(135) وأنت تتبين ذلك متى تأملت أمر العرب في هذه الأشياء. فإن فيهم سكان البراري وفيهم سكان الأمصار. وأ كثر ما تشاغلوا بذلك من سنة تسعين إلى سنة مائتين. وكان الذي تولى ذلك من بين أمصارهم أهل الكوفة والبصرة في أرض العراق. فتعلموا لغتهم والفصيح منها من سكان البراري منهم دون أهل الحضر، ثم من سكان البراري من كان في أوسط بلادهم ومن أشدهم توحشا وجفاء وأبعدهم إذعانا وانقيادا، وهم قيس وتميم وأسد وطي ثم هذيل، فإن هؤلاء هم معظم من نقل عنه لسان العرب. والباقون فلم يؤخذ عنهم شيء لأنهم كانوا في أطراف بلادهم مخالطين لغيرهم من الأمم مطبوعين على سرعة انقياد ألسنتهم لألفاظ سائر الأمم المطيفة بهم من الحبشة والهند والفرس والسريانيين وأهل الشام وأهل مصر.
(136) فتؤخذ ألفاظهم المفردة أولا إلى أن يؤتى عليها، الغريب والمشهور منها، فيحفظ أو يكتب، ثم ألفاظهم المركبةكلها من الأشعار والخطب. ثم من بعد ذلك يحدث للناظر فيها تأمل ما كان منها متشابها في المفردة منها وعند التركيب، وتؤخذ أصناف المتشابهات منها وبماذا تتشابه في صنف صنف منها وما الذي يلحق كل صنف منها. فيحدث لها عند ذلك في النفس كليات وقوانين كلية. فيحتاج فيما حدث في النفس من كليات الألفاظ وقوانين الألفاظ إلى ألفاظ يعبر بها عن تلك الكليات والقوانين حتى يمكن تعليمها وتعلمها. فيعمل عند ذلك أحد شيئين: إما أن يخترع ويركب من حروفهم ألفاظا لم ينطق بها أصلا قبل ذلك، وإما أن ينقل إليها ألفاظامن ألفاظهم التي كانوا يستعملونها قبل ذلك في الدلالة على معان أخر غيرها إما كيف اتفق لا لأجل شيء وإما لأجل شيء ما. وكل ذلك ممكن شائع، لكن الأجود أن تسمى القوانين بأسماء أقرب المعاني شبها بالقوانين، بأن ينظر أي معنى من المعاني الأول يوجد أقرب شبها بقانون من قوانين الألفاظ فيسمى ذلك الكلي وذلك القانون باسم ذلك المعنى، حتى يؤتى من هذا المثال على تسمية جميع تلك الكليات والقوانين بأسماء أشباهها من المعاني الأول التي كانت عندهم أسماء.
(137) فيصيرون عند ذلك لسانهم ولغتهم بصورة صناعة يمكن أن تتعلم وتعلم بقول، وحتى يمكن أن تعطى علل كل ما يقولون. كذلك خطوطهم التي بها يكتبون ألفاظهم، إذا كانت فيها كليات وقوانين أخذت كلها فالتمس حتى تصير ينطق عنها ويمكن أن تعلم وتتعلم بقول. فتصير الألفاظ التي يعبر بها حينئذ عن تلك القوانين الألفاظ التي في الوضع الثاني، والألفاظ الأول هي الألفاظ التي في الوضع الأول، فالألفاظ التي في الوضع الثاني منقولة عن المعاني التي كانت تدل عليها.
(138) فتحصل عندهم خمس صنائع: صناعة الخطابة، وصناعة الشعر، والقوة على حفظ أخبارهم وأشعارهم وروايتها، وصناعة علم لسانهم، وصناعة الكتابة. فالخطابة جودة إقناع الجمهور في الأشياء التي يزاولها الجمهور وبمقدار المعارف التي لهم وبمقدمات هي في بادئ الرأي مؤثرة عند الجمهور وبالألفاظ التي هي في الوضع الأول على الحال التي اعتاد الجمهور استعمالها. والصناعة الشعرية تخيل بالقوة في هذه الأشياء بأعيانها. وصناعة علم اللسان إنما تشتمل على الألفاظ التي هي في الوضع الأول دالة على تلك المعاني بأعيانها.
পৃষ্ঠা ৪২