ثمن الكتابة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
ثمن الكتابة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الغائب
الغائب
অজানা পৃষ্ঠা
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وإنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
অজানা পৃষ্ঠা
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، أمال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
অজানা পৃষ্ঠা
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
الفصل الأول
فتحت عينيها في ذلك الصباح وهي تشعر بانقباض غريب، يزحف في عروقها كنمل له دبيب، ثم يتجاذب ويتجمع في قلبها. ويلتصق بعضه ببعض متكورا كجلطة دم، تحتك بجدار قلبها حين يصعد صدرها أو يهبط كلما لاح لها أن تعطس أو تسعل أو تتنفس بعمق.
فركت عينيها وهي لا تفهم سبب هذا الانقباض؛ فالشمس ساطعة ككل يوم ينفذ ضوءها اللامع من خلال زجاج النافذة، ويسقط على مرآة الدولاب، فتعكس نورا كالوهج الأحمر فوق الجدار الأبيض وأوراق شجرة الكافور تلمع في الضوء ككل يوم وترتعش كقراميط صغيرة من السمك، والدولاب والشماعة والرف وكل شيء في مكانه في الحجرة.
ورفعت الغطاء عن جسمها ونهضت فوق قدميها الحافيتين، وسارت إلى المرآة بغير إرادة، لماذا تنظر في وجهها بمجرد أن تصحو من النوم؟ إنها لا تعرف تماما ما السبب، ولكنها تحس بأنها تريد أن تطمئن إلى أن شيئا غريبا لم يحدث لها أثناء النوم، إن رقعة بيضاء مثلا لم تزحف من بياض عينيها لتلتصق بالنني الأسود، أو أن ورما لم ينم فوق طرف أنفها المدبب.
ونظرت في المرآة، ورأت وجهها الذي تراه كل يوم، البشرة السمراء بلون اللبن الممزوج بالكاكاو، والجبهة العريضة تتهدل فوقها خصلة شعر غزيرة سوداء، وعينان خضراوان في داخل كل منهما نواة صغيرة سوداء، وأنف طويل حاد، وفم.
وسحبت عينيها بسرعة من فوق فمها، فهي تكرهه، أنه هو الذي يفسد شكل وجهها، تلك الفرجة اللاإرادية القبيحة، كأنما كان يجب أن تنمو شفتاها أكثر مما نمت، أو أن تنمو عظام فكيها أقل مما نمت، وسواء أكان هذا أم ذاك، فإن شفتيها لا تنطبقان بسهولة، وتظل هناك فرجة دائمة، تطل من تحتها أسنان بيضاء بارزة.
وشدت شفتيها وأغلقت فمها، وراحت تنظر في عينيها، إنها تنظر في عينيها دائما حين تتفادى النظر إلى فمها؛ فعيناها فيهما شيء، شيء ما يميزهما عن النساء كما يقول لها فريد.
অজানা পৃষ্ঠা
ورنت كلمة فريد في رأسها، وانقشعت عن عينيها غشاوة النوم واستيقظت تماما، وتذكرت بوضوح شديد، ويقين لا يقبل الشك، ما حدث ليلة الأمس، وعرفت سبب ذلك الانقباض الذي جثم فوق صدرها، فإن فريد لم يأت في الموعد الذي اتفقا عليه ليلة أمس.
واستدارت لتترك المرآة، ولتخرج من باب حجرتها إلى الحمام، لكنها لمحت التليفون فوق الرف بجوار السرير، ووقفت لحظة، ثم سارت إلى طرف السرير وجلست تصوب إلى التليفون نظرة طويلة، ومدت أصبعها لتضعه في الثقب ولتدير القرص الخمس الدورات، لكنها سحبت يدها ووضعتها بجانبها فوق السرير؛ كيف تطلبه بعد أن أخلف الموعد بغير اعتذار؟ أليس من الممكن أنه أخلف الموعد عن عمد، وأنه لا يريد أن يراها، وأن حبه انتهى؟ انتهى كما ينتهي أي شيء، بسبب، أو بغير سبب، وما فائدة أن تعرف السبب ما دام قد انتهى، وهل يمكن أن تعرف السبب؟ إنها لم تعرف لماذا بدأ، كان يقول إنه يرى في عينيها شيئا ما وشيئا لا يراه في عيون الأخريات، شيئا يميزها عن النساء.
ونهضت من جوار التليفون وسارت إلى المرآة، ونظرت في عينيها، كانت تمعن النظر وتبحث عن ذلك الشيء ألما، ورأت الدائرتين البيضاوين الواسعتين تعوم داخلهما الدائرتان الخضراوان تتوسط كلا منهما تلك الحبة السوداء الصغيرة، عينان كأي عينين، كعيني الخروف، أو البقرة، أو الأرنب المذبوح.
أين هو ذلك الشيء الذي رآه فريد، والذي رأته هي بعينها، رأته أكثر من مرة يطل من داخل هاتين الدائرتين الخضراوين، كان يطل منهما، بارزا متحركا ككائن حي، أكان يتحرك؟ كيف كان يتحرك؟ إنها لا تذكر كيف كان يتحرك، ولا تذكر أنه كان يطل من الدائرتين الخضراوين، ربما كان يطل من مكان آخر، من أنفها ... من فمها ...! آه ... لا ... ليس فمها، ليس من تلك الفرجة القبيحة.
لم يكن هناك شيء ما، إنها لم تره، لم تره يطل من شيء، فريد كان يكذب، ولماذا كان يكذب؟ كان يكذب كما يكذب أي أحد، ما الغريب في أن يكذب أي أحد؟ ولكن فريد لم يكن أي أحد، كان مختلفا، كان مختلفا عن الآخرين، وكيف كان مختلفا؟ إنها لا تعرف تماما، ولكن كان هناك شيء ما في عينيه يجعلها تحس أنه مختلف، نعم كان هناك شيء ما في عينيه لا تراه في عيون الرجال، شيء ما يلمع ويطل من عينيه البنيتين، بارزا متحركا ككائن حي، وماذا كان هذا الشيء؟ إنها لا تتذكر، إنها لا تعرف تماما ماذا كان، ولكنها رأته، نعم رأته بعيني رأسها هاتين.
وصوبت أصبعها إلى عينيها فاصطدم بزجاج المرآة، وتنبهت، ونظرت إلى الساعة، كانت الثامنة، وتركت المرآة بسرعة، فقد حان موعد ذهابها إلى الوزارة.
توقفت مرة أخرى أمام الدولاب، فقد دخلت كلمة الوزارة مع الهواء إلى أنفها كحصوة مدببة، وحاولت أن تعطس لتطردها، لكن الهواء دفعها إلى صدرها، واستقرت في قاع صدرها، في ذلك الخندق المثلث تحت ضلوعها، أو بعبارة أدق عند تلك الفوهة التي تفتح على معدتها.
كانت تعرف أنها ستستقر في هذا المكان، إنها ترتع في تلك المساحة الخصبة، تأكل وتشرب وتنتفخ، نعم كانت تنتفخ كل يوم، وتضغط بجسمها الصلب على معدتها، التي كثيرا ما حاولت أن تلفظها، فتنقبض عضلاتها وتنبسط، وقد تفرغ كل ما في جوفها، لكن الكتلة الصلبة المدببة تبقى تحك بجدار معدتها كدبوس، ملتصقة به، قابضة عليه بأسنانها كدودة شريطية.
وسارت إلى الحمام وهي تحس بالألم المزمن تحت ضلوعها، تصاحبه رغبة في القيء لا تتحقق، وأسندت رأسها إلى حائط الحمام، إنها مريضة، مرضها حقيقي، وليس ادعاء، ولا يمكن لها أن تذهب إلى الوزارة.
ودب بعض النشاط في جسمها الناحل، وسارت بخطوات سريعة إلى السرير، ثم قفزت فوقه، ودخلت تحت اللحاف، وكان يمكن أن تغمض عينيها وتنام، لكنها تذكرت أنها يجب أن تطلب مدير القسم في التليفون وتعتذر له عن غيابها بسبب المرض.
অজানা পৃষ্ঠা
وسحبت التليفون من فوق الرف، ووضعته فوق ركبتيها، ورفعت السماعة، ولكنها أعادتها بسرعة إلى مكانها، فقد تذكرت أنها استنفدت إجازاتها المرضية جميعا، ولا يمكن لأي مرض أن يشفع لها؛ بل لا يمكن للموت أيضا أن يمنحها إجازة، فقد ادعت الموت لكل أفراد أسرتها واحدا وراء الآخر، ولم يبق على قيد الحياة إلا هي، وهي لا تزال في الثلاثين، ولا يمكن لمدير القسم أن يصدق خبر موتها بسهولة.
ونهضت مرة أخرى تجر جسمها الثقيل، وتضغط بأصابعها فوق معدتها، ومرت بالمرآة متفادية النظر إليها، وارتدت ملابسها، واتجهت إلى الباب، وبينما هي تفتح الباب سمعت صوت أمها الواهن ينبعث من المطبخ قائلة: ألن تشربي الشاي؟ - ليس عندي وقت.
وأغلقت الباب خلفها وخرجت إلى الشارع.
كان الشارع مزدحما، لكنها لم تكن ترى شيئا، كانت عيناها لا تنظران إلى الخارج، وكان من الممكن أن تصطدم بشخص أو جدار، لكن قدميها كانتا تسيران وحدهما، بدراية عظيمة، تصعدان فوق الرصيف وتهبطان من فوق الرصيف تتفاديان حفرة، وتلفان حول كوم من الطوب، فكأن في قدميها عينين أخريين. وتوقفت قدماها عند محطة الأتوبيس، كان الزحام شديدا، وكانت الأجساد ترتطم بها، وداس شخص على قدمها وكاد يفرمها لكنها لم تحس إلا ضغطا ما فوق حذائها، ولم تعرف أنها داخل الأتوبيس إلا بتلك الاهتزازة التي تصيب جسدها، وتلك الرائحة الغريبة، التي لا تعرف تماما ما هي؛ فهي رائحة لا يألفها الأنف، ولا يعرف كيف يردها إلى مصدرها، فليس لها مصدر واحد، ليس هو الزوايا المنفرجة تحت الإبط، وليس هو الكهوف المظلمة اللاهثة وليس هو القشرة المشققة الخشنة يلتصق بها الشعر اللزج.
وتنبهت إلى شيء ما مدبب يضغط على كتفها، وكانت قد أحست به ولم تعره اهتماما، إن ضغوطا كثيرة، تضغط من كل ناحية على أعضائها جميعا، فلماذا تخص كتفها بهذا الاهتمام؟ ولكنها سمعت صوتا خشنا حادا يدخل أذنها كمسمار: التذكرة! وانتشر فوق وجهها رذاذ صغير كبشائر المطر، وفتحت حقيبتها بأصابع مرتجفة، فالرجل ينظر إليها نظرة غريبة، كنظرة شرطي إلى لص محترف، وهو يزمجر بكلمات لم تسمعها كلها، لكنها التقطت منها كلمتي ذمة وضمير.
وأحست أن وجهها يسخن، ليس لأنها سمعت هاتين الكلمتين، فهما وحدهما هكذا بغير حواشي وحروف أخرى لا يعنيان لها شيئا، لكنها رأت العيون كلها من حولها تتجه نحوها، وفي كل عين منها نظرة غريبة، كأنهم يحسون من أعماقهم أنهم متهمون مثلها ويحاولون نفي التهمة عن أنفسهم، ولكنهم يعلمون أنهم نجوا من العقاب ولم يبق لهم إلا تلك الشماتة الخفية فيمن يقع منهم.
ولكنها كانت متهمة على أي حال، وما دامت قد أصبحت متهمة، فقد ضاعت حقوقها في الاحترام، واستباحت عيون الرجال أعضاء جسمها كما يستبيحون أعضاء المومسات، وأحست بشيء يدفعها، وتقلصت عضلاتها داخل المعطف الواسع، ودفست رأسها في الياقة العريضة، ولم تثبت قدميها في الأرض لتترك جسمها في مهب التيار المتجه نحو الباب، وانقضت لحظة لم تعرف مداها من الانضغاط العنيف كورقة شجرة أو فراشة توضع بين الكتب من أجل التحنيط، ثم أحست بالضغط يزول فجأة، وإذا بجسمها يطير في الهواء كريشة حمامة ثم يرتطم بالأرض كقالب الطوب.
نهضت تنفض التراب عن معطفها، وشعرت بسعادة خفية حين تلفتت حولها فرأت مكانا لم تره من قبل، فقد خيل إليها أنها انتقلت إلى العالم الآخر في تلك اللحظة التي طار فيها جسمها في الهواء، لكن سعادتها لم تدم طويلا، فقد وجدت نفسها بعد خطوات قليلة أمام السور الحديدي الصدئ، وضغطت الدودة المزمنة بأسنانها على جدار معدتها، وباعدت ما بين فكيها لتفرغ ما في جوفها، لكن هواء جافا لاسعا اندفع من بين شفتيها، ودمعة صغيرة تجمدت عند زاوية عينها اليمنى وأخذت تحك فيها كذرة رمل.
رفعت رأسها إلى فوق، ورأت من خلال القضبان الحديدية ذلك المبنى الأسود، تتخلله بقع صغيرة صفراء تفضح لونه الأصلي، وعرفت بما يشبه اليقين أن هناك علاقة ما بين هذا المبنى وبين رغبة القيء المزمنة التي تشكو منها، فهي تبدأ حين تذكره، وتشتد شيئا فشيئا باقترابها منه، ثم تبلغ درجتها القصوى حين تبلغه، وتراه عينا لعين.
وقفت أمام الباب الحديدي لحظة تتلفت حولها، لم تكن تتعجل الدخول، فلتؤخر دخولها لحظة، من يدري؟ لعل في هذه اللحظة بالذات تسقط قنبلة من الجو فوقه، أو يرمي أحدهم عقب سيجارة مشتعلة في مخزن الملفات، أو تتوقف المضخة البالية في صدر مدير القسم فيصاب بسكتة قلبية.
অজানা পৃষ্ঠা
وانقضت اللحظة دون أن يحدث شيء، فوضعت قدمها على عتبة الباب لتدخل وأبقت قدمها الأخرى على أرض الشارع، من يدري ماذا يمكن أن يحدث بين لحظة وأخرى؟ أشياء كثيرة تحدث في الحياة بين لحظة وأخرى، آلاف يموتون وآلاف يولدون، براكين تنفجر وتبتلع البيوت، زلازل أرضية تحدث وتدك المدن، أشياء كثيرة تحدث في الحياة بين لحظة وأخرى، أكثر مما يتخيله الناس، فالناس لا تتخيل إلا ما تعرفه، وتفهم معناه، وهل تعرف الناس ما معنى أن ينطلق صاروخ بين لحظة وأخرى؟ ليس صاروخا عاديا ولكنه صاروخ له رأس نووية، هل يمكن أن يتخيل الناس ماذا يمكن أن تكون الرأس النووية؟ وماذا يمكن أن يدك لو سقط من الجو؟ هل يعرف الناس أن السماء تزدحم بملايين من الكواكب تفوق الأرض حجما؟ ألا يجوز أن يسقط كوكب من هذه الكواكب المعلقة في الهواء فوق الأرض فيدكها دكا؟ أيمكن أن ينجو هذا المبنى القذر الأسود وحده من دون القارات الخمس؟ أيمكن أن يظل مدير القسم معلقا فوق كرسي مكتبه في الفضاء الخاوي يبل أصبعه في فمه، ويقلب بإمعان في دفتر الحضور والانصراف؟ هذا لا يمكن أن يحدث، وإذا حدث فلن يقبله أي عقل، وابتسمت وهي تقول لنفسها نعم لن يقبله أي عقل ... لكن الابتسامة تجمدت فوق شفتيها؛ فقد وجدت نفسها، بلحمها ودمها وبكامل وعيها وإرادتها في فناء الوزارة.
