مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله بديع السموات والأرض. والصلاة على نبيه وآله الهادين إلى السنة والفرض.
يا من أنشأ بديع الوجود بحسن ابتدائه، فلباه كل ببراعة الاستهلال عند سماع ندائه. ويا من خلق الإنسان علمه البيان فنطق بتوحيده اللسان بأفصح تبيان.
إن أزهى ما تدبجت به دبياجة الأرقام والطروس، وأبهى ما تبرجت به خطب الكلام تبرج الغادة العروس: حمدك الذي نرجو بتوشيعه حسن التخلص من شبهات الإبهام وشكرك الذي نؤمل بتوشيحه تقييد النعم الجسام وحسن الختام.
والصلاة والسلام على نبيك الذي ارتضيت رسالته وبلاغه وأيدته منك بدلائل الإعجاز وأسرار البلاغة وعلى آله السراة الأئمة الذين قلدت بتشريع طاعتهم رقاب الأمة صلاة وسلامًا يفوح نشرهما فيفوق المسك الأذفر ويلوح بشرهما فيفوت الصبح إذا أسفر.
وبعد: فإن العبد الفقير إلى ربه الغني عليًا صدر الدين المدني ابن أحمد نظام الدين الحسيني أنالهما الله من فضله السني يقول: ما الدرر في أسلاكها تتحلى بها الترائب والنحور ولا الدراري في أفلاكها تتجلى بها غياهب الديجور بأزهى من فرائد الفضائل تتزين بها صدور الصدور وأبهى من زواهر العلوم تسفر في أفق سمائها أسفار البدور إلا وأن علم العربية واقع منها موقع البدر من الكواكب وظاهر من بينها ظهور الملك بين المواكب كيف لا وافتقار ما سواه إليه غير محتاج إلى إقامة البرهان عليه.
هذا وأني منذ استروحت روح التوفيق لخدمة العلم الشريف وتظللت من حر هواجر الجهل بمديد ظله الوريف لم أزل راتعًا في رياض فنونه البهية الورود كارعًا من حياض عيونه الشهية الورود أتفكه بثمارها تارةً وألتهي بأزهارها طورًا وأقبس من مطالعها نورًا واجتني من خمائلها نورًا لاسيما فن البديع الذي طابق اسمه مسماه فلله قدرة الرفيع ما أعلى رتبته وأسماه فطالما استمطرت من نظمه ونثره وأغزر ديمة وكانا لي على مر الزمان كندماني - جذيمة. فبينا أنا يوم أسرح طرف الطرف في شرح بديعية ابن حجة وأروح مروح الفكر في مهيع تلك المحجة إذ بعذبة اللسان تنوس بمطلع قصيدة بديعية وغلبة الجنان تجوس بأبدع فكرة لوذعية فاستبشرت بهذه الإشارة واستطرت فرحًا لهذه البشارة علمًا بأنها إشارة ممن رصعت البديعيات بمديحه وهبت عليها نسمات القبول من مهاب ريحه ﵌ وشرف وعظم وكرم فنظمت هذه البديعية التي فاقت بديعية ابن حجة فلو أدركها لما قامت له معها على تزكية نفسه حجة وقد التزمت فيها ما التزمه هو والعز الموصلي قبله من التورية باسم النوع في كل بيت فصار كل بيت منها لأهل الأدب قبلة.
ثم عن لي أن اشرحها شرحًا حافلًا يكون بإبراز مخدرات معانيها كافلًا وأورد فيها جملة من البديعيات ليتأمل الناظر في هذا المضمار مجرى السوابق ويميز بثاقب نظره بين اللاحق منها والسابق وليكن على ذكر مما قاله أبو العباس المبرد في الكامل وهو القائل المحق: ليس لقدم العهد يفضل القائل ولا لحدثاته يهتضم المصيب بل يعطى كل ما يستحق وسميته:
أنوار الربيع في أنواع البديع والله أسأل أن يوفق لإتمامه ويشفع حسن ابتدائه بحسن ختامه مقدمة: البديع لغة فعيل من البدع بالكسر وهو الذي يكون أولًا من كل شيء وهو يرد بمنى مفعل: اسم مفعول ومن الأول اسمه تعالى البديع أي الذي فطر الخلق مبتدعًا لأعلى مثال سبق.
واختلف في نقل اسم العلم اسم هذا العلم إلى الاصطلاح من أي المعنيين هو.
فقيل من بديع بمعنى مفعل اسم فاعل لا بداعه في التراكيب غرابة وإعجاب وفي النفوس طربًا وارتياحًا وقيل من بديع بمعنى مفعل اسم مفعول وأصله في الحبال وذلك أن يبتدي فتل الحبل جديدًا ليس من قوى حبل نكث ثم غزل ثم أعيد فتله فأطلق في الكلام على الألفاظ المستطرفة التي لم تجر العادة بمثلها ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل بديع وأن كثر وتكرر.
1 / 1
وحد بأنه علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة وأول من أخترعه وسماه بهذه التسمية عبد الله بن المعتز العباسي قال في صدر كتابه وما جمع قبلي فنون البديع أحد ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف وألفته في سنة أربع وسبعين ومأتين فمن أحب أن يقتدي بنا ويقتص على هذه فليفعل ومن أضاف من هذه المحاسن أو غيرها شيئًا إلى البديع وأرتأى غير رأينا فله اختياره.
قال الشيخ صفي الدين في شرح بديعيته وكان جملة ما جمع منها سبعة عشر نوعًا.
وعاصره قدامة بن جعفر الكاتب فجمع منها عشرين نوعًا توارد معه على سبعة منها وسلم له ثلاثة عشر فتكامل لهما ثلاثون نوعًا ثم اقتدى بهما الناس في التأليف فكان غاية ما جمع منها أبو هلال العسكري سبعة وثلاثين نوعًا ثم جمع منها ابن رشيق القيرواني مثلها وأضاف إليها خمسة وستين بابًا في فضائل الشعر وصفاته وأغراضه وعيوبه وسرقاته وغير ذلك من أنساب الشعراء وأحوالهم مما لا تعلق له بالبديع وتلاهما شرف الدين التيفاشي فبلغ بها السبعين.
ثم تصدى لها الشيخ زكي الدين ابن أبي الأصبع فأوصلها إلى التسعين وأضاف إليها من مستخرجاته ثلاثين سلم له منها عشرون وباقيها مسبوق إليه ومتداخل عليه وكتابه المسمى التحرير أصح كتاب ألف في هذا العالم لأنه لم يتكل على النقل دون النقد ولم يختلف عليه في إلا مواضع يسيرة لو لأنعم النظر فيه لم تفته وسأذكرها في أماكنها وليس من الباقين إلا من غير بعض القواعد أو بدلا أكثر السماء والشواهد.
وذكر بن الأصبع انه لم يؤلف كتابه المذكور غلا بعد الوقوف على الأربعين كتابًا في هذا العلم أو بعضه وعددها في صدر كتابه فأنهيت الكتاب مطالعةً واطلعت مما لم يقف عليه مما كان قبله وما ألف بعده ثلاثين كتابًا فجمعت ما وجدت في كتب العلماء وأضفت إليه أنواعًا استخرجتها من أشعار القدماء وعزمت أن أؤلف كتابًا محيطًا بجلها إذ لا سبيل إلى الإحاطة بكلها فعرضت لي علة طالت مدتها وامتدت شدتها واتفق لي أن رأيت في المنام رسالة النبي ﵌ يتقاضاني المدح ويعدني البرء من السقام فعدلت عن تأليف إلى نظم القصيدة تجمع فيها أشتات البديع وتتطرز بمدح مجده الرفيع فنظمت مائة وخمسة وأربعين بيتا في بحر البسيط تشمل على مائه وواحد وخمسين نوعًا من محاسنه ومن عد جملة من أصناف التجنيس بنوع واحد كانت عنده العدة: مائة وأربعين نوعا فأن في السبعة البيت الأوائل منها أثني عشرًا نوعًا وجعلت كل بيت منها مثالا شاهدا لذلك النوع وربما اتفق في البيت الواحد منها النوعين والثلاثة بحسب انسجام القريحة في النظم والمعتمد منها على ما أسس البيت عليه ثم أخليتها من الأنواع التي اخترعتها واقتصرت على نظم الجملة التي جمعتها لا سلم من شقاق جاهل حاسد أو عالم معاند فمن شاقق راجعته إلى النقل ومن وافق وكلته إلى شاهد العقل - انتهى كاتم الصفي.
قلت: كنت أطن أن أول من نظم أنواع البديع على هذا الأسلوب فضمن كل بيت نوع وانقاد له شموس هذا المرام طوعا هو الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى حتى وقفت في ترجمة الشيخ علي بن عثمان بن علي بن سليمان أمين الدين السليماني الاربلي الصوفي الشاعر على قصيدة لامية له نظم فيها جملة من أنواع البديع وضمن كل بيت منها ونوعا منه أولها الجناس التام والمطرف وهو:
بعض هذا الدلال والإدلال ... حال بالهجر والتجنب حالي
ثم قال في الجناس المصحف والمركب
جرت إذا حزت ربع قلبي وإذ ... لالي صبرت أكثرت من إذلالي
فعلمت أن الشيخ صفي الدين لم يكن أبا عذر هذا المرام ولا أول من نظم جواهر العقد في نظام فإن الشيخ أمين الدين المذكور توفي قبل يولد الشيخ صفي الدين الحلي بسبع سنين وذلك أن وفاة الشيخ أمين الدين في سنة سبعين وستمائة ولادة الشيخ صفي الدين في سنة سبع وسبعين وستمائة
1 / 2
وأما نظم أنواع البديع على هذا الوزن والروي، الذي نظم عليه الشيخ صفي الدين، فلا أتحقق أيضًا أن الشيخ صفي الدين، هو أول من نظم عليه، فإنه كان معاصرًا للشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن علي الهواري، المعروف بشمس الدين بن جابر الأندلسي الأعمى، صاحب البديعة المعروفة ببديعية العميان، ولا أعلم من السابق منهما إلى نظم بديعته على هذا الأسلوب. وإن كان الشيخ صفي الدين قد حاز قصبات السبق في مضمار براعة هذا المطلوب. فإن ابن جابر، لم يستوف الأنواع التي نظمها الشيخ صفي الدين بل أخل بنحو سبعين نوعًا من الأنواع. وكلاهما لم يلتزما التورية باسم النوع البديعي.
وأول من التزم ذلك: الشيخ عز الدين الموصلي. ثم تلاه الشيخ تقي الدين أبو بكر بن علي بن عبد الله الحموي، المعروف بابن حجة. والتزم ما التزمه الشيخ عز الدين، وزاد عليه في أكثر الأبيات بحسن النظم والانسجام. إلا أن لذلك فضل المتقدم على المتأخر، والمبتدع على المتبع، وقل من التزم بعدهما هذا الالتزام، وما ذلك إلا لصعوبة هذا المرام.
وقد علمت أن عدة أبيات بديعية الصفي: مائة وخمسة وأربعون بيتًا. وأما بديعية ابن حجة فعدتها: مائة وواحد وأربعون بيتًا وبديعتي هذه عدتها: مائة وسبعة وأربعون بيتًا، بزيادة نوعين من البديع لم يذكرهما الصفي.
وقد يسر الله سبحانه نظمها في مدة يسيرة، وهي اثنتا عشرة ليلة وذلك من ذي القعدة الحرام، أحد شهور سنة سبع وسبعين وألف. والحمد لله سبحانه على فضله الجليل، وإحسانه الجزيل. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، ما لمع موردٌ بمائه، وبلقع بآله. وهذا حين أنصّ عروس البديعية في أريكة شرحها، وأسكنها من مشيدات المباني في علية صرحها، ليجتني ناظر الناظر، من ثمرات روضها الناضر، فما هي إلا روضة تفجرت من خلالها الأنهار، وخميلة تفتقت في مروجها الأزهار. وقد احتوى هذا الشرح، من فرائد الفوائد، وصلات العوائد، على ما يروق السمع والبصر، ويفوق كل مطول ومختصر. فمن نظر إليه بعين العدل والإنصاف وتنكب طريق التعصب والاعتساف، علم أن معدن الجوهر ليس كمعدن الزجاج. (وما يستوي البحران هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابه وهذا ملحٌ أجاجٌ)
فإن يك أصناف القلائد جمة ... فما يتساوى درها وعقيقها
على أني لا أبريء نفسي، ولا أدعي العصمة لفهمي وحدسي فإن الجواد قد يكبو، والصارم قد ينبو، والإنسان محل النسيان.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء فخرًا أن تعد معائبه
والله سبحانه أسأل أن يلبسه حلل الثناء الفاخرة، ويثيبني به جميل الذكر في الأولى وجزيل الأجر في الآخرة.
