إهداء الكتاب
ابن الكوخ
الولايات المتحدة
فتى الغابة
بين الفأس والكتاب!
رحلتان إلى عالم المدنية
بائع في دكان
اتجاه نحو السياسة
عامل بريد وماسح أرض
سياسة وساسة
عضو في مجلس إلينوى
في سبرنجفيلد
خطيب
قطيعة وصلة
صديق صدوق
زوج
نضج
زواج
بيض وسود
كفاح ونجاح
عضو في الكونجرس
طالب وظيفة!
إلى المحاماة
متاعب وآلام
نظرات وخواطر
شمال وجنوب!
تحد ونزال!
لنكولن والرق
طموح وفشل!
حزب جديد
أحداث ونذر!
دوجلاس ولنكولن
بين المحاماة والسياسة
فالق الأشجار!
نذر العاصفة
الرئيس أبراهام لنكولن!
دوي العاصفة!
الرجل القادم من الغرب
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
في مهب العاصفة
في البيت الأبيض
جنون العاصفة!
الربان
المحرر!
السنديانة!
الأب أبراهام!
الشهيد!
إهداء الكتاب
ابن الكوخ
الولايات المتحدة
فتى الغابة
بين الفأس والكتاب!
رحلتان إلى عالم المدنية
بائع في دكان
اتجاه نحو السياسة
عامل بريد وماسح أرض
سياسة وساسة
عضو في مجلس إلينوى
في سبرنجفيلد
خطيب
قطيعة وصلة
صديق صدوق
زوج
نضج
زواج
بيض وسود
كفاح ونجاح
عضو في الكونجرس
طالب وظيفة!
إلى المحاماة
متاعب وآلام
نظرات وخواطر
شمال وجنوب!
تحد ونزال!
لنكولن والرق
طموح وفشل!
حزب جديد
أحداث ونذر!
دوجلاس ولنكولن
بين المحاماة والسياسة
فالق الأشجار!
نذر العاصفة
الرئيس أبراهام لنكولن!
دوي العاصفة!
الرجل القادم من الغرب
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
في مهب العاصفة
في البيت الأبيض
جنون العاصفة!
الربان
المحرر!
السنديانة!
الأب أبراهام!
الشهيد!
أبراهام لنكولن
أبراهام لنكولن
تأليف
محمود الخفيف
إهداء الكتاب
إلى روح فقيد مصر الأستاذ محمد صبري أبي علم باشا
إلى روحك الطاهرة في رياض الخلد أيها العظيم الراحل، أهدي كتابي هذا الذي كثيرا ما سألتني عنه، لقد كنت أول من حبب إلي «لنكولن»، وذلك بمحاضرة لك عنه وعيتها وأكبرتها، فلما تناولت القلم لأكتب كان لنكولن أول شخصية درستها، وكان شخصك الحبيب في خاطري أبدا، وقد غدوت في وطنك أحد أعلامه، ولن أنسى ما حييت ما كان من عذوبة روحك وجمال تواضعك يوم كاشفتك بإهداء كتابي إليك، ولم يكن يدور بخلدي أن ينشر الكتاب وقد طواك الموت وأنت نابغة جيل ورجاء أمة؛ ولكنك خالد في قومك خلود لنكولن في قومه، ولن تزال حيا في أمة وهبتها حياتك فأحبتك وأكبرتك.
والسلام عليك من: الوفي الذاكر إلى يوم يلقاك
محمود الخفيف
ابن الكوخ
في جانب من جوانب ولاية كنطكي، هنالك في تلك البطاح المترامية من العالم الجديد، حيث تنمو الغابات والأحراج وألفاف النبات الوحشي، كان يقوم سنة 1809 كوخ من تلك الأكواخ المتخذة من الكتل الخشبية الشوهاء، تلك الأكواخ المتواضعة التي تراها العين متناثرة هنا وهناك على مقربة من الغابات، ولا ترى غيرها في تلك الأصقاع البرية مساكن للناس.
وكان لا يختلف ذلك الكوخ عما يقرب منه أو يبعد عنه من الأكواخ إلا في سعته أو ضيقه، فقد كانت تقام كلها على نمط واحد من أنماط البناء، كما كان يعيش ساكنوها في الغالب على صورة واحدة من صور المعيشة.
كان لا يزيد على أربعة أمتار في مثلها، ليس فيه من متاع إلا بعض القدر والآنية لحفظ الطعام والماء، وبعض الوسائد المتخذة من جلد الحيوان والمحشوة بورق الشجر أو بريش الطير، وبعض الكراسي والمناضد الخشبية الساذجة التي صنعها بيده توماس لنكولن صاحب هذا الكوخ، وقد اقتطع أخشابها كما اقتطع أخشاب الكوخ من الغابة القريبة بفأسه التي ترى معلقة أثناء الليل على جدار كوخه إلى جوار بندقية صيده.
في هذا الكوخ فتح أبراهام لنكولن عينيه على نور الحياة في اليوم الثاني عشر من شهر فبراير عام 1809؛ وفي هذه البيئة ولد الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية.
وضع الوليد كأنه فرخ من أفراخ الطير على فراش من القش المغطى بالجلد إلى جوار أمه، وكانت تألم الأم أشد الألم من الرياح تنفذ إليها وإلى وليدها صافرة خلال الثقوب الطويلة بين كتل الخشب كلما هبت العاصفة من ناحية الغابة.
واضطر الوالد أن يبقى بالكوخ أياما حتى تستطيع زوجه أن تستأنف عملها بالمنزل؛ إذ لم يكن هناك غيره إلى جوار امرأته سوى ابنتهما التي تكبر الوليد بعام واحد، وأخذ الرجل يحلب الأبقار بنفسه ويوقد النار في الموقد ويعد الطعام، وكان لا يبتعد عن الكوخ إلا ساعة أو بعض ساعة عله يرجع بقليل من الصيد يقدمه طعاما إلى زوجه الواهنة.
وكان يخفف عنه عبء حياته إقباله على مهد ابنه وتطلعه بخياله، وهو ينظر في وجه ذلك الابن إلى اليوم الذي يستطيع فيه أن يحمل الفأس أو البندقية إلى جانبه في الغابة، فيكون له خير عون على مشاق الحياة التي كان يحياها بين الأحراج؛ وما كان له في ابنه أبعد من هذا الأمل أو ألذ منه، وماذا عسى أن يرجو النجار الذي يعمل وحيدا في الغابة من ابنه الأول غير هذا الرجاء الحلو؟!
درج الطفل في هذا الكوخ حتى بلغ الرابعة من عمره، تلك السن التي لا يفتأ فيها الأطفال يسألون عن كل ما يحيط بهم، ولكنه لم يجد حوله كثيرا مما يجتذبه ليسأل عنه؛ فهذه فأس أبيه التي يقطع بها الأخشاب، وهذه بندقيته التي يراها على كتفه كلما عاد من الغابة وفي يده صيد، على أنه يرى أباه أحيانا وقد أتم صنع بعض الكراسي وبعض الأسرة الخشبية، ويراه يحملها إلى حيث تستقر في أكواخ بعض الجيران، فيعجب لذلك ويتساءل، ولا يكاد يفهم ما يلقى إليه من إجابة!
وكانت الغابة أو كان الجانب المحيط منها بالكوخ هو نهاية ما يصل إليه خيال الطفل يومئذ من هذا الوجود، وحسبه الآن من الوجود أن يلعب في هذا الجانب من الغابة، وإن لم يكن له فيه من رفقة سوى أخته سارا.
على أنه بدأ ينظر إلى الغابة نظرة الرهبة والدهشة معا؛ فقد أخذ يسمع عن السكان الأصليين، أولئك الهنود الحمر، الذين ينقضون على السكان البيض فيقتلونهم كلما ظفروا بهم وهو لا يفهم لم يقتلونهم، ثم هو يخشى غوائل الحيوانات المفترسة التي كانت تتحدث أمه عنها أحيانا، وكلما مد بصره في تلك المساحات الهائلة أخافه الفضاء وحده، ولو لم يكن فيه شيء من بواعث الخوف.
على أن الغلام في هذا السن الباكرة يرى الحياة من قرب رؤية مباشرة، فهو ينمو كما ينمو وحشي النبات في ذلك الأقليم، ويرى بعينيه وخياله الصلة بينه وبين بيئته، يتغذى من ثمار الشجر، ويضطجع في مهد من أوراقها الجافة، ويلتحف بجلود الحيوانات ويشرب ألبانها، وهو يعيش في أحضان الطبيعة حيث يرهف حسه، ويعمق خياله، ويقوى وجدانه، وتنبسط نواحي نفسه الصغيرة، وتستشف ما في هذا الكون العجيب من جمال وسحر، وتستشعر ما فيه من سر ورهبة.
أليس يرى من كثب كيف تطعم الأسرة وكيف تكتسي؟ أليس يرى التعاون بين الوالدين وما ينتج من اطمئنان وراحة؟ أليس يرى الكدح في سبيل العيش كلما أبصر أباه يهوي بفأسه على الأشجار، أو كلما رآه مقبلا من الغابة وبندقيته على كتفه وفي يده طائر أو حيوان يدفعه إلى أمه، فتتلقاه فرحة، وتذهب لتعد الطعام؟
وفي سن الخامسة يتسع مجال الحياة أمام عينيه بعض الاتساع؛ فقد انتقلت الأسرة قليلا نحو الشمال، وأقامت كوخها الجديد على مقربة من طريق عام كان يربط بين مدينتين، وهناك كانت تقع عينا الغلام على بعض العربات غادية رائحة، وعلى قوم يتجهون أبدا صوب الغرب يحملون من الأمتعة ما لم ير مثله من قبل، وإنه ليعجب أن يرى ملابس بعضهم من نوع آخر غير ما يلبس، وتخبره أمه أنها متخذة من الصوف، فينظر في دهشة إلى وجهها، ثم يتجه ببصره إلى ملابسه الجلدية المهوشة، ويتمنى بينه وبين نفسه أن لو كانت له ولأبيه ملابس من ذلك الصوف.
وفي السابعة من عمره يصحب أباه إلى الغابة؛ حيث بدأ الصبي يؤدي نصيبه من العمل؛ فيساعد الأب الذي يقطع الأخشاب، ويصنع منها الأثاث ويبيعه، ويكسب من وراء ذلك نقودا لا بد منها للأسرة. وإنه لفخور الآن بمساعدة أبيه، لا يحفل تعبا في تلك المساعدة، وإنه ليباهي بها أخته، وإن كانت هي أيضا لتؤدي نصيبها من العمل في مساعدة أمها، ولكن هل كانت «سارا» تستطيع أن تسوي الخشب وتجره وترتبه؟ وهل كانت تستطيع أن تحمل الصيد إلى الكوخ كما كان يفعل «أيب» الصغير؟
كان لا ينقطع عن العمل إلا في أيام الآحاد؛ إذ يجلس وأمه وأخته وأباه أمام الكوخ، فيستمع في شغف ولذة لما تلقي أمه من أقاصيص وما تتلو من حكايات كان أكثرها مشتقا من الإنجيل.
كان الغلام ينتقل ببصره وخياله من أمه إلى أبيه، وكانت أمه في أقاصيصها جادة تحس نفسه الصغيرة شيئا من الحزن يطوف بنفسها، ويتسرب إلى حكاياتها، أما الأب فكان يميل إلى الفرح والفكاهة، ويتدفق إذ يحكي تدفق من لا تنطوي نفسه على شيء مما تنطوي عليه نفس الأم، وما كان شيء من ذلك ليخفى على فطنة الغلام.
وأحدثت القصص الدينية أثرها في نفس الصبي، وظلت عالقة بلبه وخياله، وجرت في كيانه مجرى الدم في عروقه، واختزنت حافظته ألفاظها بنصها، حتى ليتحرك بها لسانه وإن لم يقصد.
وثمة شيء جذبه إلى أمه وإن كان ليحب مرح أبيه وطلاقة روحه؛ وذلك هو معرفتها القراءة والكتابة، ثم رغبتها في أن يتعلم الصبي على الرغم من مجادلة زوجها إياها في ذلك؛ إذ كان يرى الصبي أحوج إلى الفأس منه إلى القلم، وحجته أنه لا يعرف من الكتابة إلا أن يرسم اسمه ومع ذلك فهو يكسب بفأسه ما يقيم أود أسرته.
وجاء في تلك الأيام بعض ذوي قرباهم، فأقاموا إلى جوارهم، واستأنس الغلام وأخته بالقادمين، وأقبلا على خالتهما وخالهما يستزيدانهما الأنباء والأقاصيص، وازداد الصبي تعلقا بخالته؛ إذ علم أنها تقرأ وتكتب كأمه، وتحبذ مثلها أن يتعلم «أيب» القراءة والكتابة على الرغم من معارضة أبيه.
وبدا للصبي يوما فسأل عن أسرته وأين نشأت وممن انحدرت، ولكنه سمع ردودا مهمة لم ترو ظمأ نفسه أو لم يتسع لها خياله، وبدا أبوه في حيرة من أمره؛ فهو إن أجاب ابنه على قدر ما يفهم ظل تساؤله قائما، وإن أطال وفصل لم يقو الصبي على متابعته.
وهل كان يستطيع الصبي أن يدرك أن أجداده الأولين جاءوا من إنجلترة منذ مائة وسبعين عاما، وأنهم كانوا من أوائل من انتجع الرزق في هذه الأصقاع البرية، وأنهم نزلوا أول ما نزلوا بولاية ماساشوست في الشمال، ثم انتقل بعض ذريتهم إلى ولاية فرجينيا، ومن هؤلاء انحدر جده الذي سكن مقاطعة كنطكي حيث لا يزالون يقيمون؟
لم يفهم الصبي شيئا من هذا، فلا علم له بإنجلترة ولا بالجهات الشمالية ولا الغربية، ولكنه يرهف سمعه إلى أبيه إذ يقص عليه حكاية غريبة عن جده القريب، فبينما كان أبوه وأخواه يساعدون أباهم في الغابة كما يساعد «أيب» اليوم أباه، إذ انطلقت رصاصة من بين الأدغال فأصابت ذلك الأب فخر صريعا لتوه، وجرى الأخوان نحو الكوخ وتركاه وحده، وبرز من بين الأشجار أحد الهنود الحمر وحمله يريد أن يأخذه إلى داخل الغابة، وبينما كان يقاوم ويصرخ عاد أحد الأخوين ببندقية من الكوخ وصوبها إلى رأس ذلك الهندي فأرداه.
سمع الطفل ذلك الحديث وقلبه يخفق فرقا؛ إذ رأى مبلغ ما أحدق بأبيه من خطر وهاله موت جده على تلك الصورة، وماذا عسى أن يمنع أن يصيب أباه اليوم مثل ما أصاب جده بالأمس؟ وبأي قلب يذهب إلى الغابة بعد اليوم؟ ولكن أباه يفهمه أن هؤلاء الهنود قد أبعدوا صوب الغرب، فلن يوجد في الغابات منهم إلا عدد ضئيل لا خوف منه.
وأخذت الأم تعلم ابنها وابنتها حروف الهجاء رسما ونطقا، والصبي مبتهج بما يتعلم حتى جاء رجل إرلندي الأصل، فأقام في تلك الجهة مدرسة لتعليم الأطفال، بنيت من كتل الخشب كما تبنى الأكواخ، وأرسل الصبي إليها فيمن أرسل من أبناء الجيران، وإنه ليطفر فرحا وغبطة. وهناك كان الصبية يجلسون على الأرض، فيدار عليهم كتاب واحد ويظلون طيلة نهارهم يتمرنون على نطق الحروف وتركيب الكلمات. ويسأل الصبي نفسه في لهفة شديدة متى يستطيع أن يكتب ويقرأ كما تفعل أمه وخالته.
ولقد ظل أثر معلمه الأول ومدرسته الأولى مستقرا في أعماق نفسه على مر الأعوام، وثمة شيء آخر علق بنفسه وظل يذكره بعدها بأعوام؛ وذلك هو الوعظ الديني الذي كان يلقيه على الناس في تلك الأصقاع أحد المبشرين تحت الأشجار، أو في كنيسة أقيمت كذلك على نمط الأكواخ. ولقد رأى الصبي ذلك الواعظ ذات يوم يلقي حديثا طويلا على السامعين من غير أن يستعين بكتاب، فعجب لذلك وأعجب بالرجل، وقد كان ذلك أول حديث عام ينصت إليه خطيب الغد الذي لن يجاريه في قومه خطيب.
ومما رآه الصبي كذلك يومئذ، وأثر في خياله، وحير عقله؛ قوم من السود كان أبوه يستوقفهم كلما مر أحدهم به في الطريق العامة، ويسألهم أن يبرزوا جواز مرورهم، وكانت السلطات قد اختارت أباه ملاحظا للطريق! وقد كان منظر هؤلاء السود وذلة نفوسهم مما يألم له الصبي ويدهش، وكانت إجابة أبيه على أسئلته في هذا الصدد مبهمة محيرة، وهو لا يني يتساءل ما ذنب هؤلاء، وما عملهم، وما أصلهم، ولم كانوا كذلك سودا مضطهدين. ولو تفتحت حجب الغيب لأبيه لرأى ابنه في غد محرر هؤلاء العبيد، ومخرجهم مما هم فيه من هوان. ولقد بدأ عطفه عليهم في تلك السن، وأخذ بعدها يؤذيه منظرهم، وينقبض خاطره كلما ذكر مذلتهم. فهل كان يدري الصبي أن القدر يعده ليكتب في تاريخ الإنسانية صفحة من أجل الصفحات بتحرير هؤلاء المساكين الأرقاء؟ لم يكن يدري من ذلك شيئا، وحسبه أن يرثي اليوم لحالهم، ففي هذا الرثاء خير بداية، وإن لم يفكر بعد في غاية.
ما لبثت الأسرة أن رأت في عميدها توماس لنكولن ميلا شديدا إلى الرحيل من كنطكي إلى حيث يسهل عليه كسب قوته وقوتها مع اليسير من الجهد، وكان توماس من النفر الذين يضيقون بالجهد والذين يطلبون أكلاف العيش من أيسر سبلها، وما فتئ يذكر لهم اسم ولاية إنديانا مقرونا بالخير والبركة ويزين لزوجه الرحيل إليها.
وذهب فخبرها بنفسه، وعاد يتحدث إلى الأسرة عما رأى؛ فالغابات مليئة بالصيد، والجو جميل، والناس أهل بر ومروءة. وسرعان ما باع توماس لنكولن كوخه والأرض المحيطة به، وأخذ يعد العدة للرحيل.
ولما حزموا متاعهم توجهوا قبل الرحيل إلى بقعة من الأرض قريبة، وهنالك وقفوا جميعا مطرقين، أما الأب فكان يتجلد من أجل امرأته، وأما الأم فقد كانت تتساتل الدموع على وجنتيها، وهي تجهش بين آونة وآونة إجهاشة ينخلع لها قلب الصبي، وترتعد لها أخته فتصرخ فيزيده صراخها ألما وحزنا؛ ففي تلك البقعة دفن الوالدان ابنا ثانيا لهما كان أصغر من «أيب» بعامين، دفناه وقد فارق الحياة ولما يزل في مهده، وما أشد ما ترك ذلك الموقف من أثر في نفس الصبي! وما كان أعظم ألمه كلما ذكر بعد ذلك أنهم تركوا الطفل الدفين في بقعة من الأرض لا يقوم عليها حجر ولا تميزها أية علامة! ومن ذلك اليوم عرف الصبي لأول مرة معنى الحزن وذاق مرارته، وانطوت عليه نفسه التي سوف تنطوي على كثير منه كلما مرت الأيام.
وتوجه المسافرون صوب إنديانا، وقد حملوا متاعهم على جوادين أعدا لذلك، وكان أيب يركب مع أبيه على ظهر أحد الحملين، وتركب أمه وأخته سارا على الآخر، وقضوا في الطريق زهاء أسبوع يشقون في سيرهم الأحراج، ويجتازون بعض مجاري المياه، فإذا جنهم الليل قام عميد الأسرة على حراستهم من دواب الغابة حتى ألقوا رحالهم آخر الأمر في إنديانا بعد أن قطعوا زهاء تسعين ميلا.
الولايات المتحدة
ما هذه الولايات المتحدة التي نتحدث عن غاباتها وأصقاعها البرية؟ وما فصلها في تاريخ هذا الوجود؟
برزت الولايات المتحدة دولة من دول العالم على حين غرة؛ فكان بروزها السياسي شبيها بما يزعمه بعض الجغرافيين عن وجودها المادي؛ إذ يقولون إن أمريكا أو الدنيا الجديدة قد برزت من تحت الماء في حركة من حركات هذا الكوكب الذي نعيش فيه! وما كان بروزها السياسي في الحق إلا حركة من حركات الشعوب في هذا المضطرب الواسع الذي نسميه العالم، حركة لم يكن يظن أحد يوم بدأت أنها بالغة بعد ما بلغته.
سمع الناس في أوروبا قبل أن ترجف الراجفة في فرنسا بسنوات قليلة عن أنباء عجيبة تأتيهم من وراء المحيط؛ سمعوا عن الحرية يرف جناحاها الجميلان، ويتهلل وجهها الأبلج في تلك الربوع الفسيحة التي وجه كولومبس أنظار الدنيا القديمة إليها قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون، وسمعوا عن أختها الديمقراطية ترفع علمها، وتشهر سلاح الإيمان واليقين؛ سلاح جان دارك الخالد في وجه الطغيان العبوس المربد؛ وسمعوا عن مراكب من الشاي تقذف حمولتها في البحر وتلتهمها النيران، وسمعوا عن جموع ثائرة تلتقي هنا وهناك هاتفة صاخبة، وعن جنود تحشد خفافا وثقالا، ثم ما لبث الناس في الدنيا القديمة أن علموا أن الحرب دارت رحاها بين إنجلترة وأبناء هاتيك الولايات، وأيقنوا أنها باتت من جانب أبناء الولايات حرب نصر أو فناء. •••
وكانت هذه الولايات قبل حرب الاستقلال مستعمرات جعلت منها العوامل الاقتصادية والاجتماعية قسمين: المستعمرات الشمالية والمستعمرات الجنوبية؛ فكان الاختلاف بين القسمين مرده إلى الفوارق في التربة والمناخ بين الشمال والجنوب ولا دخل هنا للفوارق الجنسية، إذ كان أثرها في هذا التقسيم ضئيلا لا يكاد يكون له وزن؛ لأنها كانت في ذاتها فوارق طفيفة، أو أصبحت بفعل الزمن طفيفة.
وكانت مستعمرة ماري لاند من الوجهة الجغرافية هي الفاصل بين الشمال والجنوب؛ فهي والمستعمرات الواقعة جنوبيها تكون القسم الجنوبي، وما وقع شماليها فهو القسم الشمالي.
كانت الأرض في الشمال على العموم أقل خصبا منها في الجنوب، وكان الناس وهم من النازحين الأوروبيين، وبخاصة الأنجليز، يزرعون مساحات منها تكفي لسد حاجاتهم مما يؤكل، فكان الرجل يعتمد على معونة بنيه فحسب؛ ومن ثم كان هؤلاء الزارعون في الشمال فقراء، ولم تنشأ هناك الملكيات الواسعة إلا في حالات نادرة.
على أن ذلك لم يحل دون ظهور الطبقات والفوارق الاجتماعية؛ فهناك فريق التجار من ساكني المدن القريبة من المحيط، وكان هؤلاء يصدرون إلى إنجلترة حاصلات المستعمرات ويستوردون المصنوعات ليبيعوها لساكني المدن ولمن يطلبها من الزارعين. ولقد انحصرت الثروة في أيدي هؤلاء التجار، فكانوا هم الطبقة الأرستقراطية في الشمال، وكان الزارعون ينظرون إليهم نظرة الحقد والكراهية، وفي هؤلاء التجار وأبنائهم انحصرت الوظائف الإدارية ووظائف الجندية؛ إذ كان لهم قسط من التعليم يضاف إلى حظهم من الجاه، وإن كان تعليمهم يومئذ محدودا على قدر مستوى مدارسهم ومستوى معلميها.
أما في الجنوب فكان الحال على خلاف ذلك؛ إذ كانت الثروة في أيدي الزارعين؛ وسبب ذلك أن التربة أكثر خصبا، وأن المناخ يساعد على زراعة الطباق، وهو محصول كان يغري تصديره إلى أوروبا بالإكثار من زراعته وكسب المال الموفور من هذه الزراعة، ولقد كان ذلك سببا في حاجة الزراعين إلى عدد عظيم من الأيدي العاملة، فماذا يصنع أهل الجنوب؟ لقد لجئوا إلى أمر أدى إلى خلق مشكلة من أعقد المشاكل؛ وذلك أنهم أخذوا يستخدمون السود من العبيد ويستجلبونهم بكثرة من أفريقيا، ولقد أخذ يزداد عدد هؤلاء السود منذ بداية القرن الثامن عشر.
وظهرت الفوارق الاجتماعية في الجنوب أيضا؛ فهناك كبار الملاك وصغار الزراعين، وكان صغار الزراعين في الجنوب أشبه حالا بأمثالهم في الشمال، وكانوا كذلك ينظرون نظرة الحقد والكراهية إلى كبار الملاك الذين حصلوا على الأراضي بالزلفى إلى الحكام والتقرب إليهم بشتى الوسائل، والذين استمتعوا هم أيضا بالنفوذ والمناصب الهامة، وأتيح لهم في مدارسهم حظ من التعليم، أما العبيد فكان شأنهم شأن الماشية يحشرون في حظائر كما تحشر الدواب، ويساقون إلى العمل كما تساق الأنعام، ومن كان هذا شأنهم فلن يكون لهم موضع في المجتمع، وحسبهم أن يذكر سادتهم أنهم آدميون، وقليلا ما كان هؤلاء السادة يلتفتون إلى هذا المعنى!
وكان صغار الزراعين في الشمال، وبخاصة النازحون منهم إلى الغرب على حدود الولايات، أكثر الناس بؤسا وشقاء؛ فكان عليهم أن يشقوا الأحراج، ويقطعوا الأشجار، ويزرعوا ما نتج عن ذلك من الأرض الفضاء، وكان على الرجل منهم أن يفي بكل مطالب أسرته؛ فعليه بناء الكوخ من الكتل الخشبية يسويها بفأسه، وعليه زرع الأرض وتعهد الماشية، وعليه إطعام الأسرة بما يصيب من صيد؛ ومن أجل ذلك كانت الفأس والبندقية أغلى عنده من كل شيء، وكان فرحه بالبنين عظيما؛ إذ يكونون عدته في هذا الكفاح المتواصل.
وكانت أكواخ هؤلاء الكادحين السذج تتناثر هنا وهناك على مدى البصر، وكانوا يتعرضون لهجمات الوحوش وهجمات السكان الأصليين من الهنود الحمر في تلك الأصقاع الغربية البرية، التي كانوا يعيشون فيها على نحو أشبه بعيشة آباء الإنسانية الأولين.
على أن حياة هؤلاء لم تخل من بعض المزايا؛ فقد خلصت طباعهم من أوضار المدنية ورذائلها، وغرس في نفوسهم حب الاستقلال والاعتماد على النفس، ودرجوا على الفطرة ينظرون إلى معاني الخير والشر نظرة خالية من أوضاع الفلسفة وفوضى المبررات والملابسات، فجاءت لذلك نظرتهم هذه نظرة إنسانية تتمثل فيها الرجولة الحقة لم تفسدها النظرات والتأويلات.
وغرس فيهم الخوف المتواصل على مدى الزمن ألا يبالوا بمخوف، وأن يلاقوا الشدائد والمحن صابرين أشداء، فهم لكثرة ما يلاقون من شظف المعيشة لا يجدون كبير فرق بين أوقات خوفهم وأوقات أمنهم، وقد اكتسبوا كذلك من بيئتهم كما اكتسب أهل الصحراء الإيمان بالقدر والإذعان لأحكامه.
هذه هي الحال الداخلية للمستعمرات قبل حرب الاستقلال، فأما أهل المدن فكانوا مترفين في الشمال والجنوب كما رأينا؛ التجار منهم وكبار الملاك في رغد العيش سواء، وأما الزارعون من ساكني الأكواخ فكانوا يلاقون بؤس العيش راضين صابرين، وإن كانوا يمقتون هؤلاء الأغنياء مقتا شديدا.
أما علاقة هذه المستعمرات بإنجلترة، فكانت حتى قبيل الثورة علاقة هادئة، بل لقد كان السكان في جملتهم، الأغنياء منهم والفقراء، ينظرون إلى إنجلترة نظرتهم إلى الأم، وكثيرا ما كانوا يسمونها «الوطن»؛ إذ كان معظمهم قد هاجروا إلى أمريكا من هناك؛ أما الأغنياء فكانوا يحرصون على العلاقات التجارية بينهم وبين إنجلترة، ويعتمدون على أسطولها في حماية متاجرهم ونقلها، فهم لذلك موالون للتاج البريطاني، وأما الفقراء فلم يكن لهم صلة بالسياسة واتجاهاتها، اللهم إلا فئة قليلة ممن كانت لهم بالمدن علاقة، وكان الأغنياء والفقراء جميعا يحرصون على أن تحميهم إنجلترة من الفرنسيين في كندا والإسبان في فلوريدا. •••
وإذا كانت الحال كما ذكرنا، فجدير بالمرء أن يتساءل، ما الذي جر أهل هاتيك المستعمرات إلى الثورة على إنجلترة، وما الذي جمعهم على غرض واحد وكان بينهم من عوامل التفرقة في الداخل ما أشرنا إليه.
لقد كان مرد تلك الثورة في الجملة إلى نزعة من نزعات الحماقة منيت بها السياسة الإنجليزية في فترة من الزمن، فكان في تلك السياسة من الحمق يومذاك بقدر ما يكون فيها من رشد في بعض أوقاتها.
لقد رضي سكان المستعمرات بالكثير لتبقى لهم حماية إنجلترة؛ رضوا بقوانين الملاحة والتجارة التي فرضتها عليهم إنجلترة، فلا تنقل متاجرهم إلا سفن إنجليزية، ولا تصل إليهم من سلع غير إنجليزية إلا عن طريق إنجلترة؛ ليظل لإنجلترة أجر النقل وربح التجارة.
وخرجت إنجلترة منتصرة من حرب السنين السبع (1756-1763)، وكانت ميادينها في أوروبا وآسيا وأمريكا، وظفرت من هذه الحرب بتوطيد نفوذها في الهند وطرد الفرنسيين من كندا، ولكنها وجدت نفسها وقد أثقلت الديون كاهلها.
ورأت أن جانبا من هذه الديون قد أنفق على الدفاع عن سكان تلك المستعمرات الأمريكية، ورأى أهل المستعمرات أن إنجلترة أنفقت ما أنفقت من أجل مصلحتها هي فحسب، وأبت إنجلترة إلا أن تحمل أهل المستعمرات جانبا من ديون الحرب؛ فعمدت إلى فرض ضريبة «الدمغة» على كل المكاتبات الرسمية، فكانت هذه الخطوة أولى حماقاتها تجاه المستعمرات.
وشددت إنجلترة في تنفيذ قانون الملاحة والتجارة، وكان الأمريكيون أثناء حرب السنين السبع قد لجئوا إلى تهريب بعض المتاجر، وأخذت إنجلترة أهل المستعمرات بالشدة في وقت زال فيه خطر الفرنسيين من كندا، وقلت الحاجة تبعا لذلك إلى حمايتها، فكانت فعلتها هذه في تلك الظروف ثانية الحماقات.
وباتت الأنباء تنذر بعاصفة من عواصف السياسة، فأهل المستعمرات يرفضون الإذعان لضريبة الدمغة، فلا يجوز لبرلمان لا يمثلون فيه أن يفرض عليهم ضريبة، وجرت على ألسنتهم كلمة قصيرة حاسمة «لا ضرائب بغير تمثيل»، ولكن الإنجليز من ناحية أخرى يتمسكون بأن الدفاع الإمبراطوري عن سلالة البريطانيين أينما وجدوا جعلهم يدافعون عن بعض تلك السلالة في أمريكا، فعلى هؤلاء قسط من نفقات هذا الدفاع.
وانتقلت المسألة بهذا من مظهرها الاقتصادي إلى مظهر سياسي خطير، وأصر كل من الجانبين على أنه صاحب حق.
وألغى البرلمان قانون الدمغة، ولكنه شفع هذا العلاج بطعنة ليته لم يقدم عليها وقتئذ؛ وذلك أنه أعلن حقه في فرض أية ضريبة تقتضيها المصلحة في المستقبل ليحتفظ بحقه تجاه المستعمرات.
ولكن المسألة باتت عند الأمريكيين مسألة مبدأ سياسي لا مسألة نقود تدفع؛ ولذلك نراهم يلجئون إلى العصيان والمقاومة، عندما لجأ الإنجليز بعد إبطال قانون الدمغة إلى فرض ضرائب على بعض المتاجر الخارجية.
فرض الإنجليز عام 1767 ضرائب على ما يرد إلى المستعمرات من الزجاج والشاي والورق والرصاص وألوان التصوير وأشباهها، وعارض الأمريكيون أشد المعارضة، ولجأ الإنجليز إلى اللين، فألغوا كل هذه الضرائب إلا ضريبة الشاي؛ تقريرا لحقهم أيضا وتثبيتا لمبدأ سياسي لا يتزحزحون عنه.
ولكن الأمريكيين لا يتزحزحون هم أيضا، فبدءوا المقاومة بالإضراب عن شرب الشاي، ثم وقع حادث كان بمثابة الثقاب المشتعل يلقى على الحطب؛ وذلك أن بعض الأمريكان تنكروا في زي الهنود الحمر، ودخلوا ميناء بوسطن، وألقوا بما كانت تحمله ثلاث سفن من الشاي في البحر.
وثار الإنجليز وهم أهل صبر وتؤدة، فكانت ثورتهم حينذاك كبرى حماقاتهم، فقررت الحكومة البريطانية إقفال ميناء بوسطن ومحاكمة الثائرين أمام محاكم إنجليزية، وألغت دستور ولاية مساشوست؛ عقابا لها على تمردها.
وائتمر الأمريكيون في فيلادلفيا عام 1774 لينظروا ماذا يفعلون، وكان مؤتمرهم هذا أولى خطواتهم نحو الاستقلال.
أعلن المؤتمرون حقوقهم وقرروا قطع العلاقات التجارية مع الإنجليز حتى تزول أسباب الخلاف، ولكنهم قرروا في صراحة أنهم ظلوا على ولائهم للتاج.
ولكن المشاجرات ما لبثت أن وقعت بين الجند البريطانيين وبعض الأمريكيين، وعمدت إنجلترة إلى القوة لتثبيت وجهة نظرها؛ فلم ير الفريقان بدا من الاحتكام إلى السيف بعد أن فشل الاحتكام إلى المنطق.
واشتعلت نار الحرب، وجعلت القيادة لرجل أصبح من مفاخر أمريكا وذلك هو جورج وشنطون، وجمعت الجند من مختلف الولايات، وشاعت في الأمريكيين حماسة أنستهم ما بينهم من أسباب الخلاف، وائتمر زعماؤهم مرة ثانية في «فيلادلفيا» عام 1776، وفي هذه المرة أعلنوا استقلالهم عن إنجلترة كاملا، وبات السيف هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الغرض القومي العام.
وانتقل الأمريكيون تحت راية وشنطون من نصر إلى نصر، وتقدم المتطوعون من الفرنسيين يشدون أزر الثائرين المجاهدين؛ انتقاما من إنجلترة. وما زال الكفاح متصلا والجهاد مريرا، حتى تم للأحرار المجاهدين النصر يوم أرغم القائد الإنجليزي كورنوالس على التسليم لوشنطون في مدينة بوركتون في التاسع عشر من أكتوبر عام 1781، بعد صراع اتصل سبع سنوات.
وفي سبتمبر عام 1783 لم تر إنجلترة بدا من قبول معاهدة فرساي التي نص فيها على اعترافها باستقلال مستعمراتها الأمريكية استقلالا لا قيود فيه، وأصبحت كل مستعمرة ولاية حرة لا تربطها بتاج الإمبراطورية أية تبعية، فماذا عسى أن تكون علاقة هذه الولايات الحرة كل منها بالأخرى؟ أتنفرد كل ولاية عن أخواتها، أم ترتبط الولايات بعضها ببعض برباط يجمع شملها؟ وأي ضروب الارتباط هو خير لها؟ أتظل كما كانت في ظل كفاحها من أجل الحرية؟ ذلك ما كان يدور بخلد الساسة غداة الاستقلال.
