرى ما كتبته الليالي على وجهك ... هاتي جرة الخمر لنشرب ونذكر أيام العصر.
اقتربي! اقتربي مني يا حبيبة نفسي، فقد خمدت النار، وكاد الرماد يخفيها ... ضميني فقد انطفأ السراج، وتغلبت عليه الظلمة ... ها قد أثقلت أعيننا خمرة السنين ... ارمقيني بعين كحلها النعاس ... عانقيني قبل أن يعانقنا الكرى ... قبليني فالثلج قد تغلب على كل شيء إلا قبلتك ... آه يا حبيبتي، ما أعمق بحر النوم! آه؛ ما أبعد الصباح ... في هذا العالم! (5) في مدينة الأموات
تملصت بالأمس من غوغاء المدينة، وخرجت أمشي في الحقول الساكنة، حتى بلغت أكمة عالية، ألبستها الطبيعة أجمل حلاها. فوقفت، وقد بانت المدينة بكل ما فيها، من البنايات الشاهقة، والقصور الفخمة، تحت غيمة كثيفة من دخان المعامل.
جلست أتأمل عن بعد في أعمال الإنسان، فوجدت أكثرها عناء، فحاولت في قلبي ألا أفتكر بما صنعه ابن آدم، وحولت عيني نحو الحقل كرسي مجد الله، فرأيت في وسطه مقبرة، ظهرت فيها الأجداث الرخامية المحاطة بأشجار السرو.
هناك بين مدينة الأحياء ومدينة الأموات جلست أفكر، أفكر في كيفية العراك المستمر والحركة الدائمة في هذه، وفي السكينة السائدة والهدو المستقر في تلك. من الجهة الواحدة آمال وقنوط، ومحبة وبغضة، وغنى وفقر، واعتقاد وجحود، ومن الأخرى تراب في تراب، تقلب الطبيعة بطنه ظاهرا، وتبدع منه نباتا، ثم حيوانا، وكل ذلك يتم في سكينة الليل.
بينما أنا مستسلم لعوامل هذه التأملات، استلفت ناظري جمع غفير يسير الهويناء، تتقدمه الموسيقى، وتملأ الجو ألحانا محزنة، موكب جمع بين الفخامة والعظمة ، وآلف بين أشكال الناس. جنازة غني قوي، رفات ميت تتبعها الأحياء، وهم يبكون ويولولون، ويبثون بالهواء الصراخ والعويل.
بلغوا الجبانة، فاجتمع الكهان يصلون ويبخرون، وانفرد الموسيقيون ينفخون الأبواق، وبعد قليل انبرى الخطباء فأبنوا الراحل بمنتقيات الكلام ثم الشعراء، فرثوه بمنتخبات المعاني، وكل ذلك كان يتم بتطويل ممل. وبعد قليل انقشع الجمع عن جدث تسابق في صنعه الحفارون والمهندسون، وحوله أكاليل الأزهار المنمقة بأيدي المتفننين.
رجع الموكب نحو المدينة، وأنا أنظر من بعيد وأفتكر، ومالت الشمس نحو الغروب واستطالت خيالات الصخور والأشجار، وأخذت الطبيعة تخلع أثواب النور.
في تلك الدقيقة نظرت، فرأيت رجلين يقلان تابوتا خشبيا، ووراءهما امرأة ترتدي أطمارا بالية، وهي حاملة على منكبيها طفلا رضيعا، وبجانبها كلب ينظر إليها تارة وإلى التابوت أخرى. جنازة فقير حقير وراءهما زوجة تذرف دموع الأسى، وطفل يبكي لبكاء أمه، وكلب أمين يسير، وفي مسيره حزن وكآبة.
وصلوا هؤلاء إلى المقبرة، وأودعوا التابوت حفرة في زاوية بعيدة عن الأجداث الرخامية، ثم رجعوا بسكينة مؤثرة، والكلب يتلفت نحو محط رحال رفيقه، حتى اختفوا عن بصري وراء الأشجار.
فالتفت إذ ذاك نحو مدينة الأحياء وقلت في نفسي: تلك للأغنياء الأقوياء، ثم نحو مدينة الأموات، وقلت: هذه للأغنياء الأقوياء، فأين موطن الفقير الضعيف يا رب؟
قلت هذا، ونظرت نحو الغيوم المتلبدة، المتلونة أطرافها بذهب من أشعة الشمس الجميلة، وسمعت صوتا من داخلي يقول ... هناك. (6) بنات البحر
في أعماق البحر الذي يحيط بالجزائر القريبة من مطلع الشمس، هنالك في الأعماق، حيث الدر الكثير، جثة فتى هامدة، بقربها بنات البحر ذوات الشعور الذهبية، قد جلسن بين نبات المرجان، ينظرن إليها بعيونهن الزرقاء الجميلة، ويتحدثن بأصوات موسيقية، حديثا سمعته اللجة، فحملته الأمواج إلى الشواطئ، فجاء به النسيم إلى نفسي.
قالت واحدة: «هذا بشري هبط بالأمس إذ كان البحر حانقا.»
فقالت الثانية: «لم يكن البحر حانقا، ولكن الإنسان - وهو الذي يدعي بأنه من سلالة الآلهة - كان في حرب حامية، أهرقت فيها الدماء، حتى صار لون الماء قرمزيا، وهذا البشري، هو قتيل الحرب .»
فقالت الثالثة: «لا أدري ما هي الحرب، ولكني أعلم أن الإنسان، بعد أن تغلب على اليابسة، طمع بالسيادة على البحر، فابتدع الآلات الغريبة، ومخر العباب، فدرى نبتون إله البحار، وغضب من هذا التعدي، فلم ير الإنسان بدا إذ ذاك من إرضاء مليكنا بالذبائح والهدايا. فالأشلاء التي رأيناها بالأمس هابطة، هي آخر تقدمة من الإنسان إلى نبتون العظيم.»
قالت الرابعة: «ما أعظم نبتون! ولكن، ما أقسى قلبه! لو كنت أنا سلطانة البحار لما رضيت بالذبائح الدموية. تعالين لنرى جثة هذا الشاب، فربما أفادتنا شيئا عن طائفة البشر.»
اقتربت بنات البحر من جثمان الشاب، وبحثن في جيوب أثوابه، فعثرن على رسالة في الثوب الملاصق قلبه، فأخذت الرسالة واحدة منهن وقرأت:
يا حبيبي، ها قد انتصف الليل، وأنا ساهرة، وليس لي مسل غير دموعي، ولا معز سوى أملي برجوعك إلي، من بين مخالب الحرب، ولا أقدر بأن أفتكر إلا بما قلته لي عند الوداع، بأن عند كل إنسان أمانة من الدمع لا بد من ردها يوما ... لا أدري يا حبيبي ماذا أكتب، بل أترك نفسي تسيل على الورق، نفس يعذبها الشقاء، ويعزيها الحب، الذي يجعل الألم لذة، والأحزان مسرة، لما وحد الحب قلبينا، وصرنا نتوقع ضم جسمين تجول فيهما روح واحدة، نادتك الحرب، فاتبعتها مدفوعا بعوامل الواجب والوطنية. ما هذا الواجب الذي يفرق المحبين، ويرمل النساء، وييتم الأطفال؟ ما هذه الوطنية التي من أجل أسباب صغيرة تدعو الحرب لتخريب البلاد؟ ما هذا الواجب المحتوم على القروي المسكين، والذي لا يحفل به القوي، وابن الشرف الموروث؟ إذا كان الواجب ينفي السلم من بين الأمم، والوطنية تزعج سكينة حياة الإنسان، فسلام على الواجب والوطنية ... لا، لا يا حبيبي، لا تحفل بكلامي بل كن شجاعا، ومحبا لوطنك، ولا تسمع كلام ابنة أعماها الحب، وأضاع بصيرتها الفراق، إذا كان الحب لا يرجعك إلي في هذه الحياة، فالحب يضمني إليك في الحياة الآتية.
وضعت بنات البحر تلك الرسالة تحت أثواب الشاب، وسبحن بسكينة محزنة. ولما بعدن قالت واحدة منهن: «إن قلب الإنسان أقسى من قلب نبتون.»
ميخائيل نعيمة
(1) الزحافات والعلل: نظرة في الشعر وأوزانه
دع همومك التجارية والسياسية والعائلية يا أخي، وتأبط جراب صبرك واتبعني، تسألني إلى أين؟ ولنفرض إلى جهنم! أوليست جهنم خيرا من عالم يصابحنا بالقال والقيل، ويعاشينا بالقيل والقال؟ وما قيله إلا هبوط أسعار وارتفاع أسعار، وما قاله إلا انتصار سياسة وإخفاق سياسة. فتأبط جراب صبرك واتبعني، ولا تسل إلى أين. قد أسلك بك طريقا وعرا، وقد أدخل بك أجمة ملتفة الأدغال، وقد أريك طرف مرج فسيح، وقد أعود بك من حيث انطلقت، كأنك لا رحت ولا جئت، فتمسك بجراب صبرك، فالصبر خير سلاح للمؤمنين، ولنمش.
هل سمعت في حياتك يا أخي برجل يدعى أبا عبد الرحمن الخليل بن أحمد البصري الأزدي الفراهيدي؟ لا، إذن فاعلم، وقاك الله أن أبا عبد الرحمن (تغمده الله برحمته ورضوانه) ولد في سنة مائة للهجرة، وتوفي عن خمس وسبعين عاما، قضاها بالبر والتعبد والتقوى، ووضع علم العروض.
والعروض - رعاك الله - «علم بأصول يعرف بها صحيح أوزان الشعر العربي، وفاسدها، وما يطرأ عليها من الزحافات والعلل.»
و«الزحافات والعلل» أوبئة تنزل بأوزان الشعر العربي، فتحرك ساكنا، أو تسكن متحركا، وتقضم حرفا هنا، ومقطعا هناك. وقد عني بها الخليل عناية خاصة، فأعطى لكل منها اسما، ورتبها في أبواب وفصول، هي أكثر عدا من خطاياي.
هذا هو أبو عبد الرحمن يا صاحبي، فلنقدس ذكره، ولنجل مقامه، فلولاه لكنا بلا زحافات وعلل، وكيف تكتمل لنا السعادة بدون زحافات وعلل؟ ولولاه لما كان لنا علم العروض، الذي «يعرف به صحيح أوزان الشعر العربي وفاسدها.» وأنى لنا أن نميز بين ما هو شعر وما ليس شعرا، ما لم نعرف صحيح الأوزان من فاسدها؟
لقد مات الخليل يا أخي، ومنذ مات الخليل حتى اليوم، ونحن منغمسون في درس الخبن والخبل، والترفيل والتذييل، والنقص والوقص، والقطف والكسف، والخرم والثلم، والقصر والبتر؛ إلى ما هنالك من علل زاحفة، وزحافات معتلة، إلى أن ملكنا بإذن الله ناصية علم العروض ، وأصبحنا بمنة الخليل نميز بين «صحيح أوزان الشعر العربي وفاسدها.»
أما أننا في جدنا وراء ناصية العروض، قد أفلتت من يدنا ناصية الشعر. وأننا في جهدنا وراء التمييز بين صحيح أوزان الشعر وفاسدها، قد نسينا الفرق بين ما هو شعر، وما ليس شعرا، فما ذاك بالأمر الخطير! فالمهم المهم أن نعرف إذا ما نظمنا بيتا أننا لم نجز لأنفسنا ما لم يجزه الخليل، وأننا لم نهتك حرمة قاعدة، ولم نخل بحرف من ناموس، ولم نتجاوز حد تقليد شريف، أو طقس مقدس، فاتكلنا على الله ورحنا ننظم القصائد.
ومن حسنات علم العروض يا رفيقي، أنه كثير البحور، ولكل بحر من بحوره قوارب، يتعذر عليك ركوبه إلا بها، ولكل من تلك القوارب مقاذيف لا تدار إلا بها، ولكل من تلك المقاذيف حلقات وحنيات ومماسك لا يعرفها إلا غزير الخبرة، وطويل الأناة. لذاك فالملاحة في هذه البحور تقضي اقتحام الأخطار، والمجازفة بالحياة، ولذاك قد حذرنا العاقلون من الإقدام عليها إذ قالوا:
الشعر صعب وطويل سلمه
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
يريد أن يعربه فيعجمه
غير أن أبناء الضاد ليسوا ممن يهابون المخاطر، ولا ممن يؤثرون الحياة على الشرف، فكلما تراكمت تلك العقبات في سبيلهم، كلما ازدادت عزائمهم مضاء. وكلما عز الحصول على شرف أثيل، كلما هانت لديهم الأرواح. فما كان منهم إلا أن هجموا على تلك البحور فلجموا أمواجها وامتطوها وراحوا بين شواطئها يهزجون. نعم، هوى بعضهم إلى القاع، فطمست آثاره. ولكن أكثرهم طاف جميع البحور وعاد سالما معافى.
ومن ميزات الذين يخوضون بحور الشعر يا أخي، ويعودون سالمين، أنهم يكتسبون حنوا خارقا على الإنسانية بأسرها، لا سيما علينا نحن أبناء اليابسة، فلا يعودون إلينا فارغي اليد (وإن عادوا فارغي الرأس والقلب) بل يتبارون إلى مشاطرتنا، كل ما اكتشفوه وعرفوه بشأن الملاحة في البحور الشعرية، فيقدمون إلينا ذلك لا نتفا نتفا، بل يجمعونه بين دفتي كتاب يدعونه «ديوانا»، ويرفعونه إلينا؛ ليرفعونا به إليهم.
فلنمجد الملاحين يا أخي ، أولئك الذين يحسنون الملاحة في بحور الشعر، والذين يرتقون في سلمه فلا تزل بهم قدم؛ إذ لا يعجمون معربة، ولا يعربون معجمة! لنمجد العروض وأبناء العروض.
هل اعتراك يا أخي الملل؟ فعليك بحراب صبرك، إذ إننا في مسلك وعر، وإن شاء ربك سنقطعه سالمين.
تسألني ما إذا كنت أتهكم، أو أعني ما أقول؟ لا، وتربة الخليل، لست متهكما؛ فلعروض الخليل فضل علي كبير.
ولأصحابنا الملاحين فضل أكبر. أقول إن لهم فضلا أكبر؛ لأن الخليل يوم جمع ما كان في زمانه من أوزان الشعر، وبوبها وحدد ما «يطرأ عليها من الزحافات والعلل» لم يقصد سوى الخير، ولم يتوخ إلا خدمة لغة عزيزة عليه. أما الذين جاءوا بعد الخليل قتقيدوا بزحافاته وعلله ألفا ومائتي سنة، فإياهم أسدي جزيل شكري؛ لأنهم بمباراتهم في معرفة «صحيح أوزان الشعر وفاسدها»، قد أتقنوا الأوزان وأهملوا الشعر. وبإهمالهم الشعر نبهوني إليه، وقد ينبهنا عدم وجود الشيء إلى الشيء، أسرع مما ينبهنا إليه وجوده.
لنقف يا أخي بتخشع أمام شبح من قال:
وشبيه صوت النعي إذا قي
س بصوت البشير في كل ناد
ولنبحث أمام ضريح من شرب «على ذكر الحبيب مدامة» فسكر بها «من قبل أن تخلق الكرم.»
ولنجل النار التي كانت تتأجج في صدر من نظر الأعمى إلى أدبه، وأسمعت كلماته من به صمم.
فهؤلاء، وقليل ممن راودت أرواحهم أحلام من عالم أعلى لجبابرة، وإن تقيدوا بقيود الخليل، فهم أكبر منه ومن عروضه. فلنمر من أمامهم صامتين، ولنتابع السير إلى حيث الدواوين الحافلة بصحيح أوزان الشعر، الناطقة بألف لسان بفضل الخليل، المرددة بألف قافية شكر الزحافات والعلل، الناظرة بألف عين، لا إلى جمال الحياة، بل إلى جمال الألفاظ والمقاطع، المصغية بألف أذن، لا إلى نبضات القلوب وخطوات الأفكار، بل إلى يد تصفق استحسانا ولسان يثرثر بالمديح. إن هذه الدواوين يا أخي، لأفصح ما كتب في الشعر وعنه؛ لأنها محشوة بما ليس شعرا؛ لذلك كلما بلاك الله بواحد منها، تتوق نفسك إلى نقيضه؛ أي تتوق إلى الشعر ؛ ولذاك قلت إنها أفصح ما كتب في الشعر وعنه.
