الدليل والبرهان لأبي يعقوب الوارجلاني
الدليل والبرهان
الجزء الأول
تأليف الإمام أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني رحمه الله تعالى
[ تمهيد ] (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
ما شاء الله لا قوة إلا بالله
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ، الحمد لله العليم الحكيم رب العرش العظيم ، الرحمن الرحيم الذي لم يخلق الخلق باطلا ، ولم ينشأهم لاعبا ولم يجعلهم عابثا ولم يتركهم سدى ، ولم يمنعهم هدى ، خلق فسوى وقدر فهدى ، وأوضح منهاج السبيل لأهل العقول بأنوار الدليل وسنن الجليل ، فشفى الغليل وكفى العليل مؤنة الدخيل ، سبحانه .
والصلاة والسلام على نبي الرحمة ، هادي الأمة محمد بن عبد الله وعلى سائر الأنبياء الجم الغفير والأولياء الجمع الكثير أنه على ما يشاء قدير .
পৃষ্ঠা ৮
أما بعد : فإن الله تبارك وتعالى فطر هذا الجنس العاقل فجعله أفضل الخلق أجمعين ، وخلق الإنسان خيرا فجعله أفضل العالمين ، وخلق الأمم أمة بعد أمة فجعل هذه الأمة أفضل الأولين والآخرين بشهادتهم يوم الدين على رؤوس العالمين ، فقصر الحق على الفرقة الثالثة والسبعين وما سواها في الهلاك والردى أبد الآبدين ، وجاء الشرع بمصداق ما قلنا ؛ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : (( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلهن إلى النار ما خلا واحدة ناجية وكلهم يدعي تلك الواحدة )) . الحديث .
وفي حديث جبير بن نفير (( ستفترقون على إحدى وستين فرقة )) وفي حديث آخر (( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة . وستفترقون على ثلاث وسبعين فرقة )) الحديث . وفي حديث آخر (( افترقت النصارى على إحدى وسبعين فرقة واليهود على اثنتين وسبعين فرقة وأنتم على ثلاث وسبعين فرقة )) الحديث ، والحديث من المسندات وليس من المتواتر ، ولأصحاب الحديث عكسه يرون أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلهن إلى الجنة ما خلا واحدة إلى النار ، ولأصحاب الحديث حظهم ،وقد وردت أحاديث كثيرة في الأمة يخص بعضها بعضا ويعم وينسخ ويفسر .
(( باب )) اختلاف الناس في الأمة
قال بعضهم : الأمة جميع من أرسل إليه رسول الله عليه السلام من الجن والإنس والأحمر والأسود، ودخل في جملة هذا جميع المشركين من السوفسطائية والدهرية والثنوية والديمانية والمرقونية وأصحاب الطبائع والخرمية و يأجوج و مأجوج واليهود والنصارى والذين أشركوا ، وجماعة الموحدين أجمعين وأهل التشبيه منهم ، والخضر والياس وعيسى إذا نزل ، ليس إلا الملائكة .
وقالت طائفة : من أمته من آمن به من الموحدين والمشبهة والرافضة والمجسمة والشيعة .
পৃষ্ঠা ৯
وطائفة يقولون : إنما أمته من آمن به وصدقه وصح توحيده .
وطائفة يقولون : إن أمته الفرقة المحقة .
وكل صدقوا ، ولكن هذا مبهم .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : (( إن معكم خليقتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج و مأجوج )) وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان في سفر له يمشون أوان الظهيرة إذ نزل جبريل عليه السلام بأول سورة ( يا أيها الناس اتقوا ربكم أن زلزلة الساعة شيء عظيم ) فرفع بها رسول الله عليه السلام عقيرته فثاب إليه الناس فقال : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم ) إلى قوله : ( شديد ) فقال عليه السلام : (( أتدرون أي يوم هذا ؟ )) قالوا : ( الله ورسول أعلم ) . فقال : (( يوم يقول الله فيه لآدم : قم ابعث بعث النار . فقال آدم وما بعث النار ؟ فقال تعالى : من كل ألف تسعة وتسعين وتسعمائة إلى النار وواحد إلى الجنة )) . هناك يشيب الصغير ويهرم الكبير ( وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكرى ) الآية ، فتفرق أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وضوضؤوا ، فناداهم أن هلموا فثابوا إليه ، وقال : (( ابشروا إن معكم خليقتين ما كانتا في شيء إلا كثرته يأجوج و مأجوج تسعة وتسعون وتسعمائة إلى النار وواحد منكم إلى الجنة )) .
فأوجب عليه السلام أن يأجوج و مأجوج من أمته فوجب على هذا الحديث أن أمة محمد عليه السلام إلى التسعمائة أقرب من إلى الثلاث والسبعين فرقة .
