فإن قال قائل : فما وجه الدليل ؟ قلنا : الآية تقتضي الحدوث حسا وعقلا بقوله : ( إن في خلق السموات والأرض ) وإنما تدرك خلقتهما بالمشاهدة أو بالعقل فقد عقب الله تعالى بذكر اختلاف الليل والنهار لأن اختلافهما يدرك بالحس ، فمجيء هذا مرور هذا حسا ، وذكر جريان الفلك لحدوث المنافع ونزول ماء السماء بعد إن لم ينزل لحياة الأرض بعد موتها وظهور النبات والزهر والورق والثمر بعد أن لم يكن ، وبث فيها من كل دابة أمر ظاهر في نسل الحيوان معدوم في الموتان ، وتصريف الرياح في الجهات والسحاب المسخر بين السماء والأرض أحيانا في الأوقات على اختلاف الصفات ، فالحدوث ظاهر بالحس ضرورة فمن أنكره أنكر الضروريات الحسية ، فإذا ثبت الحدوث ثبت المحدث واقتضاه عقلا .
واعلم أن جميع ما خاطب الرب تعالى به المشركين في القرآن - الذين لا يقرون بالقرآن ولا النبوة - من الأمور العقلية ، لأن الأمور العقلية ضرورية فمن أنكر الأمور الضرورة كابر وتجنن ، وفي القرآن تنبيه على ما قلنا قوله - عز وجل - : ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود ) إلى قوله - ( أفي الله شك فاطر السموات والأرض ) . فأثبت الأنبياء عليهم السلام انتفاء الشك في المحدث الفاطر عمن انتفى عنه الشك في الفطور وهو الذي يقتضيه العقل وإليه الإشارة بالآية الأولى في قوله : ( والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) . وحدوث المدينة في الموضع الذي لم تكن فيه لمن جاز عليه قاعا صفصفا فرجع فوجدها مدينة عجيبة البيان مزينة الحدثان لها شأن من الشأن تحار في صناعتها العينان فدلت على محدثها عقلا ، فمن امتنع من هذا تسفسط ولم يفطن وصار ألنا ولم يبرهن ، وانتقل من الدرجة العليا إلى الدرجة السفلى وخرج من حيز العقلاء إلى حيز الأنعام ، بل هم أضل سبيلا وأجهل جهيلا .
পৃষ্ঠা ৩১