لقد كسب الأمريكان استقلالهم تحت راية التمعت على صفحتها ثلاث عشرة نجمة وثلاثة عشر خطا تمثل الولايات الثائرة وعددها ثلاث عشرة، وكان الأمريكان قبيل ظفرهم قد أقاموا لأنفسهم اتحادا سنة 1781، كما كان يشرف منهم على الحرب منذ اشتعلت نارها مؤتمر عام، ولكن هذين لم ينص على استمرارهما إذا تم النصر.
والحق أن نفوذ ذلك المؤتمر العام قد تضاءل بعد الصلح حتى كاد ينعدم، وذهب ذلك الاتحاد بذهاب الغرض من إقامته وهو المفاوضة، كسلطة لها حق البت فيما يهم الجميع.
وصارت كل ولاية حرة فيما تأخذ أو تدع من الشئون، ولكن الحال ما لبثت أن أوجبت الاتحاد؛ فلقد أخذ يدب الخلاف بين بعض الولايات وبعض في مسائل كثيرة؛ كالدين العام ونظام الاسترقاق، وإعانة الجند الذين سرحوا حسب شروط الصلح، والالتزام بما يخص إنجلترة من حقوق وفق المعاهدة، حتى لقد باتت إنجلترة تخشى من سوء الحال، وتندد بعدم وجود سلطة مسئولة عن تنفيذ ما تم التعاهد عليه.
وكان كثيرون من بعيدي النظر يرون أن لا صلاح للولايات إلا أن يشملها نظام تسهر عليه سلطة مركزية، ومن هؤلاء وشنطون بكل الاستقلال؛ لذلك دعوا إلى عقد مؤتمر للنظر في هذه المسألة، وشهدت مدينة فيلادلفيا اجتماعا كبيرا كتلك الاجتماعات التي رأتها قبل الاستقلال، وكان زعيم المؤتمرين هذه المرة كذلك وشنطون.
وكان عمل المؤتمرين شاقا؛ إذ كان هناك من يغالون فيما سموه حقوق الولاية، فأخافهم التفكير في إقامة اتحاد عام ظنوا أنه يسلب الولايات حريتها في العمل.
وبلغ من صعوبة العمل أن حار المؤتمر بين أمرين: أيمضي إلى إقامة نوع من التعاهد بين الولايات على أساس أن كلا منها سلطة مستقلة، كما يكون التعاهد بين الدول، تجاورت أو تباعدت، أم يضم الولايات كلها في نطاق واحد ويجعل منها أمة واحدة؟
ورأى بعد طول حيرته أن كلا الأمرين مردود؛ فأولهما لا يفي بالغرض في الظروف القائمة، وثانيهما في عداد المستحيلات.
وانتهى الرأي أخيرا إلى إقامة سلطة مركزية في شكل دولة تعاهدية، ونص الدستور الذي وضعه المؤتمرون على أن تبقى كل ولاية حرة في شئونها الداخلية، ولا تتدخل السلطة المركزية إلا في مسائل الضرائب العامة، وفيما يتطلبه الدفاع الحربي عن الجميع، وفي مسائل المواصلات والبريد وأشباهها من الشئون التي تمس الولايات جميعا.
واختير وشنطون سنة 1789 رئيسا لهذه السلطة المركزية، وهي حكومة الولايات المتحدة وفق هذا الدستور. ونص الدستور على أن تكون مدة الرياسة أربع سنوات، يجوز بعدها إعادة نفس الرئيس الذي خلت مدته إذا شاء الناخبون، ويقوم إلى جانب الرئيس نائب الرئيس، وهو كذلك ينتخب لمدة أربع سنوات، ويتولى سلطة الرئيس في حال وفاته أو اعتزاله لأي سبب حتى ينتخب الرئيس الجديد.
وتنحصر السلطة التشريعية للاتحاد في مجلسين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ، ويختار أعضاء كل منهما من الولايات بطريق الانتخاب، ويتألف منهما مجتمعين مجمع عام يسمى الكونجرس، وينبغي أن ينعقد مرة في السنة على الأقل، ويدعى إلى الانعقاد بعد ذلك إذا دعت الضرورة.
ويتولى الرئيس السلطة التنفيذية بعد أن يقسم أمام الكونجرس على الولاء للدستور، ويصبح الرئيس الأعلى للقوات البرية والبحرية للاتحاد وكذلك لقوات الولايات المختلفة إذا اشتركت فعلا في حرب من أجل الاتحاد، وله بمشورة مجلس الشيوخ وموافقته سلطة تعيين الوزراء والسفراء والقناصل والقضاة في المحاكم العليا وغيرهم من كبار الموظفين، كما أن له حق الإشراف على أعمال الوزراء أو غيرهم من كبار رجال السلطة التنفيذية، فيراجع أعمالهم ويطلب إليهم تقديم التقارير الشفوية أو الكتابية عما يرى من الشئون.
وبهذا الدستور استطاع المؤتمرون أن يوفقوا بين المتمسكين بحق الولاية في الحرية والراغبين في الاتحاد، ولما صار هذا الاتحاد حقيقة قائمة أصبح هم كل رئيس المحافظة عليه وتدعيمه ومقاومة كل ما من شأنه إضعافه أو فصم عروته؛ وذلك لأنه لم تتم له حقيقته إلا بعد عواصف هوج كادت تأتي عليه؛ ففي بعض المدن ألفت مظاهرات وحدثت اضطرابات بسبب العداء لدستور الاتحاد، ورفضت بعض الولايات الاعتراف به، وتمهلت بعض الولايات حتى ترى مدى نجاحه، وظل هذا الحال حتى تغلبت الحكمة، وانتصر القائلون بالاتحاد، وكان لشخصية وشنطون بطل الاستقلال أثر بعيد في إدراك النجاح.
فتى الغابة
شمر توماس لنكولن عن ساعديه، وأهوى بفأسه على الأشجار يقطعها ويشقها ويسوي فروعها، حتى تم له إعداد ما يلزم من الأخشاب لإقامة كوخ تأوي إليه الأسرة، ثم دعا إليه بعض جيرانه ليساعدوه على رفع تلك الأخشاب وقد شدت بعضها إلى بعض، وكان رفع الأخشاب «عملية» يدعى إليها الجيران فيلبون في سرور وإخلاص؛ إذ قلما كانت تتاح لهم الفرصة لمثل هذا الاجتماع؛ ولذلك كان يجري في أمثاله من فنون اللهو والمزاح ومن ضروب اللعب والتندر بقدر ما يكون فيه من نصب ومشقة.
وكانت الحياة هنا في إنديانا أسهل منها في كنطكي؛ إذ كانت الحيوانات موفورة في الغابة لمن يطلب الصيد، ولكن مثل هذه المعيشة كانت مع ذلك بعيدة كل البعد عن أسباب الراحة إذا قيست إلى معيشة المدن، وحسبك أن الملابس كانت ما تزال تتخذ من جلود الحيوانات إلا في بعض الأحيان؛ حيث كان يغزل الصوف وينسج في الأكواخ، وحسبك أن المساكن كانت هاتيك الأكواخ الحقيرة، وأن تلك الأصقاع كانت تفتقر إلى سبل المواصلات وإلى مظاهر العمران من متاجر أو دور تعليم أو دور استشفاء، إلا ما كان منها في أبسط حالاته.
على أن الصبي كان مغتبطا ببيته الجديد في إنديانا؛ فقد كان أوسع من ذلك الذي درج فيه بكنطكي، وكان له ولأخته سرير من الخشب في ركن منه، عليه حشية من الجلد ملئت بالريش وورق الشجر، وكانت به بعض المناضد وبعض المقاعد.
وكان الصبي يأنس بكثرة الجيران هنا، ويرى الحياة أكثر نشاطا وأوسع مجالا، ولقد جاء بعض ذوي قرباه، فأقاموا معهم حيث كانوا يقيمون، وكان معهم شاب تبنوه في نحو الثامنة عشرة.
وكان كل امرئ يؤدي نصيبه من العمل لم يتخلف عن ذلك حتى الصغار؛ فهذا «أيب»، وكان على نحافته غلاما قوي الساعدين، يبذر الحب في الربيع، ويشترك في الحصاد وقت الصيف، ويطعم الخنازير ويحلب الأبقار أكثر الأيام، ويتعهد سور المزرعة بالإصلاح إذا أمالت جوانبه الحيوانات، ثم إنه إلى جانب ذلك قد بدأ يعاون أباه في أعمال النجارة. وهذه أخته سارا تعاون أمها فيما لا يحسنه أيب من شئون البيت.
وظل هذا حال تلك العشيرة مدة عامين، ولكن الزمن القاسي يأبى إلا أن تنتابهم حمى مروعة ناءت بالناس والدواب، وحار في أمرها الكبار والصغار، وهم لن يجدوا طبيبا إلا أن يقطعوا نيفا وثلاثين ميلا على الأقل، وهل كانوا يستطيعون أن ينتقلوا بضع خطوات؟ لقد هدهم المرض؛ فرقدت الأم، ورقد كثير من الجيران وبعض ذوي القربى، ومات جده لأبيه وجدته لأمه، ثم حم القضاء فماتت الأم! ورزئ أيب بأقوى صدمة من صدمات الأيام، وأي صدمه! لقد ضاقت في وجهه الدنيا، وأحس الغلام معنى اليتم إحساسا قويا، وقد زاد وقعه في نفسه ما فطر عليه من عمق الخيال واشتداد العاطفة، لقد طالما وقف إلى جوار سرير أمه المحتضرة ينظر إلى الدموع تتساتل على وجه أبيه المصفار، وقد أنهكته كثرة أعماله في تلك الأيام، فضلا عن حزنه؛ إذ كان يقضي كل يوم معظم نهاره في تسوية توابيت من الخشب لمن تطوي أعمارهم الحمى، ولما أخذ يعد تابوتا لزوجته، وقف ابنه يساعده شارد اللب، في محياه وفي نظراته اليتم والبؤس. ولقد ظل الصبي هناك أمام تلك البقعة من الأرض التي دفنت تحتها أمه حتى تناوحت من حوله رياح المساء، ومشت في الأفق ظلال الطفل، وسكتت العصافير على الشجيرات القريبة، فذرفت عيناه سخين الدمع، وعاد وحده إلى الكوخ كسير القلب موجوع النفس، يحس أنه غريب في هذا الوجود الواسع وهو يومئذ في العاشرة من عمره.
أصبحت سارا الصغيرة ربة الأسرة بعد موت أمها، وكانت سارا في الثانية عشرة من عمرها، فأخذت تخدم أباها وأخاها فيما يلزم لهما من شئون البيت، والرجل وابنه يحسان الوحشة كلما أويا إلى الكوخ من عملهما في الغابة أو في المزرعة؛ فلا الرجل ملاق نظرة الحنان والعطف ولا ابتسامة الشكر التي كانت بالأمس تضيء جوانب نفسه، وتهون عليه متاعب عمله، ولا الصبي واجد من يفتح له ذراعيه ويضمه إلى صدره، كما كانت تفعل أمه حين كانت تستقبله وتقبل جبينه وتنعته بالرجل الصغير وتشير مغتبطة إلى مستقبله.
ولم يطق الرجل صبرا على هذه المعيشة وقد مضى على وفاة زوجه عام، فرحل عن المقاطعة قائلا إنه قد يغيب أياما، ولكنه على أي حال لن يطيل إلا مضطرا.
غاب الأب أياما، فما أحس الصبي لغيابه وحشة كما أحس لغياب أمه، أكان ذلك لأن غياب أبيه كان إلى حين وكانت إلى الأبد غيبة أمه؟! على أنه يحس دائما لغيبة أمه في أعماق نفسه حزنا لن يفتر على الأيام، حزنا دفينا يمس خواطره جميعا من بعيد؛ مسا هينا مرة ومسا شديدا مرات، وسيبقى هذا الحزن الهادئ الدفين في أعماق نفسه لا تنقص الأعوام منه شيئا.
وإنه ليسمع همسا حوله أن أباه ما غاب إلا ليعود بزوج أخرى غير أمه، فيستعيد الصبي ما سمعه من قبل عن امرأة الأب وما يكون في قلبها من قسوة على غير بنيها، وهل له أن يلوذ بعطف أبيه، وإنه ليحس منذ وفاة أمه كلما خشن عليه إحساسا لم يكن يداخله من قبل؟! فإن نظرة عطف أو كلمة حنان من أمه كانت تذهب بخشونة أبيه جميعا.
ما باله تتنازعه الهواجس، ويتحرك الحزن في أعماق نفسه؟ وما بال تلك الغابة المحيطة به تملأ اليوم خاطره بصور ينكرها خياله وإن ارتاحت إليها نفسه الحزينة؟
أكان ذلك إرهاص نفس شاعرة؟ إنه ليميد سمعه نحو الغابة إذا جنه الليل، فينصت إلى زئير الوحوش وصراخها وإلى تناوح الريح وصفيرها وإلى هدير الأمواه في الغدران المنحدرة وخريرها، ثم إلى تلك الخشخشة القوية التي تشبه الصوت المنبعث من البحر، تحدثها الأشجار إذ تعصف بها الرياح العاتية، وإنه ليميد خياله نحو الغابة، فيصور لنفسه ما تزدحم به ألفافها من وحوش وهنود وزواحف وأطيار وخلائق أخرى يتحدث عنها الناس حديثا مبهما، وإنه ليخرج من هذا كله بمثل ما يخرج به راكب البحر أو جائب البيد من الشعور بضآلة الإنسان أمام عظمة الخالق، ثم بالإذعان والضراعة والاستسلام.
عاد توماس لنكولن في عربة يجرها أربعة من الجياد القوية الممتلئة، ونزلت من العربة سيدة يذكر الصبي أنه رآها في كنطكي، ونزل منها غلام وبنتان، وكانت السيدة هي زوج أبيه! ودهش أيب لما رأى من متاع جديد؛ فقد رأى سررا حقيقية وكراسي وخوانا ومائدة ومدى وآنية، وأشياء غيرها مما لم تقع عليه عينه من قبل بين جدران الكوخ، وسرعان ما كون الصغار رفقة تربط بينها المودة والمحبة، وكانت إحدى البنتين القادمتين تدعى «سارا» ففرح بذلك أيب وفرحت أخته سارا، وما لبثا أن علما أن ربة البيت الجديدة تدعى كذلك «سارا»، فكان لاسمها وقع طيب في نفسيهما الصغيرتين.
وما لبث أيب وأخته أن رأيا في زوج أبيهما امرأة صالحة طيبة القلب رقيقة العاطفة حلوة الشمائل ذكية الفؤاد نشطة دءوبا، تسهر على راحتهم جميعا، وتعنى بشئون الدار كلها في غير تبرم أو كلال، وزادها محبة في نفس أيب أن رآها، فوق ما أولته من عطف، تميل إلى تعليمه وإلى تعليم الصغار جميعا، وقد سمعها تجادل زوجها في ذلك، وتصر على أن يذهبوا عصبة إلى المدرسة، وما زالت به تقنعه، وقد كان في بداوته يقدم الفأس على القلم، ويضن بابنه وقد رأى قوة ساعديه ومهارة يده أن يرسله إلى المدرسة، وهو أحوج ما يكون إلى عونه، وقد تغلب رأيها آخر الأمر، وسار الأولاد إلى المدرسة وكانت على مسافة ميل ونصف ميل من كوخهم.
وما كان أعظم فرحة الصبي بالذهاب إلى المدرسة! فلقد كان شديد الرغبة في تعلم القراءة، وكانت تتأجج في نفسه تلك الرغبة كلما رأى واعظا يمر بهم أو أحد ماسحي الأرض أو رجلا من المشتغلين بالقانون والمحاماة، وكان يتساءل بينه وبين نفسه لم لا يكون كهؤلاء الذين يقرءون ويكتبون.
وأقبل الصبي على تعلم الكتابة والقراءة إقبالا لم يعهد مثله في نظرائه، ولقد كان يعمد إلى قطع الفحم كلما عاد إلى الكوخ، فيكتب بها على غطاء صندوق من الخشب تارة، أو على ظهر محرك الموقد تارة أخرى! وكان يكرر ذلك في غير ملل مع صعوبة الكتابة بالفحم على مثل تلك الأشياء، وأنى له المداد والورق إلا ما ندر من قصاصات رديئة كان يضن بها على التمرن، فلا يخط عليها إلا ما أحسن كتابته على الخشب، وهكذا تعود الصبي أن ينفي عبارته من الحشو، وأن يفكر مليا قبل أن يكتب كي لا يثبت على الورق إلا ما تطمئن نفسه إليه.
ولم تشغله سعادته التي يجدها في التعلم عن ذكرى أمه، وكانت عادة القوم في تلك الأصقاع أن يقيموا حفلا دينيا لكل ميت خلال العام التالي لعام وفاته، فهل يفوت الصبي إقامة هذا الحفل؟! كلا؛ فما تغيب عن قلبه ذكرى أمه الحبيبة، وإن كان ليرى أباه في شغل عنها، وإن انشغال أبيه عن تلك الذكرى ليوجع نفسه، ولكنه يزيده تعلقا بها ورغبة في إحيائها.
حار الصبي أول الأمر ماذا يفعل، ولكن فيم الحيرة؟ أوليس يستطيع اليوم أن يكتب؟! فليتناول ورقة وليكتب إلى رجل من رجال الدين يعرفه في كنطكي، وأكبر الظن أن الرجل لن يحجم عن الحضور؛ فإنه طيب القلب، ولقد كان كثير العطف على أهل لنكولن، وعلى الأخص ربة الدار، وهكذا كتب الصبي أولى رسائله.
وأشد ما أثلج فؤاده أن جاءه رد ذلك الرجل الصالح ينبئه أنه ملب دعوته عند أول فرصة يدنو به فيها عمله من إنديانا، وسنحت الفرصة المرتقبة بعد أيام، وحل بصقعهم ذلك الرجل الصالح، وقد قطع في سفره إليهم ما يربو على المائة ميل.
وتلقاه أيب ودموع الشكر والفرح في مقلتيه، وأذيع النبأ في الجيرة، وحدد يوم لذلك الحفل.
وفي صباح اليوم المحدد تجمع على مقربة من قبر أمه نحو مائتين من ساكني الأكواخ المتناثرة في تلك الجهة، والتفتت أعين الجمع إلى حيث يقوم كوخ توماس لنكولن، فإذا برجل الدين يمشي مشية الصالحين الأتقياء، ووراءه توماس لنكولن يتبعهما أيب ثم أخته سارا وبعض الجيرة الأقربين، وسلم الرجل وترحم على الميتة ودعا لها الله، وكانت كلماته بردا وسلاما على قلب الغلام، وأحس بعدها كأنما طرح عن قلبه عبئا كان يئوده ويؤلمه، وصار يشفي نفسه كلما ذكر أمه ما قاله القس عن شمائلها وما دعا لها به الله من دعاء.
وستنصرم بعد ذلك الأعوام وهو لا ينسى ذلك الصباح، ولا ينسى ذلك القس الرحيم ولا كلماته الطيبات التي التأمت بها جراحات قلبه الصغير.
بين الفأس والكتاب!
ازداد إقبال الغلام على القراءة، ولكن أباه لا يهش لذلك ولا يأبه له، بل إنه ليقطع عليه أكثر الأحيان قراءته، فيستصحبه إلى الغابة ليعاونه فيما يراه أجدى على الأسرة من عمل، وهو يرى فيه الآن، وقد ناهز الرابعة عشرة، خير عون له؛ إذ كان الفتى حاذقا قويا تحمل قوته على العجب، ما رأى الجيران مثلها فيمن كان في مثل عمره، ورأى فيه أبوه فوق ذلك قدرة على الرماية تجلت له في حادثة واحدة، ولكنها كانت مقنعة؛ وذلك أنه تناول البندقية ذات يوم وصوبها نحو فرخ بري فأصابه في مهارة وخفة، على أن الفتى قد امتلأ رعبا وندم على ما فعل، وعافت نفسه مثل هذه القسوة؛ فما رآه أحد بعدها يصوب سلاحا إلى مخلوق.
وما كان إذعان أبراهام لأبيه إذ دعاه ليصرفه عما مالت إليه نفسه، فإنه ليختلس الساعات فيكتب ويقرأ تحدوه اللذة وتدفعه، حتى أصبح قادرا على تناول الكتب، وكان أول ما تناوله من الكتب الإنجيل، ثم خرافات إيسوب وروبنسن كروزو ورحلة الحاج، وكم كان لهذه الكتب من أثر في خياله ووجدانه! وذلك لأن نفسه أخذت تتفتح للحياة تفتح الزهرة للربيع، وتاقت تلك النفس الزكية إلى تاريخ العظماء، فقرأ حياة هنري كليي وحياة فرانكلن وحياة وشنطون بطل الحرية وزعيم الاستقلال، ولقد أعجب كل الإعجاب بسيرة هذا الزعيم العظيم، وبات مسحورا بما طالع من مواقفه في حرب الاستقلال وبما كان في تلك الحرب من بطولة.
ومالت نفسه إلى تفهم أسرار الحياة وهو بعد في السادسة عشرة، فكان يطيل التفكر والتأمل، وإن كان مسرح الحياة حوله غير حافل بما يثير العجب، على أن في الكتب من دواعي التفكر والنظر شيئا ليس بالقليل.
ووقعت في يده ذات يوم جريدة قديمة كان قد لف بها بعض المتاع، فقرأ فيها ما تعجب له ولم يفهمه حق الفهم! فما تلك الانتخابات؟ وما مسألة العبيد وأهل الجنوب؟ إنه ليسمع أشياء كهذه في الكنيسة أحيانا وفي أحاديث الجيران أحيانا فيعجب بينه وبين نفسه! فمتى يستطيع أن يعرف كنه هذه الأشياء على وجه اليقين؟ وأعجب ما قرأه في تلك الصحيفة القديمة هو أن أندرو جاكسون على وشك أن يظفر برياسة الولايات المتحدة، وهو رجل من عامة الناس تحدى الأقوياء الأغنياء من منافسيه فما استطاعوا أن يهزموه!
وكان للفتى نظرة نافذة إلى أعماق الأشياء، لا ينصرف عما يقرأ حتى يتعمقه تعمقا عجيبا، ولا يدع مسألة حتى يفهمها حق الفهم. وكان إلى رجاحة عقله ذا نفس تنفعل بطبيعة تكوينها للجمال والحق وتنفر من الأذى والشر، لو رآه خبير بطباع البشر يومئذ لظن أنه حيال شاعر تنبسط جوانب نفسه، وتتهيأ روحه لرسالة من الرسالات، ولقد كان أبراهام يكتب الشعر فعلا يومئذ ويقرؤه على خلانه، وصارت للشاعر بيرنز منزلة في نفسه لا تسمو عليها غير منزلة شكسبير، ولقد كان يكرر ما يعجبه ويكتبه في سجل ويعاود النظر فيه، وعرف ذلك عنه منذ تعلم القراءة، فاستوى له من ذلك قدر من بليغ الكلام، تأثرت به نفسه واستقام به لسانه.
هو الآن يتخطى السادسة عشرة، طويل الجسم، مديد القامة، عريض الصدر، تستوقف الأبصار نحافته كما يستوقفها طوله، ولكنه على نحافته قوي البدن، بلغ من القوة ما لم يبلغه من كان في مثل سنه، وكأنما تجمعت تلك القوة في ساعده، فليست هناك دوحة تستعصي عليه إذا هو أهوى عليها بفأسه، بذ أباه في قطع الأشجار وتسوية الأخشاب، وغالب أقرانه في الغابة حتى سلموا بتفوقه مكرهين!
كانت هيئته وحشية بسبب شعره الأشعث المغبر وهندامه الساذج المتهدل، وتقاطيع وجهه المسنون الذي يبرز فيه الأنف بروزا شديدا حتى ليبدو أضخم من حقيقته، ولقد وصفه أبوه فقال: «إنه يبدو كقطعة من الخشب لم تسوها الفأس ولم تمسحها الممسحة.» ولذلك ما كان أبراهام يطمع وهو في سن التظرف والأحلام أن تنظر إليه فتاة نظرة تعلق أو فتنة، وهل كان يتجه خياله إلى شيء من هذا؟ ذلك ما لم يظهر عليه دليل حتى ذلك اليوم.
وكان الفتى على قوة جسمه مضرب المثل في دماثة الخلق وعفة اليد واللسان، وكان موضع حديث القوم في أمانته وسمو أدبه. تحدثت عنه زوج أبيه مرة فقالت: «لم يوجه إلي مرة كلمة نابية، أو نظرة جافة، ولم يعص لي أمرا قط، سواء في ذلك مظهره وحقيقة أمره.» وكان يكره الكذب أشد الكره، كما كان صريحا لا يعرف الالتواء والنفاق في أعماله أو في أقواله، كما كان يحب أن ينتصف من نفسه بنفسه.
روي عنه أنه استعار كتابا عن وشنطون لمؤلف غير الذي قرأ له قبل ذلك حياة ذلك العظيم، وكان من عادته أن يقرأ بقية النهار خلف الكوخ متى عاد من الغابة، فإذا نزل الليل قرأ إلى جانب الموقد يثير لهبه بين آونة وآونة؛ فإن زوج أبيه تحتفظ بالشمع لليالي الآحاد، فبينا كان يقرأ ذلك الكتاب ذات ليلة إذ هبطت نار الموقد فوضعه في شق بين كتل الكوخ وذهب فنام، فلما أصبح وجد المطر قد بلل الكتاب، فاشتد أسفه وحمله إلى صاحبه وهو لا يقوى على الوقوف أمامه من شدة الخجل، ولا يدري كيف يعتذر إليه! ثم بدا له فعرض على صاحب الكتاب أن يأخذ ثمنه، وسأله عن الثمن واقترح عليه في مقابله أن يأجره الرجل ثلاثة أيام في عمل من أعمال زراعته! وقد تم له ذلك فطابت به نفسه وزاده غبطة أن قد أصبح الكتاب ملكا له.
وإن أقرانه ليلاحظون عليه شيئا من الشذوذ يومئذ؛ فهو يلقي فأسه أحيانا أثناء العمل في الغابة ويخرج من جيبه كتابا ويقرأ في جهر كما يفعل الخطيب، وهو يضحك أحيانا بلا سبب ظاهر، وقد يعلو في ضحكه ويغلو فيه كل الغلو، مبتدئا بابتسامة ومنتهيا بقهقهة طويلة.
وهو على رقة عاطفته وكرهه للقسوة يؤدي للجيران إذا دعوه أعمال الجزارة، فيقذ الخنازير في جرأة وسرعة ويسلخها ويقطعها كأنه أحد مهرة الجزارين!
وبينا يرى الناس ذلك منه يجدونه يمد يد المساعدة للضعفاء والبائسين؛ لقي وهو في طريقه مع رفيق له رجلا ألقاه جواده وقد ذهبت بلبه الخمر، فما زال به يوقظه وينهضه وهو لا يفيق ولا ينهض، فتبرم رفيقه، فعاتبه أبراهام قائلا إنه لا يستطيع أن يترك الرجل فريسة للبرد، ثم حمله على ظهره حتى أدخله كنه وأقام إلى جانبه ردحا من الليل.
وسمعه الناس مرارا يعلن عطفه على الهنود الحمر، قائلا إنهم هم أصحاب تلك الأرض وإنهم أخرجوا قسرا من ديارهم؛ فهم لذلك جديرون بالعطف والمرحمة.
ولم يقتصر على الإنسان عطفه؛ فقد أظهر أكثر من مرة الرأفة بالحيوان؛ فمن ذلك أنه وقف ذات يوم ينقذ كلبا وقع في الثلج وقد ناله من جراء ذلك تعب عظيم، ومنه أنه رأى بعض خلانه يلعبون بسلحفاة أوقدوا على ظهرها نارا فعنفهم حتى أطلقوها، وذهب فكتب من فوره في الرفق بالحيوان، وقرأ ما كتب على من صادف من الجيران.
وكان على احتشامه وجده يحب كثيرا من ضروب اللعب؛ كالمصارعة ومسابقة العدو، كما كان يشهد الاجتماعات التي تنتظم عددا كبيرا من الجيرة؛ كحفلات الأعراس وسباق الخيل وأضرابها. ولقد كان يبدو فيها مرحا ضحوكا يطفر من جذل وحيوية، فهل كان منقادا لوعيه الباطن فهو يحاول أن يغيب في هاتيك الأفراح ما يهمس في نفسه من هم؟ أم أن حبه لتلك الطبقة التي ينتمي إليها من عامة الناس هو الذي كان يحبب إليه الاجتماع بهم وإيناس نفسه الحزينة بلقائهم؟ الحق أن مرد ذلك إلى السببين معا، ثم إلى عاطفة الشباب التي يشاركه فيها كل شاب، ولقد كان الفتى محببا إلى أقرانه، يلتفون حوله ويصغون إليه، ولا يكمل له سرور إلا إذا كان بينهم، وإنهم ليحسون كلما تحدث إليهم توثب روحه وعذوبة نفسه، ويشعرون شعورا خفيا أنهم جميعا دونه في كل شيء إن جدوا وإن لعبوا. وكان على مرحه وفتوته يكره أن يسف؛ فما يكاد يذكر أحد أنه رآه يشرب الخمر أو يتناول شيئا من تلك الحشائش المخدرة التي يتناولها الناس، وما رأى أحد منه سفها أو تبجحا أو استهانة بشخصه أو استهتارا بغيره؛ فلقد كان يعرض عن شطط غيره أو سفهه ولا يحب أن يؤلم أحدا.
وكانت لا تلبث الهواجس أن تملأ فؤاده إذا خلا إلى نفسه بعد مرح أو لعب، وتأبى الأيام إلا أن تزيد دواعي حزنه؛ فلقد تزوجت أخته الحبيبة «سارا» شابا من أسرة قريبة، فرأى أبراهام زوجها يدل عليها وعلى أسرتها بثروته، ثم رأى أنه وأهله يكلفونها أعمال الخدم، ولقد صبر الفتى على مضض وإن نفسه لتنطوي على ثورة، وإنه ليحس لأول مرة إحساسا لم يألفه طبعه؛ وذلك هو النزوع إلى الشر، ولكن عاطفة الخير تتغلب على نزوعه، فيصبر منطويا على حزن جديد.
وتموت أخته الحبيبة وهي في فراش الوضع، ويتهامس الناس أنها ماتت مرهقة لم تمهل حتى تسترد عافيتها، ويمتلئ قلب الفتى بالضغن والشر كما يمتلئ بالألم والحزن، ويحس أن قد حان الوقت ليكايل هؤلاء القوم صاعا بصاع.
وكأن إحساسه باليتم يزداد في نفسه بموت أخته، وإلا فما باله ولم يعد بعد طفلا يشعر مرة أخرى شعورا قويا بالوحدة والوحشة، كأنما كان يرى في سارا أمه وأخته معا.
ويتعود الفتى حمل الآلام، ويحمل على الصبر نفسه وتستقر الأشجان في أعماق تلك النفس استقرارا، ولكن ذلك الشر ينطوي على جانب من الخير أو هو يبتعث ما في نفسه من خير، فإن شعوره بالرحمة والرأفة والحدب على المنكوبين يقوى في نفسه ولا تزيده الآلام إلا قوة وتمكنا.
وهو ينفس عن نفسه بمطالعة الشعر ونظمه، ينفق في ذلك الساعات، فيخرج منها وقد سرى عنه بعض الشيء، ولكن كما يسري النغم الحزين عن النفس الحزينة!
وزاد ضغنه على تلك الأسرة التي ماتت فيها أخته أنهم لم يدعوه إلى حفلة عرس أقاموها لأخوين من شباب الأسرة كانا يتزوجان، فهو وإن لم يكن يودهم يجد في عدم دعوتهم إياه إهانة ساء وقعها في نفسه؛ لذلك عول على الثأر؛ فأتى أمرا كم ندم عليه فيما بعد فما ذكره إلا تلون وجهه!
وذلك أنه استأجر من نقل خفية سريري العروسين كلا منهما إلى حجرة الأخرى، وقصدت كل عروس إلى سريرها، فلما زف الزوجان كل إلى حجرته والخمر تلعب برأسيهما ورءوس أهلهما، نام كل منهما إلى جوار عروس أخيه، حتى أقبلت أمهما فتداركت الأمر في آخر لحظة، وجعل أبراهام هذا الخطأ موضوع قصة فكاهية تهكمية كتبها وألقاها في كوخ أحد العروسين، وسرعان ما فشى في الناس أمرها واشتد إعجابهم ببراعة كاتبها وقوة فنه، وهكذا يثأر الفتى أول ثأر بقلمه لا بساعده.
وما كان لمثله أن يثأر إلا بقلمه ولسانه، وأن يناضل إلا بقلمه ولسانه، فهو يربأ بنفسه أن يفعل ما يفعله غير المهذبين، وإن له من قوة ذلك اللسان ما يستغني به عن قوة ساعده وبدنه.
وإنه ليحس في نفسه الميل إلى الدفاع عن المستضعفين، ويحس بتزايد هذا الإحساس يوما بعد يوم، وخير ما كان يمني به نفسه يومئذ أن يكون محاميا يدفع الظلم عن المظلومين.
قصد ذات يوم إلى جلسة قضائية في بلد قريب ليتفرج، وكان هذا أول خروج له من بيئة الأكواخ والأحراج البرية، وقد أعجب في هذه الجلسة بدفاع أحد المحامين إعجابا شديدا، حمله على أن يتقدم إلى ذلك المحامي مهنئا، فاقتحمته عين المحامي وازدراه وهو لا يدري أنه يزدري رئيس الولايات المتحدة في غد! ولقد التقى ذلك المحامي بالرئيس لنكولن بعد ذلك في البيت الأبيض، فذكره الرئيس الذي لا ينسى بدفاعه المجيد ولكنه لم يذكر منه شيئا!
عاد أبراهام إلى كوخه وفي نفسه الإعجاب بالمحاماة وبشخص ذلك المحامي البليغ المتمكن من قضيته وأوجه حقه، وإن كان ليخالجه شعور المضض من كبريائه، وكم أمضه قبل ذلك ما رأى من تفاوت بين الطبقات لا تقره نفسه لأنه لا يقره عقل!
وكم رآه الناس بعد ذلك ينتصب خطيبا فيهم كلما أحس في نفسه رغبة إلى أن يتحدث إليهم! وكم سحرهم بيانه وأعجبتهم حماسته! إلا والده؛ فقد كان يضيق منه بذلك كما كان يضيق منه بالقراءة والانصراف عن معونته في الغابة. قال مرة في تململ وهو ينظر إليه يخطب الناس: «أكلما وقف أيب أقبل عليه الناس جماعات يسمعونه؟!»
وإنه في خطبه مثله في قراءته، يحسن فهم ما يتحدث عنه فيحسن الإبانة عنه والإقناع به، ولسوف تلازمه هذه الصفة ما عاش، قال مرة يخاطب أحد مرءوسيه في البيت الأبيض، وقد راح ذلك المرءوس يقص عليه نبأ حادثة لم يحسن فهمها: «إن هناك أمرا واحدا تعلمته ولم تتعلمه، وإنه لينحصر في كلمة؛ تلك هي «الإحاطة».» ثم ضرب الرئيس المنضدة بقبضته يؤكد الكلمة ويكررها قائلا: «الإحاطة!»
وتاقت نفس الفتى إلى دراسة القانون، ولكن أنى له المال الذي يشتري به الكتب؟ أنى له المال في تلك الجهة وهو لا يكاد يراه رأي العين؟
ثم إنه ليشعر شعورا قويا برغبته في أن يرفع قيمة نفسه، فماذا هو فاعل؟ أيبقى في الغابة؟ وماذا في الغابة غير النجارة؟ ومتى كانت النجارة سبيل من يطمح؟ على أنه كان في طموحه متأثرا بثقته في نفسه أكثر مما يتأثر بتلك الأحلام التي تطوف بقلوب الشباب في مثل تلك السن، ومن العجب حقا أن يداخله الطموح في تلك البيئة وهو النجار ابن النجار الذي يعرف القليل عن جده لأبيه، وقد كان كذلك قاطع أخشاب، ولا يعرف شيئا عن جده لأمه!
أيبقى مع أبيه في الغابة؟ وإذا ترك الغابة فأي سبيل يتخذ؟ ذلك ما كان يحيره أشد الحيرة وهو يهدف للثامنة عشرة.