وقفت بقامتها الطويلة النحيلة تتلفت حولها في ذعر، كأنما وطئت قدماها بطريق الصدفة أرضا ملغمة، وبينما هي تقف على هذه الحال خيل إليها أن حركة ما غريبة ومفاجئة حدثت في الفناء، ورأت العربة الطويلة السوداء ذات البطن الأحمر تتهادى فوق أرض الفناء وكأن من تحتها ماء، ثم تنزلق كحوت ضخم لتقف أمام سلم رخامي أبيض، وليقف معها، وعلى كل جانب من جانبيها صف من تماثيل خشبية، يرتدي كل منها بدلة صفراء.
من أين جاءت هذه التماثيل في هذه اللحظة الخاطفة؟ إنها لا تدري، ربما كانت موجودة دائما هكذا دون أن تلحظها، أشياء كثيرة لا تلحظها رغم أنها موجودة، أهي لحظت مثلا أن هناك سلما رخاميا له هذا اللون الأبيض الناصع؟
واتسعت عيناها بالدهشة حين رأت واحدا من التماثيل يترك الصف ويتقدم نحو العربة بخطوات، وهي ليست خطوات بمعنى الخطوات، ولكنها اهتزازات وتشنجات كتلك الحركات التي تصدر عن العرائس المتحركة، وثنى نصفه الأعلى فوق نصفه الأسفل، ومد ذراعا طويلة متصلبة، وفتح باب العربة.
دعكت عينيها في تلك اللحظة لتطرد ذرة الرمل الغائرة في زاوية عينها اليمنى، لكن ذرة الرمل بدلا من أن تطرد إلى الخارج، ضغطت إلى الداخل، وحملقت بعينيها المحمرتين لترى ماذا يمكن أن يخرج من باب العربة، ورأت أول ما رأت بوز حذاء رجالي أسود مدبب، تبعته ساق رفيعة قصيرة لبنطلون رصاصي له ثنية عريضة منشاة، ثم خرج رأس كبير مخروطي أبيض تتوسطه رقعة صلعاء صغيرة عكست فوقها ضوء الشمس كمرآة، ثم كتف رصاصي مربع، ثم الساق الثانية القصيرة الرفيعة.
وتذكرت وهي تشهد خروج ذلك الجسم الآدمي عضوا عضوا، حالة ولادة شهدتها صدفة في البلد وهي طفلة، وكانت العربة لا تزال واقفة يرتفع ظهرها المقوس الأسود فوق مدخل السلم.
رأته يصعد السلم درجة درجة، وفوق كل درجة يتوقف لحظة، كأنما ليلتقط أنفاسه، فيثني رقبته إلى الوراء، ويهتز رأسه الكبير إلى الخلف كأنه سيسقط من خلف ظهره، لكنه لا يسقط، ويظل مشبوكا في الرقبة.
كان يخيل إليها أحيانا أنها تنظر إليه من خلال عدسة مصغرة، وكانت تظنه أحيانا عقلة الإصبع الذي كان بطل حكايات جدتها، وأحيانا أخرى حين تكون شاردة كما كانت في تلك اللحظة تنتهز حقيقته فرصة شرودها لتفرض عليها نفسها كوكيل لوزارة الكيمياء الحيوية التي تعمل فيها موظفة .
وابتلعه الدهليز الواسع، واختفت العربة، وفقدت التماثيل قوامها الصلب، وارتخت عضلاتهم وتهدلت، وساروا بسيقان معوجة إلى الدكة الخشبية الملاصقة للسلم فجلسوا عليها، وراحوا ينظرون إليها وهي تمر من جوارهم بعيون نصف مغمضة، وأفواه نصف مفتوحة، وقد يدس أحدهم في فمه لقمة خبز بالجبن القريش، أو يخرج صحن الفول المدمس من تحت الدكة.
واجتازت الفناء الواسع، ودارت حول المبنى الأسود حتى بلغت ظهره، وظهر المبنى كظهر أي شيء، أكثر سوادا، أكثر خشونة وغلظة، ووقفت لحظة أمام الباب الخشبي الصغير ذي الضلفة الواحدة، ترتسم فوقه بسواد كالهباب أشكال مختلفة. منها أصابع آدمية، ومنها دوائر كالأكف، وحروف كلمات مبتورة، ورأت كلمة انتخبوا وقد طمس السواد حروفها الثلاثة الأخيرة.
অজানা পৃষ্ঠা
سارت في الدهليز الضيق المظلم، وصعدت السلم، وقفزت قدماها المدربتان فوق الدرجة المفقودة، وتفادتا قضيب الحديد البارز من «الدرابزين»، ووصلتا إلى الدور الرابع وانحرفتا إلى اليمين لتعبرا ممرا طويلا، وفاحت رائحة البول النتنة، وأشاحت بأنفها بعيدا عن باب دورة المياه، ثم دخلت من الباب الثاني المجاور لها، فأصبحت في مكتبها.
سارت إلى مكتبها وجلست، وأخرجت من الدرج فوطة صفراء ومسحت التراب من فوق المكتب فبدت قشرته السوداء وقد انتزعت في بعض أجزائها وظهر من تحتها لحم المكتب الأبيض، وأعادت الفوطة إلى مكانها في الدرج ثم رفعت رأسها، ورأت المكاتب الثلاثة الأخرى ملتصقة بعضها بالبعض في صف واحد طويل، ومن فوقها تبرز الرءوس الثلاثة المحنطة.
كانت الرائحة النتنة لا تزال في أنفها، وقد أضيفت إليها رائحة أخرى غريبة كتلك الرائحة التي تبيت في حجر النوم المغلقة المحكمة الإغلاق، ونهضت لتفتح النافذة لكن صوتا غليظا أشبه ما يكون بزمجرة حيوان مريض، قال: الدنيا برد! لا تفتحي.
عادت لتجلس إلى المكتب، وأخرجت من الدرج ملفا كبيرا، وتأملت الغلاف السميك الخارجي، ومن فوقه رقعة صغيرة بيضاء كتب عليها: الأبحاث الكيمياوية الحيوية. إنه خط يدها، والحروف مكتوبة بعناية وأناقة، كل حرف ضغط عليه بالقلم الحبر، إنها تذكر كيف ضغطت بالقلم على كل حرف، كان القلم جديدا، ودواة الحبر جديدة، لا تزال تذكر رائحة الحبر، كان منذ ست سنوات، لكنها تذكر الرائحة، وتذكر شكل أصابعها وهي تضغط على الحروف، كانت قد وقعت قرار استلامها العمل الجديد في قسم الأبحاث الكيمياوية الحيوية، وارتجفت أصابعها وهي تكتب اسمها تحت القرار الرسمي، أول مرة توقع قرارا رسميا، أول مرة يكون لتوقيعها قيمة رسمية.
وفتحت الغلاف، وظهر لها بطن الملف الأصفر، وقد شبك فيه من الوسط قضيب رفيع من الصفيح، تتدلى منه ورقة بيضاء، ليس عليها خط واحد.
أغلقت الملف وأعادته إلى الدرج ثم رفعت رأسها إلى السماء، لكن عينيها اصطدمتا بالسقف، فنهضت وسارت لتقف بالقرب من النافذة، ولتنظر من خلال الزجاج المتسخ إلى السماء.
شيء ما في السماء يجعلها تستريح ... ربما الاتساع، ربما اللون الأزرق القوي الثابت تحت ذلك البياض الزاحف، أو ربما لأن السماء تذكرها بفريد.
وهي لا تعرف ما العلاقة بين السماء وفريد؟! ولكنها تعرف أن هناك علاقة ما بينهما، ربما لأنها تكون موجودة دائما حين يكون فريد موجودا، أو لأنها تكون موجودة أيضا حين يغيب، وفريد لم يأت ليلة أمس إلى الموعد، أول مرة يخلف الموعد، ولم يتكلم في التليفون ولم يعتذر. ما الذي حدث ...؟
وبدت السماء ثابتة صامتة كأنها متواطئة معه، وواصلت السحب البيضاء زحفها وكأن شيئا لا يعنيها، وبرزت رءوس الأشجار من فوق المباني البعيدة سوداء متعرجة كالأورام.
فريد غاب لسبب، كل شيء يحدث في الحياة لسبب، الأشياء التي ظنت يوما أنها حدثت بغير سبب اتضح سببها بعد حين، ولكن ما السبب؟ قد تكون هناك حادثة أو مرض أو موت عزيز، وقد يكون شيئا آخر. ونقرت بأصابعها فوق زجاج النافذة، نعم، قد يكون شيئا آخر أراد فريد أن يخفيه؛ كان يخفي أشياء، كان يخفي أوراقا في أدراج مكتبه، وكان يغلق الباب أحيانا حين يتكلم في التليفون.
অজানা পৃষ্ঠা
كانت هذه أشياء عادية لا تلفت نظرها، كل واحد له أسرار يحب أن يخفيها، خطابات غرامية قديمة، كمبيالات لم تسدد، عقود إيجار ثلاثة قراريط في البلد، صورة أمه بالجلباب والقبقاب، صور طفولته بطربوش زره ضائع. نعم هناك دائما أشياء يجب الواحد أن يخفيها في درج، إنه لا يستغنى عنها من حين إلى حين، وليس هناك ضرر في أن يضعها في درج مغلق في أسفل المكتب، ولكن أحاديث التليفون الطويلة من وراء الباب المغلق، ما تفسيرها؟
وضغطت بكعب حذائها فوق الأرض، فدخل في ثقب حفرة فأر أو صرصار في الخشب، وشدت قدمها لتخرج كعبها من الثقب فانخلع حذاؤها، وانثنت فوق الأرض وأخرجت الكعب وهي تنظر حولها، كانت الرءوس الثلاثة المحنطة لا تزال في وضعها إلا من تغيير طفيف، ونظرت في الساعة، كانت العاشرة والنصف، أمامها ثلاث ساعات ونصف لتخرج من هذا القبر، وجلست إلى المكتب لحظة، ثم نظرت إلى الساعة، كان العقربان الرفيعان قد تجمدا فوق الساعة العاشرة، ودست حقيبتها تحت إبطها، ونهضت ثم خرجت مسرعة.
وقفت لحظة في نهاية الممر قبل أن تهبط السلم، وفكرت أن تصعد إلى الدور الخامس وتعتذر لمدير القسم عن خروجها المبكر، ووضعت قدمها فوق السلم، لكنها بدلا من أن تصعد هبطت بسرعة وهي ترفع كتفيها، وتخفض رأسها إلى ما تحت ياقة المعطف العريضة.
ابتعدت بسرعة عن السور الحديدي، فأصبحت في الشارع الواسع المزدحم، وتركت كتفيها ورأسها تعود إلى وضعها الطبيعي، وسقطت أشعة الشمس فوق ظهرها فأحست بشيء قليل من اللذة، كان يمكن أن يكون أكثر من ذلك لولا تلك الهموم التي تثقل قلبها، ورأت المرأة الجالسة فوق الرصيف، ويدها الفارغة ممدودة للناس، وفي حجرها الطفل الصغير، وأشعة الشمس تغرق جسمها كله، وهي جالسة هادئة ساكنة، لا تجري هاربة من الوزارة، ولا يثقل قلبها كل تلك الهموم.
وتركت قدميها تسيران ببطء، لكن حركة الشارع السريعة انتقلت إليها كأنما بالعدوى، فوجدت قدميها تسرعان الخطى كأنها ذاهبة لتلحق بموعد هام، ولم يكن هناك موعد هام أو غير هام، لم يكن هناك أي شيء، ولم تكن تعرف إلى أين هي تسرع.
والتقطت عيناها من وسط الناس المسرعين فتاة طويلة نحيلة، خيل إليها أنها تشبهها؛ فقد كانت تمشي بسرعة، وتقذف بنصفها الأعلى إلى الأمام وكأنها على وشك أن تجري ولكن الخجل يمنعها، وفي يدها حقيبة تهتز، حقيبة جلدية سوداء كتلك الحقائب التي يحملها الأطباء أو المحامون أو كبار الموظفين، كانت الحقيبة منتفخة، ولا بد أن بداخلها أوراقا كثيرة وهامة، وأشارت الفتاة إلى تاكسي ثم قفزت فيه بنشاط ومرح واختفت. إنها تعرف إلى أين هي ذاهبة، وقدماها تقفزان في نشاط ومرح، لا شك أنها مشغولة جدا، ومنهمكة جدا ومستغرقة جدا، إنها تؤدي عملا هاما، وهي سعيدة بهذا العمل، راضية عن نفسها، تحس أنها شيء هام، نعم إنها شيء هام.
وأطبقت شفتيها وزمتهما لتزدرد ريقها، إنها شيء هام وليست مثلها متعطلة تتسكع في الشارع بغير هدف. وأحست أنها تحسدها، نعم؛ إن الحسد هي الكلمة التي يمكن أن تصف شعورها في تلك اللحظة، وهي لا تعرف معنى كلمة الحسد، ورثتها كما ورثت أنفها وذراعيها وعينيها، وهي تعرف أن الحسد عمل خارجي؛ أي إنها لا يمكن أن تحسد نفسها، ولا بد من وجود شخص آخر لتحسده، ولا بد لهذا الشخص من صفات يستحق بها الحسد، كأن يكون شيئا هاما، ليس شيئا هاما مجردا، ولكنه شيء هام بالنسبة لنفسها.
ووضعت يدها في جيب المعطف وراحت تلعب بأصابعها في ثقوب البطانية الحريرية كأنها تبحث عن شيء ما هام داخل نفسها، واكتشفت فجأة أن ليس لنفسها شيء هام، لم يكن اكتشافا، ولم يكن فجأة، ولكنه شعور مبهم متدرج بطيء بدأ منذ مدة لا تعرف مداها، ربما بعد أن تخرجت في كلية العلوم، ربما بعد أن اشتغلت في الوزارة، ربما أمس فقط حين ذهبت إلى المطعم ووجدت المائدة خالية، أو ربما في هذا الصباح حين اندس بين ردفيها ذلك الشيء المدبب وهي تقفز من الأتوبيس.
وابتلعت لعابا مرا وحركت لسانها الجاف وهي تقول لنفسها بصوت يكاد يكون مسموعا: نعم؛ أنا لست شيئا.
