(128) فينشأ من نشأ فيهم على اعتيادهم النطق بحروفهم وألفاظهم الكائنة عنها وأقاويلهم المؤلفة عن ألفاظهم من حيث لا يتعدون اعتيادهم ومن غير أن ينطق عن شيء إلا مما تعودوا استعمالها. ويمكن ذلك اعتيادهم لها في أنفسهم وعلى ألسنتهم حتى لا يعرفوا غيرها، حتى تحفوا ألسنتهم عن كل لفظ سواها وعن كل تشكيل لتلك الألفاظ غير التشكيل الذي تمكن فيهم وعن كل ترتيب للأقاويل سوى ما اعتادوه. وهذه التي تمكنت على ألسنتهم وفي أنفسهم بالعادة على ماأخذوه ممن سلف منهم، وأولئك أيضا عن من سلف، وأولئك أيضا عن من وضعها لهم أولا. بإكمال التي وضعها لهم أولئك. فهذاهو الفصيح والصواب من ألفاظهم، وتلك الألفاظ هي لغة تلك الأمة، وما خالف ذلك فهو الأعجم والخطأ من ألفاظهم.
الفصل الثاني والعشرون:
حدوث الصنائع العامية
(129) وبين أن المعاني المعقولة عند هؤلاء هي كلها خطبية، إذ كانت كلها ببادئ الرأي. والمقدمات عندهم وألفاظهم وأقاويلهم كلها أولاخطبية. فالخطبية هي السابقة أولا. وعلى طول الزمان تحدث حوادث تحوجهم فيها إلى خطب وأجزاء خطب.ولا تزال تنشأ قليلا قليلا إلى أن تحدث فيهم أولا من الصنائع القياسية صناعة الخطابة. ويبتدئ مع نشئها أو بعد نشئها استعمال مثالات المعاني وخيالاتها مفهمة لها أو بدلا منها،فتحدث المعاني الشعرية. ولا يزالينمو ذلك قليلا قليلا إلى أن يحدث الشعر قليلا قليلا،فتحصل فيهم من الصنائع القياسية صناعة الشعر لما في فطرة الإنسان من تحري الترتيب والنظام في كل شيء. فإن أوزان الألفاظ هي لها رتبة وحسن تأليف ونظام بالإضافة إلى زمان النطق. فتحصل أيضا على طول الزمان صناعة الشعر. فتحصل فيهم من الصنائع القياسية هاتان الصناعتان - وهما العامتان - منالصنائع القياسية.
(130) فينشغلون أيضافي الخطب والأشعار حتى يقتصوابهما الأخبار عن الأمور السابقة والحاضرة التي يحتاجون إليها. فيحدث فيهم رواة الخطب ورواة الأشعار وحفاظ الأخبار التي اقتصت بها. فيكونون هؤلاءهم فصحاء تلك الأمة وبلغاؤهم، ويكونون همحكماء تلك الأمةأولا ومدبروهم والمرجوع إليهم في لسان تلك الأمة.وهؤلاء أيضاهم الذين يركبون لتلك الأمة ألفاظا كانت غير مركبة قبل ذلك، ويجعلونها مرادفة للألفاظ المشهورة، ويمنعون في ذلك ويكثرون منها، فتحصل ألفاظ غريبة يتعارفها هؤلاء ويتعلمها بعضهم عن بعض ويأخذها غابرهم عن سالفهم. وأيضا فإنهم مع ذلك يعمدون إلى الأشياء التي لم تكن اتفقتلها تسمية من الأمور الداخلة تحت جنس أو نوع. فربما شعروا بأعراض فيصيرون لها أسماء. وكذلك الأشياء التي لم يكن يحتاج إليها ضرورة فلم يكن اتفق لها أسماء لأجل ذلك، فإنهم يركبون لها أسماء ، والباقون من تلك الأمة سواهم لا يعرفون تلك الأسماء، فيكون جميع ذلك من الغريب.فهؤلاء هم الذين يتأملون ألفاظ هذه الأمة ويصلحون المختل منها. وينظرون إلى ما كانالنطق به عسيرا في أول ما وضع فيسهلونه؛ وإلى ما كان بشع المسموع فيجعلونه لذيذ المسموع؛ وإلى ما عرض فيه عسر النطق عن التركيبات الذي لم يكن الأولون يشعرون به ولا عرض في زمانهم فيعرفونه أو يشعرون فيه بشاعة المسموع، فيحتالون في الأمرين جميعا حتى يسهلوا ذلك ويجعلوا هذا لذيذا في السمع. وينظرون إلى أصناف التركيبات الممكنة في ألفاظهم والترتيبات فيها ويتأملون أيها أكمل دلالة على تركيب المعاني في النفس وترتيبها، فيتحرون تلك وينبهون عليها، ويتركون الباقية فلا يستعملونها إلا عند ضرورة تدعو إلى ذلك. فتصير عندها ألفاظ تلك الأمة أفصح مما كانت، فتتكمل عند ذلك لغتهمولسانهم.ثم يأخذ الناشئ هذه الأشياء عن السالف على الأحوال التي سمعها من السالف، وينشؤ عليها ويتعودها مع من نشأه، إلى أن تتمكن فيه تمكنا يحفو به أن يكون ناطقا لغير الأفصح من ألفاظهم. ويحفظ الغابر منهم ما قد عمل به الماضي منالخطب والأشعار وما فيها من الأخبار والآداب.
পৃষ্ঠা ৪০