وفكر ذات يوم أن يتجر، فصنع بفأسه قاربا وملأه بأشياء تافهة جمعها من الغابة، وظن أنها مما يباع في الأسواق، وسبح بقاربه إلى بلدة قريبة ولكنه باع ما فيه بثمن زهيد، بيد أنه حدث أثناء رجوعه أن حمل في قاربه رجلين ومتاعهما من الشاطئ إلى حيث أدركا قاربا بخاريا في عرض النهر، وما كان أعظم دهشته إذ ألقى إليه كل منهما بقطعة من الفضة تساوي نصف ريال! وما كان أشد فرحته بذلك! أشار إلى ذلك الحادث يوما وهو في منصب الرياسة يخاطب صديقه ووزيره سيوارد فقال: «إني لم أكد أصدق عيني، ربما رأيت ذلك يا صديقي أمرا تافها، أما أنا فأعده أهم حادث في حياتي. لقد كان من العسير علي أن أصدق أني أنا ذلك الفتى الفقير قد كسبت ريالا في أقل من يوم، لقد اتسعت الدنيا أمام ناظري، وتبدت لي أكثر جمالا، وازداد أملي كما ازدادت تقى نفسي منذ تلك اللحظة.»
رحلتان إلى عالم المدنية
ما كانت الفاقة لتعوق ابن الأحراج عما كانت تتوق نفسه إليه، وهيهات أن تركن النفس الكبيرة إلى دعة أو ترضى بمسكنة. ها هو ذا فتى الغابة في التاسعة عشرة لا يذكر أنه منذ قوي على حمل الفأس كان كلا على أحد، بنى نفسه بنفسه كأحسن ما تبنى النفوس، غذاء جسده من قوة ساعده وغذاء روحه من توقد ذهنه وبعد همته.
ساقت إليه الأقدار عملا خرج به من الغابة، وقضى أياما في دنيا الحضارة؛ فلقد استأجره أحد ذوي الثراء، وقد تناهى إليه من حديثه ما حببه إليه، ليذهب ببضاعة له في قارب إلى حيث يبيعها في مدينة نيو أورليانز، وقبل الفتى وإن قلبه ليخفق، وإن نفسه لتنازعها عوامل الخوف والأمل، ولم لا يخاف وهو لم يرحل مثل تلك الرحلة الطويلة من قبل، ولا عهد له بالمدن وعشيتها وأهلها؟! ولكنه قبل وتأهب للرحيل، وما كان حب المال هو الذي حفزه إلى القبول، ولكن رغبته الشديدة في رؤية الدنيا، وهو - كما رأينا - تواق إلى المعرفة لهج برؤية الحياة في بيئة غير بيئة الأحراج.
وخرج معه فتى من أهل تلك الجهة ليعاونه، واتخذا سبيلهما في نهر الأهايو، ومنه إلى ذلك النهر العظيم المسيسبي أبي الأمواه كما كان يدعى حتى بلغا مدينة نيو أورليانز بعد أن قطعا زهاء ثمانمائة وألف ميل، رأيا خلالها على الضفتين حيوانات وأشجارا وأناسا تخالف ما ألفا في إقليمهما.
وكانا أثناء رحلتهما يأويان إلى الشاطئ أثناء الليل على مقربة من القرى، فيصغى أيب إلى أحاديث الناس ونوادرهم، وتختزن ذاكرته العجيبة تلك الأحاديث ويستخرج منها من المعاني ما يفسر له بعض آرائه، أو ما يكون موضوعا لرأي جديد.
وظل صاحبه زمنا طويلا وهو لا ينسى شجاعة أيب في حادث وقع لهما ذات ليلة؛ فقد أويا إلى الشاطئ على مقربة من مزرعة من مزارع قصب السكر، فبينما كانا نائمين في قاربهما إذا بهما يستيقظان على حركة أيد تعبث ببضاعتهما، فهب أيب فإذا هو يرى زنجيا على حافة القارب فعاجله أيب بضربة بالمجداف ألقت به في الماء، فوثب إليه آخر من الشاطئ فضربه كذلك فلحق بالأول، وجاء ثالث فكان نصيبه نصيب سابقيه، ورابع فما كان أحسن حظا، وخامس فلقي أسوأ مما لقوا، ثم فروا جميعا فتعقبهم أيب وصاحبه فإذا بهما حيال سبعة من الزنوج، واشتدت المعركة بين الجانبين حتى هزم هؤلاء السود ولاذوا بالمزرعة، وعاد أيب ورفيقه إلى القارب ولكنه أصيب بجرح فوق عينه اليسرى سيظل أثره هناك طيلة حياته.
بلغ أبراهام وصاحبه مدينة نيو أورليانز، فها هو ذا يرى مدينة كبيرة لأول مرة! وأية مدينة هي؟ إنه يرى في الميناء من المراكب الضخمة المحملة بالبضائع ما لم تقع على مثله عينه من قبل، وإنه ليرى شوارع فسيحة وقصورا عالية وأنماطا من المركبات الفخمة وأفواجا من الرجال والنسوة تبدو عليهم مظاهر النعمة والبهجة، ما هذه الدنيا العجيبة الصاخبة المزدحمة؟ ألا ما أبعد حياة الغابة عن هذه الحياة! يا عجبا! هذه قضبان من الحديد تنساب عليها عربات تجرها قاطرة، لقد سمع عن مثل هذا من قبل فها هو ذا يراه أمام ناظريه.
على أن شيئا يهمه ويأخذ بمجامع لبه أكثر مما تهمه تلك الأشياء جميعا؛ وذلك هو تلك الجموع السود تساق أمامه كما تساق الدواب، ينتظم كل فريق منها أو كل قطيع سلك طويل، وإنه ليدرك من نظراتهم ومن حركاتهم أنهم لم يألفوا بعد حياة المدينة، وأغلب الظن أنهم جلبوا إليها لساعتهم، أهؤلاء هم الذين قرأ عنهم في بعض الجرائد القديمة، والذين سمع أحاديث عنهم في الكنيسة من قبل؟ إلى أين يساقون؟ ومن أين جيء بهم؟ إنه ينظر فتقع عيناه على لافتات؛ فهذه تعلن عن استعداد صاحبها لشراء العبيد بثمن طيب! وتلك عن بيع هؤلاء لحساب من يريد بيعهم! وأخرى تعد بمبلغ مغر يدفع لمن يرد هاربا منهم أوصافه كيت وكيت!
إنه يريد أن يفهم أمر هؤلاء السود، ويحيط خبرا بتاريخهم وعملهم وحظهم من الحياة في هذه المدينة الكبيرة، ولكنه في شغل بما جاء له عن هذا، فليترقب حتى تسنح فرصة أخرى.
باع بضاعته وباع القارب وعاد هو وصاحبه في قارب بخاري إلى الغابة بعد أن غاب عنها ثلاثة أشهر، عاد وقد اكتسب عن الحياة خبرة تفوق ما أكسبته الكتب منها. ثم إنه ينال خمسة وعشرين ريالا أجرا على عمله الذي أداه على خير وجه. •••
لم يكد يمضي عام ونصف عام بعد عودته من رحلته حتى هاجرت الأسرة إلى مقاطعة أخرى هي مقاطعة إلينوى؛ فلقد أرسل بعض ذوي القربى هناك يصفون ما في تلك المقاطعة من رغد وجمال، وهذا الرجل توماس لنكولن لا يسمع عن رغد إلا طمع فيه لكثرة ما يعاني من شظف العيش، ذلك هو الذي رحل به من كنطكي إلى إنديانا وهو الذي يرحل به اليوم من إنديانا إلى إلينوى، فما أسرع ما أجاب؛ باع مزرعته، وباعت زوجه مزرعة كانت لها في كنطكي، وحزما متاع الأسرة، ووضعاه على ظهر عربة، وهم في رحلتهم اليوم يعتمدون على قوة أيب؛ فلم يعد صغيرا يركب خلف أبيه كما فعل قبل أربعة عشر عاما أثناء رحيلهم من كنطكي، وإنما هو اليوم شاب مكتمل القوة يسير على قدميه ويعنى بالمتاع كما يعنى بقطيع الماشية الذي يأخذونه معهم إلى إنديانا في رحلة بلغت مائتي ميل قطعوها في أسبوعين.
ويفكر الفتى في عمل مجد يعمله أثناء الطريق، وهل ثمة غير التجارة؟ أولم يحذقها في رحلته إلى نيو أورليانز؟ لذلك يشتري الشاب بريالاته خيطا وإبرا ودبابيس ومشابك ونحوها، ويبيع ذلك لساكني الأكواخ التي يمر بها، فما يبلغ الموطن الجديد إلا وقد ضوعف ماله، وهو بذلك فرح شديد الفرح، يتذوق ثانية لذة الكسب ولذة الثقة في نفسه، ويسأل نفسه أي الطريقين يختار ليعول نفسه وقد شارف الحادية والعشرين؛ أيظل نجارا زارعا، أم يترك ذلك إلى التجارة؟ ولكن نفسه تحدثه بأشياء غير ذلك جميعا؛ فهو واثق من قدرته على الكلام، وليس ينقصه إلا دراسة القانون ليكون محاميا ينتصف للمظلومين، فما أحب ذلك إليه!
ولكن ليودع ذلك الآن فإن عليه أن يبني الكوخ الجديد، وأن يسور المزرعة الجديدة، وأن يتعهد أثناء ذلك الماشية، فما يجدر أن يلقى من تلك الأعباء على عاتق أبيه إلا بقدر ما يطيق.
أهوى الفتى بفأسه على الأشجار في قوة تلفت الأعين إليه، وكان اليوم أقوى من أبيه ساعدا وأكثر جلدا، وجعل يسوي الأخشاب وجه النهار، ويأتي بالثيران لتجرها إلى حيث يقام الكوخ آخره، فلما تم له ذلك نشط في بناء الكوخ حتى أتمه كما شاءت زوج أبيه من نسق، فجاء كوخا فسيحا مقسما تقسيما جميلا.
وعمد هو وابن عمه جون هانكس إلى مزرعة فأحاطاها بسور، وأقبلا على الزراعة في بقعة لم تطأها قدم إنسان قبلهما ليوفرا للأسرة ما تتطلبه من قوت، وليس ثمة ما يضايقه إلا انصرافه عن القراءة بسبب ما هو فيه من جهد متصل.
وإنه ليخشى أن يطول انصرافه عن القراءة؛ فها هي ذي شهرته في المقاطعة الجديدة تؤدي إلى استئجاره في كثير من الأعمال، وهو يكره أن يرفض؛ لأنه يحب أن يجود بمعونته أبدا، ثم إنه يكسب أجرا على ما يقوم من عمل، وعليه اليوم أن يكسب ثمن قوته وثمن ملابسه على الأقل.
وإن حديث هذا الشاب وشجاعته ليشيع في الجيران حتى ليرغب كثيرون في رؤيته، وإن شخصيته لتأسر كل من رآه؛ فالناس معجبون بقوته ومهارته ونجدته، وإنهم إلى ذلك يرتاحون منه إلى شمائل أخرى يحسونها وإن لم يلتفتوا إلى التفكير فيها؛ فحديثه محبب إليهم لا يملونه، وإنه لذو مقدرة فائقة على سرد الأقاصيص والنوادر، يتدفق في عذوبة وفصاحة وجذل، وإن كانت لتغشى جذله أحيانا غواش من الحزن كما تغشى السحب السماء الصافية داكنة مرة، خفيفة مرة أخرى، ثم لا تلبث السحب أن تنقشع فيعود لوجهه ضياؤه ولحديثه بهجته، وهو في كلا حاليه ساحر قوي السحر بعيد الأثر في نفوس سامعيه.
وهو إذا فرغ من عمله، وقلما يفرغ، يكتب لهذا رسالة أو مظلمة، ويقرأ لذاك كتابا جاءه من صديق أو قريب، ويعين غيرهما في زحمة عمله، ثم ينفلت إلى مزرعة أبيه أو إلى أخشابه التي يسويها ليبيعها بدريهمات.
والناس في هذه المقاطعة وأمثالها يعيشون على حالة أشبه بحال البداوة؛ أكثر التفاخر بينهم بالقوة والشهامة، وقلما تفاخروا بثروة؛ إذ يندر أن توجد الثروة؛ لذلك كانت قوة أيب - كما كانت شهامته - كفيلة بأن تطلق لسانه بالفخر، ولكنه لا يتحدث عن نفسه أبدا، وإنه ليخفض جناحه للناس إلا إذا تحداه ذو وقاحة كما حدث مرة؛ إذ صارع أحد المدلين بقوتهم من شباب تلك الجهة، ولقد علمه أيب كيف يهابه ويستخذي منه، والناس يعجبون من ذلك الشاب النحيف وما يبدي من قوة.
ثم إنهم يرونه ذات مرة يقذف بنفسه في الماء؛ إذ أخذت عيناه رجلين يغالبان الموج وقد خارت قوتهما أو كادت، فأدركهما ونجاهما من الغرق.
وإنه كثيرا ما يجد منجاته في تلك القوة؛ فقد تحطم زورق بحمله مرة، وكان البرد شديدا والماء يوشك أن يتجمد، فلم يحل ذلك بينه وبين أن يسبح مسافة طويلة مشى بعدها مسافة أطول منها حتى التجأ إلى كوخ أحد الفلاحين، فلبث عنده نحو أسبوعين يعاونه في أعماله، وما دعاه إلى أن يلبث عنده في الواقع إلا كتاب في القانون وجده لديه، وكان هذا الفلاح من قبل قاضيا، فلم يدع الفتى ذلك الكتاب حتى قرأه ووعاه.
ولكن أبراهام على الرغم مما يحسه من طيب العشرة وما يتمتع به من حسن السمعة، برم بالعيش هنا لا يطيق صبرا على البقاء في هذا المجال الضيق، وإنه ليكدح كدحا عنيفا ثم لا يصيب من الأجر إلا دريهمات، وأي أجر أحقر من سروال من القماش الرديء يحصل عليه في مقابل آلاف من شرائح الأخشاب، كان يقدم أربعمائة منها ليحصل على قيد ذراع من ذلك القماش؟!
إن نزعة استقلالية تسيطر على تفكيره اليوم، وإن شعورا بالرغبة في الهجرة ليلح عليه إلحاحا شديدا، وإنه لجدير بالاستقلال؛ فما اعتمد منذ حداثته إلا على نفسه، فكر لنفسه وتأمل في حياة الناس وفي مظاهر الطبيعة، وسافر فوق الماء، وتاجر في مدينة كبيرة، وقرأ الكتب، واستوعب كثيرا من القصص والأمثال، وتعود أن يتعمق الأشياء وأن يديرها في ذهنه مرات، وأن يقابل بين الأشباه وينظر في المتناقضات، ثم إنه يطابق بين ما يقع تحت بصره وما يطرق سمعه من حياة الناس على ما يقرأ، ومن كان هذا شأنه فهو عصامي في أوسع معنى لتلك الكلمة، والعصامي لا يقف عند حد، فما يزال يرتقي حتى يصل إلى القمة، أو حتى يصبح هو نفسه قمة من القمم.
إذن فمجال الحياة في الغابة يضيق عن همته، وحسبه ما استوعب هنا من تجارب وما خبر من سلوك الناس، فليخرج إلى عالم المدنية، وليضرب في الأرض، فما كانت الهجرة إلا سبيل المجد.
وإنه ليفضي بتلك الرغبة إلى من حوله من الشباب، فيكدرهم اعتزامه المغيب عنهم، وما منهم إلا من يحب ذلك الشاب الطيب القلب الذي تعبر عيناه عن أمانته وإخلاصه كما يعبر لسانه عن أدبه ودماثته، ويشير بعض خلانه إلى أبيه وكيف يتركه في الغابة وحده، فيذكر الفتى تلك الحقيقة، ويفكر ويطيل التفكير حتى ليكاد يركن إلى البقاء. •••
شاءت الأقدار أن يذهب أبراهام في رحلة ثانية إلى نيو أورليانز؛ فقد استأجره بعض الجيران وقد نمى إليه أنه القوي الأمين الذي يحسن أن يتعهد بيع تجارته، فخرج وفي صحبته ثلاثة رفاق في قارب من صنع يديه، وقد جعل الرجل له ستة عشرة ريالا في الشهر أجرا على عمله كما جعل لرفقائه كذلك بعض المال نظير معونتهم.
ولقد وقع للفتى في هذه الرحلة حادث كان بمثابة امتحان جديد لهمته وسرعة خاطره؛ وذلك أن القارب قد اصطدم بحاجز صخري عند بلدة نيو سالم، فتعلقت مقدمته على الصخر، وانحدرت مؤخرته حتى اغترف من الماء، وأوشك أن ينقلب بحمله وملاحيه في النهر، وتجمع خلق كثير على الشاطئ، فمنهم من يصيح بمن في القارب يقترح وسيلة النجاة، ومنهم هازلون يتخذون من الحادث ملهاة، فهم يضحكون ويسخرون في سماجة وقحة، ولكنهم جميعا لا يتقدمون بمساعدة، على أنهم لا يلبثون أن يجدوا ذلك الفتى الطويل الذي يبدو لأعينهم كالمارد يتقدم في خفة ومهارة، فينقل بعض بضاعته إلى مقدمة القارب حتى تعلو المؤخرة، ثم يثقب فيها بعض الثقوب فيخرج منها الماء، وإذ ذاك يقفز في اللجة ويستعين برفاقه وببعض الحبال حتى يجنب القارب ذلك الحاجز الصخري، ثم يسد الثقوب، ويعيد توزيع البضاعة على ظهر القارب، فيسبح في هدوء ويتخذ سبيله كأنه لم يعقه عائق، والقوم على الشاطئ يلوحون له بأيديهم، وقد انقلبوا جميعا معجبين به، فلا هازل بينهم ولا ساخر، وشاع حديث ذلك المارد في نيو سالم كلها.
وقضى الفتى ورفاقه في مدينة نيو أورليانز زهاء شهر، ولما فرغوا من أمر البضاعة اتخذ الفتى سبيله إلى أسواق الرقيق يدرس حالها من كثب، فهو لم ينس ما تركه حال العبيد من أثر في نفسه منذ زيارته الأولى، وإنه ليهتم بهذا الأمر أكبر الاهتمام ويقلبه في خاطره على كافة وجوهه، فهل كان يدري ابن الغابة أنه سوف يخطو بالإنسانية خطوات واسعة نحو النور بتحرير هؤلاء العبيد وفك أصفادهم؟ كلا! ما كان يدور بخلده يومئذ شيء من هذا.
رأى، ويا لهول ما رأى! رأى في تلك الأسواق جماعات من السود ذكورا وإناثا جيء بهم كالقطعان قسرا من مواطنهم مقرنين في الأصفاد إلى حيث يباعون كما تباع الماشية؛ يلهب النخاسون جلودهم بالسياط، ويسوقونهم كما تساق الأنعام، كأنهم لا يمتون إلى البشرية بصلة!
وأخذت عيناه، فيما رأى، فتاة جميلة المحيا مرهفة القوام، يعرضها الباعة على المتفرجين نصف عارية، كما لو كانوا يعرضون فرسا كريمة، وقد افتتن بقوامها وقسمات وجهها الشاهدون، وأبراهام تتحرك نفسه من أعماقها ويتألم ما وسعه الألم. وصفه أحد زميليه فقال: «رأى لنكولن ذلك فكأن قلبه يدمى، لم تتحرك شفتاه أول الأمر وظل صامتا ومشت كدرة الهم في وجهه فبدا كريه المظهر، وأستطيع أن أقول وأنا به عليم إنه كون لنفسه في تلك اللحظة رأيا في مسألة العبيد ... فلقد التفت إلي قائلا: إني أكره أن أكون عبدا، ولكني أكره كذلك أن أكون من ملاك العبيد، ولئن قدر لي أن أسدد ضرباتي إلى هذا النظام فسأضرب بشدة.»
ويروى أنه في هذه الحالة مر بعرافة سوداء فنظرت إليه وقالت: «أيها الفتى، إنك ستكون يوما ما رئيسا للولايات المتحدة، ويومئذ سوف يتحرر جميع العبيد.» فهل كانت كلمات العرافة كلمات القدر تجري على لسانها في تنبؤ عجيب؟
وألفى أبراهام نفسه في المدينة تحيط به أسباب الغواية، ولكن هل كان لنفس مثل نفسه محصتها الشدة وعصمتها الفاقة وطهرتها حياة الغابة من أوشاب المدنية وأوضار الترف؛ أن تزل أو ترقى إليها غواية؟
إنه ما فكر أثناء إقامته في المدينة إلا فيما جاء له، ثم إن تفكيره بعد بيع البضاعة قد انصرف إلى هؤلاء العبيد فكان يملأ وقت فراغه، ولقد كان يعنى أشد العناية بالاستماع إلى المجادلين في مسألة امتلاك العبيد، فيرهف أذنيه كلما تطرق الحديث إلى تلك المسألة، ويتتبع الحجج التي يدلي بها كل متكلم، يفعل ذلك في أناة وفي غير تحيز كما يستمع القاضي الذي يتلمس وجه الحقيقة في قضية من القضايا.
جماعات من السود يساقون كما تساق الأنعام.
ماذا يقول هؤلاء الجنوبيون؟ يقولون ماذا يريد أهل الشمال باستنكارهم حق امتلاك العبيد، وهل يفهم هؤلاء البسطاء من التجار وقاطعي الأخشاب وكتبة المصالح والحراثين نظاما توارثناه عن أجدادنا؟ وماذا عسى أن يصنع هؤلاء الشماليون إذا حرر العبيد هنا فلم نجد من يزرع القطن ويجمعه؟ أنى لهم بعد ذلك القطن الذي يغزلونه وينسجونه؟ ثم أليس حال العبيد الآن خيرا مما لو منحوا الحرية؟ ألسنا نعلمهم النظام والطاعة وقواعد المسيحية، فنخرجهم من حال الهمجية إلى المدنية؟ ثم إننا نطعمهم ونعنى بكسائهم ونسكنهم مساكن صالحة، ولو أننا تركناهم وشأنهم لما انقطعت بينهم المنازعات، وهم أهل قسوة وجهالة، وإننا ما نقسو عليهم أحيانا إلا لنصلحهم ونعودهم الهدوء والنظام.
ذلك منطق أهل الجنوب ولكن ذلك الشاب الغريب في مدينة نيو أورليانز، القادم من الغابة يحس للمسألة وجها آخر في أعماق نفسه لا يمت إلى المنطق ولا إلى المبررات الاقتصادية بصلة، وجها آخر يحسه ولا يستطيع أن يجريه مجرى الجدل، إنه يكره هذا النظام ولن يقدر على أن يحمل نفسه على إقراره. وليقل أهل الجنوب ما اشتهوا أن يقولوا، فلن يستطيعوا أن يزيلوا من أعماق نفسه هذا البغض الشديد لنظام امتلاك العبيد وبيعهم أو شرائهم. على أنه ينتظر فربما تكشف له من أوجه المسألة ما لم يقع حتى اليوم عليه.
وعجل الفتى بالعودة، فضجيج المدنية وزحمتها ومفاتنها وزينتها، كل أولئك يكدر خاطر ابن الغابة، ثم إن منظر هؤلاء السود في غدوهم ورواحهم وفي أسواق بيعهم وشرائهم مبعث ألم لنفسه وحزن لوجدانه، فإلى الغابة في غير إبطاء.
بائع في دكان
لم يلبث أبراهام في كوخ أبيه بعد عودته إلا أياما، ثم خرج منه ومن الغابة ليضرب في الأرض، ولتلقي به الأقدار في مجاهل الغيب، فلن يعود إلى الغابة نجارا، ولن تمسك قبضته الفأس بعد اليوم.
كان أول ما ساقته الأقدار إليه من عمل أن فتح له ذلك الرجل الذي استأجره في رحلته الثانية إلى نيو أورليانز، دكانا في مدينة نيو سالم ليبيع الناس ما يطلبون نائبا عنه، فقد وثق من أمانته ومهارته.
ولقد قطع أبراهام المسافة إلى تلك المدينة ماشيا؛ فما يملك قاربا أو حصانا، وهناك أعد الدكان بنفسه، فصنع الرفوف اللازمة والمناضد وغيرها بيده، ورتب البضائع في أمكنتها، ثم جلس ينتظر القادمين من طالبي تجارته.
وسرعان ما اجتذب الناس بشمائله، فتوثقت الألفة بينه وبين جميع من خالطوه، وعلى الأخص من شهده منهم في حادث النهر يوم تعلق به قاربه على الحاجز الصخري.
وأذاع في الناس صيته حادث آخر غير حادث القارب؛ وذلك أن صاحب الحانوت ما فتئ يذكر للناس قوة أبراهام وشدة عريكته، وكانت المصارعة في تلك الأصقاع البرية مما يتنافس فيه الشبان، وبخاصة ذوي الفتوة منهم، وسرعان ما نمى أمر ذلك الشاب الذي يبيع في الحانوت إلى جماعة من الفتيان في البلدة كانوا يجعلون العربدة هويتهم والشغب مسلاتهم، وكان على رأسهم فتى مفتول الساعدين شديد المراس يقال له آرمسترنج، فجاءوا عصبة إلى أبراهام يسخرون منه ويتحدونه أن ينازل زعيمهم وهو يعرض عنهم وتأبى عليه نفسه أن يحفل بهم، ولكنهم يسرفون في التحدي والقحة، فيخرج إليهم ويسير إلى قائدهم في هدوء وثبات، وتحمي المصارعة بين الفتيين، ويجد أبراهام من خصمه أنه يريد أن يعمد إلى الحيلة حتى تتم له الغلبة في غير تحرج من مخالفة أصول المصارعة، ولكن أبراهام يستجمع قوته ويرفع خصمه ويلقي به بعيدا، فيتدحرج على الأرض كما تتدحرج الكتلة من الخشب، والفتية لا يصدقون أعينهم من الدهش، ولكنهم يتهمون أبراهام بأنه خالف أصول الصراع، ويتأهبون لمهاجمته عصبة، فيسند ظهره إلى الحائط، ويتأهب للقائهم في صمت، وإذ ذاك ينهض زعيمهم فيصافحه معلنا أنه تغلب عليه حقا، وأنه لا يملك إلا الإذعان له، وتوطدت بين الفتيين المحبة، وتوثقت بينهما أواصر صداقة سوف تستمر زمنا طويلا حتى يموت آرمسترنج، فيبقى أبراهام على مودته لابنه، ويقف ذات يوم وهو محام فيدافع عنه في حماسة واهتمام حتى ينقذه.
الدكان حيث كان يبيع لنكولن وترى الدكة الخشبية التي كان ينام عليها.
وكان أبراهام في الحانوت موضع محبة كل من جاءه، كان واسع الصدر فكه الحديث لطيف المعاشرة، خفيفا في إجابة كل قادم إلى مبتغاه، حريصا على رضاه لا يضيق ولا يتململ من ثرثرة بعض زبائنه أو ترددهم بين الأصناف أو مساوماتهم في الأثمان، فيقنع هذا بالحجة ويرد على ذاك بنكتة؛ جاءته عجوز تشتري شيئا فضجرت من دقته في الميزان وقالت: «لم لم يضعوا غيرك في هذا الدكان فكنا نستريح من وجهك القبيح؟» فنظر إليها باسما وقال: «ولدني أبواي يا سيدتي جميلا، ولكن أناسا سرقوني وأنا في المهد، ووضعوا مكاني صاحب ذلك الوجه القبيح الذي ترين، فما ذنبي إذن في هذا القبح؟»
وحبب أبراهام إلى صاحب الحانوت أن الناس كانوا يجيئونه ليكتب لهم الخطابات أو ليقرأها أو ليستمعوا إلى قصصه ونوادره، كما كان الآباء والأمهات يحمدون له حدبه على الأطفال وعنايته بإرضائهم وإدخال السرور على نفوسهم، وكثيرا ما رأوه يضاحكهم ويلاعبهم ويعطيهم الحلوى ويصنع لهم اللعب.
على أن الأمانة كانت أحب صفاته إلى الناس جميعا، حتى لقد صار يعرف بينهم باسم «أيب الأمين»، فما يذكره الناس باسمه مجردا من هذه الصفة إلا نادرا؛ حدث أنه أعطى امرأة ذات مرة مقدارا من الشاي أقل من حقها، فلما أدرك ذلك سار إليها آخر النهار مسافة ثلاثة أميال يحمل باقي الشاي، وحدث أن أخذ خطأ بعض دريهمات من رجل، فلما راجع حسابه سأل عنه حتى اهتدى إليه ودفع له دريهماته، وتروى عنه من هذا القبيل أحاديث كثيرة جعلت الناس يقبلون عليه معجبين.
وعرف الناس أبراهام فوق ذلك باستقامته، فما عهدوا عليه من سوء قط، كان لا يعرف الخمر ولا الميسر ولا يقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكان يشغل فراغه بالقراءة كعادته منذ تعلم القراءة، وكثيرا ما رآه المارة وقد استلقى على ظهره في الحانوت ورفع أمام عينيه كتابا فما يضعه إلا حين يقصد إليه مشتر ثم يعود إليه متى انصرف، ويظل يقرأ في غير ملل، ولكم كان يتعجب بعض من يراه إذ يسمعونه يجهر أحيانا بقراءته ثم يقفز واقفا إذا أعجبته عبارة فيرددها مرات ثم يثبتها في قرطاس.
وكانت كتبه - إلا قليلا - مستعارة، يسمع عن كتاب فيسعى إلى صاحبه فيستعيره إلى أجل ثم يقرؤه ويرده إليه في ميعاده، ومن ذلك أنه سمع عن كتاب في قواعد اللغة، وكان قوي الرغبة في تعرف تلك القواعد؛ ليستعين بها على ضبط عبارته، فمشى نحو ستة أميال حتى جاء صاحب الكتاب، فاستعاره وأكب عليه حتى أتقن فهمه في أيام قليلة.
ومما قرأه أيب في تلك الأيام صحيفة كانت تكتب في السياسة اشترك فيها على إملاقه، وكان يقبل على قراءتها في استمتاع ولذة، قراءة تعمق ودراسة.
وكان ينام أيب في الحانوت على دكة من الخشب؛ فما له مأوى غيره، على أنه ما تبرم من ذلك أبدا؛ فقد ألف ما هو أخشن من ذلك من مهاد، وحسبه أن يذكر مهده في تلك الأكواخ التي كان ينفذ البرد من خلال ثقوبها إلى بدنه ليحس أنه ينعم بالراحة على هذه الدكة الخشبية.
اتجاه نحو السياسة
ما لهذا الفتى وللسياسة وليس لمن كان في مثل موضعه صلة بالسياسة من قريب أو من بعيد؟ أله من الجاه والثراء ورفعة الحسب والنسب ما يؤهله لخوض هذا المضمار؟
لقد أخذت تشتد عليه وطأة الفاقة بعد عام واحد من حلوله بهذه البلد، فإن صاحب الحانوت قد أفلس وباع حانوته لتاجر آخر طالما نافسه، وترك أبراهام أياما بلا عمل، ونفد ماله فلم يبق لديه منه ما يستعين به حتى على القوت، ولولا ما ساقه له القدر من رزق لساءت حاله، ولكنه كان رزقا هينا غير متصل؛ فقد استؤجر ليقود زورقا بخاريا في منطقة عسيرة من مجرى النهر، وكان أجره على ذلك أربعين ريالا.
لبث يفكر في مرتزق؛ أيعود إلى الغابة أم يعمل في النهر قائدا للقوارب البخارية، أم يبقى بائعا في حانوت، أم ينخرط في سلك المتطوعين لمقاومة الهنود الحمر؟ كل أولئك كان يدور بخلده، وكان يقلقه قعوده بلا عمل كلما تناقصت ريالاته الأربعون.
ولكن صاحب خان في المدينة كان قد أنس من فطنة أبراهام وطلاقة لسانه وصدق إخلاصه في كل ما يتناول من عمل، وتطلعه إلى المعرفة؛ ما أيقن معه أن سوف يكون لهذا الفتى شأن غير شأنه يومئذ، ولقد استمع إليه صاحب الخان مرات وهو يحدث الناس أو يخطبهم كلما سنحت فرصة لذلك، فرآه جذاب الحديث بارع السياق بليغ العبارة، يضرب الأمثال الواضحة في غير توقف، ويسوق الأدلة القاطعة في غير عوج، فزين له الرجل أن يتقدم للناس ليختاروه نائبا عنهم في مجلس مقاطعة إلينوى.
وكان يرى أبراهام الخطوة جريئة؛ فاليد خالية والجاه منعدم، فعلام يعول ابن الغابة؟ وإلى من يستند؟ لكن هل تعود أن يعول أو يستند إلا على نفسه؟
إن له أصدقاء كثيرين، ولكنه نشأ نشأة من يعتمد على نفسه قبل كل شيء. وهو الآن في الثالثة والعشرين من عمره قد قرأ من الكتب وخبر من أحوال الناس ومارس من متاعب العيش ما لم يتفق مثله لأحد في مثل سنه، وإنه فضلا عن ذلك واثق من محبة الناس له، لمس هذه المحبة مرات في إقبالهم عليه وهو يقص عليهم القصص، وقد تحلقوا حوله أمام دكان الحداد على ضوء ناره، ولمسها مرات غيرها وهو واقف بينهم خطيبا يحدثهم عما يتمنى تحقيقه للمقاطعة من ضروب الإصلاح، فهل يرى فيهم من يساويه في شهرته ومكانته؟ ثم إنه حمل الكثيرين من الأقوياء على الأذعان لقوته، وهو على قوة بأسه خافض الجناح لين الجانب، ما عمد إلى هذه القوة إلا في وجوه البر والمعونة إذا استثنينا مصارعته آرمسترنج، إنه بهذا كله لخليق أن يرى فذا بين أنداده، ولكنه مع ذلك يتردد لا من جبن ولكن من تواضع.
وأخيرا قهر عزمه تردده، فألقى بنفسه في معترك السياسة، فإلى أي حزب من الأحزاب كان انتماؤه إن كان ثمة له انتماء إلى حزب؟
كان حتى سن العشرين ينتمي إلى الحزب الديمقراطي، ولكنه الآن في الثالثة والعشرين يتقدم للناخبين منتميا إلى حزب الهوج، على أنه إنما يعتمد على ما يعرف الناس من خلاله رجلا وصديقا.
قام في الناس خطيبا فسحرهم بيانه، وسرت في نفوسهم حماسته، وزادهم محبة له ما رأوه من تواضعه؛ فهو لا يفرض عليهم آراءه ولا يزكي نفسه، وإنما يعدهم الإصلاح إذا قدر له النجاح. أما إصلاحه الذي سوف يعنى بتنفيذه، فسيتناول الطرق ومجاري الماء، والتجارة؛ فهو من أنصار حمايتها برفع نسبة الجمارك حتى تنمو وتزدهر. والناس ينظرون إليه لا تتحول أبصارهم عنه، وقد عطف قلوبهم عليه ما يبدو من علامات فاقته وعوزه؛ فسرواله لا يصل إلا إلى منتصف ساقيه، وردناه لا يكادان يبلغان رسغيه، وفي وجهه وعينيه خلجات توحي بما كابد من شدة وما لاقى من عنت الأيام.
واختتم الخطيب خطبته بقوله: «إن سياستي قصيرة حلوة كرقصة العجوز. إني أحبذ مشروع المصرف الأهلي، وأحبذ الإصلاح الداخلي والحماية الجمركية، هذه هي مبادئي وميولي، فإن اخترتموني فإني لكم شاكر، وإن رأيتم غير هذا فلن يغير ذلك شيئا من نفسي.» وفي نداء أذاعه في الناس يذكر أبراهام رأيه في التعليم فيقول إنه يود لو أتيح لكل فرد قسط منه حسب استعداده، ولسوف يعنى بذلك كل العناية إذا أصبح عضوا في مجلس المقاطعة.
ويختتم الفتى نداءه بقوله: «إذا أخطرت ببالي ما يجب على كل شاب من شديد التواضع، فربما كنت قد تطلعت إلى أكثر مما أستحق، على أنني فيما أشرت إليه ما تكلمت إلا حسبما فكرت، ولقد أكون مخطئا فيه، كله أو بعضه، ولكني وأنا ممن يرون متانة الحكمة القائلة «إن من يصيب أحيانا خير ممن يخطئ دائما» أبادر إلى الرجوع عن آرائي متى تبين لي خطؤها. لقد قيل إن لكل امرئ نوعا خاصا من الطموح، وسواء أكان ذلك صوابا أم خطأ، فإن طموحي الذي لا يساويه عندي طموح هو أن أظفر من قومي بأن يقدروني إذا ثبت لديهم أني جدير منهم بهذا الفضل. لقد ولدت ونشأت في مدارج متواضعة، وإن كثيرين منكم يجهلونني، وليس لدي ثراء ولا لي أهل ذوو جاه أو أصدقاء كبار يقدمونني إليكم، وقضيتي مبسوطة بين أيدي الناخبين الأحرار، فإن فزت فقد أولوني جميلا لن أوفيه لهم مهما بذلت من جهد في خدمتهم، وإن أملت عليهم كلمتهم أن أبقى حيث أنا، فطالما ألفت من مواقف الانخذال ما لست أحس معه لهذا الفشل كبير غم.»