পৃষ্ঠা ১০
وقوله عليه السلام : (( لا تقوم الساعة على مؤمن )) وقوله عليه السلام : (( لا تقوم الساعة إلى على دين أبي جهل ودينه الشرك )) . وقوله عليه السلام : (( لتتبعن آثار من قبلكم حتى أنهم لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه حذو النعل بالنعل )) - ويروي خشرم دبر - قالوا : ( اليهود والنصارى يا رسول الله ؟ ) قال : (( لا )) قالوا : فمن إذا ؟ قال عليه السلام : (( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس على ذي الخصلة )) - وذو الخصلة صنم كانوا يعبدونه في الجاهلية - وهؤلاء من أمته . وروى عنه أنه قال : (( القدرية مجوس هذه الأمة والمرجئة يهودها )) وهما من أمته . وعنه عليه السلام أنه قال : (( رأيت في المنام سوادا . فقلت يا جبريل من هؤلاء ؟ أهؤلاء أمتي ؟ فقال : لا ، هذا موسى في أمته )) ثم قال : (( فرأيت سوادا أعظم من الأول . فقلت : يا جبريل من هؤلاء ، أهؤلاء أمتي ؟ فقال : هذا عيسى في أمته )) . قال : (( ثم نظرت فرأيت سوادا أعظم من الأولين ، قد سد ما بين الأفق ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ، فقال : هؤلاء أمتك لك معهم سبعون ألفا يحشرون عن يمين العرش كأن وجوههم القمر ليلة البدر ولا يحضرون المحشر )) .
فقام عكاشة بن المحصن فقال : ( ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم ) فقال : (( أنت منهم ، أو قال : اللهم اجعله منهم )) ، ثم قام سعد بن عبادة فقال : ( ادع الله أن يجعلني منهم ) . فقال : (( سبقك بها عكاشة وبردت الدعوة )) . ثم دخل عليه السلام بيته ثم خرج فقالوا : ( هؤلاء من الأنبياء أو من أبنائنا وأما نحن فقد ذقنا الشرك ) . فقال : (( بلى رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين )) فقالوا : ( احلهم لنا يا رسول الله ) فقال : (( لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون )) .
পৃষ্ঠা ১১
وعنه عليه السلام أنه قال : (( زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها )) . وقال عليه السلام : (( نحن الآخرون الأولون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم )) .
في فضائل هذه الأمة
قال الله عز وجل : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) الآية . وقال عليه السلام : (( أمتي أمة مرحومة )) إشارة إلى قول الله - عز وجل - لموسى حين قال موسى ( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) إلى قوله : ( الذي يجدونه مكتوبا ) الآية . وقال عليه السلام : (( أنتم توافون سبعين أمة أنتم خيرها وأفضلها عند الله )) قال عليه السلام : (( أمتي كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره )) وقال أيضا : (( أول أمتي خير وأوسطها وأخرها همج رعاع لا خير فيهم )) ، وقال عليه السلام : (( للعامل من أمتي في آخر الزمان أجر خمسين منكم )) يريد أصحابه . وقال عليه السلام : (( أهل الجنة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون )) .
وقال عليه السلام : (( خير أمتي لأمتي أبو بكر ثم عمر )) ، وروي : (( وأصلبها في دين الله عمر ، وأمينها أبو عبيدة بن الجراح ، وأقضاكم علي وأفرضكم زيد بن ثابت ، وأقرأكم أبي بن كعب ، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وإن مع سلمان لعلما ، عليكم بهدي عمار وبهدي ابن أم عبد )) . ولابد من قيام المهدي في آخر الزمان يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا .
পৃষ্ঠা ১২
قال : (( ولكل نبي دعوة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي )) وعن الحسن قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( خير أول أمتي متزوجوها وأخرها عزابها )) ، وعنه عليه السلام : (( لا تزال أمتي بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا )) . وعن أبي هريرة قال : مر النبي عليه السلام على مقبرة فقال : (( سلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وإنا بكم لاحقون إن شاء الله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، وددت أني رأيت إخواني )) فقالوا : ( ألسنا بإخوانك يا رسول الله ) قال : (( بل أنتم أصحابي ، إخواني قوم يأتون من بعدي وأنا فرطهم على الحوض ، وليذادن رجال عن حوضي يذاد البعير الضال ، فأناديهم : ألا هلم ألا هلم ، إنهم أصحابي ، فيقال : ليسوا بأصحابك إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك )) ، وفي رواية : أنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : (( فسحقا فسحقا )) .