كان يمكن أن تردد مرة أخرى وتقول: أنا لست شيئا، لكن عضلات شفتيها تقلصت، فماتت الحروف في بطن فمها حيث زادت المرارة وأصبحت تلسع كالحامض.
অজানা পৃষ্ঠা
ورفعت رأسها إلى فوق ، وراحت عيناها تفتشان في السماء كأنما تبحث عن شيء، نعم كانت تبحث عن شيء، فقد تذكرت صوت أمها وهي تقول: «ربنا يفتح عليك يا فؤادة يا بنتي وتخترعين اختراعا عظيما في الكيمياء.»
ورأت الزرقة لها مسام مسدودة، والسحب البيضاء تزحف فوقها بحركتها نفسها اللامبالية، وأطرقت رأسها إلى الأرض وهمست لنفسها بصوت لم يسمعه أحد: ظنونك خابت يا أمي وارتطمت دعواتك بسماء مصمتة.
ومصمصت شفتيها: اختراع عظيم في الكيمياء! ماذا كانت تعرف أمها عن الكيمياء؟ ماذا كانت تعرف عن الاختراع؟ كانت فؤادة ابنتها الوحيدة، وكانت ترضي طموحها الناقص فيها، وعلى عكس الأمهات في تلك الأيام لم تكن تفكر في زواجها، فلم يكن طموحها من ذلك النوع النسوي العادي، كانت قبل أن تتزوج قد ذهبت إلى المدرسة، وربما قرأت بعض القصص، ربما قرأت رواية عن فتاة تعلمت وأصبحت شيئا عظيما، ربما هي قصة مدام كوري أو واحدة أخرى من النساء الخالدات، لكنها فتحت عينيها ذات صباح فلم تجد مريلة المدرسة كما تركتها في الليلة السابقة فوق الشماعة، وسمعت صوت أبيها الخشن يقول: لن تذهبي إلى المدرسة. وجرت إلى أمها تبكي وتسأل عن السبب، ولم يكن السبب سوى الزوج، وكان هذا كافيا لأن تكرهه من أول نظرة، وظلت تكرهه حتى مات، وبعد أن مات وكانت فؤادة لا تزال في المدرسة الثانوية قالت لها أمها وهي تسوي شعرها الأسود الناعم أمام المرآة وتتأمل قوامها الممشوق:
مستقبلك في المذاكرة يا بنتي، الرجل ليس له فائدة.
كانت أمنية أمها أن تدخل فؤادة كلية الطب، ولكنها لم تحصل على مجموع عال في نهاية المرحلة الثانوية، ربما لأنها لم تستذكر كثيرا، أو ربما كانت تجلس في حصة التاريخ بجوار النافذة، وتشرد عيناها بعيدا إلى تلك الشجرة الكبيرة تنتشر فوقها زهور حمراء كثيرة متلاصقة فكأنها عمامة نثر فوقها مسحوق النحاس الأحمر، واكتشفت وهي جالسة في حصة التاريخ أنها تحب لون مسحوق النحاس الأحمر، وأنها تحب حصة الكيمياء، وأنها تكره التاريخ، لم تكن ذاكرتها تعي أسماء الملوك والحكام الذين حكموا مصر قبل أن يموتوا، لم تكن تفهم لماذا يضيع الأحياء وقتهم في اجترار ما فعله الأموات، لقد مات أبوها، ولعلها فرحت قليلا حين مات، لم تكن فرحتها بسبب شيء معين؛ فلم يكن أبوها شيئا معينا في حياتها، كان مجرد أب، ولكنها فرحت لأنها أحست أن أمها فرحت، وسمعتها بعد أيام تقول: لم يكن له فائدة كبيرة، واقتنعت بكلامها كل الاقتناع، فماذا كانت فائدة أبيها؟
لم تكن ترى أباها إلا يوم الجمعة، فقد كان يجيء إلى البيت بعد أن تنام ويخرج قبل أن تصحو، وكان البيت هادئا نظيفا في كل الأيام ما عدا يوم الجمعة، كان أبوها يبلل الحمام حين يستحم، ويخرج من الحمام ليبلل الصالة، ويقذف بملابسه المتسخة في كل مكان، ويرفع صوته الخشن بين لحظة وأخرى، ويسعل كثيرا ويبصق كثيرا ويتمخط بصوت عال حاد، وكانت مناديله كثيرة جدا وقذرة دائما، تضعها أمها في الماء المغلي وتقول لها: لأطهرها من الجراثيم، ولم تعرف فؤادة يومها ما معنى الجراثيم، لكنها سمعت مدرسة الصحة والأشياء تقول في إحدى الحصص إن الجراثيم أشياء صغيرة ضارة بالإنسان، وسألت مدرسة الفصل في ذلك اليوم: أين توجد الجراثيم يا بنات؟ لكن الفصل ظل ساكنا، ولم ترفع واحدة من البنات أصبعها، وأحست فؤادة أنها تعرف الجواب فرفعت أصبعها إلى أعلى في ثقة وكبرياء، وابتسمت المدرسة لتشجعها وقالت في رقة: هل تعرفين أين توجد الجراثيم يا فؤادة؟ ونهضت فؤادة واقفة رافعة رأسها فوق البنات وقالت بصوت عال مليء بالثقة: نعم يا أبلة، الجراثيم توجد في مناديل أبي. •••
وجدت فؤادة نفسها في البيت، في حجرة نومها، جالسة على طرف السرير تحملق في التليفون الراقد فوق الرف، لم تعرف كيف حملتها قدماها كل تلك المسافة الطويلة وكيف صعدتا في الأتوبيس، وكيف هبطتا منه في المحطة الصحيحة، وكيف سارتا من المحطة إلى البيت، كيف فعلتا ذلك كله وحدهما دون أن تدري هي، ولم تفكر في هذا الأمر التافه طويلا، فهي لا تتصور أن هذه صفة تفرد أو تميز تحظى بها قدماها ، فأقدام الحمار تفعل الشيء نفسه في صمت وهدوء.
ومدت يدها إلى التليفون، ووضعت أصبعها في القرص وأدارته الخمس الدورات المعهودة، وجاءها الجرس، فأسندت ظهرها إلى مسند السرير استعدادا لعتاب طويل، وظل الجرس يرن، ونظرت إلى الساعة، كانت الثانية عشرة، فريد لا يخرج من البيت قبل الواحدة أو الثانية، ربما يكون في حجرة النوم يقرأ في السرير، وبين حجرة النوم وحجرة المكتب حيث التليفون، ممر طويل، ربما يكون في الحمام والجرس لا يسمع من وراء باب الحمام المغلق، ورفعت عينيها إلى النافذة، ورأت فروع شجرة الكافور تتلاعب من وراء الزجاج، الشجر أيضا له قدرة على التلاعب، وكانت السماعة لا تزال ملتصقة بأذنها، والجرس الحاد يرن فيها رنينا عاليا، وخطرت لها فكرة؛ فوضعت السماعة لحظة ثم رفعتها وعادت تطلب الرقم من جديد وتأكدت أنها تضع أصبعها في الثقب الصحيح، وما إن توقف القرص بعد الدورة الخامسة حتى انطلق الجرس في أذنها كالقذيفة، وظلت ممسكة بالسماعة إلى جوار أذنها فترة طويلة، تكفي لخروج أي شخص من حمام، أو لاستيقاظه من النوم، وخطرت لها فكرة أخرى فوضعت السماعة لحظة ثم رفعتها وطلبت الدليل، وسألت عما إذا كان هناك عطل ما في التليفون ورد عليها الصوت الناعم الممطوط بعد لحظة يقول:
التليفون سليم، معك الجرس.
ودوى الجرس في أذنها مرة أخرى حادا عاليا لا ينقطع، فوضعت السماعة في مكانها فوق التليفون وأسندت رأسها إلى حافة المسند وراحت تحملق في النافذة.
অজানা পৃষ্ঠা
لم تكن فكرت من قبل في علاقتها بفريد، كانت تعيشها فحسب، لم يكن هناك متسع للاثنين معا، أن تعيشها وأن تفكر فيها، وكان فريد مشغولا دائما، يقضي الساعات مع كتبه وأوراقه، قد يقرأ، وقد يكتب أشياء يضعها بعناية في درج المكتب، ويغلق الدرج بالمفتاح، وكان يخرج عصر كل يوم ويتأخر ليلا، وقد يقضي بعض الليالي خارج البيت، ولم تكن تسأله أين يذهب، لم تحب أن تقوم بدور الزوجة المستجوبة، بل لم تحب أن تقوم بدور الزوجة على الإطلاق، كانت تعشق حريتها، وتعشق حجرتها الخاصة وسريرها الخاص، وأسرارها الخاصة وأخطاءها الخاصة، لم تكن لها أخطاء بمعنى الأخطاء، ولكنها كانت تحب أن تختفي أحيانا فلا يعرف فريد طريقها، وكانت تطرب لكلمات الإعجاب حين تسمعها من فم رجل، طربا لذيذا خاليا من الدهشة؛ فقد كانت على يقين من أن فيها شيئا ما يستحق الإعجاب، لكن فريد كان محور حياتها، كانت تبتلع أيامها كجرعة من زيت الخروع، ثم يهل يوم الثلاثاء بإشراقته العجيبة؛ الثلاثاء هو موعدها مع فريد، كل ثلاثاء في الثامنة مساء في ذلك المطعم الصغير إذا كان الجو دافئا، أو في بيته في ليالي الشتاء القارصة، كم شتاء مر على علاقتهما؟ إنها لا تعرف تماما، ولكنها تعلم أنها تعرف فريد منذ زمن بعيد، وربما بعيد جدا.
كم شتاء مر، وكم ثلاثاء مر، وفي كل ثلاثاء يأتي فريد، لم يخلف الموعد مرة واحدة، ولم يكذب مرة واحدة، ربما أخفى عنها أشياء، لكنه لم يكذب، حتى حينما جاءت سيرة الزواج من حيث لا يدريان قال لها وهو ينظر إليها بعينيه البنيتين اللامعتين: لن أستطيع الزواج فترة من الزمن، لو قالها أي رجل آخر فربما أحست بشك فيه، أو بطعنة في كرامتها، لكن فريد كان مختلفا وكان كل شيء معه يصبح مختلفا. حتى الكلمات تفقد معناها التقليدي المعروف، والأسماء قد تبدو فجأة وكأنها لا تنطبق على الأشياء التي سميت بها، أو تبدو فارغة المعنى بغير محتوى. كلمة كرامة مثلا، ماذا تعني كلمة كرامة؟ أن يحافظ الإنسان على عزة نفسه؟ ضد من؟ ضد الآخرين؟ نعم؛ لا بد أن يكون هناك آخرون ليدافع الشخص عن عزة نفسه ضدهم.
ولكن لم يكن بينها وبين فريد شيء اسمه آخرون، أو شيء اسمه نفسها ضد نفسه، كانا يتبادلان كل شيء في الحب حتى نفسيهما، فتصبح هي نفسه ويصبح هو نفسها، ويدافع هو عن حقوقها، وتتولى هي الدفاع عن حقوقه، كان شيئا غريبا ذلك الذي يحدث بينهما، ولكنه كان يحدث بسهولة، ومن تلقاء نفسه، كهواء يدخل الأنف، لقد كان شيئا طبيعيا جدا.
وسمعت صوت قدمي أمها تزحفان في الصالة، في اتجاه حجرتها، فنهضت بسرعة وبدأت تتحرك في الغرفة؛ إنها لا تحب أن تدخل حجرتها فتراها ساهمة تحملق في الفضاء كالمعتوهين، ورأت أمها وهي تقف على عتبة الباب بطرحتها البيضاء وجلبابها الطويل وتقول لها بصوتها الضعيف المبحوح: أراك بملابس الخروج، هل ستخرجين؟ وردت عليها بغير تفكير سابق في الخروج: نعم. وقالت أمها: والغداء؟ وأمسكت فؤادة حقيبة يدها استعدادا للخروج وهي تقول: لا أشعر بجوع.
لم تكن فؤادة تعرف لماذا خرجت، كانت تريد ألا تبقى في البيت، كانت تريد أن تتحرك، وأن ترى حركة من حولها، وأن تسمع صخبا عاليا، يعلو على ذلك الجرس الذي يرن في أذنيها بإصرار واستمرار لا ينقطع، وخرجت من شارع بيتها، وانحرفت إلى اليمين لتسير بحذاء السور الحجري لمشتل الزهور، ورأت زهرات الياسمين البيضاء تلمع كقروش من الفضة في ضوء الشمس الساطع، وامتدت يدها بحكم العادة وقطفت واحدة، دعكتها بين أصابعها، وامتلأ أنفها برائحة الياسمين فشعرت بالكتلة الثقيلة تتحرك في قلبها، رائحة الياسمين كان لها معنى لقائها مع فريد، وكان لها ملمس قبلاته فوق عنقها، ولكنها الآن تعني غيابه، وهي برائحتها القوية تركز هذا الغياب فيرسب في أعماقها إحساسا واقعيا كئيبا، وكان كالوهم، أو كالحلم الذي سينتهي حتما حين تصحو من النوم.
وتركت زهرة الياسمين البالية تسقط من بين أصابعها، وسارت في الشارع الضيق الصغير ثم خرجت منه إلى شارع النيل، وعرفت فجأة أنها لم تخرج من البيت بغير سبب، أو لمجرد الحركة، كان لها هدف محدد تريد أن تبلغه، وسارت بضع خطوات قليلة فوجدت نفسها أمام باب المطعم الصغير.
ترددت لحظة وهي تدخل، لكنها دخلت، واجتازت الممر الطويل وسط الشجر، وبدأ قلبها يدق، فقد تصورت أنها ستخرج من هذا الممر لترى «فريد» جالسا إلى المائدة ذات المفرش الأبيض، ظهره ناحيتها ووجهه ناحية النيل، كتفاه مائلتان إلى الأمام قليلا، وأذناه الصغيرتان محتقنتان بالدم، وشعره الأسود يهبط في غزارة خلف أذنيه، وأصابعه الطويلة الرفيعة فوق المائدة تلعب بقصاصة ورق، أو تقلب في النوتة الصغيرة التي يحتفظ بها دائما، أو تفعل أي شيء آخر، ولكنها لا تبقى ساكنة أبدا.
نعم، ستخرج من الممر فتراه جالسا هكذا، وسوف تمشي على أطراف أصابعها حتى تقف خلفه، وتمد ذراعيها حول رأسه وتغطي عينيه بيديها، وسوف يضحك ويمسك يدها بقوة، ويقبلها أصبعا أصبعا.
ودق قلبها بعنف حين وصلت إلى نهاية الممر، وانحرفت إلى اليسار خطوة لتخرج منه، ورفعت رأسها نحو المائدة، فغاصت جلطة الدم في قلبها؛ كانت المائدة خالية، عارية بغير مفرش أبيض، واقتربت منها وتحسست ظهرها وكأنها ستعثر على شيء نسيه فريد، على ورقة صغيرة تركها لها، لكن أصابعها لم تلمس إلا ظهر المائدة الخشن المتعرج، يضربه الهواء من كل ناحية كجذع شجرة عجوز.
