عصره وأسرته
نشأته
عمله في التوفيق بين الحكمة والشريعة
عمله في نظرية المعرفة
ابن رشد والغزالي
خاتمة المطاف
ابن رشد وأثره من بعده
هل نجح ابن رشد في رسالته؟
كلمة أخيرة
ثبت المراجع
অজানা পৃষ্ঠা
عصره وأسرته
نشأته
عمله في التوفيق بين الحكمة والشريعة
عمله في نظرية المعرفة
ابن رشد والغزالي
خاتمة المطاف
ابن رشد وأثره من بعده
هل نجح ابن رشد في رسالته؟
كلمة أخيرة
ثبت المراجع
অজানা পৃষ্ঠা
ابن رشد الفيلسوف
ابن رشد الفيلسوف
تأليف
محمد يوسف موسى
عصره وأسرته
الأصل تتبعه الفروع، كما يقول المعتمد على الله بن عباد في شعر له - سنلم به بعد حين - أو أن الأصول عليها ينبت الشجر، كما يقول غيره. وهما تعبيران متقاربان يلخصان قانونا من قوانين الوراثة؛ إحدى سنن الله في خلقه، يظهر أثره بوضوح - تساعده البيئة؛ قانون الطبيعة الآخر - في ابن رشد الحفيد والبيت الذي نبت فيه؛ سواء في ذلك ما يتصل بالصفات النفسية الخلقية، أو الصفات العقلية.
وأسرة ابن رشد من أكبر الأسر الأندلسية، وتعتبر بوجه خاص من مفاخر قرطبة؛ شغلت زمنا طويلا مركزا ممتازا في الفقه والقضاء والسياسة، وكانت موضع إجلال دولة المرابطين، ثم دولة الموحدين، على اختلاف هاتين الدولتين في النزعات والميول من ناحية العلم والعلماء وحرية التفكير. •••
لقد أسس عبد الرحمن الداخل ملكا لبني أمية بالأندلس استمر من عام 138ه إلى عام 427ه، ولما ذهبت هذه الدولة تقاسم الأمراء أقاليم البلاد؛ فكان ملوك الطوائف الذين عرفهم التاريخ، وكان أشهرهم أمرا، وأنبههم ذكرا المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن عباد ملك إشبيلية؛ فقد انتظم له في ملكه من بلاد الأندلس ما لم ينتظم لملك قبله؛ أعني من المتغلبين كما يقول المراكشي.
لكن الحذر قد يؤتى من مأمنه! فقد كان بين المعتمد والفرنجة حروب وغزوات يصيب منها ويصاب، فرأى أن يستنصر بيوسف بن تاشفين، ملك البربر بمراكش، فكان ساعيا إلى حتفه بظلفه، وكان ذلك سبب ضياع دولته.
ذلك بأن ابن تاشفين صغر ملكه في عينه بعد أن رأى الأندلس وعظمتها، فعاد إلى بلاده وهو في الأندلس طامع، وأخذ هو ومستشاروه يعملون الحيلة لامتلاكها؛ فبدأ باستئذان المعتمد في أن يسمح لجماعة انتخبهم من خيرة أصحابه بالإقامة في بعض الحصون مرابطين في سبيل الله، بينما هم دعاة وأنصار انتهزوا الفرصة عندما سنحت، وهبوا لقيادة الثورة على ابن عباد، حتى أسر بعد أن أبلى أحسن البلاء سنة 484ه، واستقر أمر الأندلس بعد هذا لابن تاشفين، وعد يومئذ - كما يذكر المراكشي - في «جملة الملوك، واستحق اسم السلطنة، وتسمى هو وأصحابه بالمرابطين».
অজানা পৃষ্ঠা
ولما تم أسر المعتمد، وأجازوا به البحر إلى طنجة، قال يعبر عن بعض ما يحس به:
قالوا الخضوع سياسة
فليبد منك لهم خضوع
وألذ من طعم الخضو
ع على فمي السم النقيع
إن تستلب مني الدنى
ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه
لم تسلم القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطبا
অজানা পৃষ্ঠা
ع، أيسلب الشرف الرفيع؟
شيم الألى أنا منهم
والأصل تتبعه الفروع
على أن المرابطين لم يهنئوا طويلا بالدولة والملك؛ فقد أرسل الله عليهم الموحدين بزعامة محمد بن عبد الله بن تومرت المهدي، وخليفة عبد المؤمن بن علي، فثلوا عرشهم، وأقاموا لهم دولة على أنقاضهم، وتم لهم بالاستيلاء على قرطبة وغرناطة فتح الأندلس كلها.
وفي سنة 558ه، توفي عبد المؤمن، وولي الأمر ابنه أبو يعقوب يوسف، الملقب بالمنصور، وهو الذي آزر ابن رشد وشجعه على التفلسف، ثم ولي بعده ابنه أبو يوسف يعقوب «580-595ه»، وفي عهده كانت نكبة ابن رشد وأصحابه بعد محاكمة لا ظل للعدل فيها.
وقد قلنا: إن أسرة ابن رشد كانت موضع إجلال وتقدير هاتين الدولتين من ناحية العلم وحرية الفكر. وهذا حق تؤيده وقائع التاريخ.
لقد كان المرابطون من أبعد الناس عن العلم والمدنية وسماحة الإسلام، وكان مؤسس دولتهم لا يتأخر عن سحق الذين لا يتلقون بقبول تعاليمه كلها متى وجد إلى ذلك الوسيلة، وكان من ضيق صدور رجالاتهم بما لا يعرفون من العلم والمعارف أن استولى الفقهاء على رأي يوسف بن تاشفين؛ فكان لا يقطع أمرا دونهم، وانتهزوها فرصة فقبحوا عنده علم الكلام حتى استحكم في نفسه بغضه وبغض أهله، وحذر منه وشدد في نبذه، ثم تمادى الفقهاء فأفتوه بأن كتب الغزالي - وقد وجدت طريقها إلى بلاد المغرب، ومنها «الإحياء» - فيها غير قليل من الإلحاد، وأن صاحبها قد كفر بخروجه فيما ذهب إليه عن مذهب أهل السنة، فكان أن استمع لهم وأمر بإحراقها، كما يروي المراكشي في كتابه «المعجب»، والمؤرخ الألماني يوسف أشباخ في كتابه «تاريخ الأندلس».
وكان من ذلك أن أخذت معاهد العلم والمكتبات العامة تتناقص شيئا فشيئا، وأن صار العلماء ينزوون ويستخفون.
أما الموحدون، فقد كانوا على الضد من هذا كله: إيثار للعلماء، وبخاصة أهل النظر منهم، واستقدامهم ليكونوا بجوارهم في حضرتهم حتى ليتخذون منهم جلاسا وأصدقاء، بل كان منهم الخليفة أبو يعقوب يوسف، الذي دفعه شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة، وجمع كتبها من مختلف النواحي والأقطار.