وعنه عليه السلام أنه قال لأصحابه : (( أي الخلق أعجب إيمانا ؟ )) فقالوا : ( الملائكة ) ، قال : (( الملائكة عند ربهم فما لهم لا يؤمنون )) وفي رواية : قالوا ( الأنبياء ) ، قال : (( الأنبياء يأتيهم وحي من ربهم فما لهم لا يؤمنون )) قالوا : ( نحن أصحابك ) ، قال : (( أنتم أصحابي تسمعون مني وتروني فما لكم لا تؤمنون )) فقالوا : (( الله ورسوله أعلم ) ، قال : (( أعجب الخلق إيمانا قوم يأتون من بعدي فيؤمنون بي ويعملون بأمري ولم يروني ، فأولئك لهم الدرجات العلى إلا من تعمق في الفتنة )) . وقال عليه السلام : (( خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم يحبون السمن تسبق يمين أحدهم شهادته )) . وقال عليه السلام : (( أنتم ثلثا أهل الجنة )) .
পৃষ্ঠা ১৩
آفات الأمة قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( ستفترق أمتي )) الحديث ، وقال عليه السلام : (( هلاك أمتي رجلان عالم فاجر وعابد جاهل )) ، وقال أيضا : (( إذا ظهرت البدع في أمتي وكتم العالم علمه فعليه لعنة الله )) ، وعنه عليه السلام : (( ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل بالها على أهل حقها )) . وقال عليه السلام : (( أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم وجدال منافق بالقرآن )) . وعن أبي ذر قال : (( سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتخوف على أمته ستا : إمارة السفهاء ، وكثرة الشرط ، وبيع الحكم ، والاستخفاف بالدم ، وقطيعة الرحم ، وقوما يتخذون القرآن مزاميرا يقدمون الرجل منهم ليس بأفقههم إلا ليغنيهم )) . وعن أبي هريرة عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : (( هلاك أمتي )) أو قال : (( فساد أمتي على رؤوس أغلبية من سفهاء قريش )) وعن ابن عباس عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : (( هلاك أمتي في المعصية والقدرية والرواية عن غير ثبت )) وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : ( لتدعون هذه الأمة مما لو دعا به القرون الأولى عاد وثمود لاستجيب لها ولا يستجاب لهذه الأمة ) .
وعن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال : (( أتدرون من المفلس )) قالوا : ( المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم له ولا متاع ) فقال : (( إنما المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وقد شتم هذا وضرب هذا وقذف هذا ، فيقتص لهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار )) . وذكر ضمام هذا الحديث فأوجب القصاص في الحسنات ولم يذكر إلقاء الخطايا عليه ... وقال تعالى : ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ) .
وعن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( يكون القوم من أمتي فطن في تجارتهم خرق في أمر أخرتهم يموتون لا خلاق لهم )) .
পৃষ্ঠা ১৪
وعن راشد بن سعد أن النبي عليه السلام قال يوما وعنده نفر من قريش : (( ألا إنكم ولاة هذا الأمر من بعدي فلا أعرفن ما شققتم على أمتي ، اللهم من شق على أمتي فشق عليه )) . وعن أبي هريرة عنه عليه السلام أنه قال : (( يهلك أمتي هذا الحي من قريش )) ، قالوا : ( فما تأمرنا ، قال : (( لو أن الناس اعتزلوهم )) أو قال : (( تركوهم )) ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( ما أخاف على أمتي إلا ضعف اليقين )) . قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لكعب : ( ما أخوف شيء تخافه على أمة محمد ) ، قال : ( أئمة مضلون ) ، قال له عمر : ( صدقت قد أسر إلي ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلمنيه ) ، روى ثعلبة بن مسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم إنك ظالم فتودع منهم )) . وعنه عليه السلام قال : (( رأيت رجلا قد أخذته الزبانية من كل مكان فجاء أمره بمعروف ونهيه عن منكر فاستنفذاه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة فصار معهم )) .. وقال : (( صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة إمام ظلوم غشوم وغال في الدين مارق )) ، وعن جعفر بن برقان عن الزهري عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : (( (( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ، ومن خرق فاخرق به )) وقيل عنه عليه السلام أنه قال : (( ما أشد ما أتخوف على أمتي الشيطان والدجال ولكن أشد ما ألقى عليهم الأئمة المضلون )) .
পৃষ্ঠা ১৫
وعنه أيضا إنه قال : (( من ولي من أمة محمد شيئا فلم يعدل فيها فعليه بهلة الله )) قالوا : ( وما بهلة الله ؟ ) قال : (( لعنة الله عز وجل )) .. وعن الحسن عنه عليه السلام قال : (( لا تزال يد الله تعالى على هذه الأمة وكنفه ما لم تعظم أبرارهم فجارهم ، وما لم يرفق خيارهم بشرارهم ، وما لم تمل قراؤهم إلى أمرائهم ، فإذا فعلوا ذلك رفعت عنهم البركة وسلطت عليهم الجبابرة فساموهم سوء العذاب وقذف في قلوبهم الرعب وألزق بهم الفاقة )) .