ولمحها الجرسون فجاء إليها يبتسم، لكنه رأى وجهها فأطرق إلى الأرض، وسارت نحو الممر، وقبل أن تنحرف لتدخل فيه استدارت ونظرت إلى المائدة، كانت لا تزال خالية فاندفعت داخل الممر ثم خرجت من المطعم بخطوات سريعة.
অজানা পৃষ্ঠা
لم تكن تعرف إلى أين هي تسرع، كانت تعرف أنها تفر، تفر من المطعم، ومن البيت، ومن شارع النيل، ومن كل تلك الأمكنة التي تذكرها بفريد، كانت الأمكنة متواطئة معه، تخفي غيابه، وتؤكد وجوده، الأمكنة أيضا تنافق كما ينافق الموظفون. وأسرعت الخطى لتخرج من شارع النيل، ولتبحث عن مكان محايد لم ير «فريد»، ولم يعرفه ولن يكون متواطئا معه.
ووجدت نفسها في شارع الدقي الفسيح، ورأت أتوبيسا على وشك التحرك فقفزت فيه دون أن تعرف رقمه، ووضعت قدمها على السلم، وظلت القدم الثانية طائرة في الهواء، وامتدت إليها الأيدي تساعدها على الطلوع، واستطاعت أن تدس قدمها الثانية بين الأقدام الواقفة على السلم، وأحاطت بها ذراع طويلة قوية لتحميها من السقوط، ثم وجدت نفسها تدفع مع الأجسام إلى داخل الأتوبيس.
واحدة من الملايين، جسم من الأجسام البشرية التي تزحم الشوارع والمواصلات والمساكن، من هي؟ فؤادة خليل سالم، أنثى، من مواليد الصعيد، ورقم البطاقة 3125098 مركز شباط، ماذا يمكن أن يحدث للعالم لو أنها سقطت تحت عجلات الأتوبيس؟ لن يحدث شيء ، ستظل الحياة كما هي تجري لاهثة غير عابئة ولا مبالية، ربما تكتب أمها نعيها في صفحة الوفيات، ولكن ماذا يفعل سطر في جريدة؟ ماذا يغير في العالم؟
ودارت عيناها حولها في دهشة، ولكن لم الدهشة؟ إنها واحدة من ملايين فعلا، وهي جسم من الأجسام المحشورة في الأتوبيس فعلا، وهي لو سقطت تحت العجلات وماتت فلن يغير موتها من العالم شيئا، ما وجه العجب في هذا؟ لكنها كانت لا تزال تحس أنه عجيب، أنه شيء يثير دهشتها، شيء لا يمكن أن تصدقه أو تقبله.
فهي ليست واحدة من ملايين، إن في أعماقها شيئا يؤكد لها أنها ليست واحدة من ملايين، أنها ليست كتلة بشرية تتحرك، أنها لا يمكن أن تعيش وتموت فلا يحدث للعالم أي تغيير، نعم، في أعماقها شيء يؤكد ذلك، ليس في أعماقها وحدها، وإنما في أعماق أمها أيضا، وفي أعماق مدرسة الكيمياء وفي أعماق فريد.
وزحف في رأسها صوت أمها تقول: ستكونين شيئا عظيما مثل مدام كوري، وتبعه صوت مدرسة الكيمياء يقول: فؤادة شيء آخر غير باقي بنات الفصل، وهمس صوت فريد في أذنها: فيك شيء لا يوجد عند الأخريات.
ولكن ما قيمة كل هذه الأصوات المنتهية؟! لقد دوت مرة أو مرات وأحدثت ذبذبات في الهواء ثم انتهت. أمها قالت لها ذلك وهي صغيرة منذ زمن بعيد، ومدرسة الكيمياء قالتها وهي في المدرسة الثانوية منذ سنين كثيرة، وفريد قالها، نعم فريد قالها، ولكن فريد صوته تلاشى في الفضاء، وهو نفسه اختفى من الوجود، فكأنه لم يكن أبدا موجودا.
وداست امرأة سمينة فوق قدمها، ولكزها الكمساري في كتفها لتدفع التذكرة، وامتد كف كبير من الخلف وضغط على فخذها، نعم جسم من الأجسام التي تزحم العالم، وتملأ الجو برائحة العرق، واحدة من ملايين، ملايين، ملايين، وقالت بصوت عال دون أن تدري: ملايين ملايين! وحملقت فيها المرأة السمينة بعينين واسعتين كعيني البقرة، ونفخت في وجهها رائحة البصل فأشاحت بوجهها إلى ناحية النافذة، ورأت من خلال الزجاج ميدان التحرير فاندفعت بكل قوتها لتنزل من الأتوبيس. •••
وقفت في الميدان الواسع، تتلفت حولها، وترفع رأسها إلى فوق لترى العمارات العالية، وقد امتلأت واجهاتها بالأسماء ذات الخطوط العريضة، أطباء ومحامون ومحاسبون وخياطون ومدلكون ... إلخ، والتقطت عيناها لافتة كتب عليها: معمل عبد السميع للتحليلات، وفجأة اتضح في رأسها شيء، كأنما صوب نحو رأسها ضوء كشاف صغير، ولاحت الفكرة في رأسها واضحة في النور الجديد، كانت في رأسها دائما، كامنة في الظلام، لا يصدر عنها حركة، لكنها كانت موجودة، وكانت تعرف أنها موجودة.
ولكنها لم تعد موجودة فحسب، لقد بدأت تتحرك، وتخرج من ركنها المظلم إلى منطقة الضوء، واستطاعت فؤادة أن تقرأها، نعم لقد كانت مكتوبة بخط عريض واضح فوق واجهة العمارة: معمل فؤادة للتحليلات الكيميائية.
অজানা পৃষ্ঠা
كانت هذه هي الفكرة المزمنة في رأسها، لم تعرف متى بدأت، فهي ليست من الذين يحفظون التواريخ، أو يجيدون حساب الزمن، الزمن أحيانا يمضي بسرعة، بسرعة شديدة، كسرعة دوران الأرض، فيبدو لها وكأنه لا يتحرك، وأحيانا أخرى يمضي ببطء، ببطء شديد فيهز الأرض هزا كبركان ينتفخ في باطنها.
إنها فكرة بدأت منذ زمن بعيد، لاحت لها مرة وهي جالسة في حصة الكيمياء في المدرسة الثانوية، لم تكن واضحة كل هذا الوضوح، وإنما كانت تتراءى لها من خلال بخار كالضباب، وكانت عيناها تتبعان باهتمام تلك الحركة الغريبة داخل أنبوبة الاختبار، وتلك الألوان التي تختفي فجأة وتظهر فجأة، والأبخرة ذات الروائح الغريبة، والراسب المتخلف في القاع، مادة جديدة هي نتاج تفاعل كيميائي لمادتين مختلفتين، لها صفات جديدة، ولها شكل جديد، ولها إشعاع جديد، وتنتهي حصة الكيمياء، وتبقى هي في المعمل، تمزج المواد بعضها بالبعض، وتراقب بدهشة التفاعلات، وتشم الغاز المنبعث من فوهة الأنبوبة ثم تصرخ في فرح: غاز جديد! ... اريكا.
وكان مساعد المعمل يندفع بجسمه الرفيع المدبب كرصاصة ويصيح بصوت عال حاد كانفجار موقد الغاز: اطلعي بره! ويشد من بين أصابعها أنبوبة الاختبار ويلقي مواد اكتشافها في البالوعة وهو يلعن الزمن الذي جعله مساعد معمل في مدرسة بنات حقيرة، وكان المفروض أن يكون معيدا في كلية العلوم لو أنه أكمل دراسته، ونفد صبرها في يوم وهو يلقي مواد تجربتها الفريدة في الحوض وصرخت: ضيعت اكتشافي! ورأته وهو يزم عينيه الضيقتين في نظرة ساخرة فأشاحت بوجهها بعيدا عنه وخرجت تجري من المعمل، وظلت نظرته الساخرة تطاردها وتعطلها عن اكتشافها فترة طويلة، وكان يمكن أن تصرفها نهائيا عن فكرة الاكتشاف الملحة، لولا أن عقلها كان قد اتجه إلى حصة الكيمياء، وإلى مدرسة الكيمياء.
كانت مدرسة الكيمياء طويلة نحيلة مثلها، ولها عينان باسمتان دائما أبدا، فيها نظرة عميقة دسمة كلها ثقة، وكان يخيل إليها أن هذه الثقة كلها متجهة إليها هي وحدها دون بنات الفصل، لماذا؟ هذا ما لم تكن تعرفه بالضبط، لم تكن هناك دلائل مادية عليه، ولكنها كانت تحسه، وتحسه بقوة، خاصة حين تقابلها صدفة في فناء المدرسة وتنظر إليها ثم تبتسم. لم تكن تبتسم لكل البنات، نعم لم تكن تبتسم للكل، ثم كان ذلك اليوم التاريخي، حين جاء مفتش الكيمياء وسألت المدرسة سؤالا لم تعرفه واحدة من الفصل سوى فؤادة، في ذلك اليوم سمعت صوت المدرسة يقول لها أمام الفصل كله وأمام المفتش أيضا: فؤادة شيء آخر غير باقي بنات الفصل. قالت هذه الجملة بنصها لا تزيد ولا تنقص حرفا، فهي محفورة في مخها كما نطقتها بحروفها المتشابكة، والمسافات التي تفصل الكلمة عن الكلمة، ونقط الحروف وفواصلها، وانحفار كلمتي «شيء آخر» بدرجة أشد، وامتداد الشرطة فوق الألف في كلمة آخر، تماما وبالضبط، وفقا للدرجة التي ضغطت بها المدرسة على كل حرف وزمن كل سكتة بين كلمة وكلمة.
نعم، أصبحت فؤادة تحب الكيمياء، لم يكن حبا عاديا كحبها للجغرافيا والهندسة والجبر، ولكنه كان حبا غير عادي، كانت تجلس في حصة الكيمياء فتصيب عقلها انتفاضة غريبة كالمغنطة، ويصبح كل شيء من حولها قابلا للالتصاق بمخها؛ صوت المدرسة، كلماتها، لفتاتها، جزئيات المواد المسحوقة التي قد تتطاير في الهواء، القطع المعدنية التي قد تتفرق فوق المنضدة، ذرات الأبخرة والغازات التي قد تطير في الجو، كل ذرة، كل اهتزازة، كل ذبذبة، كل حركة وكل شيء يلتقطه عقلها، كما يلتقط المغناطيس ذرات المعادن من فوق الخشب.
وكان طبيعيا بعد كل هذا أن يصبح عقلها كيميائيا، وتتخذ الأشياء من حولها أشكالا وأوصافا كيميائية، لم يكن غريبا عليها أن تحس يوما أن مدرسة التاريخ قد صنعت من النحاس الأحمر، وأن مدرسة الرسم صنعت من الجير المطفي، وأن الناظرة صنعت من المنجنيز، وأن غاز كبريتيد الأيدروجين ينبعث من فم مدرس العربي، وأن صوت مدرسة الصحة والأشياء كصوت احتكاك قطع الصفيح.
أصبح للمدرسين والمدرسات جميعا صفات معدنية إلا شخصا واحدا، كان هو مدرسة الكيمياء، كان صوتها وعيناها، وشعرها، وكتفاها، وذراعاها وساقاها وكل شيء فيها أعضاء إنسانية حية متحركة تنبض كشرايين القلب، كانت إنسانا حيا من لحم ودم لا يمكن أن يمت إلى المعادن بصلة.
لكن صوتها كان أبرز ما فيها، كانت له نكهة حلوة كنكهة برتقالة فوق شجرة، أو زهرة ياسمين صغيرة السن مغلقة لم تفتح ولم تلمسها أصبع. وكانت فؤادة تجلس في حصة الكيمياء وتفتح للصوت الحلو عينيها وأذنها وأنفها ومسام جسمها، وتدخل الكلمات من هذه الفتحات جميعا كهواء نقي دافئ.
وفي يوم حمل إليها الصوت قصة اكتشاف الراديوم، كان قد حمل إليها من قبل أسماء رجال كثيرين اكتشفوا أشياء، وكانت تقرض أظافرها وهي تسمع وتقول لنفسها: لو كنت رجلا لاستطعت مثلهم، وتحس بطريقة خفية أن هؤلاء المخترعين لا يزيدون عنها قدرة على الاكتشاف ولكنهم رجال. نعم، الرجل قد يفعل شيئا لا تفعله المرأة لمجرد أنه رجل، إنه ليس أكثر قدرة، ولكنه ذكر، وكأن الذكورة في حد ذاتها شرط من شروط الاكتشاف.
ولكن، ها هي امرأة تكتشف شيئا، امرأة مثلها وليست ذكرا. وبدأ الإحساس الخفي بقدرتها على الاكتشاف يقل اختفاء، وأصبحت على استعداد لأن تتأكد أن هناك شيئا ما حولها ينتظرها لترفع عنه الحجاب وتكتشفه، شيء موجود كالصوت والضوء والغازات والبخار وإشعاعات اليورانيوم، نعم؛ شيء موجود لكن أحدا غيرها لا يحس وجوده. •••
অজানা পৃষ্ঠা
وجدت فؤادة جسمها ممددا فوق سريرها، وعيناها تحملقان في السقف ، ليس في السقف كله، وإنما في دائرة صغيرة مشرشرة سقط الطلاء الأبيض من فوقها فأصبحت بلون الأسمنت، كانت تحس ألما في قدميها من كثرة ما تجولت في الشوارع المتفرعة من ميدان التحرير، لم تكن تعرف تماما لماذا تتجول، لكنها كانت كأنما تبحث عن شيء، ربما كانت تبحث عن فريد فيمن يقابلها من الناس؛ لأنها كانت تحملق في وجوه الرجال، وتفحص الرءوس التي تمر من وراء زجاج عربة أو تاكسي، ربما كانت تبحث عن شقة خالية؛ لأنها كانت تتوقف هنا وهناك أمام العمارات الجديدة وترمق البواب بنظرة طويلة حائرة.
ولكنها الآن تحملق في رقعة السقف المشرشرة بغير تفكير في شيء محدد، وسمعت صوت قدمي أمها تزحفان في اتجاه حجرتها فشدت اللحاف بسرعة فوق جسمها وأغمضت عينيها متظاهرة بالنوم العميق، وسمعت صوت أنفاس أمها اللاهثة وعرفت أنها واقفة على عتبة الباب تتأملها وهي نائمة، وحرصت فؤادة على أن تبقى بغير حركة وتركت صدرها يعلو ويهبط في تنفس عميق منتظم، ثم سمعت صوت القدمين تزحفان بعيدا عن حجرتها، وكان يمكن أن تفتح عينيها وتعود تحملق في السقف لكنها شعرت براحة وهي مغمضة العينين، وفكرت في أن تنام، لكنها قفزت من السرير بسرعة، فقد خطرت لها فكرة؛ وأدخلت نفسها في المعطف الكبير، واتجهت إلى باب حجرتها، لكنها توقفت لحظة كأنما تذكرت شيئا، وسارت إلى التليفون وأدارت القرص الخمس الدورات، وجاءها الجرس عاليا حادا لا ينقطع، فوضعت السماعة وخرجت من البيت مسرعة.