حسن الابتداء وبراعة الاستهلال
حسن ابتدائي بذكري جيرة الحرم ... له براعة شوق يستهل دمي
قال أهل البيان، من البلاغة حسن الابتداء، ويسمى براعة المطلع. وهو أن يتألق المتكلم في أول كلامه، ويأتي بأعذب الألفاظ، وأجزلها وأرقها وأسلسها وأحسنها، نظمًا وسبكًا، وأصحتها مبنيٌ، وأوضحها معنىً وأخلاها من الحشو، والركة والتعقيد، والتقديم والتأخير الملبس والذي لا يناسب.
قالوا: وقد أتت فواتح السور من القرآن المجيد على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها، كالتحميدات، وحروف الهجاء، والنداء وغير ذلك. ويعتبر في مطلع القصيدة زيادة على ما ذكر أن لا يكون متعلقًا بما بعده من الأبيات، وأن يناسب بين قسميه أتم المناسبة، بحيث لا يكون أحد الشطرين أجنبيًا عن الآخر لفظاَ ومعنىً. فإذا اجتمعت هذه الشروط في مطلع القصيدة، كان غاية في بابه. وقد نبه مشايخ هذا الفن، على أن ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيما يورده من كلامه في أربعة مواضع، أولها: المطلع، لأنه أول ما يقرع الأذن ويصافح الذهن، فإن كان حسنًا جامعًا للشروط التي ذكروها في حسن الابتداء، أقبل السامع على الكلام فوعي جميعه، وإن كانت حالة عن الضد من ذلك، مجَّه السمع، وزجّه القلب ونبت عنه النفس، وإن كان الباقي في غاية الحسن. والموضع الثاني: المخلص. والثالث: حسن الطلب. والرابع: الختام وسيأتي الكلام عليها في مواضعها، إذا أفضت النوبة إليها، إنشاء الله تعالى.
وكثيرًا ما يستشهد أرباب هذا الفن في هذا الباب بقول امرئ القيس:
قفا نبك على ذكرى حبيبٍ ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
1 / 3
قالوا: وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد، ومع ذلك، فقد انتقده الحذاق، بعدم المناسبة بين شطريه لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ، وسهولة السبك، وكثرة المعاني وليس في الشطر الثاني شيء من ذلك. قال ابن المعتز: قول النابغة: -
كليني لهمٍ يا أمية ناسب ... وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
مقدم عليه لأن امرئ القيس وإن بالغ في الشطر الأول، لكن قصر في الثاني، حيث أتى بمعانٍ قليلة في ألفاظ كثيرة غريبة. والنابغة راعي التناسب.
ومن محاسن الابتداء قول بشار بن برد:
أبى طَلل بالجزع أن يتكلما ... وماذا عليه لو أجاب متيما
وقول الحسن بن هاني:
لمن دمن تزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم
وقول أبي تمام:
لا أنتِ أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتقضت الأوطار
وقول البحتري:
بودي لو يهوى العذول ويعشق ... ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق
وقول أبي الطيب:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي
وقل أبي العلاء المعري:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانًا على السهر
وقول القاضي التنوخي:
أسير وقلبي في هواكَ أسير ... وجادي ركابي لوعة وزفير
وقول الشريف الرضي (ره):
بالجد لا بالمساعي يبلغ الشرف ... تمشي الجدود بأقوامٍ وإن وقفوا
وقوله:
ردوا الغليل لقلبي المشغوف ... وخذوا الكرى عن ناظري المطروف
وقوله:
أراقب من طيف الحبيب وصالا ... ويأبى خيال أن يزور خيالا
وقوله:
ألا ليت أذيال الغيوم السواجم ... تجرّ على تلك الربى والمعالمِ
وقول تلميذه مهيار بن مرزويه الكاتب رحمه الله تعالى:
لو كنت دانيت المودة قاصيا ... رد الجنائب يوم بن فؤاديا
وقوله:
حمام اللو رفقًا به فهو لبه ... جوادًا رهانٍ نوحكنٌ ونحبه
وقوله:
أشاقك من حسناء وهنا طروقها ... نعم كل حاجات النفوس تشوقها
وقول الأديب الشاعر أبي العباس محمد بن أحمد الأبيوردي:
أهذه خطرات الربرب العين ... أم الغصون على أنقاء يبرين
وقوله:
تجنَّ علينا طيفها حين أرسلا ... وهل يتجن الحب إلا ليعجلا
وقوله:
كتمنا الهوى وكففنا الحنينا ... فلم يلق ذو صبوة ما لقينا
وما أحسن ما قال بعده:
وأنتم تبثون سر الغرام ... طورًا شمالا وطورًا يمينا
ولما تناديتم بالرحيل ... لم يترك الدمع سرًا مصونا
أمنتم على السر منا القلوب ... فهلا أتهمتم عليه العيونا
ومما استحسنه صاحب اليتيمة من مطالع أبي الطيب.
فديناك من ربعٍ وإن زدتنا كربا ... فإنك كنت الشرق للشمس والغربا
وما أحسن قوله بعده:
وكيف عرفنا رسم من لم يدع لنا ... فؤادًا لعرفان الرسوم ولالبا
نزلنا عن الأكور نمشي كرامةً ... لمن بان عنه أن نلمَّ به ركبا
قال ابن بسام في الذخيرة: أول من بكى الربع واستبكى، ووقف واستوقف: الملك الضليل حيث يقول:
(قفا نبك على ذكرى حبيب ومنزل)
ثم جاء أبو الطيب، فنزل وترجل، ومشى في آثار الديار، حيث يقول (نزلنا على الأكوار) البيت وما قبله.
ثم جاء أبو العلاء المعري فلم يقنع بهذه الكرامة، حتى خشع ومجد حيث يقول:
تحية كسرى في السناء وتبع ... لربعك لا أرضى تحية أربع
وهذه البيت من محاسن الابتداء أيضًا.
قلت: كأن ابن بسام غفل عن مطلع المتنبي، فإن كرامته فيه للربع أعظم من كرامة أبي العلاء، لأن أبا الطيب فداه بنفسه حيث قال: (فديناك من ربع وإن زدتنا كربا) . ولا شك أن التفدية أعظم من الخشوع والسجود في التحية.
ومن محاسن الابتداء قول ابن النبيه:
يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت ... نزحتم وهي بعد البعد ما نزحت
وقول الشيخ جمال الدين بن نباته:
بدا ورنت لواحظه دلالا ... فما أبهى الغزالة والغزالا
وقول الشيخ صفي الدين الحلي:
قفي ودعينا وشك التفرق ... فما أنا من يحيا إلى حين نلتقي
وقول الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض:
ما بين معترك الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
1 / 4
وقول الشيخ عفيف الدين التلمساني:
لا تلم صبوتي فمن حب يصبو ... إنما يرحم المحب المحب
وقوله:
لولا الحمى وظباء بالحمى عرب ... ما كان في البارق النجدي لي أرب
وقول الحاجري:
لا غرو أن لعبت بي الأشواق ... هي رامة ونسيمها الخفاق
وكان شيخنا محمد بن علي الشامي يطرب لهذا المطلع غاية الطرب، ويقول: هكذا فلتكن المطالع: وقوله أيضًا:
لك أن تشوقني إلى أوطاني ... وعليَّ أن أبكي بدمع قان
وقول سيدي الوالد:
سلا هل سلا قلبي عن البان والرند ... وعن أثلاث جانب العلم
وقوله: نسيم نجد شذا صبحًا فآصالا=بنشر ما أرج الجرعاء فالضالا وقوله: هبت نسائم آصال وأسحار=تروي أحاديث أخداني وسماري وقوله:
ذلك البان والحمى والمصلى ... فقف الركب ساعة تنملى
وقول القاضي أحمد بن عيسى المرشدي:
فيروزج أم وشام الغادة الرود ... يبدو على سمط در منه منضود
وملخص هذه القصيدة غاية في بابه أيضًا، وسيأتي إنشاده هنالك إنشاء الله تعالى.
وقوله شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي:
رفت شمائلة فقلت نسيم ... وزكت خلائقه فقلت شميم
وما ألطف قوله بعده:
قصر الكلام على الملام وإنما ... للحظ في وجناته تكليم
شرقت معاطفه بأمواه الصبي ... وجرى عليه بضاضة ونعيم
قد كاد تشربه العيون لطافة ... لكن سيف لحاظه مسموم
وقوله:
أرقت وصحبي بالفلاة هجود ... وقد مدّ للظلام وجيد
وأبعدت في المرمى فقال لي الهوى ... رويدك يا شامي أين تريد
أهذا ولما يبعد العهد بيننا ... إلا كل شيء لا ينال بعيد
وقوله القاضي الفاضل في زمانه، القاضي تاج الدين المالكي أمام المالكية بالمسجد الحرام المتوفى سنة (...) .
وقول الشيخ الفاضل الأديب الشيخ حسين بن شهاب الدين الطبيب:
أشمس الضحى لا بل محياك أجمل ... وغصن النقا لا بل قوامك أعدل
وقول الأديب الأريب حسين بن الجزري الشامي من أهل العصر:
هلما نحييها ربى وربوعا ... وحثا نسقيها دمًا ودموعا
وعوجا على وادي الطلول وعرجا ... معي واندباني والطلول جميعا
ومن مطالعي التي تنظم في هذا السلك قولي:
سريرة شوقٍ في الهوى من أذاعها ... ومهجة صب بالنوى من أضاعها
وقولي:
رويدك حادي العيس أين تريد ... أما هذه حزوي وتلك زرود
وقولي:
هاتا أعيدا لي حديثي القديم ... أيام وسمي بالتصابي وسيم
وعللاني بنسيم الصبا ... إن كان يستشفي عليلا سقيم
وقولي وهو مطلع قصيدة علوية:
سفرت أميمة ليلة النفر ... كالبدر أو أبهى من البدر
وقلت بعده:
نزلت مني ترمي الجمار وقد ... رمت القلوب هناك بالجمر
وتنسكب تبغي الثواب وهل ... في قتل ضيف الله من أجر
إن حاولت أجرًا فقد كسبت ... بالحج أضعافًا من الوزر
نحرت لواحظها الحجيج كما ... نحر الحجيج بهيمة النحر
فهذه جملة مقنعة من محاسن المطالع للمتقدمين والمتأخرين وأهل العصر. وقد جمعت الشروط المتقدمة في براعة المطلع. وليتأمل الناظر في مناسبة الشطرين فيها، وملائمة ألفاظهما ومعانيها، وليحذ حذوها. فإن الغرض من ذلك، إرشاد المبتدي وتنبيه المنتهي إلى الطريق التي ينبغي له سلوكها، واقتفاء آثار فحول الشعراء فيها. واعلم، أن المتأخرين فرعوا على حسن الابتداء: براعة الاستهلال.
وهو أن يكون أول الكلام دالًا على ما يناسب حال المتكلم، متضمنًا لما سيق الكلام لأجله من غير تصريح بل بألطف إشارة يدركها الذوق السليم. وقد أشار إلى هذا المعنى ابن المقفع، على ما نقل عنه أبو عثمان الجاحظ، في كتاب البيان والتبيين، في كلام له في تفسير البلاغة حيث قال: ليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك. كما أن خير أبيات الشعر: البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته.
1 / 5
قال الجاحظ: كان يقول: فرق بين صدر خطبة النكاح وخطبة العيد وخطبة الصلح، حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ويشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت. قالوا: والعلم الأسنى في ذلك، سورة الفتح، التي هي مطلع القرآن فإنها مشتملة على جميع مقاصده.
