إن رق لي قلبك مما ألاق ... من فرط تعذيب وطول اشتياق
فإنه لم يأت بجواب الشرط، ولا ما يحسن السكوت على مطلعه، ولا تتم الفائدة به.
ومثله قوله أيضًا:
حلفت لها بالله يوم التفرق ... وبالوجد من قلبي لها المتعلق
فإنه لم يأت بجواب القسم الذي يتم الكلام به إلا في البيت الثاني حيث قال:
وبالعهد ما البذل القليل بضائع ... لدي ولا العهد القديم بمخلق
وقد تقدم إن من الشروط حسن الابتداء، أن لا يكون المطلع متعلقًا بما بعده.
ومن غريب النقد، ما حكاه ابن ظافر قال: صنعت بالشام سنة سبع وثمانين وخمسمائة قصيدة في الملك الأفضل أبي الحسن علي بن الملك الناصر نور الدين أولها:
دعها ولا تحبس زمام المقود ... تطوي بأيديها بساط الفدفد
وأنشدتها لمن كان بالعسكر من أصحابنا المنتسبين إلى الأدب، فما منهم إلا من بذل جهده في نقدها، ورمى بأفلاذ كبده فيها، ثم حملتها إلى حضرته، فصادفت قبولا. واتفق بعد ذلك أن أنشدتها ابن إلا - التكريتي، فلما أنشدته البيت الأول قال: ما كان يؤمنك إذا أخذ بدرجها في يده، وفتحه، فوجد أول ما فيها (دعها) أن يلقيها من يده وتقول: قد فعلت، ألست كنت تفتضح؟ قال: بلى والله ولكن قد وقى الله. وهكذا فليكن النقد.
واعلم أنه يجب على الناظم والناثر النظر في أحوال المخاطبين والممدوحين والتجنب لما يكرهون سماعه، ويتطيرون منه خصوصًا الملوك؛ ومن يتصل بهم. فإنهم أشد الناس تطيرًا من المكروهات؛ وعثرة الناظم في ذلك لا تقال.
فمن ذلك ما وقع لابن مقاتل الضرير أحد شعراء الجبال في مطلع القصيدة من الرجز أنشدها للداعي إلى الحق العلوي الثائر بطبرستان، وهو قوله:
(موعد أحبابك بالفرقة غد) . فقال له: بل موعد أحابك يا أعمى ولك المثل السوء. وحكي أيضًا أنه دخل عليه في يوم مهرجان وأنشده قوله:
لا تقل بشرى وقل لي بشريان ... غرة الداعي ويوم المهرجان
فتطير به الداعي وقال: أعمى يبتدئ بهذا يوم المهرجان. فأمر ببطحه وضربه خمسين عصا. وقال: إصلاح أدبه أبلغ من ثوابه.
ومثل ذلك ما وقع للبحتري وقد أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي أولها: (لك الويل من ليلٍ تقاصر آخره) . فقال له: بل لك الويل والخزي.
ودخل أبو نؤاس على الفضل بن يحيى فأنشده قصيدته التي أولها:
أربع البلى أن الخشوع لباد ... عليك وإني لم أخنك ودادي
فتطير الفضل من هذا الابتداء، فلما انتهى إلى قوله فيها:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغاد
واستحكم تطيره واشمأز وقال: نعيت إلينا أنفسنا. فلم يمض إلا أسبوع حتى نزلت بهم النازلة. وقد قيل والله اعلم: إن أبا نواس قصد التشاؤم لهم، وكان في نفسه من جعفر.
وقصة إسحاق بن إبراهيم الموصلي. في هذا الباب مما لا يكاد يقضي العجب منها: وذلك أنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان، فشرع في إنشاد قصيدة مطلعها:
يا دار غيرك البلى ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك
فتطير المعتصم من قبح هذا المطلع، وأمر بهدم القصر على الفور. هذا مع يقظة إسحاق وشهرته بحسن المحاضرة، وطول خدمته للخلفاء، مع أنه قيل: أحسن ابتداءٍ ابتدأ به مولد قول إسحاق الموصلي:
هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل
قال الأديب أبو جعفر الألبري رفيق ابن جابر صاحب البديعة السابق الذكر، وهو البصير وابن جابر الأعمى، في شرح بديعية رفيقة المذكور: وإذا أردت أن تنظر إلى تفاوت درجات الكلام في هذا المقام فانظر إلى إسحاق الموصلي، كيف جاء إلى قصر مشيد، ومحل سرور جديد فخاطبه به الطلول البالية؛ والمنازل الدارسة الخالية، فقال: (يا دار غيرك البلى ومحاك) . فاحزن في موضع السرور، وأجرى كلامه على عكس الأمور. وانظر إلى قول القطامي:
أنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل
فانظر كيف جاء إلى طلل بال، ورسمٍ خال، فاحسن حين حياه؛ ودعا له بالسلامة، كالمستبهج برؤيا محياه. فلم يذكر دروس الطلل وبلاه، حتى آنس السامع بأوفى التحية، وأزكى السلامة. والذي فتح هذا الباب، وأطنب فيه غاية الأطناب: صاحب اللواء، ومقدم الشعراء حيث قال:
1 / 11