حدثنا علي عن الحسن بن واقد الحنفي قال : أظنه من أحاديث بهز بن حكيم قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( إذا كانت ثمانين ومائة فقد أحلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب رؤوس الأجبال )) ، وعنه عليه السلام إنه قال : (( الخائف يوم القيامة من خافته أمتي من غير سلطان )) ، ومن كتاب ذكر الطاعة والمعصية عن عبد الرحمن بن عبد الكفيف ( .. أتيت إلى عبد الله بن عمر وهو جالس في ظل الكعبة والناس حوله مجتمعون فسمعته يقول : قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فخطبنا فقال : (( إنه لم يكن نبي إلا كان حقا على الله أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم ، وينذرهم ما يعلمه شرا لهم ، وأن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها وأن آخرها يصيبهم بلاء وأمور ينركرونها ، وتجيء الفتن يدفن بعضها بعضا ، تجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف ، فمن سره منكم أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه موتته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه )) .
وإنما أغرقنا في النزع في هذه الأمة وتقصيناها ما قدرنا ليتفق لنا الجمع بين قوله عز وجل : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) إلى قوله : ( وأكثرهم الفاسقون ) . وبين قول النبي عليه السلام : (( ستفترق أمتي )) ... الحديث .
পৃষ্ঠা ১৬
ونستظهر بما عاينا ورأينا من بلوغ هذه الأمة طرفي الأرض شرقا ومغربا وإذ أعاذهم الله تعالى من عبادة الأوثان واتخاذ غيره ربا من غير أن تخل بشيء من طرق أهل الحق فالأصل السلامة ، ما خلا صنفين منها : المبتدع في دين الله عز وجل والمصر على معصية الله - عز وجل - المبائن لله ، فهذان لا سبيل لهما إلى الجنة ولابد من بيانهما وتحديد شأنهما على أنهما من أهل الشهادة لله - عز وجل - والإيمان به نطقا واعتقادا ، ومن أين افترقا مع سائر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله ومع سائر أهل الإجرام الذين شابوا دينهم بالفجور وعقبوا التوبة والندم ، وسيأتي في موضعه التفرقة بينهما وبينهم . والله الموفق للصواب .
اعلم أن الله تعالى وعد النصر والظفر لهذه الأمة على سائر الأديان قال الله - عز وجل - : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات - إلى قوله : ( أولئك هم الفاسقون ) وقال : ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) وقد فعلوا وفعل .
وقال : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) إلى قوله : ( وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ) الآية - وفي أمثالها من القرآن ، وعد هذا الدين أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركين ، فجاهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أظهره الله على العرب قاطبة كما قال : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) إلى قوله : ( توابا ) .
ثم توالى أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فارتدت العرب بعد رسول الله عليه السلام بعد دخولهم في دين الإسلام فقاتلهم أبو بكر ففتح الله له وردهم إلى الإسلام كأول مرة .
ثم ولي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فافتتح مايلي جزيرة العرب من العراق والجزيرة والشام ومصر وطرابلس وفارس وكرمان فمات - رحمه الله - .
পৃষ্ঠা ১৭
فولي عثمان بن عفان فافتتح ما وراء الدروب من الشام والماهان وأذربيجان وخرسان بعد الري وحلوان وأرض التبت وسجستان وأرض إفريقية ، وكانت الفتوح هكذا متوالية في أطراف الأرض مع تغير الولاة والخلفاء وفسادهم مقدار مائتي سنة .
آخر المائتي ظهر الأئمة الضالون المضلون فوزعوا أمة محمد - عليه السلام - ومع ذلك يصحبهم النصر والظفر ووصلوا القسطنطينية ورومة إلى أرض الصقالبة وراء خرسان وسمرقند وترمذ وبخارى وغزنة ، فجار الإسلام هذه النواحي كلها ومن ورائها إلى الصين وإلى الهند والسند والبر الكبير وبريطانية وغيرها ، فصار جميع ما ذكر في حمك الإسلام وأسلم أهلها ومن لم يسلم صار ذا ذمة ، وظهرت المساجد والجموع والجمع والجماعات والأذان ، ففي هذه الثلاث مائة الغالب على الدنيا الإسلام والخير كما قال أبو حمزة المختار بن عوف - رحمه الله - حين خطب أهل المدينة فقال : يا أيها الناس ، الناس منا ونحن منهم إلا عابد وثن أو ملكا جبارا أو شادا على عضديه ) فالغالب على الدنيا الإسلام . وظهرت الأئمة الضالة آخر المائتي سنة ، ولم تظهر أقاويلهم وأصحابهم إلا بعد مائة أخرى ، فجمهور الأمة على الحق إلا من بلغته البدعة فرضي بها وقليل ما هم عاد ، ودخول مذهب مالك المغرب عام تسعة وأربعين وخمسمائة عند دخول المتلثمين المغرب وظهور العرب ، وأما مصر فما ظهرت فيها الشيعة إلا عند الحاكم بن أبي تميم ، ودخول أبي تميم مصر اثنين وستين وثلاثمائة ، وهؤلاء المتأخرين هم الذين انتصروا للأئمة بعد ما مضى من عمرهم أعمار صالحة .