كما قال البيهقي في شعب الإيمان: أخبرنا أبو القاسم بن حبيب، ثنا محمد بن صالح صبيح، عن الحسن قال: أنزل الله مائة وأربعة كتب، أودع علومها أربعة منها: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم المفصل الأربعة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المفصل، ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة.
وقد وجه ذلك، بأن العلوم التي احتوى عليها القرآن، وقامت بها الأديان أربعة: الأصول، ومداره على معرفة الله وصفاته. وإليه الإشارة برب العالمين الرحمن الرحيم، ومعرفة النبوات، وإليه الإشارة، بالذين أنعمت عليهم، ومعرفة المعاد، وإليه الإشارة، بمالك يوم الدين، وعلم العبادات، وإليه الإشارة، بإياك نعبد، وعلم السلوك وهو حمل النفس على الآداب الشرعية، والانقياد لرب البرب، وإليه الإشارة، بإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم، وعلم القصص وهو الاطلاع على أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، ليعلم المطلع على ذلك، سعادة الله وشقاوة من عصاه، وإليه الإشارة بقوله: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فنبه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن، وهذا هو الغاية في براعة الاستهلال، مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة، والمقاطع المستحسنة وأنواع البلاغة، وكذلك أول سورة اقرأ، فإنها مشتملة على نظير ما اشتملت عليه الفاتحة من براعة الاستهلال، لكونها أول ما أنزل من القرآن، فإن فيها الأمر بالقراءة والبدء فيها باسم الله، وفيه الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته، من صفة ذاتٍ، وصفة فعل، وفي هذا الإشارة إلى أصول الدين، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: علم الإنسان ما لم يعلم، ولهذا قيل: إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن، لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله.
وقال الزنجاني في الفوائد الغيثية: وأحسن براعة الاستهلال موقعًا، وأبلغها معنى، فواتح صور كلام الله، سيما حروف التهجي، فإنها توقظ السامعين للإصغاء إلى ما يرد بعدها، لأنهم إذا سمعوها من النبي الأمي علموا أنها والمتلو بعدها من جهة الوحي. وفيها تنبيه على أن المتلو عليهم من جنس ما ينظمون منه كلامهم، مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
تذنيب في تفسير الجويني: ابتدأت الفاتحة بقوله: الحمد لله رب العالمين، فوصف بأنه مالك جميع المخلوقات. وفي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر، لم يوصف بذلك، بل بفرد من أفراد صفاته وهو خلق السماوات والأرض، والظلمات والنور في الأنعام، وأنزل الكتاب في الكهف، وملك ما في السماوات والأرض في سبأ، وخلقهما في فاطر. لأن الفاتحة أم القرآن ومطلعه، فناسب الإتيان فيها بأبلغ الصفات وأعمها وأشملها.
وفي تذكرة الشيخ تاج الدين السبكي: سئل الإمام ما الحكمة في افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح، والكهف بالتحميد؟ فأجاب: بأن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد، نحو: فسبح بحمد ربك، سبحان الله والحمد لله. وأجاب ابن الزملكاني: بأن سورة سبحان، لما اشتملت على الإسراء الذي كذب المشركون به النبي) ﵌ (، وتكذيبه تكذيب لله تعالى، أتى بسبحان، لتنزيه الله عما نسب إليه من الكذب. وسورة الكهف، لما أنزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف، وتأخر الوحي، نزلت مبينة أن الله لم يقطع نعمته عن نبيه ولا عن المؤمنين، بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة.
إذا علمت ذلك، فاعلم: أن براعة الاستهلال في مطلع القصيدة هو كونه دالًا على ما بنيت عليه من مدح، أو هجاء، أو تهنئة، أو عتب؛ أو غير ذلك. فإذا جمع المطلع بين حسن الابتداء، وبراعة الاستهلال، كان هو الغاية التي لا يدركها إلا مصلي هذه الحلبة، والحالب من أشطر البلاغة أو فر حلبه.
والبراعة: مصدر، قولهم برع الرجل براعة، أي فاق أصحابه في العلم وغيره.
1 / 6
والاستهلال، يطلق على معان كل منها مشتمل على نوع افتتاح.
فاستهل: رأى الهلال. واستهل المولود. صاح في أول زمان الولادة.
واستهلت السماء: جادت بالهلل بفتحتين وهو أول المطر. وكل من هذه المعاني مناسب للنقل منه إلى المعنى الاصطلاحي، وإن خصه بعضهم بالنقل من المعنى الثاني، قال: وإنما سمي هذا النوع الاستهلال، لأن المتكلم يفهم غرضه من كلامه عند ابتداء رفع صوته به.
فمن براتة الاستهلال التي يفهم من إشاراتها إنها تهنية بالفتح والظفر على العدو قول أبي تمام يهنئ المعتصم بالله بفتح عمورية، وكان المنجمون زعموا أنها لا تفتح في هذا الوقت:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لأسود الصفاح في ... متونهن جلاء الشك والريب
وقول أبي محمد عبد الله بن محمد بن أحمد الخازن يهنئ الصاحب بن عباد بسبطه الشريف أبي الحسن عباد بن علي الحسني. وهو مما يشعر بقرينه الذوق أنه يريد التهنئة بمولود:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وكوكب المجد في أفق العلا صعدا
وكان الصاحب بن عباد لما أتته البشارة بسبطه المذكور أنشأ يقول:
الحمد لله حمدًا دائمًا أبدا ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
فقال أبو محمد الخازن قصيدته التي ذكرنا مطلعها، وما أحسن قوله فيها:
وكادت الغادة الهيفاء من طرب ... تعطي مبشرها الأرهاف والغيدا
ومن معانيه الغريبة فيها قوله:
لم يتخذ ولدًا إلا مبالغة ... في صدق توحيد من لم يتخذ ولدا
ومن البراعات التي تشعر بأنها تهنئة بالنصر على الأعداء، قول خالي القاضي زيد بن محسن بن الحسين بن الحسن بالظفر على أهل عمد:
العز تحت ظلال السمر والقضب ... يوم الوغى ومسامي البيض لم تخب
ومما يشعر بالتهنئة بالقدوم قول سيدي ومولاي الوالد مهنئًا سلطان مكة المذكورة بقدومه الطائف الميمون وحلول به:
قد أقبل السعد بالأفراح يبتدر ... والدهر يرتاح مختالًا ويفتحر
ومن أحسن البراعات وألطفها براعة مهيار بن مرزويه الكاتب فإنها مما يضرب بها المثل في براعة الاستهلال.
وكان من أمره، أنه اتفق أن بعض الوشاة وشى به في أمر محال اتصل بحضرة الملك ركن الدين أبي طاهر، فاقتضى أن استدعى إلى داره، واعتقل ليلة على كشف الصورة اعتقالًا جميلًا، ثم انكشفت له البراءة من أبطال الساعي، وأفرج عنه إفراجًا مبينًا. فقال يمدح الملك المذكور، ويعرض بالساعي، وأنشدها بحضرته يوم عيد الفطر سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة.
أما وهواها عذرة وتنصلا ... لقد نقل الواشي إليها فأمحلا
وما ألطف ما قال بعده:
سعى جهده لكن تجاوز حده ... وكثر فارتابت ولو شاء قللا
فقال ولم تقبل ولكن أسبه ... على أنه ما قال إلا لتقبلا
وطارحها أني سلوت فهل يرى ...
له الويل
مثلي عن هوى مثلها سلا
أأنقض طوعًا حبها عن جوانحي ... وإن كان حبا للجوانح مثقلا
أبى الله والقلب الوفي بعهده ... والفٌ إذا عُد الهوى كان أولا
فأبرز التنصيل مما رمي به في معرض التغزل والنسيب. وهذه القصيدة كلها غرر، ودرر. ولولا خوف الإطالة لأثبتها برمتها؛ فإنها قليلة الوجود ولكن لا بد من ذكر شيء منها: فمنها في الغزل:
أيا صاحبي نجواي يوم (سويقة) ... أناة وإن لم تسعدا فتجملا
سلا ظبية الوادي وما الظبي مثلها ... وإن كان مصوقل الترائب أكحلا
أأنتِ أمرت البدر أن يصدع الدجى ... وعلمت غضن البان أن يتميلا
وحرمت يوم البين وقفة ساعةٍ ... على عاشق ظن الوداع محللا
جمعت عليه حرقة الدمع والجوى ... وما اجتمع الداءان إلا ليقتلا
هبي لي عيني واحتملي كلفة الأسى ... على القلب أن القلب اصبر للبلا
أراك بوجه الشمس والبعد بيننا ... فاقنع تشبيهًا بها وتمثلا
وأذكر عذبا من رضابك مسكرًا ... فما أشرب الصهباء إلا تعللا
هنيئًا لحب المالكية أنه ... رخيص له ما عزَّ مني وما غلا
تعلقتها غرًا وليدًا وناشئا ... وشبت وناشي حبها ما تكهلا
ووحدها في الحب قلبي فما له ... وإن وجد الإبدال، أن يتبدلا
1 / 7
رعى الله قلبي ما أبر بمن جفا ... واصبره في النائبات وأحملا
وكرم عهدي للصديق فإنه ... قليل على الحالات أن يتحولا
رحم الله مهيارًا ما ألطف عبارته وأدق إشارته، وطريقته الغرامية لا يسلكها أحد إلا تشبها، فإنها شيء قد تفرد به، ولم يشق فيها غباره سابق ولا لاحق. ووقعت هذه القصيدة من ممدوحه موقعًا عظيمًا، حتى إنه لسروره بها، تقدم إلى السمار والمحدثين بحفظها.
ومما وقع لي أنا من البراعات التي يفهم منها أن المقصود الاستعطاف وطلب القرب والوصل، بعد البعد والصد قولي وهو مطلع قصيدة امتدحت بها الوالد مستعطفًا له في سنة خمس وسبعين وألف، وهو:
لقد آن أن تثني أبي زمامها ... وتسعف مشتاقًا برد سلامها
ولم أخرج عن براعة الاستهلال، وإبراز الغرض في معرض الغزل والتشبيب، على طريقة مهيار إلى أن تخلصت إلى المدح. وبعد المطلع:
سلام عليها كيف شطت ركابها ... وأنى دنت في سيرها ومقامها
حملت تمادي صدها حين كان لي ... قوي جلد لم أخش بثً التئامها
وكنت أرى أن الصدود مودة ... ستدلي بقربي الود بعد انصرامها فأما فأما وقد أورى الهوى بجوانحي
جوى غلة لم يأن بل أوامها
فلست لعمري بالجيد على النوى ... وهل بعدها للنفس غير حسامها
إذا قلت هذا آن تنعم بالرضا ... يقول العدى هذا أوان انتقامها
أطارحها الواشون أني سلوتها ... وها أنا قد حكمتها قد احتكامها
أبى القلب إلا أوبة لعهودها ... وحفظًا لها في إلها وذمامها
منها:
أحب لريا نشرها كل نفخة ... تمر بنجد أو خزام خزامها
سقى أرض نجد كل وطفاء ديمة ... وما أرضها لولا محط خيامها
أجل وسقى تلك الربوع لأجلها ... واغدق مرعى رندها وبشامها
هوىً أنشأته المالكية لم يزل ... وثيقًا على حل العرى وانفصامها
فهل علمت أن الهوى ذلك الهوى ... وأن فؤادي فيه طوع زمامها
ولم يبق مني الوجد غير حشاشة ... تراد على توزيعها واقتسامها
كفاك فحسبي من زماني خطوبه ... فإن فؤادي عرضة لسهامها
ومن البراعات التي تشعر أن الغرض الرثاء، قول أبي الطيب المتنبي يرثي محمد بن إسحاق التنوخي:
أبي لا علم واللبيب خبير ... أن الحياة وإن حرصت غرور
وقول متنبي الغرب محمد بن هاني الأندلسي يرثي والدة جعفر بن علي ممدوحه:
صهٍ كل آتٍ قريب المدى ... وكل حياة إلى منتهى
وقوله أيضًا يرثيها وقد دام الحزن عليها:
صدق الفناء وكذب العمر ... وجلا الغطاء وبالغ النذر
وقول أبي الحسن علي بن محمد التهامي يرثي ولده أبا الفضل:
حكم المنية في البرية جاري ... ما هذه الدنيا قرار
وقال أبي الفرج الساوي في فخر الدولة:
هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وفتكي
ولا يغرركم مني ابتسام ... فقولي مضحك والفعل مبكي
ومما يدل على أن المقصود التهنئة والتعزية، قول الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة في تهنئة السلطان الملك الأفضل بسلطنة حماة، وتعزيته بوفادة والده الملك المؤيد، وهو:
هناء محا ذاك العزا المتقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما
ثغور ابتسامٍ في ثغور مدامعٍ ... شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما
ترذ مجاري الدمع والبشر واضحٌ ... كوابل غيث في ضحى الشمس قد همى
وبالغ ابن حجة على جاري عادته فيما يعجب به في إطراء هذه الأبيات حتى قال: سبحان المانح، والله من لا يتعلم الأدب من هنا فهو من المحجوبين عن إدراكه.