مهلا يا أخي، ولا تكن لجوجا، ولا تسلني أن أحدد لك الشعر؛ فالشعر غير محدود، ولا يحيط به إدراكا إلا أصحاب دواويننا المكرمون، فقد قام بينهم حديثا جهبذ، جمع في مقالة واحدة 177 تعريفا للشعر عن ألسنة كثيرة - من ابن خلدون إلى ميخائيل رستم! ومن أرسطوطاليس إلى جورج ساند - فعليك بديوانه.
أما أنا فلا اطلاعي واسع لهذا الحد، ولا صبري طويل بهذا المقدار، فلنعدل عن تحديد الشعر وتعريفه. وذاك لا يمنعنا من أن نتكلم في الشعر، فتعال نتبادل الخواطر والنظرات.
هل ضحكت يا أخي في حياتك؟ وهل بكيت؟ هل ساورت أفكارك شكوك، أم سرحت في صدرك آمال، أم عصرت قلبك خيبة، أم مزق نفسك ألم؟ هل طرقت أذنك نغمة فطربت بها روحك، أم رأت عينك مشهدا فاهتز له كيانك؟ إذن لا شك تفهمني، لو سكبت أمامك دموعي، وكشفت لك صدري، وحدثتك عن آلامي وآمالي، ووصفت لك نغمة أطربتني، أو مشهدا هزني. وأنا بدوري أفهمك، وكلانا يفهم الغير.
ولو كان لك من سبيل إلى ترجمة عواطفك وأفكارك، بالصينية أو الهندية أو اليابانية أو الألمانية، لفهمك الصيني والهندي والياباني والألماني كذلك. فما هو السر في ذلك؟ ما السر في أن روحك، وهي في دمشق أو القاهرة، تستطيع أن توصل أناتها وتهاليلها إلى روح في أقاصي شمال الأرض وجنوبها، أو شرقها وغربها؟
السر يا صاحبي في أن نفسك ونفسي ونفس بطرس وأحمد؛ كلها تستقي من مورد واحد، وذاك المورد هو الحياة، وإن شئت فقل النفس الجامعة أو الله. فالحياة وإن تعددت مظاهرها، وتنوعت أزياؤها، هي هي، وجوهرها واحد لا يتغير، غير أن ما نستقيه من هذا المورد، يتنوع بمقدار الظمأ الداخلي فينا، فبعضنا إذا ما شرب من المرارة غب غب الجمال، بينا يمتصها الآخر مص العليل للدواء. وبعضنا إذا ما هزته نغمة رفعته إلى الجو، بينا يسمعها الآخر فينتفض قليلا «كالدوري» ويعود يبحث في الروث عن شعيرة يلتقطها.
إن الحياة يا صاحبي تعرض مشاهدها علي وعليك، لكنك قد ترى مشهدا لا أراه أنا، وإن أكن مفتح العينين. بل قد أنظر وإياك إلى مشهد واحد، فترى فيه أشياء لا أراها، وتسمع ما لا أسمعه. هكذا قد أمر بدودة تدب على الأرض فأدوسها، أو أحول وجهي عنها، وأمشي في سبيلي. وتمر بها أنت فتقف مراقبا حركاتها، ثم ترفعها بيدك، وتدرسها مليا، ثم تضعها من يدك وتنطلق، وفي رأسك قد تجمهرت أشباح، وأمام عينيك قد مشت رسوم، وفي أذنيك قد دوت أصوات. ولا يعتم أن تنتظم تلك الأشباح، وتندمج تلك الرسوم، وتتألف تلك الأصوات في قصيدة أو مقالة، أطالعها أنا، فأشعر كأن أشباحها تجمهرت في رأسي، ورسومها مشت أمام عيني، وأصواتها رنت في أذني. لقد مررت وإياك في مثل هذه الحالة بمورد من موارد الحياة، فشربت منه قطرة؛ حيث شربت قطرات، وفي من الظمأ ما فيك. غير أني ما كنت أشعر بظمئي إلى أن سمعتك تصف لي ظمأك، وكيف ارتويت.
أنا وأنت غريبان، نحن إلى وطن واحد، وفي ما فيك من الحنين. غير أن حنيني أبكم أصم، وحنينك ناطق ومجنح؛ لذاك إذا سمعت حنينك متكلما تحرك حنيني وتكلم؛ لأنه قد وجد في حنينك لسانا له.
أنا وأنت حائران في أمور كثيرة، وحيرتي قد تغلغلت بين أفكاري وتمددت، حتى لم أعد أعرف في ما أنا حائر. لكن حيرتك نصب عينيك، فإذا ما صورتها لي تصورت أمامي حيرتي.
تسألني: وما القصد من هذه الأمثال كلها؟ إن قصدي يا صاحبي أن أقول: بأن عواطفنا وأفكارنا مشتركة؛ لأن مصدرها واحد، وهو النفس.
وإن في الواحد منا ما في الآخر من العواطف والأفكار، لكنها قد تكون مستيقظة في بعضنا، غافلة في الآخر. وإن هذه العواطف والأفكار، وإن استيقظت في بعضنا، قد تكون خرساء. وإنها في بعضنا مستيقظة وناطقة. وإن العواطف والأفكار إذا ما استيقظت ونطقت بنفسها بعبارة جميلة التركيب موسيقية الرنة، كان ما تنطق به شعرا. وإن من استيقظت عواطفه وأفكاره، وتمكن من أن يلفظها بعبارة جميلة التركيب، موسيقية الرنة، كان شاعرا .
وإذ إن العواطف والأفكار، هي كل ما نعرفه من مظاهر النفس، فالشعر إذن هو لغة النفس.
والشاعر هو ترجمان النفس.
هذا ما أعرفه يا أخي عن الشعر والشاعر، فلنعد إلى الزحافات والعلل.
لقد وضع الناس الشعر أوزانا، مثلما وضعوا طقوسا للصلاة والعبادة. فكما أنهم يتأنقون في زخرفة معابدهم؛ لتأتي «لائقة» بجبروت معبودهم. هكذا يتأنقون في تركيب لغة النفس؛ لتأتي «لائقة» بالنفس. وكما أن الله لا يحفل بالمعابد وزخرفتها، بل بالصلاة الخارجة من أعماق القلب. هكذا النفس لا تحفل بالأوزان والقوافي، بل بدقة ترجمة عواطفها وأفكارها.
أتذكر يا أخي قول الناصري: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي هناك أكون في وسطهم.» ولم يحدد ابن مريم مكانا معلوما لعبادته؛ فقد يجتمع اثنان باسمه على رأس جبل، أو في جوف واد، أو على ظهر باخرة، أو في قهوة، أو في منجم للفحم، ويكون هو بينهم. والشعر يقول: حينما تفاهمت نفسان أو ثلاث باسمي، هناك أكون في وسطهن.
فلا الأوزان ولا القوافي من ضرورة الشعر، كما أن المعابد والطقوس ليست من ضرورة الصلاة والعبادة. فرب عبارة منثورة جميلة التنسيق، موسيقية الرنة، كان فيها من الشعر أكثر مما في قصيدة من مائة بيت بمائة قافية. ورب صلاة خارجة من قلب منكسر، فوق رمال الصحراء، أدركت غايتها، وذهبت كصرخة في واد صلوات خارجة من مئات من الأفواه، بين مئات من القناديل والشموع، تحت سقوف مرصعة وقبب مزركشة.
غير أن القصد الأولى من طقوس العبادة، لم يكن إلا شريفا؛ لاعتقاد الناس أن الله لا يجيب صلاة إلا إذا ارتفعت إليه مع دخان محرقة، ولا يقبل محرقة إلا إذا تقدمت إليه بطريقة معلومة وبعبارات منتخبة. وكذاك القصد من أوزان الشعر؛ فقد رأى الأقدمون أن الشعر، وهو لغة النفس، لا يليق بها ما لم يكن مقيدا بأوزان؛ إذ وجدوا أن الأوزان تساعد على تنسيق الجمل وتوازنها، وفي التوازن سر من أسرار الجمال.
إن طقوس العبادة - على اختلاف أنواعها - جميلة، لمن يفهم سر رموزها، وليس من طقس إلا يرمز إلى فكر . لكن من طبيعة الجمهور أن ينظر إلى ظواهر الأمور، كما لو كانت هي جواهر الأمور. فالجمهور لا يفكر، بل يقبل الأشياء كما هي؛ لذلك فالرموز تحل عنده محل ما ترمز إليه؛ ولذلك ترى الديانات أصبحت مجموعة طقوس وعوائد، فالذي تمكن من حفظ كل تلك الطقوس والتقاليد، تأهل لأن يكون كاهنا أو شيخا أو قسيسا.
ولو نظرت الآن يا صاحبي إلى أوزان الشعر، وجدت أن حكايتنا معها هي حكايتنا مع طقوس العبادة. إن القصد الأساسي من الوزن هو التناسق والتوازن في التعبير عن العواطف والأفكار، ولا شك أن الأوزان نشأت نشوءا طبيعيا، وكان سبب ظهورها ميل الشاعر إلى تلحين عواطفه وأفكاره. والكلام المتوازن المقاطع، أسهل للتلحين من الكلام الذي لا توازن بين مقاطعه، من حيث الطول والقصر؛ لذاك لحق الوزن بالشعر ونما معه نموا طبيعيا، فكان يتكيف بالشعر ولا يتكيف الشعر به. هكذا نما الشعر العربي ونمت أوزانه. وما زال الوزن لاحقا والشعر سابقا، إلى أن قيض الله لأبي عبد الرحمن أن جمع كل ما توصل إليه من الأوزان، فبوبها وحددها، وجعل لكل منها قواعد، ولكل قاعدة جوازات، وللجوازات جوازات، إلخ.
منذ ذلك الحين يا أخي أخذ الوزن يتغلب رويدا رويدا على الشعر، إلى أن أصبح الشعر لاحقا والوزن سابقا. وأصبح كل من قدر أن يتغلب على عروض الخليل بأوزانها وزحافاتها وعللها أهلا لأن يدعى شاعرا. وذاك راجع إلى ما قلته عن طقوس العادة، بأن الجمهور من طبيعته أن ينظر إلى ظواهر الأمور، كما لو كانت هي جواهر الأمور.
لو نظرت يا أخي إلى ما جمعناه منذ نيف وألف سنة، لوجدته - مع استثناء قليل منه - معرضا للأبحر الشعرية، بين طويلها وبسيطها وكاملها وخفيفها، إلخ، مع ما «يطرأ عليها من الزحافات والعلل.»
لا تضحك، فالموقف موقف بكاء لا ضحك، أمن المضحكات أن تدفن ألف سنة من حياتنا الأدبية بالزحافات والعلل؟
العروض لم تسئ إلى شعرنا فقط، بل قد أساءت إلى أدبنا بنوع عام، فبتقديمها الوزن على الشعر قد جعلت الشعر في نظر الجمهور صناعة، إذا أحاط الطالب بكل تفاصيلها أصبح شاعرا! وإذ إن للشاعر منذ بدء التاريخ مقاما رفيعا بين قومه، أصبح كل طالب شهرة يلجأ إلى العروض كإلى أقرب الموارد، وبذاك انصرفت أكثر مواهبنا إلى قرض الشعر، فأفقنا اليوم ولا روايات عندنا، ولا مسارح، ولا علوم ولا اكتشافات، ولا اختراعات. ولا شك أن كثيرين ممن انصرفوا إلى النظم حبا بالشهرة، لو انصرفوا إلى غيره من أبواب الكتابة والدرس لجاءوا معاصريهم وجاءونا بنفع كبير. ناهيك عن أن درس علم العروض يستغرق وقتا طويلا، فقل معي: وا لهف قلباه على عقول أحداث لا تزال تصارع العروض على مقاعد المدرسة.
لقد بلغ منا الولع بالعروض درجة أصبحنا معها لا ننطق إلا شعرا «وأعني نظما»، حتى قواعد نحونا أبينا أن نلقنها لأحداثنا إلا منظومة! هاك ألفية ابن مالك، وهاك «نار القرى»، بل قد نظمنا الحساب والجبر والجغرافية والطب والفلك، ولم لا؟
وأصبحنا نتراسل نظما، ونتصافح نظما ونشرب الخمر نظما، ونأكل الكبة نظما، ونعمد أولادنا نظما، ونزوجهم نظما، ونستقبل أصدقاءنا نظما، ونودعهم نظما، ونهنئهم بعيد أو بمركز أو بمولود نظما، إلى أن لم يبق في حياتنا ما ليس منظوما سوى عواطفنا وأفكارنا! وعندما دانت لنا العروض، وأتتنا زحافاتها وعللها صاغرة، رحنا نكتشف طرقا جديدة نظهر بها مقدرتنا «النظمية»، فاهتدينا إلى التواريخ الشعرية، فصرنا إذا مات صديقنا «حاتم منصور» لا نكتفي بأن نشق عليه الجيوب، ونستمطر السحاب، ونقرح المآقي، ونشتم الموت، ونعاتب الدهر، ونواري الشمس والقمر في التراب، بل نحفر على حجر فوق رأسه تاريخ موته بأحرف منظومة لا بأرقام بسيطة:
زر قبر حاتم منصور الكريم وقل
كم حسرة لك في طي القلوب ترى
تسقيك أجفاننا أرخ بأدمعها
يا غصن بان لواه البين فانكسرا
فانقلب الشاعر بهلوانا، وأصبح الشعر ضربا من الحلج والجمر، والمشي على الأسلاك، والانتصاب على الرأس، ورفع الأثقال بالأسنان، ولف الرجلين حول العنق، إلى ما هنالك من الحركات التي تجيدها القردة أيما إجادة. من ذلك الألغاز الشعرية، وحل الألغاز، والمنظومات التي بعض مفرداتها أو كلها منقطة، وبعضها أو كلها مهملة، أو حرف منقط فيها يليه حرف مهمل، والتشطير والتسميط والتخميس، إلخ.
ومن المضحكات المبكيات يا صاحبي، أن مثل هذه الحركات البهلوانية كانت ولا تزال تعرض في سوق آدابنا «كشعر»، وأربابها كانوا ولا يزالون في مقدمة الشعراء عندنا، والشعر براء منها ومنهم، فعلى من اللوم؟
أي يا أخي؛ إنك لمحق في قولك بأن ليس كل شعرنا من هذا القبيل، بل أبواب الشعر عندنا كثيرة وواسعة، فمنها الغزل والنسيب، ومنها المديح والهجاء، ومنها العتاب والرثاء، والفخر والخمر. لكن هذه الأبواب يا أخي، قد أصبحت كذلك معرضا للعروض والقوافي، لا للشعر.
لقد كان البدوي يتصبب على الأطلال والدمن، وينادي الربوع والركبان، إذا نظر إلى القمر رأى وجه حبيبته فيه، أو إلى الظبي رأى عنقها في عنقه، وفي عينيه عينيها. ونحن لا نزال نتصبب على الأطلال والدمن، ولا أطلال عندنا ولا دمن، وننادي الركب ولا ركب نناديه، وقل ممن يقرض العروض في أيامنا من رأى في حياته ظبيا فالتا ...
وإذا هزتنا الحماسة طعنا بالهندواني واليماني، ونحن لم نطعن في حياتنا ضبا، ولو بسكين صغيرة.
وإذا مدحنا لم نجد بدا من وضع من نمدحه فوق الشمس والقمر:
لقد شام هذا البدر فيك رجاحة
عليه بميزان البها إذ تأملك
هوت كفة الميزان فيك إلى الثرى
وخفت به الأخرى فعلق بالفلك
وإذا رثينا لا نجد سبيلا لرثاء الفقيد إلا بذم الأحياء:
والموت نقاد على كفه
جواهر يختار منها الجياد
فالموت لم يخترك ولم يخترني بعد يا أخي، فلا أنا ولا أنت من الجياد، ولا هذه الملايين التي تصبح على وجه الأرض وتمسي. بل الجود كل الجود تحت التراب، ولا يمشي فوق التراب سوى كل زنيم خسيس ...!