1
অজানা পৃষ্ঠা
من أجل ذلك نجدهم يبيحون قراءة مؤلفات الغزالي ونحوها من كتب علم الكلام والفلسفة، ويشجعون على دراستها، وكان من سعة صدورهم أن علماء من اليهود وصلوا إلى مركز العمادة لبعض معاهد العلم في قرطبة وإشبيلية وغرناطة وبلنسية ومرسية بالأندلس، كما يذكر المؤرخ أشباخ، في ظل أمراء يعرفون للعلم قدره، ويدفعون إليه، ويثيبون عليه.
لهذا سارع العلماء إلى خذلان المرابطين أبناء الصحراء الجافة القاسية، وشد أزر الموحدين رعاة العلم، وأولي البصر به؛ مجازاة لهم إحسانا بإحسان، وحق لهم ذلك؛ فقد كان هؤلاء يشترطون فيمن يتولون المناصب العامة، كما يذكر أشباخ، «توافر نوع من الثقافة العامة، والإلمام بمعظم العلوم الإسلامية المعروفة».
وهناك مفارقة أخرى بين هاتين الدولتين، اللتين شهد أيامهما ابن رشد وبيته، ترجع إلى البيئة الأولى الطبيعية والاجتماعية لكل منهما.
لقد كان المرابطون - إلى ما ذكرنا - قساة غلاظ الأكباد، وبعيدين إلى حد ملحوظ عما يوجبه الإسلام من الوفاء ولين الجانب والرحمة بمن هان بعد عز؛ فهذا يوسف بن تاشفين استنجد به - كما قدمنا - ابن عباد ضد الفرنجة، فلم يتركه حتى سلبه ملكه، وأنزله وآله منزلة الهون في الأسر والضيق والذل حتى جاءهم الموت، كما يذكر المراكشي. أما الموحدون، وقد أشربوا تعاليم الدين السمحة، فقد كان من أول أمير لهم؛ وهو عبد المؤمن بن علي، أن غلب يحيى بن عبد العزيز الصنهاجي على ملكه - بجاية وأعمالها - ورجع به وبأعيان دولته إلى مراكش، وأمر لهم جميعا، كما يذكر المؤرخ السابق نفسه، «بالمنازل المتسعة، والمراكب النبيلة، والكسى الفاخرة، والأموال الوافرة، وخص يحيى من ذلك بأجزله وأسناه وأحفله، ونال يحيى هذا عنده رتبة عالية، وجاها ضخما، وأظهر عبد المؤمن عناية به لا مزيد عليها».
هذه مفارقة أخرى واضحة بين المسلكين، سببها الفرق الكبير بين البيئتين والمنشأين، وما يكون عن ذلك من شيم وخلال. •••
هذا، وابن رشد يذكره بعض المستشرقين بأنه فيلسوف قرطبة؛ إذ كانت تلك المدينة من مدائن الأندلس موطن بيته ومنبته ومغداه ومراحه، وفيها يقول بعض شعراء الأندلس:
بأربع فاقت الأمصار قرطبة
منهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان، والزهراء ثالثة
والعلم أعظم شيء وهو رابعها
অজানা পৃষ্ঠা
ولا عجب! فهي كما يقول ابن بسام في «الذخيرة»: «قرارة أهل الفضل والتقى، ووطن أولى العلم والنهى، وقلب الإقليم، وينبوع متفجر العلوم.»
ونعتقد أن ابن بسام لم يبالغ فيما وصف به هذه الحاضرة؛ ففي «نفح الطيب» وغيره من المراجع الأصيلة التي أرخت الأندلس وعظمتها وأهلها على ذلك دليل، وأي دليل!
هذا المقري يروي عن علي بن سعيد، عن والده، أن أهل قرطبة أشد الناس عناية بالكتب، وأن أعيانها كان من مفاخرهم أن يقال: إن فلانا عنده هذا الكتاب النادر، وإن ذلك الكتاب عنده دون الناس جميعا.
وهذا خبر نأتي به، على طول فيه، يبين لنا كيف يكون الكلف بشراء الكتب وتحصيلها حتى عند الجاهلين، قال الحضرمي: «أقمت مدة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط فصيح، وتفسير مليح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع المنادي بالزيادة علي، إلى أن بلغ فوق حده، فقلت له: يا هذا، أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوى! قال : فأراني شخصا عليه لباس رياسة، فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيدنا الفقيه! إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك؛ فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده، فقال لي: لست بفقيه ولا أدري ما فيه، ولكن أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط، جيد التجليد استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير! قال الحضرمي: فأحرجني وحملني على أن قلت له: نعم، لا يكون الرزق كثيرا إلا عند مثلك! يعطى الجوز من لا له أسنان! وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلا، وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه!»
وإذا كان الشيء يذكر بالشيء؛ فإن حديث هذا الحضرمي وسوق قرطبة يذكرنا بمناظرة كانت بين ابن رشد نفسه والرئيس أبي بكر بن زهر في المفاضلة بين قرطبة وإشبيلية، قال فيها فيلسوفنا لزميله: ما أدري ما تقول! غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة لتباع فيها، ونقول: وكفى بذلك فضلا لها عما سواها من مدائن الأندلس وحواضرها!
تلك قرطبة منبت ابن رشد ووطنه الأصغر. أما وطنه الأكبر؛ أي الأندلس عامة، فبلغ من حب أهلها للعلم أن كانوا ينبعثون إلى طلبه بباعث قوي من أنفسهم، وكانوا يعنون بالعلوم كلها إلا الفلسفة والتنجيم، فكانا موضوع عناية الخاصة، ولا يتظاهر بهما مخافة العامة، كما يروي المقري، اللهم إلا إن كان أميرا أو خليفة يحب النظر الحر ويدعو إليه.
تلك كلمة عن قرطبة والأندلس عامة: أمرائها وأهلها، وعن العصر الذي عاش فيه ابن رشد وكان سجلا وعى ما ترك من علم وفلسفة، ومنها عرفنا أن تلك البيئة وذلك العصر كانا يدفعان إلى العلم - بصفة عامة - دفعا شديدا، ويشجعان على النظر الحر والفلسفة أحيانا.
ولنتكلم الآن عن ابن رشد في بيته قبل أن نتكلم عنه في نفسه وفلسفته .
نشأته
ابن رشد الجد أو الفقيه
অজানা পৃষ্ঠা
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد. ولد في قرطبة في منتصف القرن الخامس، وبرز في الفقه حتى صار كما يقول الضبي في «بغية الملتمس»: «أوحد زمانه فيه.» ونبت نباتا حسنا، فعرف له المرابطون - والموحدون من بعد - فضله في الفقه والدين مع الخلق الكامل، فصار صاحب الصلاة بالمسجد الجامع بقرطبة، وقاضي الجماعة بها، كما يذكر ابن بشكوال، صاحب كتاب «الصلة»، معاصره وأحد مؤرخي أئمة الأندلس وعلمائها ومحدثيها وفقهائها وأدبائها.
وكان لتقدمه في الفقه على جميع معاصريه مفخرة من مفاخر الأندلس، ونجعة رائدي التفقه من جميع أقطارها، والمرجع في المشكلات وعظائم الأمور طيلة حياته، كما كان مشاركا في علوم أخرى كثيرة، «مع الدين والفضل والوقار والحلم والسمت الحسن والهدي الصالح».