وأنا أقول: لو كان أبو نواس لما وقع الشيخ جمال الدين قول هذا الحمى، فضلًا عن أن يدخله، فإن أبا نواس هو السابق إلى هذا المعنى بعينه، حيث قال معزيًا لفضل بن الربيع بالرشيد ومهنيًا له بخلافة الأمين:
تعز أبا العباس عن خير هالك ... بإكرام حيٍّ كان أو هو كائن
حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساوٍ مرة ومحاسن
وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن
ومن براعاتي في الرثاء قولي في مرثية الحسين بن علي ﵉:
كل نجم سيعتريه أفول ... وقصارى سفر البقاء القفول
1 / 8
لا حق إثر سابق والليالي ... بالمقادير راحلات نزول
ومن ذلك قول أبي تمام يرثي محمد بن حميد الطوسي:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... وليس لعينٍ بم يفض ماؤها عذر
وهذه القصيدة هي التي قال أبو دلف العجلي فيها لأبي تمام: وددت والله أنها لك فيّ، فقال: بل أفدي الأمير بنفسي وأهلي، وأكون المقدم قبله. فقال: إنه لم يمت من رثي بهذا الشعر.
ومن البراعات التي يفهم منها الرثاء، وأن المرثي هاشمي أيضًا زيادة على ذلك، قول مهيار الديلمي يرثي أستاذه الشريف الرضي:
من جب غارب هاشم وسنامها ... ولوى لويا واستنزل مقامها
وغزا قريشًا بالبطاح فلفها ... بيدٍ وقوض عزها وخيامها
وأناخ في مضرٍ بكلكل خسفه ... يستام فاحتملت له ما سامها
من حل مكة فاستباح حريمها ... والبيت يشهد واستحل حرامها
ومضى بيثرب مزعجًا ما شاء من ... تلك القبور الطاهرات عظامها
يبكي النبي ويستهيج لفاطمٍ ... بالطف في أبنائها أيامها
الدين ممنوع الحمى من راعه ... والدار عالية البنا من رامها
أتناكرت أيدي الرجال سيوفها ... فاستسلمت أم أنكرت إسلامها
أم غلل ذا الحسبين حامي ذودها ... قدر أراح على العدو سهامها
وما أحسن قوله منها:
بكر النعي من الرضي بمالكٍ ... غاياتها متعودٍ أقدامها
كلح الصباح بموته عن ليلة ... نفضت على وجه الصباح ظلامها
صدع الحمام صفاة آل محمد ... صدع الرداء به وحل نظامها
بالفارس العلوي شق غبارها ... والناطق العربي شق كلامها
سلب العشيرة يومه مصباحها ... مصلاحها عما لها علامها
برهان حجتها التي بهرت به ... أعداءها وتقدمت أعمامها
وشقت هذه المرثية على جماعة ممن كان يحسد الرضي ﵁ على الفضل في حياته، أن يرثي بمثلها بعد وفاته، فرثاه بقصيدة أخرى ومطلعها في براعة الاستهلال كالأولى، وهو:
أقريش لا لفمٍ أراك ولا يدِ ... فتواكلي غاض الندى وخلا الندي
وما زلت معجبًا بقوله منها:
بكر النعي فقال أودى خيرها ... إن كان يصدق فالرضي هو الردي
وبراعات الاستهلال في المراثي، أكثر منها في غيرها، يشهد بذلك الاستقراء. ولنكتف في النظم منها بهذا المقدار. وأما ما وقع منها في النثر فكثير جدًا، خصوصًا في خطب المتأخرين. وفي ديباجة هذا الشرح ما يقنع الطالب، فلا حاجة بنا إلى التطويل، بإثبات شيء من النثر.
وإذا قد ذكرنا جملة مقنعة من محاسن المطالع، فلنذكر جملة من مستهجناتها، ليحترز الناظر عن الوقوع في مثلها: قيل ما سمع أشد مباينة من قسمي بيت جميل في قوله:
ألا أيها النوام ويحكم هبوا ... نسائكم هل يقتل الرجل الحب
حكى صاحب الأغاني عن الهيثم بن عدي قال: قال لي صالح بن حسان يومًا: ما نصف بيت كأنه أعرابي في شملة، والآخر كأنه مخنث يتفكك؟ قلت: لا أدري، قال: أجلتك حولًا، قلت: لو أجلتني عشرة ما عرفت، قال أف لك، قد كنت أحسبك أجود ذهنًا من هذا، قلت: فما هو؟ قال: قول جميل:
ألا أيها النوام ويحكم هبوا ... هذا كلام أعرابي، ثم قال
نسائكم هل يقتل الرجل الحب ... كأنه والله من مخنثي العقيق.
قال شيخ الأدب صلاح الدين الصفدي بعد نقله ذلك قلت: علم الله لولا إيراد النادرة، لاستحييت أن أكتب النصف الثاني، لأنه محلول إلى الغاية. والناس به قول الآخر:
مات الخليفة أيها الثقلان ... فكأنما أفطرت في رمضان
ويقولون في الأول عزى الثقلين، ثم إنه حل في الثاني. وأقول: إنه ليس بينهما نسبة في الانحلال. وقول جميل: إنما يحسن من مثل فريدة جارية الواثق، فإنها صنعت فيه لحنًا وغنت به، وكانت بارعة الجمال. فإذا سمع منها كان مناسبًا. وإلى بيت جميل أشار ابن نفاذة في قوله:
أهجرٌ وصد وافتراق وغربة ... وبين فيا لله كم يحمل الصبا
فقل لمحب نبه الركب سائلا ... ونام نعم قد يقتل الرجل الحب
انتهى كلام الصفدي.
1 / 9
ورأيت في معاهد التنصيص لعبد الرحيم العباسي: نسبة كلام صالح بن حسان الذي قال للهيثم بن عدي في بيت جميل للرشيد أنه قال للمفضل الضبي، وهو سهو منه واشتباه عليه بحكاية أخرى، وهي: ما حكاه المفضل الضبي، إن الرشيد قال له: دلني على بيت أوله أكثم بن صيفي في أصالة الرأي، وجودة الموعظة، وآخره بقراط في معرفة الدواء. فقال له يا أمير المؤمنين: لقد هولت عليَّ. فقال هذا قول أبي نؤاس:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
ومن لطيف الانتقاد في المناسبة بين الشطرين ما حكي: إن الشيخ نور الدين علي بن سعيد الأندلسي الأديب المشهور الذي من نظمه قوله:
وأطول شوقاه إلى ثغور ... ملأى من الشهد والرحيق
عنها أخذت الذي تراه ... يعذب من شعري الرقيق
لما ورد إلى الديار الشامية، اجتمع بالصاحب بهاء الدين زهير وتطفل على موائد طريقته الغرامية، وسأله الإرشاد إلى سلوكها، فقال: طالع ديواني الحاجري والتلعفري، وأكثر المطالعة فيهما، وراجعني بعد ذلك. فغاب عنه مدة، وأكثر من مطالعة الديوانين حتى علق بحفظه غالبهما، ثم اجتمع به بعد ذلك، وتذاكر في الغراميات، فأنشده الصاحب بهاء الدين في غضون المحاضرة: (يا بان وادي الأعرج)، وقال له: أجز هذا. فأفكر قليلًا وقال: (سقيت غيث الأدمع)، فقال: والله حسن، ولكن الأقرب إلى الطريقة الغرامية أن تقول: (هل ملت من شوقٍ معي) . ومثل هذه المناسبة لا يدركها إلا مثل بهاء الدين زهير.
قال أبو منصور الثعالبي في اليتيمة: ولأبي الطيب ابتداءات ليست هي لعمر من أحرار الكلام وغرره، بل هي كما نعاها عليه العائبون مستبشعة لا يرفع السمع لها حجابه ولا يفتح له بابه كقوله:
هذي برزت لنا فهجت رسيسا ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسا
فإنه لم يرض بحذف علامة النداء من (هذي) وهو غير جائز عند النحويين، حتى ذكر الرسيس والنسيس فأخذ بطرفي الثقل والبرد.
قلت: أجيب عن حذف علامة النداء من (هذي): بأن (هذي) مفعول مطلق، لا منادى أي برزت لنا هذي البرزة. وعلى كل تقدير، فهذا المطلع من مستهجنات المطالع.
قال: ومن مطالعه التي تكلف لها اللفظ المعقد، والترتيب المتعسف لغير معنى بديع يفي ترفه وغرابته بالتعب في استخراجه، وتقوم فائدة الانتفاع به بإزاء التأذي بسماعه، قوله:
وفائكما كالربع أشجاء طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
قال الصاحب ابن عبد رحمه الله تعالى: ومن عنوان قصائده الذي يحير الإفهام، ويجمع من الحساب ما لا يدرك بالاريثماطيقي وبالأعداد الموضوعة للموسيقى قوله:
أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتناد
وهذا كلام الحكل ورطانة الزط وما ظنك بممدوح قد تشمر للسماع من مادحه فصلك سمعه بهذه الألفاظ والمعاني المنبوذة، أي هزة تبقى هناك، وأي أريحية تثبت هنا. وقد خطأه في اللفظ والمعنى كثير من أهل اللغة وأصحاب المعاني، حتى احتيج في الاعتذار له والتصفح عنه إلى كلام لا يستأهله هذا البيت، ولا يتسع له هذا الباب.
قال: ومن افتتاحاته العجيبة، قوله لسيف الدولة في التسلية عن المصيبة:
لا يحزن الله الأمير فإنني ... لآخذ من حالاته بنصيب
لا أدري ما يحزن سيف الدولة إذا أخذ المتنبي بنصيب من القلق.
قال الثعالبي: ومن ابتداءاته الشنيعة التي تنكرها الأسماع قوله:
ملث القطر أعطشها ربوعا ... وإلا فاسقها السم النقيعا
وقوله:
إثلث فأنا أيها الطلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل
ومن مطالع أبي تمام التي استهجنها أبو الطيب المتنبي قوله:
خشنت عليه أخت بني خشين ... وأنجح فيك قول العاذلين
ومن المطالع التي لم تجمع الشروط المتقدمة، قول أبي تمام أيضًا:
أما أنه لولا الخليط المودع ... وربع عفا عن مصيف ومربع
فإنه ليس مستقلًا بنفسه بل متعلق بالبيت الذي يليه؛ لأنه لم يأت بجواب (لولا) إلا فيه حيث قال:
لو أن دهرًا رد رجع جوابي ... أو كف من شأويه طول عتاب
فإنه يتعلق بما بعده أيضًا، لمكان جواب (لو) وهو قوله:
لعذلته في دمنتين بأمرةٍ ... ممحوتين لزينب ورباب
ومثل ذلك قول أبي عبادة البحتري:
1 / 10
إن رق لي قلبك مما ألاق ... من فرط تعذيب وطول اشتياق
فإنه لم يأت بجواب الشرط، ولا ما يحسن السكوت على مطلعه، ولا تتم الفائدة به.
ومثله قوله أيضًا:
حلفت لها بالله يوم التفرق ... وبالوجد من قلبي لها المتعلق
فإنه لم يأت بجواب القسم الذي يتم الكلام به إلا في البيت الثاني حيث قال:
وبالعهد ما البذل القليل بضائع ... لدي ولا العهد القديم بمخلق
وقد تقدم إن من الشروط حسن الابتداء، أن لا يكون المطلع متعلقًا بما بعده.