وقبل أن يحل يوم الانتخاب نرى أبراهام يشترك في عمل يعد غريبا بالنسبة إليه؛ وذلك أنه تطوع مع فريق من شباب الجهة لمحاربة الهنود الحمر؛ فإن زعيمهم - وكان يدعى الصقر الأسود - قد بات يهدد المقاطعة بهجوم شديد.
كانت الحكومة قد تعاهدت معه على ألا يرى هو وقومه على الضفة الشرقية لنهر المسيسبي ولهم أن يعيشوا غربي النهر حيثما شاءوا، ولكنهم خانوا العهد مدعين أن البيض تدخلوا في شئونهم في الأصقاع الواقعة غربي النهر؛ ولذلك فقد عولوا على استعادة الأرض التي أجلوا عنها شرقية، وإذ ذاك دعا حاكم إلينوى إلى التطوع لدفعهم عنها.
تطوع أبراهام فيمن تطوعوا لهذه الحرب، وتحمس له فريق من الشباب، وبخاصة جماعة آرمسترنج فأبوا أن يكون لهم قائد غيره، وكان يطمح إلى قيادتهم شاب يدعى كير كباتريك، وكان بين لنكولن وبينه بعض الكراهية؛ لأنه كان يتعالى عليه كلما لقيه.
وسارت جموع الشباب متجهة إلى الغرب فصاح منهم نفر قائلين: من يريد منكم معشر المتطوعين أن يسير تحت لواء لنكولن فليقف على مقربة منه، ومن يريد أن ينحاز إلى كير كباتريك فليذهب إليه. واتجهت الأعين إلى حيث يقف لنكولن، فإذا وراءه من الشباب ثلاثة أمثال من وقفوا وراء كير كباتريك، ولقد طابت بذلك نفس أبراهام وعدها من دلائل الثقة به، وظل يذكر ذلك في أحاديثه كلما تحدث عن ماضيه بعد أن صار رئيس الولايات المتحدة.
لم تطل الحرب؛ فقد غلب الهنود على أمرهم وقبض على زعيمهم الصقر الأسود، ولم يقدر لأبراهام وفرقته أن يسفكوا دما أو يأتوا شيئا من ضروب القسوة التي كان يكرهها أشد الكره، وهو ما أقدم على التطوع لهذه الحرب إلا بدافع الواجب! ولقد كان عمله فيها كشفيا في الواقع؛ فإن خبرته بالأحراج وحدة بصره ونشاطه كل أولئك جعل منه ومن أصحابه خير عون للقيادة العليا في تعقب الهنود إلى مخابئهم.
على أن خلالا ثلاثة من خلاله قد برزت في هذه الحرب، فزادته محبة وإكبارا في قلوب عارفيه؛ أما أولها فحرصه على العدالة ودفاعه عن الحق مهما كلفه ذلك من عنت أو تضحية، وهي خلة ستلازمه في جميع أطوار حياته، وستبرزها الحوادث الجسام التي سوف تحفل بها هذه الحياة، وحسبنا أن نشير هنا إليها في موقف كاد يودي به؛ فقد أبصر نفرا من جماعته يحيطون بأحد الهنود، وقد صوبوا بنادقهم إليه في غضب شديد، كان مرأى أي هندي كفيلا بأن يملأ بمثله قلوب هؤلاء الأمريكان كأن الغضب يجري في دمائهم بالوراثة، وكان الرجل يرفع ورقة أمان من أحد القواد تشهد بأنه مسالم ملتجئ إلى معسكر الأمريكان، فلم يأبهوا لها، ولكن أبراهام وجد في عملهم افتياتا على الحق، فوثب من مكانه ووقف بينهم وبين الرجل صارخا فيهم: «إنكم لن تقتلوا هذا الرجل.» ولم يكن بعيدا أن تنطلق الرصاصات من بنادقهم في ثورة غضبهم فترديه وتردي الهندي، ولكن الله سلم ونجا لنكولن، ولم يكن بينه وبين الموت إلا طرفة عين، فقد أدار الرجال بنادقهم كارهين بتأثير شخصيته فيهم ولمكانته في نفوسهم. قال أحد رفقائه فيما بعد: «لم أر لنكولن قط مهتاجا كما رأيته حينذاك.»
أما ثانية خلاله فترفعه عن الابتذال وحرصه على كرامة نفسه؛ فإنه في المعسكر أثناء الليل كان يصرف رفاقه عن فحش القول وعن بذئ المزاح بما يقص عليهم من أنباء مخاطراته، وبما يطربهم به من نكائته وملحه، فإذا أرادوا شرب الخمر نأى بجانبه عنهم قائلا في احتشام وأدب لمن يعرضها عليه: «أشكرك يا صاحبي، فأني لم أمسسها قط.» فإذا ثملوا انصرف عنهم وقد ضاقت نفسه بمرآهم ولأنه لا يجد من يحدثه، وهو يحب الحديث ويأبى إلا أن يكون في كل مجتمع المحدث الفكه والفيلسوف الذي يقص على من حوله أحسن القصص عن الحياة وأمور الحياة.
وثالثة خلاله في تلك الحرب كانت قوة ملاحظته وسرعته وإحاطته بما يرى جملة وتفصيلا؛ فقد شاهد خمسة رجال من قتلى المتطوعين جز الهنود خصل الشعر من قمة رءوسهم وفق عادتهم لتكون دليلا على انتصارهم، وتحدث الرئيس لنكولن وهو في البيت الأبيض يصف ذلك المنظر؛ فذكر الشمس المشرقة التي ألقت حمرتها على التل القريب، والتي زاد بها لون الدم احمرارا إلى أن قال: «لقد رقدوا على الأرض ورءوسهم تجاهنا، وكانت ترى في قمة رأس كل رجل منهم دائرة حمراء في حجم الريال حيث انتزع الهنود خصلة شعره بما تحتها من جلد، لقد كان المنظر مخيفا، ولكنه كان بما فعل هؤلاء الهنود مضحكا ... ولقد لاحظت أن أحد هؤلاء القتلى كان يرتدي سروالا من الجلد الرقيق، وقد زادتهم حمرة الشمس المشرقة وكل ما حولهم خضابا على خضاب.»
وفي طريقه إلى نيو سالم سرق جواده، فكان عليه أن يمشي، وهو من تعود المشي من قبل، فمشى بعض الطريق وقطع بعضه في قارب، ثم عاد إلى المشي حتى انتهى به المطاف إلى البلدة وقد أوشك أن يحل يوم الانتخاب.
وجاء ذلك اليوم، ولكن لم يقدر له النجاح، فتلقى نبأ الفشل في سكون شأنه عند تلقي كل نبأ محزن أو سار، ولكنه مغتبط بينه وبين نفسه وإن لم يكن راضيا عن النتيجة العامة؛ فقد حصل من أصوات نيو سالم - وعددها ثلاثمائة - على سبعة وسبعين ومائتين؛ ومعنى ذلك أنه جدير بثقة من يعرفه، هذا إلى أنه تقدم باسم حزب الهوج، وحمل في أحاديثه وخطبه على الحزب الديمقراطي الذي كانت له الغلبة والقوة يومئذ، فليس من شك أنه حاز ثقة أهل نيو سالم غير معتمد على شيء إلا على شخصه.
عامل بريد وماسح أرض
ماذا يصنع أبراهام وقد خذل في الانتخاب وآل الحانوت إلى ما آل إليه بسبب ما فعل صاحبه؟ الحق أنه ألفى نفسه في مأزق، ولعله كان يندم بينه وبين نفسه أن ترك حياة الغابة، ماذا يصنع أبراهام ليكسب قوت يومه؟ ليس أمامه فيما يرى الآن إلا التجارة، ولكن أنى له المال وما في يديه منه شيء؟ على أنه لم يعدم وسيلة لذلك، فليكتب ثمن ما يشتري من بضاعة دينا يدفعه عند الميسرة، وبهذه الطريقة اشترى ما بقي في الحانوت من سلع من ذلك الرجل الذي كان قد اشتراه من صاحبه الأول، واتخذ له في تجارته شريكا يدعى «برى»، ورأى الناس على واجهة الحانوت لافتة جديدة تحمل اسم برى ولنكولن.
وعاد أبراهام يبيع الناس من بضاعته، وقد حمل العبء وحده؛ إذ كان صاحبه لا يكاد يفيق من السكر، على أنه كان عبثا هينا؛ إذ كان البيع قليلا لقلة البضاعة وقلة المشترين، وكان في البلدة حانوت آخر سطا عليه أولئك الفتية العادون لما شجر من خلاف بين صاحبه وبين زعيمهم «آرمسترنج»، وعرض صاحب ذلك الحانوت ما تبقى من بضاعته للبيع، فاشتراها أبراهام بطريق الدين كذلك؛ كتب على نفسه خمسين ومائتي دولار يدفعها حين يتيسر له الدفع.
ولكن صاحبه كل عليه وليس لدى أيب مال ليدفع إليه حقه ويخلص منه، وكان عليه فوق ذلك أن يدفع بعض ما يكتسب ليؤدي ثمن التجارة؛ ولذلك أخذته ربكة شديدة، وحاقت به الخسارة وفدحه الدين، حتى بات يسميه لفداحته بالنسبة إليه الدين الأهلي، يرددها ضاحكا متهكما كلما تطرق الحديث إلى وصف حاله.
وبينا هو في ضيقة إذ اراد الله أن ييسر له أمره بعض اليسر، فاختير عاملا للبريد في تلك الجهة نظير أجر معلوم، اختاره القائمون بالأمر لما علموا من أمانته وذكائه، وفرح أبراهام بما ساقه الله إليه فرحا شديدا.
أقبل أبراهام على عمله الجديد مغتبطا؛ فقد أتاح له ذلك العمل أشياء ترتاح لها نفسه؛ منها أنه يتصل بالناس، ويتعرف أحوالهم، ويدرس طبائعهم من قرب، وهو كلف بذلك حريص عليه، يريد أن ينفذ إلى أعماق النفس الإنسانية وأن يحيط بدقائقها كما هو شأنه في كل ما يعرض له، وكم كان يقع على مواطن للدرس والتأمل كلما دعاه أحد الناس ليقرأ له خطابه الذي يسلمه إليه، وهو يطوف بين الدساكر وقد أخرجه من جيبه أو من قبعته، فيقرأ وينظر وقع ما يقرأ على وجوه من يقرأ لهم، وما يرتسم فوقها من انفعالات الحزن أو الفرح أو الرضى أو الغضب أو الحيرة أو الاطمئنان، وفي ذلك كله معرفة له أي معرفة، ومنها أن عمله هذا - فضلا عما أتاح له من اتصال بالناس - قد مهد له من سبل القراءة ما عده خيرا من راتبه ضعفين؛ وذلك أنه كان يقرأ الصحف قبل إعطائها أصحابها، وكان هذا من حقه حسبما كان يجري من عرف في تلك الأصقاع.
ومما حبب إليه ذلك العمل فوق هذا أنه أتاح له كثيرا من الفراغ، وإنه ليلتهم الكتب في ساعات فراغه التهاما، وكان أكثر ما يقرأ يومئذ كتب القانون، وقد ألقت إليه الأقدار ذات يوم كتابا في القانون يقع في أربعة أسفار عثر عليه كما يعثر على كنز، وبيان ذلك أنه اشترى بثمن بخس من رجل انتوى الرحيل بعض متاعه؛ وكان صندوقا به أوراق، فقلبه فعثر في قاعه على كنز؛ وهو كتاب بلاكستون، وكان من أشهر ما كتب في القانون في تلك الأيام.
وما باله يعنى بالقانون ودراسته؟ أكان يأنس في نفسه القوة على الخطابة والإقناع ويحس في أطواء نفسه الرغبة في الدفاع عن الحق، أم كان يريد مجرد احتراف المحاماة كمرتزق يعول عليه؟
إن الناس يجيئونه ليحكموه فيما شجر بينهم، وهو عندهم القوي الأمين الذي لا يتحيز إلى شخص أو إلى فئة، والذي لا يتعثر في أمر، والذي يكره أن يلبس أمامه الحق بالباطل، وكان إذا عرض له أمر رده إلى ما عرف من القانون ليتبين وجهه، فإن عجز سأل من يلقاهم ممن هم أعلم بذلك منه، فيفيد من بحثه دراية جديدة وعلما.
وكان الناس يأجرونه على ذلك، فيرسلون بعض القوت إلى الأسرة التي يسكن بين أفرادها، فيجعل ذلك نظير سكناه بينهم، ويعيش هو على وظيفته الضئيلة من عمله في البريد.
وإنا لنلمح شخص المحامي الناشئ في شخص عامل البريد هذا، على أنه تقدم فعلا ليدافع عن بعض الناس أمام المحلفين في بعض الجلسات الهينة في تلك الجهات، وقد عرف عنه أنه ما وقف يدافع يوما إلا عما يعتقد أنه الحق! كما اشتهر بسداد رأيه وقوة عارضته ومتانة حججه.
ولم يجعل همه جميعا إلى كتب القانون؛ فهو يقرأ كتب التاريخ وبخاصة تاريخ زعماء أمريكا الأولين من أمثال وشنطون وجفرسون، ومما يعجبه من حياة وشنطون، فضلا عما تحفل به من معاني العظمة، أنه كان يكره الرق، وليس ينسى أن ذلك الرئيس قد رفض أن تجبر على العودة إلى صاحبها زنجية فارة وجعل لها في ذلك الخيار.
وقد دله صاحب له على شكسبير بأن أسمعه عبارات يحفظها له، فهام بذلك الشاعر هياما عظيما حتى جعل شعره مسلاته في ساعات همه.
ومست قلبه في تلك الأيام لذعة من الألم؛ فقد ألم به ما يلم بالشباب من علل الشباب، وانعقدت أمام بصره سحب قاتمة من الهم كان مبعثها ما دب في قلبه من حب، يا عجبا! أكل شيء يبتعث في نفسه الهم؟! ألم يأن أن تبتسم له كما تبتسم لغيره الحياة؟
كان قبيل إقباله على السياسة قد أحس في نفسه ميلا نحو آن ابنة صاحب الخان الذي وجهه هذه الوجهه السياسية: مال إليها قلبه لأول نظرة ألقاها عليها، وكان ذلك ذات مساء حيث زار خان أبيها، ولكنه ما لبث أن علم أنها لن تكون له؛ إذ كان لها خاطب غني درت عليه التجارة مالا وفيرا، فاستخذى وكأنه ما أحس مضض الفاقة إلا في ذلك اليوم، وتصرمت الأيام وهو يغالب هذه العاطفة القوية، حتى علم وهو يعمل في البريد أن فتاها انصرف عنها ونسي ما كان بينه وبينها، وقد نزلت بأبيها الفاقة، وخيل إلى أيب أنه اليوم يستطيع أن يصل إلى قلبها، ولكن مزاحما آخر يأخذ عليه الطريق مدلا عليه بماله، وإن كان لا يدانيه في كفايته ولا خلقه. ويذوق أيب مرارة الفاقة ثانية، وذلك ما صور له طيوفا من الشجن أخذت تزداد حتى ليضيق بها قلبه ويكاد يصل به الأمر إلى القنوط. روي عنه يومئذ أنه قال لأحد خلانه: «ربما ظهر مني حين أكون في رفقة أني أستمع بالحياة في نشوة، ولكني إذا ما خلوت إلى نفسي أخذتني حال من الهم حتى لا أجرؤ أن أحمل معي مبراة.»
على أن في انصرافه إلى عمله وهو يحمل الخطابات في قبعته من دسكرة إلى دسكرة ما يلهيه بعض الوقت ، وإن له كذلك في الكتب عزاء وسلوة؛ له في شكسبير وبيرنز ما تأنس به روحه، وله في تراجم العظماء ما يبهج نفسه ويثبت فؤاده.
وأضيف إلى عمله في البريد عمل آخر دله عليه أحد خلصائه؛ وهو تخطيط الأرض ورسم المصورات للطرق الجديدة، التي كانت تنشئها الحكومة يومئذ وتوضح معالمها للناس ليهتدوا بها في مسيرهم في تلك الأصقاع البرية، واختاره رئيس الخطاطين لما عرف من ذكائه، ولكنه كان ديمقراطي المذهب، فاشترط أبراهام ألا يؤثر عمله في حرية رأيه السياسي، فكان له ما أراد. ولقد حذق أبراهام هذا العمل الجديد في أيام قليلة، وصار بعد توزيع البريد يحمل منظاره ولوحته وقلمه ويتنقل بين الأحراج يرسم الطرق، وكان يأتي ذلك بما عرف عنه من الدقة في كل ما يعهد إليه، وكان يتكئ على نفسه عله يستطيع أن يدفع بعض الدين الأهلي، وكان يخفف عنه الجهد تذكره أن وشنطون قد عمل مثله في تخطيط الأرض.
ولكن الدائنين لم يدعوا أيب فيما هو فيه من كد، واشتد إلحاح أحدهم فما يقبل أن ينتظر ساعة؛ لذلك أقبل فباع حصان أبراهام وأدوات تخطيطه في مزاد بأمر من الحاكم، وقد عز على أبراهام أن يشهد هذا البيع فانصرف ريثما يتم، ولكن صاحبا له من ذوي المروءة تقدم فدفع المال المطلوب وخلص له أشياءه! ولقيه فقال له: «رد إلي هذا المال متى قدرت على رده، فإن لم تقدر فلا عليك منه يا صديقي.» ولقد مات هذا الصديق بعد حين واجتمع أصحابه لرثائه، ووقف أيب فما استطاع أن يتكلم، لقد اصفر وجهه وحاول أن يحرك لسانه فما تحرك إلا دمعه، فجلس وماء جفنيه ينهمر وهو الذي يحبس في الخطوب أدمعه!
واستمر أيب يعمل في تخطيط الأرض أربع سنوات، ولولا هذا العمل لعاود سوء الحال؛ فإن مكتب البريد في نيو سالم قد أغلق وانقطعت وظيفته من البريد، ومن عجيب أمره أنه - على خصاصته - قد احتفظ بمبلغ بقي في ذمته للقائمين على شئون البريد، وظل هذا المبلغ عنده أكثر من عشر سنوات ، حتى جاءه مفتش - وهو محام مشهور المكانة في مدينة سبرنجفيلد - يتصيده مطالبا إياه أن يؤدي مبلغا من الإيراد بقي عنده وأظهرته المراجعة، وكان إلى جانب أيب يومئذ صديق له رآه يتفكر في أمره، فهمس في أذنه يعرض عليه أن يدفع المبلغ، ولكن أيب يفيق من تفكره قائلا للمفتش: «انتظر دقيقة ...» وينصرف ثم يعود بعد قليل وفي يده جورب قديم كان قد ربطه على المبلغ، فبقي طوال هذه المدة حيث هو لم تمسه يده، فلما فتح وجد فيه ذلك المال بجملته ومفرداته!
سياسة وساسة
كان وشنطون الرئيس الأول للولايات المتحدة، وقد بدأت رياسته كما أسلفنا سنة 1789. وقد أعان وشنطون في تدعيم قواعد الاتحاد وزيران: هما هاملتون؛ وقد جعله على خزانة الاتحاد، وجفرسون؛ وقد جعله لشئون الدولة. ومن اتجاهي الرجلين في السياسة وفق ميولهما نبتت الأحزاب في الولايات المتحدة.
حارب هاملتون في حروب الثورة وجاهد جهادا محمودا، ولكنه لم يكن متحمسا للمثل التي صورتها أذهان الناس، وكان قليل الثقة بالجمهور ونزعاته؛ ولهذا كان يبدي فتورا إزاء الديمقراطية، وكان يطلق على الجمهور اسم «الوحش العظيم»، وينكر على العامة صلاحيتهم لوزن الأمور، واتجهت ميوله إلى إنشاء طبقة أرستقراطية، في يدها أزمة المال والحكم، وهدفها تقوية الاتحاد وتثبيت نفوذ الحكومة المركزية.
وكان جفرسون يعمل على نقيض ذلك؛ كان يؤمن بالديمقراطية وسلطة الشعب إيمانا شديدا، ولذلك نراه يرقب سياسة هاملتون وشيعته في حذر وضيق، فلما رأى أنه أوشك أن ينجح جاهر بمخالفته إياه ومضى كل منهما يعمل على شاكلته.
ووقع أول خلاف بينهما ذو بال حين عمل هاملتون على إنشاء مصرف الولايات المتحدة، وكانت حجة هاملتون في إنشائه اجتذاب ذوي المصالح المالية نحو حكومة الاتحاد؛ ومن ثم تكون السلطة المركزية للولايات مهيمنة على الشئون الاقتصادية للجميع، وفي هذا تقوية للاتحاد.
ورأى جفرسون أن الاتحاديين - كما سمي حزب هاملتون - إنما يريدون أن يملئوا الكونجرس بأناس يرعون مصالحهم الاقتصادية قبل كل شيء، فهم موالون للحكومة لارتباطهم بها من أجل أغراضهم، وفي ذلك إفساد للحكم الديمقراطي ليس كمثله إفساد .
وكانت أغلبية الكونجرس في جانب هاملتون، فاحتكم جفرسون إلى الدستور، وكتب كل منهما يؤيد حجته، ولما عرض المشروع على وشنطون لتوقيعه تردد بين الرأيين، ثم وقعه على أن يترك الفصل في حكم الدستور للمحكمة العليا، وجاء قرار تلك المحكمة مؤيدا مشروعية إنشاء المصرف، وتم النجاح للاتحاديين.
وتداعى أشياع جفرسون وسموا أنفسهم الجمهوريين، ثم غيروا اسم حزبهم بعد حين فصاروا يعرفون باسم الجمهوريين الديمقراطيين، ثم اختصر الاسم فأصبح يقال لهم الديمقراطيون.
وثمة نجاح آخر كان من نصيب الاتحاديين؛ فقد فاز مرشحهم لمنصب نائب الرئيس على مرشح الديمقراطيين في الانتخابات الثانية لهذا المنصب، أما الرئيس وشنطون فقد نزل على الرغبة العامة، فرشح نفسه للمرة الثانية وفاز برضاء الحزبين جميعا.
واتجهت أنظار العالمين القديم والجديد إلى ما كان يحدث في فرنسا. ووجد أنصار هاملتون البراهين على ما ينجم من خطر من تطرف الديمقراطية، في حكم الإرهاب بفرنسا، ووصفوه بأنه الفوضى التي يخشونها، وحملوا على الفرنسيين، وهم إنما يحملون بذلك على الديمقراطيين في وطنهم، ووقف يدافع الديمقراطيون عن الديمقراطية، ويمتدحون الفرنسيين، وينددون بالاستبداد، ويعزون هذا الذي سماه الاتحاديون الفوضى إلى ما ذاقه الفرنسيون أحقابا على يد الطغاة المستبدين، واستعرت الحرب الكلامية بين الحزبين، وعلى الأخص حين دخلت إنجلترة التحالف الدولي الأول ضد فرنسا، فقد حبذ فعلها الاتحاديون وأنكره الديمقراطيون أشد الإنكار.
على أن الحزبين قد آزرا الحكومة في حيادها الذي التزمته، وإن رأى جفرسون أنه وإن لم يدع إلى التدخل لمؤازرة فرنسا، فإنه لا يجد ثمة ما يفرض على الأمريكان إخفاء شعورهم نحو الفرنسيين، وإنهم بإخفائهم شعورهم ليظهرون بمظهر ناكري الجميل، فضلا عن تنكرهم لمبادئ ثورتهم التي بذلوا من أجلها ما بذلوا من الأنفس والأموال.
وأرسلت الجمهورية الناشئة في فرنسا على أثر القضاء على الملكية سفيرا لها بأمريكا، فاستقبله الشعب الأمريكي استقبالا حماسيا، بلغ من روعته أنه كاد ينسي الأمريكان ما كان من حماستهم لزعيمهم الأكبر غداة استقلالهم، ودل هذا على أن الشعور العام في جانب جفرسون، ولكن هذا السفير ما لبث أن أساء استغلال هذا الشعور، فكان يريد أن تخرج أمريكا عن حيادها، فلما رفضت الحكومة بلغ به الحمق أن أراد أن يحتكم إلى الشعب ضد حكومته، وإذ ذاك لم يسع حتى جفرسون نفسه إلا أن يصده عن طريقه في إباء وقوة، ولكن سياسة هذا السفير الفرنسي أضعفت حماسة الأمريكان لفرنسا، وجعلت شعور الكثيرين يميل بعض الميل إلى إنجلترة.
وفي سنة 1794 صمم جفرسون على الاستقالة، وقد حاول وشنطون أن يحوله عن عزمه فلم يفلح، وكان من أسباب استقالته ضيقه بسياسة هاملتون وسياسة الدولة على العموم ومسلك ذلك السفير الفرنسي.
وقامت في السنة التالية ثورة في ولاية بنسلفانيا؛ احتجاجا على سياسة هاملتون المالية، وأظهر جفرسون عطفه على الثوار بأن حمل على القانون الذي أدى بهم إلى الثورة، فإنه يؤمن بحق الشعب في الخروج على جور ذوي الجور، وقد أعلن صراحة أن ثورة الناس على الظلم دليل على وجود الديمقراطية في نفوسهم، وأضاف إلى ذلك قوله إنه يأمل ألا تخلو الدولة كل عشرة أعوام من ثورة أيا كان نوعها.
على أن وشنطون، وإن لم يكن عدوا للديمقراطية، قد قضى بقوة السلاح على ثورة بنسلفانيا، ولم يخف الزعيم الكبير مخاوفه من انتشار أندية الحزب الديمقراطي في البلاد، وذلك في رسالة منه إلى الكونجرس، فثارت بذلك ثائرة الديمقراطيين ووجهوا سهام غضبهم إلى وشنطون نفسه.
وفي سنة 1797 انتهت رياسة وشنطون الثانية، وأصر الرئيس الأول على رفض ترشيحه للمرة الثالثة، على الرغم من إلحاح الناس، واعتزل وشنطون السياسة.
وظن الناس أن الفائز بالرياسة سوف يكون هاملتون؛ لما له ولحزبه من نفوذ، ولكنه لم يرشح ورشح بدله جون آدم من الاتحاديين، ويعزى عدم ترشيح هاملتون إلى أمور كثيرة؛ منها أنه جر عليه وعلى حزبه عداوات عنيفة ما كان أغناهم عنها! ومنها أنه لم يكن أمريكيا بمولده؛ فإنه ابن سفيح لتاجر اسكتلندي، ولعل لما أحاط بمولده غير ما يتعلق منه بالموطن أثرا كذلك في رغبة الناس عنه، كما أن كثيرا من الشائعات جرت حول حياته الشخصية.
على أن الحزب قد لحق به الضعف بخلو الميدان من الرجل الذي أنشأه وقوى دعائمه، كما أن سياسة الاتحاديين - التي عملت على خلق طبقة أرستقراطية غنية تستأثر بالحكم - قد قدر لها الضعف والانحلال بإقصاء هذا الرجل الذي كان حربا متصلة على الديمقراطية، والذي لم يبال عند وضع الدستور أن يقترح أن تكون رياسة الاتحاد وعضوية الشيوخ مدى الحياة، وأن يعين الرئيس حكاما للولايات يكون من حقهم نقض قرارات مجالسها التشريعية، والذي غازل خياله النظام الملكي طيلة حياته السياسية، والذي عمل أثناء حكمه بمبدأ الحماية الجمركية، وجاهد في إنشاء الرأسمالية الصناعية والتجارية، ليبني جيلا غنيا يقاوم به ديمقراطية جفرسون، الذي آمن بالشعب ولم يثق في غير الثروة الزراعية تنمو على أرض واسعة يمكن أن يستمتع بها الجميع. ولئن قدر لها ملتون أن يكون جاعل أمريكا موطن ذوي الملايين، فسوف يقدر لجفرسون أن يكون جاعلها موطن الديمقراطية.
وكانت أكثر الأصوات بعد جون آدم لجفرسون؛ فأصبح هو نائب الرئيس، وصار بذلك الموقف عجيبا؛ فالرئيس ونائبه يمثل كل منهما حزبا من حزبين الحرب بينهما سجال.
أما جون آدم فقد كان شرا على حزبه؛ وذلك أنه جعل العنف سلاحه، فأرسل إلى الكونجرس مشروعي قانونين، قصد بأولهما حماية النظام من العبث به، وكان الآخر خاصا بالأجانب والصلة بهم. ورأى الديمقراطيون أنهم هم المقصودون بذلك، ورأت أغلبية البلاد أن الحرية الوليدة إنما تهيأ لها الأغلال، فهبت العاصفة فزلزلت الاتحادين ورئيسهم، زلزلت مبادئهم زلزالا لم يرجو بعده قوة.
وخرج جفرسون من عزلته وتزعم حركة المقاومة، وكانت كنطكي أول ولاية أعلنت عدم دستورية القانونين، وكتب جفرسون لمجلسها التشريعي ما عرف باسم قرارات كنطكي التي رفضت بمقتضاها اعتماد القانونين في المقاطعة.
وفي سنة 1801 فاز جفرسون زعيم الديمقراطيين بالرياسة، فكان الرئيس الثالث للولايات المتحدة، ثم أعيد انتخابه للمرة الثانية فبقي في منصب الرياسة حتى سنة 1808.
وفي عهد رياسته الأولى أقدم جفرسون على شراء لويزيانا من إسبانيا، وقد آلت هذه المستعمرة العظيمة الممتدة في قلب أمريكا إلى تلك الدولة من فرنسا سنة 1762، وبينما كان يفاوض جفرسون الإسبان تدخل نابليون فاستعاد هذه المستعمرة لفرنسا في شروط بينه وبين إسبانيا، وأظهر جفرسون كياسة وحزما، وظل يرتقب الظروف حتى نقض صلح أميان بين إنجلترة وفرنسا، واستؤنفت الحرب بينهما، واحتاج نابليون إلى المال فساوم الفرنسيين ليشتري المستعمرة، وتم له هذا الشراء، على أنه تعرض لحملات الاتحاديين، فقالوا إنه أنكر على حزبهم بالأمس تأسيس مصرف بحجة عدم دستورية هذا العمل، وهو اليوم يشتري لحساب الاتحاد مستعمرة بأموال عامة مخالفا بذلك روح الدستور.
وقد أظهر جفرسون ترددا كبيرا عند ترشيحه للمرة الثانية، وما قبل إلا لأنه وجد خصومه يوجهون إليه مطاعن شخصية تمس نزاهته، فرأى أن رفضه الترشيح قد يلقي شبهة على براءته. ولم تقع في رياسته الثانية حوادث ذات بال، وكل ما يعنينا هو أن الديمقراطيين قد ازدادوا من القوة بقدر ما خسر الاتحاديون منها. وتوطدت قواعد الديمقراطية على يد هذا الديمقراطي العظيم، الذي كتب وثيقة إعلان الاستقلال، والذي قاد الحزب الديمقراطي ومكن له في البلاد حتى قضى على ما كان يبيت الاتحاديون من تمكين حكم الأقلية، والذي جرى في حكمه على قواعد ديمقراطية ومظاهر ديمقراطية لم يتحول عنها مرة.
وخلف جفرسون في الرياسة ميدسون، وهو كذلك فرجيني وديمقراطي وأشد أنصار جفرسون تحمسا له، وقد أخذ طيلة عهد رياسته يمكن للحزب الديمقراطي كما فعل جفرسون.
وقد اختير ميدسون كذلك للرياسة مرتين، وفي مدة رياسته الأولى اشتد الخلاف بين إنجلترة والولايات؛ بسبب تفتيش إنجلترة للسفن في المحيط الأطلنتي حتى المحايدة منها، على الرغم من احتجاج الولايات المتحدة مرة بعد مرة على تفتيش سفنها، وتفاقم الخلاف حتى بات ينذر بالحرب، وحاول ميدسون أن يحسم الخلاف بغير حرب فلم يفلح، وتشيع للحرب رجال من ذوي الرأي والنفوذ مثل منرو وهنري كليي ... وأعلنت الحرب سنة 1812 قبيل انتهاء رياسته.
وأعيد انتخابه فأدار دفة الحرب، وعصفت العاصفة بالولايات من الداخل ومن الخارج؛ ففي الداخل بدت بوادر الانقسام، فإن بعض الولايات - وفي مقدمتها نيو إنجلند - رغبت عن الحرب؛ بسبب ما تعرضت له من خسائر تجارية وأضرار ساحلية، وعادت تردد نغمة حق الولاية في حرية العمل؛ وفي الخارج حاقت الأخطار بالاتحاد على حدود كندا وعند مصب المسيسبي، على الرغم مما أظهر الأمريكان من بسالة وتوفيق في البحيرات، ودفاع مجيد في الجنوب على يد المجاهد البطل جاكسون الذي سوف يكون له شأن عظيم في التطور السياسي لبلاده.
وسئمت إنجلترة القتال، وقد أعياها النضال في أوروبا أمام نابليون، فعقد الصلح بينها وبين الولايات سنة 1814، وخرجت الولايات من المحنة أحسن حالا مما كانت قبل، فإن عدوان الإنجليز قد أيقظ وطنية الأمريكان وحماستهم على نحو ما حدث في حرب الاستقلال، وقام لهم الدليل المادي مرة ثانية على أن نجاة الجميع في اتحادهم وترابطهم. ولقد ارتكب الإنجليز أخطاء جمعت على كراهيتهم الأمريكان من كل حزب، وفي مقدمة تلك الأخطاء إحراق وشنطون بعد احتلالها، ولم يزل بعد إجلائهم اللون الأبيض يغطي مقر الرياسة؛ إشارة إلى محو ما خلفه فيه الحريق من سواد، وما يذكر الأمريكان البيت الأبيض إلا ذكروا ما أصابه من حريق على يد الإنجليز، وتجددت كذلك ثقة الأمريكان في أنفسهم، فهذه أول حرب يخوضونها بعد الاستقلال فيخرجون منها ولم يمسسهم ما كانوا يتوهمون من سوء.
وفي سنة 1816 خلف منرو بعد ميدسون وهو كذلك ديمقراطي من فرجينيا ومن أتباع جفرسون، إلا أنه يزيد عن سابقيه في نزعته القومية، فالاتحاد وزيادة دعائمه همه الأول.
وفي أوائل عهده ظهرت قوة حزب جديد عرف باسم الحزب الجمهوري القومي، في مبادئه خير ما في مبادئ الحزب الديمقراطي، وفيها كذلك بعض مبادئ الاتحاديين خالية من نزعتهم الأرستقراطية.
كان في مقدمة مبادئ هذا الحزب تقوية الاتحاد، وأن تكون للاتحاد سياسة خارجية قوية، وأن يعد الاتحاد ما استطاع من قوة حربية، كذلك كانوا يرون أن ينهض الاتحاد بالإصلاحات التي فيها الفائدة للجميع؛ كالطرق والترع وإصلاح مجاري الأنهار، وأن تدفع الولايات نفقات ذلك كله بغير نظر إلى ما يردده القائلون بحق الولايات، كذلك كانوا يطالبون بالحماية الجمركية لحماية الصناعات الجديدة التي نشأت في البلاد أثناء الحرب، كما أيدوا في حماسة إحياء مشروع هاملتون بإنشاء مصرف قومي، كل أولئك على قاعدة ديمقراطية سليمة لا تدع مجالا لأقلية تحكم كما كان يريد أشياع هاملتون.
وكانت رياسة منرو عهد هدوء؛ إذ خفت حدة التنافس الحزبي بزوال حزب الاتحاديين، وكان الحزب الجمهوري الجديد ديمقراطي النزعة، وفي عهد الرئيس منرو وضعت اتفاقية مسوري
1
الشهيرة في مسألة العبيد، فقضى بها على سبب من أهم أسباب الخلاف بين الولايات.
وقد اختير منرو للرياسة مرة ثانية وأعلن في عهد رياسته الثانية مبدأ منرو الشهير، الذي يحول بين الأوروبيين وبين التدخل في شئون أمريكا، والذي أصبح قاعدة تحرص أمريكا عليها كجزء هام من سياستها. وسبب إعلان هذا المبدأ هو أن دول التحالف الرباعي في أوروبا أرادت التدخل لحمل مستعمرات إسبانيا الثائرة على الإذعان لها، وكانت إنجلترة قد انسحبت من التحالف وقد غاظها أن تستعين الحكومة الإسبانية بالجيش الفرنسي للقضاء على الثورة الدستورية في إسبانيا بإذن من دول التحالف، وفطنت إلى ما يترتب على ذلك من امتداد النفوذ التجاري الفرنسي إلى مستعمرات إسبانيا حول خليج المكسيك، فأشار كاننج وزير خارجية إنجلترة على الرئيس منرو، فخطا هذه الخطوة التي جعلت الولايات المتحدة هي المسئولة عن شئون العالم الأمريكي.
