من الدواب والسباع أكثر أكلًا منه وأقوى بطشًا وأكثر جماعًا وأولادًا وأطول عمرًا، وإنما يتميز عن الدواب والحيوان بعلمه وبيانه فإذا عدم العلم بقي معه القدر المشترك بينه وبين سائر الدواب وهي الحيوانية المحضة فلا يبقى فيه فضل عليهم بل قد يبقى شرًا منهم كما قال الله تعالى: ﴿إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون﴾ فهؤلاء هم الجهال ﴿ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم﴾ وقال تعالى: ﴿ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء﴾ سواء كان المعنى مثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع من الدواب، إن مثل الذين كفروا حين ينادون كمثل دواب الذي ينعق، فهؤلاء لم يحصل لهم حقيقة الإنسانية التي يتميز بها صاحبها عن سائر الحيوان.
وأيضًا فالجهل من أعظم الأدواء والأمراض، وقد سماه الله مرضًا في قوله تعالى
في حق المنافقين: ﴿في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا﴾ وقوله: ﴿وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون﴾ وفي قوله: ﴿ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض﴾ فإن المراد بمرض القلب فيها مرض الجهل والشبهة، وكذلك أمراض القلب جميعًا من الشهوة وغيرها كالرياء والعجب والحسد والفخر كلها ناشئة عن الجهل، فإنها مركبة من الشهوة والشبهة، فإن الكبر مثلًا مركب من تخيل عظمته وفضله وإرادة تعظيم الخلق له ومحملتهم إياه، ودواء هذه الأمراض كلها العلم، ولذلك أكثر الغزالي ﵀ في المهلكات من ذكر دواء العلم في كل مرض من أمراض القلوب، ولهذا سمى الله تعالى كتابه شفاء لما في الصدور ولذلك أيضًا ترى داء الجهل متلفًا للأموال غالبًا، فرب شخص يتحيل عليه بحلية شرعية يجعلها طريقًا إلى اخذ ماله، ولولا جهله بالشريعة لما تمت عليه.
وأيضًا ما روي عن ابن عمر يرفعه (أفضل العبادة الفقه) وقال عمر ﵁ (موت ألف عابد أهون من نوت عالم بصير بحلاله وحرامه) وما رواه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه عن ابن عمر يرفعه (مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة) وما رواه أيضا من حديث عبد الرحمن بن عوف يرفعه (يسير الفقه خير من كثير العبادة) قال ابن قيم الجوزية في مفتاح دار السعادة: وفي رفعها نظر. وما رواه أيضًا من حديث انس يرفعه (فقيه عند الله أفضل من ألف عابد) وهو في الترمذي من حديث روح بن جناح عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعًا. قال ابن القيم:
1 / 51