ومن غريب النقد، ما حكاه ابن ظافر قال: صنعت بالشام سنة سبع وثمانين وخمسمائة قصيدة في الملك الأفضل أبي الحسن علي بن الملك الناصر نور الدين أولها:
دعها ولا تحبس زمام المقود ... تطوي بأيديها بساط الفدفد
وأنشدتها لمن كان بالعسكر من أصحابنا المنتسبين إلى الأدب، فما منهم إلا من بذل جهده في نقدها، ورمى بأفلاذ كبده فيها، ثم حملتها إلى حضرته، فصادفت قبولا. واتفق بعد ذلك أن أنشدتها ابن إلا - التكريتي، فلما أنشدته البيت الأول قال: ما كان يؤمنك إذا أخذ بدرجها في يده، وفتحه، فوجد أول ما فيها (دعها) أن يلقيها من يده وتقول: قد فعلت، ألست كنت تفتضح؟ قال: بلى والله ولكن قد وقى الله. وهكذا فليكن النقد.
واعلم أنه يجب على الناظم والناثر النظر في أحوال المخاطبين والممدوحين والتجنب لما يكرهون سماعه، ويتطيرون منه خصوصًا الملوك؛ ومن يتصل بهم. فإنهم أشد الناس تطيرًا من المكروهات؛ وعثرة الناظم في ذلك لا تقال.
فمن ذلك ما وقع لابن مقاتل الضرير أحد شعراء الجبال في مطلع القصيدة من الرجز أنشدها للداعي إلى الحق العلوي الثائر بطبرستان، وهو قوله:
(موعد أحبابك بالفرقة غد) . فقال له: بل موعد أحابك يا أعمى ولك المثل السوء. وحكي أيضًا أنه دخل عليه في يوم مهرجان وأنشده قوله:
لا تقل بشرى وقل لي بشريان ... غرة الداعي ويوم المهرجان
فتطير به الداعي وقال: أعمى يبتدئ بهذا يوم المهرجان. فأمر ببطحه وضربه خمسين عصا. وقال: إصلاح أدبه أبلغ من ثوابه.
ومثل ذلك ما وقع للبحتري وقد أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي أولها: (لك الويل من ليلٍ تقاصر آخره) . فقال له: بل لك الويل والخزي.
ودخل أبو نؤاس على الفضل بن يحيى فأنشده قصيدته التي أولها:
أربع البلى أن الخشوع لباد ... عليك وإني لم أخنك ودادي
فتطير الفضل من هذا الابتداء، فلما انتهى إلى قوله فيها:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغاد
واستحكم تطيره واشمأز وقال: نعيت إلينا أنفسنا. فلم يمض إلا أسبوع حتى نزلت بهم النازلة. وقد قيل والله اعلم: إن أبا نواس قصد التشاؤم لهم، وكان في نفسه من جعفر.
وقصة إسحاق بن إبراهيم الموصلي. في هذا الباب مما لا يكاد يقضي العجب منها: وذلك أنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان، فشرع في إنشاد قصيدة مطلعها:
يا دار غيرك البلى ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك
فتطير المعتصم من قبح هذا المطلع، وأمر بهدم القصر على الفور. هذا مع يقظة إسحاق وشهرته بحسن المحاضرة، وطول خدمته للخلفاء، مع أنه قيل: أحسن ابتداءٍ ابتدأ به مولد قول إسحاق الموصلي:
هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل
قال الأديب أبو جعفر الألبري رفيق ابن جابر صاحب البديعة السابق الذكر، وهو البصير وابن جابر الأعمى، في شرح بديعية رفيقة المذكور: وإذا أردت أن تنظر إلى تفاوت درجات الكلام في هذا المقام فانظر إلى إسحاق الموصلي، كيف جاء إلى قصر مشيد، ومحل سرور جديد فخاطبه به الطلول البالية؛ والمنازل الدارسة الخالية، فقال: (يا دار غيرك البلى ومحاك) . فاحزن في موضع السرور، وأجرى كلامه على عكس الأمور. وانظر إلى قول القطامي:
أنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل
فانظر كيف جاء إلى طلل بال، ورسمٍ خال، فاحسن حين حياه؛ ودعا له بالسلامة، كالمستبهج برؤيا محياه. فلم يذكر دروس الطلل وبلاه، حتى آنس السامع بأوفى التحية، وأزكى السلامة. والذي فتح هذا الباب، وأطنب فيه غاية الأطناب: صاحب اللواء، ومقدم الشعراء حيث قال:
1 / 11
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيدٌ مخلد ... قليل هموم ما يبيت بأوجال
قيل وهذا البيت الأخير يحسن أن يكون من أوصاف الجنة. لأن السعادة والخلود وقلة الهموم والأوجال لا توجد إلا في الجنة. انتهى.
ومما يعيب على أبي الطيب استفتاحه قصيدة في مدح ملك، يريد أن يلقاه بها أول لقية بقوله:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا ... وحسن المنايا أن يكون أمانيا
قال الثعالبي: وفي الابتداء بذكر الموت والمنايا، ما فيه من الطيرة التي ينفر منها السوق فضلًا عن الملوك.
حكى الصاحب قال: ذكر الأستاذ الرئيس يومًا الشعر فقال: إن أول ما يحتاج فيه إلى التأنق حسن المطلع. فإن ابن أبي الثياب أنشدني في يوم نيروز قصيدة ابتداؤها: (أقبرونيا طلت ثراك يد الطل) . فتطيرت من افتتاحه بالقبر وتنغصت باليوم والشعر. انتهى كلامه.
قلت: والناس يستحسنون قول أبي الطيب في مفتتح قصيدته اللامية التي مدح بها كافور وهو:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
ويعدونه من براعة الاستهلال، لما كان بناؤه على الاعتذار عن حمل تقدمه. والذي أراه أن هذه المواجهة، مما يستثقلها السامع، فعدها في هذا السلك أولى من ذكرها في براعة الاستهلال.
وروى أبو علي حسن بن سعد الكاتب قال: أنشدني أبو المناقب الشاعر عيدية في الملك الأفضل أولها: (نهنيك كلا بل نهني بك الدهرا) . فقلت له: الابتداء هكذا مما يتطير به. وذكر له خبر ابن مقاتل فوافقني على ما قلته، وغير الابتداء فقال-
(نهنيك والأولى نهني بك الدهرا) .
وحكى أن شاعرًا أنشد الشريف فخر الدولة ابن أبي الحسن نقيب الطالبين قصيدة يهنيه فيها بشهر رمضان. وكان الشريف يتأذى بالصوم لمرض يجده وكان أولها (أيا منابك كلها رمضان) . فقال الشريف: طوال والله مشومة علي مكروهة مبغضة إلي. وحرمه ولم يعطه شيئًا.
ولما أنشد جرير، عبد الملك بن مروان قوله: (أتصحو أم فؤادك غير صاح) . قال له عبد الملك: بل فؤادك يا بن الفاعلة.
وكذلك لما أنشده ذو الرمة: (ما بال عينيك فيها الماء ينسكب) . وكان بعين عبد الملك مرض لا تزال عينه تدمع منه. فقال له: ما سؤالك عن هذا يا جاهل. وأمر بإخراجه. وكذلك فعل ابنه هشام بأبي النجم لما أنشده:
صفراء قد كادت ولما تفعل ... كأنها في الأفق عين الأحول.
وكان هشام إنما يعرف بالأحوال، فظن أن عرضه به فأمر بإخراجه وطرده.
ولما قدم الشيخ الأديب الشيخ حسين بن شهاب الدين الطبيب وافدًا على الوالد بالديار الهندية في سنة ثلاث وسبعين وألف، كان أول قصيدة امتدحه بها، قصيدة مفتتحها قوله:
لك الخير لا زيد يدوم ولا عمر ... ولا ماء يبقى في الدنان ولا خمر
فلم يبق في المجلس من يتعلق بأطراف الأدب إلا وأنكر هذا المطلع وقال: هذا بافتتاح مرثية أولى منه بافتتاح مدحةٍ. ولم يكن من عادة الوالد أن يتطير بشيء من الطيرة؛ فلم يعبأ بذلك.
إذا عرفت هذا؛ فمن الواجب على الشاعر والكاتب وغيرهما أن يفتتح كلامه بما يتفاءل به السامع؛ ويطيب به وقته.
ومن غريب ما يحكى في أمر التفاؤل هنا؛ ما حكاه أبو الحسن الباخرزي في كتابه دمية القصر؛ قال: من أعجب ما اتفق لي مع عميد الملك أبي نصر منصور بن محمد الكندري: إني داعتبه في بعض الأوقات قبل وزارته بأبيات مفتتحها:
أقبل من كندرٍ مسيخرة ... للنحس في وجهه علامات
قال: فضرب الدهر ضربانه، حتى صار العيوق مكانه. وألقيت إليه مقاليد الممالك، واستتبت به مراتب الدولة في تلك المسالك. وتصرفت بي أحوال إدانتي إلى ديوان الرسائل بالعراق، فدخل الديوان يومًا وأنا قريب العهد بالانتظام فيه. فلما وقع بصره علي، أثبت صورتي، وأقراه تذكر العهد القديم سورتي. فاقبل علي وقال: أنت صاحب أقبل؟ يشير إلى الأبيات التي مازحته بها، فقلت: نعم أيد الله سيدنا، فقال: قد تفاءلت بأبياتك إذ كانت مفتتحة بلفظ الإقبال، مؤذنة بفراغ البال. وأومض لي في وجهه من مخائل الاستبشار ما حملني على التوسل إليه بهجوه في بعض ما مدحته به من الأشعار، وقلت فيه من قصيدة:
أتيح إقباله إذ قلت أقبل من ... واها لا قبالة الوافي بما ضمنا
1 / 12
وتعجب الحاضرون من هجو صار وسيلة إلى المهجو، وصار ذلك غرة في جبين كرمه، وطرازًا على كم فضله. انتهى. فهم من التفاؤل بهذه المثابة.
وكان) ﵌ (يحب الفال الصالح، والاسم الحسن ويكره الطيرة - بكسر الطاء وفتح الياء - وهي التشاؤم. وقال) ﵌ (: ليس منا من تطير أو تطير له. ونزل) ﵌ (، على كلثوم بن الهدم، فصاح بغلام: يا نجيح؛ فقال) ﵌ (: أنجحت يا كلثوم. وقال) ﵌ (لتاجر أراد الخروج وفي القمر محاق: (تريد أن تمحق تجارتك؟ استقبل هذا الشهر بالخروج) . وسمع) ﵌ (رجلًا يقول: يا حسن، فقال: (أخذنا فالك من فيك) .
تنبيه: قال الدميري في حياة الحيوان: إنما أحب النبي) ﵌ (الفال، لأن الإنسان إذا أمل فضل الله كان على خير، وإن قطع رجاءه من الله كان على شر، والطيرة فيها سوء ظن وتوقع للبلاء. قالوا: يا رسول الله، لا يسلم أحد منا من الطيرة، والحسد؛ والظن؛ فما تصنع: قال: (إذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تتحقق) .
واعلم أن التطير إنما يضر من أشفق منه وخاف. وأما من لا يبال به لم يعبأ به فلا يضره البتة، لا سيما أن قال عند رؤية ما يتطير منه، أو سماعه؛ ما روي عن النبي) ﵌ (: (اللهم لا طير إلا طيرك ولا خيرك إلا خيرك ولا إله غيرك، اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) . وأما من كان معنيًا بها فهي أسرع إليه من السيل إلى منحدره، تفتح له أبواب الوسواس فيما يسمعه ويراه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة. في اللفظ والمعنى، ما يفسد عليه دينه، وينكد عليه معيشته. فليتوكل الإنسان على الله في جميع أموره، ولا يتكل على سواء. وذلك لأن الناس في التوكل على أحوال شتى. متوكل على نفسه أو على ماله. أو على جاهه أو على سلطانه، أو على غلته، أو على الناس؛ أو على ذاهب يوشك أن ينقطع وكل مستند إلى حي يموت. فنزه الله نبيه عن ذلك، وأمره أن يتوكل على الحي الذي لا يموت.
