وتوقعت بعد عودتنا أن تلجأ بريجيت إلى لومي، ولكنها بقيت ممنعة بجمودها وصمتها في اليوم التالي وما بعده، فكانت تستقبلني بقبلتها المعتادة، ثم نجلس وكل منا مستغرق في نفسه، فلا نتبادل الكلام إلا قليلا. وفي اليوم الثالث، عيل صبر بريجيت؛ فاندفعت تهاجمني بعتبها المر قائلة: إنها لا تجد ما تبرر به معاملتي، ولا يسعها إلا الاعتقاد بزوال حبي، ثم أعلنت لي بصراحة أنها أصبحت لا تطيق هذه الحياة، وقد عزمت على الالتجاء لأية وسيلة تنقذها من أطواري الشاذة، ومعاملتي الباردة، ورأيت الدموع تنسكب من عينيها بغزارة، فكدت أجثو أمامها لأطلب عفوها، غير أنها استمرت في إرسال تقريعها متفوهة بكلمات ذهبت إلى كبريائي فجرحتها، وثار ثائري فأجبتها بكلمات من طراز كلماتها، حتى اتخذت مناقشتنا شكل جدال لا هوادة فيه، فقلت لها: إن من المستغرب ألا يكون عندها من الثقة ما يجيز لي إتيان أبسط الأمور، فلا بد إذن أن يكون هنالك سبب آخر غير السبب الذي تتمسك به؛ لأنها تعلم أنني لا أبالي بمدام دانيال، فليس تقريعها لي إلا الاستبداد بعينه، ومع ذلك فإذا كانت متعبة من هذه الحياة ففي وسعها أن تضع حدا لها بالفراق.
فقالت: «ليكن ما تقول؛ لأنك تنكرت لعيني منذ بذلت لك نفسي، فقد لعبت دورك بمهارة لإقناعي بحبك لي، وها قد أتعبك هذا الدور فلا تجد من الأعمال إلا ما تسيء به إلي. لقد ارتبت في إخلاصي لكلمة واحدة مرت على أذنك، ولا حق لي بتحميل نفسي ما توجهه من إهانة إليها. لقد تبدلت فما أنت الرجل الذي أحببت.» - إنني لا أجهل نوع آلامك، وأراها ستتجدد لكل خطوة في حياتي، وسوف لا يطول الأمر حتى أحرم حق التكلم مع أي مخلوق سواك، فأنت تتظاهرين باحتمال سوء المعاملة لتجيزي لنفسك توجيه التقريع إلي، وما تشكين استبدادي إلا طلبا لاستعبادي. أما وقد أصبحت أشوش عليك حياتك؛ فاستعيدي السكينة لها. إنك لن ترينني بعد الآن.
وافترقنا على غضب، ومر النهار دون أن أراها.
وفي اليوم التالي، شعرت عند انتصاف الليل بحزن لم أجد لاحتماله سبيلا، فذرفت الدموع سخينة، وأخذت ألوم نفسي وألعنها قائلا: إن من الجنون المطبق أن أعذب أشرف النساء وأطيبهن قلبا، ثم نهضت راكضا إلى بيتها لأنطرح عند قدميها.
دخلت الحديقة وإذ رأيت النور من نافذة غرفتها ساورتني الشكوك فيها، فقلت: إنها لا تنتظرني في مثل هذه الساعة، ومن يدري ما تفعل؟ لقد تركتها أمس غارقة بدموعها، ولعلني أراها الآن مشغولة بالغناء غير مبالية وغير شاعرة بوجودي، بل لعلها ترتدي أثوابها وتجمل وجهها كتلك المرأة ... لأدخلن إذن متجسسا فأطلع على الحقيقة.
وتقدمت على حذر، وكان باب غرفتها مفتوحا، فتمكنت من مشاهدتها دون أن تراني، وكانت جالسة إلى خوان تكتب في مجلد المذكرات التي كانت مبعث ارتيابي بها، وكان في يدها اليسرى علبة صغيرة من الخشب الأبيض تنظر إليها من آن إلى آن بارتعاش عصبي ظاهر.
ولا أدري أية روح مروعة كانت تسود هذه الغرفة في جوها الهادئ، وكانت رفوف المكتب مفتوحة وقد صفت عليها رزم الأوراق كأنها رتبت من برهة وجيزة.
ودققت الباب فنهضت وأقفلت أدراج المكتب وأتت إلي والابتسام يعلو فمها قائلة: نحن طفلان يا أوكتاف، يا صديقي، وما كان لعراكنا من سبب ولا معنى، ولو لم تأت إلي لذهبت إليك في هذا الليل. اغفر لي؛ فالذنب ذنبي أنا. إن مدام دانيال ستأتي غدا لتناول الغداء؛ فلك أن تفتح سبيلا لندمي عما تسميه استبدادا في معاملتي. إن سعادتي متوقفة على حبك لي، فلننس ما مضى، ولنحتفظ بسعادتنا.
الفصل الثالث
وشعرنا عند صلحنا بما لم نشعر بمثله في خصامنا، ولاح لي أن بريجيت تضمر أمرا لم أدرك كنهه أولا، ثم رأيت الاضطراب يستقر في نفسي ويعكر عليها صفوها، فكنت كلما مرت بي الأيام ينجلي في ويتفوق على مقاومتي عنصران من الشقاء أورثتني إياهما ضلالات ماضي؛ أحدهما: غيرة ثائرة تتدفق لوما وتحقيرا، وثانيهما: نوع من المرح القاسي والخفة المصطنعة أذهب به إلى إهانة كل عزيز علي، فكنت وأنا أستسلم تارة إلى الغيرة، وطورا إلى المرح الساخر، أعامل بريجيت كأنها خليلة خائنة، أو كأنها امرأة مستأجرة، فما لبثت حتى تولاها من الأسى ما جلل حياتنا بالسواد. ومن الغرائب أنني كنت أتململ من سيادة الحزن علينا وأنا لا أجهل مصدره، ولا أقوى على إنكار جنايتي فيه.
অজানা পৃষ্ঠা