وبعد أن ذكر هذا المؤرخ الأندلسي قدرا من مؤلفاته، ومنها كتاب «المقدمات» المشهور الذي عرفه المستشرقون أكثر من المسلمين، أشار إلى أنه سار في القضاء بأحسن سيرة، وأقوم طريقة، ثم رأى الخير في أن يستعفي منه فأجيب إلى طلبه، وعمل على نشر كتبه وتواليفه، كما أشار إلى أنه كان محببا إلى الناس، لحسن خلقه، وسهولة لقائه، وكثرة نفعه للمتصلين به، فكان الناس يلجئون إليه ويعولون في مهماتهم عليه، واستمر كذلك حتى توفي عام 520ه، بعد أن اكتحلت عيناه بمرأى حفيده فيلسوفنا العتيد، وأنس به عدة أشهر.
ويكاد مؤرخو الأندلس وعلماؤها، ومنهم الضبي وابن بشكوال وابن الأبار، ثم قاضي القضاة ابن فرحون في كتابه «الديباج المذهب»، يجمعون على وصف ابن رشد الجد هذا بما عرفنا في نفسه وخلقه وعلمه، وحب الناس له، وإكبارهم إياه، وفي ذلك ما يستدعي أن نقف قليلا.
هذا الثناء الذي لا تعقيب عليه ممن أرخه من العلماء المعاصرين له، أو الذين تأخروا عنه قليلا، يؤكد لنا بحق حسن خلقه، وجميل عشرته للناس، وكثرة بره لهم، حتى غلب ذلك ما يكاد يكون طبيعة من تحاسد النظراء، وتعادي الأكفاء المعاصرين.
ابن رشد الأب
هذا ابن رشد الفقيه أو الجد. أما ابن رشد الأب؛ فقد يكفي أن يقال فيه: حسبه أن يكون ابن الجد وأبا الحفيد، ولكنه مع هذا كان ابن أبيه في الفقه والعلم، فأخذ عنه وتفقه به، وولي كذلك قضاء الجماعة، كما ذكر ابن الأبار المحدث الفقيه في كتابه «المعجم»، كما ورث عنه الخير والفضل، فكان محببا إلى الناس بارا بهم، كما يروي ابن بشكوال. وكانت وفاته في عام 563ه في شهر رمضان.
ابن رشد الحفيد أو الفيلسوف
تحدر ابن رشد الطفل من هذا البيت، الذي له - كما عرفنا - المركز العالي المرموق في العلم والقضاء، والمنزلة الرفيعة لدى الأمراء، ورأى الحياة عام 520ه بمدينة قرطبة، وهي سوق العلم ومركز العلماء في ذلك الحين.
ونشأ وهو فتى في هذه البيئة العلمية؛ فدرس ما يدرس أمثاله من الفقه والأصول وعلم اللغة والكلام والأدب، وأخذ عن أبيه أبي القاسم في الفقه ونحوه من علوم الدين، فاستظهر عليه موطأ الإمام مالك، وأخذ أيضا عن غيره من جلة الفقهاء: أمثال أبي القاسم بن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة، وأبي بكر سمحون، كما يذكر ابن الأبار في كتابه «التكملة».
অজানা পৃষ্ঠা
وفي اللغة والأدب كان - كما حكى عنه أبو القاسم بن الطيلسان - يحفظ ما أثر من شعر أبي تمام والمتنبي، ويكثر التمثل به في مجلسه، ويورد ذلك أحسن إيراد.
ولم يكتف فتانا أو رجلنا بعلوم الدين واللغة التي حذقها، بل سمت به همته، ودفعه عقله الطلعة إلى دراسة التعاليم «الرياضيات»، والطب، وغير ذلك من علوم الحكمة على أبي جعفر بن هارون الترجاني. وأبو جعفر هذا كان «محققا للعلوم الحكمية، متقنا لها، معتنيا بكتب أرسطوطاليس وغيره من الحكماء المتقدمين، فاضلا في صناعة الطب متميزا فيها.» كما يذكر صاحب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء».
وهكذا درس أبو الوليد أو الحفيد العلم من معينه، وأخذه عن أعلامه، وابتدأ في العناية به منذ حداثته، واستمر على هذه العناية به، حتى ليروي ابن الأبار عنه «أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله، وأنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب نحوا من عشرة آلاف ورقة.» ولعمر الحق، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!
علمه وفضله وخلقه
وقد أعانته تلك الدراسة الجادة العالمة على أن صار علما من أعلام عصره البارزين، حتى صار «يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه.» وحتى كان في علوم الأوائل «الفلسفة» «له الإمامة فيها دون أهل عصره.» مع الحظ الموفور من الإعراب والآداب، ومع صحة النظر، وجودة التأليف، والبصر الدقيق الألمعي بالأصول والفروع. وقصارى القول: فإن الذين ترجموا له من العلماء المعاصرين، أو الذين تأخر بهم الزمن عنه، يكادون يجمعون على أنه لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا.
كذلك يصور لنا هؤلاء المؤرخون الثقات ابن رشد الحفيد في دراساته وعلمه.
أما في صفاته النفسية وخلاله وأخلاقه، فيكفينا أن نورد حكم ابن الأبار؛ إذ يقول: «وكان على شرفه أشد الناس تواضعا، وأخفضهم جناحا»، وأنه «تأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة، فلم يصرفها في ترفيع حال ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة، ومنافع أهل الأندلس عامة». •••
وهنا مواضع يصح أن نقف فيها وقفات قصيرة.
لقد كان ابن رشد إمام عصره في الفقه وعلوم الفلسفة، وكان مع ذلك أشد الناس تواضعا، وأخفضهم جناحا، فهل هذا علة لذاك، أو الأمر بالعكس؟ أي إنه كان كبيرا في علمه فكان كبيرا في تواضعه! نعتقد أن هذا هو الصحيح المعقول الذي يتفق مع طبائع الأمور والأشياء.
إن الجاهل إذا عرف مسألة من مسائل العلم ولو كانت هينة؛ تاه بها، وانتفخت أوداجه، وظن أنه أوتي ما لم يؤت غيره، مثله في هذا مثل المحروم، المحدود الأفق، والمضيق عليه في الرزق، يمشي مصعرا خده للناس إن كسب في يده أكثر مما كان يرجو، وأكثر مما يحتاجه ليومه.
অজানা পৃষ্ঠা
أما الغني فلا يمكن أن يستطيره الفرح أو يزدهيه ربح لم يكن في مرجوه مهما كان كبيرا؛ لأنه حين يقيس نفسه بغيره من أصحاب الملايين لا يجد نفسه بتليد ماله وطريفه شيئا مذكورا، فلم الزهو والكبرياء إذن؟!
وكذلك العالم الذي يتنقل من لون من ألوان المعرفة إلى لون آخر، وكلما انتقل من حل مشكلة علمية تبدت له أخرى، هو دائما في كد عقلي، وتعب فكري. وخاتمة المطاف أو الطواف تكون شعوره بقلة العلم، وصغر النفس، وعجز العقل عن أن يحيط بالكون كله، أرضيه وسمواته وما فيها من الملأ الأعلى، وما فوق ذلك كله من مقام الألوهية الذي جل عن أن يحيط به عقل أو إدراك، والنتيجة الطبيعية والنفسية أن يغدو كلما عمق علمه، كلما اشتد تواضعه، ولان جانبه.