ومن غريب ما يحكى من أمر التطير: ما حكاه محمد بن راشد. قال أخبرني إبراهيم بن المهدي، أنه كان مع الأمين بمدينة المنصور، قال: فطلبني ليلة فأتيت، فقال: ما ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر وضوئه في الماء، فهل لك في الشراب؟ قلت: شأنك، فشربنا، ثم دعا بجارية اسمها ضعف؛ فتطيرت من اسمها؛ فأمرها أن تغني، فغنت بشعر النابغة الجعدي.
كليب لعمري كان أكثر ناصرًا ... وأيسر ذنبًا منك ضرج بالدم
فتطير بذلك وقال: غني غير هذا، فغنت:
أبكي فراقك عيني فأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء
فاليوم أبكيهم جهدي وأندبهم ... حتى أأوب وما في مقلتي ماء
فقال لها: لعنك الله، أما تعرفين غير هذه، فقالت: ظننت أنك تحب هذا. ثم غنت:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
ألا لنقل السلطان عن ملك ... قد زال سلطانه إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبدا ... ليس بفان ولا بمشترك
فقال لها: قومي لعنك الله، فقامت فلتت في قدح بلور له قيمة فكسرته. فقال: ويحك يا إبراهيم، أما ترى، والله ما أظن أمري إلا قرب. فقلت: بل يطيل الله عمرك، ويعز ملكك فسمعت صوتًا من دجلة قضي الأمر الذي فيه تستفتيان فوثب محمد مغتمًا، وقتل بعد ليلة أو ليلتين.
وحكى صاحب كتاب الهفوات: إن أرطاة بن سهية دخل على عبد الملك بن مروان، وكان قد أدرك الجاهلية والإسلام، فرآه عبد الملك شيخًا كبيرًا، فاستنشده فيما قاله في طول عمره فأنشده:
رأيت المرء تأكله الليالي ... كأكل الأرض ساقطة الحديد
وما تبقي المنية حين تأتي ... على سن ابن آدم من مزيد
وأعلم أنها ستكر حتى ... توفي نذرها بأبي الوليد
1 / 13
قال: فارتاع عبد الملك، وظن أنه عناه لأنه كان يكنى أبا الوليد، وعلم أيضًا أرطأة بسهوه وزلته فقال: يا أمير المؤمنين إني أكنى بأبي الوليد وصدقه الحاضرون، فسري عن عبد الملك قليلًا.
وحكي أنه لما بنى أبو العباس السفاح داره بالأنبار دخل عليه عبد الله بن الحسين بن الحسن) ﵇ (فتمثل بهذا البيت حين رأى السفاح:
يؤمل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كل ليلة
فتغير وجه السفاح، فاعتذر إليه عبد الله بأنه جرى على لسانه. فما مر عليه أيام حتى مات.
ومن عجيب ما يحكى في التطير أيضًا: أن السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب، لما خرج من القاهرة إلى جهة البلاد الشامية، أقام ظاهرة البلد لتجتمع العساكر، وعنده الأعيان من الدولة والعلماء والأدباء، فأخذ كل واحد يقول شيئًا في الوداع والفراق. وكان في الحاضرين معلم أولاده، فأخرج رأسه من بين الحاضرين، وأشار إلى السلطان منشدًا:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
فانقبض السلطان والناس، وتطيروا من ذلك. وكان الأمر على ما قال: فإنه لم يعد بعدها إلى مصر، واشتغل بالبلاد الشرقية؛ وفتوح القدس والسواحل إلى أن مات رحمه الله تعالى.
تنبيهان: (الأول) - قال أهل البيان: إذا لم يراع المتكلم افتتاح كلامه بما يتفاءل به فلا أقل من أن يحترز عما يتطير به، بل ينبغي اجتناب ذلك حتى في أثناء الكلام، ولا يقصر على مفتتحه.
روي أنه لما أنشد الصاحب بن عباد عضد الدولة قصيدته الملقبة باللاكنية (لكثرة ما فيها من لفظة لكن) وأولها:
أشبب لكن بالمعالي أشبب ... وأنسب لكن بالمفاخر أنسب
ولي صبوة لكن إلى حضرة العلى ... وبي ظمأ لكن من العز أشرب
فلما بلغ إلى قوله فيها:
ضممت على أبناء تغلب تاءها ... فتغلب ما مر الجديدان تغلب
قال عضد الدولة: يكفي الله تطيرا من قول تغلب.
قيل: ومما يتعجب منه في هذا الباب قول مهيار الديلمي على جلالة قدره واتقاد خاطره وحسن تخيله:
وإنك مذخور لإحياء دولة ... إذا هي ماتت كان في يدك النشر
كيف يقول لممدوحه: بأن تنشر يده. وكذلك قوله يتغزل:
في صدرها حجر صدارها ... ماء يشف وبانة تتعطف
فقوله: في صدرها حجر مع أبشع لفظ لما فيه من إيهام الدعاء عليها.
وكذلك قول ابن قلاقس:
بطلاقة أبدت بصفحة وجهه ... وضح الصباح لمن له عينان
حيث جعل الوضح بوجهه.
(الثاني): قالوا: ينبغي أن يحترس الناظم مما يتأول عليه ويبادر بالجبة إليه، كما يقيل لأبي تمام حين أنشد: (على مثلها من أربع وملاعب): لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وكان في أبي تمام حبسة شديدة، فانقطع خجلا.
وأنشد الجعدي بعض الملوك:
لبست أناسًا فافنيتهم ... وأفنيت بعد أناس أناسا
فقال: ذلك لشؤمك. فعلى الناظم التنبيه لذلك والاحتراس من الوقوع فيه.
وهذا القدر كاف في التنبيه من سنة الغفلة. والنثر مقيس عليه والله الموفق.
فائدتان. (الأولى) - علم المعاني والبيان والبديع: يستشهد فيه بكلام المولدين وغيرهم، لأنه يرجع إلى العقل، والعرب وغيرهم فيه سواء.
وقال ابن جني: المولدون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ.
قال ابن رشيق في العمدة: الذي ذكره أبو الفتح صحيح بين، لأن المعاني اتسعت باتساع الناس في الدنيا، وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض. فإنهم حضروا الحواضر. وتفننوا في المطاعم والملابس، وعرفوا بالعيان مادلتهم عليه بداهة العقول من فضل التشبيه ونحوه.
ومن هنا ما يحكى عن ابن الرومي: إن لائمًا لامه وقال له لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ فقال له: أنشدني شيئًا من شعره أعجز عنه.
فأنشده في صفة الهلال:
أنظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال له ابن الرومي: زدني، فأنشده:
كأن آذريونها ... والشمس فيه كاليه
مداهن من ذهب=فيها بقايا غاليه فقال: واغوثاه، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ذاك يصف ماعون بيته لأنه من أبناء الخلفاء وأنا مشغول بالتصرف في الشعر وطلب الرزق به، امدح هذا مرة، وأهجو هذا كرة، وأعاتب هذا تارة، واستعطف هذا طورًا. انتهى.
1 / 14
(الثانية) - قال ابن حجة: يتعين على الناظم أن يحتشم في الغزل الذي يصدر به المديح النبوي، ويتأدب ويتضاءل، ويشبب مطربًا بذكر سلع ورامة، وسفح العقيق، والعذيب والغوير؛ ولعلع؛ وأكتاف حاجر ويطرح ذكر محاسن الرد؛ والتغزل في ثقل الردف؛ ورقة الخصر. وبياض الساق وحمرة الخد، وخضرة العذار؛ وما أشبه ذلك. وقل من سلك هذا الطريق من أهل الأدب.
وبراعة الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى في هذا الباب من أحسن البراعات وأحشمها وهو قوله:
إذن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... واقر السلام على عرب بذي سلم
فالتشبيب بذكر سلع والسؤال عن جيرة العلم، والسلام على عرب بذي سلم، لا يشكل على من عنده أدنى ذوق؛ إن هذه البراعة صدرت لمديح نبوي.
ومطلع البردة أيضًا في هذا الباب من أحسن البراعات وهو:
أمن: تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم
فمزج دمعه بدمه عندما تذكر جيران بذي سلم، من ألطف الإشارات إلى أن القصيدة نبوية. انتهى كلامه.
ومطلع بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
بطيبة انزل ويمم سيد الأمم ... وانثر له المدح وانشر طيب الكلم
وتعقبه ابن حجة: بأن هذه براعة ليس فيها إشارة تشعر بغرض الناظم وقصده، بل أطلق التصريح ونثر المدح ونشر طيب الكلم. والبديعية لا بد لها من براعة وحسن مخلص وحسن ختام. فإذا كان مطلع القصيدة مبنيًا على تصريح المدح، لم يبق لحسن التخلص محل ولا موضع. انتهى.
ومطلع بديعية عز الدين الموصلي قوله:
براعة تستهل الدمع في العلم ... عبارة عن نداء المفرد العلم
ومطلع بديعية ابن حجة قوله:
لي في ابتداء مدحكم يا عرب ذي سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم
قلت: فيه قصر (الابتدا) وحقه المد، لأنه مصدر ابتدأ يبتدئ، وهو ضرورة. وارتكاب الضرورة في الابتداء خصوصًا مطلع البديعية، لا يخفى ما فيه. وهو كما قال الثعالبي في يتيمة الدهر: جرى أمره على ما تقول العامة: أول الدن دردي.
ومطلع بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله - وقد التزم التورية باسم النوع:
حسن ابتداء مديحي حي ذي سلم ... أبدى براعة الاستهلال في العلم
أقول: قد علمت أن الاستهلال يطلق على معان، ولم يعين المراد منه. والظاهر أنه أراد ببراعة الاستهلال، والمعنى الاصطلاحي، بقرينة حسن الابتداء، وحينئذ فلا تورية في ذلك، وإن أراد بها غير ذلك، كان عليه البيان.
ومطلع بديعيتي قد تقدم ذكره، لكن سرد المطالع جملة أوجب أعادته هنا، وهو:
حسن ابتدائي بذكري جيرة الحرم ... له براعة شوق يستهل دمي
براعة الاستهلال في هذا المطلع أظهر من أن ينبه عليها. وسهولة ألفاظه وصحة سبكه وتناسب قسميه أوضح من أن يشار إليها. وتزكية النفس كما فعل ابن حجة، أمر نهى عنه النقل، ومنع منه العقل ولله در القائل:
وما أعجبتني قسط دعوى عرضة ... وإن قام في تصديقها ألف شاهد
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ... قليل الدعاوى وهو جم الفوائد
ومطلع بديعية إسماعيل المقرئ قوله ولم يلتزم التورية باسم النوع:
شارفت ذرعًا فذرعن مائها الشبم ... وجزت نملى فنم لا خوف في الحرم
تعدية (ذر) ب (عن) لا يصح إلا على تضمينه معنى، تنح. وقد قال الله سبحانه: ثم ذرهم في خوضهم - يلعبون ولم يسمع ذر عنه. والتضمني لا ينقاس كما نص عليه العلامة أبو حيان، وارتكاب مثل هذا في المطلع خصوصًا مطلع بديعية منافٍ للشروط التي قرّروها فيه، وقد نظم جماعة من المتأخرين بديعيات يعرفها من وقف عليها، ويحق أن ينشد فيها:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى استامها كل مفلس
ولعل الواقف على هذا الكلام يرميني بسوء ظنه، وينسبني إلى التحامل على المتأخرين من أهل الأدب، ودعوى التفرد بفنه، فعل المعجب بفهمه وحدسه، القادح لغيره، المادح لنفسه. وأنا أعوذ بالله من التزيد في المقال؛ فإنها عثرة لا تقال.
فمن تلك البديعيات بديعية الكفعمي ﵀ ومطلعها:
إن جئت سلمىً فسل من في خيامهم ... ومن سكن منسكًا عن دميتي ودمي.
1 / 15
ففي صرفه (سلمى) وتسكينه آخر الفعل الماضي ما يغني عن الكلام على بقية ما فيه. ومن كان هذا مبلغه من النحو فالسكوت أولى به ولا نطول بذكر جميع هذه البديعية. فالمطلع يدل على ما بعده. وما كان الغرض من إثباته إلا إقامة البينة على ما ذكره، وليس المقصود بهذا كله تتبع العثرات والعياذ بالله، بل تنبيه الطالب على اجتناب الوقوع في مثل ذلك. ومن لم يستطع شيئًا فليدعه كما قيل:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
ولنقتصر على هذا المجال من الكلام على حسن الابتداء وبراعة الاستهلال.
