يستلزم طي بساط العلم وعدم الحاجة إليه، ولما أن العلوم من لوازم الشريعة وتوابعها كما قررناه واعدنا غير مرة، وإذا ضعف العمل بالملزوم وتسوهل فيه فأولى أن يضعف العمل باللازم ويتساهل فيه، ولذلك لم يبق من العلم سوى رسومه ومعاهده كالمدارس القديمة وسوى ما يوجبه ناموس الإسلام من الاعتراف بحقه ظاهرًا.
فقد اتضح عندك خروج العلوم عن كونها مظنة الاستحقاق ومطية الاسترزاق، وكيف لا وقد صارت الوظائف الدينية تباع كما يباع الفرس والحمار، وهو الذي يسمونه نزولًا وإعراضًا ويوصى بها كما يوصى بالفرس والدار، وهو الذي يسمونه نزولًا أيضًا وتورث كما تورث الأموال يأخذها الصغار والأطفال.
وأنت إذا رجعت علمت أن كثرة الحوادث الخارجة عن الشريعة تحدث في النفوس محاكاة وأثرًا واستدلالًا، وان الناس على دين ملكيهم وهم بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وان الملوك أسواق يحمل إليها ما ينفق فيها، وان الصنائع تدور مع النفاق وجودًا وعدمًا، وان وثوق المحترف من الباعة والحاكة والخاطة بإفضاء حرفهم إلى ثمرتها أكثر من وثوق العلماء بإفضاء علمهم إلى ثمرته الدنيوية، وأن إهمال الصنعة والاستغناء عنها بغيرها يوجب اضمحلالها زوالها، وما نسب لذلك مما تجده وتشاهده من إهمال المنطق والحكمة بالشام واستعماله بالروم والعجم تحققت
أن العلوم خرجت عن كونها صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف. اللهم إلا أن يحييها الله تعالى وينشرها ويبثها في أيام الملك المؤيد وينشرها، فهو الذي عمر المدارس بمصر والشام بمعروفه وبره وبآرائه الموفقة وساطع أمره وقهره وإحياء معالم العلم شرعه وشعره، أبقى الله دولته بقاء الفرقدين وملكه ما بين المشرقين.
(وأما الأمر الثالث) وهو كون العلوم كمالات وطاعات فهو الإنسان إنما ينفصل عن الحيوان بالنطق، وليس المراد به الصوت المنضغط في المجرى على مقاطع الحروف وإلا لكان الأخرس غير إنسان، ولا الكلمات المنتظمة وإلا لكانت الببغاء والغراب إنسانًا، وإنما المراد به النفس الناطقة وهي التي لها الفكر والروية ومحبة العلم والمعرفة، وهي التي تملك الطبائع القياسية وغير القياسية وتكون فلسفية وحكمية وتبحث عن العلوم النظرية، ولها الاستدلال بظواهر الأمور على بواطنها ومعرفة ترتيب الموجودات في الوجود، وهذه القوة كمالها وحياتها بالعلم والبيان، فتميز الإنسان بما هو إنسان بالعلم والبيان وإلا فغير الإنسان
1 / 50