والوقفة الثانية هي أن فيلسوفنا كان ذا حظوة وجاه عظيمين عند الملوك والخلفاء، فلم يفد من ذلك لنفسه، بل قصر هذا على خير أهل بلده خاصة، والأندلس عامة، والأمر في نظري جد طبيعي.
إنه قد وهب نفسه للعلم، وجعل غايته التي يهدف لها معرفة الحقيقة، ولذته هي في أن يدرك من هذه الحقيقة حلقة بعد حلقة، أو طرفا بعد طرف، وهذه اللذات العميقة المتصلة أو المتجددة تستهويه، وتعلو جدا في نظره حتى لا يوازن بينها وبين لذات جمع المال، ورفاهة العيش، وطيب الحياة.
من ثم فهو لا يبالي هذه اللذات ونحوها، ما دام قد جعل همه ووكده المعرفة الحقة، وما يكون في إدراكها من لذة عقلية روحية هي أسمى ضروب اللذات؛ ومن ثم كانت نزعته الاجتماعية وحبه لخير الناس جميعا، فهو يجد لذة أخرى في أن ينفق من جاهه وماله - أو يقصر جاهه وماله - على المحرومين من اللذات العقلية التي جعله الله أهلا لها بما ينفق من عقله وتفكيره.
وهناك وقفة ثالثة بعد هاتين: إن الذين ترجموا لفيلسوف قرطبة وصفوه بأن الدراية كانت أغلب عليه من الرواية،
1
وهذا الوصف يتيح لنا أن نقول: إن نزعته إلى الفلسفة بدت أول ما بدت في الفقه.
ذلك بأن الذي يعتد برأيه وتفكيره، ويحاول أن يدري ويبحث بعقله، لا أن يروي ويصدق ما يرويه كله فحسب، ويجتهد في تعرف علل الأحكام الشرعية على اختلافها، باختلاف الأئمة والفقهاء، ويوازن بين هذه الآراء بعقله ونظره. ذلك الذي يكون هذا حاله في الفقه لا يكون بعيدا عن الفلسفة، بل يكون قد دخل فيها من بعض نواحيها، ما دامت الفلسفة هي البحث عن العلل، ومحاولة فهم العالم وقوانينه.
وإذن، فمن الممكن، بل من السهل الميسور، أن نرى في ابن رشد الفقيه الآن ابن رشد الفيلسوف فيما يأتي من الزمان.
অজানা পৃষ্ঠা
وأخيرا، نقف وقفة رابعة وأخيرة تتصل برأيه في الفقه، وننتقل بعدها إلى حياته العملية.
إنه لا يرى شعائر الدين وأوامره أمورا تعبد الله بها عباده ليكون لهم ما يتطلعون إليه في الدار الآخرة من حور وولدان وجنات فيها من اللذات والمتع ما لا يخطر على قلب بشر. إن الدين - في رأيه - يرمي بشعائره وأوامره إلى غايات خلقية واجتماعية بها صلاح المجتمع وسعادته. وهذه النظرة السامية نجدها واضحة تمام الوضوح في خاتمة كتابه القيم «بداية المجتهد ونهاية المقتصد».
لقد بين في هذا الموضع أن من أوامر الدين وأحكامه ما يرجع إلى تربية الفضائل النفسية المعروفة، ومنها ما يعود الغرض منه إلى تثبيت العدالة الخاصة والعدالة العامة في الأموال وغير الأموال، ومنها ما هو سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان، وحفظ فضائله العملية والعلمية، وهي المعبر عنها بالرياسة؛ ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقوام بالدين.
وهكذا نلمح هذه النظرة في آرائه الفقهية في هذا الموضع، وفي مواضع أخرى كثيرة من هذا الكتاب.
عمله في القضاء
إن رجلا هذا شأنه في الفقه والعلم بصفة عامة، وتلك أخلاقه وخلاله النفسية العالية، كان لا بد من أن يتصل بالخليفة، ومن أن يعرف له هذا قدره، ومقدار ما يفيده العلم وتفيده الأمة منه.
لهذا نراه سنة «548ه/1153م» بمدينة مراكش؛ حيث خليفة الموحدين أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وصفيه ابن طفيل الفيلسوف المعروف؛ فقد كان الخليفة شديد الشغف به، والحب له، حتى ربما كان يقيم عند الخليفة بقصره أياما ليلا ونهارا، كما كان ينوه بالعلماء ويستقدمهم إلى حضرته، ويحضه على إكرامهم، كما يحدثنا المراكشي .
وفي هذه المدينة وجد ابن طفيل الفرصة سانحة لتقديم ابن رشد الفقيه للخليفة المتفلسف، بعد أن دبر أمر هذا التقديم بينه وبين الخليفة، فكان ذلك كما يقصه بنفسه رجلنا؛ إذ يقول:
لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبا بكر ابن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسلفي، ويضم إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين، بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي، أن قال لي: ما رأيهم في السماء؛ أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلي ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي في ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.
وقد كان لهذه المقابلة أو هذا الاختبار الناجح أثره العاجل؛ فإن أبا الوليد نفسه يتم الحديث فيقول:
অজানা পৃষ্ঠা
استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما فقال لي: سمعت أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطوطاليس، أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس؛ فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل. وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك، وصفاء قريحتك، وشدة نزوعك إلى هذه الصناعة. وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبرة سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبو الوليد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.
وبرغم ثقل التبعة التي حملها ابن رشد، فقد كان عليه واجب آخر يجب أن يقوم به، وهو ولاية القضاء كما كان أبواه من قبل.
ولي القضاء إذن، والقضاء في الأندلس وفي غيرها من البلاد الإسلامية في ذلك العصر منصب له خطره وجلالته، وحسبنا من منصب يجعل لصاحبه - كما يقول المقري - أن يستقدم الخليفة لمجلس القضاء إن ادعي عليه حق من الحقوق!
وأوجب عليه هذا العمل أن يتنقل بين أفريقية والأندلس؛ فقد ولي أولا قضاء إشبيلية سنة 565ه، ثم ولي القضاء بقرطبة سنة 567ه، وبعد هذا في العام التالي صار قاضي القضاة، أو قاضي الجماعة، فالتسميتان واردتان لمنصب واحد. ومن هذا اليوم اقتعد كرسي جده وأبيه من قبل، وتمت نعمة الله عليه؛ إذ ولي مع قضاء الجماعة منصب الطبيب الخاص للخليفة.
وفي كل هذه الفترة من حياته التي كان إليه القضاء فيها، نجده - كما يروي الذين ترجموا له - محمود السيرة عند العامة والخاصة، وعند الخليفة أيضا، وينفق من نفسه وماله وجاهه ليكون خيرا لأهل بلده خاصة، ولأهل الأندلس عامة، كما ذكرنا من قبل.