أي لحق ما تقول، فليس كل ما ينظمه شعراؤنا من هذا النوع، لا سيما شعراء اليوم؛ فقد أخذوا يفتشون عن مصادر جديدة يستقون منها الإلهام. ويحضرني الآن بعض منها: الطيارات الكهربائية، الغازات المسممة، التلفون، الفونغراف، كرة الرجل أو «الفوتبول»، الاستقلال، حدائق الحيوانات، الديمقراطية، الاشتراكية ، إلخ ، إلخ. نعم نعم، هم ينظمون اليوم في مثل هذه المواضيع، وفي ذلك شاهد على أنهم سائرون مع العصر، لا وراءه؛ لذلك يدعونهم «عصريين»، اعتبر ذلك أيضا في دواوينهم، أولا ترى كيف يتفننون اليوم في طبعها؟
لقد كان واحدهم سابقا، يكتفي بنشر ديوانه مبوبا تبويبا محكما، أو مرتبا حسب أحرف الهجاء. أما اليوم فتأخذ الديوان، وتجد فيه عدا عن القصائد الشائقة العصرية رسوما، لا تترك عندك من شك في عبقرية الناظم. هناك رسمه وهو في العاشرة، ثم رسمه وهو في العشرين، ثم في الثلاثين، ثم رسم زوجته وأولاده، ورسم بيته، ورسوم أصحابه الذين رثاهم، ورسوم أقربائه الذين هناهم إما بمولود أو بمعمود أو بزفاف أو بعودة بعد غيبة.
نعم، نعم، إن هذه كلها «لمواضيع عصرية»، والذين ينظمون فيها لا شك «عصريون» سائرون مع العصر لا وراء، وإنما ينقصهم أمر واحد، وذاك أن يسيروا ولو بعض الطريق وراء الشعر، فقد ساروا أجيالا وراء الزحافات والعلل.
لا بد لنفسي ونفسك يا أخي، وأنفس من ينظمون «عقود» المديح الفارغ والرثاء الشائن والغزل الذي لا غزل فيه، من أن تستفيق يوما من غيبوبتها الطويلة، حتى أنفس من ينظمون التاريخ ليأتيها يوم تنفتح فيه أعينها، فترى الشمس والفضاء، ولا تستفيق أنفسنا إلا إذا شعرت برعشة الحياة في داخلها؛ لأن الحياة فينا لا خارجا عنا، وما التأثيرات التي تحدثها فينا الطبيعة أو الحياة الخارجية، إلا منبه لما كمن في داخلنا من العواطف والأفكار، فلولا عواطفنا ولولا أفكارنا، لكان ما ندعوه «الطبيعة» صحيفة بيضاء. إن الحياة إرث مشترك، ولي فيها ما لك، غير أن ما ينتفع به كلانا من هذا الإرث، يتوقف على ما تنبه فيه من العواطف والأفكار؛ لأنها مفتاح إهراء الحياة العجيب، الذي كلما ولجت منه بابا أدى بك إلى باب سواه.
أي يا أخي، إن عواطفنا وأفكارنا، هي ما استيقظ من الحياة فينا، ومن الغريب أنه كلما تحركت فينا عاطفة أو تململ في داخلنا فكر، تأتيهما ساعة تلفظهما النفس، كما تدفع الحامل الجنين من أحشائها عند اكتمال دور الحمل، كأن النفس لا تعرف ما في داخلها إلا إذا انتصب أمام عينيها. وكما أن الحامل تجهض وتعود فتحمل، كذلك النفس كثيرا ما تلفظ عواطفها وأفكارها قبل الأوان فتظهر ناقصة مشوهة، لكنها أبدا تعود فتحمل وتعود فتلد. والنفس التي تولد عواطف جميلة، وأفكار حية ناضجة، هي النفس المستيقظة، النفس الشاعرة، وما تولده مثل هذه النفس، هو الفن، والفن إذا اتخذ الكلام ثوبا كان شعرا.
أما النفس التي لا تولد إلا أوزانا صحيحة وقوافي رنانة، فهي النفس المصابة بالعقم، ولا بد لهذه النفس من أن تتلقح يوما بجرثومة الحياة، فتجد في داخلها عواطف وأفكارا، لا أوزانا وقوافي فقط.
لقد نبهتني يا أخي إلى أمر ما كنت غافلا عنه، حين قلت لي إن شعراءنا في هذه الأيام قد تعدوا أبواب الشعر القديمة، وإنهم يفتشون عن مواضيع جديدة تجول فيها قرائحهم. فذكرت لك بعض تلك المواضيع، وضحكت منها، وضحكي كان ممزوجا بالمرارة والأمل؛ أما المرارة فلأن شعراءنا لا يزالون يبحثون عن الشعر في رغوة الحياة وفقاقيعها، وأما الأمل فهو أنهم ببحثهم عن مواضيع جديدة، لا بد من أن يعثروا يوما على الشعر، فيدركوا أنه لا ينحصر في عشرات من البحور، ولا في ألوف من الأبواب. ففي كل عاطفة باب، وفي كل فكر بحر، بل إن في مظهر واحد من مظاهر العاطفة الواحدة ألف باب وباب، وفي ثنية واحدة من ثنيات الفكر الواحد ألف بحر وبحر. ومتى أدركوا أن مصدر الشعر طي النفس، عكفوا على درس نفسهم، وتفقدوا زواياها وخباياها، حتى إذا ما عثروا هناك على عاطفة ترتعش وفكر يتململ، صاغوا لتلك العاطفة ولذاك الفكر لباسا من الكلام يليق بهما. وليس من الكلام ما يليق لباسا للعاطفة الحية، والفكر المستيقظ، إلا ما جمع منه بين تأليف ألوان الرسام، وتناسق أشكال النحات، وتوازن خطوط البناء، وترابط إلحاق الموسيقى.
حينئذ يا أخي تثمر قرائحنا، فيكثر شعرنا، وتقل زحافاتنا وعللنا.
أمين مشرق
(1) الداء العياء
ظهرت منذ مدة في مجلة «الهلال» قصيدة «لأمير الشعر » أحمد شوقي بك بعنوان «درة شوقية». ثم رأينا بعد ذلك في أحد أعداد «السائح» مقالا لميخائيل نعيمة ينتقد فيه تلك القصيدة انتقاد شاعر صميم، ونقاد ماهر، لا تلهيه رنات القوافي، ورقصات الأوزان عن الجد في تطلب المعاني الرزينة. فكان أن تلك «الدرة» - بعد أن تفحصها نعيمة بمكرسكوب شاعريته، ونقر عليها بمطرقة قريحته - لم تكن درة، بل كانت صدفة براقة تصلح للعب الأولاد. أما البالغون المدركون، فلا قيمة لها عندهم.
لا شك أن كثيرين من ذوي الذوق السليم، وأنصار الحرية الأدبية في أميركا ومصر وسوريا، لا يترددون في الانتصار لناقد القصيدة على ناظمها. ولا شك أيضا في أن ألوفا من مريدي «أمير الشعر» وتابعيه، يودون لو أعطي لهم، أن يتخذوا الفضاء صفحة يخطون فيها بدلا من الشمس علامة سؤال، وبدلا من القمر علامة تعجب، ويصورون بسائر النجوم والمذنبات هذه العبارة: «من هو هذا النعيمة ليتجرأ على رفع بصره إلى عرش أمير الشعر؟!»
من واجبات الأيام الجواب على هذا السؤال.
أما أنا، أنا الدودة الحقيرة، فلا أتجاسر على المخاطرة بحياتي «ودحش نفسي بين هذين الجبلين» لا، لا، أحب إلي خوض معارك السوم وفردون، من الخوض في هذه المعمعة؛ لذلك عولت على أمر لم يفعله قبلي سوى الحطيئة القائل:
أبت شفتاي اليوم ألا تكلما
بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها قبح الله خلقه
فقبح من وجه وقبح حامله
نعم قد عولت على هجو نفسي كما هجا ذاك وجه الخارجي. لكن بيني وبينه فرقا بعيدا، أرجو القراء أن لا يتجاهلوه؛ لكيلا يضيع عليهم المقصود من هذه الأسطر، وهو أن زميلي الحطيئة المرحوم هجا وجهه لمجرد اللذة في الهجو، كما يعترف، وأنا إنما أفعل ذلك أولا حبا بقول الحق، وثانيا التماسا للنفع العمومي.
كنت في نيويورك يوم وفاة الأسقف رفائيل هواويني، وبما أنني كنت في ذاك الزمان أعد نفسي في طليعة فحول الشعراء، وبما أنه من أولى واجبات الشاعر رثاء من يموت من كبراء قومه؛ دبجت اسمي الكريم في بروغرام حفلة التأبين ، ومضيت إلى غرفتي، فأخذت قلما وورقة، وجلست أعصر دماغي مدة عشر ساعات، إلى أن أتيت على قصيدة في ثمانية وأربعين بيتا، أو قل ثمانية وأربعين سهما مسموما في صدر الشعر الحقيقي، أو ثماني وأربعين دملة في وجه الأدب السامي الجميل.
تأملوا بهذا المطلع:
ماذا أقول وقد أضل جناني
هول المصاب وغل فيه لساني
انظروا! جئت أسأل القوم ماذا أقول، إن كنت لا أدري ما الذي أقوله، فلماذا وقفت على منبر التأبين، وإن كنت أدري فلماذا سألتهم؟ ثم إذا كان هول المصاب قد أضل جناني وغل لساني، فمن عاد فهدى ذاك الجنان وحل عقدة ذاك اللسان، حتى تمكنت من إلقاء ثمانية وأربعين بيتا «على فرد نفس»؟
طرق النعي مسامعي فكأنما
سهم أصاب حشاشتي فرماني
أقسم بكل عزيز أنه عندما طرق مسمعي خبر الوفاة، سررت لعلمي بأن أمامي فرصة أظهر بها «بلاغتي الشعرية»، أو بالأحرى بلادتي الأدبية.
ما كنت أعرف مرة معنى البكا
حتى بكيت لفرقة المطران
أصحيح أن أمين مشرق بكى لفرقة المطران، وهو لم يكن يعرفه، ولا رأى قط وجهه؟ لا أرى أحدا من سكان الأرض يصدق ذلك. وهب جدلا أنني بكيت، ألم أبك قبلا على أعزاء من أهلي ماتوا، ووارى التراب أجسادهم المحبوبة؟! فإن كانت الدموع التي ذرفتها على أولئك الأعزاء غير كافية لتفهمني معنى البكاء، أفتفعل ذلك دمعة أذرفها على رجل غريب عني ومجهول مني؟ سبحان من علمني هذا المنطق.
وهلا تصدقون أن في الأجساد البشرية براكين كبراكين الأرض، اسمعوا:
طفح الفؤاد وفاض في نيرانه
فكأنما هو فوهة البركان
ألف حمد لله على سلامة الدن
يا من شر ذلك البركان
ومنها:
لو يفتدى حكم الإله رأيتنا
نفديك بالأرواح والأبدان
متقاطرين على الردى متسا
بقين إليه من شيب ومن شبان
لو وقف عزرائيل في تلك الساعة عند رأس الميت، وسأل ذلك الجمع الغفير، متطوعا واحدا يسلمه نفسه عوضا عن نفس الأسقف، فمن يتقدم؟ وهل تمتلئ تلك الكنيسة جثثا، أم تضيق أسواق بروكلن الواسعة بجماهير النساء والرجال، وكل مطلق ساقيه للريح وفي مقدمتهم هذا الداعي؟
يكفي يكفي، إنني أشفق على القراء من أن أداهمهم ببقية هذه المقيئات، هذه الأقذار المنتنة، هذه الميكروبات السامة. ومن المضحك المبكي أنه على أثر انتهائي من إلقاء تلك القصيدة، تقدم إلي أحد أصحاب الجرائد في نيويورك، طالبا إياها؛ ليزين بها جيد جريدته، فاعتذرت إليه بلطف «وكبرياء» أن فيها أبياتا لا تزال برسم التصليح، فلا أتمكن من نشرها حالا، وكان قصدي أن أتحف بها صديقي صاحب السائح الذي «دحشها في عبه» بعد ذلك بعشر دقائق. ولكن جريدة السائح - في تلك الأيام - كانت تستاهل قصيدتي؛ فإنها ظهرت بعد يومين وجميع صفحاتها مكرسة لوصف تلك الليلة، تحت موضوع «حفلة تذكارية» (هكذا ظهرت أيضا بقية الجرائد)، وفيها ما فيها من المنظوم والمنثور، وكله ابن عم قصيدتي في البلاغة والرقة.
كاتب هذه السطور، لا يقصد بها اللوم والتقريع، لكنه كأحد المتعلقين بأذيال الأدب، يملك مقدارا من غيرة تثيره، وإخلاص يدفعه من حين إلى آخر لإلقاء كلمة أو إبداء ملاحظة، قد تندفع أحيانا من صدره بعزم القنبلة لطيلة ما يتحملها، وشدة ما يضغط عليها. ذلك لأنه قدر له كما قدر لكثيرين سواه، أن يستفيق من «غيبوبة» سداها الإهمال، ولحمتها النسيان، نلقيها على بصائر وقلوب البشر، أوهام الحداثة وأحلام الصبا، فتضعف فيها نباهة الإحساس، وتشوش عليها دقة الشعور والتمييز. استفاق ونظر إلى حياته الأدبية الماضية، كما ينظر من رأس جبل إلى السهل البعيد، فرآها بكل ما فيها من الأقوال والأفعال والأفكار، وبكل ما حوته من الأشواق والأحلام والآمال، وهما وضلالا، ثم نظر إلى رفاقه من أبناء شعبه، متفحصا مستجليا مقابلا، فإذا بالأكثرية - الأكثرية الهائلة منهم - قد نسجت حياتها الأدبية على نفس المنوال، وسارت في نفس الطريق، وجد نفسه مع الألوف المؤلفة، من حملة الأقلام، بيننا يسيرون في موكب التقليد، ناشرين أعلام الجهل، نافخين أبواق الضلال، ضاربين طبول الوهم والادعاء، ظاهرين سيوف الخيلاء والتعصب باسم الأدب؛ ليذبحوا بها شرذمة قليلة من إخوانهم الأبطال، المدافعين على أسوار برج الأدب، ويدكوا ذاك البرج ويمحوا آثاره ؛ لذلك يقف الآن في وسط الطريق، ويصرخ في رفاقه صرخة مريرة، أملا أن يوقفهم عند حدهم صداها القاسي الشديد.
قد يكون هؤلاء القوم المتهوسون بأجمعهم، غير قابلين صلاحا؛ لأنهم لم يخلقوا ليكونوا من أهل الأدب، وقد يكون بينهم فئة قليلة أو كثيرة ممن وهبتهم الطبيعة شيئا من المقدرة الأدبية، لكنها لا تزال محجوبة، لأنهم لم يستفيقوا بعد من «غيبوبتهم»، ولم يتفحصوا شئونهم بعيون الإخلاص، التي لا يشوبها غرض. فلمثل هذه الفئة لا لغيرها نوجه هذه السطور؛ علها تقع منهم على عاطفة خدرها الوهم فتنبهها، أو فكرة أعماها التقليد فتهديها. ولجميع من يفهم العربية أقول: إن الداء الذي أكل لحم لغتكم ونخر عظمها، هو داء مزدوج، داء المبالغة، وداء الألفاظ. (2) المبالغة
مما يخفف ثقل اللوم عن عواتق حملة الأقلام بيننا، ويكسر من حدة قلم الناقد الملتهبة، أمر حقيقي فينا كالحياة، ثابت كالزمان، وهو قواعد الأدب الموروثة.
لو سمعنا أحد شعراء هذا العصر، يرثي إسكافا من أقربائه مات بين النعال والأحذية قائلا: إن الفضل مات بموته، والعلم هد ركنه، والأدب أمسى يتيما. ويتعجب كيف أن النجوم لم تنظم حدادا، والدهر لم يقف حائرا. أو لو قرأنا شعرا لآخر يمدح فيه أنور باشا وحصانه الأدهم، بقوله: إن صهيله «في قلب أوروبا له ترديد.» أو لو سمعنا عاشقا ينشد:
أمر بالحجر القاسي فألثمه
لأن قلبك قاس يشبه الحجر
وسألنا الشعراء الثلاثة: لماذا كل هذا الغلو؟ لضحكوا منا، ولا شك مشفقين لجهلنا، ثم أخرج أولهم من تحت إبطه كتاب علم المعاني والبيان، وأظهر الثاني ديوان المتنبي أو الفارض، وفتح الثالث كتاب نهج البلاغة. وقدموها إلينا، وقد لاحت ابتسامة الانتصار على ثغورهم، ولسان حالهم يقول: «تعلموا هنا قواعد البلاغة وحدود البيان، وبعدئذ لا تحتاجون إلى سؤال.»
