(123) فيبين منذ أول الأمر أن ههنا محسوسات مدركة بالحس، وأن فيها أشياء متشابهة وأشياء متباينة، وأن المحسوسات المتشابهة إنما تتشابه في معنى واحد معقول تشترك فيه، وذلك يكون مشتركا لجميع ما تشابه، ويعقل في كل واحد منها ما يعقل في الآخر، ويسمى هذا المعقول المحمول على كثير " الكلي " و" المعنى العام " . وأما المحسوس نفسه، فكل معنى كان واحدا ولم يكن صفة مشتركة لأشياء كثيرة ولم يكن يشابهه شيء أصلا، فيسمى الأشخاص والأعيان؛ والكليات كلها فتسمى الأجناس والأنواع. فالألفاظ إذن بعضها ألفاظ دالة على أجناس وأنواع وبالجملة الكليات، ومنها دالة على الأعيان والأشخاص. والمعاني تتفاضل في العموم والخصوص. فإذا طلبوا تشبيه الألفاظ بالمعاني جعلوا العبارة عن معنى واحد يعم أشياء ما كثيرة بلفظ واحد بعينه يعم تلك الأشياء الكثيرة، وتكون للمعاني المتفاضلة في العموم والخصوص ألفاظ متفاضلة في العموم والخصوص، وللمعاني المتباينة ألفاظ متباينة. وكما أن في المعاني معاني تبقى واحدة بعينها تتبدل عليها أعراض تتعاقب عليها، كذلك تجعل في الألفاظ حروف راتبة وحروف كأنها أعراض متبدلة على لفظ واحد بعينه، كل حرف يتبدل لعرض يتبدل. فإذا كان المعنى الواحد يثبت وتتبدل عليه أعراض متعاقبة، جعلت العبارة بلفظ واحد يثبت ويتبدل عليها حرف حرف، وكل حرف منها دال على تغيير تغيير. وإذا كانت المعاني متشابهة بعرض أو حال ما تشترك فيها، جعلت العبارة عنها بألفاظ متشابهة الأشكال ومتشابهة بالأواخر والأوائل، وجعلت أواخرها كلها أوأوائلها حرفاواحدافجعل دالا على ذلك العرض. وهكذا يطلب النظام في الألفاظ تحريا لأن تكون العبارة عن معان بألفاظ شبيهة بتلك المعاني.
(124) ويبلغ من الاجتهاد في طلب النظام وشبه الألفاظ بالمعاني إلى أن تجعل اللفظةالواحدة دالة على معان متباينة الذوات متى تشابهت بشيء ما غير ذلك وعلى أدائها وإن كان بعيدا جدا، فتحدث الألفاظ المشككة.
(125) ثم يبين لنا شبه الألفاظ بالمعاني، ونحاكي بالألفاظ المعاني التي ليست تكون بها العبارة، فيطلب أن يجعل في الألفاظ ألفاظ تعم أشياء كثيرة من حيث هي ألفاظ، كما أن في المعاني معاني تعم الأشياء كثيرة المعاني. فتحدث الألفاظ المشتركة، فتكون هذه الألفاظ المشتركة من غير أن يدل كل واحد منها على معنى مشترك. وكذلك يجعل في الألفاظ ألفاظ متباينة من حيث هي ألفاظ فقط، كما أن المعاني معاني متباينة. فتحصل ألفاظ مترادفة.
(126) ويجرى ذلك بعينه في تركيب الألفاظ، فيحصل تركيب الألفاظ شبيها بتركيب المعاني المركبة التي تدل عليها تلك الألفاظ المركبة، ويجعل في الألفاظ لمركبة أشياء ترتبط بهاالألفاظ بعضها إلى بعض متى كانت الألفاظ دالة على معان مركبة ترتبط بعضها ببعض. ويتحرى أن يجعل ترتيب الألفاظ مساويا لترتيب المعاني في النفس.
(127) فإذا استقرت الألفاظ على المعاني التي جعلت علامات لها فصار واحد واحد لواحد واحد وكثير لواحد أو واحد لكثير، وصارت راتبة على التي جعلت دالة على ذواتها، صار الناس بعد ذلك إلى النسخ والتجوز في العبارة بالألفاظ، فعبر بالمعنى بغير اسمه الذي جعل له أولا وجعل الاسم الذي كان لمعنى ما راتبا له دالا على ذاته عبارة عن شيء آخر كان له به تعلق ولو كان يسيرا إما لشبه بعيد وإما لغير ذلك، من غير أن يجعل ذلك راتبا للثاني دالا على ذاته. فيحدث حينئذ الاستعارات والمجازات والتحرد بلفظ معنى ما عن التصريح بلفظ المعنى الذي يتلوه متى كان الثاني يفهم منالأول، وبألفاظ معان كثيرة يصرح بألفاظها عن التصريح بألفاظ معان أخر إذا كان سبيلها أن تقرن بالمعاني الأول متى كانت تفهم الأخيرة مع فهم الأولى، والتوسع في العبارة بتكثير الألفاظ وتبديل بعضها ببعض وترتيبها وتحسينها. فيبتدئ حين ذلك في أن تحدث الخطبية أولا ثم الشعرية قليلا قليلا.
পৃষ্ঠা ৩৯