(131) ولا يزالون يتداولون الحفظإلى أن يكثر عليهمما يلتمسون حفظه ويعسرفيحوجهم ذلك إلى الفكر فيما يسهلونه به على أنفسهم فتستنبط الكتابة. وتكون في أول أمرها مختلطة إلى أن تصلح قليلا قليلا على طول الزمان ويحاكى بها الألفاظ وتشبه بها وتقرب منها أكثر ما يمكن، على ما فعلوا قديما بالألفاظ بأن قربوها في الشبه من المعاني ما أمكنهم من التقريب. فيدونون بها في الكتب ما عسر حفظه عليهم وما لا يؤمن بأن ينسى على طول الزمان وما يلتمسون إبقاءها على من بعدهم وما يلتمسون تعليمها وتفهيمها من هو ناء عنهم في بلد أو مسكن آخر.
(132)ثم من بعد ذلك يرى أنيحدث صناعة علم اللسان قليلا قليلا بأن يتشوق إنسان إلى أن يحفظ ألفاظهم المفردة الدالة بعد أن يحفظ الأشعار والخطب والأقاويل المركبة، فيتحرى أن يفردها بعد التركيب، أو أراد التقاطها بالسماع من جماعتهم ومن المشهورين باستعمال الأفصح من ألفاظهم وفي مخاطباته كلها وممن قد عنى بحفظ خطبهم وأشعارهم وأخبارهم أو ممن سمع منهم، فيسمعها من واحد واحد منهم في زمان طويل، ويكتب ما يسمعه منهم ويحفظه.
(133) وقد يجب لذلك أن يعلم من الذين ينبغي أن يؤخذ عنهم لسان تلك الأمة. فنقول إنه ينبغي أن يؤخذ عن الذين تمكنت عادتهم لهم على طول الزمان في ألسنتهم وأنفسهم تمكنا يحصنون به عن تخيل حروف سوى حروفهم والنطق بها، وعن تحصيل ألفاظ سوى المركبة عن حروفهم وعن الناطق بها ممن لم يسمع غير لسانهم ولغتهم أو ممن سمعها وجفا ذهنه عن تخيلها ولسانه عن النطق بها. وأما من كان لسانه مطاوعا على النطق بأي حرف شاء مما هو خارج عن حروفهم وبأي لفظ شاء من الألفاظ المركبة عن حروف غير حروفهم وبأي قول شاء من الأقاويل المركبة من ألفاظ سوى ألفاظهم فإنه لا يؤمن أن يجري على لسانه ما هو خارج عن عاداتهم الممكنة الأولى فيعود ما قد جرى على لسانه فتصير عبارته خارجة عن عبارة الأمة ويكون خطأ ولحنا وغير فصيح. فإن كان مع ذلك قد خالط غيرهم من الأمم وسمع ألسنتهم أو نطق بها كانالخطأ منه أقرب وأحرى، ولم يؤمن بما يوجد جاريا في عادته أنه لغير تلك الأمة التي هو منهم. وكذلك الذين كانوا يحصنون عن النطق وعن تحصيل حروف سائر الأمم وألفاظهم - إذ كانوا يحصنون عما لم يكن عودوه أولا من مخالفة أشكال ألفاظهم وإعرابها - إذا كثرت مخالطتهم لسائر الأمم وسماعهم بحروفهم وألفاظهم، لم يؤمن عليه أن تتغير عادته الأولى ويتمكن فيه ما يسمعه منهم فيصير بحيث لا يوثق بما يسمع منه.
(134)ولما كان سكان البرية في بيوت الشعر أو الصوف والخيام والأحسية من كل أمة أجفى وأبعد من أن يتركوا ما قد تمكن بالعادة فيهم وأحرى أن يحصنوا أنفسهم عن تخيل حروف سائر الأمم وألفاظهم وألسنتهم عن النطق بها وأحرى أن لا يخالطهم غيرهم من الأمم للتوحش والجفاء الذي فيهم، وكان سكان المدن والقرى وبيوت المدر منهم أطبع وكانت نفوسهم أشد انقيادا لتفهم ما لم يتعودوه ولتصوره وتخيله وألسنتهم للنطق بما لم يتعودوه، كان الأفضل أن تؤخذ لغات الأمة عن سكان البراري منهم متى كانت الأمم فيهم هاتان الطائفتان. ويتحرى منهم من كان في أواسط بلادهم. فإن من كان في الأطراف منهم أن يخالطوا مجاوريهم من الأمم فتختلط لغاتهم بلغات أولئك، وأن يتخيلوا عجمة من يجاورهم. فإنهم إذا عاملوهم احتاج أولئك أن يتكلموا بلغة غريبة عن ألسنتهم، فلا تطاوعهم على كثير من حروف هؤلاء، فيلتجئوا إلى أن يعبروا بما يتأتى لهم ويتركوا ما يعسر عليهم. فتكون ألفاظهم عسيرةقبيحة وتوجد فيها لكنة وعجمة مأخوذة من لغات أولئك. فإذا كثر سماع هؤلاء ممن جاورهم من هذه الأمم للخطأ وتعودوا أن يفهموه على أنه من الصواب لم يؤمن تغير عادتهم، فلذلك ليس ينبغي أن تؤخذ عنهم اللغة. ومن لم يكن فيهم سكان البراري أخذت عن أوسطهم مسكنا.
পৃষ্ঠা ৪১