شعوره برسالته
حينما قرب ابن طفيل ابن رشد الحفيد من الخليفة وقدمه إليه، وحينما ندبه لتلخيص كتب المعلم الأول وشرحها، لم يفعل ذلك اعتباطا، أو عن هوى، أو ميل خاص، بل لنقل: إنه فعل ما فعل عن ميل خاص لأبي الوليد يرجع إلى عرفانه به، وباستعداده وحبه للعمل الذي ندبه له، وقدرته على الاضطلاع بالرسالة التي كلف بها.
إنه فكر وقدر، وأطال التفكير والتقدير، فلم ير غير الحفيد حريا بما رغب فيه الخليفة أبو يعقوب، من فهم كتب أرسطوطاليس فهما جيدا، ثم تقريبها إلى الناس؛ لما يعلمه فيه من استعداده لهذا العمل العظيم. وكان أبو الوليد جديرا بما حمله وصادف هوى في نفسه واتفاقا مع نزعتها الفلسفية.
وكان من ذلك أن لم يقل - وقد نال من جاه الخليفة والحظوة لديه حتى صار قاضي القضاة وطبيبه الخاص: الآن ألقت عصاها واستقر بها النوى! ولم يقنع بشيء مما نال، أو بما نال كله، كما يقنع من همه جاه يستطيل به على الإخوان والنظراء، ومنصب يركب به الرقاب، وينيله ما يشاء ويرضى من هناءة الحياة ومتعها ولذاتها.
إن همه كان شيئا آخر، وإن غايته كانت غاية أخرى، وإنه ليشعر شعورا عميقا بتلك المهمة أو الرسالة التي نيطت به، وبالغاية التي يجب أن يسعى إليها، ويعمل لها. وإن هذا الشعور أو الإحساس ليظهر منه واضحا ملموسا في مناسبات عديدة مختلفة وهو يحمل تكاليف منصب القاضي الأكبر.
অজানা পৃষ্ঠা
إنه وهو في القضاء كتب الجزء الأكبر من كتبه التي خلدت اسمه وجعلته علما من الأعلام، كما أنه عني بتسجيل بعض تواريخ ما كتب بضروب مختلفة من التسجيل.
ففي آخر شرحه لكتاب الحيوان يذكر أنه انتهى منه في شهر صفر سنة 565ه في مدينة إشبيلية وهو قاض بها، بعد أن انتقل إليها من قرطبة. وفي آخر شرحه الوسيط لكتاب «الطبيعة» يبين أنه أتمه هذا العام بإشبيلية أيضا بعيدا عن كتبه ومستنداته العلمية، وفي شروحه لكتاب «الآثار العلوية
Les Méteorolagiques » ذكر لنا أنه لم يشهد الزلزال العظيم الذي حصل بقرطبة سنة 566ه؛ لأنه كان بإشبيلية في ذلك الوقت، وإن كان قد عاد إلى قرطبة بعد ذلك بقليل.
ونرى إحساسه القوي برسالته، وبأن حياته قد لا تتسع لها، مع رغبته في القيام بها بقدر وسعه، يتجلى واضحا في أنه في آخر الكتاب الأول لمختصر «المجسطي» يذكر أنه أوجب على نفسه أن يقصر جهده على القضايا التي لا غنى عنها، كما يرى نفسه شبيها برجل اندلعت النار في داره فجأة؛ فهو لا يجد من الوقت إلا ما يتسع لإنقاذ أعز الأشياء عنده، وآثرها لديه، وأشدها ضرورة للحياة.
وأخيرا، نحس هذا الإحساس أقوى مما أحسسناه من قبل، إذا عرفنا أنه أتم شروحه المتوسطة على الخطابة والبلاغة وعلى ما بعد الطبيعة سنة 570ه، وهو مضنى الجسم منهوك من التعب، ومن مرض خطير ألح عليه في ذلك الحين، وأنه أسرع بكتابة السطور الأخيرة من كتاب ما بعد الطبيعة وهو مريض هذا المرض الشديد؛ خشية أن يترك هذا العمل غير تام، وفي مرجوه - إذا مد الله في عمره - أن يكتب على هذا الكتاب وغيره من كتب المعلم الأول شروحا أطول وأوفى. وكان من حسن حظ العلم والفلسفة أن أناله الله ما رجاه، وقد أعانه عليه أنه بعد أن تقدمت سنه اعتزل أعماله الرسمية ليتوفر على إتمام تلك الأعمال الفلسفية الكبيرة.
فيما ذكرنا، بل في بعضه، دلالة أو دلالات على أن ابن طفيل بتوجهه لابن رشد برغبة الخليفة في شرح أرسطوطاليس وتقريبه للأفهام صادف نفسا راغبة، وفكرا نافذا، وشعورا بالرسالة مرهفا، وإرادة قوية مسعفة؛ ولذلك كله تم لهم جميعا ما رجوه من شرح المعلم الأول، كما تم لفيلسوف قرطبة ما عمل له دهرا طويلا من عمره؛ وهو التوفيق بين الدين والفلسفة، والانتصاف لهذه بعد ما كاله لها الغزالي من ضربات.
هذه الرسالة ما هي؟
لا يكفي لتعرف منزلة علم من أعلام الفلسفة أو الفقه أو الأدب أو الفن مثلا، أن نزن ما برع فيه من هذا اللون أو غيره من ألوان المعرفة، بل لا بد مع هذا من التساؤل عن البواعث التي وجهته التوجيه الذي اختص به في دراسته، والهدف أو الرسالة التي ملكت عليه أمره، وعمل لها طول حياته، والتي تعتبر إلى حد كبير مفتاحا لفهم نزعاته واتجاهاته.
فإذا كان الأمر كذلك، فما البواعث أو العوامل التي دفعت فيلسوف قرطبة إلى الفلسفة وبحث صلاتها بالشريعة؟ وما الرسالة التي ملكت عليه أمره، واتخذ الوسيلة وسيلة لها، وعمل جاهدا على الوصول إليها؟
هذه الرسالة على ما نعتقد كانت الانتصاف للفلسفة، ورد اعتبارها لها، وإحياءها بعد ما لقيت من الغزالي، والتوفيق بينها وبين الدين أو الشريعة. وتلك الرسالة أسمى الرسالات التي يندب لها نفسه فيلسوف متدين، وهي مع هذا رسالة جعلتها أمرا لازما الظروف التي اجتازها التفكير الإسلامي قبل ابن رشد، وكان يجتازها في عصره أيضا.
অজানা পৃষ্ঠা
ذلك بأن الإمام الغزالي ندب نفسه للرد على الفلاسفة فيما رآه منافيا للدين، حين لم ير - كما يقول - أحدا من رجال الإسلام صرف عنايته لذلك، كما ذكر لنا في «المنقذ من الضلال»، وكان من هذا أن شهر عليهم حربا لا هوادة فيها، واستعمل فيها كل ما قدر عليه من سلاح، وانتهى بالحكم عليهم بأنهم مبتدعون ملاحدة في كثير مما ذهبوا إليه، وكفرة مارقون من الدين في بعض ما أداهم إليه تفكيرهم الذي تأثروا فيه أيما تأثر بفلاسفة الإغريق. وهنا يجب أن نقف قليلا لنعرف ماذا قصد إليه الغزالي من تلك الحرب.
