قالت فؤادة: لن تذهبي إلى طبيب. سأتولى أنا البحث. قالت الأم في دهشة: أي بحث؟ ردت فؤادة: سآخذ عينة من بولك وأحللها في معملي، وابتسمت الأم ابتسامة صغيرة وقالت بصوت عال: آه فهمت! تريدين إجراء تجاربك علي.
ونظرت إليها فؤادة لحظة ثم قالت: أي تجارب! إني أعرض عليك خدمة بغير مقابل. وقالت الأم: أشكرك جدا، أنا في تمام الصحة ولا أريد أن أوهم نفسي بمرض، وقالت فؤادة في ضيق: لن يكون هناك أي وهم يا ماما ولن يكون عندك مرض. وقالت الأم: إذن ما فائدة التحليل؟ وقالت فؤادة: لنتأكد من عدم وجود المرض هذا شيء، والشيء الآخر أن التحليل ... وسكتت لحظة ثم قالت بصوت منخفض: التحليل في حد ذاته فن يلذ لي أن أمارسه.
وقالت الأم وهي تقلب شفتها السفلى في امتعاض: وما هو الفن أو اللذة في تحليل البول! وردت فؤادة وكأنها تكلم نفسها: إنه عمل يعتمد على الحواس، كالفن سواء بسواء، وقالت الأم: أي حواس؟ وقالت فؤادة: الشم، اللمس، النظر، التذوق ... وصاحت الأم قائلة: تذوق! ونظرت إلى ابنتها لحظة ثم قالت: يخيل إلي أنك لا تعرفين شيئا عن هذه التحليلات.
ونظرت فؤادة إلى أمها، ورأت في عينيها نظرة غريبة تشبه النظرة التي رأتها في عينيها في صورة الزفاف، نظرة قاسية، متشككة، فاقدة الثقة فيمن أمامها فقدانا مريرا، وأحست بسخونة ترتفع في رأسها ووجدت نفسها تقول بغير وعي: أنا أعرف لماذا ترفضين التحليل، أنت ترفضين لأنك لا تثقين في تحليلي، وارتفع صوتها بغير إرادة وصاحت: أنت لا تثقين في أنني يمكن أن أعمل شيئا، هذه هي نظرتك لي دائما، وهذه كانت نظرتك دائما لأبي.
وفتحت أمها فمها في دهشة ثم قالت: ماذا تقولين؟ وردت بصوت أكثر ارتفاعا: نعم؛ أنت لا تثقين في، هذه هي الحقيقة التي كنت تخفينها دائما عني.
ونظرت إليها أمها في دهشة شديدة، وقالت بصوت واهن: ولماذا لا أثق فيك؟
وصاحت فؤادة: لأنني ابنتك؛ فالناس دائما لا ترى الأشياء الثمينة التي تمتلكها لمجرد أنها تمتلكها.
وأطرقت فؤادة رأسها إلى الأرض وأمسكته بيديها كأنها تشعر بصداع شديد، وراحت الأم تتأملها في صمت وإشفاق ثم قالت بصوت حنون: من قال لك إنني لا أثق فيك يا ابنتي؟! أنت لا تعرفين كيف أحسست بك حين رأيتك لأول مرة بعد ولادتك، كنت نائمة إلى جواري كالملاك الصغير تتنفسين بهدوء وتنظرين حولك في دهشة بعينيك الصغيرتين اللامعتين، وحملتك بين ذراعي ورفعتك إلى فوق ليراك أبوك وقلت له: انظر إليها يا خليل، وألقى عليك أبوك نظرة خاطفة وهو يقول في أسى: إنها بنت. وقلت له وأنا أقربك من وجهه: ستكون امرأة عظيمة يا خليل، انظر إليها، انظر في عينيها، قبلها يا خليل! قبلها! وقربتك منه حتى كاد وجهك يلامس وجهه، لكنه لم يقبلك، وأشاح بوجهه بعيدا عنا وتركنا وخرج. ومسحت الأم بكمها دمعة صغيرة بللت جفنيها، وقالت: كرهته في تلك الليلة أكثر من أي ليلة أخرى، وبقيت طول الليل صاحية أنظر إلى وجهك الصغير وأنت نائمة، وكلما كنت أقرب أصبعي من يدك تلتف أصابعك الصغيرة الرقيقة حول أصبعي وتمسكه بقوة ولا تتركه، وظللت أبكي حتى طلع النهار، ولا أدري يا ابنتي ما المرض الذي أصابني فقد ارتفعت حرارتي فجأة وفقدت الوعي أياما، وحينما أفقت واسترددت صحتي عرفت أنني نقلت إلى مستشفى حيث انتزعوا من جسمي الرحم فأصبحت عقيما.
وأخرجت منديلها من جيب جلبابها لتمسح الدموع التي تسربت إلى أنفها، وقالت: كنت أنت الشيء الوحيد لي في الحياة، وكنت أدخل عليك حجرتك وأنت ساهرة تستذكرين وأقول لك ... وغلبتها الدموع فوضعت المنديل فوق عينيها لحظة ثم رفعته عن عينين محتقنتين بالدم، وقالت: هل نسيت يا فؤادة؟
كانت فؤادة تقاوم ألما حادا في نصف رأسها، وكانت صامتة شاردة كأنها نصف نائمة وقالت بصوت ضعيف: لم أنس يا ماما.
অজানা পৃষ্ঠা