وسبقت الأسرة إلى الباب في ظلمة حالكة، وخرجوا جميعا إلى الردهة الخارجية متحسسين الحائط إلى السلم الحلزوني، وهناك بلغت آذانهم جلبة اليقظة التي شملت الدور جميعا، ومزق السكون صفقات الأبواب وهي تغلق، ووقع أقدام المهرولين على السلم، وتصاعد أصواتهم بالكلام والضحكات العصبية، وهبطت القافلة مهتدية إلى الدرابزين تخوض بحار الظلمات، ويسوقها الخوف والفزع، وفي الطريق أرشدتهم أشباح السكان وأصواتهم إلى الطريق فلم يحتاجوا إلى الاستدلال بخادمهم، وكانت الطرقات المسقوفة تبدو كداخل البيوت مظلمة، أما الآخر فيخفف شعاع النجوم الشاحب من شدة ظلمتها، وعاد بهم الخوف إلى ذكريات تلك الليلة الجهنمية فانقبضت صدورهم وجعلوا يقلبون وجوههم في السماء كلما لاحت لهم، ثم بلغوا مدخل المخبأ في تيار من القوم غير منقطع، وهبطوا مع سلمه في باطن الأرض حتى وجدوا أنفسهم في مكان متسع بهر أعينهم - المخدرة بالظلام - بمصابيحه الكهربية القوية، وكان سقفه وجدرانه تترك في نفس المشاهد أثرا عميقا بصلابتها وشدة مراسها، وقد التصقت بجوانبه مقاعد خشبية مستطيلة، وبعثرت في وسطه كثبان من الرمل، ومضت الأسرة إلى أحد الأركان واتخذت مجالسها وتفرق القاعدون إلى الأركان والمقاعد، ووقف خلق كثيرون وسط المخبأ ممن ضاقت عنهم المقاعد، وشاع الخوف أول الأمر فلم ينفع الاجتماع ولا النور ولا صلابة الجدران في تلطيف حدته، ومضت فترة انتظار مؤلمة نطقت فيها الأعين بعذاب الصدور. ونظر أبوه في ساعته ثم غمغم قائلا: الساعة الثانية صباحا! .. نفس ميعاد الليلة الفظيعة.
وكان أحمد يعاني ما يعانيه أبوه وأكثر، ولكنه قال بلهجة هادئة ما استطاع: كان الضرب خطأ فلن يتكرر إن شاء الله!
ومضت الدقائق متتابعة والسكون مطبق، وطالت فترة السكون فأخذ الأمن يتسرب إلى الجوانب الخافقة، وشاع الهمس والكلام، وعلا ضحك كثير، ثم طمأن القوم بعضهم بعضا، ونظر أحمد في الوجوه القريبة منه فوجدها غريبة وقد استبقوا إلى الحديث في جلبة، وقال رجل منهم: لن يبلغ الأذى مهبط رأس الحسين.
فقال له آخر: قل إن شاء الله! - كل شيء بمشيئة الله. - وهتلر ينطوي على احترام عميق للبقاع الإسلامية! - بل يقال إنه يبطن الإيمان بالإسلام! - ليس هذا عليه ببعيد، ألم يقل الشيخ لبيب التقي النقي أنه رأى فيما يرى النائم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقلده سيف الإسلام! - فكيف ضربت القاهرة في منتصف هذا الشهر؟! - ضربت السكاكيني وهو حي غالبية سكانه من اليهود! - ترى ماذا ينتظر الأمم الإسلامية على يديه؟! - سوف يعيد - بعد فروغه من الحرب - إلى الإسلام مجده الأول، وينشئ من الأمم الإسلامية اتحادا كبيرا، ثم يوثق بينه وبين ألمانيا بعهود الصداقة والتحالف! - لذلك يؤيده الله في حروبه. - وما كان الله لينصره لولا جميل طويته، وإنما لكل امرئ ما نوى!
استمع الكهل إلى المتحاورين بلذة وإنكار، وكانت غالبيتهم من أهل البلد ولكنه لم يكن يتصور أن تبلغ بهم سذاجة التفكير هذا الحد من الأوهام، أو أن تؤثر فيهم الدعاية - إن كان هناك دعاية - هذا التأثير المضحك، ولكنه لم ينكر على حوارهم لذته وفكاهته غير المقصودة، وما كان ليحرم نفسه من متعته لولا أن وقع بصره اتفاقا على غريمه الأستاذ أحمد راشد متمشيا على كثب منه، فنهض إليه فورا فتصافحا ثم قال له عاكف: لم نرك اليوم.
فقال الشاب ذو المنظار الأسود: شغلت بدراسة قضية.
واستثار القول غيرته فلم ينبس بكلمة وراح المحامي يقول ملقيا نظرة شاملة على ما حوله: رأيت جميع الإخوان هنا معنا إلا المعلم نونو طبعا.
فابتسم عاكف قائلا: أعجب به من رجل غريب الأطوار! - يتلخص في الكلمات الآتية «ملعون أبو الدنيا». - هذا شعاره أو قل إنه نشيده. - ما كان أجدره أن يعيي الموت لولا قضاء الهرم. - هو الإيمان! - إنه يشعر بالله شعورا عميقا، ويحسبه في كل مكان يحله ويتوكل عليه بكل قلبه، ويطمئن كل الاطمئنان إلى أنه لن يتخلى عنه، وتراه يلم بالمعصية دون أدنى شك في غفرانه ورحمته.
فتنهد عاكف وقال: هذا رجل سعيد كما علمت!
فهز الشباب رأسه بما يشبه الاحتقار وقال: سعادة عجماوات، سعادة الجهل والإيمان الأعمى، السعادة التي يعيش الطغاة بفضل تملكها رقاب البلهاء، ومن المضحك أن تجد هذه السعادة الحمقاء من يأسى عليها بين الحكماء! فتش عن السعادة الحقة على ضوء العلم والعرفان، فإذا وجدت مكانها قلقا وسخطا وشقاء فتلك آيات الحياة الإنسانية الفاضلة الحقيقة بتطهير المجتمع من نقائصه والنفس من أوهامها، الحقيقة ببلوغ السعادة الحقة، إن سعادة نونو لا تفضل شقاءنا - نحن دعاة العلم والإصلاح - إلا كما يمكن أن يفضل الموت براحته المزعومة نعمة الحياة بمتاعبها وكفاحها!
অজানা পৃষ্ঠা