إن الدين يغرس في قلب المتدين أن الإنسان ليس شيئا في جانب الله، وأنه عاجز العجز كله عن فهم نفسه، بله هذا العالم والسموات وما فيهن وما بينهن! هذا هو شأن الدين. أما الفلسفة فشأنها محاولة معرفة هذا كله معتمدة على العقل، وعلى العقل وحده؛ ومن أجل ذلك كثر رمي الغزالي الفلاسفة بالحمق والغرور والجهل والادعاء، وظنهم القدرة على معرفة ما استأثر الله بعلمه.
ولعل سقراط نظر إلى هذا ونحوه حين رأى لنفسه أن يكون فيلسوفا يعنى بالمسائل الإنسانية لا بعلم الطبيعة، وحين اعتبر هذا العلم لا خير فيه ولا جدوى منه؛ لأن هؤلاء المعنيين به لو عرفوا ما يقوم عليه العالم من قوانين تحدث بها ظواهره لما استطاعوا يوما ما أن يحدثوا الرياح والمياه والفصول! ولأن هؤلاء المتفلسفين، حين عنوا بهذا الضرب من ضروب المعرفة، وأهملوا العلوم أو الفلسفة الإنسانية، قد قلبوا النظام الإلهي، باحتقارهم ما منحوا القدرة على معرفته، وتطلعهم إلى معرفة ما احتفظ به الآلهة لأنفسهم.
1
والغزالي - وغير الغزالي من رجال الدين - يرى أن للعقل حدا يقف عنده في المعرفة؛ ولذلك جاء الأنبياء والرسل بما يعز على العقل إدراكه.
وابن رشد كان يستطيع في مقام الجدل أن يرد على حجة الإسلام، بأن العقل في قدرته أن يصل بالنظر الصحيح، والفطرة المواتية إلى إدراك ما يظنه الفقهاء والمتكلمون مما استأثر بعلمه الله والمصطفون من أنبيائه ورسله، لكن المقام مختلف، والأمر أخطر من هذا.
يجب إذن ليدفع عن الفلسفة ولا ينفر الناس منها أن يسلم في كتابه «تهافت التهافت» - الذي خصصه للرد على خصمه اللدود، وتهدئة الثائرين على الفلسفة، وكسب قلوبهم - بأن الفلسفة «تفحص عن كل ما جاء به الشرع؛ فإن أدركته استوى الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أعلنت بقصور العقل الإنساني، وأن مدركه الشرع فقط.» كما يوافق كذلك على أن العقل قد يعجز عن درك كثير من الحقائق، فواجب أن نرجع فيها إلى الشرع؛ لأن العلم الذي مرجعه الوحي إنما جاء متمما لعلوم العقل، وإذن يكون الوحي رحمة من الله لجميع الناس. (ب)
ثم مسألة قدم العالم أو حدوثه كان لها من الخطورة أن كفر الغزالي ومن جاء بعده من المتكلمين من أجلها؛ إذ كان من العقائد الدينية أن العالم بجميع أجزائه محدث؛ لأنه لا قديم إلا الله وحده، فكيف يذهب الفلاسفة إلى أن شيئا يشارك الله في صفة القدم التي ينفرد بها؟
هنا نرى فيلسوفنا ماهرا كل المهارة؛ فيحاول أن يكون منطقيا يحيل أن يخلق شيء من لا شيء، ومؤمنا يعتقد أن الله خالق كل شيء وموجده من العدم إلى الوجود، ورأى أن سبيله في هذا أن يفرق بين القدم الذي يقول به المتكلمون، والقدم الذي ذهب إليه الفلاسفة، وأن يفرق كذلك بين الحدوث على رأي هؤلاء وأولئك.
إنه يقرر أن الفلاسفة وصلوا بالتفكير والنظر العقلي إلى أن العالم لا أول له، كما أن خالقه - وهو الله - وهو علة تامة له لا أول له أيضا؛ لكنه مع هذا محتاج في وجوده إلى الله، فلا وجود له إلا به، ولولاه لما كان. وعلى هذا، كما يقول في «تهافت التهافت»:
فالعالم محدث لله سبحانه، واسم الحدوث أولى به من اسم القدم، وإنما سمت الحكماء العالم قديما تحفظا من المحدث الذي هو من شيء، وفي زمان، وبعد العدم.
অজানা পৃষ্ঠা