পৃষ্ঠা ১৮
والذي وقع عليه الإحصاء من الطوائف الهالكة في هذه الأمة ثلاث القدرية والمرجئة والمارقة على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال عليه السلام : (( طائفتان من أمتي لا تنالهما شفاعتي المرجئة والقدرية وهما ملعونتان على لسان سبعين نبيا )) ، فأما القدرية والمارقة فما يزيدان في عدد هذه الأمة ولا ينقصانها فهما كالرقمتين في ذراع الحمار لقلتهما وذلتهما ، فإما المارقة فقد قال فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( إن ناسا من أمتي يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فتنظر في النصل فلا ترى شيئا وتنظر في القدح فلا ترى شيئا وتتمارى في الفوق )) هم كما ذكرنا قليلون لا يعبأ بهم ، وأما المرجئة إن وقعوا في سهم السنية فهم كثير ، والسنية تتقي منهم ، وسنذكرهم فيما بعد إن شاء الله .
ومن وراء هذه الثلاث ثلاث أخرى لم يذكرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم الشيعة ومذاهبهم في علي بن أبي طالب وولده كأنهم ليسوا في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد أشار إليهم رسول الله عليه السلام فقال : (( شر أفراق هذه الأمة فرقة تنتحلك يا علي ولا تعمل بأمرك )) كما لأنهم خارجون من هذه الأمة إلا شواذهم فهم متاخمون بلاد الترك وبلاد النصارى وأرمينية ونظائرها ، ومنهم المشبهة فهم على أسلوبهم ومذهبهم في الله تعالى مذهب الأطفال عند الآباء ، ومنهم المجسمة صرحوا في الرجوع إلى عبادة الأوثان والأصنام والأشباح .
পৃষ্ঠা ১৯
وأما هؤلاء السنية ومذاهبهم في الفتنة والصحابة ذلك أمر متعلق بالرجال دون النساء ولاسيما من فقد الاستبصار وقصر عن درك حقائق الأخبار ، والبدع متفرقة فكل بدعة تشرع هدم قواعد الإسلام فهي الطامة العامة التي تبلغ الرجال والعيال ، وأما التي تقتصر على الأخبار ولم تجاوز إلى هدم قواعد الإسلام كالاختلاف في أسماء الشريعة من مؤمن ومسلم وكافر وفاسق ومشرك ومنافق وفي القرآن والصفات فأكثرها تضر هذه المعاني قائلها لا سامعها ما لم يعتقدها دينا يدان الله تعالى به أو يقطع عذر مخالفيه من المسلمين أو هدم به قاعدة من قواعد الإسلام هنالك لا يعذر ، ومن اقتصر على قواعد الإسلام من الشهادة والصلاة والزكاة والصوم وحج البيت من استطاع إليه سبيلا فعسى عسى ، وكذلك من كان بالثغور من أرض العدو ولم يبلغه إمامه إلا قواعد الإسلام ولم يبلغه ما شجر بين الأمة أو بلغه ولم يفهمه ، فإن فهم لم يقطع الشهادة عليه فعسى عسى، والقول على الرجال ، وأما العيال والنسوان والبله والولدان فهم بعيدون عن هذا ، وكذلك أهل بلاد السودان الذين لم يبلغهم الإسلام إلا من بعد الخمسمائة سنة من الهجرة ولم يعرفوا التفرقة بين المذاهب والأفراق ، فالرب أرأف وأرحم من أن يؤاخذ أحدا بذنب غيره وقد قال الله ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) .