الجناس المركب والمطلق
دعي وعجبي وعج بي بالرسوم ودع ... مركب الجهل واعقل مطلق الرسم
الجناس والتجنيس والمجانسة والتجانس: كلها ألفاظ مشتقة من الجنس. فالجناس مصدر جانس، والتجنيس تفعيل من الجنس، والمجانسة مفاعلة منه. لأن إحدى الكلمتين إذا شابهت الأخرى وقع بينهما مفاعلة الجنسية، والتجانس مصدر تجانس الشيئان: إذا دخلا تحت جنس واحد.
وحكي عن الخليل: بهذا يجانس هذا أي يشاكله، ونص عليه في التهذيب أيضًا. قال الجوهري في الصحاح: زعم ابن دريد: إن الأصمعي كان يدفع قول العامة: هذا مجانس لهذا، ويقول: إنه مولد، وكذا في ذيل الفصيح للموفق البغدادي. قال الأصمعي: قول الناس: المجانسة والتجنيس، مولد وليس من كلام العرب، ورده صاحب القاموس: بأن الأصمعي واضع كتاب الأجناس في اللغة، وهو أول من جاء بهذا اللقب.
وحد الجناس في الاصطلاح: تشابه الكلمتين في اللفظ، أي في التلفظ. قال في سر الصناعة: ولم أر من ذكر فائدته، وخطر لي أنها الميل إلى الإصغاء إليه. فإن مناسبة الألفاظ تحدث ميلًا وإصغاء إليها. ولأن اللفظ المذكور إذا حمل على معنى، ثم جاء والمراد به معنى آخر، كان للنفس تشوق إليه. انتهى. والعبارة الثانية قاصرة عن بعض أنواع الجناس قاله في عروس الأفراح.
وهو أنواع، وجملة ما ذكره الشيخ صفي الدين في بديعيته منها اثنا عشر نوعا. ومنهم من زاد، ومنهم من نقص؛ ونحن ذكرنا ما ذكره الصفي؛ ورتتناه حسبما رتبه.
فمن أنواعه الجناس المركب والجناس المطلق: أما الجناس المركب - فهو ما تماثل ركناه وكان أحدهما كلمة مفردة والآخر مركبًا من كلمتين فصاعدًا، وهو على ثلاثة أنواع، أحدهما: الجناس المقرون. ويسمى المتشابه، وهو ما اتفق ركناه لفظًا وخطا، كقول أبي الفتح البستي:
إذا ملك لم يكن ذاهبه ... فدعه فدولته ذا هبه
وقول أبي جعفر الاسكافي:
فرشت لشيبي أجل البساط ... فلم يستطب مجلسًا غير رأسي
فقلت لنفسي لا تنكريه=فكم للمشيب كراسي كراسي وقول أبي حفص عمر الحاكم المطوعي:
يا خادمًا يملك مني خادما ... قد صير الدنيا علي خاتما
كم من دما صب صببت ظالما ... أخادما أصبحت أم أخادما
وقوله أيضًا:
ألا يا سيدا خلقت يداه ... لثروة معدمٍ أو يسرعان
مضى العسر الذي قاسيت فاعدل=إلى يسرين نحوك يسرعان
عسى ما عسى من عود شملي يكتسي ... بعودهم بعد التسلب أوراقا
فلم يصف لي من بعد قط مورد ... ولا لذلي عيش وإن طاب أوراقا
ومنه قول الحصري:
رب سهل على فتاتي فتاتي ... لترى هل سلافتاها فتاها
علمته جفونها آي سحر ... ما تلاها في حبها مذ تلاها
وقول شمسويه البصيري:
ناظراه بما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أو دعاني
وقولي في مطلع قصيدة مناجاة:
قف طالبا فضل الإله وسائلًا ... واجعل فواضله إليه وسائلا
وقولي أيضًا في مطلع أخرى:
تراءت سليمى وهي كالبدر أو أسنى ... فضاء فضاءُ الربع من ضوئها وهنا
وقول الآخر:
بعدت وقد أضرمت ما بين أضلعي ... ببعدك نارًا حشو قلبي وقودها
وكلفت نفسي قطع بيداء لوعة ... تكل بها هوج المطي وقودها
وقول الآخر:
صلوا مغرمًا من أجلكم واصل الضنا ... وفي حبكم طيب الرقاد فقد فقد
أثار الهوى نارا تشب بقلبه ... ومن لي بإطفاء الغرام وقد وقد
وقول الآخر:
قلت لبدر التم لما غدا ... معتجبا من حسن أوصافه
إن شئت أن تسرق من حسنه ... فلذ به يا بدر أوصافه
وقول الآخر:
1 / 16
بكيت فيروزا على بعده ... فأصبحت عيناي فيروزجا
وجاء من بشرني مسرعا ... وقال لي يهنيك فيروزجا
وقول الآخر:
رب سفيه جليس سوءٍ ... مفترس عرضنا بنابه
يقدح فينا بكل سوءٍ ... وكل ما قاله بنابه
وقول الآخر:
رأيتك تكويني بميسم ذلة ... كأنك قد أصبحت علة تكويني
وتلويني الحق الذي أنت أهله ... وتخرج من أمري إلى كل تلوين
وقول الآخر:
بعدت فأما الطرف مني فساهر ... لشوقي وأما الطرف منك فراقد
فسل عن سهادي أنجم الليل أنها ... ستشهد لي يومًا بذاك الفراقد
وقول الآخر:
تفرق قلبي في هواه فعنده ... فريق وعندي شعبة وفريق
إذا ظمأت نفسي أقول له اسقني ... وإن لم يكن ماء لديك فريق
وهذا النوع لم يذكره الشيخ صفي الدين في بديعيته.
والنوع الثاني، الجناس المفروق - وهو ما اتفق ركناه لفظًا لا خطا، وخص باسم المفروق لافتراق الركنين في الخط، وهو الذي نظمه الصفي. ومن أمثلته، قول الحاكم المطوعي:
لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغة في تهذيبها
فمتى عرضت الشعر غير مهذب ... عدوة مثل وساوسٍ تهذي بها
وقول المعتمد بن عباد - وقد قالت له بعض خطاياه بأغمات: يا مولاي لقد هنا هنا-:
قلت لقد هنا هنا ... مولاي أين جاهنا
قلت لها إلهنا ... صيرنا إلى هنا
وقول أبي الفتح البستي:
إن هز أقلامه يوما ليعلمها ... أنساك كل كمي هز عامله
وان أقر على رقٍ أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له
وقوله من أبيات:
يرمي سهامًا أن أسر المقت لي ... بالكيد لا يقصد غير المقتل
وقول أبي الفضل الميكالي:
لقد راعني بدر الدجى بصدوده ... ووكل أجفاني برعي كواكبه
فبا جزعي مهلا عساه يعود لي ... ويا كبدي صبرا على ما كواك به
وقول ابن جابر:
أيها العاذل في حبي لها ... خل نفسي في هواها تحترق
ما الذي ضرك مني بعد ما ... صار قلبي من هواها تحت رق
وقول الصاحب قوام الدين القمي:
مات الكرام ومروا وانقضوا ومضوا ... ومات في أثرهم تلك الكرامات
وخلفوني في قوم ذوي سفهٍ ... لو أبصروا طيف ضيف في الكرى ماتوا
وقول أبي الفضل أيضًا:
وكل غنى يتيه به غني ... فمرتجع بموت أو زوال
وهب جدي زوى لي الأرض طرا ... أليس الموت يزوي ما زوى لي
وقول ابن أسد الفارقي:
غدونا بآمالٍ ورحنا بخيبةٍ ... أماتت لنا أفهامنا والقرائحا
فلا تلق منا غاديا نحو حاجةٍ ... فتسأله عن حاجةٍ والق رائحا
وكقول أبي الفتح البستي:
أأروم في أيام غيرك بسطة ... في الجاه لي أني لعين الجاهل
وقول محمد بن سليمان بن قطرش:
يا قوم ما بي مرض واحد ... لكن بي عدة أمراض
ولست أدري مع ذا كله ... أساخط مولاي أم راضي
وقلت أنا في ذلك أيضًا:
أيا بانيا عليا القصور مؤملا ... أمانًا من الدنيا ونيل أماني
أقل البنا فالدهر يوم وليلة ... عجولان للأعمار ينتهبان
وقل للذي لا ينتهي عن بنائها ... متى يأتي أمر الله ينته بان
وقال أبو الحسن الباخرزي:
لولا سعيد لنضت سعدها ... مجالس العلم وتدريسها
شمس يعم الخالق إشراقه=وغره لو كنت تدري سسها وقال آخر من دوبيت:
هذا زمن الربيع قم فانتبه ... فالراح تزيل كلما أنت به
وقول أبي سعيد عبد الرحمن بن محمد دوست من شعراء اليتيمة:
وشادن نادمت في مجلس ... قد أمطرت راحا أبا يقه
طلبت وردًا فأبى خده ... ورمت راح فأبى ريقه
وقوله أيضًا:
وشادن قلت له ... هل لك في المنادمه
فقال رب عاشقٍ ... سفكت بالمنى دمه
وقول بعضهم وأجاد:
لي مدمع وصبي به ... من فيضه وصبيبه
وجوىً غدا ولهي به ... من حره ولهيبه
ناديت من أسرى به ... بحياة من أسري به
صل مدنفًا تجري به ... بلواه في تجريبه
وقول الشيخ العميد أبي سهل بن الحسن:
عجبت من الأقلام لم تبد خضرة ... وباشرن منه كفه والأناملا
1 / 17
لو أن الورى كانوا كلامًا وأحرفا ... لكان نعم منهم وباقي الأنام لا
وقول الآخر:
أمير كله كرم سعدنا ... بأخذ المجد منه واقتباسه
يحاكي النيل حين يروم نيلا ... ويحكي باسلًا في وقت باسه
وقول الآخر:
يا من تدل بمقلة ... وأناملٍ من عندم
كفي جعلت لك الفدا=ألحاظ عينك عن دم وقول الآخر:
لا خير في العلم إذا لم يكن ... حظ من المال أو الجاه لي
والعلم إن لم أك ذا ثروة ... أنزلني منزلة الجاهل
وقول الآخر:
يا من يقول الشعر غير مهذب ... ويسومني التكليف في تهذيبه
لو أن كل الخلق فيك مساعدي ... لعجزت عن تهذيب ما تهذي به
وقول الباخرزي:
أصبحت عبدًا لشمس ... ولست من عبد شمس
إني لأعشق ستي ... وحق من شق خمس
هيفاء تترك يومي ... بالهجر حاسد أمسي
ولا تبالي جفاء ... أسر قلبي أم سي
النوع الثالث: الجناس المرفو، وهو ما كان أحد ركنيه مستقلًا، والآخر مرفو من كلمة أخرى. ولم ينظمه الصفي أيضًا. ومثاله قول الحريري:
ولا تله عن تذكار ذنبك وأبكه ... بدمع يحاكي المزن حال مصابه
ومثل لعينيك الحمام ووقعه ... وروعة ملقاه ومطعم صابه
وقوله أيضًا:
وإن قصارى مسكن الحي حفرة ... سينزلها مستنزلًا عن قبابه
فواها لعبد ساءه سوء فعله ... وأبدي التلافي قبل إغلاقه بابه
وقول الآخر:
كف عن الناس إذا شئت أن ... تسلم من قول جهول سفيه
من قذف الناس بما فيهم ... يقذفه الناس بما ليس فيه
وقول آخر:
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... خمرة تترك الحليم سفيها
لست أدري من رقة وصفاء ... هي في كأسها أم الكأس فيها
وقولي:
إذا أصبحت ذا طرب ولهوٍ ... تعاقر راحة أو شرب راح
فقل لي كيف ترجوا الرشيد يوميًا ... وما لك عن ضلالك من براح
وقول بعضهم:
دعوني ورسمي في العفاف فإنني ... جعلت عفافي في حياتي ديدني
وأعظم من قطع اليدين على الفتى ... صنيعة بر نالها من يدي دني
وقول أبي الحسن الباخرزي:
أنا القادم بأرضك رحله ... فإن زرته بدلت بالخاء قافه
أحبك قبل الالتقاء فإن يذب ... أخو صبوة شوقًا إلى الملتقى فهو
انتهى الكلام على الجناس المركب وأقسامه. قال ابن الحجة: وهنا بحث لطيف وهو أنه قد تقرر أن ركني الجناس يتفقان في اللفظ، ويختلفان في المعنى، لأنه نوع لفظي لا معنوي، وهو نوع متوسط بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع. والتورية من أعز أنواعه وأعلاها رتبة. فإذا جعلت الجناس تورية انحصر المعنيان في ركن واحد، وخلصت من عقادة الجناس. وأنا أذكر المثالين، قال صاحب الجناس المركب:
اعن العقيق سألت برقا أومضا ... أأقام حادٍ بالركائب أومضا
وقال صاحب التورية:
وإذا تبسم ضاحكًا لم ألتفت ... أن عاد برقا في الدياجي أومضا
وقال في الجناس التام: وإذا راجعت النظر في كلامهم وجدت غالب ما نظموه من التورية جناسا تامًا. فمن ذلك قول الشيخ صدر الدين الوكيل في الدوبيت:
كم قال معاطفي حكتها الأسل ... والبيض سرقن ما حكتها المقل
والآن أوامري عليهم حكمت ... البيض تحد والقنا تعتقل
ففي تحد وتعتقل، جناسان تامان، إذا أبطلت الاشتراك وأبرزت كلا من الركنين في موضعه على طريق من له رغبة في الجناس. انتهى.