لقد كان من غرض حجة الإسلام من هذه الحرب التي أوقد نارها بشدة أن يصرف الناس عن الفلسفة، ببيان أنها لا تتفق والدين، وعن الفلاسفة بدمغهم بميسم الإلحاد والكفر. ونحن جميعا ندرك ما في اتهام مفكر بأنه يعنى بالفلسفة في ذلك الزمن، فكيف إذا اتهم بعنف من حجة الإسلام الغزالي بأنه كافر! لا ريب يكون جزاؤه تبرؤ المسلمين منه، واستحلال دمه، وإعدام مؤلفاته.
وقصد كذلك نزع الثقة من الفلاسفة من ناحية التفكير، بعد أن طعنهم في عاطفتهم الدينية، حتى لا يخدع أحد بتعاليمهم، وقد ظهر هذا القصد منه ظهورا واضحا.
نراه يصرح بأن الرياضيات من العلوم الفلسفية، وإن كان لا سبيل لإنكارها، ولكن من ينظر فيها «يحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة؛ فيحسب أن جميع علومهم في الوضوح كهذا العلم، ثم يكون قد سمع من كفرهم ما تتداوله الألسنة، فيكفر بالتقليد المحض.» ولهذا «يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم ... فقل من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين.» كما ينهى لمثل هذا السبب عن قراءة كتبهم في الأخلاق، حتى لا يغتر أحد بما مزجوه بها من الحكم النبوية والكلمات الصوفية.
2
بل إن هذا القصد ظهر منه أول ما شرع في كتابه «تهافت الفلاسفة»، فنراه يذكر في المقدمة أنه ألفه للرد على الفلاسفة الأغبياء الذين تجملوا بالكفر تقليدا؛ لظنهم أن ذلك يدل على حسن الرأي، ويشعر بالذكاء؛ «فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.»
وأخيرا، كان من غرضه في حربه تلك أن يشير إلى أنه هناك بعد الوحي طريق آكد من العقل في معرفة الحقيقة وآمن، وأكثر رحابة منه، وذلك هو التصوف. وقد كان طبيعيا ومنطقيا من الغزالي ، بعد أن بين قصور العقل الذي عليه وحده يعتمد الفلاسفة في الوصول إلى الحقيقة، أن يدلنا على طريق آخر للوصول إليها.
بهذا الطريق، أو بالتصوف، انكشفت له الحقائق، ولم يكن ذلك - كما يقول - بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة؛ فقد ضيق رحمة الله الواسعة، ولذلك نجده يوقن أن الصوفية هم الذين أحسنوا اختيار الطريق إلى الله وإلى الحقيقة؛ «فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.»
هكذا هاجم الغزالي الفلسفة والفلاسفة من هذه الطرق، مريدا الحط من الفلسفة، وصرف الناس عنها وعن رجالاتها، ونعتقد أنه نجح فيما أراد إلى حد كبير.
إنه من الحق القول بأنه - بعد الغزالي - عدم العالم الإسلامي في الشرق فيلسوفا من طراز الفارابي وابن سينا، بل صارت الدراسات الفلسفية تكاد تنحصر في اقتباس ما يتفق والعقائد الدينية من مذهب المعلم الأول، أو الشيخ الرئيس، أو غيرهما، كما فترت العناية بمسائل الطبيعة وما بعد الطبيعة، وزادت بالعلوم العملية كالأخلاق والسياسة، كما يذكر المستشرق دي بور في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، وجاء ما يمكن أن يسمى بعصر الشروح والحواشي والتعليقات والمختصرات.
অজানা পৃষ্ঠা
فإذا تركنا المشرق إلى المغرب، وجدنا ابن باجه وابن طفيل، وهما من معاصري ابن رشد، قد عملا - كل بقدر وسعه وعلى طريقته - على إحياء الفلسفة، كما ترك الثاني بصفة خاصة أثرا يدل بوضوح على رأيه في التوفيق بين الفلسفة والشريعة، وعلى ما بذل من جهد في هذا السبيل، ونعني بهذا الأثر القيم «قصة حي بن يقظان»؛ ففي هذه القصة الفلسفية نرى أنه حينما التقى حي بن يقظان الذي انتهى إلى الحقيقة بالنظر والتفكير بالبطل الآخر «آسال» الذي عرفها من الدين، وروى كل منهما للآخر قصته، عرفا أن الحقائق التي عرفت بالدين والفلسفة متطابقة تطابقا تاما؛ ولهذا نرى المراكشي والمقري يصفان ابن طفيل باجتهاده في التوفيق بين الحكمة والدين.
حالة كهذه، التي وجد فيها فيلسوفنا، كانت تتطلب بلا ريب من يعمل بقوة على الانتصاف للفلسفة وإحيائها، والتوفيق بينها وبين الشريعة، وقد كان ابن رشد هو المرجى لهذه الرسالة؛ فقد جمع بين الاستعداد لها، والحظوة لدى أمير يشجع على الفلسفة ويقرب رجالها.
وإذا كانت محاولة ابن رشد التوفيق بين الحكمة والشريعة هي أهم الوسائل التي رآها لتحقيق الرسالة التي ندب نفسه لها، وإذا كان هذا التوفيق في نفسه غاية جليلة صرف فيها كثيرا من جهوده، وإذا كانت هذه المحاولة منه ومن أسلافه فلاسفة الإسلام بصفة عامة هي معقد الطرافة في الفلسفة الإسلامية، كما يقول المستشرق الفرنسي «ليون جوتيين
Lèon Gauthier »، إذا كان الأمر كذلك، فإننا سنتناول أولا الحديث عن عمله في هذه الناحية وما يتصل بها، ثم نسوق الحديث إلى جهده في الرد على الغزالي وهدم تهافته، وبذلك نكون تناولنا - بالقدر الذي يسمح لنا به نطاق هذا الكتاب الضيق - أهم جوانب فلسفة ابن رشد العظيم.
عمله في التوفيق بين الحكمة والشريعة
تمهيد
الإحساس بالحاجة إلى التوفيق بين الفلسفة أو الحكمة والشريعة عاطفة طبيعية يحس بها كل من عني بالبحث في هاتين الناحيتين. ومحاولة هذا التوفيق تعتبر إلى حد ما واجبا لازم الأداء، وأمرا ينساق إليه الفيلسوف المتدين صاحب العقيدة التي لها قداستها في رأيه؛ وذلك لأكثر من عامل واحد:
أولا:
ليحقق الانسجام بين ما وصل إليه بعقله وبين معتقده الموروث عن الآباء والأجداد، العامر به قلبه، والذي يراه فوق كل شك، وإن عز عليه أحيانا أن يفهم بعض ما جاء به، أو بعض ما يستلزمه.