هؤلاء القوم ويا للأسف معذورون بعض العذر. كيف لا، وكل ما تعلموه منذ أصبحوا يتهاجون الكلمات يبتدئ ب «حدثنا سهيل بن عباد قال»، وينتهي بشرح المعلقات السبع؟ أيلام التلميذ على حفظ مسائله؟ أوليس طبيعيا أن تنمو النبتة معوجة إذا ربطناها إلى حائط معوج؟ وهل الذنب ذنب الأرض أنها لا تعطي قمحا إذا زرعناها قطربا؟
لكن دعونا الآن من الذنب والمذنب، وتعالوا نبسط أمامنا تلك القواعد والحدود، التي أورثنا إياها صاحب نهج البلاغة، وصاحب البيان وأمثالهما؛ لنجر عليها ونتمسك بها في مزالق الشعر ومهاوي النثر. فهل ذاك صحيح أن: «أعذب الشعر أكذبه»؟
الشعر والنثر كلام.
ونتيجة الكلام التفاهم.
ونتيجة التفاهم التأثير.
وأبلغ تأثير في الكلام الصادق.
امرأة تحنو على جثة وحيدها ناثرة دموع قلبها بصمت، وأخرى تتباكى معها مولولة، معولة، متفجعة بصراخ يصم الآذان. تجثو مع الأولى، وقد تسرب حزنها الصامت إلى قلوبنا لصدقه. وندير ظهورنا إلى الأخرى متأففين، وقد نم عويلها عن حزنها الكاذب. ينظر يسوع الناصري إلى مسلمه يهوذا الأسخريوطي، ويسأله بسكون ولطف: «يا صاحب لماذا جئت؟» فتفعل هذه العبارة البسيطة المختصرة في نفوسنا أكثر بألف ألف مرة من ألف ألف خطاب، لألف محام شهير، في ألف عصر. شحاذان يقول لنا أولهما: «أنا جائع» ويسكت، فنتحنن عليه ونطعمه. والثاني يتلو علينا موعظة يسوع على الجبل، باكيا بدموع راحيل، متوجعا كتوجع الخنسا؛ فنلوي عنه كارهين مشمئزين.
عرفت رجلا ذا لسان ماهر بتنميق الكلام، وله طرق خصوصية في اللهجة، وإشارات رشيقة، وحركات، وغمزات تغري السامع للإصغاء، وتترك لعبارات المتكلم رنة لطيفة ناعمة، يتهادى صداها إلى حين طويل، وله فصاحة في اللفظ، وإحاطة بالوصف قلما يجاريه بهما ممثل أو خطيب، إذا عرضت في حديثه بصلة، مثلا يصورها للسامعين مفصلا شكلها ولونها ووزنها ورائحتها وطعمها، حتى يكادوا أن يشعروا برائحة البصل في أنوفهم وبطعمه على ألسنتهم، ومع كل ذلك لم يكن أحد يصغي إليه إلا إذا أراد الضحك والتسلية. وبقيت جاهلا السبب، إلى أن اجتمعت به مرة، وجعل يحدثني عن بقرة عجيبة، واصفا إياها وصفا دقيقا جميلا، حتى كدت أراها أمامي. وكل ذلك الوصف لم يكن إلا كمقدمة لخبر عجيب، وهو أنهم كانوا يطعمون تلك البقرة أقة من الأرز صباحا، ويحلبونها في المساء «سطل رز بحليب بسكر ومازهر»، عندئذ عرفت السر الذي يمنع القوم من الإصغاء لذلك الملسان، وهو على ما هو من الفصاحة وطيب الحديث، عرفت أن جميع حسناته المنطيقية، لم تكن لتعادل سيئة واحدة فيه، وهي المبالغة.
لذلك الكذاب من الإخوان بيننا ألف شاعر وكاتب وخطيب.
ولبقرته العجيبة ألف شبه من بقر القصائد والمقامات والروايات، التي حليبها «رز بحليب بسكر ومازهر.»
ناظم «في قلب أوروبا له ترديد» كذاب كمصنف قصة البقرة، هذا يجرب أن يقنعنا ويقنع علماء التشريح بأن الأرز الذي كانت البقرة تأكله لم يكن ليسقط في معدتها، بل كان يتحول رأسا إلى ضرعها، وهناك يمتزج باللبن فتطبخهما حرارة الدم! وذاك لا يخجل أن يصف لنا حصانا لأنور، إذا صهل في الأستانة، رددت صدى صهيله وادي السين في فرنسا، وغابات هيدبارك في لندن! أما الأول فلا يصغي إليه أحد. وأما الثاني، ويا للعجب العجاب، فيتهافت عليه الصحافيون لينعم عليهم بقصائده، ويلتف حوله ألف رهط ورهط من «شعراء» أمثاله، يهنئونه بفوزه العظيم في معترك الأوزان والقوافي، ويحييه العوام في الأسواق هامسين فيما بينهم: «هو ذا الشاعر المجيد فلان.»
إننا والله لنحار في السبب الذي جعل واضعي قواعد الأدب عندنا أن يحسبوا الكذب من أول شروط البلاغة، وهم أعلام الأدب والعرفان.
فإن الآداب الدينية والمدنية تنهى عن الكذب.
وإن العقل السليم لا يقبله.
وأن لا رقة فيه، والرقة من خصائص الشعر.
وأنه لا منطق يدعمه، والمنطق ركن الشعر والنثر.
وأنه لا قبل له على النقد والتمحيص، وكلاهما من أول أعمال الأدب.
وأن لا فلسفة فيه، والفلسفة روح الآداب على الإطلاق.
وأنه يظهر الأمور بغير حقيقتها، وأقصى غايات الأدب الحقيقة.
الكذب خداع، والأدب صدق.
الكذب عجز، والأدب مقدرة.
الكذب جبن، والأدب بسالة.
لو وقفت ومادح حصان أنور بحضرة مجلس أدبي، ليعطي كل منا حسابا عما قاله، فهل أستطيع أن أدغم بشيء من البرهان قولي في قصيدتي السابقة: «لو يفتدي حكم الإله رايتنا ...» إلخ. ألا يكون عندي في تلك الدقيقة «السكوت من ذهب»؟ وهل يتمكن رفيقي من إقناع سائليه بكل ما له من الفصاحة والشهرة ، بإمكانية ترديد صهيل ذاك الحصان في قلب أوروبا، أم يطرق صامتا ويؤمن بمرارة أن «حبل الكذب قصير؟»
كلانا كذاب، كلانا قائل ما لم يؤمن به عقله، ولم يشعر به قلبه، وشبيه بنا من قال:
أمر بالحجر القاسي فألثمه
لأن قلبك قاس يشبه الحجرا
يريد الناظر إيهامنا، وإيهام التي يدعي حبها، بأنه يقبل الحجر البارد الأصم إكراما لمشابهته قلبها. هذه هي كذبة فاضحة، لا هي تصدقها، ولا نحن، ولا هو نفسه؛ لأنه لم يشعر قط بعاطفة في قلبه تدفعه لتقبيل الحجر. ولكان كلامه أوقع في النفس، لو اعترف بأنه يأخذ مطرقة، ويكسر بها ذاك الحجر القاسي كقلبها تشفيا وحنقا.
ثم ما هو الجمال في تشبيه قساوة القلب بالحجر.
أفي ذلك رقة شعرية، أم ضخامة حجرية! وهلا كان كلامه أدعى للتصديق وأقرب للشعور الرقيق، لو قال:
أمر بالزهر فواحا فألثمه
لأن قلبك زهر لثمه حظرا
لكن شعراءنا لا تستميلهم الرقة، التي هي مجلى الضعف، ولا يستهويهم إلا ما كان قويا صلبا، هائلا كالجبل والصخر والصحراء والبحر والجوزاء والدهر؛ ذلك لأن حماستهم الفطرية، وفطرتهم العربية، لا تطربان إلا لصليل السيوف، وهتاف الألوف، وصهيل الخيول، وارتجاج الطبول، واكتساح المعالي، واكتساب المكارم، وتشييد المفاخر، ولا ميل لهم ولا وقت ليلتفتوا إلى أشواق وميول وشواعر واهية كالظلال، ضعيفة كتنفس الأطفال، متحركة في أعماق القلب، أو إلى فكرة صغيرة ناقصة مبهمة، تدب في خلايا الرأس دبيب العنكبوت في كهف مظلم مقفر.
والآن إن لم يعجبكم الحجر فهاكم الحديد:
هاتوا المطارق إن قلب حبيبتي
أضحى حديدا فاضربوا ليلين لي
أو فاضرموا نار الصبابة حوله
بالنار ينسبك الحديد وينجلي
سكوت، سكوت، لنصمت قليلا فقد طفح القلب بالتذكارات المؤلمة، وأمسى الكلام مرا في الحلق، وحق الإخلاص، وحرمة الأدب أنني كلما توغلت أفكاري في هذه الأنفاق السوداء الوعرة، ينقبض قلبي، وتضيق أنفاسي كأنني مسجون في بيت يحترق. وكلما حاولت الخروج عرض في وجهي ألف حائط يسد علي طريق الخلاص، وكلما أغلقت ورائي مخرجا انفتح أمامي ألف مدخل، يعيدني إلى غرف اللهيب والدخان، حديث الشجون لا ينقطع، التذكارات المؤلمة لا نهاية لها، جروح النفس لا تندمل سريعا كجروح اللحم، ولربما ضاقت الفسحة المخصصة لهذه الأسطر في «السائح» عن وسعها؛ لذلك سأدفن القسم الأخير منها في صدري، ولا أخرجه إلا متى ضاق هذا الصدر المسكين مرة أخرى، سأحذف «داء الألفاظ»، وأترك لكم مقالتي مبتورة. لكنني سأقدم لكم عوضا عنها ما هو أفضل منها، وأود أن تقابلوا بينه وبين من يشتهي أن يطرق قلب حبيبته بمطارق حديدية، فاسمعوا هنا ما يقوله في رواية «نوتردام دي باري» كازيمودو المشوه الأحدب، في قصيدة يخاطب بها فتاة يعبدها، لكنها تحب فتى آخر جميل الصورة، قبيح النفس محبة عمياء:
Jeune fille. Le sapm nèst pas beau,
Nèst pas beau comme le peuplier,
Mais il garde son feuillage Thiver,
Helas! a quoi bon dire cela?
Ce qei nèst pas dean a tort bètre:
La beauté n'aime que la beauté,
Avril tourne le doe à janvier.
وإن لم يعجبكم هذا، فهاكم رسالة طالعتها في رواية لفيكتوريا كروس، الكاتبة الإنكليزية من «برنار» إلى زوجته، التي فرت مع رجل آخر يدعى «بلهام» تاركة في بيتها طفلتها الوحيدة التي لا تتجاوز بضعة أشهر من السن.
Dear Lydia, I have ohtained a divorce against you, as I believe this is the best and kindest thing to do for you.
nothing of myself. You, who always studied these things, will know how bitterly I must have suffered. But I do not blame you altogether. I know there must have peen faulte on my side too. I blame myself terribly for having lost you. The child has died. There seems little to live for, but I still go on.
Yours,
Bernard
أيها الكويتبون والشويعرون، أيها المتهوسون الناطحو السحاب برءوسهم الفارغة، أيها المقلدون الكذبة، المفاخرون بحقارة أجدادهم، المرتدون أطمار ماضيهم، المتلاهون بسخافة أمسهم؛ سيروا سيروا على قواعد أدبكم العقيمة الضخمة، طالعوا المعلقات السبع واشرحوها، وتبسطوا، ادفنوا عقولكم المتضخمة في مقامات الحريري والزمخشري والشريشي. استقوا من ينابيع البديع واستزيدوا من «طرقت الباب حتى كل متني»، طرقوا القلوب الحديد بمطارقكم الحديدية. تغزلوا بالضلفع والرعبوبة، تباكوا على الطلول الدوارس، غوصوا على درر مجمع البحرين، واجمعوا منها العقود المسجعة كأمثال: «فكشف عن سراويله وأشار إلى غرموله.» ولكن أستحلفكم بكل عزيز أن تدفنوا تلك الجواهر والدرر في صدوركم، فنحن لسنا بحاجة إليها، لماذا تطرحون درركم قدام الخنازير؟ إذا كتبتم مقالة حشوها درر فلا تنشروها في جريدة، وإن هبط الوحي عليكم بقصيدة رنانة ساحرة، فلا تتكرموا بها على مجلة. أنتم قد شبعتم من العلم والمعرفة، فلا حاجة لكم للاستزادة. لكن هناك فئة من لحمكم ودمكم، قد مزق الجوع أحشاءها وأحرق العطش قلوبها، تحننوا عليها، يتحنن الله عليكم. أفسحوا لها الطريق لتبل أفئدتها ببلغة، اتركوا جبران يحدثنا عن «البنفسجة الطموحة» وعن «يوسف الفخري». اخفضوا تهاليلكم برهة، فنسمعه ينشد في سكون الليل: «يا ليل العشاق والشعراء والمنشدين.» قفوا قليلا ودعونا نراقب ميخائيل نعيمة جاثيا يبتهل إلى ربه: «واجعل اللهم قلبي واحة تسقي القريب والغريب.» خلوا هذه البلابل الغردة وأمثالها تصدح على أغصانها، اتركوا هذه النفوس الحرة الجبارة، تفكك عن نفوسكم الأسيرة سلاسل العبودية والظلام. دعوا هذه النسمات المنعشة، تهب على وجه آدابكم ولغتكم العلية المشرفة على الموت، قبل أن يفوت الأوان، بقية المروءة نستنجد فيكم، فضلات الشرف نستصرخ، ظل النخوة نسترحم، أتسمعون؟ أترحمون؟
والآن ها أنا أختم كلامي، ولكنني على أمل الحصول على ما يرضى منكم بهذا الشأن، سأجعل ختامي حاويا من الألفاظ ما يلذ لكم ويطيب، ولا أراكم إلا شاكرين لي هذه الهمة، ومراعين عواطفي في المستقبل، كمراعاتي عواطفكم في الحاضر.
