إذا وقع لكم الشك في شخص معين أنه نبي أم لا، فلا يحصل لكم اليقين، إلا بمعرفة أحواله. إما بالمشاهدة، وإما بالتسامع والتواتر. فإنكم إذا عرفتم الطب والحكمة مثلا، يمكنكم أن تعرفوا الأطباء والحكماء، بمشاهدة أحوالهم، وسماع أقولهم، وإن لم تشاهدوهم، فلا تعجزون عن معرفة كون جالينوس طبيبا، وكون أفلاطون حكيما، معرفة بالحقيقية، لا بالتقليد للغير بأن تطالعوا كتبهما، وتصانيفهما، بعد معرفتكم بالطب والحكمة فيحصل لكم العلم الضروري بحالها، فإذا فهمتم معنى النبوة فأكثروا من مطالعة كتب الأنبياء، وأخبارهم، وكيف كانت سيرهم وأحوالهم، فإذا قال قائل: إن هذا المنقول عنهم، خرافات وكذب، فنقول له: ما بال الناس، لا ينقلون نقلا متواترا، عن غير الأنبياء، مثل ما نقلوا عن الأنبياء وأكثر الأمور، التي نقلت عن الأنبياء، مما يدل على صدقهم، متواترة يجزم العقل بأنها موجودة. والتواتر مفيد للعلم وحقيقة التواتر هو أن يخبر جماعة يبعد تواطؤهم على الكذب عادة، عن أمر محسوس، فيحكم العقل به، بمجرد خبرهم، فيحصل العلم الضروري - ولا شك - في هذا، إذ لا طريق للعلم الضروري بالبلاد البعيدة مثل الصين وأمريكة والأشخاص الماضية كحاتم وعنترة وجالينوس وأرسطو، إلا بالتواتر وجميع الأنبياء، إنما ثبتت نبوتهم، عندنا، وعند كل من لم يشاهدهم ويعاصرهم بالتواتر. لأنه نقل إلينا - بالتواتر - أحوالهم، وسيرهم، وظهور الخوارق على أيديهم. فإن رددنا التواتر، وما قبلناه واقتصرنا على ما نشاهده، يلزمنا بطلان نبوة جميع الأنبياء بل يلزمنا عدم التصديق بوجود البلاد التي لم نشاهدها وعدم الأشخاص الذين لم نشاهدهم. وهو ظاهر البطلان وإن اعترفنا بصحة التواتر، لزمنا الاعتراف بنبوة جميع الأنبياء. والنبي، يدعو الناس، إلى عبادة الله ولا ضرر عليه، لو خالفه الناس أجمعون، ومثال الرسول، مع الذين ما صدقوه، ولا أجالوا خواطرهم، بالنظر إلى صحة قوله، مثال رجل يقول لآخر: إن وراءك سبعا ضاربا. فإن لم تهرب، قتلك وإن التفت وراءك ونظرت، عرفت صدقي فيقول الواقف: أنه لا يثبت صدقك عندي، إلا إذا نظرت والتفت ورائي، ولا ألتفت ورائي إلا إذا ثبت صدقك، وهذا كلام يدل على حماقة هذا القائل، وتعرضه للمهالك ولا ضرر فيه على هذا المخبر فكذلك الرسول يقول: ورائكم الموت، ووراء الموت السباع الضارية، والنيران المحرقة فإن لم تحذروا منها، وتعرفوا صدقي، بالنظر في أحوالي، ومعجزاتي، هلكتم، فمن التفت ونظر، عرف ونجا، ومن لم يلتفت، ولم ينظر، هلك. ولا ضرر علي، ولو هلك الناس أجمعون، فالرسول يعرف بوجود السباع الضارية، بعد الموت. والعقل يفهم كلامه، ويحكم بإمكان وقوع ما يقوله في المستقبل. والطبع، من شأنه الحذر من الضرر.
وأساس الديانة، وأصولها، لا خلاف فيها، بين الأنبياء من آدم، إلى محمد، فكلهم، يدعون الخلق إلى توحيد الإله، وتعظيمه واعتقاد أن كل شيء، ولا علة لوجوده، هو - سبحانه وتعالى - وإلى حفظ النفس والعقل، والنسل والمال، فهذه الكليات الخمس، لا خلاف فيها، بين الأنبياء، وجميع الشرائع متفقة عليها. وحاصلها يرجع إلى تعظيم الإله، والشفقة على مخلوقاته.
وطريان النسخ على هذه الكليات الخمس: محال. وإنما النسخ، يمكن في الشرائع الوضعية وهي الأشياء، التي يجوز ويصح أن لا تكون مشروعة، دون الأحكام العقلية، كتوحيد الإله، وما ذكرنا معه من الكليات فإن العقول والشرائع، متوافقة على لزوم حفظها، والخلاف بين الأنبياء في كيفية حفظها، ووضع القوانين، لدوام بقائها محفوظة.
وفائدة النسخ وحكمته، إما على تقدير ، كون الأحكام الشرعية، معللة بمصالح العباد، واللطف بهم، فيكمن أن تختلف مصالح الأوقات، فتختلف الأحكام بحسبها. كمعالجة الطبيب، فإنه قد يأمر بشرب دواء خاص، في وقت، دون وقت فربما كانت المصلحة، في وقت آخر، ارتفاعه، لاشتماله على شيء، تلزم رعايته، وفي وقت آخر، ارتفاعه، لاشتمال رفعه، على مصلحة أخرى، حادثة بعد زوال الأولى، وما على تقدير، أن الأحكام الشرعية، مستندة إلى محض إرادة الله، من غير مراعاة مصلحة، فالأمر هين، لأنه - تعالى - هو الحاكم المطلق، الفعال لما يريد. فيجب أن يضع حكما، ويرفع حكما، لا لعلة وغرض، فكما لا تنافي، بين الأمر المقتضي لوجود الحادث، في ورقت وبين الأمر، المقتضى لفنائه، في وقت آخر، كذلك ليس بين تحليل الشيء، في زمان، وتحريمه في زمان آخر، تناف أصلا.
পৃষ্ঠা ১৭