وخلف من بعد منرو سنة 1824 جون كونسي آدم ابن جون آدم الرئيس الذي خلف وشنطون، وقد حدث في انتخابه أنه لم يفز بالأغلبية المطلقة لأعضاء الهيئة الانتخابية، كما أنه لم يفز بها كذلك أحد غيره، وفي مثل هذه الحالة يختار مجلس النواب وفقا للدستور واحدا من الثلاثة الذين حصلوا على أكثر الأصوات، وقد تخطى المجلس أندرو جاكسون، وكان أكثر الثلاثة أصواتا واختار كونسي آدم.
وأذعن جاكسون لحكم الدستور، بيد أنه ما لبث أن جرت إشاعة مؤداها أن فوز آدم على جاكسون إنما يرجع إلى تأثير هنري كليي من كبار زعماء الكونجرس، فلقد دأب هذا الرجل حتى ظفر بإقناع من استطاع إقناعهم من أعضاء مجلس النواب معتمدا على فصاحته ونفوذه ودهائه، وكان هنري يخشى من اختيار جاكسون الجندي للرياسة، مدعيا - فيما ادعى من أسباب - أنه يشفق أن تتجدد باختياره مأساة يوليوس قيصر.
ولكن شعور السخط يملأ البلاد؛ إذ إنها ترى آدم يختار هنري وزيرا للدولة، وقال الناس إن هذا هو الثمن والأمر مبيت من قبل، وإن المصالح الشخصية بدأت تتسرب إلى السياسة العليا للبلاد ... وحمل جاكسون حملة عنيفة على آدم وصاحبه، وكان جاكسون أقرب الزعماء إلى قلوب الناس، يتمتع بينهم بمحبة لم يظفر بمثلها إلا وشنطون، فلما حل موعد الانتخاب للرياسة سنة 1828 فاز جاكسون بأغلبية كبرى، وولي الرياسة رجل يعد في تاريخ أمريكا من أكبر زعماء الديمقراطية، وفي تاريخ الاتحاد مؤسسه الثاني، وفي تاريخ التطور السياسي للبلاد علما من أبرز الأعلام.
كان جاكسون جنديا لا يعرف الالتواء أو اللين، وكان صريح الطبع لا يماري في صداقة أو خصومة، كما كان صادق العزيمة، إذا هم بأمر يعتقد صوابه لا يثنيه عنه شيء إلا الموت، وقد اتصف بالإقدام والهمة، وتجلى ذلك في الحرب ضد الإنجليز سنة 1812، كما تجلى في حرب الاستقلال من قبل.
وكان جاكسون من أصقاع الحدود، وليس لتلك الأصقاع مثل ما للشرق في أمريكا من ثروة ومدنية، ولكنها كانت صادقة الديمقراطية؛ لأن الناس هناك يكادون أن يكونوا سواسية، والناس هناك أهل جلد وعزيمة وأصحاب فطرة سليمة في الجملة، لم تؤثر فيهم تقاليد الحضارة وأوضاع المدنية أثرا كبيرا كما حدث في الولايات القديمة في الشرق.
وكان جاكسون يؤمن بالديمقراطية إيمان جفرسون، أو لعله كان أشد إيمانا بها، وكان يدين بمبدأ سيادة الشعب وأنه مصدر كل سلطة، فلن تقوم حكومة مشروعة إلا إذا رضي عنها الناس وواجبها أن تفعل بمشيئة الناس على ما فيه صالحهم.
وكانت لجاكسون حاسة غريبة ينفذ بها في سرعة ودقة إلى رغبة جمهور الناس، فإذا عمل فإنما يعمل بوحي منهم، وإنه ليظهر للناس أنه هو الذي يوحي إليهم فيوجههم الوجهة التي يريد، وهذه فيما نرى خلة من ألزم ما ينبغي من خلال لقائد شعبي. وهو بعد يفضل الإخلاص على المقدرة، ويضع القلوب إذا اختار الرجال قبل العقول.
وتتجلى سيادة الشعب في انتخاب جاكسون أكثر مما تجلت في انتخاب من سبقوه؛ فإن الهيئة الانتخابية التي تختار الرئيس كان يختارها أعضاء المجالس التشريعية في الولايات، ولكن الناس في الولايات - ما عدا كارولينا الجنوبية - هم الذين انتخبوا هذه الهيئة، فجاءت وليدة إرادتهم لا وليدة المجالس التشريعية، فكانت بذلك ممثلة للرغبة العامة. وعد جاكسون مرشح الشعب الأمريكي لا مرشح العلية من الساسة، وجاء نجاحه على الرغم من مجهودات مخالفيه من الزعماء تأكيدا لسيطرة الشعب لا سيطرة فريق من صفوته، فكان ذلك أول مظهر من مظاهر الديمقراطية في وضعها الجديد، كما كانت هذه الخطوة من جانبه - أعني الالتجاء إلى الرأي العام وإغفال مجالس الولايات - ثورة ديمقراطية في سبيل سيادة الشعب.
وكانت أول خطوة خطاها الرئيس الجديد هي اختيار من يعاونونه من رجال الحكومة من الموالين له وصرف من لا يرى التعاون معهم، لا في مناصب الوزراء فحسب، ولكن في المناصب الهامة جميعا. وفعل جاكسون ذلك غير مبال بصيحات خصومه، والحق أن واشنطون قد سبقه إلى مثل هذا ولكن في مجال ضيق، أما هو فقد توسع فيه حتى أصبح هذا الإجراء المظهر الثاني لديمقراطيته، ولقد أصبح فيما بعد تقليدا يحتذيه الرؤساء. قال جاكسون يرد على منتقديه: «لقد انبعث ضجيج شديد حول هذا. إن الأمر سوف يعرض على الكونجرس، وستوضح أسبابه ... إن كل رجل يلي منصبا بضع سنين يعتقد أن له أمره مدى الحياة كحق يكتسب، فإذا وليه عشرين عاما أو أكثر فإنه لا ينظر إليه كحق له فحسب، بل كشيء يرثه أبناؤه، فإن لم يكن له أبناء فأقرب ذوي قرابته. ليس هذا مبدأ حكومتي ... إن تغيير أصحاب المناصب هو الذي يضمن للحرية الدوام.» وواضح من كلامه هذا أنه كان يخشى أن تقوم طبقة معينة بالحكم يرثها أبناؤها فيه، وهذه هي الأرستقراطية.
وألفى جاكسون نفسه محاطا بخصوم أقوياء مثل هنري كليي وكالهون، وغيرهما ممن كان كثير من الموظفين من صنع أيديهم، فكانوا بذلك خير وسائل نفوذهم، وكان كالهون نائب الرئيس، وكانت بينه أول الأمر وبين جاكسون محبة واحترام متبادلين، بيد أنه حدث أن جرت إشاعة سوء حول زوجة أحد الوزراء الموالين، غضب لها الرئيس أشد الغضب؛ لأن زوجة الوزير كانت تحظى بثقة زوجته التي طواها الموت، وكان الرئيس شديد المحبة والإخلاص لتلك الزوجة الذاهبة؛ ومن ثم كان يعز كل صديقاتها، وهو لم ينس أن زوجه التي يكبر ذكراها لم تسلم هي كذلك من أحاديث الإفك وإشاعات السوء. ونمى إلى الرئيس أن كالهون هو مدبر الإشاعة ليسيء إلى الوزير الذي يخلص له الولاء، كما أنه ما لبث أن اكتشف أن كالهون - وكان وزيرا للحرب في عهد منرو - هو الذي حمل ذلك الرئيس يومئذ على إساءة الظن به وكرهه؛ فلهذا اشتد البغض بين الرجلين وتقاطعا وقد كانا صديقين.
ويعنينا أمر هذا الخلاف لعلاقته بمشكلة دقيقة امتحن فيها ثبات جاكسون وابتليت عزيمته؛ وذلك أن ولاية كارولينا الجنوبية موطن كالهون قد عادت تنادي بحرية الولايات في العمل وتنذر الاتحاد بعاصفة جديدة، وبيان ذلك أن الحكومة - جريا على سياسة الحماية الجمركية التي اتجه الرأي إليها حرصا على الصناعات الجديدة التي نشأت إبان الحرب سنة 1812 - قد قررت على الواردات ضريبة عالية سنة 1828، فغضبت لذلك الولايات الجنوبية مصدرة القطن ومؤيدة مبدأ حرية التجارة، وأعلنت كارولينا الجنوبية إنكارها دستورية هذه الضريبة، ولكن المحكمة العليا خذلتها فيما ادعت، فلجأت إلى قاعدة أخرى أذاعتها مؤداها أن لكل ولاية في الأمور الخارجية مثل ما لأي دولة مستقلة لا ترتبط إلا بما تقضي به معاهدة الاتحاد، وعلى ذلك فهي تتصرف في موقفها من هذه الضريبة دون مراعاة لأية سلطة مركزية؛ ونتيجة لهذا أعلنت إلغاء الضريبة الجمركية من موانيها.
ووضعت كارولينا بذلك أساس قاعدة خطيرة؛ هي حق كل ولاية في إلغاء ما لا توافق عليه مما تفرضه حكومة الاتحاد، وفي ذلك زلزلة للاتحاد في كل وقت.
وبات الموقف بالغ الحرج؛ فإن جاكسون من أهل الجنوب بمولده وإن كان من أصقاع الحدود الغربية بنشأته، وإنه يدين بنجاحه ومكانته للجنوبيين أكثر مما يدين لغيرهم، وإن له خصوما يتربصون به، وقد اعتزل كالهون منصبه وبات في أهل كارولينا ، زعيمهم الذي لا يمل، ولسانهم الذي لا يكل.
والرئيس جاكسون حريص على الاتحاد ما وسعه الحرص، وعنده أن فصم عروته هي الكارثة التي لا تعظم عنها كارثة، ولكنه في الوقت نفسه ديمقراطي مثل جفرسون، وهو لم ينس موقف جفرسون وأنه صاحب قرارات كنطكي.
وتهيأت فرصة لتسمع البلاد رأي جاكسون، وكان الرئيس قد مال إلى ضريبة معتدلة ليجمع بين الرأيين، وأغضبه أن خصومه لم يرضوا حتى بهذا، فلما كان عيد ميلاد جفرسون اجتمع عدد كبير من السياسيين، وألقوا الخطب، وشربوا الأكواب، وكانت معظم الخطب في جانب حرية الولايات في العمل، ونهض جاكسون وشرب كوب الاتحاد قائلا في عزيمة وصرامة: «إتحادنا! إنه يجب أن نحفظه.» ونهض كالهون فحاول أن يخفف من وقع كلمة جاكسون فقال: «اتحادنا هو أعز شيء لدينا بعد حريتنا.» وفهم الناس مغزى كلمة الرئيس؛ فلم تكن إلا إعلان الحرب.
وأخذ الرئيس يعد عدته، فكتب إلى الكونجرس يطلب أن يمنحه حق القضاء على المؤتمرين في كارولينا بقوة السلاح، وأفضى إلى وزرائه بتصريح خطير، جاء فيه أنه إن لم يوافق الكونجرس فلن يعدم حيلة! إنه سيدعو البلاد لإرسال متطوعين لحماية الاتحاد، ثم يزحف على رأسهم فيغزو الولاية الثائرة، ويقبض على رءوس الفتنة فيها. وهال أهل كارولينا تصريح الرئيس المصمم، وحار خصوم الرئيس من أعضاء الكونجرس في أمرهم حيرة شديدة.
واتصل هنري كليي بكالهون يقترح حلا وسطا، ومؤداه أن تخفف الضريبة بعض الشيء، ووافقه كالهون، ومال الرئيس إلى قبول ذلك الحل، ولكنه اشترط أن يوافق الكونجرس على لائحة استعمال القوة، وأن تكون اللائحة سابقة في صدورها صدور اللائحة بالحل الذي اقترحه هنري وكالهون. وظفر الرئيس بما أراد وصدرت اللائحتان حسبما طلب، ورجعت كارولينا عن ثورتها، ونفذت الضريبة الجديدة! كتب الرئيس إلى أحد أصدقائه قائلا: «إن لديك بعض من يقولون بحق الإلغاء، ألا قطب لهم وجهك؛ فما كانت الضريبة إلا حجة واهية، وإنما يريد الجنوبيون اتحادا خاصا بهم من الولايات الجنوبية، وإن حجتهم القادمة سوف تكون مسألة العبيد.» ولله ما أعجب هذه النبوءة التي سوف تثبتها الأيام!
ونفض الرئيس من المشكلة يديه ظافرا، وقد ازداد إعجاب الناس ببسالته ووطنيته وإخلاصه للاتحاد، ولكن خصومه تداعوا وتكاتلوا يعارضونه ويتهمونه بالثورة على الدستور، وينددون بلائحة استعمال القوة، وراح هنري كليي يقول إنه كان محقا في تخوفه من اختيار جاكسون الجندي لرياسة الاتحاد. وهكذا تألفت في الكونجرس جماعة قوية من الساسة تناصل جاكسون.
وفي مثل هذا الجو العاصف تحدى الرئيس خصومه في قضية أخرى اهتم بها الرأي العام أعظم اهتمام؛ وهي قضية مصرف الولايات المتحدة.
قضي على المصرف الأول الذي دعا إليه هاملتون والذي عارضه فيه جفرسون، وذلك بعدم تجديد لائحة سنة 1811، ولكن مصرفا جديدا أنشئ سنة 1816، وما لم تتجدد لائحته فإنه ينتهي سنة 1836، ولكن جاكسون يكره هذا المصرف كما يكره جميع المصارف؛ ولذلك يقف عقبة في سبيل تجديد لائحته.
كان جاكسون يكره المصرف؛ لأنه يضم عددا كبيرا من رجال الحكم والسياسة، ولأنه جزء من مال أجنبي، وقر في نفسه أن المصارف فتنة للناس، وأداة لإفساد الضمائر والنفوس، وخطر على روح الديمقراطية، وشايع جاكسون الكثير من أهالي الولايات، وعلى الأخص الغربية والجنوبية؛ لأن معظم هؤلاء كانوا من المدينين للمصرف، بينما كان أهل الشرق والشمال هم أصحاب الصناعة وأصحاب المال.
وحمل خصوم جاكسون حملة عنيفة عليه، ورموه بالجهل بالأمور المالية وقصر النظر، ولكنه لم يعبأ بذلك كله وظل كالصخرة لا تنال منه العاصفة.
وقد كان لمعظم هؤلاء مصلحة شخصية في بقاء المصرف، حتى الوزراء أنفسهم قد انقسموا حزبين: أحدهما يؤيد الرئيس، والآخر يخالفه. ووافق النواب على لائحة التجديد ووافق عليها الشيوخ، ومعنى ذلك أن الكونجرس يؤيدها، ولكن الرئيس على الرغم من ذلك يرفض اللائحة، ثم هو يحذر الكونجرس في رسالة بليغة مذكرا أعضاءه بمساوئ المصارف، وأنها وسيلة لاستعباد طائفة من الشعب طائفة أخرى، وبأن «أمواله الأجنبية أشد عداوة وأشد خطرا على الاتحاد من أسطول دولة معادية وجيشها»، ويقطع جاكسون الطريق على المحكمة العليا التي صار لها بحكم التقاليد أن تفصل في الخلاف الدستوري إذا نجم بين الرئيس والكونجرس ، فيصرح أنه يجب ألا تكون المحكمة العليا مهيمنة على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وإنما ينبغي ألا يكون لها من أثر إلا بقدر ما يكون في آرائها من إقناع، والحقيقة أن الدستور لم يبين ما إذا كان واضعوه قد قصدوا أن تكون للمحكمة العليا الكلمة النهائية في دستورية القوانين أم لم يقصدوا.
وطمع هنري كليي في تأييد الرأي العام، فدعا إلى عقد مؤتمر للدفاع عن المصرف سماه مؤتمر الهوج، وتألف حزب جديد بهذا الاسم جمع معارضي جاكسون، ولكن ما كان أعظم دهشة هؤلاء الساسة وحيرتهم وقد حل موعد الانتخاب للرياسة سنة 1832 أن يروا جاكسون يظفر هذه المرة، على الرغم من نشاطهم بأغلبية تتضاءل أمامها تلك التي حصل عليها سنة 1828، ورأى هؤلاء الناس عين اليقين أن الرجل الذي يؤيده شعبه لن تخذله قوة أو حيلة!
وكانت الانتخابات لمجلس النواب تجرى أثناء انتخاب الرئيس، فجاءت أغلبية المجلس الكبرى في جانب جاكسون، أما مجلس الشيوخ فظلت فيه أغلبية من الهوج المعارضين، وذلك لأن مجلس النواب يتجدد كل سنتين بينما يبقى مجلس الشيوخ ست سنوات!
وظل الشيوخ على عدائهم للرئيس حتى بلغ بهم الأمر أن قرروا توجيه اللوم رسميا إليه، ولكن حينما تجدد انتخاب الشيوخ ظفر جاكسون بأغلبية المجلس، وغلب الهوج على أمرهم، وسحب المجلس الجديد ذلك اللوم الذي وجه للرئيس وحذفه من المضبطة. أما لائحة تجديد المصرف فقد رفضت وبات إلغاؤه أمرا مقضيا.
وقضى جاكسون ما بقي من مدة رياسته الثانية في هدوء، ولو كانت له شهوة للحكم كما ادعى خصومه لقبل رياسة ثالثة، ولكنه آثر أن يفعل كما فعل وشنطون؛ فرفض الترشيح على الرغم من إلحاح الشعب، وذهب إلى عزلته حيث عاش تسع سنوات ثم قضى نحبه بعيدا عن السياسة وأعاصيرها، وانقضت حياة الرجل الذي كتب بأفعاله صفحة مجيدة في تاريخ أمريكا، فوطد سلطة الشعب وقضى على سيطرة الفئة القليلة من السياسيين، وأقام بنيان الاتحاد وقد أوشك أن ينقض، وجعل سلطة الرئيس مستمدة من الرأي العام، متمشيا في ذلك مع روح الديمقراطية.
عضو في مجلس إلينوى
في سنة 1834 تقدم لنكولن ثانية للناخبين، وكان يومئذ قد ناهز الخامسة والعشرين! وبعد جهود متصلة فاز أبراهام بأغلبية الأصوات، فأصبح عضوا في المجلس التشريعي لولاية إلينوى، وكان ذلك في رياسة جاكسون الثانية، ولقد منحه بعض الديمقراطيين أصواتهم وهو هوجي؛ وذلك لفرط محبتهم إياه.
وكانت قاعدة الولاية مدينة فانداليا، وهي على نحو خمسة وسبعين ميلا جنوبي نيو سالم، وفيها ينعقد مجلسها التشريعي، فكان على لنكولن أن ينتقل إليها، فاقترض بعض المال ليشتري من الملابس ما يصلح لمن يمثل الناس في المجلس التشريعي، وبهذا أضاف بعض الجنيهات إلى دينه الأهلي!
وكان هذا المجلس يمثل نحو ربع مليون من السكان، ويبلغ عدد أعضائه نحو ثمانين، يجلس منهم الثلثان في قاعة وهم النواب، والباقون في قاعة أخرى وهم الشيوخ.
وكان مقعد لنكولن بين مقاعد النواب، ونظر عامل البريد ومخطط الأرض حوله يتطلع إلى زملائه ويقارن في صمت بينه وبينهم، ويذكر أنه قرأ كثيرا من الكتب وعني بينها بكتب القانون، وأنه سافر في تجارة مرتين، وأنه خبير بالطرق ومجاري الأنهار، وأنه عليم بحال الناس في مقاطعته منذ أن عمل في البريد وفي تخطيط الطرف؛ فهل يقل مرتبة عن هؤلاء السادة الذين يجلسون حوله؟! إنه يفسح لهم ويقدمهم على نفسه ويخفض جناحه لهم جميعا، وينصت إلى مناقشاتهم في صمت، لا يقاطع، ولا يدفع بنفسه إلى الظهور كما يفعل غيره، ولكن مرد ذلك كما يحس بينه وبين نفسه إلى خلقه لا إلى تهيبه أو فقدانه الثقة في نفسه.
وهو مغتبط أن يرى لونا جديدا من الحياة وبيئة جديدة من المجتمع، وإنه ليفكر ويتدبر ويدير عينيه إلى كل شيء ويختزن في رأسه كل شيء، وإن طول قامته ليلفت إليه الأبصار أينما ذهب. على أنه أخذ يجتذب القلوب كذلك بشيء يلازمه أبدا؛ وذلك هو ما يقص من أنباء وما يروي لجلسائه من قصص!
وهو في السياسة وأساليبها معجب بهنري كليي وما أوتي من مهارة وكياسة، وعلى الأخص في تقريب مسافة الخلف بين المتخالفين؛ فما ينشأ خلاف إلا كان هنري صاحب اليد الطولى في إزالة أسبابه، وإنه كذلك لخطيب يقل أنداده، ثم إنه رجل برلماني يتمنى الرجال أن يكون لهم مثل ما أوتي من لباقة وفصاحة، وما توافى له من قوة عارضة وبلاغة بيان ومهارة جدل.
أما من حيث المبدأ فهو وإن كان من الهوج إلا أنه يحب جفرسون حبا عميقا، ويعجب بإخلاصه في ديمقراطيته، وبشدة وطنيته، وصادق حرصه على بناء الاتحاد، وعميق إيمانه بالشعب ومبدأ سيادة الشعب، وهو يكبر جاكسون ولكنه يحس بشيء من القلق يشبه الكراهية إزاء بعض تصرفاته؛ فهو وإن كان يستند فيها إلى الشعب إلا أنه يشعر المرء بما هو أقرب إلى الأساليب الديكتاتورية.
ثم اتضح من خلال أبراهام في المجلس ما عطف عليه القلوب؛ رأى منه زملاؤه الإخلاص والحماسة في غير تعصب؛ فهو يدافع عما يعتقد أنه الصواب في قوة وفي إصرار يشبه أن يكون عنادا، فما إن يتبين الحق في جانب مجادله حتى يسلم له في سرعة تسليم الرضاء والغبطة، وأنس فيه زملاؤه فوق ذلك قوة في التعبير عما يريد، كان مبعثها لقانة عجيبة تواتيه بالكلمة المطلوبة لا تزيد ولا تنقص عما في خلده من معنى، وتلك خلة ستكون في غد جانبا من أهم جوانب زعامته.
وكان له على شهود جلسات المجلس أجر يعادل ما كان يناله من عمله في تخطيط الأرض، وهو لم يزل يؤدي ذلك العمل، وكان هذا كفيلا أن يكفيه عسر الحياة لولا ما أثقل كاهله من الدين.
ولم يجد الفتى من أعضاء المجلس ما يهزه هزة إعجاب أو محبة، وقل فيهم من تعجبه فصاحته أو كياسته، بيد أنه يرى في صفه رجلا يكاد يكون على نقيضه في كل شيء، رجلا ربعة عريض المنكبين أنيق المظهر، جم النشاط لا يكاد يستقر في موضعه، طموحا يدس أنفه في كل شيء ويجادل في كل أمر؛ وذلك هو دوجلاس، وإن أبراهام ليحس أن سيكون لهذا الرجل في غد شأن في السياسة عظيم.
وكان أبراهام يزور نيو سالم كلما سمح له وقته وهو اليوم يحب آن كما يكون الحب، فلقد أكبرته وأعجبت برجولته إذ ظل على ولائه لها. بينما هجرها خاطباها واحد بعد الآخر لما نزل بأبيها من فاقة، وسرعان ما أحبته كأعظم ما يكون الحب، وألفى أبراهام نفسه في ربيع العيش حقا؛ لا يرى حوله إلا جمال الربيع ولا يحس إلا نشوة الربيع، يروح ويغدو مع صاحبته وكأنهما من فرط مرحهما طائران من طيور الخمائل، ولكن الربيع - وا أسفاه! - لن يطول بل إنه لينقلب في مثل عمر الزهر إلى جحيم! نزلت الحمى كما نزلت من قبل وهو غلام في كنطكي، وحلت بجسده فتغلبت عليها قوة ذلك الجسد، ولكنها مست صاحبته فلم تقو عليها؛ فكان من ضحاياها طائرة الجميل! وبات الفتى والحزن يرمض قلبه ويأكل أحشاءه، ويتلقى الصدمة الثانية بعد فجيعته في أمه، فكأنها الضربة تأتيه في مقتل! لقد وهنت عزيمته وخارت قوته وذوى عوده القوي، وصار يراه الناس أحيانا هائما على وجهه يهذي كأن به جنة، حتى نصح له طبيب أن يرتحل، فنزل ضيفا عند أسرة صديقة كانت تقيم بعيدا عن نيو سالم، ولكن همه لازمه إلى هناك، حتى لقد شاطره ذات ليلة نفر من جلسائه حزنه حين سمعوه يصرخ من أعماق قلبه: «لا. لا أطيق أن أذكر أنها ترقد هناك وحدها حيث ينزل المطر فوق قبرها وتصخب العاصفة!»
ولكن اليأس يسلمه ثانية إلى الحياة حيث لا معدى عن الحياة ولا حيلة في البلوى! ويحل موعد الانتخابات للمجلس، وقد ازداد الناس محبة له وإكبارا، وازداد هو خبرة واكتسب أنصارا، وأظهرته الانتخابات هذه المرة خطيبا كأحسن ما يكون الخطيب في مثل هذه السن، وبرزت روح فكاهته وتهكمه اللاذع فكانت من أسباب قوته، قام يحمل عليه أحد خصومه من الحزب الديمقراطي، وكان قد حصل بتغييره مبدأه السياسي على مرتب سنوي كبير، وقد علم الناس أنه كان يقيم في منزل أنيق في مدينة سبرنجفيلد في قمته حديدة لمنع الصواعق، وكانت بدعا يومئذ وترفا، وأسرف هذا الخصم في الطعن على أبراهام، وأعلن في خطابه أنه لن يستقر إلا أن يحط من قدره في أعين الناس ونفوسهم، وأشار إلى حداثته وجهله، وسخر من ملبسه وهيئته ونشأته وبالغ في الزراية عليه، ووقف ابن الأحراج يرد عليه فقال: «إني أدع لكم أيها المواطنون أن تقرروا ما إذا كنت أهلا لأن ترفعوني أو تحطوا من قدري، رأى هذا السيد أن يشير إلى حداثة سني ولقد نسي أني لست صغير السن صغري في ألاعيب الساسة وتجارتهم. إني أحب أن أعيش كما أحب أن أرقى وأصبح ملحوظ المكانة، ولكني أفضل الموت على أن أحيا فأرى اليوم الذي أصنع فيه ما صنع ذلك السيد، فأغير مبدئي من أجل ثلاثة آلاف دولار في العام، ثم لا أستطيع أن أنام في منزلي إلا أن أضع في قمته مانعة للصواعق أحمي بها ضميرا آثما من غضب إله ساخط.» وضج الجمع بالضحك وصاروا بعدها لا يرون هذا الرجل إلا أشاروا إليه قائلين: «هذا هو الذي لا يستطيع أن يرقد في بيته إلا في حماية مانعة تمنع الصواعق يخشى أن يصبها الله عليه.»
وبرهن أبراهام على نضجه السياسي المبكر في رد كتبه إلى صحيفة طلبت إلى المرشحين أن يبينوا مناهجهم، جاء فيه: «سأسعى حتى يفوز جميع من يدفعون الضرائب ويحملون السلاح من البيض بحق الانتخاب، لا أستثني من ذلك النساء بأي حال، فإذا انتخبت فسأعد أهل سنجون جميعا هم مرسلي سواء من اختارني منهم ومن لم يفعل، وفي غير ذلك سأسير وفق ما يمليه علي تقديري مراعيا مصالحهم أبدا، وسواء انتخبت أم لم أنتخب فإني أؤيد بيع الأراضي العامة للولايات المختلفة، كما أعين الدولة في مشروعات حفر القنوات ومد طرق الحديد بغير أن تقترض مالا تدفع عنه أرباحا.»
وتقدم ذات مرة أثناء المعركة الانتخابية خصم آخر من الديمقراطيين، أنيق الملبس بدين، فعرض بالهوج وسماهم أرستقراط الاتحاد، وبينما هو في كلامه إذ فتحت حلته فكشفت عن سلسلة ذهبية على صداريته، وأختام ودوال من الذهب وغيرها من وسائل الزينة، فوثب لنكولن وأشار بيده إلى ملابسه هو التي لا يعلق بها إلا طيف البلى وأمارات القدم، وقال وقد وضع كفه على صدره: «هذا هو رجلكم الأرستقراطي أحد لابسي الجوارب الحريرية المترفين»، ثم بسط كفيه مادا ذراعيه إلى جانبيه وقال وهو يومي برأسه إلى كفيه الكبيرتين اللتين تركت فيهما الفاس أثرها: «وها هما هاتان يدا بارونكم البيضاوان الناعمتان ... حقا إني أعتقد كما قال ذلكم السيد أني أرستقراطي نفخته العظمة والكبرياء.»
وكتب لنكولن في تلك المعركة إلى أحد الديمقراطيين ردا على إشاعة أطلقها عنه فقال: «أنبئت أنك أذعت في الناس أثناء غيابي في الأسبوع الماضي أن لديك حقيقة أو حقائق، لو اطلع عليها الناس لقضت قضاء مبرما على أملي وأمل إدوارد في حركة الانتخابات القائمة، ولكن تأبى عليك مجاملتك إيانا أن تعلنها. وأنا أقول لك إنه ما من شخص يطلب الجميل كما أطلب، كذلك قل في الناس من يتقبل الجميل كما أتقبل، ولكن الجميل إلي في مثل هذه الحال معناه الجور في حق الناس؛ ولذلك فإني استميحك أن تنصرف عنه، إن حيازتي ثقة أهل سنجمون ذات مرة أمر مقرر، فإذا كنت أتيت أمرا يحرمني إذا عرف تلك الثقة، سواء كان إتيانه عن إصرار أو عن خطأ، فإن الذي يعرف هذا الأمر ثم يخفيه إنما يخون صالح بلاده، وليس يقوم بذهني شيء عما عساه أن تكون الحقائق التي تتحدث عنها واقعية كانت تلك الحقائق أو مزعومة، بيد أن ما أعهده فيك من الصدق لا يسمح لي برهة أن أشك في أنك على الأقل تعتقد ما تقول. إني أراني مدينا لك بهذا الاعتبار الشخصي الذي أبديته نحوي، ولكني آمل أن ترى إذا ما تأملت ثانية أن صالح الناس أهم من ذلك. وعلى هذا فلا تتحرج أن تعلن الحق. وأؤكد لك أن ذكرك ما لديك من الحقائق في صدق وأمانة لن يفصم ما بيني وبينك من عرى الصداقة مهما بلغ ما ينالني منه، هذا وإني أرجو أن يأتيني رد منك على كتابي هذا، ولك الحرية أن تنشر الكتابين إذا أردت.»
أصبح ملكا للزمان ودخل في التاريخ .
اقرأ هذا الكتاب تر كيف يملك أبراهام قلوب الناس بأمانته ودماثته وإخلاصه، ثم انظر إلى قوة حجته وروعة منطقه وحسن دهائه، وتأمل في أدبه وتحشمه، وهو في موقف من يرد الإهانة عن نفسه؛ تلك لا شك مزايا تسلكه في أحرار الشمائل وعظماء النفوس.
وفاز لنكولن ثانية في الانتخاب وحق له أن يفوز، وكان له في المجلس أصدقاء، منهم ثمانية كانوا مثله في طوله القامة، وكانوا يجلسون رفقة فعرفوا باسم التسعة الطوال، وكان أبراهام أطولهم في المعرفة باعا وأعلاهم في الخلق مقاما؛ فلقد ظهرت صفات ابن الغابة لهم في وضوح، فأعجبوا بأناته ودماثته وبعد نظره، وفتنتهم بلاغته وأسلوبه في الحوار والجدل، وهم يغبطونه على سعة صدره وشجاعته وصراحته، ويحمدون له رقة عاطفته وشفقته وسلامة طويته، وإنهم فوق ذلك يلذهم حديثه وتطربهم أقاصيصه وتأسر قلوبهم مودته، وإنه ليقرأ اليوم قراءة منتظمة، فقد مر العهد الذي كان يتناول فيه أي كتاب يصادفه، هو اليوم يقلب صفحات التاريخ فليس ألزم منه فيما يرى لرجل السياسة، وهو يستزيد من القانون نصوصه وفقهه، وهو يدرس حال أمريكا من جميع نواحيها، ويطيل النظر في تاريخ ساستها وفي مناهجهم في الإصلاح وأساليبهم في توطيد سياستهم، يستوعب ذلك كله لا يفوته منه شيء.
وحدث في هذه الدورة أن أصدر مجلس إلينوى قرارات يؤيد بها قرارات مثلها أصدرتها بعض الولايات المتمسكة بامتلاك العبيد، فغضب أبراهام وعادت إليه ذكرياته القديمة عن العبيد وسوء حالهم، وكان فريق من ذوي الرأي يومئذ ينددون في الصحف بهذا النظام وينعتونه بالقسوة والظلم ومجافاة الإنسانية، ولكن ولاية إلينوى تؤيد النظام وتحبذه، ويعلن كثير من أهلها أنه يمكن الاعتماد على ولايتهم في توطيد هذا النظام ومحاربة من يودون القضاء عليه من أهل الشمال.
بيد أن أبراهام لا يستطيع أن يكتم في نفسه رأيا يرى الحق في إعلانه؛ لذلك قدم هو وزميل له من التسعة الطوال احتجاجا شديدا على قرارات مجلس الولاية بقسميه، ونشرت الصحف هذا الاحتجاج الجريء، وأشفق بعض خلصاء لنكولن من أثر هذا القرار على مستقبله السياسي، ولكنه الرجل الذي ينظر إلى الصالح العام قبل أن ينظر إلى صالح نفسه، وإنه لأهون عنده أن يناله الضر من أن يتنكب طريق الحق، على أن أهل مقاطعة سنجمون التي انتخب عنها يتلقون نبأ احتجاجه لقاء طيبا، فيثنون على أبراهام؛ لأنهم يعلمون أنه لا يقول إلا ما يؤمن أنه الحق، كما أثنى أهالي الجنوب على اعتداله وتحفظه.
ويضيق ابن الغابة أحيانا بمكر رجال السياسة وألاعيبهم، فهم يتقنون المساومة والمخادعة، ويخفون أطماعهم الشخصية وراء الكلمات البراقة والبيان الخلاب، ولا يعطون إلا بقدر ما يأخذون، إذا وافقوا اشترطوا ما يحقق مآربهم، وإن خالفوا فذلك ليشتروا بخلافهم ما يريدون، تجلت له صفاتهم في أمر لم يظن أن لأحد فيه مصلحة شخصية؛ وذلك أن رغبة كثير من الناس اتجهت إلى نقل قاعدة الولاية إلى مدينة سبرنجفيلد؛ وذلك لقربها من العمران وطرق المواصلات. وأيد فريق من أعضاء المجلس - ومنهم أبراهام - هذه الرغبة، ولكن فريقا منهم يخالفونها، ويجتهد أبراهام وبعض أصحابه في حمل هؤلاء على الموافقة، ولكنهم يساومون ويشترطون موافقة أبراهام وأصحابه على أمور أخرى ثمنا لموافقتهم على هذا الرأي، ولا يسع ابن الكوخ إلا أن يشير إلى مثل هؤلاء الساسة مرة في عبارة شديدة لاذعة قال: «هذا صنيع الساسة وهم فريق من الناس نرى أبدا لهم مآرب بعيدة عن الصالح العام، ونرى كثيرا منهم يبتعدون بهذا خطوة طويلة عن الأمناء من الرجال، إني أقول ذلك بكل صراحة؛ لأني - وأنا سياسي كذلك - لا يمكن أن يحمل كلامي على أنه يراد به طعن شخصي.»
وتغلب أخيرا رأي لنكولن وأصحابه، وتقرر نقل القاعدة إلى سبرنجفيلد، وعد هذا انتصارا له فقد جاهد من أجله جهادا متصلا.
