لم تدر فؤادة كيف فاجأها السؤال حتى إنها نسيت اسم أمها، وألحت الزميلة في معرفة الاسم، وكلما كانت تلح بالسؤال كان الاسم يهرب من ذاكرة فؤادة، واضطرت الزميلة في النهاية أن تواصل قراءة الفنجان بغير اسم الأم، ولكن فؤادة تذكرت الاسم في اللحظة نفسها التي كفت فيها الزميلة عن السؤال.
ظلت فؤادة تحملق في الأنبوبة الفارغة ثم وضعتها في حامل الأنابيب وأخذت تروح وتجيء في الحجرة مطرقة الرأس، كل شيء يمكن أن يختفي إلا هذا، كل شيء يمكن أن يهرب منها إلا هذا! إنها لن تحتمل اختفاءه هو الآخر، لن تحتمل هروبه، فهو الشيء الوحيد الباقي لها، وهو السبب الوحيد الذي يبقيها على قيد الحياة.
وتوقفت عند النافذة وفتحت الزجاج، ولفح الهواء البارد وجهها فأحست بشيء من الانتعاش وقالت لنفسها: إنه الإرهاق، يجب ألا أفكر في البحث وأنا مرهقة، ونظرت من النافذة، كانت اللافتة الكبيرة معلقة في حديد الشرفة، ورأت الشارع بعيدا، والناس يسيرون في طريقهم دون أن يرفعوا رءوسهم إلى أعلى، غير عابئين بمعملها الكيمياوي، وخيل إليها أن أحدا لن يفطن إلى وجود معملها ولن يطرق بابها زبون واحد، ومصمصت شفتيها في أسى، وهمت بأن تغلق النافذة حين لمحت امرأة تقف على الرصيف وتلوي رأسها إلى فوق وتنظر ناحية نافذتها، ودب الحماس في جسمها فجأة، لا بد أنها مصابة بداء النقرس وقد جاءت لتحليل بولها، وأسرعت إلى الحجرة الخارجية التي كتب على بابها حجرة الانتظار، وعدلت بعض الكراسي المعوجة، ونظرت إلى نفسها في المرآة الطويلة بجوار الباب، ورأت الفوطة البيضاء تتدلى إلى ما فوق ركبتها كحلاقي الشعر وغضت الطرف عن فمها المنفرج ونظرت في عينيها، وابتسمت وهي تهمس لنفسها: فؤادة خليل سالم صاحبة معمل للتحاليل الكيميائية، نعم؛ إنها هي.
وسمعت أزيز المصعد يتوقف، وسمعت بابه يفتح ويغلق، وطرقع كعب الحذاء الثقيل العالي على أرض الممر البلاط، وانتظرت فؤادة وراء الباب لتسمع صوت الجرس لكنها لم تسمع شيئا، ففتحت شراعة الباب بهدوء شديد، ورأت ظهر السيدة وهي تدخل من باب الشقة المجاورة لها، وقرأت الرقعة النحاسية الصغيرة فوق الباب: معهد شلبي الرياضي للتدليك والتخسيس.
وأغلقت الشراعة، وعادت إلى الحجرة الداخلية التي كتب على بابها: حجرة التحليل والأبحاث، وأشاحت بوجهها عن الأنبوبة الفارغة، وأخذت تروح وتجيء في الحجرة ثم نظرت في الساعة، كانت الثامنة، وتذكرت أن اليوم هو الثلاثاء، فخلعت الفوطة البيضاء بسرعة وألقتها على أحد الكراسي ثم خرجت إلى الشارع مسرعة .
الثلاثاء الماضي لم يأت، ربما لسبب قاهر، وها هو ثلاثاء آخر، أتراه يأتي في الموعد؟ أيمكن أن تذهب إلى المطعم فتجده جالسا إلى المائدة؟ ظهره ناحيتها ووجهه ناحية النيل؟ إن قلبها يخفق ولكن تهتز داخله تلك الجلطة التي تجمدت وتقلصت وثقلت ككرة الرصاص، إنها لن تجده فلماذا تذهب إلى المطعم؟ وحاولت أن تغير اتجاهها وتعود إلى البيت لكنها لم تستطع، كانت قدماها تندفعان بغير وعي في اتجاه المطعم كحصان جامح شد اللجام من يد صاحبه وانطلق يجري وحده.
وصفع عينيها ظهر المائدة العاري بغير مفرش، والهواء يضربه من كل جانب كصخرة عاتية هرمة في قلب بحر هائج، ووقفت لحظة ساهمة ثم خرجت من المطعم مطرقة، وسارت بخطوات بطيئة وثقيلة حتى وصلت بيتها. •••
كانت أمها في ركن من الصالة تصلي، ظهرها للباب ووجهها للحائط، ووقفت لحظة تتأملها. كان ظهرها المقوس ينحني إلى الأمام فيرتفع طرف جلبابها عن بطن ساقيها، وتركع على الأرض بضع لحظات ثم تنهض واقفة لتنحني مرة أخرى إلى الأمام ويرتفع جلبابها كاشفا عن بطن ساقيها، ورأت فؤادة عروقا كبيرة زرقاء نافرة في بطن ساقيها كالديدان الطويلة المتعرجة، وقالت لنفسها: مرض خطير في القلب أو الشرايين، وركعت أمها على الأرض ثم لوت رأسها ناحية اليمين وهمست ببضع كلمات ثم ناحية اليسار وهمست بالكلمات نفسها ونهضت مستندة بيدها على الكنبة ووضعت قدميها في الشبشب واستدارت لترى فؤادة وراءها. وقالت وهي تبصق في فتحة جلبابها عند العنق: بسم الله الرحمن الرحيم! متى دخلت؟ وقالت فؤادة وهي تجلس على الكنبة تتنهد في إعياء: الآن، وجلست الأم على الكنبة إلى جوارها وقالت وهي تتأملها: يبدو أنك متعبة.
كانت على وشك أن تقول متعبة جدا، لكنها نظرت في وجه أمها ورأت عينيها الواسعتين مشربتين باصفرار واضح لم تره من قبل فقالت: اشتغلت كثيرا فقط، هل تشعرين بتعب يا ماما؟ قالت الأم في دهشة: أنا؛ أي تعب؟ وردت قائلة: في القلب مثلا. وقالت الأم: لماذا؟ قالت فؤادة: لاحظت عروقا نافرة في رجليك وأنت تصلين. وقالت الأم: وما دخل القلب بالرجلين؟ قالت: الدم يمشي من القلب إلى الرجلين.
وشوحت الأم بيديها في لا مبالاة؛ يمشي كما يمشي، أنا لا أشعر بتعب. قالت فؤادة: لا نشعر أحيانا بالتعب لكن المرض يكون كامنا في أجسامنا، من المفيد أن نبحث من الآن، وقالت الأم وهي تربع رجليها فوق الكنبة: أنا أكره الأطباء كالعمى.
অজানা পৃষ্ঠা