وعلم أنها لم تفهم من قوله إلا أقله، فسر لذلك سرورا مضاعفا، ثم ذكر أمرا فسألها: ألم تزرك زوجة من حريم المعلم نونو؟ - ملعون أبو الدنيا؟! لقد حدثتني بسيرته طويلا، ولكن الرجل يحرم على أزواجه الخروج أو النظر من النوافذ، وربما انقضى العام في أثر العام وهن قابعات في دارهن راضيات قانعات! - حقيق بمن يتغنى بلعن الدنيا ألا يأمن إليها! - والله يا بنى المرأة مظلومة كالدنيا، ولكن ما علينا من هذا فهل سمعت بشخص يدعى سليمان عتة؟ - المفتش؟ - تدعوه توحيدة هانم بالقرد!
ولعل قولها هذا أول صدق تقع فيه!
وقالت عنه ضاحكة: إنه يفكر في الزواج! - وأية فتاة ترضى بهذا القرد العجوز بعلا؟! - كثيرات لا حصر لهن، فالمال نصف الجمال على الأقل، فالفتاة هي التي تتصيده وتجد في طلبه حتى لا يفوتها الزواج منه قبل الخامسة والخمسين.
فسألها ضاحكا: وهل ينتهي الرجل عند هذه السن؟ - لا قدر الله، ولكنها لا تستحق في معاشه إذا تزوجت منه بعدها. - فهي ترغب في الزواج منه وتراهن على موته! فمن عسى أن تكون هذه العروسة الحكيمة؟ - قالت الست توحيدة هانم إنها كريمة يوسف بهلة العطار، وإنها الجمال عينه، فقد جمعت الحسن من طرفيه: الطبيعي والصناعي!
فتمثل أحمد عاكف صورة القرد العجوز باشمئزاز، وعجب كيف يحظى بما لا يطمع هو فيه من إقبال الحسان! ألم تنبذ يده امرأة - ليست بحال الجمال عينه - قائلة: إن عمره كبير؟! وأراد أن يتخيل صورة كريمة العطار، فذكر فجأة وهو لا يدري السمراء الحسناء ذات العينين النجلاوين التي التقى بها في الردهة الخارجية! فانقبض صدره وسأل أمه: هل يقيم العطار في عمارتنا؟
فقالت: كلا بل يسكن في بيت القاضي!
فتنهد ارتياحا! ثم تساءل ترى لأي أسرة تنتمي الفتاة؟ وما لبث أن كتم صيحة كادت تفلت من بين شفتيه! .. فقد ذكر في تلك اللحظة عيني الغلام محمد، وذكر أين رآهما أول مرة في وجه السمراء الحسناء في الردهة الخارجية! .. وهذا ما حاول تذكره فعز عليه ساعتئذ وأضناه، فالغلام شقيق الفتاة بغير شك! وخفق فؤاده، ولكنه شعر بارتياح عميق وسرور لذيذ وانجابت وساوسه وحيرته وخجله! وكان سروره باكتشافه من القوة بحيث لم يعد يلقي بالا إلى حديث أمه! فما زالت تتكلم وما زال يتيه في أحلامه.
8
وعندما أتى المساء مضى إلى الزهرة، ولم يمض دون تردد، فإن ارتياد المقاهي حدث جديد عليه لم يتعوده ولم يألفه، وكان حرصه على عزلته الثقافية يعادل تباهيه بها، فلولا ما يدعوه إلى هناك مصاولة أحمد راشد والظهور على الآخرين ما وجد خروجه على عزلته أمرا ميسورا، ولم يلتق في الزهرة بأحمد راشد، وسأل عنه فقيل له إنه كثيرا ما يمنعه العمل عن الحضور إلى القهوة. على أن الجلسة لم تصر - رغم ذلك - فاترة، وأحياها المعلم نونو والمعلم زفتة «القهوجي» بظرفهما الجميل، وتكلم أحمد عاكف كثيرا وضحك طويلا وقد أخذ يستهويه الاجتماع بالناس أو بالظرفاء من الناس خاصة، ويجد في الأنس بهم ما يجد التعب المنهوك أسلم جنبه للرقاد، وعاد إلى البيت في العاشرة، فعكف على المطالعة زهاء الساعتين وأطياف الحياة الجديدة تتراقص أمام عينيه بين السطور - وما عهد قط الاستغراق في القراءة - ثم نهض إلى فراشه وراح في النوم، ولم يدر أطال به النوم أم قصر، ولكنه استيقظ على صوت منكر، لم يتنبه إلى حقيقته في الثانية الأولى من استيقاظه، ثم أدرك كنهه فخفق قلبه خفقة فزعة، وقفز إلى أرض الحجرة بسرعة جنونية، وتحسس شبشبه بقدميه فوضعهما فيه ثم اندفع إلى الصالة الخارجية فالتقى بشبحي والديه تتقدمهما الخادم الصغيرة. وسأله أبوه بصوت متهدج: هل تعرف الطريق إلى المخبأ؟
فأجابت الخادم عنه بسرعة: أنا أعرفه يا سيدي.
অজানা পৃষ্ঠা