كانت تسير بسرعة، توجه قدميها من هذا الشارع إلى ذاك، وتقفز في أتوبيس تعرف رقمه ثم تنزل في محطة تعرفها كل المعرفة، وتنحرف إلى يمينها في شارع جانبي صغير تعرف أن في نهايته بيتا أبيض، من ثلاثة أدوار، له باب صغير خشبي.
ورأت البواب الأسمر جالسا على دكته في مدخل السلم، وكانت على وشك أن تسأله عن فريد لكنها تجاهلت نظرته الفاحصة المستطلعة الخاصة بكل البوابين، إنه يعرفها، وقد رآها مرات ومرات تصعد إلى شقة فريد، لكنه كان دائما وفي كل مرة يصوب إليها النظرة نفسها الفاحصة المستطلعة، وكأنه لا يعترف بكل تلك العلاقة بينها وبين فريد، وصعدت السلم في نفس واحد، ثم وقفت تلهث أمام الباب الخشبي ذي اللون البني القاتم، ورأت نافذة المطبخ المطلة على السلم مفتوحة، إن «فريد» موجود، لم تحدث له حادثة كما تصورت، ولم تخطفه السماء، ودق قلبها بعنف وفكرت في أن تعود بسرعة قبل أن يراها؛ لقد أخلف الموعد عن عمد لا عن عجز، ولم يطلبها في التليفون بعد كل ذلك ليشرح السبب، وكان يمكن أن تستدير وتعود لكنها لم تر نورا من خلال زجاج الشراعة، كانت الشقة مظلمة تماما، ربما يكون في حجرة النوم يقرأ، ونور حجرة النوم لا يصل إلى شراعة الباب.
وضغطت بأصبعها على الجرس، وسمعت صوت الجرس الحاد وهو يرن في البيت، وظلت ضاغطة بأصبعها والصوت يرن عاليا حادا في الصالة دون أن يفتح أحد الباب، ورفعت يدها عن الجرس فانقطع الصوت، وعادت فضغطت على الجرس، وعاد الصوت العالي الحاد يرن في أرجاء الصالة دون أن يفتح أحد. وألصقت أذنها بالباب لعلها تسمع صوت حركة داخل الشقة، أو أنفاسا مكتومة، أو أنينا، لكنها لم تسمع شيئا، وفجأة سمعت صوت جرس التليفون ينبعث من حجرة المكتب وانتفضت إلى الوراء، فقد خيل إليها أنها هي التي تطلبه من بيتها، ولكنها تذكرت أنها تقف وراء الباب، ولا يمكن أن تكون هي التي تطلبه الآن، وظل جرس التليفون يرن بضع لحظات ثم انقطع، وعادت فألصقت أذنها بالباب ولم تسمع شيئا ينم عن وجود كائن حي بالشقة، وسمعت صوت كعب عال رفيع يهبط السلم فابتعدت عن الباب قليلا وضغطت على الجرس مرة أخرى، واستطاعت أن ترى بطرف عينها امرأة سمينة تهبط السلم، وظلت ضاغطة على الجرس شاخصة إلى الأمام، حتى اختفت المرأة في ثنية السلم، وانتظرت بضع لحظات أخرى انقطع صوت الكعب الرفيع الثقيل على السلم، فبدأت تهبط الدرجات بخطوات بطيئة ثقيلة.
تركت قدميها تسيران، والأفكار في رأسها تدب بصوت يكاد يكون مسموعا، فريد أخلف الموعد ولم يطلبها في التليفون وليس في البيت فأين يمكن أن يكون؟ لا يمكن أن يكون في القاهرة، أو في مدينة قريبة منها. لا بد أنه في مكان ما بعيد، ليس فيه تليفون أو مكتب بريد، لماذا أخفى عنها سر غيابه؟ ألم تكن العلاقة بينهما تحتم عليه أن يقول، ولكن ما العلاقة التي تحتم على الإنسان أن يفعل شيئا معينا إزاء إنسان آخر؟ ما ذلك الذي يحتم عليه أن يفعل ...؟! الحب!
وتكورت الكلمة في فمها كلقمة غير قابلة للمضغ، الحب! ما معنى كلمة الحب؟ متى سمعتها لأول مرة؟ من فم من؟ إنها لا تذكر تماما؛ فالكلمة لم تغب عن أذنها منذ وعت الحياة، كانت تسمعها كثيرا، ولأنها كانت تسمعها كثيرا لم تكن تعرفها، كأعضائها الأنثوية، تراها كثيرا ملتصقة بجسمها، وتغسلها بالماء والصابون كل يوم دون أن تعرفها، وكانت أمها هي السبب، ربما لو ولدت بغير أم لعرفت كل شيء من تلقاء نفسها، فقد كانت تعلم وهي صغيرة جدا أنها ولدت من فتحة في نهاية بطن أمها، وأنها قد تكون هي الفتحة التي تبول منها، أو فتحة أخرى مجاورة، لكن أمها نهرتها حين أطلعتها على اكتشافها، وقالت لها إنها ولدتها من أذنها. وأفسدت أمها بهذا التصريح أحاسيسها الطبيعية، وعطلت إدراكها لكثير من البديهيات مدة طويلة. فقد ظلت فترة من الزمن تحاول خلق علاقة ما بين سماع الأصوات والولادة، وتشككت أحيانا في أن الأذن خلقت للسماع، وأنها ربما صنعت لتبول منها النساء بعد الزواج. لم تكن تدري لماذا تربط دائما بين الولادة والتبول وتحس أنهما لا بد وأن يكونا قريبين، وظلت تبحث عن موقع الفتحة التي خرجت منها إلى العالم، وظنت أنها ستدرسها في حصة التاريخ، أو الجغرافيا، أو الصحة والأشياء، لكنهم درسوا لها كل شيء إلا هذا. أخذت حصة عن الدجاج وكيف يبيض ويفقس، وحصة عن السمك وكيف يتناسل، وحصة عن التماسيح والثعابين وكل الكائنات الحية ما عدا الإنسان، حتى النخل درسوا لها كيف يلقح بعضه البعض، أيمكن أن يكون النخل أكثر أهمية عندهم من أنفسهم؟ وقبل نهاية العام رفعت أصبعها وسألت مدرسة الصحة والأشياء، فاعتبرت سؤالها خروجا عن الأدب، وعاقبتها بالوقوف أمام الحائط رافعة ذراعيها، وتساءلت فؤادة وهي تحملق في الحائط لماذا تلقح النباتات والحشرات والحيوانات بعضها البعض ويعتبرون ذلك علما من العلوم، وفي حالة الإنسان يعتبرونه شيئا فاضحا يستحق العقاب؟ •••
وجدت فؤادة نفسها تسير في شارع النيل، كان الظلام الكثيف يغطي سطح الماء، وأنوار المصابيح المستديرة منعكسة على الجانبين، وبدا النيل وهو يزحف في الظلام طويلا ممشوقا كجسم امرأة لعوب متشحة بالسواد حدادا على زوج تكرهه، وقد رشقت على جانبي ردائها الأسود حبات من اللؤلؤ المغشوش، وتلفتت حولها. كان كل شيء في الظلام يبدو لعوبا مغشوشا، حتى باب المطعم الصغير الذي انتشرت فوقه لمبات ملونة رخيصة أشاعت حوله ظلالا غريبة كالأشباح، ومرت أمام الباب دون أن تدخل، لكنها عادت إلى الوراء خطوة ودخلت، وسارت في الممر تحت الشجر، وانحرفت في نهاية الممر لتلقي نظرة على المائدة، لم تكن خالية، كان يجلس إليها رجل وامرأة، وكان الجرسون يضع أمامهما الأكواب والصحون، ويبتسم لهما الابتسامة نفسها التي كان يقدمها لها ولفريد، واستدارت بسرعة قبل أن يراها وخرجت من المطعم.
سارت في شارع النيل مطرقة، ما الذي أتى بها إلى هنا؟ ألا تعلم أن هذه الأمكنة متواطئة مع فريد، تعلن غيابه وتخفيه، يكتنفها الرياء والتناقض كأي موظف خبير، وخبطت بحذائها الأرض في غضب، ما الذي أتى بها إلى هنا؟ فريد هجرها واختفى فلماذا تحوم حول أمكنته؟ لماذا؟ لا بد أن تلفظه من حياتها كما لفظها من حياته. نعم، لا بد.
واستراحت لهذا التهديد، ورفعت عينيها لتتأمل الطريق، لكن قلبها دق بعنف، فقد رأت رجلا له مشية فريد مقبلا من بعيد، وأسرعت الخطى لتقترب منه، كان يميل بكتفيه إلى الأمام قليلا وينقل قدميه فوق الأرض ببطء يشبه الحذر، حركات فريد نفسها، واقتربا أكثر وأكثر، إنه يحرك ذراعيه بشكل ملحوظ، وفريد لم يكن يحرك ذراعيه بهذا الشكل الملحوظ، ولكن ربما يكون متعجلا لبلوغ المطعم بعد كل هذا الغياب، وأصبح على بعد خطوات منها وفتحت فمها لتهتف: فريد! لكن نور عربة مارة أزاح الظلام عن وجه آخر غير وجه فريد. وغاص قلبها في بطنها كقطعة من حديد وانكمشت حول نفسها داخل المعطف، وهز الرجل رأسه الأكرت في إيماءة لزجة، فأشاحت بوجهها بعيدا عنه وأسرعت الخطى، لكنه سار وراءها يهمس بكلمات مبتورة غير مفهومة، وتركت شارع النيل لتدخل في شارع جانبي، فدخل وراءها، وظل يطاردها من شارع إلى شارع حتى وجدت نفسها أمام بيتها. •••
অজানা পৃষ্ঠা
فتحت باب الشقة وهي تلهث، ولم تسمع صوت أمها، فسارت على أطراف أصابعها لتجتاز الصالة، ورأت أمها من خلال بابها المفتوح نائمة في سريرها على جانبها الأيمن، ورأسها الملتف بالطرحة البيضاء مرتفعا فوق الوسادتين السميكتين، وجسمها النحيل مختفيا تحت الغطاء الصوفي المزدوج.
دخلت فؤادة حجرتها وأغلقت الباب، وظلت واقفة في وسط الحجرة بضع لحظات ثم بدأت تخلع ملابسها، وارتدت قميص نومها، وخلعت الساعة ووضعتها على الرف بجوار التليفون، ومست يدها جسم التليفون البارد فأحست برجفة ونظرت في الساعة، كانت الثانية عشرة، أيكون فريد في البيت؟ أتجرب وتطلبه؟ ولكن، ألا يجب أن تكف عن هذه المطاردة؟ ولكن يمكنها أن تطلب الرقم فإذا جاءها صوته يقول «ألو» قفلت السكة. نعم، هكذا لن يعرف من الذي يطلبه.
ووضعت أصبعها في قرص التليفون وأدارته الخمس الدورات وجاءها الجرس المعهود، وقد ارتفع صوته الحاد في سكون الليل، وكتمت فوهة السماعة بكفها وقد ظنت أن الرنين العالي قد يوقظ أمها من النوم، وظل الجرس يهدر في أذنها كذئب جائع يعوي، يرتطم صداه برأسها ويرتد عنه كأنه جدار مصمت من الحجر.
وضعت السماعة في مكانها فانخمد الهدير، وألقت جسمها فوق السرير وأغمضت عينيها لتنام، لكنها لم تنم. ظل جسمها فوق السرير ممدودا ورأسها فوق الوسادة، وفتحت عينيها فرأت الدولاب والمرآة والشماعة والرف والنافذة، والسقف الأبيض بالدائرة المشرشرة التي سقط الطلاء من فوقها، وأغمضت عينيها وجعلت صدرها يعلو ويهبط في أنفاس عميقة منتظمة، لكنها لم تنم، ظل جسمها موجودا بوزنه وكثافته فوق السرير ، وانقلبت فوق بطنها ودفنت وجهها في الوسادة، وتظاهرت بأنها قد غابت عن الوعي، لكن وعيها ظل موجودا، وجسمها ظل ممدودا تحت الغطاء الصوفي الخشن، وانقلبت مرة أخرى فوق جنبها الأيسر وفتحت عينيها فلم تر إلا الظلام الكثيف، وخيل إليها أنها لا زالت مغمضة العينين، أو أنها فقدت البصر، لكن خطا رفيعا من الضوء ما لبث أن ظهر فوق الحائط، وضغطت برأسها على الوسادة وشدت الغطاء لتغطي عينها، لكنها لم تنم. ظل رأسها بثقله المعهود فوق الوسادة، وطنين خافت يبدأ يرن، بدأ خافتا جدا ثم أصبح يعلو شيئا فشيئا حتى أصبح أزيزا حادا متصلا كرنين جرس لا ينقطع، وخيل إليها أن سماعة التليفون ملتصقة بأذنها فمدت يدها تحت رأسها فلم تجد إلا الوسادة. وانقطع الطنين حين رفعت أذنها عن الوسادة ثم عاد يطن مرة أخرى، وكتمت أنفاسها لحظة فوضح لها مصدر الصوت، كان هو تلك الضربات المتتابعة المألوفة لقلبها، ولكنها لم تكن مسموعة في أية ليلة سابقة بمثل هذه القوة كمطرقة، وبمثل هذا التتابع والاستمرار. كانت في أي ليلة سابقة تضع رأسها فوق الوسادة ولا تسمع شيئا، وما هي إلا لحظات حتى تنام. كيف كانت تنام؟ حاولت أن تعرف كيف كانت تنام كل ليلة، لكنها اكتشفت فجأة أنها لا تعرف تماما كيف كانت تنام؟ كان جسمها يثقل وكأنه يسقط في بئر ثم تفقد الوعي، وتذكرت أنها حاولت مرة أو ربما مرتين أن تعرف كيف تفقد الوعي في النوم، ففتحت عينيها قبل أن يتلاشى وجودها، وتشبثت بقوة بآخر لحظة في وعيها لتعرف ماذا يحدث لها، لكن النوم كان يغلبها دائما قبل أن تعرف.
إنها لم تعرف شيئا، إنها لا تعرف أبسط الأشياء، لا تعرف البديهيات ولا تتعلم من التكرار، كم ليلة نامتها في كل عمرها؟ عمرها الآن ثلاثون عاما، وكل عام ثلاثمائة وخمسة وستون يوما، لقد نامت عشرة آلاف وتسعمائة وخمسين ليلة دون أن تعرف كيف تنام.