وأنا أقول: إن هذا الكلام الذي قرره لا يختص بالتورية، بل يجير في الاستخدام على طريقة ابن مالك أيضًا كقول المعري:
تلك ماذية وما لذباب الصيف والسيف عندها من نصيب
وهذا خروج من الاصطلاح، وقول بالاقتراح. لأن الجناس لا بد فيه من أن يكون ركناه المتفقان في اللفظ، المختلفان في المعنى، موجودين في اللفظ، وإلا لم يسم جناسًا عندهم كما هو صريح حدهم له، وكلام ابن حجة ليس بحجة. فإن هذا الذي ذكره شيء لا يعرفه أرباب البديع ولا نص عليه أحد منهم، فلا يلتفت إليه.
1 / 18
وأما الجناس المطلق - وسماه جماعة كالسكاكي وغيره، تجنيس المشابهة - فهو ما اختلف ركناه في الحروف والحركات، وجمع بين لفظيهما المشابهة، وهو ما يشبه الاشتقاق ولي باشتقاق، وذلك بان يوجد في كل من اللفظين جميع ما في الآخر من الحروف أو أكثر، لكن لا يرجعان في المعنى إلى أصل واحد. وبهذا يفرق بينه وبين المشتق. فإن المشتق يرجع معنى ركنيه إلى أصل واحد. قال الشيخ صفي الدين في شرح بديعيته: وقد غلط أكثر المؤلفين في المشتق، وعدوه تجنيسًا، وليس من أصناف التجنيس. انتهى.
ولنمثل لكل من القسمين ليتضح الفرق بينهما كما الاتضاح. فالمشتق كقول الله: (فأقم جهك للدين القيم) فإن الركنين مشتقان من قام ويقوم، فهما راجعان إلى معنى واحد. وقوله تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) فإنهما مشتقان من ربا يربو، بمعنى زاد ونما، وقوله) ﵌ (: ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا، وقول الشاعر:
وذلكم أن ذل الجار حالفكم ... وإن أنفكم لا يعرف الأنفا
وقول الآخر:
ونرتاب بالأيام عند سكونها ... وما أرتاب بالأيام غير مريب
وما الدهر في حال السكون بساكن ... ولكنه مستجمع لوثوب
وقول أبي العلاء المعري: ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا=تجاهلت حتى قيل أني جاهل وقول صاحب البردة:
ظلمت سنة من أحيى الظلام إلى ... أن اشتكت قدماه الضر من ألم
وما ألطف قول كشاجم في خادم أسود يعرف بالظلم:
يا مشبها في فعله لونه ... لم تحظ ما أوجبت القسمة
فعلك من لونك مستخرج ... والظلم مشتق من الظلمة
لأن كليهما يرجعان إلى معنى الستر. فإن الظالم يستر الحق، والظلمة تستر المحسومات. وقال) ﵌ (فيما أخرجه الشيخان عن ابن عمر: الظلم ظلمات يوم القيامة. ومن محاسن أبي الحسن علي بن الحسين الباخرزي قوله في هذا النوع:
عاينت طيف الذي أهوى فقلت له ... كيف اهتديت وجنح الليل مسدول
فقلت أبصرت نارًا من جوانحكم ... يضيء منها لدى السارين قنديل
فقلت نار الهوى معنى وليس لها ... نور يضيء فماذا القول مقبول
فقال نسبتنا في الأمر واحدة ... أنا الخيال ونار الشوق تخييل
فنبه على الاشتقاق في قوله (نسبتنا في الأمر واحدة) . وقلت أنا في ذلك منبهًا على الاشتقاق بصريح اللفظ:
والأماني كالمنايا وأن نا ... زع غر فالاشتقاق دليل
والجناس المطلق، كقوله تعالى: (يا أسفي على يوسف) فإن الأسف ويوسف لا يرجعان إلى أصل واحد. وقوله تعالى: (قال إني لعملكم من القالين) فإن قال من القول، والقالين من القلى. وقوله) ﵌ (- فيما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة: أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ورسوله. فإن أسلم لم تسم من المسالمة، ولا غفار من المغفرة ولا عصية - تصغير عصا - من العصيان، بل هي أسماء قبائل مرتجلة، لم يلاحظ في وضعها تلك المعاني بخلاف نحو هاشم؛ فإنه سمي به لما هشم الثريد لقومه في عام محل وقع بمكة. ومن أمثلته في الشعر قول النعمان بن بشير لمعاوية بن أبي سفيان:
ألم تبتدركم يوم بدر سيوفنا ... وليلك عما ناب قومك نائم
وقول الآخر:
عرب تراهم أعجمين عن القرى ... متنزلين عن الضيوف النزل
فأقمت بين الأزد غير مزود ... ورحلت عن خولان غير مخول
وقول الآخر:
صل الراح بالراحات وأقدح مسرة ... بأقداحها واعكف على لذة الشرب
ولا تخش أوزارًا فأوراق كرمها ... أكف غدت تستغفر الله للذنب
الشاهد في البيت الأول، وما أحسن ما استعمل الاستغفار في البيت الثاني. وقول القاضي الأرجاني:
وفي الحي كل كليل اللحاظ ... يطالعنا من خصاص الكلل
وقول أبي فراس الحارث بن حمدان:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله
فما السلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشمول ازدهتني بل شمائله
ألوي بعزمي أصداغ لوين به ... وغال قلبي بما تحوي غلائله
وفيه شاهد الاشتقاق والجناس المطلق كما لا يخفى.
وقولي من أبيات:
اطرح زنادك لا تستوره قبسا ... لا يقدح الزند من في كفه القدح
وقولي من قصيدة:
1 / 19
خاطرت في هواك مهجة صب ... هويت منك ذابلًا خطارا
ومنها:
لا تلمني فما التصابي بعار ... قبل يسترجع الصبا ما أعارا
وقولي من قصيدة أخرى وفي البيت الأول الاشتقاق، وفي الذين بعده الجناس المطلق:
ولائم لام على حبه ... جهلًا بأمر الحب وهو المليم
يروم مني الغدر فيه وما ... ذمام ودي في الهوى بالذميم
صم صدى العاذل في حب في ... أسكنته في مهجتي في الصميم
وقول الآخر:
إن فصل الربيع فصل مليح ... تضحك الأرض من بكاء السماء
ذهب حيثما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة في الفضاء
وقول بعضهم:
بجانب الكرخ من بغداد عن لنا ... ظبي ينفره عن وصلنا تفر
ظفيرتاه على قتلي تظافرتا ... يا من رأى شاعرًا أودى به الشعر
وقول الآخر:
إذا أعطشتك أكف اللئام ... كفتك القناعة شبعًا وريا
فكن رجلًا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
وقول الشيخ العميد:
إذا بلغ الحوادث منتهاها ... فرج بعيدها الفرج المطلا
فكم كرب تولى إذا توالى ... وخطب قد تجلا حين جلا
وقول الآخر:
رب خود عرفت في عرفات ... سلبتني بحسنها حسناتي
لم أنل في منى منى النفس لكن ... خفت بالخيف أن تكون وفاتي
وقول المعري:
لا تنزلي بلوى الشقائق فاللوى ... ألوى المواعد والشقيق شقاق
تنبيه: - علم بالأمثلة المذكورة أنه ليس المراد بما يشبه الاشتقاق في الجناس المطلق، الاشتقاق الكبير، لأن الاشتقاق الكبير، هو الاتفاق في حروف الأصول من غير رعاية ترتيب، مثل، القمر والرقم والمرق، ونحو ذلك. والأسف ويوسف؛ وقال والقالين ليس من هذا القبيل، وهو ظاهر نبه عليه السعد التفتازاني في شرح التلخيص.
إذا عرفت هذا فالشيخ صفي الدين (ره) جمع بين الجناس المركب والمطلق في المطلع فقال:
إذن جئت سلعًا فسل عن جيرة العلم ... واقر السلام على عرب بذي سلم
فالمركب في قوله: (سلعا) و(سل عن)، والمطلق في (السلام) و(السلم) .
وابن جابر جاء المركب في بيت، وبالمطلق في بيت، فقال في المركب:
دع عنك وسل ما بالعقيق جرى ... وأم سلعا وسل عن أهله القدم
وقال في المطلق:
جار الزمان فكفوا جوره وكفوا ... وهل أضام لدى عرب على أضم
قال ابن حجة: المطلق في (أضام) و(أضم) . وأما (جار) و(جوره) فمشتق، ولكن لم يخف ما في البيتين من الثقل مع خفة الالتزام. انتهى. قلت: وهو - أعني المطلق - في (كفوا) و(كفوا) أيضًا كما هو ظاهر.
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
فحي سلمى وسل ما ركبت بشذا ... قد أطلقته أمام الحي من أمم
فأتى بالنوعين في بيت واحد، وورى بالاسمين من جنس الغزل.
وبيت ابن حجة قوله - وحذا فيه حذو الموصلي-:
بالله سربي فسربي طلقوا وطني ... وركبوا في ضلوعي مطلق السقم
والشيخ عبد القادر الطبري لم يذكر في بديعيته إلا الجناس المركب، وأما المطلق فلم يجر له ذكرًا فقال:
فأم سلعًا وسل عن أهله فهم ... قد ركبوا في الحشا نارًا ببعدهم
وبيت بديعيتي هو:
دعني وعجبي وعج بي بالرسوم ودع ... مركب الجهل واعقل مطلق الرسم
وبيت بديعيتي هو:
دعني وعجبي بي بالرسوم ودع ... مركب الجهل واعقل مطلق الرسم
فالمركب في (عجبي) و(عج بي) والمطلق في (الرسوم) و(الرسم) فالرسوم: الآثار، والمراد هنا آثار الديار بقرينة المقام. والرسم: صفة للأينق التي تمشي الرسيم، وهو نوع من سير الإبل، فحذف الموصوف وأبقى الصفة وهو كثير الوقوع في فصيح الكلام، قال تعالى (وعندهم قاصرات الطرف) أي حور قاصرات الطرف (وألنا له الحديد أن اعمل سابغاتٍ) أي دروعًا سابغات. والعجب بالضم: الزهو والكبر. وعاج يعوج، أي أقام بالمكان ووقف. والجهل المركب: خلاف البسيط، فإن المركب هو عدم العلم مع اعتقاده، فهو مركب من الجهل والجهل بالجهل. والبسيط، هو عدم العلم فقط. قال بعضهم:
قال حمار الحكيم يومًا ... لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط ... وراكبي جاهل مركب
1 / 20