ورأيت في معاهد التنصيص لعبد الرحيم العباسي: نسبة كلام صالح بن حسان الذي قال للهيثم بن عدي في بيت جميل للرشيد أنه قال للمفضل الضبي، وهو سهو منه واشتباه عليه بحكاية أخرى، وهي: ما حكاه المفضل الضبي، إن الرشيد قال له: دلني على بيت أوله أكثم بن صيفي في أصالة الرأي، وجودة الموعظة، وآخره بقراط في معرفة الدواء. فقال له يا أمير المؤمنين: لقد هولت عليَّ. فقال هذا قول أبي نؤاس:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
ومن لطيف الانتقاد في المناسبة بين الشطرين ما حكي: إن الشيخ نور الدين علي بن سعيد الأندلسي الأديب المشهور الذي من نظمه قوله:
وأطول شوقاه إلى ثغور ... ملأى من الشهد والرحيق
عنها أخذت الذي تراه ... يعذب من شعري الرقيق
لما ورد إلى الديار الشامية، اجتمع بالصاحب بهاء الدين زهير وتطفل على موائد طريقته الغرامية، وسأله الإرشاد إلى سلوكها، فقال: طالع ديواني الحاجري والتلعفري، وأكثر المطالعة فيهما، وراجعني بعد ذلك. فغاب عنه مدة، وأكثر من مطالعة الديوانين حتى علق بحفظه غالبهما، ثم اجتمع به بعد ذلك، وتذاكر في الغراميات، فأنشده الصاحب بهاء الدين في غضون المحاضرة: (يا بان وادي الأعرج)، وقال له: أجز هذا. فأفكر قليلًا وقال: (سقيت غيث الأدمع)، فقال: والله حسن، ولكن الأقرب إلى الطريقة الغرامية أن تقول: (هل ملت من شوقٍ معي) . ومثل هذه المناسبة لا يدركها إلا مثل بهاء الدين زهير.
قال أبو منصور الثعالبي في اليتيمة: ولأبي الطيب ابتداءات ليست هي لعمر من أحرار الكلام وغرره، بل هي كما نعاها عليه العائبون مستبشعة لا يرفع السمع لها حجابه ولا يفتح له بابه كقوله:
هذي برزت لنا فهجت رسيسا ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسا
فإنه لم يرض بحذف علامة النداء من (هذي) وهو غير جائز عند النحويين، حتى ذكر الرسيس والنسيس فأخذ بطرفي الثقل والبرد.
قلت: أجيب عن حذف علامة النداء من (هذي): بأن (هذي) مفعول مطلق، لا منادى أي برزت لنا هذي البرزة. وعلى كل تقدير، فهذا المطلع من مستهجنات المطالع.
قال: ومن مطالعه التي تكلف لها اللفظ المعقد، والترتيب المتعسف لغير معنى بديع يفي ترفه وغرابته بالتعب في استخراجه، وتقوم فائدة الانتفاع به بإزاء التأذي بسماعه، قوله:
وفائكما كالربع أشجاء طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
قال الصاحب ابن عبد رحمه الله تعالى: ومن عنوان قصائده الذي يحير الإفهام، ويجمع من الحساب ما لا يدرك بالاريثماطيقي وبالأعداد الموضوعة للموسيقى قوله:
أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتناد
وهذا كلام الحكل ورطانة الزط وما ظنك بممدوح قد تشمر للسماع من مادحه فصلك سمعه بهذه الألفاظ والمعاني المنبوذة، أي هزة تبقى هناك، وأي أريحية تثبت هنا. وقد خطأه في اللفظ والمعنى كثير من أهل اللغة وأصحاب المعاني، حتى احتيج في الاعتذار له والتصفح عنه إلى كلام لا يستأهله هذا البيت، ولا يتسع له هذا الباب.
قال: ومن افتتاحاته العجيبة، قوله لسيف الدولة في التسلية عن المصيبة:
لا يحزن الله الأمير فإنني ... لآخذ من حالاته بنصيب
لا أدري ما يحزن سيف الدولة إذا أخذ المتنبي بنصيب من القلق.
قال الثعالبي: ومن ابتداءاته الشنيعة التي تنكرها الأسماع قوله:
ملث القطر أعطشها ربوعا ... وإلا فاسقها السم النقيعا
وقوله:
إثلث فأنا أيها الطلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل
ومن مطالع أبي تمام التي استهجنها أبو الطيب المتنبي قوله:
خشنت عليه أخت بني خشين ... وأنجح فيك قول العاذلين
ومن المطالع التي لم تجمع الشروط المتقدمة، قول أبي تمام أيضًا:
أما أنه لولا الخليط المودع ... وربع عفا عن مصيف ومربع
فإنه ليس مستقلًا بنفسه بل متعلق بالبيت الذي يليه؛ لأنه لم يأت بجواب (لولا) إلا فيه حيث قال:
لو أن دهرًا رد رجع جوابي ... أو كف من شأويه طول عتاب
فإنه يتعلق بما بعده أيضًا، لمكان جواب (لو) وهو قوله:
لعذلته في دمنتين بأمرةٍ ... ممحوتين لزينب ورباب
ومثل ذلك قول أبي عبادة البحتري:
1 / 10