ولم يجد عاكف من نفسه لتوتر أعصابه بجو المخبأ قوة يتوثب بها للنضال والمعارضة فقال مبتسما: ألا ترى أنه ينعم الآن بفضل سعادته العمياء برقاد لذيذ بينما نشقى نحن جميعا برطوبة الليل!
فضحك الشاب وكان أملك لجنانه من الآخر وقال: لا شك أنه ينعم الآن برقاد لذيذ لا شريك له فيه إلا معشوقة الأزواج!
فبدا على وجه عاكف ما يشهد بأنه لم يفهم شيئا، فابتسم المحامي واستدرك قائلا: ألم تسمع عنها بعد؟! .. إنها امرأة هائلة، وظيفتها الرسمية «زوج عباس شفة»، أما تذكره؟ .. أما بيتها فيستقبل كل مساء جمهرة أرباب البيوت بهذا الحي، فسماها المعلم زفتة القهوجي «معشوقة الأزواج»!
فلاح في وجه عاكف الاهتمام الذي يثيره هذا الحديث، وتساءل: أتعني ...؟! - نعم. - وعباس شفة؟! - زوج رسمي، زوج وجد في الزوجية مهنة ومرتزقا! - ألذلك تحتفون به على حقارته وقبحه؟ - إنه عزيز ذو مقام عظيم!
وتمثل عاكف وجه الرجل الدنيء وشعره المنفوش باحتقار شديد، وتحرك في تلك اللحظة الشاب فتحرك معه، يسيران في بطء شديد مستعرضين الجلوس والواقفين، حتى رأيا سيد عارف جالسا إلى جوار حسناء نصف واضعة على حجرها طفلا، فغمغم الشاب: صاحبنا سيد عارف وحرمه!
فسأله عاكف باهتمام واستحياء: حرمه؟! .. وكيف تزوج؟! - كما يتزوج الناس، وهو رجل عادي لولا حالة طارئة غير ميئوس منها، ورجاؤه كبير في الأقراص الألمانية، ولن ...
ولم يتم أحمد راشد كلامه فقد قطعه دوي طلقة شديدة، تابعتها طلقات متقاربة، وارتجف قلب عاكف وخال أن جسمه كله ارتجف فخاف أن يكون غريمه اطلع على رجفته، وساد سكون عميق وحارت في العيون نظرة قلق وخوف، وقال أناس: «هذه طلقات مدافع مضادة» يطمئنون أنفسهم ويطمئنون الآخرين، ولكن الكلام - أيا كانت مقاصده - أحدث في النفوس القلقة المنصتة جزعا وحنقا، وجاء رجل من الخارج مهرولا وقال وهو يلهث: «السماء ملأى بالأنوار الكاشفة!» فاشتد الخوف بالأفئدة، ثم سمعت طلقات أخرى بعيدة استمرت فترة وجيزة قبل أن يطبق السكون مرة أخرى، وطالت فترة السكون وامتدت فعادت الطمأنينة إلى النفوس، وتعالى الهمس ثم ضج المكان بالكلام: لن تعاد مأساة الضرب الأعمى. - لقد اعتذر راديو برلين عن غارة منتصف سبتمبر! - كانت غارة إيطالية فالألمان لا يخطئون.
فابتسم أحمد راشد - استطاع أن يبتسم ثانيا - وقال لصاحبه: أرأيت إلى هؤلاء المتعصبين للألمان؟! .. وأنت؟! .. هل أنت كهؤلاء؟
وكان عاكف يتلذذ - كعادته - بمشاركته المغلوبين عواطفهم، ولما كانت الغلبة للألمان في ذات الوقت فقد قال بغير تردد: كلا .. إني مع الحلفاء قلبا وقالبا، وأنت؟!
فسوى المنظار الأسود على عينيه وقال: لي أمل واحد: أن ينتصر الروس ويحرروا الدنيا من الأغلال والأوهام!
অজানা পৃষ্ঠা