وثانيا:
অজানা পৃষ্ঠা
ليتجنب غضب الفقهاء الذين يرون كل تفكير عقلي حر ضربة موجهة للدين الذي لم يأت عن طريق العقل، بل عن طريق الوحي الإلهي، وليكون كذلك بمأمن من غضب الشعب وتعصبه؛ الشعب الذي يشعر بميل طبيعي للثورة على الممتازين بأي نوع من أنواع التمييز، وبخاصة إن دفع لذلك التعصب من رجال الدين الذين يرون لأنفسهم فضلا في العقل والتفكير، ويزعمون أنهم قادرون على فهم ما تحسبه العامة أسرارا وأمورا فوق طاقة الإنسان إدراكها.
وإذا كانت محاولة التوفيق بين الوحي والعقل مما لا يجد منه بدا كل من يشتغل بالفلسفة بصفة عامة؛ فهي كذلك بالنسبة إلى فلاسفة الإسلام للأسباب المتقدمة، ولأسباب أخرى سنشير بعد قليل بإيجاز إلى أهمها وأحقها بالذكر والتقدير.
من أجل ذلك نرى اليونان عرفوا ما يجب أن يكون من علاقة بين الفلسفة والتقاليد أو الأساطير الدينية، كما نجد للمسائل الدينية حظا لدى كل المدارس الفلسفية ورجالها، وبالأخص سقراط وأفلاطون والرواقيين وفلاسفة الإسكندرية، فإنهم جميعا يحرمون تقويض الدين الذي يعرفون له جدواه الأخلاقية والاجتماعية. ومن الطبيعي أن نرى هذا الاتجاه يزيد ويقوى عند «فيلون
» اليهودي وعند بعض آباء الكنيسة المسيحية.
أما بالنسبة للمسلمين؛ فإن الذي يفهم الإسلام وروحه وتعاليمه التي تدعو للأخذ بالوسط في كل الأمور، وتوجب الإصلاح بين المتخاصمين، والتوفيق بين المتناقرين، والذي درس تاريخ الإسلام، ولا سيما الناحية العلمية تقول: إن من كان هذا حاله يرى أن روح التوفيق بصفة عامة كانت طابعا للمسلمين في كل النواحي النظرية تقريبا، فكلما وجدت مذاهب مختلفة أو متعارضة، كانت توجد مذاهب تحاول التوفيق بينها باتخاذها موقفا وسطا، تؤلف به بين أطرافها. والتاريخ، قديمه وحديثه، شاهد صدق يؤيد هذا الذي نقول.
نجد هذه الظاهرة في علم الكلام تتمثل في مذهب الأشعري، الذي هو وسط بين مذهب السلف القائم على التسليم بالنصوص، ومذهب المعتزلة الذي أعطى للعقل الحرية في فهم نصوص القرآن وتأويلها بما يتفق والعقل.
بل نرى المعتزلة أنفسهم يقررون أن العقل والوحي من الله فلا يتناقضان، وأن الأنبياء لم يكشفوا شيئا لا يقدر العقل على الوصول إليه؛ ولهذا يجب أن يكون ما يجيء به الوحي معقولا، وإلا وجب تأويله عقليا.
وفي التشريع، نجد مذهب مالك يعتمد على الحديث، والمذهب الحنفي يعتمد على الرأي والقياس العقلي، ونرى المذهب الشافعي وسطا أو جامعا بين هذين الطرفين المتعارضين.
فإذا كانت نزعة التوفيق من النزعات الغالبة على مفكري الإسلام بصفة عامة في جميع نواحي التفكير، فأولى ثم أولى للفلاسفة أن يعملوا على التوفيق بين الدين الذي يعتقدون صحته، والفلسفة التي عمادها النظر الصحيح والمنطق السليم.
على أنه كانت هناك عوامل أخرى تجعل لزاما عليهم أن يحاولوا - ما استطاعوا - الوصول للتوفيق بينهما؛ وهذه العوامل ترجع في رأينا إلى ثلاثة: (1)
অজানা পৃষ্ঠা
بعد الشقة بين الدين وفلسفة أرسطو في كثير من المسائل؛ كمسألة الألوهية، وتحديد صفات الله وخصائصه، وخلق العالم، وقدمه وحدوثه، والصلة بينه وبين الله، والنفس وخلودها. (2)
مهاجمة كثير من رجال الدين للبحوث العقلية الحرة التي لا تتقيد في نتائجها بأية عقيدة مقررة سابقا، ويضاف إلى هذا تعصب الشعب والأمراء أحيانا ضد المفكرين الأحرار مدفوعين بدوافع مختلفة لا تتصل بالدين في الحقيقة في أكثر الأحيان. (3)
وأخيرا، الرغبة في أن يكونوا بنجوة من هذا التعصب وآثاره؛ ليستطيعوا العمل في هدوء؛ ولئلا يتحاماهم الناس حين يرون أو يظنون أنهم على غير وفاق مع الشريعة والدين.
من أجل ذلك كله، نجد فلاسفة الإسلام جميعا - كغيرهم من المتكلمين والمفكرين - حاولوا هذا التوفيق، سواء منهم من تقدم به الزمن ومن تأخر؛ مع اختلاف في المناهج التي اصطنعوها، والجهود التي خصصوها لبلوغ الغاية المرجوة منهم جميعا، ومع تفاوت في مبلغ ما قدر لهم من نجاح.
جال في هذا الشوط أبو إسحاق الكندي؛ ولذا يؤكد عنه ظهير الدين البيهقي أنه «قد جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات».
وجال فيه كذلك الحسين بن الفضل الراغب؛ فقد جمع بين الشريعة والحكمة في تصانيفه، وكان يقول: «بين العقل والشرع تظاهر، ويفتقر أحدهما إلى الآخر.»
والفارابي وابن سينا جريا في هذا الشوط أيضا خطوات واسعة، لما رسخ عندهما من أن الحقيقة واحدة، وإن عبر عنها بطرق وأساليب مختلفة؛ فلم يهملا العقل أو الوحي، بل جذبا كلا منهما إلى الآخر.
أما فيلسوف قرطبة، فقد كان مضطرا - لمحو الأثر الذي أحدثه الغزالي بكتابه «تهافت الفلاسفة» أو إضعافه على الأقل - إلى محاولة للتوفيق لها أسسها ودعاماتها؛ محاولة يضع فيها الحدود الواضحة للصلة بين الدين أو الشريعة والحكمة، حتى لا يقوم بينهما بعث عداء أو نزاع.
لقد خصص لهذه الغاية رسالته «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، وعرض أيضا لها في كتابه «الكشف عن مناهج الأدلة»، فضلا عن تناولها في مناسبات مختلفة وعديدة في كتابه «تهافت التهافت»، وقد وضع لهذه الغاية طريقا تؤدي في رأيه إليها، ومبادئ وأصولا تقوم عليها، وهي: (1)
الاستدلال بالقرآن على وجوب النظر العقلي والانتفاع بما في تراث الإغريق من خير. (2)
অজানা পৃষ্ঠা
بيان أن الناس مختلفون في العقول والاستعدادات؛ ولذلك انقسم الشرع إلى ظاهر وباطن لكل أهله. (3)
وضع قواعد عامة لتأويل ما يجب تأويله من نصوص الشرع؛ لبيان متى يكون التأويل، ولمن يكون، ولمن يصرح به. (4)
بيان الطريقة المثلى للاستدلال لعقائد الدين، ولما اختلف فيه من المسائل بين المتكلمين والفلاسفة. (5)
بيان الوحي وتحديد الصلة بينه وبين العقل، وبيان الحاجة إلى الشريعة.
