ولنذكر في هذا الصدد ما سبق لنا أن أشرنا إليه من أن البنائية من حيث هي منهج ليست بالشيء الجديد، وإنما الجديد هو التعبير الواعي عنها في مذهب فكري متماسك، فهنا نجد هذا النوع من التفسير البنائي لا يلقى معارضة من الماركسيين المتمسكين؛ لأنه لا يخرج عن إطار الماركسية التقليدية، وكل ما يفعله هو أنه يستخدم في تقديمها مصطلحات بنائية.
على أن هذا - في رأي سيباج - لم يكن هو المظهر الوحيد الذي اتخذته البنائية في الفلسفة الماركسية، فمن الممكن أن تتحدد العلاقة بين البناء الأدنى - أي الأساس - وبين البناء الأعلى - أي الأيديولوجية - على مستوى آخر، هو أن ننظر في مجال كامل من مجالات الواقع الاجتماعي، مثل علاقات الإنتاج، ونربطه بمجالات أخرى ذات طبيعة فكرية أو أيديولوجية، فعلى هذا المستوى لا نربط بين تفكير فرد معين أو جماعة معينة وبين عنصر معين في علاقات الإنتاج، وإنما نربط على نحو أعم وأكثر تجريدا بين «أنماط» معينة من التفكير، وأنماط معينة من علاقات الإنتاج أو من الواقع الاجتماعي، ومثل هذا الربط يحتاج إلى عملية توحيد ومقارنة أشد تعمقا مما يحتاج إلى الربط على المستوى الأول، وعلى الرغم من أن ماركس بحث الموضوع على المستويين معا، فقد كان البحث على المستوى الثاني هو الغالب لديه، فهو لا يلجأ إلا نادرا إلى الكلام عن تأثير عامل معين يسهل تحديده في توجيه الفكر وجهة معينة، بل يتحدث عن التأثير الشامل لآليات نمط اقتصادي كامل - كالاقتصاد الرأسمالي - في تحديد أسلوب التفكير والوعي الاجتماعي داخل هذا النمط؛ أي إنه يستهدف دائما بحث «كليات شاملة
totalités »،
31
وتؤثر كل منها في الأخرى، وتكشف عن «بناء مشترك»، ومثل هذا البحث هو الجدير بأن يسمى «علما» بالمعنى الصحيح؛ لأن موضوعه بناءات كلية.
على أن «سيباج» يستخلص من تطبيق المنهج البنائي على تفسير الماركسية نتيجة تتعارض مع عنصر أساسي من عناصر التفكير الماركسي التقليدي، هي رفض الحتمية الاقتصادية؛ فعندما يكون أساس تفسيرنا هو البناء الكلي لا يعود من الممكن أن نعطي أولوية مطلقة لواحد بعينه من عناصر هذا البناء، ونجعل منه «سببا» للعناصر الأخرى؛ فالعامل الاقتصادي - وفقا للنظرة البنائية - هو مجرد عنصر من العناصر التي ينطوي عليها البناء. وليس هو أساس البناء بأكمله؛ ولذلك رفض سيباج تفسير التاريخ على أساس القول بأولوية العامل الاقتصادي، بل نظر إلى العلاقات الاقتصادية، جنبا إلى جنب مع اللغة والأساطير ونظم القرابة؛ على أنها عناصر يمكن اقتطاع أي منها من الكل بعملية ذهنية متعمدة تسعى إلى استخلاص السمات المميزة لهذا العنصر بالذات، عن طريق فصله عن علاقاته بمجالات الواقع الأخرى، وعندئذ يمكننا الوصول إلى مقارنات وتوازيات بين كل عنصر والآخر،
32
ولكننا لا نستطيع أن نصل إلى حالة يكون فيها لأحد هذه العناصر - كالعنصر الاقتصادي مثلا - أولوية سببية بالقياس إلى العناصر الأخرى، أو يكون هو الذي تتولد عنه هذه العناصر الأخرى.
وإذا كانت وحدة العناصر وتفاعلها المتبادل في البناء تمنع من معاملة أحد هذه العناصر (كالعنصر الاقتصادي) معاملة مميزة، بوصفه أصلا للباقين، فإن هناك أسباب أخرى تؤدي في نظر «سيباج» إلى هذه النتيجة نفسها، ومن أهم هذه الأسباب: أن العامل الاقتصادي لا يمكن أن يكون عاملا ماديا بحتا، في مقابل نتيجة فكرية أو عقلية هي الأيديولوجية بصورها المختلفة، وينتقد سيباج التصوير التقليدي عند بعض الماركسيين الذين يعالجون العامل الاقتصادي كما لو كان مادة خاما تختلف في طبيعتها عن العوامل الأخرى التي هي «معلولات» لها. والواقع أن العقل الإنساني - الذي يتدخل في كل هذه العوامل - يزيل الفوارق النوعية بينها عن طريق تدخله هذا؛ فالأساس الاقتصادي لا يكتسب كيانه ووجوده إلا من تلك الدلالة التي يضفيها عليه العقل الإنساني؛ بحيث إن التضاد بين الواقع الاقتصادي والناتج الأيديولوجي المرتكز عليه ليس تضادا بين حقيقتين بينهما اختلاف أساسي في الطبيعة، وإنما هو تضاد يقع «داخل» الإطار العقلي والعلمي ذاته، ومن هذا الإطار العقلي يكتسب الطرفان معا دلالتهما. وهكذا تكون الوسيلة الوحيدة لدراسة العلاقة بين الاقتصاد والأيديولوجية - في نظر سيباج - هي البحث في العلاقة المتبادلة بين الطرفين. أما فكرة وجود بداية مطلقة أو سببية نهائية، يكون فيها أحد الطرفين منتجا للآخر وأصلا له، فإنه يرفضها بوصفها فكرة مستحيلة.
وهناك سبب أخير يؤدي إلى إنكار فكرة السببية المطلقة بين الواقع الاقتصادي والأيديولوجي، من فكر أو فن أو دين، لا يكفي لتفسيره أن نرجعه إلى أصله؛ لأن هذا الناتج يخرج عن الأصل ويتجاوزه، ويكتسب خلال تطوره دلالة خاصة مستقلة عن الأصل الذي نشأ منه، ويعبر «سيباج» عن هذه الفكرة بقوله: «إن القول بأن نظاما فكريا معينا يتولد عن ممارسة اجتماعية معينة لا يكفي لتفسير طبيعة هذا النظام؛ إذ إن ما نعبر عنه على المستوى الرمزي يتجاوز دائما، ذلك الواقع الذي اتخذ منه نقطة بدايته»،
অজানা পৃষ্ঠা