وقال أيضا: إن من ألقى نظرة على المساجد والقصور وعلى غيرها من الآثار العربية من منقولها وغير منقولها يشهد أنها نسجت على غير مثال، وأن الإبداع فيها ظاهر محسوس، وإذا رجعنا إلى أوائل عهد المدنية العربية أيام كانت في أوجها نجد تقليد الصنائع الفارسية والرومية ظاهرا فيها، وكل شعب يقتبس عمن سبقه صنائعه، وهذا يصدق على كل الأمم، وكان الناس إلى عهد قريب يعتقدون أن الفنون اليونانية قامت على غير مثال، ثم أدى البحث إلى أن هذه الفنون أخذت عمن سلفها من الأشوريين والمصريين، فالعرب واليونان والرومان والفينيقيون واليهود وغيرهم أو جميع الأمم قد انتفعت من الماضي، وكل شعب أخذ عن غيره وزاد من عنده ما وسعته الزيادة؛ ولذا لا ينبغي أن يزعم الناس أن العرب لم يكن لهم فن فيه إبداع؛ لأنهم اقتبسوا الأصول الأولى من أعمالهم من الأمم التي تقدمتهم، ويعرف الإبداع الحقيقي في أمة من السرعة التي بها تحول المواد التي بين يديها فتجعلها وفق حاجاتها وتنشئ فنا جديدا، وما من شعب فاق العرب في هذا الباب فإن فكر الإيجاد عندهم قد تجلى في مصانعهم الأولى مثل مسجد قرطبة، ولم يلبثوا أن ألقوا في روع الفنانين الأجانب أنهم كانوا يعمدون إلى طرق جديدة فيها الحذق والمهارة بأكملهما، فقد كانت سواري المعابد القديمة التي بين أيدي العرب من القصر بحيث لا تتناسب مع عظمة الأبنية واتساعها، فقاموا هم ينشئون في أسفلها قواعد وغطوها بقناطر وضعت على غاية من الحذق، ولو كان الترك مكان العرب ما خطر لعقولهم الغليظة مثل هذا الفكر، وكان من أمر الشعوب التي خلفت العرب في البلاد التي خضعت لسلطانهم أن رأوا مصانع قديمة سبقت العرب، فما استطاعوا أن يدبروها تدبيرا جديدا، فظل التقليد باديا في أصولها وفروعها، أما في المصانع العربية كقصور إسبانيا وجوامع القاهرة، فإن المواد الأصلية قد استحالت إلى ترتيبات بلغ من جدتها أن يتعذر أن يقال : من أين جاءت.
قال: ومن ألقى نظرة على الأعمال الأدبية والفنية التي تمت على أيدي العرب ، يتجلى له أنهم حاولوا أبدا أن يزينوا الطبيعة، وطابعهم الذي يبدو في الفن العربي هو التخيل والبهاء والضياء والتزيد في الزينة والدقة، فالعرب عنصر شعر، وأي شاعر لا ينطوي على فنان، اغتنموا بحيث تم لهم تحقيق جميع هذه الأحلام فأولدوا هذه القصور البديعة التي تبدو للعيان كأنها تضاريس من الرخام المرصع بالذهب والأحجار الثمينة، وما من شعب حاز مثل هذه العجائب، وما من شعب سيدانيهم في حيازتها، ومن العبث أن تتطلب مضاهاتها من الدور الذي دخلت فيه الإنسانية اليوم، فأصبحت لا تعرف من الصنائع إلا المبتذلة والمقصود منها النفع فقط وهي شاحبة باردة.
وقال في مناسبة أخرى:
18
إن العرب لما أنشأوا في القرن السابع هذه المملكة الضخمة بفتحهم معظم بلاد العالم القديم اليوناني والروماني لم يلبث سلطانهم أن امتد من إسبانيا إلى أواسط آسيا مشاطئا أرض شمالي إفريقية بأسرها، رأوا أنفسهم أمام هندسة مقررة ثابتة وهي الهندسة اليونانية فاقتبسوها لأول أمرهم على علاتها لإقامة جوامعهم في إسبانيا ومصر والشام، ويدل المسجد الأقصى في القدس وجامع عمرو بن العاص في مصر وغير ذلك من المصانع على هذا الاحتذاء، ولم يطل هذا العهد كثيرا حتى شوهدت المصانع تختلف باختلاف القطر والعصر، وبلغ من عظم هذه التبدلات أنك لا ترى أدنى أثر للتشابه بين بناء قام أوائل الفتح مثل جامع عمرو في القاهرة 742م، وجامع قايتباي 1468م من آخر الدور العربي التركي.
وقال ميجون:
19
لا ننكر على العرب بأن لهم الحظ الأوفر من هذه المدنية وهم واضعو أسسها، وقد أفرغوا هذه العناصر المختلفة في قالب متجانس متناسب فأوجدوا منها مدنية مطبوعة بطابع عظمتهم وسلامة ذوقهم. ولم يمض قرن على فتوح العرب وبسط سلطانهم على الشرق وإفريقية الشمالية وإسبانيا، حتى تبدل النظام الاجتماعي في البلاد المغلوبة، وحل موضعها دين وإدارة وعادات وأخلاق جديدة، وهكذا يقال في صناعاتهم وفنونهم وكثير من احتياجاتهم، وإن توحيد تلك البلاد من بحر الظلمات إلى المحيط الهندي، وإخضاعها لسلطان واحد، ونظام شامل، والعناية بالجندية، وإقبال المسلمين على أداء فريضة الحج، كل ذلك سهل سبل التعارف بين المؤمنين، وجعل كل واحد منهم يحمل إلى بلاده ما استحسنه في البلدان الأخرى؛ ولذلك رأينا التأثيرات الشرقية في أقدم بناء إسلامي في الغرب كالجامع الكبير في قرطبة وجامع سيدي عقبة في القيروان، مغربية بطرز بنائها، مشرقية بزخارفها.
وعلى الجملة فإن خاصة الإفرنج استفادوا، بملابستهم العرب في صقلية والأندلس، الاطلاع على علوم العرب ومدنيتهم، واختلاط الإفرنج في الحروب الصليبية استفاد منه خاصتهم وعامتهم على السواء، وكان من جملة فوائد الحروب الصليبية
20
অজানা পৃষ্ঠা