وكان لنا جارة تدعى مدام دانيال، عليها مسحة من الجمال، وفيها شيء من الدلال، وهي فقيرة تحاول الظهور بمظهر الغنى، وكانت تأتي لزيارتنا وتلعب الميسر مضاربة معنا بمبالغ كبيرة، فإذا خسرت صعب الأمر عليها فلجأت إلى الإنشاد بصوت ليس فيه شيء من الجمال. وقد كانت هذه المرأة التي اضطرتها المقادير لتمضية حياتها في هذه الغابة الضائعة بين الجبال ظامئة إلى المسرات والملاذ، فما كانت تتكلم إلا عن باريس؛ حيث تذهب لتمضية ثلاثة أيام كل سنة، وكانت تدعي أنها تتبع الأزياء الحديثة فتساعدها بريجيت بآرائها وهي تبتسم شفقة عليها. وكان زوج هذه المرأة موظفا في دائرة تسجيل الأملاك، فيذهب بها أيام الأعياد إلى مركز الناحية لترقص بكل ما في قلبها من شوق مع ضباط الفصيلة في قاعة الحكومة، وكانت تعود من هذه المراقص وقد وهنت قواها، وازداد بريق عينها، فتهرع إلينا لتخبرنا بما صادفت من نجاح، وبما أثارت من أشجان. أما ما تبقى لها من الوقت فكانت تقضيه بمطالعة الروايات غير ملتفتة إلى شيء من مشاغل بيتها.
وكنت كلما التقيت بهذه المرأة أسخر بها لغرابة حياتها، ولكم قاطعتها في حديثها عن المراقص لأسألها عن زوجها ووالده، وهي تكره الأول لأنه زوجها، والثاني لأنه من زمرة الفلاحين، كما تقول، وهكذا لم يخل أي اجتماع لنا بها دون أن ينشأ بيننا خلاف شديد.
وخطر لي في أيامي السوداء أن أتحبب إلى هذه المرأة نكاية ببريجيت، قأقول لهذه: أفما ترين أن مدام دانيال تفهم معنى الحياة؟ فهي ناعمة البال مرحة، وأراها خير معشوقة يتمناها الرجال .
وهكذا كنت أبدأ بالثناء على هذه المرأة، فأصف ثرثرتها بسهولة البيان، ودعواها العريضة بميل بديهي إلى التمتع بالحياة، وأرى أن لا ذنب عليها إذا كانت فقيرة ما دامت تعترف بهذا الفقر، إلى أن أقول أخيرا: إنها لا تسمع مواعظ الناس، ولا تبذل المواعظ لهم، ثم أطلب من بريجيت أن تتخذ هذه المرأة مثالا تحتذي به، مدعيا أن هذا النوع من النساء يوافق ذوقي.
ولاحظت مدام دانيال أن في نظرات بريجيت بعض الأسى، وكانت هذه المرأة طيبة القلب مخلصة؛ إذ هي تملصت من فكرة الأزياء التي كانت تثير حماقتها، فأقدمت على عمل سداه الإخلاص ولحمته الحماقة؛ إذ انتهزت فرصة اختلائها ببريجيت في نزهة لتقول وهي تعانقها: إنها لاحظت ميلا مني للتحبب إليها، وإنني أسمعتها بعض كلمات لا مجال للارتياب في مقصدي منها، وأضافت إلى ذلك قولها: إنها عارفة بأنني عاشق لامرأة أخرى، وأنها تفضل الموت على إتيانها أمرا يهدم سعادة صديقة لها.
وقد رأت بريجيت أن تشكر مدام دانيال على صراحتها، فذهبت هذه مرتاحة الضمير، غير أنها لم تنقطع عن إرسال لحظاتها إلي لتزيد في نكايتي.
وبعد أن بارحتنا مدام دانيال عند المساء، أخبرتني بريجيت بلهجة قاسية عما جرى في المتنزه بينها وبين هذه المرأة، وطلبت إلي أن أوفر عليها تحمل مثل هذه الإهانة فيما بعد قائلة: إنني لا أعلق كبير أهمية على مثل هذه المهازل ولا أصدقها، غير أنني أرى من الفضول - إذا كنت تحبني - أن تدع امرأة أخرى تشعر بأن محبتك لا تحتفظ بمستواها كل يوم، فأجبتها ضاحكا: أيمكن أن يكون لهذا الأمر شأن عندك؟ أفما ترين أنني لا أقصد سوى الهزل لتمضية الوقت؟ فقالت: أواه يا صديقي، إن من البلية أن يرى الإنسان ضرورة لتمضية وقته.
وبعد أيام عرضت علي بريجيت أن نذهب إلى قاعة الحكومة لمشاهدة مدام دانيال في رقصها، فقبلت على مضض، وبينما كانت ترتدي أثوابها قرب الموقد بدأت أوجه إليها اللوم؛ لأنها تخلت عن مرحها القديم، فقلت لها وأنا لا أجهل حالها: ما لك يا بريجيت ؟ لقد أصبح القطوب مستحكما في ملامحك، فإذا دام الحال على هذا المنوال فلا بد من أن يسود الحزن ساعات انفرادنا، لقد عرفتك من قبل أكثر مرحا وحرية وصراحة، وليس مما يوجب افتخاري أن أكون أنا علة هذا الانقلاب الطارئ على أخلاقك، ومع ذلك فإنني أتوسم فيك خلال أهل الزهد، فكأنك خلقت لسكنى الدير.
وكان ذلك اليوم يوم أحد، فاستقللنا عربة وسرنا، حتى إذا وصلنا إلى المتنزه رأت بريجيت رهطا من صديقاتها بنات الحقول سائرات إلى مرقص أشجار الزيزفون، ونضارة الشباب تتدفق من وجوههن، فاستوقفت عربتها وحيت الفتيات، وإذ استأنفنا السير أطلت من نافذة العربة مشيعة بأنظارها رهط الصبايا، كأنها تتشوق إلى المرقص القديم، وإذ توارين عنا رأيتها ترفع منديلها إلى عينيها.
وصلنا إلى مرقص الحكومة فرأينا مدام دانيال تطفر فرحا وحبورا، فبدأت بالرقص معها، وكررت ذلك بصورة تسترعي الانتباه، وكلت لها عبارات الإعجاب، فكانت تجيب على مجاملتي بمثلها، وكانت بريجيت تتبعنا بأنظارها أنى سرنا، ويصعب علي أن أصف ما شعرت به في ذلك الحين؛ إذ تمازج سروري بألمي لما تجلى لي على سيماء بريجيت من غيرة، فكأن هذه الغيرة كانت تحفزني إلى التمادي في إضرامها.
অজানা পৃষ্ঠা