পৃষ্ঠা ২০
فإن قال قائل فإن الله تعالى قد آخذ اليهود بما فعلته آباؤهم من قتلهم الأنبياء واستحلالهم الحرام وقد قال الله - عز وجل - لهؤلاء من بعدهم ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ) على أن هؤلاء الذين عيرهم لم يدركوا أنبياء الله من قبل ولا أدرك زمانهم زمان الأنبياء ، فالجواب : أن هؤلاء اليهود الذين عيرهم الله بقتل آبائهم الأنبياء ولم يقتلوهم إنما عيرهم على أتباع الآباء ، على أنهم يعرفون أنهم قتلوا الأنبياء واشتهر ذلك عندهم تغني عن الدلالة عليهم ، وذلك أيضا معروف الفساد قتل الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس ، وظهور قبح ذلك أيضا كذلك ، وإنما الكلام على من بلغته البدعة في الدين والشبهة بغير يقين وربما يقصر علمه عن ذلك ولم يوال أئمته على ذلك ولم يوالهم إلا على ما ظهر له من شريعة الإسلام من الصلاة والزكاة والصوم والحج ، على أن اليهود أشركت بردهم نبوءة محمد ورسالته ( صلى الله عليه وسلم ) فكل سوء في الدنيا لهم فيه نصيب حين عبدت غير الله ، فليتهم كل مقلد إمامه في مثل هذا ، فإن من كان بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غير معصوم ، ولك في أهل صفين أسوة حسنة وذلك أنهم في مائة ألف أو يزيدون استبصروا أولا في قتل طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص ، وإمامهم علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والمهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان ومع ذلك لم يقيموا الحجة على سعد بن أبي وقاص أحد الشورى وعلى زيد بن ثابت ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر بن الخطاب ولم يقطعوا عذرهم في التوقف عنهم ، فلهؤلاء استبصارهم ولهؤلاء شكهم كل يعمل على شاكلته وربك يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون .
পৃষ্ঠা ২১
باب : آفات الأمة في دينها أولها زلة عالم : - قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم وجدال منافق بالقرآن )) فأما زلة عالم فمثل زلة عثمان حين زل عن طريقة صاحبيه بعد ما وقع الإجماع عليها ، وزل في أربعة أمور أولها : استعمال الخونة ولم يكن على قفائهم ، والثاني : حين صرف مال الفيء إلى من اشتهى من أقاربه دون مستحقه من أهله ، والثالث : أبشار وهتك أستار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والرابع : في البغي في أحد الأفعال ، ومن شبهة أنه أشرف يوم الدار على محاصريه فقال لهم : ( أناشدكم الله ألم تسمعوا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : (( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : خلال كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل النفس التي حرم الله )) وأنا ما زنيت ولا كفرت بعد إيمان ولا قتلت النفس ) وغفل عن التي نص الله عليها في القرآن حيث يقول : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) إلى قوله : ( حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما ) فلو كلفنا الإصلاح بينهما لقلنا لعثمان أعدل وللمحاصرين كفوا ، وأئمتهم علي وطلحة والزبير وعمار ، فإن عدل عثمان أمرنا المحاصرين بالكف فإن أبوا قاتلناهم ، وإن أمرنا عثمان بالعدل فلم يعدل فإن أبى قاتلناه ، فطلبوه أن ينخلع عن أمورهم فإبى وقد اتهموه على دينهم كما قال عمار بن ياسر - رحمه الله - : ( أراد أن يغتال ديننا فقتلناه ) والمرجوم في الونا مقتول والطاعن في دين المسلمين حلال قتله ، قال الله تعالى : ( وطنعوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ) .
زلة علي في التحكيم : نهى أول مرة عن التحكيم فقال : ( إنه كفر ) ، ثم رجع عوده على بدئه وقال : ( من أبى التحكيم فهو كافر ) ، وقتل أصحاب معاوية وقد دعوه إلى التحكيم حياة عمار ، وقتل أهل النهروان وقد نهوه عن التحكيم فقتل منهم أربعة آلاف أواب كما قال ابن عباس : ( قتل المحق منهم والمبطل ) .
পৃষ্ঠা ২২
زلة طلحة والزبير في نكثهم الصفقة حين بايعا عليا فنكثا ، فإن أرادا توبة مما فعلاه بعثمان حيث يقول طلحة : ( خذ مني لعثمان حتى يرضى ) فقد أخطأ ، إنما يرضى الله تعالى أن لو أقادا من أنقسهما لولي دم عثمان وسلما من نكث الصفقة ، وشرعا دين الخوارج دينا فلهما أجور الخوارج أو أوزارها ، على أن الخوارج إنما خرجوا على الأئمة الجورة أحرى بهم في الخروج لولا الاستعراض .
زلة الخوارج نافع بن الأزرق وذويه حين تأولوا قول الله تعالى ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) فأثبتوا الشرك لأهل التوحيد حين أتوا من المعاصي ما أتوا ولو أصغرها .
زلة مولى بني هاشم حين شرع في أولاد المشركين إنهم كفار ، وتأول قول الله تعالى في أطفال قوم نوح قال الله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام : ( ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) فأثبت الشرك للأطفال ودخول النار .
