عاد أبراهام إلى كوخه وفي نفسه الإعجاب بالمحاماة وبشخص ذلك المحامي البليغ المتمكن من قضيته وأوجه حقه، وإن كان ليخالجه شعور المضض من كبريائه، وكم أمضه قبل ذلك ما رأى من تفاوت بين الطبقات لا تقره نفسه لأنه لا يقره عقل!
وكم رآه الناس بعد ذلك ينتصب خطيبا فيهم كلما أحس في نفسه رغبة إلى أن يتحدث إليهم! وكم سحرهم بيانه وأعجبتهم حماسته! إلا والده؛ فقد كان يضيق منه بذلك كما كان يضيق منه بالقراءة والانصراف عن معونته في الغابة. قال مرة في تململ وهو ينظر إليه يخطب الناس: «أكلما وقف أيب أقبل عليه الناس جماعات يسمعونه؟!»
وإنه في خطبه مثله في قراءته، يحسن فهم ما يتحدث عنه فيحسن الإبانة عنه والإقناع به، ولسوف تلازمه هذه الصفة ما عاش، قال مرة يخاطب أحد مرءوسيه في البيت الأبيض، وقد راح ذلك المرءوس يقص عليه نبأ حادثة لم يحسن فهمها: «إن هناك أمرا واحدا تعلمته ولم تتعلمه، وإنه لينحصر في كلمة؛ تلك هي «الإحاطة».» ثم ضرب الرئيس المنضدة بقبضته يؤكد الكلمة ويكررها قائلا: «الإحاطة!»
وتاقت نفس الفتى إلى دراسة القانون، ولكن أنى له المال الذي يشتري به الكتب؟ أنى له المال في تلك الجهة وهو لا يكاد يراه رأي العين؟
ثم إنه ليشعر شعورا قويا برغبته في أن يرفع قيمة نفسه، فماذا هو فاعل؟ أيبقى في الغابة؟ وماذا في الغابة غير النجارة؟ ومتى كانت النجارة سبيل من يطمح؟ على أنه كان في طموحه متأثرا بثقته في نفسه أكثر مما يتأثر بتلك الأحلام التي تطوف بقلوب الشباب في مثل تلك السن، ومن العجب حقا أن يداخله الطموح في تلك البيئة وهو النجار ابن النجار الذي يعرف القليل عن جده لأبيه، وقد كان كذلك قاطع أخشاب، ولا يعرف شيئا عن جده لأمه!
أيبقى مع أبيه في الغابة؟ وإذا ترك الغابة فأي سبيل يتخذ؟ ذلك ما كان يحيره أشد الحيرة وهو يهدف للثامنة عشرة.
وفكر ذات يوم أن يتجر، فصنع بفأسه قاربا وملأه بأشياء تافهة جمعها من الغابة، وظن أنها مما يباع في الأسواق، وسبح بقاربه إلى بلدة قريبة ولكنه باع ما فيه بثمن زهيد، بيد أنه حدث أثناء رجوعه أن حمل في قاربه رجلين ومتاعهما من الشاطئ إلى حيث أدركا قاربا بخاريا في عرض النهر، وما كان أعظم دهشته إذ ألقى إليه كل منهما بقطعة من الفضة تساوي نصف ريال! وما كان أشد فرحته بذلك! أشار إلى ذلك الحادث يوما وهو في منصب الرياسة يخاطب صديقه ووزيره سيوارد فقال: «إني لم أكد أصدق عيني، ربما رأيت ذلك يا صديقي أمرا تافها، أما أنا فأعده أهم حادث في حياتي. لقد كان من العسير علي أن أصدق أني أنا ذلك الفتى الفقير قد كسبت ريالا في أقل من يوم، لقد اتسعت الدنيا أمام ناظري، وتبدت لي أكثر جمالا، وازداد أملي كما ازدادت تقى نفسي منذ تلك اللحظة.»
رحلتان إلى عالم المدنية
ما كانت الفاقة لتعوق ابن الأحراج عما كانت تتوق نفسه إليه، وهيهات أن تركن النفس الكبيرة إلى دعة أو ترضى بمسكنة. ها هو ذا فتى الغابة في التاسعة عشرة لا يذكر أنه منذ قوي على حمل الفأس كان كلا على أحد، بنى نفسه بنفسه كأحسن ما تبنى النفوس، غذاء جسده من قوة ساعده وغذاء روحه من توقد ذهنه وبعد همته.
ساقت إليه الأقدار عملا خرج به من الغابة، وقضى أياما في دنيا الحضارة؛ فلقد استأجره أحد ذوي الثراء، وقد تناهى إليه من حديثه ما حببه إليه، ليذهب ببضاعة له في قارب إلى حيث يبيعها في مدينة نيو أورليانز، وقبل الفتى وإن قلبه ليخفق، وإن نفسه لتنازعها عوامل الخوف والأمل، ولم لا يخاف وهو لم يرحل مثل تلك الرحلة الطويلة من قبل، ولا عهد له بالمدن وعشيتها وأهلها؟! ولكنه قبل وتأهب للرحيل، وما كان حب المال هو الذي حفزه إلى القبول، ولكن رغبته الشديدة في رؤية الدنيا، وهو - كما رأينا - تواق إلى المعرفة لهج برؤية الحياة في بيئة غير بيئة الأحراج.
অজানা পৃষ্ঠা