وما ذكر في هذا الوجه هو أمر وسط، وهو أن يعاقبه على هذا العدم بفعل السيئات لا بالعقوبة عليها، ولا يعاقبه عليها حتى يرسل إليه رسوله، فإذا عصى الرسول استحق حينئذ العقوبة التامة، وهو أولا إنما عوقب بما يمكن أن ينجو من شره، بأن يتوب منه، أو بألا تقوم عليه الحجة، وهو كالصبي الذي لا يشتغل بما ينفعه، بل بما هو سبب لضرره، ولكن لا يكتب عليه قلم الإثم حتى يبلغ، فإذا بلغ عوقب.
ثم ما تعوده من فعل السيئات، قد يكون سببًا لمعصيته بعد البلوغ، وهو لم يعاقب إلا على ذنبه، ولكن العقوبة المعروفة إنما يستحقها بعد قيام الحجة عليه. وأما اشتغاله بالسيئات فهو عقوبة عدم عمله للحسنات.
وعلى هذا، فالشر ليس إلى الله بوجه من الوجوه؛ فإنه وإن كان الله خالق أفعال العباد فخلقه للطاعات نعمة ورحمة، وخلقه للسيئات له فيه حكمة ورحمة، وهو مع هذا عدل منه، فما ظلم الناس شيئًا، ولكن الناس ظلموا أنفسهم.
وظلمهم لأنفسهم نوعان: عدم عملهم بالحسنات، فهذا ليس مضافًا إليه، وعملهم للسيئات خلقه عقوبة لهم على ترك فعل الحسنات التي خلقهم لها، وأمرهم بها، فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل.
ومن تدبر القرآن تبين له أن عامة ما يذكره الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل، كقوله تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٢٥]، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا
1 / 94