وزلة واصل بن عطاء بن عبيد : وذلك أن واصل بن عطاء آتاه الله الفهم والعلم والفصاحة شيئا عظيما غير أن الراء يتعذر على لسانه فصار يتجنبه في كلامه ، قال قطرب وأنشدني ضرار بن عمرو قول الشاعر في واصل :
পৃষ্ঠা ২৩
وسئل عثمان البري كيف كان يصنع في الأعداد عشرة وعشرين وأربعين وبالقمر ويوم الأربعاء والشهور وصفر وربيع وجمادى الآخرة ورجب ورمضان ؟ فقال : ما لي فيه قول إلا ما قال صفوان :- ومكث - قالوا - في مجلس الحسن عشرين سنة ما تكلم ، وسبق إليه طريق المعتزلة والقدرية وهو إمامهم ، وكانت له فراسة في عمرو بن عبيد وطمع في أن لو أصابه على مذهبه أن يكفيه ويشفيه ، فاستعمل الحيلة حتى اجتمعا في محفل عظيم فيه المرجئة والسنية والمثبتة وغيرهم ، فلما اجتمعوا قالوا لهم : انزعوا لنا آية من القرآن في أول مجلسنا نتبرك بها فاستفتح قارئ وأخذ في أول سورة ( لم يكن الذين كفروا ) إلى قوله : ( البينة ، رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة ) حتى أتم ( وذلك دين القيمة ) . فوقف فيها ، واستفتح واصل الكلام وحمد الله تعالى وأثنى عليه فقال : (إن الله تعالى أنزل كتابه وبين فيه مراده فرد هذا عليه ) وأشار إلى المرجي بعد قول الله تعالى : ( وذلك دين القيمة ) فقال هذا : ( بل الدين أن تقول لا إله إلا الله ولو لم تلتبس بشيء من الأعمال الصالحات ولم تدع شيئا من الأعمال الطالحات ) . فالتفت إلى المثبتة فقال : ( وهذا الذي قال إن ليس لنا حظ في الأعمال والأفعال وأشار أن الله تعالى جبرنا إلى أفعالنا بعد ما قال الله تعالى : ( أولئك هم شر البرية ) فكانوا هم شر البرية بفعل غيرهم ، ثم قال في المؤمنين ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) إلى آخر السورة ، فأثبت هؤلاء أن ليس لهم في الأفعال شيء إنما فعل بهم ورضي عنهم بما لم يفعلوا ) وأخذ ذلك بمسامع عمرو بن عبيد وانتصب لمذهب القدرية فلم يقم له أحد فزل زلة عظيمة ، ووددت أن لو حضرها النكار أن يعرض بهم في قولهم في الرضى والسخط والولاية والعداوة والحب والبغض .
পৃষ্ঠা ২৪
وزلة السنية أيضا في خلق القرآن على يد شاكر الديصاني ، وذلك أنه جاء إلى البصرة من أرض فارس ، فتأمل حلق البصرة من المسلمين فيها فظهر له من علومهم وحلومهم وحذقهم شيء فاق الوصف ، فأراد أن يلقنهم من البدعة ما يحول بينهم وبين دينهم ، فتأمل الحلق كلها فلما يجد حلقة أرق قلوبا وأضعف نفوسا من حلقة أصحاب الحديث ، فجاءهم فقال لهم : ( يا قوم إني رجل من هؤلاء العجم دخل الإسلام في قلبي فجئت من بلادي إليكم فتأملت فلم أر حلقة يذكر فيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كثيرا إلا حلقتكم فأتيتكم يا إخواني ، فانظروا لنا كيف نعتزل هؤلاء القوم ونكون في ناحية من نواحي المسجد بمعزل وننتبذ عنهم ناحية حتى لا نسمع كلامهم ولا يقرع أسماعنا خطابهم ، فقال القوم : ( صدق ، ونظروا إليه كلما ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شهق وبكى وحن وشكا ، واستعمل الورع والوقار والبكاء والحنين حتى أخذ بقلوبهم ، فلم يزل كذلك إلى أن تغيب عنهم بعض المدة فسألوا عنه فيما بينهم ، فقال بعضهم لبعض : ( قوموا بنا إلى الرجل ولعله مريض فنعوده فإن كان مريضا عدناه أو محتاجا واسيناه ) فوصلوا إليه فوجدوه قد انحجر في قعر بيته ليس له فترة من البكاء ، فقالوا له : ( مالك ؟ ) فقال : ( دعوني لما بي ، قد وقعنا فيما حذرتكم عنه أول مرة ) فقالوا له : ( ما ذلك ؟ ) فقال : ( إني أتيت إلى حلقة حماد بن أبي حنيفة إذ جاءه رجل فقال له : ما تقول في القرآن ؟ فقال : وما عسى أن أقول في القرآن ؟ فقال له الرجل : هل هو مخلوق أم غير مخلوق ؟ فقال حماد بن أبي حنيفة : وما في هذا من العجب القرآن مخلوق .