كان أحدهم يذكر شعر صفي الدين الحلي ويقول: إن لا عيب فيه سوى قلة استعمال الألفاظ الغريبة، فأرسل صفي الدين الحلي إليه بهذه الأبيات:
إنما الحيزبون والدردبيس
والطخا والنقاخ والعلطبيس
والحراجيج والشقحطب والعو
قب والعنقفيز والعنتريس
والغطاريس والعقنفس والعفس
لق والجربضيض والعيطموس
والسبتني والحقص والهيق واله
جسرش والطرقسان والعسطوس
لغة تنفر المسامع منها
حين تروى وتشمئز النفوس
وقبيح أن يذكر النافر الو
حشي منها ويترك المأنوس
لم نجد شادنا يغني «قفا نب
ك على العود إذ تدار الكئوس
لا ولا من شدا «أقيموا بني أمي»
إذا ما أديرت الخندريس
خل للأصمعي جوب الفيافي
في نشاف تخف فيه الرءوس
وسؤال الأعراب عن صيغة اللف
ظ إذا أشكلت عليه الأسوس
درست تلكم اللغات وأمسى
مذهب الناس ما يقول الرئيس
إنما هذه القلوب حديد
ولطيف الألفاظ مغناطيس
إيليا أبو ماضي
(1) نحن
كم خفضنا الجناح للجاهلين
وعذرناهم فما عذرونا
خبروهم يا أيها العاقلونا
إنما نحن معشر الشعراء
يتجلى سر النبوة فينا
ذكروهم فرب خير كبير
فعلته الهداة بالتذكير
إنما الناس من تراب ونور
فبنوا النور يعبدون النور
وبنو الطين يعبدون الطينا
قيل عنا: قصورنا من هباء
تتلاشى في ضحوة ومساء
أو سطور بالماء فوق الماء
لو سكنتم قصورنا بعض ساعة
لنسيتم شهوركم والسنينا
لو دخلتم هياكل الإلهام
وسبحتم في عالم الأحلام
واجتليتم سر الخيال السامي
وعرفتم كما عرفنا الله
لخررتم أمامنا ساجدين (2) ابنة الفجر
إن أنا أغمض الحمام جفوني
ودوى صوت مصرعي في المدينة
وتمشي في الأرض دارا فدارا
فسمعت دويه ورنينه
لا تصيحي وا حسرتاه لئلا
يدرك السامعون ما تضمرينه
وإذا زرتني وأبصرت وجهي
قد محا الموت شكه ويقينه
ورأيت الصحاب جاثين حولي
يندبون الفتى الذي تعرفينه
وتعالى العويل حولك ممن
مارسوه وأصبحوا يحسنونه
لا تشقي علي ثوبك حزنا
لا ولا تذرفي الدموع السخينة
غالبي اليأس واجلسي عند نعشي
بسكون إني أحب السكينة
إن للصمت في المآتم معنى
تتعزى به النفوس الحزينة
ولقول العذال عنك «بخيل»
هو خير من قولهم «مسكينه»
وإذا خفت أن يثور بك الوجد
فتبدد أسرارنا المكنونه
فارجعي واسكبي دموعك سرا
وامسحي باليدين ما تسكبينه •••
يا ابنة الفجر من أحبك ميت
ولانت بمثل هذا رهينه
زايل النور مقلتيه وغابت
تحت أجفانه المعاني المبينه
فأصيخي هل تسمعين خفوقا
كنت قبلا في صدره تسمعينه؟
وانظري ثم فكري كيف أمسى
ليس يدري عدوه وخدينه
ساكتا لا يقول شيئا ولا يسمع
شيئا وليس يبصر دونه
لا يبالي أأودعوه الثريا
أم رموه في حمأة مسنونه
وإذا الحارسان ناما عياء
ورأيت أصحابه يتركونه
فتعالي وقلبي شفتيه
ويديه وشعره وجبينه
قبل أن يسدل الحجاب عليه
ويوارى عنك فلا تبصرينه
واحذري أن تراك عين رقيب
ولئن كان حل ما تحذرينه
فإذا ما أمنت لا تتركيه
قبلما يفتح الصباح جفونه •••
وإذا الساعة الرهيبة حانت
ورأيت حراسه يحملونه
وسمعت الناقوس يقرع حزنا
فيرد الوادي عليه أنينه
زودي الراحل الذي مات وجدا
بالذي زود الغريب السفينه
نظرة تعلم السموات منها
إنه مات عن فتاة أمينه •••
طوت الأرض من طوى الأرض حيا
وعلاه من كان بالأمس دونه
واختفى في التراب وجه صبيح
وفؤاد حر ونفس مصونه
فإذا ما وقفت عند السواقي
وذكرت وقوفه وسكونه
حيث أقسمت أن تدومي على العهد
وآلي بأنه لن يخونه
حيث علمته القريض فأمسى
يتغنى كي تسمعي تلحينه
فاذكريه مع البروق السواري
واندبيه مع الغيوث الهتونه
وإذا ما مشيت في الروض يوما
ووطأت سهوله وحزونه
وذكرت مواقف الوجد فيه
عندما كنت بالهوى تغرينه
حيث علمته الفتون فأضحى
يحسب الأرض كلها مفتونه
حيث وسدته يمينك حتى
كاد ينسى شماله ويمينه
حيث كنت وكان يسقيك طورا
من هواه وتارة تسقينه
حيث حاك الربيع للروض ثوبا
كان أحلى لديه لو ترتدينه
فالثمي كل زهرة فيه أني
كنت أهوى أزهاره وغصونه
ثم قولي للطير مات حبيبي
فلماذا يا طير لا تبكينه؟ •••
وإذا ما جلست وحدك في الليل
وهاجت بك الشجون الدفينه
ورأيت الغيوم تركض نحو الغر
ب ركضا كأنها مجنونه
ولحظت من الكواكب صدا
ونفارا، وفي النسيم خشونه
فغضبت على الليالي البواقي
وحننت إلى الليالي الثمينه
فاهجري المخدع الجميل وزوري
ذلك القبر ثم حيي قطينه
وانثري الورد حوله وعليه
واغرسي عند قلبه ياسمينه (3) فلسفة الحياة
أيها ذا الشاكي وما بك داء
كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟
إن شر الجناة في الأرض نفس
نتوقى قبل الرحيل الرحيلا
وترى الشوك في الورود وتعمى
أن ترى فوقها الندى إكليلا
هو عبء على الحياة ثقيل
من يظن الحياة عبئا ثقيلا
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئا جميلا
ليس أشقى ممن يرى العيش مرا
ويظن اللذات فيها فضولا
أحكم الناس في الحياة أناس
عللوها فأحسنوا التعليلا
فتمتع بالصبح ما دمت فيه
لا تخف أن يزول حتى يزولا
وإذا ما أظل رأسك هم
قصر البحث فيه كيلا يطولا
أدركت كنهها طيور الروابي
فمن العار أن تظل جهولا
ما تراها؛ والحقل ملك سواها
اتخذت فيه مسرحا ومقيلا
تتغنى، والصقر قد ملك الجو
عليها والصائدون السبيلا
تتغنى وقد رأت بعضها يؤخذ حي
والبعض يقضى قتيلا
تتغنى، وعمرها بعض عام
أفتبكي وقد تعيش طويلا؟
فهي فوق الغصون في الفجر تتلو
سور الوجد والهوى ترتيلا
وهي طورا على الثرى واقعات
تلقط الحب أو تجر الذيولا
كلما أمسى الغصون سكون
صفقت للغصون حيث تميلا
فإذا ذهب الأصيل الروابي
وقفت فوقها تناجي الأصيلا
فاطلب اللهو مثلما تطلب الأط
يار عند الهجير ظلا ظليلا
وتعلم حب الطبيعة منها
واترك القال للورى والقيلا
فالذي يتقي العواذل يلقى
كل حين في كل شخص عذولا
كن هزارا في عشه يتغنى
ومع الكبل لا يبالي الكبولا
لا غرابا يطارد الدود في الأ
رض وبوما في الليل يبكي الطلولا •••
كن غديرا يسير في الأرض
رقراقا فيسقي من جانبيه الحقولا
تستحم النجوم فيه ويلقى
كل شخص وكل شيء مثيلا
لا وعاء يقيد الماء حتى
تستحيل المياه فيه وحولا •••
كن مع الفجر نسمة توسع الأ
زهار شما وتارة تقبيلا
لا سموما من السواقي اللواتي
تملأ الأرض في الظلام عويلا
ومع الليل كوكبا يؤنس الغا
بات والنهر والربى والسهولا
لا دجى يكره العوالم والنا
س فيلقي على الجميع سدولا •••
أيها ذا الشاكي وما بك داء
كن جميلا تر الوجود جميلا
رشيد أيوب
(1) أنفس الشعراء
لما بدا البرق في الظلماء ملتهبا
وراح يطوي فضاء الله واحتجبا
ناديت ربي وطرفي يرقب الشهبا
رباه يا خالق الأكوان وا عجبا
كم تشبه البرق هذا أنفس الشعرا
يا ليل مهلا ولا تشفق على بصري
فما تعودت فيك النوم من صغري
يا ليل مهما تطل لا بد من سهري
حتى يودع طرفي نجمة السحر
تلك التي عشقتها أنفس الشعرا
دعه يغيض بلج الكاس أدمعه
فقد تذكر نائي الدار أربعه
وهات عودك واضربه لنسمعه
لكن توق رعاك الله أضلعه
تلك الأضالع فيها أنفس الشعرا
يا ساكني سفح صنين وكم سفح
ت للصب عين لبلواكم وما برحت
كأنه نازح عنكم وما نزحت
نفس له لسواكم قط ما جنحت
لا والذي عبدته أنفس الشعرا
سل الكمنجة معنى أنة الوتر
والريح إن هينمت سلها عن الخبر
والطير إن بكرت تشدو على الشجر
سلها وسل كل روض زاهر عطر
تجبك يا صاح هذي أنفس الشعرا
يا هائما بابنة العنقود تطربه
منها الحميا وفعل الراح يحسبه
أستغفر الله مما بت تنسبه
للراح إن الذي في الكاس تشربه
يا صاحبي ... أنفس الشعرا
طوباك يا ساكنا في الغابات تؤنسه
إلاهة الشعر والأشباح تحرسه
يضم كل لطيف الروح مجلسه
ملآنة من صفا الأيام أكؤسه
وحوله تتغنى أنفس الشعرا
لله «ناي» سبتنا روح صاحبه
حتى وقفنا حيارى عند واجبه
فصحت والليل زاه من كواكبه
يا نافخ الناي يحدو في مواكبه
بنغمة الناي هامت أنفس الشعرا
يا نسمة في مروج الحب نافحة
حيث الحمائم لا تنفك نائحة
ناشدتك الله إن باكرت سائحة
عند السواقي بجو الروح سابحة
فهينمي تترنح أنفس الشعرا (2) الربيع
مرحبا ذبنا اشتياقا يا ربيع
يا خفيف الروح أهلا مرحبا
كلما ضاء محياك البديع
هبت الأرض تباهي الكوكبا
ومشى في سفح أضلاعي صريع
مات لولا ذكر أيام الصبا
عجبا تمضي زمانا وتعود
وربيعي قد مضى لم يرجع
من ترى أنباك أسرار الخلود
فتوفيت الردى لم تصرع •••
أم هي الأرض التي تبغي البقا
عرفت كيف البقا بالاقتصاد
فأبت عن حكمة أن تنفقا
واكتست ثوب بهاء مورقا
ما له ما دامت الدنيا نفاد
يا له ثوبا موشى بالورود
كل عام يرتدي لم ينزع
حبذا لو كان لي منه برود
كنت أرويها إذن من أدمعي •••
ما أحلى وجهك الصافي الجميل!
رصعته بالندى أيدي الدهور
رب نفس سجنت دهرا طويل
مثلما يسجن مصداح الطيور
أصبحت مطلوقة بعد الكبول
تتغذى ريح الموامي والصخور
فهي لم تخلق لترمى بالقيود
لا ولا، قد صنعت للبرقع
عجبا في هذه الدنيا النقود
حجبت إحدى النجوم اللمع
يا ربيع الأرض يا نعم الدوا
لنفوس ما لها إلا الهموم
حيثما تنشر منها ما انطوى
وتذريه إذا مر النسيم
ويح أهل العشق أرباب الهوى
خلقوا في الكون كي يرعوا النجوم
قسمت أرزاقهم قبل المهود
وقفوا في كل دار بلقع
حفظوا للناس في الدنيا العهود
إنما حفظهم لم ينفع •••
عطري يا زهر أذيال الرياح
إن سرت فوق الرياض القشب
أو دعيها كلما لاح الصباح
أرجا يغني به عن كتبي
غربة أمست حياتي وانتزاح
ومناجاة ورعي الشهب
فإذا ما لاح للصبح عمود
بعد ليل كغراب أبقع
قلت في نفسي وللنوم صدود
أو حتى غربة في مضجعي؟! •••
إنا لولا ذكر أيام الصبا
قلت يا نفسي إذا شئت اذهبي
غير أني كلما هبت صبا
أنعشت قلبي بذكر طيب
لا أبالي إن حللت المغربا
طالما شمس المنى لم تغرب
فحياة المرء في هذا الوجود
رغبة النفس وعت أو لم تع
وبكائي للأولى طي اللحود
كعزائي بالأولى باتوا معي (3) الدرويش
دعته الأماني فخلى الربوع
وسار وفي النفس شيء كثير
وفي الصدر بين حنايا الضلوع
لنيل الأماني فؤاد كبير
فحث المطايا وخاض البحار
ومرت ليال وكرت سنون
ولم يرجع
وألقى عصاه وحط الرحال
بأرض الأشاوس والأشبل
تنم عليه فعال الرجال
كما نمت الريح بالمندل
وراح يغني بصفو الزمان
غناء البلابل فوق الغصون
على مسمعي
فمرت سعود، وجاءت نحوس «وقد نصل الدهر صبغ الشباب»
فعلل نفسا رمتها البئوس
ببحر هموم علاه الضباب
أيا نفس، صبرا لحكم القضا!
ويا نفس مهما دهتك الشجون
فلا تجزعي
فما بال نفسي بنت الخلود
تخاف الخلود وتأبى الذهاب!
وقلبي الخفوق عراه الجمود
أيخشى التراب ابن هذا التراب!
وبات المسافر في حيرة
بمعنى الحياة وسر المنون
ولم يهجع
أيا جيرة الحي، أين الطريق؟
فإني ضللت عن المنزل
لقد كان لي في حماكم رفيق
من المهد في الزمن الأول
فغضوا العيون وفيها الدموع
فحار فؤادي بتلك العيون
وفي الأدمع
وقالوا: رأينا شريدا يجول
بعيدا عن الناس في معزل
يبيت الليالي يؤم الطلول
ويبكي على عهده الأول
فقلنا: دعوه عراه جنو
ن ومرت ليال وكرت سنون
ولم يرجع
وليم كاتسفليس
(1) البترون سنة 2520م
شهر أيار، أو نوار، كما يسميه العامة في سوريا، هو أجمل أشهر السنة، وأكثرها رونقا وزهاء، في كل أقطار العالم، وبنوع خاص في سوريا؛ حيث تظهر الطبيعة بأبهى رداء، وأصفى سماء، وأعذب هواء؛ إذ ينتشر عبير الأزهار مالئا الفضاء عطرا، والعين سرورا، والصدر انشراحا. هناك يعانق الشاطئ الأخضر البحر الأزرق، كما يعانق الحبيب الحبيبة، وكأنى به يفاخر سائر الشواطئ والمدائن بجمال حبيبه قائلا: «من له مثل هذا البحر الفتان.»
هناك - بين تلك الهضاب والرياض - بين أريج الياسمين والمنثور وبخار المياه؛ إذ تلطم الصخور فتتصاعد في الفضاء كاللؤلؤ المنثور. هناك عند أقدام الجبال المزنرة بأشجار الشربين والأرز. في شهر أيار من سنة 2520 كنت ترى الجماهير من الناس، قد ملأت الطرقات والفضاء، كلها متجهة نحو بناية هائلة في جوار البترون، من القوم من جاء من مصر وفلسطين ودمشق، ومنهم من العراق وحلب وحماة وحمص وطرابلس، وغيرها من مدائن سوريا، في المناطيد السريعة التي تمر في الجو مر البرق، وفي النقالات العمومية المرتفعة عن الأرض نحو مائتي ذراع، والتي تسير على دولاب واحد فوق شريط من الفولاذ، بسرعة المناطيد تقريبا. ومنهم - وهم الفقراء - من جاءوا من الأماكن القريبة في سيارات عظيمة الحجم، من طراز النقالات القديمة العهد.
قلت إن هذه الجماهير، كانت متجهة نحو بناية عظيمة في جوار البترون ذلك لسماع محاضرة الأستاذ محمد جمال العلم الزهاوي. فالمحاضرات العمومية التي تقام على نفقة حكومة العالم المتحد، تجري في تلك البناية في شهر أيار، وفي دمشق في شهر آب، وفي القاهرة في كانون الثاني، هذا لأبناء اللغة العربية الخالدة.
أما البناية التي مر ذكرها، فهي كناية عن قاعة مستديرة، مساحة دائرتها لا تنقص عن الميل. مقاعدها مرتفع أحدها عن الآخر، بحيث يرى الجالس في أرفع المقاعد ما يراه في أوطاها. جدرانها من زجاج، وسقفها من الألومنوم، ومنصة الخطابة أو المنبر في صدرها. على أن بناءها محكم هندسيا بنوع أن يسمع الصوت في أقصى المقاعد عن المتكلم بجلاء ووضوح، كما يسمع في أقربها إليه، وهذا فوز كبير للهندسة الحديثة في البناء، وتحسين شروط السماع أو الأكوستيك.
الأستاذ محمد جمال العلم الزهاوي، هو من صنف المرشدين؛ إذ لا يخفى أن جماعة العلماء العمال، ممن نالوا أكثرية الأصوات لاجتهادهم وتفوقهم، يقسمون إلى ثلاثة أصناف أو أقسام: المجربون، وهم الذين يعملون في البحث والتنقيب والاختبار والاكتشاف والاستنباط.
والمصنفون، وهم الذين يؤلفون الكتب وينشئون المقالات، فينشرون بين الورى نتائج الأعمال.
والمرشدون ، وهم الذين يخصصون قسما من أوقاتهم للخطابة والمحاضرات.
وكان الأستاذ محمد من هؤلاء، وقد اشتهر بين المتكلمين بالعربية بالفصاحة، مع توقد الذهن، وملاحة الأسلوب، فضلا عن وافر علمه، وسعة معارفه.
