كنت في ريعان العمر ميالا إلى السرور، فثقل علي أن أنفرد كل يوم بامرأة أكبر مني سنا تتألم ويتزايد نحولها، وتبدو أمارات الجد على وجهها، فأحس بتمرد شبيبتي علي وتطلعها على ما مضى آسفة على مرحها وحريتها.
وكنا عندما نتمشى على مهل في الغاب على ضوء القمر نشعر كلانا بالوحشة تتغلغل في أحشائنا، فتنظر بريجيت إلي وفي عينيها كثير من الإشفاق، ونتجه إلى صخرة مرتفعة تطل على واد مقفر؛ حيث نستعرض الساعات تمر بنا بطيئة، فأحس بعيني خليلتي وقد غشاهما الأسى تغوران في عيني نافذتين إلى قلبي، ثم تردهما عني لتسرحهما على صفحة السماء ومسالك الوادي، فتقول: إنني أشفق عليك، يا بني؛ فأنت لا تحبني.
وكانت الصخرة تبعد مسافة مرحلتين عن القرية، فنضطر إلى قطع أربع مراحل ذهابا وإيابا، وما كانت بريجيت تخاف السير في الليل، فكنا نجعل مجيئنا عند الساعة الحادية عشرة؛ لنعود منها عند بزوغ الفجر، وكانت في هذه الرحلات ترتدي سترة زرقاء وسروال رجل قائلة: إن أثوابها العادية لا تليق لمثل هذه المغامرات بين الأشواك، وكانت تتقدمني على الطريق الرملية بخطوات ثابتة، فأرى فيها ليونة الأنوثة يشدها إقدام الطفولة، فما أتمالك نفسي من الوقوف في كل فترة لأنظر إليها معجبا وهي مندفعة في سيرها كأنها مقدمة على القيام بواجب صعب تفرضه عقيدة مقدسة.
وكانت وهي مندفعة إلى الأمام منشدة بأعلى صوتها كالجندي المهاجم تقف بغتة لتعود أدراجها إلي مدغدغة وجهي بقبلاتها.
وفي عودتنا كانت تتكئ على ساعدي، فلا تركض ولا تغني، بل تناجيني بعبارات رقيقة تسرها إلي بصوت خافت كأنها تحاذر أن يسمعها أحد ونحن نمشي منفردين في الأماكن المقفرة، ولا أذكر أن كلمة واحدة من هذه الأحاديث شذت من دوائر الحب والولاء.
وسلكنا في إحدى الليالي مسلكا نحو الصخرة افترضناه في الغاب غير المسلك المطروق، فذهبت بريجيت أمامي تختط السبيل وعلى رأسها قبعة صغيرة من القطيفة تنفر من تحتها غدائر شعرها الأشقر، فخيل إلي أنها ليست امرأة، بل غلاما يافعا يقتحم الصعاب. ولكم سابقتها في تسلق الصخور فعلقت بنتوآتها مستنجدة بي وقد عجزت عن الارتقاء، فكنت أرجع إليها لآخذها بين ذراعي قائلا: أنت يا سيدتي من أبناء الجبال، لك القوة والرشاقة، ولكني لا أرى بدا من حملك بالرغم من عصاك الثقيلة وحذائك المصفح.
وصلنا إلى محجتنا وقد تهدجت أنفاسنا، وكنت شادا حقوي بنطاق تتدلى منه قربة، وإذ طلبت بريجيت مني هذه القربة تبينت أنها سقطت مني مع زناد كنا نقدحه لإنارة معالم الطريق وقراءة لوحاتها حذرا من الضلال. وكثيرا ما كنا نضل فأتسلق الأعمدة، وأقدح الزناد مرارا؛ فأتمكن من قراءة ما كتب في أعلاها .
وقالت بريجيت: علينا أن نمضي الليل هنا؛ فقد أضعنا الزناد وأنا متعبة من طول السير، غير أن هذه الصخرة قاسية؛ فلنلق عليها من الأوراق اليابسة ما يحولها إلى فراش وثير.
كانت هذه الليلة من أروع الليالي سكونا وجلاء، وقد زادها روعة ظهور القمر من ورائنا، فعلقت بريجيت أنظارها عليه وهو يتملص على مهل من سواد الأشجار المكللة أعلى الرابية، وانطلقت توجه إليه إنشادها، ولكنها ما رأت الكوكب يتعالى حتى خفت صوتها، وأصبحت نبراتها حزينة هادئة، فارتمت على كتفي وطوقتني بذراعيها قائلة: لا تظن أن حقيقة قلبك خافية علي، فما أنا بلائمتك على ما تحملني من عذاب، وما أنت بالمذنب إذا خانتك قواك فعجزت عن نسيان حياتك الماضية. لقد أحببتني بكل إخلاص، ولن آسف، ولو قتلني حبك، على استسلامي إليك. لقد ظننت أنك ستبعث حيا بين ذراعي فتسلو من أوردنك الهلاك من النساء.
ولقد تلقيت بالابتسام ما اعترفت لي به من اختبارك الحياة وأنت تسرد ما مر عليك متباهيا كالأطفال في غرورهم؛ لأنني اعتقدت أن إرادتي ستكفي لهدايتك، وأن قبلة واحدة على شفتيك ستجذب إليهما ما ثوى من قلبك. لقد اعتقدت أنت أيضا اعتقادي فضللنا كلانا.
অজানা পৃষ্ঠা