পৃষ্ঠা ২৫
فعمد يا إخوتي إلى كلام الله ونوره وضيائه الذي خرج منه وإليه يعود فجعله مخلوقا ، فعظمت مصيبتي يا إخوتي في القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي خرج منه وإليه يعود ، فأي مصيبة أعظم من هذه ، فجعله مخلوقا وأي بلية أعظم منها ، فكأن الله قبل خلقه كان غير عالم وغير متكلم يصفه بصفات العجز والحدث والحاجة والخلق ، فجئتكم يا إخوتي اشكوا إلى الله تعالى وإليكم هذه المصيبة العظيمة والبلية الفادحة ، ولقد أمرتكم يا إخوتي قبل هذا أن اعتزل مجالسهم حتى لا نسمع كلامهم وننتبذ ناحية في المسجد ) فاستجاب القوم بالبكاء من كل ناحية ، فقال بعضهم لبعض : ( قد وجب علينا جهاد هؤلاء القوم ، ولنرجع إلى ما كنا عنه ننهى أول مرة وقد حوجونا إلى ذلك ) .وقال بعضهم : ( إنما اعتزلناه مخافة أن نقع فيما وقعوا فيه وكي نحيي سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأما إذا أبيتم فلا حاجة لنا إليكم ) فتبرأ الفريقان بعضهم من بعض ، وعمد الذين أرادوا منابذة القوم فقالوا : ( لابد لنا من مخالطتهم ) وغرضهم أن يقتبسوا من مناظرتهم وحيلهم في جدالهم فيرجعوا بما عليهم ويحاجوهم ، فذهب بعضهم إلى المتكلمين فكان آخر العهد بهم ، وبعضهم إلى القدرية فذهبوا بهم ، وبعضهم إلى حلقة حماد بن أبي حنيفة فتفرقوا على الحلق ومكثوا فيها برهة ، وذهب كل فرقة بمن صار إليها وحصل عندها ، فاختلفوا آخر الأبد ، ولم يجتمع منهم أحد مع صاحبه إلا ما كان من أبي الحسن الأشعري وهو الذي عقب وصار إمام الأشعرية ، ثم أبو بكر بن الطيب بعده - وهو الباقلاني - فوقعوا في تشبيه الباري سبحانه خلافا للأفراق وانتكسوا إلى يوم التلاق .
পৃষ্ঠা ২৬
ومنها زلة الزهري وهو أول من افتتح من الفقهاء أبواب الأمراء وخدمتهم ومؤانستهم وصار وزيرا لأرذل هذه الأمة من الملوك الوليد بن عبد الملك بن مروان ، وأخذ عليه الفقهاء في ذلك فكتب إليه عشرون ومائة من الفقهاء يؤنبونه ويعيرونه بما فعل ، منهم : جابر بن زيد - رحمه الله - ووهب بن منبه وأبو حازم الفقيه فقيه المدينة ، في أمثالهم ، وقد وقفت على كتب هؤلاء الثلاثة إليه ، فسن للفقهاء مخالطة الملوك وملابساتهم حتى آنسوهم وأزالوا وحشتهم إلى ارتكاب المعاصي ، ونسوا ما ذكروا به من قبل من قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( لا تزال أمتي بخير ما تباينوا ، فإذا استووا هلكوا رغبة فيما في أيدي الملوك من عرض الدنيا )) . وصارت عطايا الملوك رشوة بعد ما كانت حقا واجبا لهم ، فحرموا جميع من لم يخالطهم ولم يخدمهم ولم يلم بهم ، فحرمت الفقهاء منابذة السلاطين الجورة والخروج عليهم ومحاربتهم وقتالهم والرد عليهم إلى اليوم تسويغا من الزهري بما فعل واستيثارا بعطاياهم .
وآفة أخرى : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : (( سيكذب علي من بعدي كما كذب على من كان قبلي فما آتاكم عني من حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فعني وما خالفه فليس عني )) وهذه الآفة منها معاش أهل الحوانيت يأخذ أحدهم ورقتين من كاغد أو ثلاثا يستخرق فيما لم يسمعه قط من الأحاديث فيعزيه إلى رسول الله عليه السلام وإلى الصحابة فيتعيش بها ويبيعها للجهلة ويشترونها لأولادهم يحسبونها علما ، في أمثالها كثيرا .
وآفة الرهبانية المبتدعة : وأكثر ما تقع في العباد والزهاد يحملون على أنفسهم مشقة العبادة ويرون ذلك حقا واجبا عليهم ولا يرضون بالدون ، حسب زعمهم ، فأحدثوا في الصلاة والزكاة ما ليس منهما ، وفي سائر العبادات ، حتى قطعوا بالعامة وشرعوا لها خلاف الحنفية السهلة السمحة فتورطوا .
পৃষ্ঠা ২৭