فلما احتشد الناس في القاعة، وامتلأت المقاعد، والقوم بين حديث وضحك، ولعب وهرج ومرج؛ إذ ظهر نور أحمر في وسط القاعة من جهة السقف، وكان هذا النور لوحا كبيرا، ظهرت عليه كتابة بالكهربائية مآلها: «فتحت الجلسة، فعليكم بالسكون والسكوت.»
وما كادت تظهر هذه الكتابة، حتى عم السكون، فكأن القاعة خاوية خالية، لا يسمع فيها سوى نبضات قلوب الألوف المجتمعة من رجال ونساء؛ إذ ذاك انتصبت رئيسة الجامعة القحطانية المرشدة أستير ليفي، وقالت:
سادتي
إن الوقت المخصص لهذا الاجتماع ساعتان كما تعلمون، فالبرنامج هو هذا: موسيقى آلية ثلاث دقائق، ثم نشيد جوق الجامعة للفتيات، ثم محاضرة الأستاذ المرشد محمد جمال العلم، وموضوعها «الجيل العشرون»، يتلو ذلك نشيد جوق الجامعة النابلسية للفتيان، ونختم الجلسة بقرار مستشار المعارف الأديب لمخائيل البناء عن أهم أعمال الحول. أشكركم.
فلما جلست الرئيسة ظهر على المنصة الآلاتيون، فلعبوا نغما لطيفا قصيرا، كي لا يمل الناس. ثم عدد من الفتيات، فأنشدن نشيدا متقنا مطربا، وهي قصيدة قديمة جدا لشاعر عاش في الجيل العشرين، كان يسكن القارة الأميركية، وينظم في العربية، ومن الغريب أن شعره راق، رقيق، خال من الحشو المبتذل، بالرغم من وجوده في ذلك الجيل المظلم المتوحش. ثم انتصب الأستاذ محمد، وإليكم خطابه، قال:
سادتي!
كنت أطالع من عهد قريب، مجموعة خطب ومحاضرات، لأناس مختلفين في الجيل العشرين، وقد استلفت نظري في أكثرها أن الخطباء في ذلك الجيل، كانوا يخصصون ثلث كلامهم لإطراء الحضور بالمبالغة السخيفة، وإطراء أنفسهم بذكر عجزهم وقصورهم، وهو أسلوب مبتذل لإلفات الأنظار إلى مقدرتهم، والثلث الثاني لحشو الكلام الرنان المصفوف صفا، والمركب تركيبا: مبنى دون معنى، ما يثبت أنهم كانوا يرتاحون إلى هذا النوع من الثرثرة، التي لا فائدة منها، والتي لا تدل إلا على شيء واحد، وهو عناية الكاتب أو الخطيب بالتفتيش عن الكلمات والجمل، التي تروق له وجمعها مترادفة، سواء كانت لازمة، أو لم تكن، والثلث الآخر لموضوع المحاضرة أو الخطاب.
لا أخالني يا سادة راجعا بكم إلى تلك العصور المتأخرة. أما إطراؤكم فلا حاجة لي إليه؛ لأنكم أدرى بأنفسكم مني، وقد تكونون إلى الانتقاد أحوج منكم إلى المديح. وأما الإقرار بعجزي، فأخشى أن يحمل محمل الكذب؛ إذ لولا أهليتي لما كنت حيث أنا بالتصويت الشعبي والانتخاب.
وهنا تبدو لي ملاحظة أخرى، غير مختصة بخطبائهم؛ فهي تشمل أيضا كتابهم وشعراءهم، إلا النذر القليل من السابقين المولدين، وهو التشابه العظيم في أقوالهم؛ حتى إن أكثرهم كان يردد عبارات وجملا واحدة، وينهج الأسلوب عينه، الذي ينهجه سواه. وهذا يدل على أمرين: إما أن المواصلات لم تكن موجودة البتة، فلم يدر أحدهم بما كتب الآخر، وهذا مردود تاريخيا ومنطقيا؛ إذا لا يعقل تكرار توارد الخواطر حتى في اللفظ. وأما أنهم كانوا راسفين في قيود التقليد العقيم، والسرقة الأدبية، وهذا الأصح. وقد قال الأستاذ المجرب حسين النافعي في كتابه الجليل: «تأثير الأديان في العصور المظلمة»، ما معناه:
أما كون أبناء اللغة العربية أكثر استسلاما للتقليد من معاصريهم، فلأسباب كثيرة: أهمها تأثير الأديان عليهم، فالأديان كما كانوا يفهمونها في تلك الأيام المحزنة، كانت شديدة التحفظ بحرفية تعاليمها، لا ترتاح إلى البحث وتحرم الجدال، عدوة الاستقلال وحرية العقول، وقد رسخت تعاليمها المشوهة بالتفسير والتأويل في قلوب الشرقيين ونفوسهم، رسوخ المرض العضال في الجسم النحيل. إنما الفرق بينهم وبين المريض، هو أن المريض يكره علته، ويسعى للتخلص منها. أما هم فكانوا شديدي التمسك بعلتهم، يتعصبون لها، ويناضلون من رام مداواتهم وإبراءهم منها. ولذلك، ولما كانت أديانهم مقلدة ومحافظة، نشئوا على التقليد والخوف من كل جديد وإن كان فيه التقدم والإصلاح.
ومن الأسباب أيضا ذلهم، وعدم معرفتهم الحياة الحرة المنطلقة من القيود، كما يعرفها العالم اليوم، فبينما كانت الأمم من حولهم نائلة بعض الاستقلال يومئذ، كانوا هم مستعبدين لسواهم، وقد ألفوا تلك الحالة، فقتلت فيهم العبودية قوة التوليد والاستنباط . أضف إلى ذلك الجهل؛ فقد كانوا، إلا الأفراد، قليلي البضاعة العلمية، يجهلون لغات المعاصرين وآدابهم، مما ضيق عليهم المسالك. اه.
هذه جملة من هذا الكتاب النفيس، وإني أنصح لكم أن تقرءوه، إذا سمح لكم الوقت؛ لأنه كبير الفائدة، ثمين البحث في عوامل النفس، وثوران العواطف، إذا هي ضلت السبيل، وتمردت على إرشاد العقل.
من الغريب أن الناس في تلك العصور كانوا يتوهمون أنهم بلغوا شأوا كبيرا من التمدن والرقي، مع أن آثارهم تدل على انحطاط وتأخر. أجل إنهم وضعوا أساسات الاختراعات والاكتشافات التي حسنها من جاء بعدهم، وصلت إلى الدرجة التي تتمتعون اليوم بثمارها، وأن بعضهم كانوا قد بدءوا يذكرون الحقائق الكبرى، ولكن هؤلاء هم الأفراد القلائل، أما الأكثرية فكانت تهزأ بتعاليمهم، وكثيرا ما كانت تضطهدهم.
من ذلك أن المذاهب الفلسفية، التي تعرف اليوم بأسمائها القديمة، كانت تدعى عندهم أديانا؛ أي إنهم كانوا يعتبرونها شرائع منزلة من السماء، يجب عليهم اتباعها بالحرف والمناضلة عنها، ومحاولة إقناع الآخرين بصحتها، وإكراههم على اعتناقها إذا تسنى لهم ذلك. فكان أتباع المسيح، وهم الأكثرية ولهم الصولة والحول، كثيرا ما يضطهدون المتمذهبين بمذهب موسى أو اليهود، وفي بلادنا الشرقية كان المسلمون يحتقرون النصارى وينبذونهم، وأحيانا يفتكون بهم، وهم أبناء جنس واحد، وبلاد واحدة، ولغة واحدة، لغير سبب إلا الاختلاف في المذهب الفلسفي. ولم تك «الوطنية» تلك الآفة التي سفكت باسمها دماء كثيرة، أقوى من العاطفة الدينية، إلا في بعض الدول التي كانت تدعي التفوق، وتفاخر بكونها جعلت الوطنية فوق الدين.
أواه يا سادتي، كم كانت الإنسانية تشقى في تلك الأيام السوداء، وما أسعدنا لوجودنا في عصر، أصبحت فيه تلك العقائد البربرية آثارا تاريخية، بدلا من أن تكون آفات حقيقية، تحرمنا السعادة، وتورثنا الشقاء والبلاء!
قلت إن بعض الدول التي كانت تدعي التفوق، وضعت الوطنية فوق الدين؛ أي إنها هربت من الدلف إلى تحت المزاب؛ فبدلا من أن تنحر باسم الدين، صارت تنحر باسم الوطنية، بطريقة أعم. وليس هذا فقط، بل تبرر عملها وتقدسه باسم الوطن . كلمة كان معناها ملتبسا على الناس، يؤولونها كما تشاء أغراضهم أو ميولهم البربرية، فكأن ضمير الإنسانية كان مائتا، أو متخدرا، أو كأن شيطان العالم لما فرغت يداه من سلاح الدين، اخترع سلاح الوطنية؛ لتظل الإنسانية راسفة في قيوده تحت قدميه.
في الجيل العشرين ظهر في البلاد الروسية مذهب البلشفة، الذي هو أقرب إلى الإخاء العمومي، الذي يتمتع العالم به الآن من كل مذهب تقدمه، ولكنه لم يلبث طويلا حتى مات؛ ذلك لأنه أخطأ استعمال الوسائل، فامتطى سيف الظلم لإبادة الظلم. وفي قبضة السيف عدوى تسربت إلى جسمه، فنخرت عظمه، وأخطأ أيضا بالتسرع؛ إذا حاول أن يهدم في عام ما بناه العالم في مليون عام، فكان نصيبه مثل نصيب أسلافه الكوميونسم والسان سيمونسم ... إلخ. على أنه لم يندثر تماما؛ إذ ترك آثارا في عقول المفكرين، الذين فحصوه وعرفوا مواضع الضعف فيه، فنبذوها واقتبسوا منه ما كان مفيدا ومطابقا لحاجات الإنسانية، فصارت العقول تتمخض به جيلا بعد جيل حتى ولدته كاملا.
أتدرون يا سادتي أن الشعوب القاصرة في أيامنا هذه، التي هي تحت وصاية إخوانها ممن هم أدرى منها، هي بالحقيقة أرقى مما كانت أمم الجيل العشرين جميعها؟ قد تستغربون هذا القول، ولكنه حقيقة راهنة؛ فشعوب أواسط أفريقيا مثلا لم تصل إلى ما وصلنا إليه من المعارف والتسلط على العناصر، ولكنها راغبة في الاستفادة، ساعية للتعلم، راضية بوصايتنا، مخلدة إلى السكون والمحافظة على الشرائع العمومية. بينما في الجيل العشرين، وفي بلادنا هذه عينها ثارت ثائرات القوم، وهدرت الدماء لانتداب فرنسا الوصاية عليهم، مع أن فرنسا كانت أرقى أمم تلك العصور، وما ذلك إلا لأن أغلب سكان سوريا كانوا من المحمديين، فرغبوا عن فرنسا، لا لذنب ارتكبته، أو لقصور أظهرته؛ بل لأنها على غير مذهبهم الفلسفي، الذي كانوا يسمونه دينا، كما ذكرت لكم سابقا.
تلك كانت حالتهم في أديانهم؛ جهل مطبق يقوده علم فاسد. فعامة الناس كانت جاهلة كنه الدين، وزعماء الدين من كهان وشيوخ، كانوا يضرمون فيهم عاطفة التعصب لمذاهبهم ، والبغضاء لمن كان خارجا عنها؛ ليظلوا في زعامتهم راتعين، وفي رقاب العامة مالكين. فلو تركوهم وشأنهم لاهتدوا إلى السبيل، وأدركوا سريعا كما أدرك من خلفهم على الأرض، أن الدين هو الأخلاق والأعمال، فإن تساوت في الناس بالرقي كانوا من دين واحد، ومذهب واحد، وما دون ذلك باطل، والباطل عدو الخالق وآفة المخلوق.
قلت إن ذلك الجيل، الذي نسميه مظلما، لم يخل من بعض المحاسن؛ فقد شهد تقدم الكهرباء تقدما يذكر، وإن كانوا لم يتوصلوا إلى الانتفاع منها، كما هي الحالة الآن. وشهد أيضا مولد المنطاد، واختراع المواد الانفجارية التي كانوا لبربرتهم يستعملونها في الحروب، للقتل والتدمير، فأصبحنا - وقد حسناها - نستعملها كقوة محركة أوجدت العجائب. وفي ذلك العصر بدأ العلماء والجراحون يدركون فوائد التطعيم البشري، ونقل الدم والغدد، ولكنه ظل في المهد حتى جاء الجيل الذي بعده، فتقدم، ولم يبلغ تمام نفعه إلا في الجيل الثاني والعشرين. وحسنوا قليلا في الأشعة الخارقة، التي كانوا يسمونها أشعة رنتجن نسبة إلى مكتشفها، واخترعوا الغواصات، ولكنهم لم يتوصلوا إلى استخراج الراديوم من الهواء، وحصر قوته الهائلة، فكل هذه الاختراعات والاكتشافات كانت لا تزال في المهد، لم يجنوا كل فوائدها. فكانت الأمراض منتشرة انتشارا كبيرا، والناس يموتون بالأوجاع والآلام، بدلا من أن ينطفئوا بهدوء وبلا ألم، كما هي الحالة الآن، بفضل الأشعة الخارقة، التي صرنا بواسطتها نستطيع أن نرى ما في داخل الجسم، كما نرى ما في خارجه، والأشعة البنفسجية، والأشعة الزرقاء، واستخدام الراديوم للتطعيم بالغدد الحية التي تصلح ما فسد من دم الإنسان، وتجدد فيه مادة الحياة، وغير ذلك من الأمور التي يطول شرحها.
وهنالك سبب آخر لكثرة أوجاعهم، وقلتها بيننا، وهو أنهم كانوا يفرطون في الأكل والشرب، فيحملون دماءهم سموما من المأكولات، لم تقو معدهم على هضمها كلها، ومن المشروبات الروحية السامة. بينما نحن الآن نكتفي بالأشياء المغذية، السريعة الهضم، كالخضر والفواكه والألبان، ونشرب علاوة على الماء؛ الأكسير، الذي هو عصير الفواكه، لا تزيد فيه كمية الكحول عن الاثنين في المائة. ولا نأكل اللحوم كما كانوا يفعلون، ففي بعض الخضر، كالعدس والفاصوليا، وفي اللبن والجبن، ما يغني عن المادة الغذائية في اللحوم، وعن سمومها أيضا. فبينما كان معدل التعمير في عصرهم من الخمسين إلى السبعين، وكان عدد الذين يموتون قبل الأربعين يعادل الثلث، نرى اليوم أن معدل التعمير أصبح فوق المائة، وأن الذين يموتون قبل السبعين لا يعدلون واحدا من مائة، وأكثرهم يموتون من حوادث طارئة غير منتظرة.
انظروا إلى البعد الشاسع بيننا وبينهم. انظروا إلى البناء الفخم الذي شيدناه على الأساس الضعيف الذي تركوه لنا. انظروا كيف أننا نستخدم العناصر كما نشاء، فنحول مجاري الأهوية، ونلجم العواصف، ونستنزل الأمطار، ونقطع المسافات الشاسعة ببضع ساعات، مما لم يحلموا به. إن ضغط الهواء، تلك القوة الهائلة، كانت عندهم بابا مغلقا، إلا في بعض الصغائر، فجعلنا منها قوة تهز الأرض هزا، وأوجدنا الشروط الجوية والطقسية الملائمة ضمن جدران نقالاتنا، فسخرنا بالسرعة وصرنا نجتاز من الخمسمائة إلى الألف ميل في الساعة، دون خطر أو انزعاج.
كل هذا يا سادتي، كل هذه التحسينات المفيدة وغيرها مما لا يساعدني الوقت لذكرها. ثم بفضل الإخاء العمومي، وتوحيد الشرائع في الأرض، مع توحيد العملة، وتحديد مفعولها، ومنع الاحتكار، وقتل عاطفة الطمع في نفوس البشر، مما أبطل الشحناء والحروب، ولولا ذلك لكنا اليوم متأخرين متوحشين هائمين في همجيتنا، كما كان الناس في الجيل العشرين. ولا ريب عندي أن أولادنا سيزيدون على أفعالنا، حتى يبلغ العالم من الكمال الدرجة التي نواها له الإله، الذي هو الكل، والكل هو الإله. أشكركم لإصغائكم. (2) اجعلوا الحلم جميلا
هي حلم ينقضي بين ليلة وضحاها، زهرة تتفتح مع الفجر أوراقها، وتذبل مع المغيب، معشوقة لا تكاد تمنح قبلة اللقاء حتى تذرف دمعة الوداع. هي الحياة بخمرها وخلها، بأفراحها وأوزارها، في فضاء الكون كنور سريع ضئيل. «فاجعلوا الحلم جميلا.»