في سبرنجفيلد
دخل أبراهام مدينة سبرنجفيلد على جواد هزيل استأجره، يحمل كل ما يملك من متاع الدنيا في جوالق صغير ذي ناحيتين وفي جيبه مبلغ لا يزيد عن سبعة دولارات، وكاهله لا يزال مثقلا بما سماه الدين الأهلي!
دخل هذه المدينة وهو اليوم ابن ثمان وعشرين، كما دخل مدينة نيو سالم قبل ذلك بنحو سبعة أعوام، لا يدري أين يتخذ مأواه أو على الأقل أين يلقي رحله لساعته.
وكانت المدينة يومئذ آخذة في الاتساع والنمو، بيد أنها كانت لا تزال تعلق بها مسحة من الغابة؛ إذ كان منبتها كغيرها أول الأمر وسط الأحراج، وكان لا يزال بها عدد كبير من المنازل أو الأكواخ المتخذة من الكتل الخشبية، على أن مباني جديدة من الآجر كانت آخذة في الظهور يوما بعد يوم، وبها أخذت المدينة كصاحبنا أيب تخلع عنها ما تخلف فيها من حياة الغابة شيئا فشيئا.
ربط أبراهام جواده إلى عامود على جانب أحد الشوارع، وحمل خرجه على ذراعه، واتجه إلى حانوت يملكه رجل من أهالي كنطكي يدعى سبيد، فسأله أيب عما يلزم من المال لشراء سرير وفرش، فلما أخبره الرجل أن ذلك يكلفه سبعة عشر دولارا أخذته حيرة شديدة، وقال له وفي نظرات وجهه أمارات الهم والربكة: «إن هذا ثمن رخيص، ولكني مع ما يبدو من رخصه لا أستطيع أن أدفعه؛ إذ ليس لدي مال، بيد أني سأحترف المحاماة ولي في الربح أمل، فهل تمهلني إلى عيد الميلاد القادم؟» وأطرق أبراهام قليلا ثم أردف قائلا: «وإذا أنا عجزت يومئذ عن أن أؤدي لك حقك، فلست أعلم ما إذا كنت أستطيع أن أؤديه لك أبدا.»
وكان الرجل طيب القلب، فتملكته الشفقة على هذا الغريب الذي لا يجد مأوى، والذي يبدو له من أمانته بقدر ما يبدو من فاقته، فقال سبيد: «اصعد إلى حجرتي فوق الحانوت، فستجد سريرا كبيرا يسع شخصين، وأنا أعرض أن نقتسمه إذا أحببت.» وصعد أبراهام إلى الحجرة وعاين السرير، ونزل وعلى وجهه أمارات الرضا، وفي قلبه شعور الغبطة بهذه الصداقة الجديدة التي سوف تقوى على الأيام.
كان أبراهام مزمعا أن يتخذ من المحاماة مرتزقا، فقد اعتزم أن يترك العمل في البريد وفي تخطيط الأرض منذ أن هم بالرحيل إلى سبرنجفيلد، فأقبل على كتب القانون يستزيد منها علما، وكان يعيره بعض الكتب محام في المدينة يدعى ستيوارت، وما لبث أن رأى ستيوارت من ذكاء صاحبه وطيب سريرته وحسن طويته ما دعاه إلى أن يشركه معه في العمل، ولم يكن ذلك يستدعي يومئذ امتحانا أو شهادة خاصة، وقبل أبراهام مغتبطا، يحس كأن الأيام توشك أن تبسم له بعد تجهم طويل، فله اليوم في السياسة مجال وله في المحاماة مجال.
ولكن هناك من الأمور ما لا يزال يكدر خاطره ويكرب نفسه؛ وذلك ما كان من غرامه الثاني، إن جاز لنا أن نسمي علاقته الجديدة بعد موت آن غراما. والحق أن هذا الجانب من حياة أيب - جانب علاقته بالمرأة - أمر يدعو إلى العجب، حتى ليحمله المرء على ما كان من شذوذه في بعض أموره أكثر مما يحمله على ما كان من حصافته في معظم الأمور.
عرف لنكولن - فيمن عرف من أهل نيو سالم - امرأة كانت تضيفه أحيانا فتحسن ضيافته، وظل يغشى منزلها زمنا حتى أصبح كأنه من أهلها، وحدثته تلك المرأة - فيما حدثته - عن أخت لها غائبة ألقت عليها من الصفات ما تبتكره أخت حين تبحث لأختها عمن يطلب يدها، ورد عليها أبراهام مرة وهو لا يدري أمازح فيما يقول أم جاد، إنه يرحب بالزواج من تلك الأخت إذا قبلت، ولما عادت كانت تجلس إليه ويجلس إليها.
وصور له خياله أن كلمته ميثاق لن يسمح له ضميره أن يتحلل منه، ولكنه في حيرة دونها كل ما سلف له من حيرة؛ فإنه لا يحس في قلبه نحوها مثل ما يحسه المرء حين يمر به طائف من الحب، وهو مع ذلك لا يستطيع أن يقطع أنه لا يحبها؛ إنها تعجبه بذكائها وما علمت من علم وما امتلكت من متاع، وإن لم يكن كثيرا، وهو قد قطع على نفسه عهدا، أو ما يشبه العهد، ولكنه لا يدري إن كان يحبها حقا كما يكون الحب، أم أن فراغ قلبه بعد موت آن قد جعله يركن إليها ظانا أنه الحب!
إنه لحائر ضائق بأمره، فلعل ما هو فيه اليوم من أمور السياسة ومن شئون عمله الجديد في المحاماة ما يصرفه حينا عن هواجسه ووساوسه.
ذهب أيب ليبدأ عمله الجديد، وهو ذلك العمل الذي طالما تاقت نفسه إليه، وإن فرحه بهذا العمل الذي منى به نفسه كثيرا وهو بين الأحراج لخليق أن يذهب عنه الحزن، ويدرأ عن نفسه الضيق. أوليس يغدو محاميا يدافع عن المظلومين ويملأ قلوب الناس إعجابا بفصاحته، كما ملأ قلبه مرة ذلك المحامي المدل الذي ازدراه يوم تقدم ليهنئه وهو بعد غلام حائر بين الفأس والكتاب؟!
وكانت الحجرة التي اتخذها ستيوارت لعمله ضيقة، بها رفوف للكتب تزدحم بالكثير منها، وبها منضدتان وبعض الكراسي الخشبية الجافة وأوراق مبعثرة في كل ركن، وكان أبراهام أول الأمر يعمل عمل الكاتب ويقابل أصحاب القضايا وينسخ المحاضر ويرتب المواعيد، وكان ذلك يضايقه بعض الضيق، ولكنه كان يحظى بشهود الجلسات فيذهب عنه ضيقه.
ثم ترك له ستيوارت ما خف من القضايا ليترافع فيها، ففرح المحامي الناشئ بهذا فرحا شديدا، وأقبل على عمله في همة وسرور بالغين.
وانبعث دستوره في المحاماة بادئ الأمر من أعماق نفسه، فهو دستور قائم على توخي الحق والدفاع عنه ونصرة المظلومين والأخذ بيد المستضعفين، كان لا يقبل قضية لا يقتنع بصدقها مهما أجزل له من أجر، وكان لا يقرب قضية يعلم أن الدفاع فيها يجني على الخلق من قريب أو بعيد، وكان أسلوبه في المحاماة كذلك صورة لنفسه؛ فهو لا يعرف اللجاج ولا المطاولة، ولا يلتوي في أمر أو يخفي في نفسه شيئا إلا إذا كان ذلك لستر عرض أو حفظ كرامة، ولن يكون للمجاملة عنده حساب إذا ترتب عليها إساءة إلى فضيلة أو انتقاص من عدل.
وخفت وطأة الأيام عليه بعض الشيء؛ فمكانه في المحاماة - وهو بعد لم يتجاوز الثامنة والعشرين - ينبئ عن مستقبل عظيم، ومكانه في السياسة قد جعله رأس حزبه في المجلس، وهو كما مر بك حزب الهوج، وقد أخذ المجلس يتسع حتى أصبح عدد أعضائه ثلاثين ومائة بعد أن كانوا ثمانية، وهو - فضلا عن ذلك - حبيب إلى أهل سبرنجفيلد؛ لما كان له من يد في نقل المجلس إليها وجعلها قاعدة الولاية، وهم قد أنسوا من خلاله في السياسة والمحاماة ما اجتذب قلوبهم إليه، وما جعل اسمه الذي عرف به في نيو سالم يجري على ألسنتهم؛ فهو بينهم أيب الأمين، ولقد توثقت المودة بينه وبين الكثيرين، وعلى الأخص سبيد صاحب الحانوت.
كان من أحب الساعات إليه تلك التي يجتمع فيها بنفر من حزبه في حانوت سبيد، فيديرون الحديث بينهم في السياسة وقضاياها والإصلاح العام وما تتطلبه البلاد منه، ومن الجماعة من سيكون لهم شأن كبير في سياسة بلادهم. ولقد كان ممن يختلفون إلى ذلك المنتدى في الحانوت دوجلاس الديمقراطي، ذلك القصير الماكر الطامح الذي اشتهر بحدة ذكائه ولباقته، والذي عرف بالأثرة والغيرة والطمع في عليا المراتب، وكان ذلك القزم يغار من المارد الذي تجتمع عليه القلوب والأهواء، فهل كان يدرك أنه سوف يكون العقبة الكأداء بينه وبين ما تطمح نفسه إليه؟!
ولم يكن نشاط لنكولن قاصرا على المجلس والمحكمة، بل لقد كان نشاطه خارجهما باعثا على الإعجاب جديرا بالثناء؛ فهو حاث على الإصلاح بما يذيع من أحاديث، داع إلى نشر الثقافة والعلم، وهو ذلك النجار الذي كان يشق الأخشاب في الغابة يشتري بالآلاف من شرائحها سروالا!
وكان أبراهام وزملاؤه يقرءون الصحف في إمعان، ويتتبعون أنباء السياسة في شغف ولذة، فإذا احتدمت المناقشة في الحانوت وتضاربت الآراء، حول أيب مجرى الحديث في لباقة إلى الأمور المحلية، ثم انتقل إلى نوادره وقصصه، فراح يمتعهم بها متدفقا في غير توقف، ثم إنه يتلو عليهم أحيانا بعض أشعاره التي كان يهدهد بنظمها نفسه الحزينة، أو التي كان ينظمها حاثا على الفضيلة، كالذي فعل حين نظم قصيدة طويلة حول إغواء النساء.
وكان المحامون في تلك الأيام ينتقلون من محكمة إلى غيرها على ظهور الخيل، يحملون في أكياس أوراقهم وأضابيرهم ومراجعهم، كما كانوا يستصحبون أصحاب القضايا والشهود، وكان القضاة يرافقونهم أحيانا إلى مقر المحاكم في غدوهم إليها.
وفي مثل هذه الرحلات القصيرة كان يرهف أذنيه المحامي الناشئ أيب لنكولن إلى كل ما يدور من الأحاديث، كما كان يسرح الطرف في مجالي الطبيعة، وفي دنيا الناس لا يفوته شيء يفيد منه علما أو عبرة، أو يستخرج منه نادرة يتفكه بها ويقصها على أصحابه، وهو إنما يتعمق الحياة الإنسانية وإن لم يقصد إلى ذلك أو يشعر به. تخلف عن الركب مرة فسأل عنه زملاؤه، فقال أحدهم: لقد توقف حيث أبصر عصفورين قذفت بهما الريح من عشهما، ولقد تركته وهو يحاول أن يرجع العش إلى نظامه، ويضع العصفورين في مستقرهما. ولما سئل أيب عن ذلك قال: «ما كنت لأستطيع أن أنام لو لم أرد العصفورين إلى أمهما.» وتحدث ذات مرة إلى أصحابه ضاحكا من سذاجة شيخ لقيه في الطريق وهو عائد من المحكمة، وقد أعجب ذلك الشيخ بمهارة لنكولن؛ إذ تعقب بأسئلته المحرجة لصا اتهم بسرقة فراخ جاره، قال الشيخ يستنكر ما فعل ذلك اللص: «في الأيام الماضية وهذه البلاد لم تزل في طفولتها، وأنا يومئذ أقوى مني اليوم، لم أبال أن أسرق الغنمات أحيانا، أما أن أسرق فراخا! ...»
وترك له زميله ستيوارت ذات مرة قضية على شيء من الأهمية أكسبته شهرة في عمله؛ إذ دار حديثها على الألسن أياما؛ وذلك أن أرملة أرادت أن تضع يدها على قطعة من الأرض تركها لها زوجها، فتصدى لها مدع ينازعها الأرض وفاء لدين له على ذلك الزوج، وكان المدعي من ذوي القوة والنفوذ، وهال أيب أن يكشف أنه زور هذا الدين، وغضب المحامي الأمين وتحمس لقضيته، ثم إنه علم أن ذلك المدعي يدفع عن نفسه تهمة التزوير بدعوى أخرى؛ هي أن الورقة المزورة ليست له وإنما دست عليه نكاية فيه، وأنه صاحب حق، فلا حاجة به إلى التزوير. وكتب أبراهام في إحدى الصحف مقالة غفلاء من التوقيع يفسر المسألة ويقضي على كل ما عسى أن تثيره من شبهات، ولكن ما لبث أن عرف أنه كاتب المقال، فغضب ذلك المدعي ورد عليه يعنفه ويأخذ الطريق عليه، فكتب أيب يقول: «وداعا أيها السيد إلى اللقاء في ساحة المحكمة هناك ، حيث نقلب المسألة على وجوهها وننظر هل تأخذ أنت الأرض أم تأخذها تلك الأرملة.» واهتم الناس بهذه القضية، وازدحمت قاعة المحكمة بنفر يشهدون دفاع المحامي الشاب، وما منهم إلا من يعطف على الأرملة المسكينة، وكسب أيب القضية كما كسب يومئذ إعجاب كل من رأوه.
خطيب
ما التمع اسم سياسي ولا طارد ذكره إلا إذا رزق موهبة الخطابة، وبقدر ما يتوافى له منها يكون ذيوع صيته ونباهة شأنه. ذلك ما كان يحدث أبراهام به نفسه في أواخر مدة عضويته الثانية في مجلس الولاية.
وهو منذ حداثته لهج بالخطابة شغوف بالمثول أمام جمهور يستمع، والخطابة بعد عدة المحامي كما هي عدة السياسي، أوليس قوامها الفصاحة والإقناع؟! إنه ليحس أنه قد أخذ يحسن الإفصاح عما في نفسه ويجيد وسائل إقناع سامعيه، وهو لم ينس ما كان من سالف مواقفه حين كان يحدث الناس في الغابة فيظفر من رضائهم بقدر ما يلقى من غضب أبيه. بيد أن الناس هنا ليسوا كأهل الغابة، وليس ما يصلح هناك من الكلام بصالح في مدينة كهذه المدينة، ولكن ألم يحز هنا في المدينة قسطا من رضاء الناس في قاعة المجلس وفي ساحة القضاء؟! إذن فليس الذي يداخله من ثقة في نفسه ضربا من الغرور، وحسبه أن تطمئن اليوم إلى ذلك نفسه.
وسنحت لخطيب الغابة فرصة للخطابة؛ فقد دعي ليلقي في ناد من أندية الشباب في سبرنجفيلد خطبة موضوعها: أنظمتنا السياسية وحفظها.
ووقف الخطيب وفي هندامه ووجهه وشعره الأشعث طيف الغابة، والأنظار متجهة إلى قامته الطويلة ووجهه الذي تلوح عليه علامات التحمس لموضوعه، والارتياح إلى ما أتيح له من فرصة.
وتكلم أول الأمر لم يجهر بصوته ولم يخافت به، ثم علا صوته حتى كان له رنين قوي في جوانب القاعة، وأخذ الخطيب يومئ برأسه يؤكد بعض المعاني ويشير بقبضته أو بكفيه مبسوطتين، وكانت تتشكل أسارير وجهه بما يلقي من قول؛ فيعبس ويشرق وتفعل كلماته وإشاراته فعل السحر في نفوس سامعيه.
بدأ فوصف وطنه وثروته الطبيعية أحسن وصف، ثم أشار إلى ما أتيح لهذا الوطن من نظم سياسية لا يطمع فيما هو خير منها، وامتدح من أتاحوا له هذه النظم الغالية من الزعماء. ثم ساق الكلام بعد هذا الاستهلال الرائع إلى ما عساه أن يتهدد هذا النظام من خطر، فتساءل قائلا: «من أي ناحية تنتظر أن يدهمنا الخطر؟ وما وسائلنا في دفعه إن هو حل بنا؟ أنتوقع الخطر على يد مارد عتي من مردة الحرب وراء المحيط يعبر هذا الخضم المترامي فيمحقنا بضربة منه؟ كلا!» ثم يتحمس الخطيب ويرفع صوته بقوله: «إن جيوش أوروبا وآسيا وأفريقيا مجتمعة، وفي أيديها خزائن الأرض، وعلى رأسها مثل بونابرت؛ لا تستطيع أن تنال جرعة من الأهايو ولو جاهدت ألف سنة ... فمن أي جهة يمكن أن يتهددنا الخطر؟ إني أجيب على ذلك بأنه إن كان ثمة خطر، فإنه ينجم هنا بين أيدينا، إذا كان الهلاك نصيبنا فنحن منشئوه، ونحن إن أردنا مانعوه، إننا يجب أن نعيش أبدا أمة حرة أو نقتل أنفسنا منتحرين ... وإني لألمس اليوم نذير سوء بين ظهرانينا؛ ذلك هو ما يتزايد من مظاهر عدم مبالاتنا بالقانون في هذا البلد ... إن مثل هذه الظاهرة مخيفة كل الخوف في أي مجتمع، ولئن كان يؤذي شعورنا أن نسلم بوجودها في مجتمعنا هذا، فإن إنكار وجودها زلزلة للحق واتهام لذكائنا ...
إني لأعلم أن الأمريكيين شديدو التعلق بحكومتهم، وأعلم أنهم يرضون أن يعانوا الكثير من أجلها، كما أني على علم بأنهم يتحملون المساوئ، ويصبرون عليها طويلا قبل أن يفكروا في استبدال حكومة أخرى بها، ولكن على الرغم من ذلك، فنحن إذا دأبنا على احتقار القوانين وعلى عدم اتباعها، وإذا رأى الناس أن حقوقهم في ضمان أنفسهم وأملاكهم ليس ما يمسكها إلا أهواء الغوغاء؛ فإن نفورهم من الحكومة هو النتيجة الحتمية عاجلا تم ذلك أو آجلا ...
هنا إذن موطن من مواطن الخطر، وإني لأعود فأسأل: كيف نتوقى هذا الخطر؟ والإجابة على ذلك يسيرة: ليقسم كل أمريكي، كل عاشق للحرية، كل ذي نية طيبة نحو أعقابنا، ليقسم كل بما جرى في الثورة من دماء ألا يتعدى قوانين البلاد في أية جزئية منها، وألا يسمح للغير بتعديها، وليفعل اليوم كل أمريكي في حرصه على القانون والدستور ما فعله رجال سنة 1776 في تعضيدهم حملة الاستقلال، وليضح كل في سبيل ذلك بحياته وشرفه الذي يقدس وجميع ما ملكت يداه، وليذكر كل فرد أنه إن اعتدى على القانون فإنما يطأ بقدميه دماء آبائه، ويمزق عهد حريته وحرية أبنائه، لتتحدث كل أم في أمريكا إلى ابنها الذي يلثغ لاعبا في حجرها حديث احترام القوانين، وليعلم ذلك في المدارس والمعابد والكليات، وليكتب ذلك في كتب الهجاء وفي كتب الابتداء وفي صفحات التقويمات، وليوعظ به من منصات الوعظ، وليعلن في ساحات المجالس التشريعية، وليحمل بالقوة على احترامه في دور العدالة، وفي الجملة يجب أن يكون ذلك للدولة دينها السياسي.»
وعاد الخطيب يذكر زعماء الحرية الأولين، ويمجد ذكراهم، ويشير إلى بطولتهم إلى أن قال: «لقد كانت العواطف قبل عونا لنا، ولكنا لن نركن إليها اليوم، ولسوف تكون في المستقبل عدوا لنا، ألا لتكن الحكمة الباردة الحاسبة التي لا تعرف العواطف هي التي تمدنا بما يلزم لنا في مستقبلنا من أسباب القوة والدفاع. إن في النابهين الطيبين من الناس ممن تتوفر فيهم الكفاية لأن يحسنوا أي عمل يوكل إليهم؛ كثيرين لا تمتد أطماعهم إلى ما هو أبعد من مقعد في المؤتمر، أو منصب في الحكومة، أو بلوغ كرسي الرياسة، ولكن هؤلاء لا ينتمون إلى أسرة الضراغم ولا إلى جماعة النسور. واها! أتظنون أن مثل هذه المناصب تملأ عين إسكندر آخر أو قيصر ثان أو نابليون جديد؟! كلا! إن العبقرية الشامخة لتحتقر الطريق التي وطئتها الأقدام من قبل ... إنها تبحث عن مواطن لم تكشف بعد، إنها تظمأ وتتحرق إلى ما يميزها عن غيرها، وإذا أمكنها أن تصل إلى ذلك فعلت ما يميزها؛ إما بتحرير العبيد من الناس، أو باستعباد الأحرار. أليس من المعقول إذن أن نتوقع ظهور رجال من هذا الطراز بين ظهرانينا؟ رجال توافى لهم من العبقرية في أكمل صورها بقدر ما توافى لهم من الطموح الذي يدفعون به هذه العبقرية لتمد مدها؟ وإذا قدر لرجل من هؤلاء أن يظهر فسوف يحتاج الأمر إلى ترابط الناس بعضهم ببعض، وتعلقهم بالحكومة وبالقوانين، وأن يكونوا على قسط من الذكاء ليحولوا بينه وبين أطماعه الشخصية إذا اتجه هذا المتجه ...»
أني لابن الغابة ربيب الفقر والعسر هذا كله؟ ألا إنها العبقرية تستعلن في الخطابة، وإن خفيت في الحديث الهادئ أو القصة الوادعة، وماذا يريد لنكولن بإشارته إلى العبقرية الشامخة وما تتطلع إليه؟ هل كان يرسم لنفسه ما يحب أن يفعله في غده؟ أكان يبحث عما يميزه؟ أكان يدرك أو يحس يومئذ أن له من عمله في غد ما هو حري أن يملأ عين إسكندر آخر أو قيصر ثان أو نابليون جديد؟
وذاعت في المدينة هذه الخطبة فأضافت إلى شهرته شهرة، وها هو ذا ينتخب للمرة الثالثة عضوا في المجلس التشريعي وهو في التاسعة والعشرين، وإنه ليطول باعه في المحاماة، وترسخ قدمه في السياسة، ويعلو كعبه في الخطابة.
وفي مدة عضويته الثالثة كان الخلاف في المجلس صدى للخلاف في الولايات جميعا بين الديمقراطيين والهوج، وكان زعيم الديمقراطيين في مجلس إلينوى ذلك القزم الماكر دوجلاس، وكان ينهض للدفاع عن سياسة فان بيرن الرئيس الديمقراطي الذي خلف جاكسون فيبدي نشاطا ومهارة ولباقة، وكان الديمقراطيون هم الحزب الغالب في المجلس، وكان لنكولن زعيم أنصار هنري كليي من الهوج، ولكن أصحابه كانوا في المجلس أقلية.
ودأب دوجلاس على مناوأة لنكولن في كل أمر، وكانت له مواقف يظهر فيها عليه بسرعة خاطره ومهارة انتقاله من فكرة إلى فكرة ومن قضية إلى قضية، ولكن أبراهام كان المتفوق الظافر إذا كان الأمر أمر إخلاص أو أمانة أو بعد نظر أو دقة تحليل.
وأظهرت هذه المساجلات السياسية جانبا من جوانب موهبته الخطابية، جانب الشجاعة الأدبية التي تنطقه بما يريد أن يقول في غير تهيب ولا التواء في لهجة حماسته، وفي بلاغة عبارة وحسن أداء.
عير أحد الديمقراطيين حزبه بقلة عددهم وبضياع أملهم، فالتفت إليه أبراهام قائلا: «وجه هذا الجدل إلى الجبناء والعبيد، أما أن توجهه إلى الأحرار البواسل فليس يجديك ذلك فتيلا، لقد فقدت دول حرة كثيرة ما كان لها من حرية، وربما فقدت دولتنا كذلك حريتها، وإذا قدر لها ذلك وكان ما يتفاخر به غيري أنه كان آخر من ترك نصرتها، فليكن أعظم ما أفاخر به أني لم أترك تلك النصرة أبدا.»
وقال في موقف آخر، وقد اشتم تهديدا موجها إلى خصوم فان بيرن على لسان أنصاره من الديمقراطيين، كما علم بأنباء اضطهادهم بغير حق: «أما أن أنحني لمثل هذا، فذلك ما لن أفعله أبدا ... وإني هنا أمام الله وفي وجه العالم كله أقسم يمين الولاء لقضية الحق، قضية البلاد التي فيها حياتي وفيها حريتي ولها محبتي، وإن هذه القضية التي اعتنقناها بعقولنا وقلوبنا لن تجد منا الهوينا في الدفاع عنها؛ في المحنة أو في الأغلال أو بين براثن الموت.»
وفي سنة 1840 بدأت المعركة الانتخابية للرياسة بين الديمقراطيين والهوج، وكان مرشح الديمقراطيين فان بيرن إذ أرادوا تجديد انتخابه، أما الهوج فكان المفهوم من أمرهم أنهم يرشحون هنري كليي؛ جريا على سياستهم القائلة بأنه يستحسن أن ينتخب للرياسة سياسي مارس السياسة في المجالس التشريعية، وعلى الأخص الكونجرس، وأن يكون أمر الانتخاب والقيام عليه بأيدي رجال السياسة، ولكنهم عدلوا عن هذا، وقد علموا ما كان من أثر جاكسون وديمقراطية جاكسون في البلاد؛ إذ جعلت كلمة الشعب هي العليا، وبحث الهوج عن رجل من صميم الشعب، له ماض في الحرب يكون شبيها بجاكسون؛ ليكسبوا بترشيحه الرأي العام؛ فوقع اختيارهم على هارسون، وكان من الطلائع الذين سكنوا الأصقاع البرية، وكانت لهم في محاربة الهنود بطولة، وكان لا يزال يعيش في بيت أقيم من الكتل الخشبية على نمط الأكواخ الساذجة الأولى، وكان يشرب عصير التفاح الشراب الوطني المحبوب لساكني الأكواخ ... وهو بهذا شبيه بجاكسون، وقد سميت معركته الانتخابية معركة الكوخ وعصير التفاح.
واستعرت المنافسة بين الحزبين، وشمر لنكولن، وقد سنحت مثل هذه الفرصة ليتمرن على مثل هذه المعارك الانتخابية الكبرى، فضلا عما يتسع أمامه من مجال للمجادلة والخطابة.
وأبرزت هذه المعركة كثيرا من جوانب موهبته كخطيب، وفي مقدمتها تهكمه الذي يزلزل به أقدام خصومه، ومقدرته على إثارة إعجاب سامعيه وامتلاك قلوبهم بما يسوق من أمثال ويسرد من قصص يصور بها ما يريد من المعاني أو يسخر بها من آراء معارضيه وأفعالهم، هذا إلى عذوبة روحه وحلاوة فكاهته ورونق عبارته وسحر أدائه.
نشط الهوج في هذه المعركة نشاطا عظيما، وكانت جموعهم تطوف في البلاد تحمل الأعلام وعليها اسم هارسون، ومنهم من كانوا يحملون مثالا مصغرا للكوخ وأمثلة لأواني عصير التفاح، فإذا ازدحم الناس للتفرج قام خطباؤهم يدعون لحزب الهوج ويحملون على الديمقراطيين، وانبرى خطباء الديمقراطيين لهم في جموع مثل جموعهم وخطباء كخطبائهم.
وشهد أبراهام كثيرا من هذه الاجتماعات، فوقف ذات مرة يخطب رادا على مزاعم الديمقراطيين فيما اتهموا به الهوج من أرستقراطية وثروة، تلك النغمة التي طالما سمعها من قبل أثناء انتخابات مجلس الوصاية، قال لنكولن: «لقد كنت غلاما فقيرا، استؤجرت للعمل في قارب بنحو ثمانية دولارات في الشهر، ولقد كنت ألبس الملابس من الجلد، وإذا علمتم ما يطرأ على الملابس الجلدية إذا جففتها الشمس وجدتم أنها تنكمش وتتداخل بعضها في بعض، ولقد قصر سروالي بسبب هذا حتى ترك جزءا من ساقي عاريا، وكنت كلما ازددت في الطول ازداد سروالي قصرا وضيقا، وقد بلغ من ضيقه أنه ترك أثرا حول ساقي لا يزال يرى حتى اليوم، فإذا كنتم ترون في هذا أرستقراطية فإني أعترف أن التهمة لاصقة بي.»
وشهدت سبرنجفيلد من هذه المظاهرات مظاهرة كبيرة حمل فيها المتظاهرون أكواخا صغيرة من الخشب، واستعاض أهل شيكاغو عن الأكواخ بمثال لمركب حملوها على عربة، وقد وصف أحد الذين شاهدوا لنكولن يخطب الناس ذلك اليوم فقال: «وقف لنكولن في عربة فخطب جمهور الناس الذين أحاطوا بها، وكان للاجتماع يومها أهمية تفوق ما لغيره من الاجتماعات؛ ومرد هذا إلى من كان يلقي الخطاب الرئيسي؛ كان يومئذ قد بلغ غاية قوته البدنية، كان طويلا يبدو أنحف مما صار إليه في أيامه بعد ذلك، وكان بنحافته أكثر ألفة في أعين الناس منه حين اكتسب فيما بعد شيئا من السمن، وكان في الحادية والثلاثين من عمره، ومع هذا فقد كان يعد من أقوى خطباء الهوج في هذه المعركة، وكان له يومئذ ذلك السر الذي يلفت انتباه الناس إليه ويجذبهم نحوه، ورأى نفسه حتى في ذلك الوقت موضع اهتمام عام؛ بسبب ما اتصف به من لمس المسائل السياسية وشرحها وتصويرها في يسر ... وكان يتناول مسائل تلك الأيام تناولا منطقيا أحيانا، ولكنه كان يجعل كثيرا من وقته لقصصه التي يشرح بها بعض ما يتناول من المسائل، ولو أن كثيرا من هاتيك القصص كان يراد به وضع خصومه في وضع مضحك.»
وكان يعنى أبراهام عناية شديدة بخطبه؛ فيدير المعاني في رأسه قبل أن ينهض للخطابة، ويختار من اللفظ ما يؤدي المعني المراد بيانه في غير نقص أو تزيد، فإذا تكلم كان بارع السياق مطمئن النفس فصيح العبارة، فإذا جد أثناء الكلام أمر لم يحتشد له واتته قريحته الطيعة ووافاه بيانه المشرق، فأتى بأحسن مما أعد وما اصطنع.
وكان يعنيه أن يقرأ كلامه منشورا في الصحف ليرى إن كان ثمة خلل أو ضعف، فيعمل على أن يبرأ كلامه منه بعد ذلك، ولم تكن ترتاح نفسه لشيء ارتياحها إلى حسن موقع كلامه في نفوس سامعيه أو قارئيه.
ولم تقتصر نصرته للهوج على مقدرته كخطيب، وإنما أفاد أصحابه كثيرا مما اشتهر به من بأس وقوة، وقلما خلت المعارك الانتخابية من عنف في بلد من أقطار الأرض.
وقف أحد أصدقائه يخطب الناس في حجرة متسعة كانت تقع تحت الحجرات التي يشغل إحداها مكتب لنكولن المحامي وزميله، وكان في سقف تلك الحجرة السفلى باب يستطيع فتحه من كان في حجرة لنكولن، فرفعه أبراهام قليلا ذات مرة، وقد اشتد ضجيج المجتمعين، فشاهد صديقه الخطيب وقد أحاط به جماعة من الديمقراطيين يتوعدونه ويطلبون إنزاله بالقوة من فوق المنصة؛ لما صدر منه من غليظ القول، وبينما كان السامعون في هرجهم إذ راعهم قدمان كبيرتان تتدليان بنعليهما من السقف، عرفتا لأول وهلة أنهما قدما لنكولن، ثم رأوا الساقين فالجسم كله، وإذا بهم يبصرون أبراهام وقد انقض من السقف فوقف إلى جانب صاحبه، ثم رفع ابن الغابة يده يريد الكلام، فما من أحد في الحجرة إلا وكأن على رأسه الطير، وانفرجت شفتاه بعد لحظة فقال: «أيها السادة لا تسيئوا إلى وطنكم وإلى العصر الذي تعيشون فيه ... إن هذه هي الأرض التي أخيطت فيها حرية القول بما يحفظها من ضمان، وإن لصاحبي الحق أن يتكلم، وإن له الحق أن يسمح له بالكلام، وإني الآن بجانبه لأحميه، وما من رجل هنا يستطيع أن ينتزعه من مكانه ما دمت قادرا على أن أذود عنه.»
وأنصت السامعون إلى الخطيب وقد عاد يخطب في حماية لنكولن، فما استطاع الديمقراطيون أن يقاطعوه، وما استطاعوا له دفعا.
وانتهت المعركة الانتخابية بفوز الهوج، وفرح أبراهام وأنصار الهوج بذلك النصر فرحا شديدا. وفي نفس تلك السنة، سنة 1840، انتخب أبراهام عضوا في مجلس إلينوى للمرة الرابعة.
قطيعة وصلة
لم تلهه السياسة وشواغلها نوازع قلبه وخلجات نفسه، ولا أنسته المحاماة وقضاياها وقد صار له فيها مكان مرموق، ولا الجلسات في حانوت سبيد وما كانت تثيره في نفسه من لذة، وأنى له أن ينسى وقد كانت ماري أوين - تلك الفتاة التي ارتبط بها بما يشبه العهد - تلقاه أحيانا بعد أن تزور بعض ذوي قرباها في سبرنجفيلد، كما كان هو يذهب إلى نيو سالم فيغشى بيت أختها! إن أمره في ذلك عجب! لا يستطيع أن ينصرف عنها ولا يستطيع أن يؤمن أن يحبها، تلك حال من حالات الشباب، أو حال من حالات لنكولن، وما أعجب بعض حالاته!
كانت علاقتهما علاقة فتور تجلى لها في أكثر من موقف، ولكنهما أقاما على هذه الحال زمنا؛ تحسب الفتاة أنه لم يبق إلا أن يتقدم صاحبها بالاقتراح المعروف، ويحسب الفتى أنه لم يبق إلا أن تنأى عنه فتريحه! لقد كان منقبض النفس لهذه الحيرة، يجعل للمسألة من الأهمية أكثر مما لها، تلمس ذلك في مثل قوله: «لم أجدني طيلة حياتي في قيد أرغب في التحرر منه كما أجدني في هذا القيد، حقيقيا كان قيدي أو خياليا.»
وجمع أمره فكتب إليها كتابا رقيقا محكما يشير فيه إلى دخيلة نفسه ويتلمس معرفة طويتها، دون أن تفلت منه لفظة قاسية؛ تكلم عن إحساسه بالوحشة في سبرنجفيلد، ثم أشار إلى فاقته وعسره وما عسى أن تجد عنده من متاع الدنيا من تكون زوجا له، إلى أن قال: «ربما كان ما قلته لي من قبيل المزاح، وإلا فأظنني لم أفطن إلى مرماه، إن كان الأمر كذلك فدعيه إلى النسيان، وإن لم يكن كذلك فإني أحب أن تفكري تفكيرا جديا قبل أن تقطعي فيه برأي، وستجدينني عند قولي إذا كان ذلك ما تشائين، وإني أرى ألا تشائي ذلك؛ فإنك لم تتعودي البأساء، وربما كان الأمر أقسى مما تخالين.»
وأرسل إليها بعد ذلك كتابا أكثر من هذا صراحة جاء فيه: «إن في وسعك أن تدعى هذا الأمر، وأن تطردي أي تفكير يتجه إلي، إن كان ثمة لديك شيء من هذا، ولن يترتب على ذلك أي لوم عليك مني، وقد أذهب إلى أبعد من هذا؛ فأقول إذا كان ذلك يؤدي إلى راحتك وهدوء بالك، فإني أرغب مخلصا أن تفعليه، لا تفهمي من ذلك أني أريد لك قطيعة، إني لا أريد شيئا من هذا القبيل، إنما أريد أن تكون علاقتنا في المستقبل قائمة على إرادتك، وإذا كانت هذه العلاقة بحيث لن تضيف شيئا إلى هناءتك، فإني على يقين أنها لن تضيف كذلك شيئا إلي، ولئن كنت تشعرين أنك مقيدة نحوي بأي قيد، فإني أميل الآن إلى أن أطلقك منه إذا كانت هذه بغيتك، بينما أراني من ناحية أخرى أميل إلى أن أمسكك على إذا اقتنعت أن ذلك يزيد من سعادتك بقدر خليق بالاعتبار، هذه في الحق هي المسألة بالنسبة إلي، ولن يشقيني شيء أكثر من اعتقادي شقوتك، كما أنه لن يسعدني شيء أكثر من علمي بسعادتك. وإذا حسبت أن عدم ردك على هذا خير لك فوداعا، وإني أرجو لك حياة طويلة سعيدة، أما إذا شئت أن تردي فاكتبي إلي في وضوح كما أكتب.»