وضغطت برأسها فوق الوسادة، ودوى الطنين في رأسها، رأس مصمت من الحجر، رأس جماد لا يعرف شيئا، لا يعرف أين اختفى فريد، ولا يعرف لماذا دخلت كلية العلوم، ولا يعرف لماذا اشتغلت في قسم الأبحاث الكيميائية الحيوية، ولا يعرف ما البحث الكيميائي الذي يجب أن يبحث، ولا يعرف الاكتشاف القديم المزمن الذي يجب أن يكتشف، ولا يعرف كيف كانت تنام. نعم، رأس مصمت من الحجر، جاهل لا يعرف شيئا، وغير قادر على شيء سوى أن يردد ذلك الصدى الأجوف كأي حائط أو جدار.
وخيل إليها أن جدارا عاليا ثقيلا سقط فوقها، فاندك جسمها في بطن الأرض، وأحست بالمياه تحوطها من كل جانب، كأنما تعوم في بحر، كان البحر عميقا كبيرا، ولم تكن تعرف السباحة، لكنها كانت تعوم بمهارة فائقة، كأنها تطير فوق الماء، وكان الماء دافئا لذيذا، وأبصرت حوتا كبيرا يزحف تحت الماء، كان يفتح فكيه الكبيرين، وفوق كل فك أنياب طويلة مدببة، واقترب منها الوحش فاتحا فاه كسرداب طويل مظلم، وحاولت أن تجري لكنها لم تستطع، فصرخت من الفزع وفتحت عينيها. •••
كان نور النهار يدخل من بين شقوق الشيش الرفيعة، ورفعت رأسها من فوق الوسادة فشعرت بدوار فأعادته إلى الوسادة، ثم مدت ذراعها وسحبت الساعة من فوق الرف، وما إن ألقت نظرة عليها حتى قفزت من السرير وارتدت ملابسها بسرعة، وابتلعت كوب الشاي البارد الذي أعدته أمها وخرجت إلى الشارع.
لفح وجهها الهواء البارد فأحست بانتعاش وراحت تحرك ساقيها وذراعيها في نشاط، ولكنها أحست فجأة بألم في معدتها، فأبطأت الخطى، وضغطت بأصبعها على المثلث المنفرج تحت ضلوعها، كان الألم تحت أصبعها، غائرا في لحم بطنها، يقرص جدار معدتها كدودة لها أسنان. إنها لا تعرف ما سبب هذا الألم الغريب الذي يفاجئها كل صباح.
ووقفت على محطة الأتوبيس وجاء الأتوبيس رقم 613 الذي يمر في شارع الوزارة، وقف أمامها وتلكأ لتركبه، ولكنها لم تركب، وقفت تحملق فيه كتمثال، وتحرك الأتوبيس فتنبهت إلى أنها يجب أن تركب، وأسرعت تجري وراءه لكنها لم تلحقه، وعادت لتقف في المحطة وهي تشعر بشيء من الراحة؛ إنها لن تذهب إلى الوزارة اليوم، إجازاتها انتهت كلها، ولكن ما الذي سيحدث لو أنها لم تذهب اليوم؟ هل سيتغير شيء في العالم؟! إن موتها كله وغيابها بلحمها ودمها عن العالم لن يحدث شيئا، فما قيمة غيابها يوما عن الوزارة؟ فراغ سطر واحد من دفتر الحضور والانصراف القديم الذي بليت جلدته.
অজানা পৃষ্ঠা
وأشرقت الدنيا من حولها لهذا الخاطر، وتلفتت حولها تنظر إلى الناس باستخفاف وهم يهرولون لاهثين وراء الأتوبيسات ويقذفون بأنفسهم داخلها أو خارجها كالعميان، لماذا يجري هؤلاء الجهلة؟ هل يعرف أي واحد فيهم كيف نام ليلة أمس؟ هل يعلم كل واحد منهم لو سقط تحت العجلات ومات، أو أن الأتوبيس كله انقلب به وبكل من فيه وغرق في النيل، هل يعلم أن ذلك لا يعني شيئا للعالم؟
ورأت أتوبيسا يقف أمامها، وكان فيه بعض مقاعد خالية، فقفزت فيه بسرعة وجلست بجوار رجل عجوز، كان الرجل يمسك بأصابعه المرتجفة سبحة صفراء ويتمتم بصوت هامس: يا حفيظ! يا حفيظ! احفظنا يا رب! احفظنا يا رب! كان يطل من خلال زجاج النافذة ويتطلع إلى السماء من حين إلى حين بعينين متآكلتين لا رموش لهما، وتصورت فؤادة أن الرجل قد أصيب توا بكارثة؛ فابتسمت له في رقة لتواسيه، لكنه ذعر وانكمش في كرسيه مبتعدا وألصق جسمه الناحل بالنافذة، وقالت لنفسها وهي تنظر إلى الناحية الأخرى: يا للذعر الذي يملأ العالم!
في الناحية الأخرى كانت امرأة شابة تقف إلى جوارها، وقد أصبح الأتوبيس مزدحما بالواقفين كالعادة، كان يفوح من المرأة رائحة عطر، وفوق وجهها تلك الطبقة المعهودة من البودرة، وفوق شفتيها ذلك الطلاء الأحمر القاني، كانت نحيلة الجسم وقصيرة حتى إن بطنها كان ترتطم بكتف فؤادة وهي جالسة، لكن ردفيها كانا سمينين وبارزين خلفها.
ونهضت فؤادة فجأة بغير داع، فاندفعت المرأة في مقعدها وجلست مكانها تنفخ من الغيظ، وشقت لنفسها طريقا بين الأجسام ثم قذفت بنفسها من الأتوبيس قبل أن يتحرك من المحطة، وارتطمت قدماها بالأرض وكادت تقع لكنها استطاعت أن تنتصب واقفة، ورفعت رأسها لترى أين هي، ووجدت نفسها أمام سور الوزارة الصدئ.
وكأنما سقط فوق رأسها كوز ماء بارد فأفاقت، وتذكرت أنها لم تكن تنوي المجيء إلى الوزارة، لكن قدميها حملتاها بغير وعي في الطريق اليومي المعتاد، كحمار يفتحون أمامه باب الزريبة فيخرج وحده إلى الحقل، خروجا غير إرادي، ولأنه غير إرادي فهو طبيعي جدا، كخروج طفل من بطن أمه.
ورفعت عينيها إلى المبنى الكالح فرأته بارزا في الفناء ومفلطحا كبطن أمها، تنتشر فوق سطحه الأسمر القاتم شقوق طولية وعرضية كتجاعيد الجلد، وبدأت تشم الرائحة الغريبة، كتلك التي تشمها في أقسام الولادات بالمستشفيات، أو في دورات المياه النتنة، وتعثرت في خطواتها وبدأ الغثيان يشتد فقد عرفت أنها تقترب من مكتبها. •••
كان مدير القسم غاضبا، يتكلم بصوت عال تناثر له لعابه كالشظايا الشفافة الصغيرة، طارت واحدة منها واستقرت فوق خدها، تركتها في مكانها ولم تمسحها بمنديلها نفاقا له، وسمعته يقول: انصرفت من مكتبك أمس قبل الموعد الرسمي المحدد بثلاث ساعات ونصف! وصفعت كلمة أمس أذنها، فقالت بنصف وعي: أمس! وانقلبت شفتا المدير الغليظتان إلى الخارج وهز صلعته اللامعة وهو يصيح: نعم أمس ... هل نسيت؟ وقالت كأنما تكلم نفسها: لم أنس، ولكني كنت أظن أن ذلك حدث ... (وابتلعت بقية الكلمات دون أن يسمعها أحد) منذ أسبوع أو أسبوعين.
وراح المدير يتكلم بصوت عال، لكنها لم تكن تسمع، كانت تفكر باندهاش في الطريقة التي يعيش بها الناس الزمن، وكيف لا يتفق الإحساس بالزمن أحيانا مع عدد الساعات أو الدقائق التي مرت، وهل يمكن أن تكون تلك الحركة الثابتة المتتابعة لعقربي الساعة داخل تلك الدائرة الضيقة المحدودة مقياسا حقيقيا للزمن؟ فكيف يمكن إذن أن يقاس شيء غير مرئي وغير محدود بشيء مرئي محدود؟ وكيف نقيس شيئا لا نراه ولا نحسه ولا نلمسه ولا نذوقه ولا نشمه ولا نسمعه؟ كيف يمكن أن نقيس شيئا غير موجود بشيء موجود؟
وخطرت ببالها فكرة ظنت أنها لم تخطر ببال أحد، وأحست بفرحة سرية أخفت معالمها عن مدير القسم، ولم تعرف لماذا أو كيف فتحت فمها، فجأة ، وقالت لمدير القسم بصوت مسموع: إنني أعمل في قسم الأبحاث منذ ست سنوات، وأعتقد أن من حقي أن أقوم ببحث منذ اليوم.
وكأنما تفوهت بلفظ جارح أو كلمة نابية فامتقعت صلعته باللون الأحمر وبدا شكله وهو جالس وراء المكتب كقرد يجلس فوق رأسه ويرفع مؤخرته في الهواء.
অজানা পৃষ্ঠা
وفلتت من بين شفتيها ابتسامة للمنظر، فسمعته يقول في غضب: لماذا تبتسمين هكذا؟ وزمت شفتيها حتى لا ترد، لكنها قالت: لك أن تحاسبني على الزمن الذي غبته ولكن ليس من حقك أن تسألني لماذا أبتسم هكذا!
وتصورت أن غضبه سيشتد، وأن صوته سيزداد ارتفاعا لكنه سكت فجأة وكأنما فوجئ بقدرتها الخارقة على الرد، وشجعها صمته على أن تتظاهر بالغضب، فقالت وهي ترفع صوتها بدرجة أعلى: أنا لا أقبل أن يدوس أحد مهما كان على حق من حقوقي، فأنا أعرف كيف أدافع عنها! واستحال احمرار صلعته إلى لون أصفر باهت؛ فبدت كرأس شمامة، وقال بصوت مندهش: وما حقوقك التي دست عليها؟ فلوحت بيدها في الهواء وهي تصيح: لقد دست على حقين هامين من حقوقي؛ الحق الأول حين سألتني لماذا تبتسمين؟ والحق الثاني حين أكملت السؤال قائلا: هكذا؟ أما الحق الأول فهو حقي في الابتسام، وأما الحق الثاني فهو حقي المطلق في اختيار الطريقة التي أبتسم بها.
واتسعت عيناه المدفونتان في وجهه وأزاحتا عنهما بعض ما حولهما من لحم مكتنز، وقال في دهشة بالغة: ما هذا الكلام الذي تقولينه لي يا آنسة؟ ولم تعرف فؤادة كيف سيطر عليها الغضب فقالت بغير إرادة: من قال لك إنني آنسة؟ واتسعت عيناه أكثر وهو يقول: ألست آنسة؟ وهنا خبطت فؤادة بيدها فوق المكتب وصاحت: كيف يمكن أن تسألني هذا السؤال؟ ما الذي أعطاك هذا الحق؟ اللائحة؟!
لم تدر فؤادة كيف انقلب المشهد بهذه السرعة، فأصبحت هي الغاضبة، وهي صاحبة الحق في الغضب، وأصبح مدير القسم في حالة أقرب إلى الخوف منها إلى الدهشة، وضاعت من عينيه تلك النظرة الشرسة التي يصوبها إلى مرءوسته، وحلت محلها نظرة مستأنسة بل ومتهيبة أيضا تشبه إلى حد كبير تلك النظرة التي ينظر بها إلى وكيل الوزارة ورؤسائه من مديري العموم، وسمعته يقول بصوت كان يمكن أن يكون رقيقا لو أنه مارس الكلام بصدق لعدة سنوات سابقة: يبدو أنك متعبة اليوم، فأنت في حالة غير طبيعية، إني أعتذر لك إذا كنت قد آلمتك بكلمة، ووضع أوراقه تحت إبطه وغادر الحجرة، وتأملت ظهره وهو يخرج من الباب؟ كان مقوسا كظهر العجائز، لكنه لم يكن تقوس الشيخوخة وإنما ذلك التقوس المبكر الذي يصيب ظهور الموظفين من كثرة الانحناء والانثناء.
خرجت فؤادة في ذلك اليوم من الوزارة، وما إن ابتعدت عن السور الحديدي الصدئ، حتى قالت لنفسها: لن أعود أبدا إلى هذا القبر الآسن. ولم تعلق أهمية كبيرة لهذه الجملة؛ فقد كانت تقولها لنفسها كل يوم منذ ست سنوات، وسارت إلى محطة الأتوبيس لتعود إلى بيتها، لكنها بلغت المحطة ولم تتوقف، ظلت قدماها تسيران في الشارع. لم تكن تعرف إلى أين هي ذاهبة، لكنها ظلت تسير بغير هدف، ونظرت إلى الناس وهم يسيرون متجهين بسرعة وبإصرار سابق نحو هدف محدد يعرفونه، وتعجبت بينها وبين نفسها كيف استطاعوا أن يحققوا هذه المعجزة وبهذه البساطة الشديدة التي يحركون بها سيقانهم، ودارت حول نفسها دورة كاملة لا تعرف أي اتجاه تسلك، وعرفت أنها وحدها داخل دائرة مغلقة، وأن أحدا لا يدور معها، لا أحد معها، لا أحد على الإطلاق.
ورفعت رأسها إلى فوق وهي تتنهد فرأت العمارات العالية وقد رشقت فوق جدرانها اللافتات، وتذكرت فجأة أنها اتخذت بينها وبين نفسها قرارا وهي جالسة إلى مكتبها في ذلك الصباح، قرارا نهائيا غير قابل للجدل. نعم لقد قررت أن تؤجر شقة صغيرة وتصنع منها معملها الكيمياوي، وشدت قامتها وخبطت الأرض بقدمها في قوة. نعم، هذا هو قرارها وهذا هو تصميمها، وهي لن تتخلى عن قرارها أو تصميمها.
ووجدت نفسها في شارع قصر النيل، فسارت بخطوات بطيئة تتطلع بعينين ثابتتين إلى العمارات، وتتوقف بين عمارة وأخرى وتسأل البوابين عن شقة خالية. ووصلت إلى نهاية الشارع من ناحية الأوبرا فاجتازته إلى الرصيف المقابل ثم عادت أدراجها تفحص العمارات على الجانب الآخر للشارع.
وبينما كانت تسأل أحد البوابين نظر إليها الرجل بوجهه الأسود وعينيه الحمراوين نظرة فاحصة ثم سألها: هل معك ألف جنيه؟ وقالت: لماذا؟ فقال: هناك شقة ستخلو أول الشهر، لكن صاحبها يريد أن يبيع أثاثها لمن يؤجرها. وقالت: وهل الأثاث في الشقة؟ قال: نعم. قالت: أيمكن أن أراه؟ قال: نعم.
وسار البواب إلى مدخل العمارة فسارت وراءه، واتجه إلى المصعد، وضغط على الرقم 12 بأصبع رفيعة طويلة فحمية اللون لها ظفر أبيض مدبب بدا وكأنه قلم رصاص أسود له غطاء أبيض، وسألته بينما هما يصعدان: وكم حجرات الشقة؟ قال: اثنتان. وقالت: والإيجار؟ قال: ستة جنيهات في الشهر، إيجار قديم. قالت: ومن هو صاحب الشقة؟ قال: رجل أعمال كبير. قالت: هل كان يسكن فيها؟ قال: لا، كانت مكتبا لأعماله.