روحوا النفس فالسبيل ضيق وقصير، إذا نثرنا فوقه الأزهار ربما هان المسير، ومن الجنون أن نؤثر العسير على اليسير، ومن الجحود أن نهمل كنوز النفس، وهي عطايا الإله، فالعيش حلم، والحلم كما نريده يكون. «فاجعلوا الحلم جميلا.»
زهرة الحقل تنبت فلا تسائل لماذا، ولا تحسد نضارة الوردة وجمالها، متألمة لأنها ليست مثلها محبوبة، ولا نكيد لها المكايد لإتلافها، زهرة الحقل قانعة بنصيبها وحالها، فاقتدوا بها. «واجعلوا الحلم جميلا.»
مادة وروح، قذارة والرهية، فالجسم هيكل من طين، الآلهة هي النفس، وليس بالجسد، بل بالنفس السعادة، تناسوا الجسد وحدوده، تناسوا السجن الذي يقيد لا نهاية النفس. «واجعلوا الحلم جميلا.»
جسمك لا يطير؛ إذ ليس له جناح، أما عقلك فطائر لا تجاريه الرياح. فاتركوا الضعف، وتمسكوا بالقوة، التي هي من السماء، واعلوا بنفوسكم فوق سجونها؛ لتذوقوا الهناء. حياة المرء حلم، والأفكار مولدة. «فاجعلوا الحلم جميلا.»
ما عمر الأكوان إلا المحبة، والقلب إن لم يسع الدنيا فهو وعاء صغير، وإن لم يفهم أنغام الكائنات فهو أوتار ميتة لا تحركها أغاني الأرواح المتآخية، فليحدث كل جرح في قلوبكم جرحا. «واجعلوا الحلم جميلا.»
وعندما ينضب زيت السراج، فيعود نوره من حيث أتى، ويعود طينه إلى ترابه، وتفلت النفس من قيود الأديم، تنشد وهي سابحة في سماء النعيم: «لقد جعلت الحلم جميلا.»
نسيب عريضة
(1) على الطريق
لماذا وقفت بخوف وحيرة
أيا نفس، عند الطريق العسيرة؟
ألا أمشي، فإن الحياة قصيرة
ألا امشي؟!
مقر الإله بعيد، فسيري
لكي تدركي الله قبل النشور
فجدي ولا تسألي عن مصيري
بعيشي.
علام التفاتك نحو الطلول؟
أشافك تذكار ماض يحول؟
فملت إلى العود قبل الوصول
ألا أمشي؟!
كفاك من الماضيات الشباب
رياض أمان سقاها السراب
فقولي: «وداعا» لماذا العتاب؟
لنمش؟!
لماذا العتاب على ما انقضى
أنرجع بالعتب عمرا مضى؟
شقينا ولكن شفانا الرضى
ألا أمشي؟!
شقينا بحمل صليب الزمان
ولكن غلبنا الشقا بالأماني
ومن ذي وذاك نظمنا الأغاني
ألا أمشي؟!
أنفسي، بربك خلي السآمة
وهبي لنسبق تلك الغمامة
وصلي بدمع وبعض ابتسامة
فنمشي.
ألا أمشي! وبعد الجهاد الحقيقي
سنسبق آمالنا في الطريق
ونجني الأشعة قبل الشروق
ألا أمشي؟! (2) مناجاة
لاحت قصور الخيال
تعلو متون الغمام
يا أخت روحي، تعالي
أطلت فيها المقام •••
يا أخت روحي اسمعيني
من أوج تلك السماء
قد كاد يقضي يقيني
هلا أجبت النداء!
أراك لا تعرفيني
أزال عني البهاء!
أجل تغير كنهي
منذ جئت أرض الشقاء
بدلت فيها جلالي
بحلة من عظام
يا أخت روحي تعالي
أقد أضجرتني الأنام •••
أرنو بليل كئيب
وطرف جسمي كليل
أصغي، ترى من مجيب
أو من خيال جميل
يلوح رجع سناه
في طي غيم ثقيل
وكيف، والجو قفر
يحار فيه الدليل؟
يا ويح هاذي الليالي
أضحت لطرفي لثام
يا أخت روحي تعالي
فالناس صرعى نيام
الناس، من هم؟ جسوم
ضاعت بهن النفوس
إن يرقدوا فنعيم
رقادهم في البئوس
وا حسرتا! أنا منهم
ما دام جسمي اللبوس
ناموا ونفسي يقظى
تهذي بذكر الشموس
ترجو انتهاء اعتقالي
لكي تقض الخيام
يا أخت روحي، تعالي
تلقى إليك الزمام •••
كانت لها الشهب عرشا
وكنتما في اقتراب
فأهبطت فهي تخشى
وتنزوي في الحجاب
تظل غرثى وعطشى
لقوتها والشراب
تقتات بالصوم حينا
وترتوي بالسراب
تعاف ثدي المحال
ينز منه الأوءام
يا أخت روحي، تعالي
قد حان عهد الفطام •••
يا أخت روحي الحزينة
إلى متى ذا الصدود؟
أو أنت مثلي سجينة
قد أثقلتك القيود؟
مرضت في الأرض يأسا
ولا صديق يعود؟
يا أخت روحي، صبرا!
فالملتقى في الخلود •••
لاحت قصور الخيال
كومضة في الظلام
أكلهن خوالي؟
ما من يرد السلام؟ (3) يا أخي يا أخي
يا أخي، يا أخي، المصاعب شتى
وبعيد مرادنا والموارد
وأمام العيون درب عسير
لم تسر قبلنا عليها الأوابد
مظلم، موحش، كثير الأفاعي
والسعالي المستهويات الطرائد
غير أن المسير لا بد منه
إن أردنا إدراك بعض المواعد
فلنسر في الظلام، في القفر، في الوحشة
في الويل، في طريق المجاهد
فلنسر أعزلين إلا من الحق
سلاحا، والفكر حاد وقائد
وإذا اشتدت الذئاب عواء
فلنقابل عواءها بالنشائد
وإذا حلولك الظلام أضاءنا
مشعل القلب مثل نار المواقد
يا أخي، يا رفيق عزمي وضعفي
سر نكابد، إن الشجاع المكابد!
فإذا ما عييت تسند ضعفي
وأنا بعد ذا لضعفك ساند
سر ، تقدم لكي نخط طريقا
لأباة الهوان عند الشدائد
يا أخي، يا أخي، المصاعب شتى
غير أنا في سيرنا غير واحد
فلنسر، فلنسر، وإما هلكنا
قبل إدراكنا المنى والمواعد
فكفانا إنا ابتدأنا وإنا
إن عجزنا فقد بدأنا نشاهد
عبد المسيح حداد
(1) الله يسعده ويبعده
لم يكن من يستطيع من يفهم أصل الخلاف بين إبراهيم الصالح وأخيه فريد، وقد بدأ الخلاف بينهما في أول أسبوع وصل فيه الصغير إلى هذه البلاد. وبعد أن كان إبراهيم يستعد لاستئجار منزل خصوصي، يشتري له أثاثا جميلا، ليعيش مع أخيه فريد كعائلة صغيرة، لبث في غرفته المفروشة وطرد أخاه من عنده، فاضطر المسكين، وهو دون السابعة عشرة إلى أن يستأجر غرفة له زرية جدا، وأن يعمل كأجير في محل تجاري ليعيش مستقلا.
حكى لي فريد الصغير عن خلافه مع أخيه، فقال إنه لا يعلم لماذا كرهه أخوه، ولم يأثم أمامه، ولا أخل باعتباره كأخيه الأكبر، وولي نعمته، ولكنه لسبب بسيط جدا، ارتأى إبراهيم أن يفترقا، وأن يعيش كل منهما لنفسه. ومذ منعت اجتماعاتهما معا، إلا إذا كانا وحدهما، وإذ ذاك يستعمل إبراهيم سلطته على أخيه، فيأمره أمرا، وينفض طرف سترته بأصابعه علامة أنه هكذا يريده أن يعمل، وإذا أبى فلا يكون مسئولا.
إن خلاف الأخوين على هذه الصورة أمر غريب جدا، فليس بينهما من خطأ ارتكبه أحدهما ضد الآخر، ولا بينهما ما لا يمحى. على أن الاثنين ناجحان بأشغالهما. وإبراهيم رجل يبلغ الخامسة والثلاثين، وقد صار له نحو عشرين سنة يعمل في أميركا، ولما أنهى فريد المدرسة الابتدائية، استقدمه إليه، على أمل أن يفتحا محلا تجاريا، يكون فيه رئيسا، وأخوه مديرا، إلا أن الأمور انتهت بالجفاء بين الاثنين في أول أسبوع لوصول فريد إلى أميركا.
أما فريد فشاب ذكي، له إلمام بالعلوم، وولع بالمطالعة. قليل الكلام، ولكنه رصين لا يتكلم إلا اللازم الذي يفيد. عكس أخيه الأكبر؛ فإنه كثير الكلام، كثير الدعوى، يتدخل في كل موضوع، ويحشر نفسه في كل مشكل. وقد ولع أيضا بالمطالعة الصحفية والكتبية، وإنما ولعا سطحيا، فكان يحفظ أسماء أعاظم الرجال من سياسيين وعلماء وفلاسفة وشعراء، فإذا تكلم في اجتماع يكثر من ذكره تلك الأسماء، فينظر الناس إليه كرجل عليم، في صدره كنوز علم وعرفان. فإذا كان الحديث عن السياسة أسرع، فذكر بسمارك وغلادستون، وقال: فلان قال كذا وكذا، ومن اطلع على كتبه أو ما قاله بسمارك أو غلادستون ليكذبه؟ وإذا كان الحديث عن الشعر، ذكر في الحال المتنبي وأبا العلاء، مع بعض أبيات لكليهما يقولها باللفظ المكسر. ثم يعمق بتاريخ الشعر، فيذكر هوميروس ويتدرج بالأسماء إلى هيكو وموسيه وووو ... حتى يسكت الحاضرون، ويعطوه موقف الكلام. ولا يعدم أن يرى منهم إعجابا بسعة معارفه، ووفرة علومه، حتى صار عندهم مرجعا لكل أمر، ومضرب المثل في العلم، بكل باب من أبوابه.
ودام هذا معه حتى وصل فريد إلى نيويورك، فصار يحضر مع أخيه بعض الاجتماعات، ويراه راكبا مركب الشطط بأكثر أحاديثه، فكان يسكت أولا حياء منه، ولكنه بعد أن أستأنس صار يعترض على غلط أخيه ويصلحه. فكان إبراهيم يحرق الأرم غيظا، ويلعن الساعة التي وصل فيها أخوه؛ لينزع عنه مقامه كعالم بين الناس.
ومرة كان الأخوان في سهرة حافلة، وكان الفونوغراف يشنف أسماع الحاضرين، والكئوس دائرة عليهم، وآخر أسطوانة سمعوها فذهبوا بسحرها، كانت أسطوانة للصلبان ينشد فيها «يا ليل لصب ...» فكان بعضهم يعيدها ويعيدها، ويساعده غناء بها، واستشهادا بمعاني أبياتها الجميلة، حتى وقف عند: «رقد السمار وأرقه»، فقال في القوم: «من هذا السمار؟»
فأجاب أحدهم، وقال: «أظن أن السمار هو الذي يدق المسامير.»
فضحك الكل من جوابه.
وقال ثان: «أظن السمار هو الهر؛ أي السنور، لا بل السنمار.»
وقال ثالث: «لا، بل هو السمرمر الذي يطارد الجراد.»
واختلف القوم على معنى الكلمة، وإبراهيم الصالح يتنحنح، وقد غاب عن الحضور بفكره، ليأتي لهم بمعنى الكلمة لهم، فكان كلامه فصل الخطاب. وأما أخوه الصغير فريد، فكان الحال عنده كالتياترو، فما كان يهدأ من الضحك بكل ما استطاع شدقاه، وبكل ما في رئتيه من القوة.
وأخيرا صاح صائح ، وقال: «عند إبراهيم الصالح، ونتجاسر على تفسير الكلمة، فلنسمعه الآن يحل لنا المشكل.»
وسكت الحاضرون، ووقف الفونغراف، وصاروا كلهم آذانا مستعدة للسماع، وعيونهم مصوبة على نقطة واحدة هي؛ وجه إبراهيم الصالح.
عندئذ لم يعد لإبراهيم من مهرب، فعار عليه أن لا يحل مشكلة صغيرة كهذه، وهو لم يعودهم ذلك، ففتح فمه أولا ببطء كلي، وعيناه محملقتان، ووجهه يتطاول، وكان بطرف نظره يحدج أخاه فريدا، لهذا تلعثم قليلا، ولما تحنن الله على صبر القوم، خرجت من فيه كلمة «أظن» خمس مرات، وبين كل مرة وأخرى فرصة دقيقتين، حتى أخيرا فاض بحل المشكل طارحا عنه التردد المصنع، وقال: «إن السمار هو السامري، عزول اليهودي، ويظهر أن قائل تلك الأبيات يهودي، فيكون المعنى: أن العدو نام، وهو لم ينم، بل أرقه الألم.»
ويظهر أن فريدا في تلك الساعة، نسي أن أخاه الأكبر كان المتكلم، ولهذا استعان بكل ما في قدرته على الضحك، حين كان الكل صامتين، وعلى وجوههم سيماء الرصانة، يتوقعون القول الفصل من رب العرفان عندهم، وهذا ما دعا إبراهيم أن يستشيط غيظا من أخيه، فشتمه، ولولا حرمة الناس لكان ضربه، فانتبه فريد لأمره، وعقب ضحكاته الطويلة عبوسة فجائية، فاستصفح أخاه وأقر بأنه مخطئ، وأنه نسي نفسه لتفاسير القوم كلمة «سمار» البعيدة الصواب.
عندئذ قال له أخوه: «أنت» يا فريد مثل كل ولد يأتي من سوريا مملوء دعوى، ولا تحترم معارف الآخرين، بل تظن أن ما تلقنته في المدرسة هو كل العلم، مع أنه ينقصك تهذيب كثير. والآن «يا عيب الشوم»، دعوتنا نخجل أمام الناس، فقم بنا قم.»
وقد ألح الحاضرون على إبراهيم أن يعدل عن فكره بالرحيل، وأن يهدئ روعه قليلا، وأن أخاه سيتعلم فيما بعد، فيحسن سلوكه، ويعرف كيف يجالس الناس.
وكان أحد الحاضرين الذين فسروا الكلمة شديد الاستياء من جواب فريد لأخيه؛ بأن تفاسير القوم أضحكته، فخاطبه بملء الاشمئزاز، قائلا: «وهل عندك تفسير أحسن. أي نعم، نحن لم نتعلم في المدارس مثلك، ولكن لا أظن أن كلامنا يوجب ضحك الناس، إلا إذا كان ضحكك بلا سبب، والضحك بلا سبب من قلة الأدب.»
هنا تبدلت هيأة فريد الصغير، فقال بصوت لطيف، والحيرة آخذة منه مأخذا: «اعذروني يا إخوان على ما بدر مني؛ فأنا لم أقصد بضحكي الحط من كرامة الذين فسروا كلمة «سمار»؛ بل إن تفاسيرهم جعلتني أضحك؛ لأننا في مجلس سرور، ويجوز فيه لأي كان أن يضحك.»
أما إبراهيم فظل واقفا يشد بذراع أخيه، ليخرج من تلك الجلسة، لئلا يحدث ما يكدره أكثر. ولكن رجلا متقدما في السن أعجبه منطق فريد، فنهض باسما، وتقدم إلى إبراهيم سائلا إياه أن يعود إلى مكانه؛ لمحو أثر الخلاف، خوفا على خاطر الصغير القادم من البلاد؛ فقد شعر بنفسه أن فريدا انكسر خاطره، فاضطر إبراهيم إلى الجلوس، وعاد الرجل المتقدم في السن فقال لفريد: «يا فريد لا تزعل يا ابني، لا بأس عليك، مسألة صغيرة، لا تستحي فكل الحاضرين إخوان. أي يا ابني، اقعد، وقل لنا الآن كيف تفسر سمار، لنضحك نحن عليك، كما أنت ضحكت علينا.»
