وأما الجناس المطلق - وسماه جماعة كالسكاكي وغيره، تجنيس المشابهة - فهو ما اختلف ركناه في الحروف والحركات، وجمع بين لفظيهما المشابهة، وهو ما يشبه الاشتقاق ولي باشتقاق، وذلك بان يوجد في كل من اللفظين جميع ما في الآخر من الحروف أو أكثر، لكن لا يرجعان في المعنى إلى أصل واحد. وبهذا يفرق بينه وبين المشتق. فإن المشتق يرجع معنى ركنيه إلى أصل واحد. قال الشيخ صفي الدين في شرح بديعيته: وقد غلط أكثر المؤلفين في المشتق، وعدوه تجنيسًا، وليس من أصناف التجنيس. انتهى.
ولنمثل لكل من القسمين ليتضح الفرق بينهما كما الاتضاح. فالمشتق كقول الله: (فأقم جهك للدين القيم) فإن الركنين مشتقان من قام ويقوم، فهما راجعان إلى معنى واحد. وقوله تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) فإنهما مشتقان من ربا يربو، بمعنى زاد ونما، وقوله) ﵌ (: ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا، وقول الشاعر:
وذلكم أن ذل الجار حالفكم ... وإن أنفكم لا يعرف الأنفا
وقول الآخر:
ونرتاب بالأيام عند سكونها ... وما أرتاب بالأيام غير مريب
وما الدهر في حال السكون بساكن ... ولكنه مستجمع لوثوب
وقول أبي العلاء المعري: ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا=تجاهلت حتى قيل أني جاهل وقول صاحب البردة:
ظلمت سنة من أحيى الظلام إلى ... أن اشتكت قدماه الضر من ألم
وما ألطف قول كشاجم في خادم أسود يعرف بالظلم:
يا مشبها في فعله لونه ... لم تحظ ما أوجبت القسمة
فعلك من لونك مستخرج ... والظلم مشتق من الظلمة
لأن كليهما يرجعان إلى معنى الستر. فإن الظالم يستر الحق، والظلمة تستر المحسومات. وقال) ﵌ (فيما أخرجه الشيخان عن ابن عمر: الظلم ظلمات يوم القيامة. ومن محاسن أبي الحسن علي بن الحسين الباخرزي قوله في هذا النوع:
عاينت طيف الذي أهوى فقلت له ... كيف اهتديت وجنح الليل مسدول
فقلت أبصرت نارًا من جوانحكم ... يضيء منها لدى السارين قنديل
فقلت نار الهوى معنى وليس لها ... نور يضيء فماذا القول مقبول
فقال نسبتنا في الأمر واحدة ... أنا الخيال ونار الشوق تخييل
فنبه على الاشتقاق في قوله (نسبتنا في الأمر واحدة) . وقلت أنا في ذلك منبهًا على الاشتقاق بصريح اللفظ:
والأماني كالمنايا وأن نا ... زع غر فالاشتقاق دليل
والجناس المطلق، كقوله تعالى: (يا أسفي على يوسف) فإن الأسف ويوسف لا يرجعان إلى أصل واحد. وقوله تعالى: (قال إني لعملكم من القالين) فإن قال من القول، والقالين من القلى. وقوله) ﵌ (- فيما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة: أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ورسوله. فإن أسلم لم تسم من المسالمة، ولا غفار من المغفرة ولا عصية - تصغير عصا - من العصيان، بل هي أسماء قبائل مرتجلة، لم يلاحظ في وضعها تلك المعاني بخلاف نحو هاشم؛ فإنه سمي به لما هشم الثريد لقومه في عام محل وقع بمكة. ومن أمثلته في الشعر قول النعمان بن بشير لمعاوية بن أبي سفيان:
ألم تبتدركم يوم بدر سيوفنا ... وليلك عما ناب قومك نائم
وقول الآخر:
عرب تراهم أعجمين عن القرى ... متنزلين عن الضيوف النزل
فأقمت بين الأزد غير مزود ... ورحلت عن خولان غير مخول
وقول الآخر:
صل الراح بالراحات وأقدح مسرة ... بأقداحها واعكف على لذة الشرب
ولا تخش أوزارًا فأوراق كرمها ... أكف غدت تستغفر الله للذنب
الشاهد في البيت الأول، وما أحسن ما استعمل الاستغفار في البيت الثاني. وقول القاضي الأرجاني:
وفي الحي كل كليل اللحاظ ... يطالعنا من خصاص الكلل
وقول أبي فراس الحارث بن حمدان:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله
فما السلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشمول ازدهتني بل شمائله
ألوي بعزمي أصداغ لوين به ... وغال قلبي بما تحوي غلائله
وفيه شاهد الاشتقاق والجناس المطلق كما لا يخفى.
وقولي من أبيات:
اطرح زنادك لا تستوره قبسا ... لا يقدح الزند من في كفه القدح
وقولي من قصيدة:
1 / 19