وفيما يلي تفصيل هذا الإجمال كما يسمح به المقام.
1
الشريعة توجب الفلسفة
ساق ابن رشد، في كتابه «فصل المقال»، دليلا لهذا قوله تعالى:
فاعتبروا يا أولي الأبصار ، موهما أن الاعتبار هنا هو استنباط المجهول من المعلوم. وذلك هو القياس. وهذا فيما نرى استدلال مجتلب؛ لأن المراد بالاعتبار في هذا الموضع الاتعاظ لا القياس؛ الاعتبار بما حصل لليهود حين أعلنوا النبي
صلى الله عليه وسلم
অজানা পৃষ্ঠা
والمسلمين بالعداء، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم، لكن الله قذف في قلوبهم الرعب حتى استسلموا للرسول وحكم بإجلائهم إلى الشام.
على أن هذه الآية وإن لم تصلح للاستدلال لما يرى؛ فهناك آيات أخرى تشهد له بما يريد، هناك قوله تعالى:
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ؛ وقوله:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؛ وقوله:
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ؛ فضلا عن قول الرسول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها.»
وإذا كان النظر الفلسفي واجبا، فمن الخير أن نستعين بالرواد الذين كشفوا الطريق، وأناروا لمن أتى بعدهم من الباحثين والمتفلسفين السبيل . وإذن فلنقرأ - كما يقول - كتب من تقدمنا من أولئك الرواد والفلاسفة القدامى، فما وجدنا من حق «قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهناهم عليه، وحذرنا منه، وعذرناهم.» وحق لنا أن نعذرهم؛ فالطريق وعر شائك مظلم، والخطوات الأولى هي التي تكلف ما تكلف من عناء ونصب، فيعذر فيها من تعثر.
ومنع المستعد للتفلسف، بفطرته المواتية وخلقه الكامل، جريمة - في رأيه - في الدين؛ لأنه صد عن الباب الذي نصل منه إلى معرفة الله حق معرفته، وذلك جهل أي جهل، كما يذكر في «فصل المقال».
وليس يمنع من النظر في تراث الإغريق أن ضل بالنظر فيه قوم لم يكونوا أهلا لمعرفته، كما ليس لنا أن نمنع العطشان من ورود الماء العذب البارد؛ لأن غيره شرب منه فمات؛ فإن هذا الضرر أمر عرض، ومثل هذا يكون في الفقه؛ فقد يعرض أن تكون دراسة الفقه سببا لضرر يعرض من قبلها؛ كم من فقيه - كما يذكر - كان تبحره في الفقه ومعرفة المخارج من المحرمات والشبهات «سببا لقلة تورعه وخوضه في الدنيا، بل أكثر الفقهاء هكذا نجدهم، وصناعتهم إنما تقتضي بالذات الفضيلة العملية.»
ومتى كان هذا القياس العقلي والنظر الفلسفي مما يحث عليه الشرع ويوجبه، كان لا بد من أخذ العدة لعلاج ما يظهر من تعارض واختلاف بين النص ونظر العقل. هذه العدة تقوم على أنه من المقطوع به - كما يؤكد فيلسوفنا - أن كل ما أدى إليه البرهان الصحيح لا يمكن أن يخالف ما أتى به الشرع؛ فإن الحق لا يضاد الحق، بل يشهد له.
وإذن؛ فإن وجد هذا التعارض والاختلاف، كان لا بد من تأويل النص تأويلا يتفق وما نعرف من قواعد اللغة، وذلك مثلا بإخراجه عن دلالته الحقيقية إلى دلالته المجازية. بهذا لا يصطدم العقل والشرع، ولا تترك واحدا منهما لأجل الآخر، بل نجعل لكل منهما اعتباره، ونوفق بينهما بما لا تأباه اللغة وأصولها، فتزول عقبة يظنها البعض كأداء - وهي تعارض نص الوحي ونظر العقل - كانت تقف في سبيل هذا الجمع والتوفيق.
অজানা পৃষ্ঠা
انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن
ولم هذه الظاهرة؛ وهي وجود آيات وأحاديث لا بد من صرفها عن ظاهرها وتأويلها لنتعرف المعاني الخفية المرادة منها؟ سبب هذه الظاهرة، أو بعبارة أخرى سبب انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن لكل منهما أهله،
2
هو أن الناس مختلفون في الفطر والعقول.
إنهم لهذا تختلف حالاتهم في فهم النصوص وإدراك ما يراد بها، كما تختلف وسائلهم في التصديق بما يجب التصديق به من أمور هذا العالم الحاضر والعالم الآخر، ومن وجود الله وما يتصل به من سائر ما جاء به الدين من معتقدات.
ومن أجل ذلك، يقسم فيلسوف قرطبة الناس إلى ثلاث طوائف: الخطابيون، وهم الكثرة الغالبة السهلة الاقتناع التي تصدق بالأدلة الخطابية؛ وأهل الجدل - ومنهم المتكلمون - الذين ارتفعوا حقا عن العامة، ولكنهم لم يصلوا لمرتبة أهل البرهان الحقيقي؛ والبرهانيون بطبائعهم المواتية وبالحكمة التي راضوا عقولهم عليها، وأخذوا أنفسهم بها.
ولما كان الله خلق الناس على هذا التفاوت الملحوظ في الفطر والعقول، وكان من الحكمة أن يكون هذا التفاوت لدواع نقر بها جميعا، وكان من الواجب أن يجد كل في الدين المشرب الذي يناسبه، لما كان الأمر كذلك، كان لا بد أن تختلف التعاليم الدينية التي يؤخذ بها كل فريق؛ فللجمهور وأمثاله من الجدليين الإيمان بظواهر النصوص الدينية وما ضرب الله ورسوله لهم من رموز وأمثال، ما داموا لا يقدرون على الوصول إلى التآويل الصحيحة، وللعلماء أهل البرهان الإيمان بما خفي من المعاني التي ضربت لها تلك الرموز والأمثال لتقربها للعقول، وذلك بتأويل هذه النصوص.
ولكي لا يكون ضرر من هذا التقسيم الذي أريد به الخير، يجب أن نحافظ على أن يكون كل ضرب من هذه التعاليم لطائفته الخاصة لا يعدوها إلى غيرها، وألا يختلط أحدهما بالآخر؛ ولذلك يقول الرسول: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ونخاطبهم على قدر عقولهم.» لأن جعل الناس جميعا ضربا واحدا في التعليم خلاف المحسوس والمعقول.
3
وقد كان فيلسوفنا عمليا فيما رأى؛ فهو يتبع ما يقرر من مبادئ؛ ولهذا نراه في كلامه على إثبات العلم لله - على النحو الذي يراه الفلاسفة - يحرم أن يتكلم مع الجمهور على هذا النحو، وإلا كان ذلك - كما يذكر في تهافت التهافت - بمنزلة إعطائهم طعاما هو سم لهم، وإن كان غذاء لآخرين.
অজানা পৃষ্ঠা