فضحك القوم سلفا على فريد، ما عدا إبراهيم، الذي كان السم يغلي في قلبه، ولكنه لم يجسر أن يعترض، ولما رأى فريد أن الحاضرين سري عنهم، تبسم وقال: «إن كلمة سمار جمع سمير، والسمير هو الذي يسهر الليل، فيكون معنى الشاعر أن الساهرين ناموا، إلا هو، فقد حرمه النوم ألم يعذبه.»
فضحك ذلك المتقدم في السن ضحكة كبيرة، وقال: «أي والله الآن أخذنا ثأرنا منك.» وضحك لضحكته الحاضرون إلا إبراهيم، الذي نهض في الحال يريد الذهاب مع أخيه، بداعي أن السهرة طالت.
تلك السهرة لم ينم فريد مع أخيه، ومنذ تلك السهرة، لم يعد يضم الأخوين اجتماع، وعندما يسأل إبراهيم عن سلوك أخيه، يهز رأسه ويتنهد قائلا: «ما أحد اشترى البلوى لنفسه مثلي؛ فقد كنت بلا هم فجئت بأخي ليزيد سروري، فكان أنه حرمني الراحة، ولكن أميركا واسعة، فالله يسعده ويبعده.» (2) في بيت الميت
عندما مات طانيوس المر، ظل بيت الفقيد مقصد المعزين أسبوعا كاملا، ليل نهار، وقد خيف أن يكون بلاء أهل الفقيد من كثرة المعزين أكثر من فقدهم المرحوم، ولكن هي العادة السورية في هذه الأحوال تأخذ مأخذها، وهو التقليد يجري مجراه، ولو تقطعت القلوب وتفتت الأكباد وتحطم إناء الصبر، أهل الميت يسمعون تعازي من أفواه المعزين، كأنها أمثولات تعلمها قائلوها من جملة الصلوات التي تقال كل يوم. وإني أنا كاتب هذه الحكاية أشعر بكل ما في من العواطف مع الفاقدين، ليس على من يفقد، بل على جلادتهم في استماع فلسفة التعازي.
إلا أنه من نعم المولى؛ أن الاصطلاح في التعزية أن يكون وقتها قصيرا جدا، فالمعزي يبقي قبعته بيده، وإذا كان في الشتاء يظل لابسا سترته العليا. وما الداعي إلى هذا الاختصار ميل من القوم إلى التخفيف عن أهل الميت، بل كثرة القادمين، حتى يضيق عنهم المكان، وإذ ذاك يخرج فوج ليعطي مكانا للفوج القادم جديدا.
أما أهل الميت، فجلوس بلا حراك، وآذان بلا ألسنة، وعيون تنظر أحضانها، وشفاه تتمتم كلمتين لكل قادم وكل مودع، وهما: «ورأسك سالم» جوابا على التحية في التعزية لدى الدخول والخروج، وهي: «عوضنا الله بسلامة رءوسكم.» والمرحوم طانيوس المر كنت أعرفه معرفة خارجية، فلم أزره في بيته بحياته، ولكن صديقي بطرس كرواني جذبني جذبا؛ لنأخذ خاطر أهل الفقيد، قائلا لي إن التعزية واجبة على كل عارف، ولا فرق، نسيبا كان أم صديقا أم من المعارف.
وهكذا كان، ذهبنا وكان حضرة صديقي أبرع مني في الكلام، فقد دخلت إلى بيت الميت، وأنا كالجنين في عالم التقاليد، فقد هممت بإلقاء التحية التي أقولها في كل الأوقات، إلا أن صديقي بطرس رفع كفه ووضعه على فمي، فجعلني أبلع «نهاركم سعيد»، ثم همس بأذني أن أقول: «الله يعوضنا بسلامتكم»، فقلت، وجلست، كأني من أهل الميت، على ما وصفت وأزيدهم بعدم التمتمة؛ لأن المسألة لا تعنيني، وبنظر الأشباح من كل جهة؛ لأن حضني كان مملوءا بسترتي المطوية، وفوقها قبعتي، وقد احمر وجهي خجلا؛ لأني كنت الوحيد النازع عنه سترته.
بعد سكوت خمس دقائق ، فتح بطرس فاه بالكلام، فقال: «قبل أن مات إسكندر الكبير عرف أن آخرته قد اقتربت، وأن أمه ستحزن عليه حزنا عميقا، فدعاها إليه قبل موته وقال لها: وصيتي إليك يا أماه أن تأدبي مأدبة بعد موتي، وتدعي إليها كل الناس، وعندما يجلسون إلى المائدة قولي لهم: إن من لم يذق حزنا على حبيب له، فليمد يده ويأكل. وهكذا كان. فبعد وفاته أدبت مأدبة، ودعت إليها جميع الناس، ولما جلسوا إلى المائدة قالت لهم ما أوصاها ابنها إسكندر أن تقوله، فلم يمد أحد يده للطعام؛ فعرفت إذ ذاك أن كأس الموت دائرة على الجميع، ولهذا تعزت في مصابها الجلل.»
سمعت هذه الموعظة، فكبر قائلها بعيني، وقلت في نفسي: يا ضيعان ما تعلمته في المدارس، والله إن بطرس فاقني بأسلوبه المعزي، وقال أحسن موعظة تقال في محلها، وكأني نسيت نفسي أني موجود في هيكل الصمت، فقلت لرفيقي: «أحسنت والله بهذه التعزية، إنها لحكمة منزلة.»
أما الحاضرون، ولم يكونوا كثارا؛ لأن زيارتنا لأهل الميت كانت بعد أسبوع، وقد بدأت حركة التعزية تقل، فقد سمعوا الموعظة الجميلة، كأنهم لم يسمعوا شيئا البتة، وقد عجبت لأمرهم، فقلت في نفسي: لعلهم طمطمانيون، لم يفهموا معنى الذي قيل أمامهم.
ولم يكد ينهي بطرس كلماته الدرية، حتى وافى البيت فوج مؤلف من ثلاثة رجال. ولأن المكان واسع والزوار قليلون، بقينا في أماكننا، بل بقي بطرس جالسا، واضطررت أن لا أتحرك؛ لأنه هو الزنبرك لهذه الزيارة.
ولما جلس القادمون جديدا، فتح أحدهم فاه بالكلام، وفيما هو يهم ليتكلم حزنت على نفسي، وقلت: يا الله؛ ما أجهلني! فإني لا أفهم شيئا من العادات والتقاليد، ولم أمرن نفسي على الكلام اللازم في كل حين. أما المتكلم فبدأ بقوله: «هذا حال الدنيا، الموت محتم على كل الناس، لا مهرب منه، كان إسكندر الكبير قد فتح الدنيا بأسرها، وهو في الثلاثين من عمره ...»
وفيما هو يخبرنا عن الإسكندر، قلت في نفسي موعظة ثانية تأتينا، وقد حتمت علي أن أقصد المكتبة العمومية بعد هذه الزيارة؛ لأطالع حياة ذلك الرجل العظيم، الذي كل تاريخه مواعظ لازمة للبشر في حالات المصائب، وقد تحولت إلى إصغاء تام؛ لأسمع المتكلم، فلا تفوتني الموعظة الثانية، ولكن شد ما كان فشلي عندما سمعت منه نفس الموعظة التي أخبرها بطرس، ولهذا استأت في داخلي أيما استياء.
عندئذ هم رفيقي بالنهوض؛ لأنه رأى فوجا آخر مؤلفا من قادمين اقتربا من الباب، فكبست على ركبته وهمست في أذنه إني أريد أن أبقى، حتى نخرج كلنا معا، فسايرني بطرس مضطرا، ودخل القادمان فتليا أفشين التعزية وجلسا. وما هي إلا لحظة حتى فتح كبيرهما فاه بالكلام، فسمعته يقول: ما هان علينا موت المرحوم، ولكن أمر الله لا مرد له، هكذا قدر وكان، فسبحان الدائم. يحكى أن إسكندر ذا القرنين شعر بدنو أجله ...
هنا تنحنحت قليلا، فلاحت مني لفتة إلى صديقي بطرس، فرأيته يخط وجهه ابتسامة، ولكن في الحال أدرت وجهي عنه إلى ناحية المتكلم؛ لأسمع حكاية إسكندر ذي القرنين، وبعد سماعي جملتين من حديثه بدأ وجهي يخط ابتسامة عريضة، وللحال خوفا من أن تنتهي الابتسامة بضحكة، ونحن في هيكل الحزن والخشوع، نهضت ونهض معي رفيقي، فقلت: بالإذن بلا قطع حديث حضرة المتكلم، ونهاركم سعيد جميعا.
وخرجت وتبعني بطرس، ولما صرنا خارج البيت أمسكني صديقا مستوقفا، وقال والسم يقطر من وجهه: ما نفعك ونفع علمك، إذا كنت لا تفهم أن في بيوت أهل الموتى لا يقولون عبارة: «نهاركم سعيد»، وقد أفهمتك عندما دخلنا أن لا تلفظها فبلعتها، فلماذا نسيت هذا الأمر عندما خرجت؟
فقلت له: دعني من عتبك يا بطرس، وأخبرني أين قرأت القصة التي قلتها في بيت الميت؟ فقال إنه سمع جده يرويها في مأتم شيخ القرية. فقلت: وأين قرأها جدك؟ فقال: لا بد أنه سمعها من جده. فقلت له: إذن في مرة ثانية اضبط التاريخ وقل هكذا: «حدثني جدي عن جده عن جده، حتى تصل إلى معاصر لإسكندر الكبير.»
فضحك بطرس وصفح عني، وقال وهو يصافحني، ليأخذ سبيلا غير سبيلي: اضحك بسرك ، فإننا لم نكمل الساعة في بيت المرحوم، وإلا لكنا سمعنا حكاية إسكندر الكبير، لا أقل من عشرين مرة.
فأجبته ولعلني قلت الصواب: «لو كنت موضع أهل الميت لقلت للناس، المرحوم استراح من هذه الدنيا ومن مواعظكم.»
وودعت بطرس وسرت في طريقي، فالتقيت بجماعة عرفت منهم واحدا. ولما رآني دنا مني مسلما، وأخبرني أنه ذاهب ليأخذ بخاطر آل المر، فأخبرته أني آت من تعزيتهم، الله يساعدهم، فأعاد: «الله يساعدهم»، وزاد: «ويعينهم»، وقد أخبرته كيف أني دخلت بيت الميت ولم أقل عبارة تعزية أعزي بها المساكين؛ لأني لا أفهم الاصطلاحات، فضحك مني وقال: «أهي مسألة فلسفة، احك قصة فيها مغزى، وعز بها الجماعة.» فقلت: وما عساك أن تحكي أنت؟
فبدأ يخبرني قصة إسكندر ذي القرنين، ولكني قاطعته قائلا: إني أعرفها، وأشرت له أن يلحق بأصحابه؛ ليعزوا الجماعة وليساعدهم الله - ويعينهم - ويرحمهم. (3) رأس الحكمة
الطفل إذا خاف يفزع إلى أمه، كذلك كل ضعيف إذا شعر بخطر محدق به يفزع إلى قويه.
وللنفس كما للجسد مفزعة، وإنما ما لا ترى كالنفس. وكل شيء صفته من جنسه، فكما أن النفس لا ترى، كذلك مفزعتها لا ترى.
عندما تحدق بالمرء المخاطر، تفزع نفسه إلى أمها الخفية، كما يفزع الطفل إلى أمه إذا خاف على مرأى منا.
أما فزع النفس إلى أمها، فيظهر للناس بالخشوع، إذا اشتمل عليهم الخوف من قوة، لا قبل لهم على مقاومتها جسديا. لم أكن منذ سنين لأثق بالخشوع والمتخشعين، وكثيرا ما أضحكني إبصاري أناسا جامدين، أمام غير مرئي تخشعوا له بعيون مغربة، وأياد مكتفة، وشفاه متمتمة، إلا أني لم أعد أضحك منهم بعد حادثة عرضت لي، فاكتشفت سر غير المرئي، الذي يقف الناس أمامه مصلين.
كان ذلك في البرية، حيث انفردت بنفسي آمنا من الوحش والإنسان، بل من الإنس والجان. وما أن اكتنفتني وحشة الخلوة، حتى تلبدت السماء بالغيوم، فاكفهر النهار، وانقلب ظلاما، وأخذت الرعود تقرقع بملايين ملايين طبولها، وانبثق من الفضاء العالي سهم من نار، وصل أوله لأرض لولبيا من بعيد ، ولم يخرج ثمت نصفه من الشفق، فشعرت بخوف لم أكن لأشعر به لو أني وجدت بين نابي جيش معاد، وأنا في ساحة الحرب أعزل. ثم أحسست بأن نفسي كذلك قد خافت، ففزعت إلى أمها في السموات، ولم أدر إلا وأنا متخشع أمام ما لا أرى منه إلا الجبروت على ما ندعوه كونا. فلما ذهب عني الخوف، إذ هدأت الحال، وجدتني في تلك البرية واقفا أمام غير المرئي، كواحد من الذين ضحكت من وقوفهم جامدين مكتفين متمتمين متخشعين.
إن المرء يدرك عن طريق نفسه سرا في المخاطر غريبا في كيانه؛ إذ تفزع نفسه إلى أصلها العظيم الذي لا يرى كذاتها، كما تفزع صغار الأفراخ إلى أمهاتها بدافع غريزي، هو في الحيوان كما هو في الإنسان، حينئذ يخشع الصغير الضعيف، أمام العظيم القوي المنبثق منه، والنفس شيء من «ما لا حد له»، فإذا ما نبهتها المخاطر، ودت الالتحاق بأصلها العظيم فازعة، ودليلنا على ذلك خشوعا إبان الخطر.
والنفس لا تكلمنا لنفهم منها أصلها وفصلها، ولكنا نعلم أنها إذ تحتك بأسلاكها المرتبطة بها مع الألوهية، نرتجف لقوة ما لا ندركه مما لا يرى، فنخشع مضطرين بقصد أم بغير قصد، خشوع الصغير أمام الكبير.
صعدت يوما إلى جسر بروكلن؛ لاجتيازه مشيا على قدمي، فأرى وألمس عظمة وصل إليها العقل البشري المخترع، ولما صرت في منتصفه مددت بصري إلى نصفه أمامي، ثم التفت فمددت بصري إلى نصفه ورائي، فأدهشني بناء عجيب فوق الماء، ينقل شطر المدينة العظمى إلى شطرها الثاني، ولكني ما لبثت حتى شخصت إلى العلاء، فرأيت من النجوم في الفضاء ما لا عد له، فحملتني نفسي على جسر هيولي إلى فوق، حيث ديار أهلها، ولما بان لي ذلك الجسر الهائل قلت في داخلي: «عظيم جسر بروكلن يشيده العقل البشري، ولكن ما هي نسبته لذلك الجسر الهائل، الذي يحمل ملايين ملايين ملايين الأجرام بين سيارات، وثوابت، ويربطها ببعضها بقوة لا ندرك كنهها.»
فسمعت إذ ذاك نفسي تهتف قائلة: تخشع أيها الإنسان أمام ما لا تدركه العقول .
فقلت وقد جمدت، وكتفت ساعدي، وتخشعت: الخشوع أيها النفس، خوف، فهل خلق الإنسان ليخاف؟
فأجابت نفسي وقالت: بلى الخشوع من الخوف، والخوف من الفكر، والفكر من النفس، والنفس من اللانهاية، التي كل ما تراه أمامك، وفوقك، ووراءك، وتحتك، وما لا تراه بعض بعضها، فإذا احتكت النفس بأسلاك توصلها بأصولها، نبهت الفكر، فتنفس الفكر بالخوف، والخوف بعث الخشوع، والخشوع أمام القوة غير المحدودة، همس الإنسان الصغير في أذن الفضاء العظيم، عن أن المرء قد عرف ما هو في هذا العالم، ومن هو من هذا العالم، ولهذا فهو يفزع إلى ربه كما يفزع الطفل إلى أمه، والضعيف إلى قويه.
إذ ذاك أدركت الحكمة، بقول ذلك الحكيم القائل: «رأس الحكمة مخافة الله.»
অজানা পৃষ্ঠা