وخرج معه فتى من أهل تلك الجهة ليعاونه، واتخذا سبيلهما في نهر الأهايو، ومنه إلى ذلك النهر العظيم المسيسبي أبي الأمواه كما كان يدعى حتى بلغا مدينة نيو أورليانز بعد أن قطعا زهاء ثمانمائة وألف ميل، رأيا خلالها على الضفتين حيوانات وأشجارا وأناسا تخالف ما ألفا في إقليمهما.
وكانا أثناء رحلتهما يأويان إلى الشاطئ أثناء الليل على مقربة من القرى، فيصغى أيب إلى أحاديث الناس ونوادرهم، وتختزن ذاكرته العجيبة تلك الأحاديث ويستخرج منها من المعاني ما يفسر له بعض آرائه، أو ما يكون موضوعا لرأي جديد.
وظل صاحبه زمنا طويلا وهو لا ينسى شجاعة أيب في حادث وقع لهما ذات ليلة؛ فقد أويا إلى الشاطئ على مقربة من مزرعة من مزارع قصب السكر، فبينما كانا نائمين في قاربهما إذا بهما يستيقظان على حركة أيد تعبث ببضاعتهما، فهب أيب فإذا هو يرى زنجيا على حافة القارب فعاجله أيب بضربة بالمجداف ألقت به في الماء، فوثب إليه آخر من الشاطئ فضربه كذلك فلحق بالأول، وجاء ثالث فكان نصيبه نصيب سابقيه، ورابع فما كان أحسن حظا، وخامس فلقي أسوأ مما لقوا، ثم فروا جميعا فتعقبهم أيب وصاحبه فإذا بهما حيال سبعة من الزنوج، واشتدت المعركة بين الجانبين حتى هزم هؤلاء السود ولاذوا بالمزرعة، وعاد أيب ورفيقه إلى القارب ولكنه أصيب بجرح فوق عينه اليسرى سيظل أثره هناك طيلة حياته.
بلغ أبراهام وصاحبه مدينة نيو أورليانز، فها هو ذا يرى مدينة كبيرة لأول مرة! وأية مدينة هي؟ إنه يرى في الميناء من المراكب الضخمة المحملة بالبضائع ما لم تقع على مثله عينه من قبل، وإنه ليرى شوارع فسيحة وقصورا عالية وأنماطا من المركبات الفخمة وأفواجا من الرجال والنسوة تبدو عليهم مظاهر النعمة والبهجة، ما هذه الدنيا العجيبة الصاخبة المزدحمة؟ ألا ما أبعد حياة الغابة عن هذه الحياة! يا عجبا! هذه قضبان من الحديد تنساب عليها عربات تجرها قاطرة، لقد سمع عن مثل هذا من قبل فها هو ذا يراه أمام ناظريه.
على أن شيئا يهمه ويأخذ بمجامع لبه أكثر مما تهمه تلك الأشياء جميعا؛ وذلك هو تلك الجموع السود تساق أمامه كما تساق الدواب، ينتظم كل فريق منها أو كل قطيع سلك طويل، وإنه ليدرك من نظراتهم ومن حركاتهم أنهم لم يألفوا بعد حياة المدينة، وأغلب الظن أنهم جلبوا إليها لساعتهم، أهؤلاء هم الذين قرأ عنهم في بعض الجرائد القديمة، والذين سمع أحاديث عنهم في الكنيسة من قبل؟ إلى أين يساقون؟ ومن أين جيء بهم؟ إنه ينظر فتقع عيناه على لافتات؛ فهذه تعلن عن استعداد صاحبها لشراء العبيد بثمن طيب! وتلك عن بيع هؤلاء لحساب من يريد بيعهم! وأخرى تعد بمبلغ مغر يدفع لمن يرد هاربا منهم أوصافه كيت وكيت!
إنه يريد أن يفهم أمر هؤلاء السود، ويحيط خبرا بتاريخهم وعملهم وحظهم من الحياة في هذه المدينة الكبيرة، ولكنه في شغل بما جاء له عن هذا، فليترقب حتى تسنح فرصة أخرى.
باع بضاعته وباع القارب وعاد هو وصاحبه في قارب بخاري إلى الغابة بعد أن غاب عنها ثلاثة أشهر، عاد وقد اكتسب عن الحياة خبرة تفوق ما أكسبته الكتب منها. ثم إنه ينال خمسة وعشرين ريالا أجرا على عمله الذي أداه على خير وجه. •••
لم يكد يمضي عام ونصف عام بعد عودته من رحلته حتى هاجرت الأسرة إلى مقاطعة أخرى هي مقاطعة إلينوى؛ فلقد أرسل بعض ذوي القربى هناك يصفون ما في تلك المقاطعة من رغد وجمال، وهذا الرجل توماس لنكولن لا يسمع عن رغد إلا طمع فيه لكثرة ما يعاني من شظف العيش، ذلك هو الذي رحل به من كنطكي إلى إنديانا وهو الذي يرحل به اليوم من إنديانا إلى إلينوى، فما أسرع ما أجاب؛ باع مزرعته، وباعت زوجه مزرعة كانت لها في كنطكي، وحزما متاع الأسرة، ووضعاه على ظهر عربة، وهم في رحلتهم اليوم يعتمدون على قوة أيب؛ فلم يعد صغيرا يركب خلف أبيه كما فعل قبل أربعة عشر عاما أثناء رحيلهم من كنطكي، وإنما هو اليوم شاب مكتمل القوة يسير على قدميه ويعنى بالمتاع كما يعنى بقطيع الماشية الذي يأخذونه معهم إلى إنديانا في رحلة بلغت مائتي ميل قطعوها في أسبوعين.
ويفكر الفتى في عمل مجد يعمله أثناء الطريق، وهل ثمة غير التجارة؟ أولم يحذقها في رحلته إلى نيو أورليانز؟ لذلك يشتري الشاب بريالاته خيطا وإبرا ودبابيس ومشابك ونحوها، ويبيع ذلك لساكني الأكواخ التي يمر بها، فما يبلغ الموطن الجديد إلا وقد ضوعف ماله، وهو بذلك فرح شديد الفرح، يتذوق ثانية لذة الكسب ولذة الثقة في نفسه، ويسأل نفسه أي الطريقين يختار ليعول نفسه وقد شارف الحادية والعشرين؛ أيظل نجارا زارعا، أم يترك ذلك إلى التجارة؟ ولكن نفسه تحدثه بأشياء غير ذلك جميعا؛ فهو واثق من قدرته على الكلام، وليس ينقصه إلا دراسة القانون ليكون محاميا ينتصف للمظلومين، فما أحب ذلك إليه!
ولكن ليودع ذلك الآن فإن عليه أن يبني الكوخ الجديد، وأن يسور المزرعة الجديدة، وأن يتعهد أثناء ذلك الماشية، فما يجدر أن يلقى من تلك الأعباء على عاتق أبيه إلا بقدر ما يطيق.
অজানা পৃষ্ঠা