وقف المصعد في الدور الثاني عشر، واتجه البواب إلى باب كبير بني اللون تعلوه رقعة نحاسية صغيرة عليها رقم 129، وفتح الباب ودخل، فدخلت وراءه إلى صالة صغيرة بها كنبة عريضة تهدلت بطنها وكادت تسقط فوق الأرض، وكرسيان كبيران قديمان ومنضدة خشبية كالحة اللون، ثم دخلت إلى الحجرة الأولى فرأت سريرا عريضا من الصاج الأزرق وكرسيا كبيرا وشماعة، ودخلت إلى الحجرة الثانية وكانت تظن أن بها المكتب ولكنها رأت سريرا آخر ودولابا ومرآة، واستدارت إلى البواب قائلة: وأين هو المكتب؟ وانقلبت شفتا البواب الزرقاوان فتعرى بطنهما الأحمر الندي وقال بصوت غليظ: لا أعلم، أنا بواب العمارة فقط! وعادت فؤادة تتجول في الشقة، وتنظر من النوافذ، كانت الشقة تطل من ارتفاعها الشاهق على قلب مدينة القاهرة، وتكشف الشوارع الرئيسية والميادين، والكباري وأفرع النيل. لم تكن فؤادة قد صعدت إلى هذا الارتفاع من قبل، فبدت لها مدينة القاهرة أصغر بكثير مما كانت تظن، وبدا لها الزحام الذي كان يبتلعها، والأتوبيسات الكبيرة التي كان يمكن أن تسحقها، والشوارع الكبيرة الطويلة المتشابكة التي كان يمكن أن تتوه فيها، كل ذلك بدا تحت عينيها ككتل صغيرة تزحف كقطع الشطرنج.
অজানা পৃষ্ঠা
وأحست بلذة غريبة إزاء هذا التصغير الواقعي لكل شيء في الحياة ما عدا نفسها، فقد كانت هي هي، بحجمها المألوف، ووزنها العادي تقف في النافذة، بل لعلها زادت حجما ووزنا بالنسبة لما تراه تحتها.
وتنبهت على صوت البواب يقول: هل أعجبتك الشقة يا هانم؟ واستدارت إليه وهي تقول كالحالمة: نعم؛ ولكن عينيها اصطدمتا بالسرير الصاج فقالت: ولكن، ألا يمكن تخفيض الألف جنيه؟ إن هذا الأثاث لا يساوي أكثر من ... وسكتت، وهمس البواب في أذنها: إنه لا يستحق شيئا، ولكن الشقة ... هذه الشقة الآن لا تؤجر بأقل من ثلاثين أو أربعين جنيها في الشهر. وقالت: هذا صحيح، ولكن لو بعت نفسي في السوق الآن فلن أحصل على ألف جنيه، وابتسم الوجه الأسود كاشفا عن أسنانه ناصعة البياض، وقال: أنت تساوي ثقلك ذهبا، وانشرح صدر فؤادة للمجاملة العابرة انشراحا كبيرا خيل إليها أنها لم تحسه منذ زمن بعيد وابتسمت ابتسامة عريضة وهي تقول: أشكرك يا عم ... وقال البواب: عثمان، فقالت: أشكرك يا عم عثمان.
وهبطا في المصعد إلى الدور الأرضي، وصافحت البواب وشكرته وتركته لتواصل سيرها، لكنه قال: لماذا تؤجرين شقة يا هانم؟ للسكن؟ قالت فؤادة: لا، ستكون معملا كيمياويا. وصاح بغير فهم: كيمياويا؟ قالت: نعم كيمياويا. وكشف مرة أخرى عن أسنانه البيضاء، وقال كأنه فهم: نعم نعم كيمياويا، إنها شقة مناسبة جدا لأن تكون كذلك. وقالت فؤادة: إنها مناسبة جدا ولكن ... وقرب البواب فمه الأزرق من أذنها، وقال: يمكنك التفاهم مع صاحب الشقة، قد يخفض المبلغ إلى ستمائة جنيه، أنت أول من أقول له هذا السر، ولكنك إنسانة طيبة القلب وتستحقين كل خير، وقالت فؤادة لنفسها: ستمائة جنيه؟ أيمكن أن تعطيها أمها ستمائة جنيه؟ ونظرت إلى البواب بعينين حائرتين وقال الرجل: يمكنني أن أحدد لك موعدا مع صاحب الشقة إذا وافقت على ذلك، وفتحت فمها لتقول لا، لكنها قالت نعم. وقال: غدا الجمعة، وهو يأتي هنا كل يوم جمعة ليتفقد أحوال العمارة، وابتسم في زهو: إنه صاحب العمارة أيضا. وقالت: ومتى يكون هنا؟ في أي ساعة؟ قال: في العاشرة صباحا تقريبا. وقالت: سآتي في العاشرة والنصف، ولكن عليك أن تخبره أنني لا أملك ستمائة جنيه الآن. وقال البواب: يمكنك أن تدفعي ما معك وتقسطي الباقي، يمكنني أن أتوسط لك عنده في هذه النقطة وهو لن يتشدد، وقرب فمه الأزرق مرة أخرى، وقال: فالشقة خالية منذ سبعة شهور، ولكن لا تظهري له أنك تعرفين هذه الحقيقة لأنه سيعرف أنني أنا الذي قلت لك، أنت أول شخص أقول له هذا السر، ولكنك إنسانة طيبة القلب وتستحقين كل خير. وابتسمت فؤادة وهي تقول: أشكرك يا عم عثمان، سوف أكافئك على هذه الخدمة الكبيرة التي أديتها لي، وكشف الوجه الأسود عن الأسنان الناصعة البياض في ابتسامة عريضة مفعمة بالأمل.
وصلت فؤادة بيتها قبل حلول الظلام، ورأت أمها جالسة في الصالة متدثرة بالصوف ومعها أم علي الطباخة، وما إن وضعت المفتاح في الباب حتى هبت أم علي وصاحت من الفرح: الحمد لله أنها وصلت. ولفت جسمها اليابس الصغير في ملاءتها السوداء ووضعت صرتها الصغيرة تحت إبطها استعدادا للعودة إلى بيتها؛ ورأت فؤادة عيني أمها الواسعتين وقد طفا على سطحهما الأبيض اصفرار باهت كالغشاء الرقيق، واحمرت أرنبة أنفها كأنها مصابة بزكام، وسمعت صوتها الضعيف يقول: قلقت عليك طول النهار، لماذا لم تتكلمي في التليفون؟ وقالت فؤادة وهي تجلس إلى المائدة لتأكل: لم يكن بجواري تليفون يا ماما، وقالت الأم: لماذا؟ أين كنت كل هذا الوقت؟ ودست في فمها ملعقة أرز بالصلصة وقالت: كنت ألف في الشوارع، وردت الأم في دهشة: تلفين في الشوارع، لماذا؟ وانتظرت حتى ابتلعت ما في فمها ثم قالت: كنت أبحث عن الاختراع العظيم. وارتسمت على وجه أمها دهشة أضافت إليه بعض التجاعيد الجديدة وقالت: ماذا تقولين؟ وابتسمت فؤادة وهي تعض على قطعة لحم محمرة: هل نسيت بسرعة دعوتك القديمة؟ ورفعت فؤادة كفيها إلى فوق مقلدة حركة أمها حين تتأهب للدعاء وهتفت بلهجتها نفسها: ربنا يفتح عليك يا فؤادة يا بنتي لتخترعي اختراعا عظيما في الكيمياء، وانفرجت شفتا أمها اليابستان عن ابتسامة ضيقة، وقالت: ياما دعوت لك يا ابنتي. وأحست فؤادة بانتعاش ومرح وهي تلتهم قطعة من الطماطم المتبلة بالفلفل الأخضر وقالت في سرور: يخيل إلي أن دعوتك قد وجدت باب السماء مفتوحا، وتهلل وجه أمها فزادت كراميشه وقالت: ماذا؟ هل أعطوك علاوة في الوزارة، أو ترقية؟ الوزارة! لماذا نطقت بهذا اللفظ؟ أما كان في إمكانها أن تنتظر حتى أنتهي من طعامي؟ وأحست فؤادة بلذة الأكل وكأنما تجهض، وبدأ ذلك الألم المزمن يزحف إلى معدتها، يصاحبه ذلك الغثيان الجاف بغير قيء، ونهضت لتغسل يديها دون أن ترد، لكن صوت أمها انبعث مرة أخرى قائلا: أفرحي قلبي يا بنتي، هل حصلت على درجة؟ وخرجت فؤادة من الحمام ووقفت في وسط الصالة أمام أمها، وقالت: ما قيمة درجة أو علاوة يا أمي؟ بل ما قيمة الوزارة؟ أنت تتصورين أن الوزارة شيء ضخم عظيم، إنها ليست إلا مبنى قديما آيلا للسقوط، وأنت تتصورين أنني حين أخرج كل يوم في الصباح الباكر وأعود بعد الظهر أكون قد أديت عملا ما في الوزارة، ولكنك لا تصدقين إذا قلت لك إنني لا أعمل شيئا، لا أعمل شيئا على الإطلاق، إلا أن أكتب اسمي في دفتر الحضور والانصراف! ونظرت إليها أمها بعينيها الصفراوين الواسعتين وقالت بصوت واه: ولكن، لماذا لا تشتغلين يا ابنتي؟ إنهم لن يرضوا عنك بسبب هذا، ولن تحصلي على ترقيات. وابتلعت فؤادة ريقها وقالت: ترقيات! الترقيات تعطى حسب شهادة الميلاد، وحسب مرونة عضلات الظهر! وقالت أمها في دهشة: مرونة عضلات الظهر! هل أنت في قسم الأبحاث الكيميائية أم الألعاب الرياضية؟ وضحكت فؤادة ضحكة قصيرة سريعة ثم وضعت أصبعها على فم أمها قائلة: لا تقولي الأبحاث، إنها من الألفاظ الجارحة! وقالت الأم: ماذا؟ وقالت فؤادة: لا شيء، إنني أضحك معك؛ المسألة كلها هي أنني سأنشئ معملا كيمياويا.
وجلست فؤادة إلى جوار أمها، وراحت تشرح لها بحماس ما معنى أن يكون لها معمل خاص، وأنها ستجري فيه تحليلات للناس وتحصل على أموال كثيرة، وأنها إلى جانب هذا ستجري فيه أبحاثا كيميائية وقد تكتشف شيئا خطيرا يغير العالم. كان لا بد من هذه المقدمة الحماسية حتى تصل فؤادة إلى تلك النقطة المادية السخيفة، حين تطلب من أمها مالا. وكانت أمها تنصت باهتمام وسرور لكل ما يمكن أن تقوله فؤادة إلا تلك التلميحات الخفية لمطالب مادية. وفهمت الأم المدربة أن تلك الرنة المجلوة في صوت فؤادة إنما تعني في النهاية مطلبا.
وقالت الأم في النهاية: هذا شيء جميل جدا، وليس لي إلا أن أدعو لك بالتوفيق يا ابنتي، وقالت فؤادة: ولكن الدعوات وحدها لا تكفي يا أمي، لا يمكن أن أنشئ معملا كيمياويا بالدعوات؛ لا بد من مال لشراء الأدوات والأجهزة.
وقالت الأم وهي تنفض يديها المعروقتين: مال؟ من أين المال؟ أنت تعرفين «البير وغطاه». وقالت فؤادة: ولكنك قلت مرة إن عندك ما يقرب من ألف جنيه. وقالت الأم وقد اختفت النبرة الضعيفة من صوتها: ألف! لم يعد هناك ألف! ألم نسحب منها جزءا لتبييض الشقة وتجديد العفش، هل نسيت؟ وقالت فؤادة. وهل أنفقت الألف جنيه كلها؟ وقالت الأم وهي تمصمص شفتيها اليابستين: لم يبق إلا ثمن كفني. وقالت فؤادة: بعيد عنك الشر يا ماما. وقالت الأم بصوتها الواهي وقد تضعضعت نظراتها مرة أخرى: ليس بعيدا يا ابنتي، من يدري ماذا يحدث غدا، لقد حلمت حلما سيئا منذ أيام. وقالت فؤادة وهي تنهض: لا، لا، لا تقولي هذا الكلام، ستعيشين مائة عام، وأنت الآن في الخامسة والستين؛ أي لا يزال أمامك خمسة وثلاثون عاما من الحياة، ليست الحياة العادية، وإنما الحياة السعيدة الرغدة، لأن ابنتك فؤادة، سوف تحقق في هذه السنوات المعجزات! وتنهال الأموال عليك من السماء!
وقالت الأم وهي تبتلع ريقها الجاف: لماذا لم تدخري بعض المال؟ لقد ادخرت الألف جنيه من معاش أبيك الذي يقل عن مرتبك بثلاثة جنيهات. أين تبددين أموالك؟ وقالت فؤادة: أموالي! إن مرتبي لا يشتري لي فستانا محترما !
وسادت لحظة صمت طويلة، وسارت فؤادة إلى باب حجرتها، ووقفت على عتبة الباب لحظة تنظر إلى أمها المتكومة تحت الأغطية الصوفية فوق الكنبة، الكفن أم الاختراع العظيم؟ أيهما أكثر أهمية أو فائدة؟! وفتحت فمها لتقول في محاولة أخيرة: كأنك لن تعطيني شيئا. وقالت الأم دون أن ترفع عينيها إليها: هل ترضين لي أن أدفن بغير كفن؟
ودخلت فؤادة حجرتها وألقت نفسها فوق السرير. لم يعد هناك أمل في شيء، لم يعد هناك شيء، كل شيء اختفى، كل شيء ضاع، المعمل الكيمياوي، والبحث وفريد، والاكتشاف الكيمياوي، لم يبق شيء، لم يبق شيء إلا جسمها الكئيب الثقيل، الذي يأكل ويشرب ويبول وينام ويعرق. ما فائدة هذا الجسم؟ لماذا يبقى وحده دون كل الأشياء؟ لماذا هو وحده داخل تلك الدائرة المغلقة؟
অজানা পৃষ্ঠা
كانت تحملق في الجدار الأبيض المجاور للدولاب، وكان هناك شيء أسود فوق اللون الأبيض، شيء على شكل مربع، على شكل إطار صورة، كانت الصورة لفتاة بملابس العرس البيضاء الطويلة، تمسك بأصابعها الملفوفة كأصابع الموز باقة ورد، وإلى جوارها شاب طويل الوجه له شارب أسود، كانت فؤادة منذ وعت الحياة ترى هذه الصورة معلقة في الصالة، ولم يحدث مرة أن وقفت أمامها ودققت النظر، كانت أمها تقول إنها صورة زفافها لكنها كانت تراها من بعيد وكأنها صورة فتاة أخرى غير أمها.