تلك هي تعلات المتردد الحائر تصور لنا حالا من الحالات المستعصية على الفهم، ولقد آلت المسألة آخر الأمر إلى القطيعة، وانصرفت عنه ماري أوين وهو لا يدري أيعد ذلك فوزا أم يعده خيبة.
وما له يتورط بعد ذلك في صلة جديدة، ولم يستنشق نسيم الراحة إلا من أمد قريب؟ إنه لم يكد ينصرف عن ماري أوين حتى أخذ يتصل بماري تود.
كانت هذه الفتاة الجديدة تنتمي إلى درجة في المجتمع فوق درجته، وكانت مثقفة مهذبة شديدة الذكاء، تدير الحديث إذا جمعها بالنابهين من أهل المدينة مجلس فتسحرهم بتوقد الذهن وقوة المبادهة ولطف الإشارة وأناقة العبارة. وكانت ماري إلى ذلك ذات طموح إلى هدف بعيد، فكانت نظرتها إلى الشباب من جنس نظرتها إلى الحياة، المقدم فيها عندها من تثق أنه إذا نال يدها يخطو بها إلى ما تمد إليه عينيها وخيالها من نفوذ ونعمة وجاه، وكانت فتاة قلقة كأنها من فرط توثبها الطائر المرح؛ لا يحط على غصن إلا ليثب منه إلى غصن.
وكان لنكولن ممن يختلفون إلى دار أخت لها في سبرنجفيلد، كما كان دوجلاس ممن يختلفون إلى تلك الدار، كأنما صحت عزيمة ذلك القزم أن يأخذ على المارد كل طريق يسلكه، ولو كان غير طريق السياسة.
وكانت أختها زوجا لأحد التسعة الطوال، فعرفت ماري من أختها شيئا غير قليل عن لنكولن، كما كان زوج أختها صديقا حميما لصاحبه سبيد، وقد تحدث إليها وإلى أختها عن لنكولن أحاديث كثيرة كلما تطرق الكلام إليه.
وكانت ماري قد جاءت لتقيم مع أختها زمنا، وأخذت الرجلين عيناها السريعتان النافذتان، ولكنهما استقرتا على أبراهام، وكان دوجلاس خليقا أن ينال عندها الحظوة بما كان يبدو من ذكائه ودهائه ولباقته وكياسته، وبما كان يشع من ظرفه وحسن سمته وأناقة هندامه. ولقد كان يبتغي إليها الوسيلة بكل ما في وسعه لا تفلت منه فرصة ولا تفوته حيلة، ولكنها اتجهت إلى ابن الغابة في هندامه المتهدل القصير على جسمه المرهف الطويل، ولم يخشن في عينيها وجهه المسنون الذي يحمل في حضرتها من البلاهة بقدر ما يحمل من هموم الأيام، ولم ينب عن ذوقها شعره الأشعث الذي يصور للعين ألفاف الغابة!
وأخذ ابن الأحراج يزداد من حبها بقدر ما يفقد دوجلاس منه، ولكنه يسر إلى صديقه سبيد ذات يوم أنه لا يشعر قبلها من الحب ما هو عسي أن يفضي بهما إلى الزواج، ثم يهم أن يكتب إليها بعد ذلك ...!
وكان عجبا أن تتجه ماري إلى أبراهام دون دوجلاس وهي فتاة طامحة، وهو يبدو في كل أمر متحفظا يؤثر الهوينا، بينما كان دوجلاس مثلها طموحا يتوثب لا يكاد يفتر له عزم، ولقد عرف أنها كانت تحلم بالبيت الأبيض، وتحلم بالزوج الذي يرجى له أن يتخذ مقعده هناك يوما ما، وإذا كان الأمر كذلك فأي الرجلين كان عسيا أن يصل بها إلى ما تحب؟ وكيف تترقب ذلك على يد ابن الغابة، ولا ترجوه على يد دوجلاس؟
ولم يكن عجبا أن يتردد أبراهام في صلته بها من أول الأمر؛ فهو كلما ذكر عسره ومنبته استحى وساوره مع الحياة الهم. وإنه ليراها في بيت أختها الفسيح الأنيق موضع إعجاب كل زائر، حديث النفس في خلوتها لكل شاب، تتكلم الفرنسية وتحسن توجيه الكلام وإدارة الحديث، كما تجيد الحوار وتعرف كيف تسر كل متكلم وتتخذ أقرب السبل وأيسرها إلى قلبه. وإنها مع ذلك لذات كبر وأنفة، وذات حسن وظرف، وإن لم تصل ملاحتها إلى مستوى ذكائها. وإنها لقوية الشخصية تسحر محدثها بوداعتها وظرفها إذا رضيت، وتقهره بنظرتها العنيفة المخيفة إذا غضبت. وإنها لتدل بمكانة أهلها وجاههم تالده وطريفه! ومنهم من كان ذا شهرة في حرب الاستقلال، ومنهم من كان حاكما لإحدى الولايات؛ ومنهم أبوها وكان قائدا في حرب سنة 1812 كما كان رئيس مصرف كنطكي، وكان ذا مال وجاه، يملك الخيل المطهمة والعبيد المؤتمرين بأمره، والأرض الواسعة التي تدر عليه الخير ... وأين من هذا كله المحامي الفقير الذي ولد في كوخ، والذي لم يجد له مأوى في المدينة إلا ما كان من معونة صديقة سبيد! والذي استنكف أن يوكله في قضية له إنجليزي في المدينة قائلا عنه: «إنه يبدو كفلاح يشهد البهلوان لأول مرة.»
على أنه لم يكن يعلم مقدار حرصها على كسبه؛ فإن هذه المرأة الذكية كانت توقن كلما قارنت بينه وبين ذلك القزم - الذي يشبهها أعظم الشبه - أن المستقبل له، فثمة شيء تحسه ولا تستطيع أن تقول ما هو ينبئها أنه عظيم، وإن لم يبد عليه اليوم شيء من العظمة.
وهو يتمنى لو أحبها كما يكون الحب، أو لو اطمأن إلى أنه إذا أحبها لا تكون حاله حائلا بينه وبين قلبها، ولعل شعوره بضعة منبته وبحاجته إلى مثل ما يتمتع به دوجلاس من أناقة ومقدرة على محادثة النساء ونيل إعجابهن؛ هو الذي كان يكربه ويؤلمه ويسبب له هذا التردد، ويلقي به في هذه الحيرة ويجعله دائما من النساء في حالة استخذاء.
وإنه ليحس أنه موشك أن يقع في مثل ما وقع فيه من قبل من أسر وخبال إبان علاقته بماري أوين، فما له لا يقطع هذه الصلة بماري تود قبل أن يجد نفسه بحيث يستحيل عليه ذلك؟ لئن كان يعجبه ذكاؤها وظرفها، فإن من خلالها ما هو خليق أن ينفره؛ وذلك مثل حدة طبعها وسرعة غضبها؛ فإنها لتبكي لأقل شيء وتصرخ مهتاجة، وإن وجهها ليتلون بحمرة الورد وبصفرة الموتى في ثوان معدودات، وإنها لتطلق لسانها بجارح اللفظ وطائشه إذا اهتاجها من الكلام ما لا يحرك غيرها ... ولكنه على الرغم من ذلك يشعر كما تشعر هي أن ثمة شيئا فيها يحسه، ولا يستطيع بيان كنهه يريه أنها مكملة له، فإذا ربط الزواج بينها وبينه لم يكن الأمر أمر رباط فحسب، ولكنه يكون لكليهما تكملة لا غنى لهما عنها.
ولكنه يسر إلى صاحبه بعزمه على أن يقطع صلته بها بكتاب يرسله إليها، فيقول له سبيد: الرأي ألا تكتب فإن الكتاب يبقى، ولكن اذهب إليها وحدثها بما تريد، فما أسرع أن ينسى الكلام!
ويفعل أبراهام ما أشار به صاحبه، ولكنه يعود إليه وفي وجهه مثل ما يكون في وجه الغلام إذ يحاول أن يخفي حياءه، قال: «قضي الأمر فلا مناص ولا حيلة، إني ما كدت أخبرها بالأمر حتى هبت من مقعدها صارخة تدق يدا بيد والدموع تنهمر من جفنيها وهي تقول أصبح المخادع هو المخدوع ... ووجدت الدموع تنحدر على خدي أنا كذلك، فأخذتها بين ذراعي وقبلتها.» ولما لامه صديقه على تخاذله بمثل هذه السرعة قال: «قضي الأمر، وإذا كنت أعود إلى الأسر ثانية، فليكن ما يكون، ولسوف أصمم فلا أتزعزع.»
وظلت ماري بعد ذلك مدة عامين تحرص على أبراهام وتتحايل على كسب قلبه، وتغضي على مضض عن شذوذه وعن هيئته وعن سرواله القصير وعن حديثه الأعرج، وعما يشبه البلاهة من غيرته حينا وعدم مبالاته أحيانا ...
وكانت تحاول أن توقد نار الغيرة في قلبه، فتمشي في الطرقات وذراعها في ذراع دوجلاس، فما تتوقد في قلب أبراهام نار، وإنما تحس هي بوقدة في حشاها إذا نظر إليهما في غير مبالاة.
ورأته ماري مرات يسير مع أخت لها عذراء على نحو ما تفعل هي مع دوجلاس، فحسبت أنها أغارته، ولكنها ما لبثت أن أحست هي بالغيرة تأكل قلبها.
ورأته يصحب فتاة في نحو السادسة عشرة من عمرها إلى الملهى ويضاحكها، وكان اسمها سارا، وعلمت أنه أشار مرة إلى اسميهما، وما كان في الإنجيل من علاقة بين سارا وأبراهام، فلم تطق ماري على هذه المداعبة صبرا، أما هو فكاد يتعلق قلبه بسارا، وأوشك أن يندفع في هذا الطريق لولا أن نفرت الفتاة منه قائلة: «إن حاله الخاصة وجملة أمره لن يحدثا الأثر المطلوب في قلب فتاة على أهبة أن تغشى المجتمعات.»
وصبرت ماري وهي من لا تطيق أن تصبر، فإذا كان بين يديها حاولت أن تروضه على طاعتها بشتى الحيل، واستجمعت ذكاءها ودهاءها لتؤثر فيه دون أن يشعر فتوجهه إلى حيث تريد، ولكن ما كان أسرع نفوره من ذلك؛ أنفة منه ومحافظة على استقلاله وحريته، وإنها لضائقة بذلك، ولكنها تصابره وتسايره؛ علها تظفر آخر الأمر به، وفاتها أن السحر الذي كان كفيلا أن يجعله أطوع لها من الطفل هو الذي كان ينقصها؛ لأن الحب كان ينقصه.
وكانت تأخذه غاشية من الهم كلما مال الحديث بينه وبين أصحابه إلى الزواج، وإذ ذاك كانت تزداد رغبته في التخلص من ماري تود كما تخلص من قبل من ماري أوين، وكان يومئذ في حال إن لم نحملها على الخبل نحار على أي شيء غيره نحملها!
ودأبت ماري على سعيها وصبرها، وليس من شك أنها لولا ما كانت تشعر به نحوه من أكيد الحب لانصرفت عنه، قالت عنه بعد ذلك بسنين: «لم يكن مستر لنكولن من الوجاهة كما كان مستر دوجلاس، ولكن الناس لم يكونوا يلحظون أنه كان لقلبه من الكبر بقدر ما كان لذراعه من الطول.» وقالت في معرض آخر كلاما غير هذا ينطق بطموحها وتعليقها الفوز بأحلامها على الظفر به، ومن ذلك قولها: «إن مستر لنكولن سيكون رئيسا للولايات المتحدة يوما ما، ولولا أني رأيت ذلك فيه ما قبلت أن أتزوج منه، فإنه لم يكن وجيها.»
وحدد اليوم الأول من سنة 1841 موعدا للزفاف، وأخذ لنكولن ينظر إلى ذلك اليوم، وكلما اقترب منه أحس في جسمه بما يشبه الحمى من فرط اضطرابه، فلما كان اليوم السابق لهذا الموعد المحدد، رآه الناس في حال من الهم مخيفة، ولكنه على الرغم من ذلك كان مكبا على عمله في مكتبه وفي المجلس كأن لم يكن به شيء.
وفي الموعد المضروب أخذ أهل العروس أهبتهم لاحتفال يليق بمكانة أسرتهم، واستعدوا للقاء الأصدقاء والصديقات، وأخذت العروس زخرفها وازينت، ولكن وا عجبا أين الزوج؟! أبلع به الخبل هذا البلغ؟! لقد غاب والجمع في انتظاره! يا له من موقف! ويا لها من صدمة تصيب ماري المدلة المتكبرة!
وظن أبراهام أنه بفعلته هذه يستطيع أن يسترد حريته ويخلص من هذا الرباط الذي أوشك أن يوثقه، فلا تجدي في الفكاك منه حيلة، وأكب على عمله يحاول أن يخدع الناس أو يخدع نفسه بأن ليس في الأمر شيء، ولكنه ما لبث أن أحس أن فعلته هذه ضد الشرف فحاق به اليأس، وزاده غما على غم تفكره في أنه ألحق الضرر بفتاة رقيقة قوية العاطفة بيديه القبيحتين، كتب إلى زميله ستيوارت: «إما أن أموت أو تتحسن حالي، ولكن بقائي فيما أنه فيه ضرب من المستحيل.» وبعد ذلك بأيام انقطع عن شهود جلسات المجلس؛ إذ كان عند الطبيب.
صديق صدوق
وما حيلة الطب في نواز توبق الروح وهواجس تعمي القلب، وإن بدت آثار هذه وتلك في نواحي البدن؟ عجز الطبيب ولا عجب أن يعجز، وجاء الصديق ليفعل ما لم يستطع الطبيب أن يفعل وهو خبير بالعلة عليم بموضعها من نفس صاحبه.
باع سبيد حانوته، وعول على الرحيل إلى كنطكي، فعرض على صاحبه لنكولن أن يذهب معه إلى هناك عله يشفى مما به في تلك الأحراج التي درج منها أول ما درج. دعاه سبيد أن ينزع نفسه وجسمه من ذلك البلد الذي يكربه العيش فيه، بعد أن كان مهوى خواطره ومنتجع آماله، ورحل أبراهام مع صديقه، وقد اخترم الهم جسده فزاده نحولا على نحول، وزين له الشيطان أن يطلب النجاة من الحياة.
ولبث في كنطكي أياما لقي فيها من كرم صاحبه وكرم أمه وأخته ما هون عليه أمره شيئا قليلا، وصاحبه لا يفتأ ينصح له ويسري عنه، وهو يشكو إليه اضطراب أعصابه، ويظهره على هواجس نفسه ويذكر له، والألم يبرح به فعلته التي فعل، فكان غير كريم، بل كان من الضالين!
على أنه كتب وهو في كنطكي رسالة في الانتحار ترينا أن اليأس كان قد أوشك أن يذهب عنه. خذ لذلك مثلا قوله: «إني لم أصنع في حياتي شيئا يذكر أي إنسان أني عشت، ومع هذا فإن ما أود أن أعيش من أجله هو أن أربط اسمي بحوادث يومي وجيلي، وأن أقرن ذلك الاسم بصنيع يكون لمن حولي من الناس فيه جدوى.»
بيد أنه لم يلبث وقد كان يلتمس العون من صديقه أن رأى ذلك الصديق في حاجة إلى من يعينه، فلقد طاف به على حين غفلة طائف من الحب ملك عليه قلبه وعقله.
وانقلب الأمر، فغدا لنكولن هو الناصح، وراح يجتهد أن يهدئ صاحبه، وقد وسوست إليه نفسه معاني كتلك التي كانت تجول في خاطره هو؛ معاني الحيرة والتردد والشك، وأصبح سبيد يحار في أمر حبه كما أصبح ينتابه الخور كلما اتجه فكره إلى الزواج، شأنه في ذلك شأن صاحبه.
وكان فيما يسديه أبراهام من نصح لصاحبه مسلاة له أو شاغل يشغله عن وجده، ولما عاد إلى سبرنجفيلد ظلت كتبه أكثر من عام تترى على صاحبه، وفيها من حسن النصيحة وقوة الإقناع ما لا يصدر مثله إلا عن عالم نفسي أو شاعر رقيق العاطفة عميق الحس، خذ مثلا لذلك كتابه هذا قال: «إن مرد ذلك في جملته إلى أنك عصبي المزاج، وأنا أقول ذلك لما شهدته منك شخصيا، ثم لما قصصت علي من حال أمك في أوقات، ومن حال أخيك حين ماتت زوجه، وإن أول سبب خاص هو تعرضك للجو الرديء أثناء رحلتك؛ فإن تجاربي تثبت لي في وضوح أن ذلك بالغ الضرر بمن كان ضعيف الأعصاب، ثم يأتي بعد ذلك بعدك عن مجالس الصحاب وأحاديثهم؛ فإنها كانت خليقة أن تشغل عقلك، وأن تهيئ له قسطا من الراحة من عناء التفكير العميق، الذي يبدأ حلوا ثم ينقلب إلى مثل مرارة الموت، وأخيرا سرعة اقترابك من هذه الأزمة التي يتركز فيها كل شعورك وفكرك.»
ومن العجيب حقا أن يتلمس لنكولن العلل لما يكرب صاحبه، ثم يظل على ما هو عليه من حيرة وغم، وأعجب منه أن نراه يحدد الوضع الذي باتت عليه علاقة سبيد بصاحبته تحديد الخبير الرشيد فيقول: «كيف اتفق لك مغازلتها؟ أكان ذلك لأنك رأيتها جديرة بها منك، وأنك وضعت بين يديها ما يبرر أن تتوقع حدوثها على يديك؟ لا! لم يكن للعقل مجال يومئذ. قل لي بحق، ألم تكن هاتيك المقلتان الدعجاوان السماويتان هما أساس حججك الأولى جميعا فيما يتصل بهذا الموضوع؟»
وجاء في كتاب آخر إلى صديقه قوله: «إنك تعلم حق العلم أن حدة شعوري بآلامك لا تقل كثيرا عن حدة شعوري بآلامي، ومع ذلك فإني أؤكد لك أنه لم يسؤني كثيرا ما ذكرت عن شعورك الذي بلغ حدا عظيما من السوء وقت كتابتك، وليس ذلك لأني اليوم غير خليق بالعطف عليك، ولا لأني أقل مودة لك، ولكن لأني آمل مصدقا أن لهفتك على صحتها وحياتها، وحزنك بسبب ذلك؛ سيؤديان إلى القضاء أبدا على تلك الشكوك المخيفة التي ساورتك أحيانا عن صدق حبك لها ... وإذا قدر لهذه الشكوك أن تمحى إلى الأبد - وكأني أشعر بوحي يوحى إلي أن الله قد أرسل إليك غمك الحالي وهو مرضها، لهذا الغرض - فليس من شيء يحل محل تلك الشكوك ليحدث ما أحدثت من تعس عظيم ... ويك يا سبيد! إن لم تكن تحبها وقدر عليها الموت، فمع أنك لا تتمنى موتها فأنت مستسلم للأمر لا محالة، ولقد تكون الآن هذه المسألة - أعني مسألة حبك إياها - بحيث لم تعد موضع إشكال لديك؛ وعلى هذا فإن إلحاحي في الإشارة إليها تهجم جاف على شعورك، وإذا كان هذا هو الحال فإني واثق منك بالصفح؛ فإنك لتعلم الجحيم التي عانيت منها وتعلم ما أكن من شفقة منها عليك. أنا الآن أحسن حالا مما كنت قبل، ولقد رأيت سارا مرة واحدة وبدت لي شديدة المرح، ولهذا فإني لم أفاتحها في شيء مما تحدثنا به ...»
وتزوج سبيد فكتب إليه أبراهام يقول: «غداة وصول هذا إليك ستكون قد أصبحت زوجا لفني منذ أيام، وإنك لتعلم أن رغبتي في مودتك أبدية، وأني لن أقف إذا استطعت عمل شيء، بيد أنك منذ الآن ستكون في موضع لم أجرب مثله من قبل، وعلى ذلك فإذا طلبت نصحي فإني أخشى أن يصحب الخطأ ما أنصح به، وإني لأرجو مخلصا أن لا تجد نفسك بعد اليوم محتاجا إلى راحة تأتيك من خارج نطاقك الحالي، ولكن إذا أخطأ ظني وخاب رجائي وصحب سرورك العظيم شيء من الألم أحيانا، فدعني أستحثك - كما فعلت دائما - أن تذكر وأنت في قلب الغاشية، بل وأنت في عذاب منها، أنك سوف تخرج منها بعد قليل. إني مقتنع الآن أنك تحبها في حماسة كأعظم ما في طاقتك من الحب؛ ولذلك أميل إلى التفكير أنه يحتمل أن تخونك أعصابك لحظة في بعض الأحيان، ولكنك إذا نجحت مرة واحدة في ضبطها الآن، فإن هذا العناء سيذهب إلى غير رجعة، وإذا كنت قد أثبت هدوءك أثناء الاحتفال أو ملكت نفسك فلم تزعج أحدا من الحاضرين، فقد كتبت لك النجاة بلا ريب، وبعد شهرين أو ثلاثة على أقصى تقدير ستجد نفسك أسعد الرجال.»
وجاءت كتب صاحبه إليه ولا يزال فيها ذكر الوساوس والأوهام، فرد عليه أبراهام يقول: «ليس لدي شك الآن أن سوء حظنا الخاص بنا إنما هو أننا نحلم أحلام الجنة، تلك الأحلام التي تفوق إلى حد بعيد كل ما عسى أن تحققه هذه الأرض، ومهما بلغ من بعدك عما تحلم به، فليس ثمة امرأة تفعل ما يحققه لك إلا ذات العينين الدعجاوين زوجك فني. ولو أنك نظرت إليها بخيالي لكان من السخف عندك أن يفكر امرؤ لحظة في عدم هنائه معها.»
وذكره زواج صاحبه وما يسمع من هناءته بما هو فيه من وحدة وشقاء، ترى ذلك واضحا في قوله: «إن لم يكن لنا أصدقاء فلن يكون لنا سرور، وإذا اتفق لنا بعض الأصدقاء فإنا لا نأمن أن نفقدهم ونذوق الألم مضاعفا بهذا الفقد. لقد كان أملي أنك وزوجك تقيمان هنا وليس لي حق في أن ألح بهذا عليك ...»
ورد على كتاب سعيد جاءه من صاحبه فقال: «إنك تعلم أني مخلص إذ أقول لك إن ما بعثه كتابك في نفسي من سرور كان ولا يزال فوق كل تعبير، فأما ما يتصل بشئون ضيعتك فلن تجدني أسايرك في فهمه، فلست أملك ضيعة ولا أتوقع أن أمتلك يوما ما؛ وعلى هذا فلم أدرس هذا الموضوع دراسة تجعل لي فيه لذة، وحسبي أن أقول إني فرح برضائك عنه وسرورك به ... ولكن فيما يتصل بذلك الموضوع الآخر الذي أوليه أعظم اهتمام في السراء والضراء على سواء، فاعلم أني لم أستطع قط أن أنتزع فيه من نفسي عطفي عليك، ولست أستطيع التعبير عن مبلغ ما يهزني من سرور إذ أسمعك تقول إنك أكثر سعادة مما توقعت في أي وقت، ولست أزعم - وأنا بك عليم - أن ما توقعت لم يكن فيه غلو في بعض الأحيان على الأقل، فإذا كانت الحقيقة تفوق ذلك جميعا فإني أقول كفاني ذلك يا إلهي ... شكرا لك. ولست أعدو الحقيقة إذا قلت لك إن اللحظة التي قرأت فيها كتابك الأخير قد أورثتني من السرور أكثر مما أورثني كل ما استمتعت به منذ ذلك اليوم الذي جرى فيه القدر، وهو أول شهر يناير سنة 1941؛ فمنذ ذلك اليوم وأنا يخيل إلي أنه ينبغي أن أكون جد سعيد لولا تلك الفكرة التي تلازمني؛ وهي أن هناك نفسا غير سعيدة عملت أنا على أن تكون كذلك. إن تلك الفكرة ما تزال توبق روحي، ولا معدى لي عن أن ألوم نفسي حتى على مجرد الأمل في السعادة في حين أنها على ما هي عليه. لقد صحبت جماعة كبيرة في عربات سكة الحديد إلى جاكسونفيل يوم الإثنين الماضي، وسمعت أنها ذكرت أنها استمتعت بنزهتها غاية الاستمتاع، وإني أحمد الله على ذلك ...»
وإن المرء ليحس في هذه الكتب شبها عظيما بما ذكر جوت شاعر الألمان على لسان فرتر في كتابه الخالد آلام فرتر، تلمس في هذه الكتب عظيم الوفاء من صاحب لصاحبه، كما نجد نفسا حائرة مضطربة وقلبا يأكله الهم ويشرف به على اليأس، كما نقع بين آونة وآونة على أدلة الوجدان الحي والعاطفة النبيلة، تجد مثالا قويا لذلك في قوله هذا: «وصلت إلى سالمة البنفسجة الحلوة التي أرسلتها طي كتابك، ولكنها بلغت من الجفاف والهصر بحيث استحالت رمادا عند أول محاولة مني لأن ألمسها، بيد أن ما اعتصره الهصر منها من عصير قد ترك أثرا في ورقة الكتاب؛ ولذلك سأحتفظ بهذه الورقة وأعزها من أجل التي أرسلت البنفسجة بإشارة منها.»
ماري أوين زوجة لنكولن.
زوج
أقام لنكولن أول الأمر وعروسه الطموح في حجرتين في نزل كانا يدفعان أجرا لسكناهما فيهما أربعة دولارات كل أسبوع، وعظم ذلك على ماري، فشكت إلى زوجها ولم يمض على زواجهما غير قليل، وألقى إليها المعاذير مشيرا إلى ضيق رزقه وإلى ما لا يزال يقتضيه الوفاء من ديونه. ثم بسط الله له الرزق بعض البسط، فانتقل الزوجان إلى بيت صغير استطاعا أن يؤديا في غير عسر أجر إقامتهما فيه.
وأخذت ماري تدير شئون بيتها الجديد وترعى أمره، وقد اتخذت لنفسها سلطة ربة الدار فيما هان أو عظم من الأمور، وكانت تأخذ زوجها بألوان من الشدة والعنف إذ تدعوه إلى كيت وتصرفه عن كيت، ورائدها في ذلك النظام أدق ما يكون النظام.
وكان يصل بها الغضب أحيانا إلى هياج شديد، وذلك حين كانت ترى من بعلها أنه يأبى إلا أن يرسل نفسه على سجيتها؛ فكثيرا ما لا يعبأ بما تصالحت عليه أذواق الناس من أوضاع وتقاليد يلزمونها وهم جلوس إلى مائدة الطعام أو وهم سامرون في المثوى، وهل كان يستطيع ابن الغابة أن يتكلف ما لم يجر في طبعه؟
ولكن امرأته لا تفتأ تلفته إلى أخطائه وتوجهه إلى العناية بهندمة ملابسه وتحثه على النظام، وتكرر له أن ذلك خليق به وله اليوم بين الناس مكانته، وهي تريده على أن يحمل الأمر على الجد، وهو يجاريها ليخفف من حدتها، ثم لا يستطيع بعد ذلك أن يغير شيئا من طبعه. وكان إذا اشتد بها الغضب يلاطفها ويضاحكها ليصرف عنها غيظها، فإن عجز عن ذلك غادر المنزل فمشي ساعة أو بعض ساعة.
وحق لزوجه أحيانا أن تغضب منه؛ فهو سخي اليد وإن كان فقيرا، وهي لا تريد أن تبسط يدها إلا بقدر ما تستطيع، وهو يسلك في بيته سلوكا يدل على عدم المبالاة بأوضاع المجتمع؛ يلقى الناس في هيئة تنم على عدم الاكتراث؛ فثيابه متهدلة وشعره أشعث وعبارته ساذجة، وكلما دق الباب أحد جرى إليه ليفتح ولم يترك ذلك للخدم! وهو يستلقي على ظهره أحيانا، ويتمدد على البساط وفي يده وصلته بأبراهام وماري، وذلك أن أبراهام - وهو الذي ملأ النفوس إعجابا بدماثته ورقة حاشيته - قد قبل غير متردد مبارزة رجل من الديمقراطيين على أعين الناس، وكان لهذه المبارزة سبب يحمل المرء على التعجب؛ إذ كان مصدره شخص مثل لنكولن، وبيان ذلك أن أبراهام نشر على لسان أرملة ثلاثة كتب في صحيفة صديقه الذي أصلح بينه وبين خطيبته، وكلها نقد لاذع لذلك الديمقراطي المدل بنفسه الكثير الذهاب بمقدرته المالية، وكان الناس يومئذ يشكون من سوء سياسة الديمقراطيين فيما هو متصل بالمال، وجاءت كتب أبراهام التي نحلها امرأة من خياله لاذعة قاطعة، فأثارت فضول الناس وضحكهم وإعجابهم، ووردت على الصحيفة ردود كثيرة بغير توقيع قوامها المجانة والمعابثة. وكان لماري في هذه المسألة نصيب؛ فقد كتبت للصحيفة تقترح زواج ذلك الديمقراطي من تلك الأرملة، ونظمت قصيدة فكهة ساخرة أرفقتها باقتراحها لتكون قصيدة الزفاف!
وثارت ثائرة ذلك الديمقراطي، وراح في المدينة يرغي ويزبد ويتهدد ويتوعد، وأتى صاحب الصحفية فعنفه وتهدده بالانتقام إلا أن يعلمه بأصحاب هذه المجانة، وبخاصة الاقتراح والقصيدة، وعرض صاحب الصحيفة الأمر على لنكولن، وذكر له أن ذلك الديمقراطي قد جعل بينه وبينه أجلا، فإن أبى ذكر الأسماء ومضى الأجل فهو مبارزه، فقال له أبراهام في غير وناء إني آخذ الأمر على عاتقي، وأنت في حل أن تذكر أن أبراهام لنكولن هو صاحب الكتب والاقتراح والقصيدة جميعا، وتم ذلك فدعاه الديمقراطي إلى المبارزة، وشاع نبأ ذلك في الناس فاحتشدوا ليشهدوا ما يكون بينهما.
وكان لأبراهام أن يختار نوع السلاح الذي يبارز به؛ إذ كان هو الذي وقع عليه التحدي، فاختار أن يكون النزال بسيف من السيوف الطويلة العريضة التي يحملها أشداء الفرسان، وكان لأبراهام من طوله وفتوته وقوة ساعديه ما يضمن له الفوز على منازله القصير. قال رجل شهد ذلك الموقف: «كان على وجهه أمارات الجد، وما علمت عنه قبل أنه لبث مدة كهذه المدة لم يرسل نكتة من نكاته ... لقد تناول أحد السيفين واستله من غمده، ولمس بإبهامه شفرته يتبين مبلغ مضائه على نحو ما يفعل الحلاق إذ يقيس مضاء الموسى، ومد قامته إلى غاية ما تمتد، كما مد ذراعيه الطويلتين إلى أعلى ولم يزد والناس يتطلعون على أن ضرب بسيفه غصنا فوق رأسه فألقى به بعيدا، ولم يكن بيننا أحد غيره يستطيع أن يبلغ قريبا مما بلغه بطول ذراعيه، وكاد هزؤ منظر ذلك الرجل الطويل الذراع يفلت مني ضحكة، وهو يتأهب لمحاربة من لو مشى نحوه لمر تحت إبطه، وبعد أن قطع لنكولن الغصن رد سيفه إلى غمده متنهدا وجلس، ولمحت في عينيه ذلك البريق الذي يلتمع فيهما عادة إذا تهيأ لأن يقص حكاية ...»
وتدخل بعض الناس فأصلحوا بينهما، ورجع الخصمان جنبا إلى جنب إلى حيث انطلق كل منهما إلى داره.
وظل قبول لنكولن هذا النزال أمرا يتحاشى أصدقاؤه الإشارة إليه، وكان أبراهام كلما تذكره تندى جبينه وارتسم الخجل على محياه؛ فهو وإن كان نازل آرمسترنج من قبل، فإنه لم يفعل ذلك وهو محام أو عضو في مجلس الولاية، وإنما كان فتى في حانوت، ولم يعتد على آرمسترنج وإنما توقح عليه هذا وعصبته، ولم يصل الأمر بينه وبين آرمسترنج إلى سفك الدماء والقتل كما كان عسيا أن يقع بينه وبين ذلك الديمقراطي، وما نجد علة لفعلته هذه إلا أنفته من الفرار من المسئولية، فمن خلقه أنه لا يتنصل من أمر تقع عليه تبعته مهما كانت عاقبته.
على أن هذه المبارزة قد أدت إلى ما لم يقع له في حسبان؛ فإن ماري تذيع في الناس أنه إنما أقدم عليها دفاعا عنها! وما تدري أكانت تؤمن بذلك أم أنها ادعته في مهارة لتكسب به قلب أبراهام، ولعل ذلك هو أرجح الأمرين؛ فهي واسعة الحيلة لا تفوتها في السعي إلى غرضها وسيلة.
وازداد اتصالهما بعد ذلك حتى عادت حياتهما إلى ما كانت عليه قبل فراره، ولكنه لم يشعر يوما أنه يحبها، قال صديق له اسمه هرندن: «لقد علم أنه لا يحبها ولكنه وعد بزواجها.»
ونراه يكتب إلى صاحبه سبيد قائلا: «أود أن أسألك سؤالا؛ أأنت الآن في شعورك وقياسك فرح بزواجك؟ إنه سؤال لم تقدم به غيري لكان تهجما لا يغتفر، ولكني أعلم أنك ستغفره لي، أرجو منك أن تجيب في غير إبطاء؛ فإني أتحرق شوقا إلى إجابتك.»
وأخذ أبراهام يحاول أن يكون في عيني ماري كأحسن ما يكون، حتى لقد مالت به محاولته إلى الفخر وهو الذي يكرهه بطبعه، فنراه يعد قائمة بما نال من أصوات الناخبين في أدوار انتخابه، ويفرح إذ تقع عليها عينا ماري فهو يريد أن يريها مكانته، ويفسر لنا ذلك سببا من أسباب تردده في صلته بهذه الفتاة؛ فإنه كان يستخذي من نشأته وطبقته.
وقضي الأمر فربط بينهما رباط الزواج وهو في الثالثة والثلاثين من عمره وهي في الرابعة والعشرين، وقال الذين شهدوا العروسين حين عقد قرانهما إنهم رأوا لنكولن وعلى وجهه إذ ذاك سحابة من الكآبة والوجوم، كانت تنقشع حينا على ما يتكلف من بشاشة ثم تعود فتنعقد!
ولكنه استنشى نسيم الراحة حين ذهب تردده وتهيبه، وأخذت تتزايل هواجسه، ويتضاءل هوانه على نفسه، وتعود إليه ثقته بتلك النفس سيرتها الأولى.
نضج
كان لنكولن المحامي قد عمل مع شريك آخر غير ستيوارت اسمه لوجان قبل زواجه بثلاث سنوات؛ إذ انتخب ستيوارت عضوا في الكونجرس، وترك سبرنجفيلد، وكان لوجان من أكبر المحامين شهرة في المدينة، وكان له من النظام والدقة والإلمام بأوضاع المهنة وتقاليدها ما يعوز الكثير منه صاحبه لنكولن. وكانت له الرياسة في العمل، ورضي لنكولن بمكانه منه ولم يجد في ذلك غضاضة؛ إذ لم يكن منه بد، وأخذ يتعلم عنه ويكتسب منه المران والخبرة وهو قانع بنصيبه من الأجر وإن كان زميله لا يعدل بينه وبينه، على أنه كان لا يميل في جوره كل الميل. ولم يكن ثمة ما يحول دون استمرارهما معا لولا أن فرقت بينهما ريح السياسة؛ إذ كان كل منهما ينتمي إلى حزب يخالف الآخر.