وحدث مرة أن وقفت فؤادة أمام الصورة وتأملتها، كان ذلك بعد موت أبيها بسنة أو أكثر، وكانت مدرسة التاريخ قد ضربتها بالمسطرة عشرين مرة فوق أصابعها، مرتين فوق كل أصبع، وعادت فؤادة إلى البيت تشكو لأمها، فصفعتها أمها على وجهها بسبب إهمالها التاريخ، ثم ذهبت إلى الخياطة وتركتها بالبيت وحدها. لم تدر فؤادة يومها لماذا وقفت أمام الصورة، لكنها كانت تتجول في البيت وتتأمل الجدران كالسجن. ولأول مرة ترى الصورة، لأول مرة ترى وجه أبيها، وتأملت عينيه طويلا وخيل إليها أنهما تشبهان عينيها، وكأنما اخترق قلبها سكين حاد، فقد اكتشفت فجأة أنها تحب أباها، وأنها تريده، تريد أن ينظر إليها بهاتين العينين وأن يطوقها بذراعيه. ودفنت رأسها في وسادة الكنبة وأخذت تجهش بالبكاء. كانت تبكي لأن أباها مات دون أن تبكي، وتمنت في تلك اللحظة أن يحيا أبوها ثم يموت مرة أخرى لتبكي، حتى يستريح ضميرها. ومسحت عينيها في ملاءة الكنبة ونهضت وخلعت الصورة من مسمارها ومسحت التراب من فوق زجاجها، ونظرت إليها مرة أخرى، وكأنما كان التراب يحجب عنها عيني أمها، لأنها ظهرتا أمامها واضحتين واسعتين فيهما نظرة غريبة لم ترها من قبل، نظرة شرسة ظالمة. ورفعت فؤادة الصورة لتعلقها في مسمارها لكنها أخذتها معها إلى حجرتها ودقت لها مسمارا بجوار الدولاب وعلقتها، ونسيتها في ذلك المكان ولا تذكر أنها نظرت إليها مرة أخرى.
أغمضت فؤادة عينيها لتنام، لكنها أحست بشيء ما بين جفنيها، له ملمس الدموع، لكنه يحرق، ودعكت عينيها وهي تمسحها بطرف ملاءة السرير، وضغطت رأسها فوق الوسادة وشدت الغطاء فوقها لتنام، لكن الطنين بدأ يرن في أذنيها كرنين جرس خافت لا ينقطع، وتذكرت شيئا فنهضت بسرعة وأدارت قرص التليفون الخمس الدورات، وجاءها الجرس العالي الحاد. الليلة الثالثة وفريد غائب عن البيت. أين يمكن أن يكون؟ عند أحد أقاربه؟ ولكنها لا تعرف أحدا من أقاربه. عند أحد أصدقائه؟ وهي لا تعرف أيضا أحدا من أصدقائه. إنها لا تعرف إلا هو، وهي لا تعرفه تلك المعرفة التقليدية، لا تعرف ماذا كان أبوه، وكم قيراطا يمكن أن يرثه عنه، وكم يقبض كل شهر، وكادر وظيفته والدرجة والاختصاصات، وبيان الجزاءات والاستقطاعات ورقم البطاقة وتاريخ الميلاد. إنها لا تعرف شيئا من هذه المعلومات، ولكنها تعرفه هو بلحمه ودمه، تعرف شكل عينيه وذلك الشيء الفريد يطل منهما ككائن حي، تعرف شكل أصابعه، تعرف طريقته حين يفتح شفتيه ليبتسم، تعرف صوته من بين الأصوات، وتعرف مشيته من بين المئات، تعرف طعم قبلته في فمها، وملمس يده على جسمها، وتعرف رائحته؛ نعم تعرف رائحته جيدا، تستطيع أن تميزها؛ فهي رائحة دافئة خاصة غير عادية، تسبقه بقليل قبل أن يأتي، وتبقى معها بعد أن يمضي، وتظل عالقة بملابسها وشعرها وثنيات أصابعها، فكأنما هي شخص آخر يلازمها، أو كأنما تنبعث منها هي لا منه هو.
ولكن، أهذه هي المعلومات التي تعرفها عن فريد؟ شكل الأصابع، حركة الشفتين، طريقة المشية والرائحة أيضا؟! أيمكن أن تتجول هنا وهناك تتشمم رائحته وتبحث عنه في كل مكان كما يفعل الكلب البوليسي؟ لماذا لم تعرفه أكثر؟ لماذا لم تعرف وظيفته ومكان عمله؟ لماذا لم تعرف بيت أسرته وأقاربه؟ ولكنه لم يكن يقول لها، ولم تكن هي تسأله؛ ولماذا كانت تسأله؟ إنه لم يكن يسألها. كانت زميلته في كلية العلوم وكان زميلها، هكذا كانت بداية القصة.
وسمعت فؤادة صوتا إلى جوارها ففتحت عينيها، ورأت أمها واقفة إلى جوار السرير. كانت عيناها أكثر اتساعا واصفرارا ووجهها أكثر تجعدا، وسمعت أمها تقول: كم يلزمك لإنشاء المعمل؟ وابتلعت فؤادة ريقها وهي تقول: كم بقي معك؟ وقالت الأم: ثمانمائة جنيه وقالت فؤادة: كم يمكن أن تعطي؟ وسكتت الأم لحظة ثم قالت: مائة، وقالت فؤادة: أريد مائتين وسوف أسددها لك. وقالت الأم بصوت يائس: متى؟ إنك لم تسددي ديونك القديمة. ابتسمت فؤادة: وقالت: كيف أسددها؟ إنك تطالبينني بتسعة شهور الحمل وآلام الولادة ولبن الرضاعة وسهر الليالي بجوار المهد! أيمكن أن أسدد كل هذا؟! وقالت الأم: عوضي على الله في هذا، ولكن عليك أن تسددي المائة جنيه التي أخذتها العام الماضي. وقالت فؤادة في شرود: العام الماضي؟! وقالت الأم: هل نسيت؟
تذكرت فؤادة ذلك اليوم من العام الماضي. كانت جالسة فوق السرير كما هي جالسة الآن وفجأة دق جرس التليفون فرفعت السماعة وجاءها صوت فريد، كان يتكلم بسرعة على غير عادته، قال لها: أنا أتكلم من البيت ولكن هناك مهمة عاجلة؛ هل يمكن أن تحصلي على شيء من المال؟ وقالت: معي الآن عشرة جنيهات. فقال بسرعة: أنا بحاجة إلى مائة. قالت متى؟ قال: اليوم أو غدا على أكثر تقدير.
أول مرة يطلب فريد منها شيئا، بل أول مرة يطلب أحد منها شيئا. كانت في ذلك اليوم مريضة بالإنفلونزا، وكانت تحس بصداع شديد، ولم تكن قادرة على أن تحرك جسمها من تحت الفراش، ولكنها أحست فجأة أن قوتها تعود، وجلست تحملق في الجدار وقد خيل إليها أنها قادرة على أن تهدئه لتبحث عن المائة جنيه، ونهضت بسرعة وارتدت ملابسها، لم تكن تعرف من أين ستأتي بالمال، ولكنها تعرف أنها لا بد أن تخرج وتبحث، وبينما هي تتجول في الشوارع كالتائهة خطرت لها أفكار كثيرة من أول الاستدانة بالربا إلى السرقة والقتل، وأخيرا تذكرت أمها، فعادت تجري إلى البيت.
لم يكن سهلا أن تحصل من أمها على المال، لكنها حصلت عليه بعد أن روت لها كذبة كبيرة جعلتها تصدق أن حياة ابنتها معلقة بهذه الجنيهات المائة، وكانت لحظات تاريخية، تلك اللحظات التي بدأت حين وضعت فؤادة المال في حقيبتها وأسرعت تجري إلى بيت فريد، كانت تلهث وتنتفض حين فتح لها الباب، وأسرعت إلى حقيبتها ففتحتها ووضعت الجنيهات المائة فوق المكتب دون أن تنطق بحرف، ربما من شدة السعادة.
نعم؛ كانت سعيدة، ربما كانت في أسعد لحظة مرت بحياتها؛ فقد استطاعت أن تفعل شيئا لفريد، استطاعت أن تفعل شيئا لأحد، شيئا له فائدة ما. ونظر إليها فريد بعينيه البنيتين اللامعتين يطل منهما ذلك الشيء الغريب الذي تحبه ولا تعرفه، وقال: أشكرك يا فؤادة وحوطها بذراعيه وكان يمكن أن يقبل شفتيها ككل مرة يلتقيان في البيت، لكنه قبل جبهتها برقة واستدار بسرعة قائلا: يجب أن أذهب الآن.
بكت فؤادة في تلك الليلة وهي عائدة إلى بيتها، أما كان في استطاعته أن يبقى معها خمس دقائق أخرى؟ أكان مشغولا إلى ذلك الحد حتى إنه لم يقبلها؟ وما الذي يمكن أن يشغله إلى هذه الدرجة؟!
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الثاني
جلست على كرسي قديم في الصالة، وجلس صاحب العمارة على الكرسي المقابل لها، وبينما كانت المنضدة الكالحة، ومن فوقها صينية صغيرة عليها فنجانان من القهوة. كان وجهه كبيرا ممتلئا باللحم، من تلك الوجوه التي نراها لأول نظرة فتفقد الثقة في صاحبها، شيء ما في حركة الشفتين أو في حركة العينين، أو في شيء آخر لا تعرفه، يوحي إليها أنه يكذب، أو أنه لا يمكن أن يصدق، ربما هي تلك الذبذبة اللاإرادية المستمرة في عينيه الجاحظتين، أو الرعشة الخفيفة التي تصيب شفتيه حين تنفرجان لتخرج من بينهما كلماته السريعة المتآكلة. إنها لا تدري تماما.
ولكن أتصدر أحكاما على الناس من ملامحهم؟ هي صاحبة العقل الكيميائي؟ أيمكن أن تحكم على الناس بأحاسيسها وانطباعاتها؟ لماذا لا تكف عن هذه العادة السخيفة.
ورأت شفته العليا الرفيعة تقفز وهو يتكلم فتكشف عن أسنان صفراء كبيرة. كان يقول: هذه الشقة إيجارها اليوم لا يقل عن ثلاثين جنيها في الشهر، ومدت يدها إلى فنجان القهوة وهي تقول: أعرف أعرف، ولكني لا أملك إلا هاتين المائتي جنيه، وسوف أدفعها لك دون أن آخذ العفش؛ فإنني لن أحتاج إليه، وارتجت عيناه الجاحظتان من تحت نظارته البيضاء السميكة كعيني سمكة كبيرة تمشي تحت الماء، ورمق البواب الواقف بجوار الباب نظرة سريعة ثم قال: إذا كنت في غير حاجة إلى العفش فإني أخفض القيمة إلى أربعمائة جنيه.
وابتلعت رشفة من القهوة المرة، وقالت: قلت لك ليس معي إلا مائتان، وقال البواب بعد أن نظر إلى سيده نظرة متواطئة: يمكنها يا سعادة البيه أن تدفع المائتين الآن وتقسط الباقي، وانفرجت الشفتان الرفيعتان عن ابتسامة ضيقة وتذبذبت العينان الجاحظتان وهو يقول: أقبل التقسيط ولكن كم يكون كل قسط؟
لم تكن تعرف فؤادة شيئا عن تلك المساومات، كانت تريد الشقة، بل أصبحت الشقة أملها الوحيد في الحياة، قارب النجاة الوحيد من ذلك الضياع والفراغ، والخيط الوحيد المتين الذي يقودها إلى البحث الكيميائي، وربما إلى الاكتشاف العظيم، ولكن هذا الوجه الكبير المشبع باللحم من كل زاوية، وهاتان العينان المقعرتان تنظران إليها في جوع ونهم وكأنها قطعة من اللحم، ألا تكفيه مائتان من الجنيهات نظير لا شيء؟ وكيف تقسط الباقي؟ إنها ستشتري الأدوات والأجهزة بالتقسيط، فمن أين تدفع كل هذا؟ ثم إنها ستدفع إيجار الشقة كل شهر، وقد تستأجر شخصا يستقبل الزبائن ويساعد في تنظيف المعمل.
كانت مطرقة تفكر في صمت، ورفعت عينيها فجأة إليه وضبطت عينيه الزجاجتين يرمقان ساقيها بنظرة شرهة فشدت بغير إرادة فستانها ليغطي ركبتيها، وقالت: لن أستطيع أن أدفع شيئا بالتقسيط، وأمسكت حقيبتها ونهضت لتخرج، ونهض هو الآخر وكأنه محرج وأطرق إلى الأرض وتمتم في أسف، أنا لم أخفض المبلغ عن خمسمائة جنيه لأي أحد، وجاءني أشخاص كثيرون لكني رفضت تأجير الشقة لمدة طويلة؛ إنها أجمل شقة في العمارة.
وقالت وهي تتجه إلى الباب: إنها شقة جميلة ولكني لا أستطيع دفع أكثر من مائتي جنيه، وسارت نحو المصعد، وأحست بنظراته تلسع ظهرها، وفتح لها باب المصعد فدخلت ودخل وراءها، كان ضخم الجثة عريض الكتفين له بطن عال، وساقان رفيعتان تنتهيان بحذاء صغير، وقال للبواب قبل أن يهبط المصعد: أغلق الشقة يا عثمان.
وهبط المصعد بهما، ورأت عينيه المقعرتين ترشقان صدرها بنظرة فاحصة دقيقة كأنما هو يقيسه أو يزنه، وكتفت ذراعيها حول صدرها وتشاغلت بالنظر في المرآة، وكأنما فوجئت حين رأت وجهها؛ منذ مدة طويلة لم تر وجهها، إنها لا تذكر أنها نظرت في المرآة في اليومين السابقين، منذ غياب فريد، ربما ألقت مرة نظرة خاطفة على شعرها بعد أن مشطته، لكنها لم تر وجهها، وبدا لها وجهها أطول مما كان، وعيناها أكثر اتساعا يشوب بياضها احمرار خفيف، وأنفها هو أنفها، وفمها هو فمها بتلك الفرجة اللاإرادية القبيحة، وزمت شفتيها وابتلعت لعابا له طعم البن المر حين توقف المصعد في الدور الأرضي، وتنبهت إلى أن صاحب العمارة كان لا يزال يرمقها من تحت نظارته السميكة البيضاء. وفتحت باب المصعد وأسرعت تخرج من العمارة لكنها سمعت صوته من خلفها يقول: لو سمحت يا آنسة. واستدارت إليه فقال: لم أعرف لماذا تريدين الشقة ... للسكن؟ وقالت في ضيق: لا؛ سأجعلها معملا كيمياويا. وانحسرت شفته العليا عن الأسنان الكبيرة الصفراء وقال: هذا شيء عظيم، وأنت التي ستعملين فيه؟ قالت: نعم. وتذبذبت عيناه لحظة ثم قال: كنت أود أن أعطيك الشقة ولكن ...
وقاطعته قائلة: أنا أشكرك ولكني كما قلت لك ليس معي إلا المائتان.
অজানা পৃষ্ঠা