واتخذ أبراهام زميلا آخر، وكان هذا الزميل الجديد شابا دونه في العمر بعشرة أعوام اسمه هرندن، وكان هرندن من أشد الناس إعجابا بأبراهام، يحرص كل الحرص على مودته والإجلال له، فتوثقت عرى الصداقة بينهما، وكانت لأبراهام الرياسة هذه المرة، وعظمت ثقة كل من الرجلين بصاحبه. وكان أصغرهما موفور الحظ من النشاط والذكاء، كما كان يدين بمذهب صاحبه في السياسة، وفيما هو أهم عند لنكولن من السياسة؛ أعني مسألة العبيد.
واتضحت للناس آيات نضجه في المحاماة، كما وقفوا منه على ما لم يعرف به أحد قبله في المدينة؛ فهو بسيط في كل شيء، يجعل الأمر فيما يعمل أمر ذمة وأمانة قبل أن يجعله أمر قانون ومغالبة، وكثيرا ما كان ينظر إلى ما يتنازع فيه الناس بما يوحي به قلبه لا بما يصوره عقله. وكان يرد كل شيء إلى أصله، ولا يتردد أن يفصل بين الخصمين بما لو فكر فيه غيره لعده من ضروب الخيال والوهم، وإن من الناس من يرد ذلك إلى ما أشيع من شذوذه.
جاءه ذات مرة رجل يطلب إليه أن يتكفل برد مبلغ من المال عند خصم له، فأنصت إليه لنكولن حتى استفرغ كل ما عنده، وقال: «إني أستطيع أن أربح قضيتك وأعيد إليك تلك الدولارات الستمائة، ولكني إن فعلت ذلك جلبت الشقاء إلى أسرة أمينة! ولن أستطيع أن أتبين سبيلي إلى ذلك، ولهذا أحس في نفسي الميل أن أنصرف عن قضيتك وأجرك، ولكني أنصح لك بما لا أسألك عليه أجرا، اذهب إلى بيتك وفكر في طريقة شريفة تربح بها ستمائة دولار.»
بهذا وأمثاله اكتسب أيب الأمين محبة الناس، فما منهم إلا من يكبره، وكثيرا ما كان الناس يجيئونه ليحكموه فيما شجر بينهم من خلاف، وكان كل من الخصمين يعلن أنه يرتضي ما يقضي به سلفا، وسرعان ما يحسم النزاع بينهم كأنهم منه حيال قاض لا محام، وهو لا يسألهم على ذلك أجرا وحسبه من الأجر منزلته في قلوبهم.
وكان يرفع الكلفة بينه وبين الناس، يلقاه من لا يعرفه من قبل فكأنه منه حيال صديق قديم، وكان لا يستحي أن يسأل هرندن ويستفهمه إن أشكل عليه أمر أو التوت عليه فكرة، وكل همه أن يصل إلى الصواب، وما يهمه أن يتعلم من تابعه في العمل.
ولم يكن يعنى كثيرا بالناحية المالية في عمله، وإنما ترك أمر ذلك إلى هرندن، فإذا جاءه صاحبه بما رزقهما الله به من مال، عده وقسمه نصفين ونادى صاحبه «هذا نصفك»، كل ذلك بغير أن يكتب شيئا من حساب كما تجري به العادة بين الناس.
وكان يراه الناس في المحكمة يدس أوراقه ومذكراته في جيبه حتى لينبعج وينتفخ، فلم يتخذ كاتبا أو يحمل حقيبة أوراق كما يفعل المحامون، ويرونه يدس بعض الأوراق الهامة في قبعته كأنه يجعل منها حقيبة وقبعة معا! عاتبه أحد خلانه لأنه لم يرد على كتاب أرسله إليه فقال: «ما فعلت ذلك إلا لأمرين؛ أولهما: ما شغلني من عمل في محكمة الولايات المتحدة، وثانيهما: أني وضعت كتابك في قبعتي، وقد اشتريت قبعة جديدة وألقيت بالقديمة بعيدا، فبعد عني كتابك زمنا ...»
ولم يختلف في أمانته اثنان، ولهذا كانت أكثر معاملاته بين الناس بغير كتابة، فكلمته صك ووعده وثيقة، وإن الناس ليضعون عنده أوراقهم ويأتمنونه على أسرارهم وبعضهم لبعض خصوم!
ولم يصرف أبراهام عن الجد ما كان فيه من ورطة؛ فنراه في غير مجال المحاماة يكتب المقالات ويلقي المحاضرات، ومن أشهر محاضراته قبيل زواجه تلك التي أذاعها عن شاربي الخمر، ففيها أعلن - وهو الذي لم يشربها قط - وجوب التسامح تلقاء من يشرب، وحمل على الذين يضطهدونهم من رجال الدين وغيرهم زاعمين أنهم خير منهم وهم في الحق لا يفضلون عليهم بعدم شربهم، إن لم يكونوا أقل منهم في كثير من الأمور ... وعزي إليه أنه كتب كذلك مقالة يحمل فيها على الأرثوذكسية ويحبذ العقل والحكمة والاهتداء بهديهما فيما يعرض للمرء من شئون الحياة. وأغضب بهذه المقالة كثيرين ممن يغلون في دينهم ويجعلونه قوام كل شيء، وكان مما كتبه في السياسة مقالة بين فيها تزايد القوة السياسية لأهل الجنوب، وأوضح ما رآه لذلك من علل ... وأحس الناس في كل ما كتب دلائل النضج وبشائر النبوغ.
ولم يقل نضجه في السياسة عن نضجه في المحاماة والخطابة والكتابة؛ فهو اليوم من رءوس الهوج في سبرنجفيلد، ولكن شهرته السياسية لم تعد المدينة التي يعمل فيها والمقاطعة التي ينتخب عنها لمجلس الولاية وهي مقاطعة سنجمون.
وقدر له أن يرى في سنة 1842 فان بيرن الرئيس الديمقراطي الذي مني بالفشل حين تقدم للانتخاب مرة ثانية سنة 1840 ضد مرشح الهوج هارسون. أقعدت رادة الجو هذا الرئيس السابق في نزل بمدينة قريبة، وطلب بعض الديمقراطيين من لنكولن أن يصحبهم لزيارته لتسليته بعض الوقت فقبل، وأخذ أبراهام يقص من قصصه ويصف وصف الخبير الحياة البرية في الحدود الغربية، ويضحك سامعيه بملحه وطرفه ونكاته العذبة جانبا من الليل، وقد أشار فان بيرن فيما بعد إلى استمتاعه بما فاض من تلك الأحاديث، قال: «إن كانت ثمة من عيب صحبها فهو أني ظللت أحس أذى من جنبي مدة أسبوعين من فرط ما ضحكت.» وقال أبراهام: «ليس بعجيب من أصحاب فان بيرن أن يدعوه الساحر الصغير؛ فهو كفيل أن يسحر الطير عن شجره.»
وعادت السياسية تتطلب منه جهدا غير يسير؛ فهو اليوم يتحفز ليخطو خطوة، وكان له من امرأته حافز ومن طموحه حافز، تطلع إلى مقعد في الكونجرس، وما كان ليستبعد الشقة أو يستعظم الفكرة وقد قضى ثمانية أعوام في مجلس الولاية.
ولكن رجال حزبه رشحوا رجلا غيره فاختير ذلك الرجل، وكان على أبراهام أن ينتظر عامين، وانتظر على مضض ثم ظن بعد ذلك أنه فائز بالترشيح، ولكن قدم عليه غيره مرة ثانية، وحق عليه أن يعود إلى انتظاره، وقد آلمه وكدره أن يأخذ الطريق عليه هكذا رجلان من حزبه.
وآلمه فوق ذلك ألما شديدا فشل هنري كليي في انتخابات سنة 1844؛ فقد وقع هذا الفشل حيث يرجى الفوز، فكان سوء وقعه في نفوس الهوج مضاعفا، وكان من أكثرهم تأسفا وتألما لذلك لنكولن؛ إذ كان شديد الإعجاب بهنري عظيم الولاء له، كما أنه لم يأل جهدا في الدعوة له ضد منافسه الديمقراطي.
زواج
بقى أبراهام عاما ونصف عام وموقفه من ماري عين موقفه عقب ذلك الفرار الشائن وعاد إليه من هموم نفسه، وقد تزوج صاحبه، ما شغلته عنه قصة ذلك الصاحب زمنا. وبات ضائق النفس بوساوسه، وزاده تبرما بحاله وإنكارا لشأنه ما كان يسمعه من صاحبه عن سعادته الجديدة بين يدي زوجه؛ لذلك لم يكن عجبا أن يلتمس السكينة ثانية عند سارا، تلك الفتاة الناهد التي حاول من قبل أن يصل حبالها بحباله فلم يستطع.
بيد أنه كان يحس بينه وبين نفسه أن يتجه إلى ماري؛ فهو لا يستطيع أن يبتعد بخياله عنها، وقد رأينا ما ذكره في كتاب من كتبه إلى صاحبه، وكيف يقف بينه وبين سعادته تذكره أنه هو الذي أشقاها.
وكان لنكولن يمني نفسه أنه على الرغم مما حدث يتأتى لهما أن يتصلا إن هما أرادا، وكانت هي من جانبها تحس أن ما كان منه من فرار وهجران لم يصل، على شناعته، إلى حد القطيعة.
ودبر صحفي من صحابتهما وزوجه أن يدعواهما إلى مأدبة على غير علم كل منهما بدعوة الآخر إليها، وتم ذلك فالتقيا وسلما وقد ربكتهما المفاجأة، ثم تضاحكوا جميعا بعد أن ذهبت الدهشة، وكان هذا اللقاء الخطوة الأولى نحو التئام الصدع واجتماع الشمل؛ إذ أصبح أبراهام يرى حقا عليه أن يصلح ما أفسد وأن يضع حدا لما هو فيه من شقاء وضيق.
وكادت صلته بماري تعود سيرتها الأولى، فكانا يلتقيان ويتساقطان أعذب الأحاديث، وكانت تجمعهما أحيانا حلقة من الصحاب تدير ماري الحديث بينهم فيها بما أوتيت من ذكاء ولباقة، ويضحك أبراهام سامعيه بنكاته وقصصه وأمثلته وما منهم إلا من يستزيده منها.
وحدث أثناء ذلك أمر عجيب في ذاته على قدر غير قليل من الأهمية في نتيجته كتاب لا يصرف وجهه عنه، وهو يجلس على الأرض فيلاعب ابنه كأنه طفل مثله، وهو لا يتورع أن يفعل ما يفعله جار قريب منهما إسكاف فيحلب البقرة مثله في الحديقة، ويحمل اللبن في وعائه بين يديه ويهرول به إلى الدار على أعين السابلة والجيران، كأنما يحن إلى الكوخ وإلى حياة الأحراج، وامرأته تصرخ في وجهه تذكره أنه لا يليق به ما يفعل؛ فهو اليوم محام مشهور المقام وسياسي مرموق المكانة، فما يزيد على أن ينظر إليها نظرة أشبه بتعجب الأبله ثم ينطلق صامتا.
وأعظم ما يغيظ ماري منه حديثه بين الضيوف عن الغابة وعن حياته الأولى وما لاقى من شقاء العيش في طفولته وشرح شبابه، وهو كلما اتجه هذا الاتجاه تدفق حتى ما يظن أحد أنه سيسكت.
ويضايقها منه صراحته فإنه يقص على أصحابه وزوجات أصحابه ما لا يسمح العرف بذكره من شئون حياته، فإذا انصرف هؤلاء عكر عليه تأنيب زوجته إياه ما بثه حديثهم في نفسه من سرور.
وتنظر إليه أحيانا وهو يغادر الدار إلى المحكمة فتقول في غضب: «كم أنبهك لتترك هذه القبعة القديمة وقد اشتريت لك غيرها؟» فلا يفعل أكثر من أن يخلعها ويمسحها بطرف ردنه ثم يضعها على رأسه، وينطلق تشيعه نظراتها الغاضبة، فإذا أخفت هذه القبعة القديمة ذات يوم ومدت إليه يدها بالجديدة حذرته أن يدس فيها الأوراق، ولكنه يعود من عمله وفيها من الورق ما يملأ حقيبة صغيرة!
وتحب ماري أن يكون في بيتها خدم من السود وهو لا يطيق ذلك ويصر على عناده مخالفا إياها فيما تريد. قالت ذات مرة لصديق عقب مشادة بينها وبين خادمتها: «إني لعلى يقين من شيء واحد وهو أنه إذا جرى القدر على مستر لنكولن فلن تجدني روحه أبدا أعيش خارج حدود ولاية من ولايات الرق.»
ولكن زوجه على الرغم من ذلك جميعا تحبه وتكبره، وكأنها تبصر من وراء الغيب ما يخبؤه له الغد من جاه ومجد، كتب لنكولن إلى صديقه سبيد بعد زواجه بعام ينبئه أنه رضي النفس قرير العين، ويعتذر إليه من عدم زيارته إياه بقصر ذات يده وشواغل عيشه، ثم يبشره أنه قد صار له غلام.
وكانت ماري تغار أشد الغيرة كلما اتجه بالحديث إلى إحدى زوجات أصحابه، وبلغت بها الغيرة أنها كانت تحاول أن تباعد شيئا ما بينه وبين أصحابه أنفسهم، فلا تحب أن يقضي بينهم من الوقت إلا ما تسمح به ليكون لها أكثر فراغه، وكان هذا يؤذيه ويضايقه ولكنه لم يكن يملك غير الإذعان.
فإذا خرج وإياها للرياضة أو لزيارة أسرة صديقة حرصت ماري على أن يظهر بمظهر يليق به، فأتت له بثياب أصلحتها المكواة، وحرصت على نظافة قميصه ودقة رباط عنقه وخلو قبعته من الورق وبراءتها من التراب، وعنيت بالتماع حذائه وحسن مشيته، ويطيعها زوجها إلى ما تريد، وتتمنى لو اتبع ذلك النظام كل يوم، ولكنها لا تلبث حتى تراه وقد عاد أشبه بفلاح يتنكر في زي أهل المدينة؛ فحلته متهدلة متكسرة، وسرواله الطويل منتفخ عند ركبتيه، ورباط عنقه يدور حول ذلك العنق حيثما اتفق، وقد أرخى ذراعيه إلى جنبيه، ونظر إلى محدثه وشفتاه مضمومتان ضمة من ذاق خلا أو ارتشف رشفة من دواء مر، وكأنه إذ يحدق فيه بعينيه الواسعتين، ويستمع إليه يفكر في شيء آخر لا يمت إلى الحديث بصلة!
وكثيرا ما كان يرى لنكولن بعد زواجه مضطجعا إلى ظهر كرسي أسنده إلى الحائط، وقد مد رجليه على كرسي آخر، وألقى برأسه إلى خلف، وأمال قبعته حتى تغطي جبينه وعينيه، ولبث ويداه مشتبكتان حول ركبتيه يتفكر مليا، لا يستطيع أحد أن يقطع عليه تيار فكره، ويخرج من هذا بمقالة يكتبها أو بشعر يترنم به.
وكانت مسحة الهم التي عرف بها محياه منذ صغره ترتسم على ذلك المحيا كلما خلا إلى نفسه أو جلس صامتا بين صحبه، ولا تنقشع إلا إذا قص قصة أو تندر بحادثة، ثم يعود إلى وجهه ما يساوره من هم لا يتبين على اليقين مبعثه، فماذا كان يكربه وقد تزوج وذهبت حيرته؟ أكان مرد همه إلى ما يكرب كل نفس كبيرة من إحساس صاحبها أنه قد يعيش مجهولا غير مفهوم؟ لقد ذكر شيئا من هذا حين كتب إلى صاحبه يقول إن مرد شقائهما إلى أنهما يحلمان على هذه الأرض أحلام الفردوس.
بيض وسود
بينما كان يتطلع أبراهام إلى مقعد في الكونجرس، وقد أوشك أن يفرغ ما أجبر عليه من انتظار، كانت البلاد كلها في شغل بما جد من تلك المشكلة التي نجمت من وجود العبيد فيها منذ عهد الاستعمار، ولقد كان لهذه المشكلة خطر أي خطر في سياسة البلاد؛ ولهذا وجب أن نأتي بحديثها على سرده.
جيء بهؤلاء السود من أفريقيا منذ عهد الاستعمار ليكونوا زراعا وخدما لمن نزل بأرض أمريكا من الأوروبيين، وعلى الأخص في الولايات الجنوبية؛ حيث تصلح التربة للزراعة في مساحات واسعة مكشوفة، وحيث يقسو المناخ على المستعمرين فيحد نشاطهم ويقلل عزمهم، وأخذ يزداد عدد هؤلاء السود في الجنوب منذ نشط المستعمرون في زراعة القطن والطباق في بطاح مترامية خصبة، واشتدت الحاجة إلى العبيد بعد ذلك إبان الانقلاب الصناعي؛ إذ ازداد طلب القطن تبعا لسرعة حلجه وغزله.
أما في الشمال فكان هؤلاء السود خدما في المنازل وقل استخدامهم في الزراعة؛ إذ كانت الزراعة هناك محصورة في مساحات ضيقة، ولم يزرع إلا ما يطلب الناس من حب وبقل، وعني الناس بالصناعة في الشمال، وكان الصناع من البيض؛ لأنهم أجدر أن يمهروا فيها.
على هذا الوضع كان اقتناء العبيد في الجنوب أمرا لا محيص عنه، بينما كان في الشمال أمرا قليل الأهمية، ولكن الظروف ما لبثت أن جعلت من وجود العبيد مشكلة معقدة بين أهل الجنوب وأهل الشمال.
كان أمرا طبيعيا أن يتألم أبطال الاستقلال الذين أعلنوا حقوق الإنسان من وجود العبيد بينهم؛ فإن من ينفر من استعباد غيره إياه خليق أن يكره أن يستعبد هو غيره، وكان جفرسون من أكثر الزعماء بغضا لوجود العبيد؛ إذ لا يتفق وجودهم وما كان يدعو إليه من ديمقراطية وحرية.
ولكن المسألة بدت من أول الأمر أعسر من أن تجرى فيها دعوة أساطين الحرية؛ فقد جعل أهل الجنوب أصابعهم في آذانهم عند كل دعوة يدعوها المتأثمون من حال السود وهم إخوانهم في الإنسانية، ولم يكن ذلك لأن الديمقراطية كانت أحب إلى قلوب الشماليين منها إلى قلوب أهل الجنوب؛ فإن هؤلاء الشماليين كانوا رحماء بينهم أشداء على السود، وكانوا إذا رغبوا في التخلص منهم باعوهم لمن يقتني العبيد في الجنوب، وإنما كان الأمر عند الجنوبيين أمر حياة أو موت، فالقضاء على العبيد عندهم معناه ثورة اجتماعية تقضي على مصالحهم الاقتصادية وتصيبهم بنكبة لا يبرءون منها إلا في أجيال.
من أجل ذلك وقف زعماء الاستقلال وأبطال حقوق الإنسان حيارى تلقاء هذا الأمر وإن باتوا له كارهين، على أنه لم تنته حرب الاستقلال حتى قضي على هذا الوضع في جميع الجهات الكائنة وراء حدود ماري لاند الشمالية. وفي سنة 1877 نجح جفرسون في حمل المؤتمر العام على إصدار قرار يحرم وجود العبيد في الجهات الواقعة في الشمال الغربي لنهر الأهايو.
وظل أهل الجنوب متمسكين باقتناء السود فما تزحزحهم الدعوات قيد شعرة، وما هم بمنكري دعوة الداعين من ناحيتها الإنسانية، بل إنهم يوافقون على أن الرق أمر بغيض، وأنه لا يتفق ومبادئ الديمقراطية والعدالة والحرية، ولكنهم لا يستطيعون من هذا الشر خلاصا، وليس في وسعهم إلا أن يأملوا أن يخلصوا في المستقبل منه.
ولما بدأ واضعو دستور الاتحاد عملهم وجدوا أنفسهم أمام عقبة كئود، سببها وجود هؤلاء السود، وكان عليهم أن يتخطوا هذه العقبة سراعا وإلا ذهبت جهودهم هباء، وكانت هذه العقبة هي كيفية التمثيل في مجلس النواب، فإنهم اتفقوا على أن يكون لكل ولاية أعضاء بنسبة عدد سكانها، وعلى ذلك فهل يعد البيض وحدهم أم يعد البيض والسود جميعا؟ وإذا عد البيض والسود عظم نفوذ أهل الجنوب في الاتحاد، ولن يرضى بذلك أهل الشمال، بينما يذهب نصف هذا النفوذ إذا عد البيض وحدهم؛ فإن السود كانوا يساوونهم عددا أو يزيدون عنهم في بعض الجهات.
وهداهم تفكيرهم إلى حل رضي الطرفان عنه، فليعد البيض جميعا وثلاثة أخماس السود؛ وهكذا يصبح اقتناء العبيد أمرا مشروعا بما تضمن الدستور !
على أنهم لم يتخطوا هذه العقبة حتى كانوا تلقاء عقبة أخرى؛ فإذا كان الدستور قد أقر وجود العبيد في ولاية وحرمه في أخرى، فماذا يكون حال من يفر من العبيد إلى ولاية حرة؟ أيحرره الفرار أم يجبر على العودة إلى حيث كان؟ فإنه إن كان الرأي الأول ازداد الفرار وسهلت الحرية، وفي ذلك الضرر كل الضرر على أهل الجنوب؛ ولهذا كان لا مناص من الأخذ على مضض بثاني الرأيين، فنص عنه كما يأتي: «إن من يفر من الأشخاص المكلفين بالخدمة أو العمل إلى ولاية أخرى يجبرون على العودة إلى من كانت تلك الخدمة أو ذلك العمل حقا لهم.»
وثمة عقبة ثالثة اعترضت لهم؛ وتلك هي تجارة الرقيق وجلب هؤلاء السود من أفريقيا؛ فقد رأوا أنهم إن قضوا عليها توا أغضبوا الجنوبيين فاستحالت الوحدة؛ ولذلك لم يكن بد من أن يجعلوا لذلك أجلا مقداره عشرون عاما، في نهايته يقضى على هذه التجارة التي كان يكرهها أكثر المستنيرين، ولما انتهى هذا الأجل سنة 1808 ذهبت تلك التجارة إلى غير عودة.
ويدلنا على ما أحس واضعو الدستور في أنفسهم من جرح أنهم لم يسموا السود عبيدا، بل إنهم لم يستعملوا لفظ العبيد قط وأحلوا محله تلك العبارة وهي «الأشخاص المكلفون بالخدمة والعمل»، وقد أرادوا أن يبرأ دستورهم من هذا اللفظ آملين أن ينقرض الاسترقاق، وليس في دستورهم ذكرى لهذه الوصمة، ولشد ما تحرج جفرسون وتأثم، تجد ذلك واضحا في قوله: «إني لترتعد فرائصي من أجل وطني كلما ذكرت ما يتصف الله به من عدل.»
ولم يأت عام 1820 حتى تجدد النزاع بين الشمال والجنوب، وأحس الناس نذر الشر وبوادر العاصفة التي تزلزل الاتحاد وتجعله أثرا بعد عين، وقد هال جفرسون ما يتهدد الاتحاد من خوف، فوصف هذا النزاع بأنه الناقوس المنذر بالحريق يجلجل صوته في ظلام الليل. وكان سبب هذا النزاع رغبة أهل الجنوب في قبول مقاطعة مسوري ولاية في الاتحاد كباقي الولايات، وقد أصبحت بازدياد عدد سكانها أهلا لذلك، ولكنها من أصقاع الاسترقاق وانضمامها إلى الولايات يزيد ولايات الرق واحدة وهذه بغير انضمامها يساوي عددها عدد الولايات الحرة، ولما كان الدستور يقضي أن يمثل كل ولاية عضوان في مجلس الشيوخ مهما كثر عدد سكانها، فإن الجنوبيين يكسبون عضوين بانضمام مسوري إلى الاتحاد.
ورفض أهل الشمال قبول مسوري ولاية، وعظم الشقاق حتى ظن أنه يستعصي على العلاج، ولكن هنري كليي تمكن من اقتراح سكنت به رياح العاصفة؛ وذلك أن تقبل مسوري ولاية وتقبل مين أيضا، وهي من الجهات الحرة، فتعود الكفتان إلى التعادل، على أن يراعى في المستقبل أنه إذا أراد ضم جهة من الجهات الغربية إلى الاتحاد ابتداء من خط الطول الذي درجته 30، فكل ما يقع منها جنوبي خط العرض الذي درجته 36 فهو من ولايات الرق، وما يقع شمالي ذلك فهو من الولايات الحرة.
وقبلت البلاد هذا الاقتراح وكان ذلك في رياسة منرو، وقضى هذا الحل الذي عرف باسم اتفاق مسوري على نذر التفكك، وهيأ للبلاد عهدا من الوئام والمودة بين الشمال والجنوب.
وظلت البلاد هادئة لا يعكر صفوها موضوع العبيد حتى بدت نذر الشر مرة أخرى على نحو ما حدث عند محاولة ضم مسوري إلى الاتحاد؛ ففي هذه المرة حدث أن رغب أهل الجنوب في ضم تكساس إليهم، وكانت تكساس خاضعة للمكسيك فأغروها بإعلان استقلالها وإعادة اقتناء العبيد، وكان المكسيك قد حرموا ذلك عليها وقضوا على الاسترقاق فيها، وأطاع أهل تكساس ولبثت مستقلة عن المكسيك بضع سنين ثم طلبت حكومتها - وكانت تتألف من مهاجرين من الولايات المتحدة - الانضمام إلى تلك الولايات، وضمتها إليها الولايات المتحدة سنة 1845، وبذلك زاد عدد ولايات العبيد عن عدد الولايات الحرة بواحدة.
واحتجت المكسيك وأعلنت تمسكها بحقها، ثم اشتعلت نار الحرب بينها وبين الولايات المتحدة، وقد ندد هنري كليي وكثير من أعوانه بهذا العمل وعدوه حروجا على مبادئ الشرف، وخافوا من سوء عاقبته على نزاهة الولايات وحسن سمعتها، وكان موقف كليي سنة 1844 وآراؤه التي تقضي بعدم ضم تكساس إلى الولايات المتحدة سببا في فشله في معركة الرياسة وفوز بولك الديمقراطي عليه، وكان بولك ينادي بوجوب ضم تكساس مهما كانت نتائج هذا العمل.
ولكن أهل الجنوب رحبوا بالحرب حين جرت بها الشائعات، وفرحوا بها حين اشتعلت نارها، وكانوا خليقين أن يفرحوا إذ منوا أنفسهم بالنصر، وكان النصر عندهم سبيلا إلى الاستيلاء على مساحات واسعة من الأرض الخاضعة للمكسيك، فضلا عن تكساس؛ فيتاح لهم بذلك أن يملئوا بمهاجريهم هذه الأرض، فتكون لهم فيها ولايات يزيد بها بأسهم ويتوطد في الاتحاد نفوذهم؛ فإنهم يخشون من تكاثر الناس في الشمال والأرض مبسوطة أمامهم هناك إذا اتجهوا غربا، فما أيسر أن تقوم فيها ولايات شمالية جديدة في سنوات ليست بالكثيرة.
وغضب أهل الشمال من ضم تكساس إلى الاتحاد، ولكن كثيرين منهم يكتمون غيظهم، وقد أرضاهم انتصار الولايات المتحدة على المكسيك وامتداد رفعة أراضيها نتيجة لهذا النصر، كما أنهم ما لبثوا أن رأوا الجنوبيين قد منوا بخيبة فيما علقوا عليه آمالهم من نشأة ولايات جنوبية جديدة؛ فإنه لم يزدد السكان في بقعة من الأملاك الجديدة زيادة تؤهلهم للانضمام إلى الاتحاد، اللهم إلا في كليفورنيا؛ وكان ذلك بسبب العثور فجأة على الذهب فيها وهجرة الناس بسبب ذلك إليها أفواجا، وحتى هذه لم تجدهم شيئا؛ فقد كان نصفها شمالي خط اتفاق مسوري، ونصفها الآخر جنوبيه، وقد رفضت أن تأخذ بنظام العبيد في نصفيها جميعا.
ولن يلبث أن يدب الخلاف بين الشماليين والجنوبيين بسبب كليفورنيا؛ لأن الشماليين كانوا يؤيدون أهل كليفورنيا في رفضهم الرق، بينما كان يطمع الجنوبيون في جعلها ولاية من ولايات الرقيق، وسينهض من عزلته هنري كليي واضع اتفاق مسوري قبل هذا الخلاف الجديد بنحو ثلاثين عاما، ليضع اتفاقا جديدا حرصا على الاتحاد أن يفصم عراه هذا الخلاف.
كفاح ونجاح
في شهر مايو سنة 1846 سنحت الفرصة بعد تلك الأعوام الأربعة التي قضاها أبراهام ينتظر أن يرشح للكونجرس، ولكنها أوشكت أن تفلت منه هذه المرة كذلك، لولا مهارة زوجه ولباقتها في التأثير على رجال الحزب حتى ظفر آخر الأمر بالترشيح، ولما تم له ذلك راح يخوض المعركة الانتخابية وأمله في الفوز عظيم.
وعجب الناس أن رأوا لنكولن يومئذ يعمل على كسب التأييد بوسائل منظمة، وهو الذي اعتاد من قبل أن يعمل حسبما تملي عليه المواقف في غير تدبير أو ترتيب. عجب الناس أن رأوه يرسم الخطط ويسدد السهام فلا تخطئ مرماها، وكأنه كان في تلك المعركة الانتخابية قائدا في معركة حربية، يدبر الهجوم ويعد وسائل الدفاع وهو بصير بالموقف عليم بما يدور حوله، يميز باللمحة الخاطفة ما يأخذ مما يدع، ويتبين مهما اشتد من حوله ضجيج الموقف الطريق المؤدية إلى النصر.
كتب إلى أصدقائه في نواحي المقاطعة يطلب إليهم العون ويسألهم أن يدلوه على مؤيديه ليكتب إليهم شاكرا، وعلى مخالفيه ليبتغي إلى إقناعهم الوسيلة، وأخذ يتحدث في الأندية ويخطب في الجماعات لا يدع فرصة ولا يتخلف عن موعد، وله من نباهة الذكر وطيب السمعة ومن محبة الناس لشخصه ما ينزله على الرحب أينما حل، وهل كان الناس يعرفون في خلقه غميزة، أو يجهلون من خلاله ما يحببه إلى قلوبهم؟!
ولكن للسياسة حكمها ولها غرائبها، وكم تأتي رياحها الهوج على ما بين الناس من مودة! وكم تترك ألاعيبها وأضاليلها الناس في عماية وغواية! وكم تصدهم الشهوات في معتركها عن الحق وهم يعلمون! أجل كم يظهر في السياسة الباطل على الحق! وكم يدلس الرأي بالهوى! وكم يضيع ما تواضع الناس عليه من أصول الفضائل فيما تزين لهم من أوهام وأحلام، وما توحي إليهم من غرور العيش ومن مطامع الحياة!
هذا لنكولن راح يطعنه منافسه في عقيدته، وكان واعظا دينيا، فيلجأ إلى الدين يتخذ منه سلاحا فيكيد به لخصمه كيدا أليما، ولا يرعوي عن غيه بوازع من خلق أو بدافع من حياء، كان من رجال الحزب الديمقراطي واسمه كارتريت، وكان متدفق النشاط متوثب الحيوية ذرب اللسان، ونشط يستعدي على أبراهام مواهبه ويسلط عليه لسانه في غير إعياء أو سأم، يتهمه بالزيغ والإلحاد، مشيرا إلى ما أذاعه لنكولن من قبل عما يجب من تسامح نحو شاربي الخمر، عائبا على بعض رجال الدين أن ينقموا على الناس فجورهم وينكروا عليهم فواحشهم، ولا ينهضوا لنصحهم أو يعملوا على خلاصهم مما هم فيه.
وآلم لنكولن أكبر الألم أن يعمد منافسه إلى هذا السلاح وإن لم يخش على نفسه منه. ذهب مرة إلى حيث انضم إلى جماعة يستمعون إلى منافسه وهو يتلو عليهم حديثا دينيا، وبعد هنيهة قال كارتريت: «ليقف كل من يريد أن يحيا حياة جديدة وأن يسلم إلى الله قلبه وأن يذهب إلى الجنة»، ثم أردف قائلا: «ليقف من لا يريد أن يذهب إلى الجحيم»، ووقف الناس جميعا إلا أبراهام، فاتجه الرجل إليه وقال: «هل لي أن أسألك يا مستر لنكولن إلى أين أنت ذاهب؟» ونهض لنكولن فأجاب قائلا: «إني جئت هنا لكي أستمع في احترام ولم أكن أعلم أن الأخ كارتريت سيعمل على إفرادي على هذا النحو، وإني أومن أنه يجب أن تطرق المسائل الدينية بما هي جديرة به من التوقير، يسألني الأخ كارتريت في غير التواء إلى أين أنا ذاهب، وأنا أجيبه في غير التواء كذلك: إني ذاهب إلى الكونجرس! ...» وجلس لنكولن وضحكات الإعجاب تنبعث من جوانب المكان، وقد كسب عددا من المؤيدين له المحبين لشخصه.
وعلم أبراهام أن خصومه يرمونه، فيما يرمونه به من الأباطيل، بأنه أرستقراطي لا يحفل رجاء العامة ولا يستجيب لهم دعاء، ودليلهم على ذلك زواجه من ماري، فدفع تلك التهمة عن نفسه بإشارته إلى حياته الأولى يوم كان «غريبا لم يلق حظا من التعليم، معدما يعمل في قارب نظير أجر لا يتجاوز بضع دولارات كل شهر».
وفي تلك السنة كانت الحرب بين الولايات المتحدة والمكسيك دائرة الرحى؛ بسبب مشكلة تكساس، وكان بولك الديمقراطي الذي غلب هنري كليي سنة 1844 على الرياسة يشرف على شئون القتال، وقد وعد قومه نصرا عاجلا وخيرا كثيرا.
وقد تأثرت سمعة الهوج كثيرا بما كان من أمر زعميهم كليي تلقاء مسألة تكساس وضمها إلى الاتحاد، وما كان من معارضته في إعلان الحرب على المكسيك وتنديده بمسلك الديمقراطي بولك؛ ولهذا كان يلقى أبراهام عنتا شديدا من الديمقراطيين؛ إذ يذكرونه بمسلك حزبه وزعيم حزبه ومسلكه هو حين نشط لتأييد هنري كليي قبل ذلك بعامين، وعارض أشد المعارضة في ضم تكساس إلى الاتحاد، بينما يرونه اليوم يحث مواطنيه على التطوع في صفوف المقاتلين، وكانوا يعيرونه بهذا التناقض بين يومه وأمسه، ولو كان غيره في مكانه لأخذته حيرة من أمره، ولكنه أعلن في شجاعة وفصاحة أنه إذا تهدد الخطر البلاد فلا عبرة بأسباب الحرب ولا بما ترمي إليه، وإنما يجب أن يكون هم كل أمريكي أن يجنب بلاده ما يحدق بها من خطر، وأن يعمل على النصر بكل ما في وسعه، ثم إن العقلاء من الناس رأوا أن أبراهام بدعوته الناس إلى الحرب يقيم الدليل على أنه لا يتعصب لرأي له سلف لمجرد أنه اعتنقه يوما ما، وأنه ببصيرته يرى أوجه الرأي جميعا في كل ما يعرض له.
وانتهت المعركة بفوزه فوزا لم يتح مثله لأحد قبله من الهوج في إلينوى، وكان يومئذ في السابعة والثلاثين من عمره، وكان الحزب قد أعطاه مائتي دولار لينفق منها فيما تتطلب المعركة الانتخابية من أوجه الإنفاق، ولكنه بعد الفوز يرد المبلغ ولم ينقص منه إلا ثلاثة أرباع دولار، قائلا إنه لم تكن به حاجة إلى النقود؛ حيث كان ينتقل من جهة إلى جهة على ظهر حصانه، وأنه كان ينزل ضيفا على أصحابه حيث تعد له الاجتماعات.
وفرحت ماري بالنصر فرحا شديدا، وحق لها أن تفرح، وإنها لتحس أنها تخطو خطوة نحو هدفها، وهل كان ذلك الهدف إلا كرسي الرياسة يتربع عليه زوجها؟ وإنها ما تفتأ تستحثه وتشد أزره وتحذره أن ينصرف عن وجهته.
وكان هذا النجاح كفيلا أن يبث في قلب أبراهام من الغبطة والابتهاج بقدر ما بثه فيه طول الانتظار من الضجر والملل، ولكنه كتب إلى صديقه سبيد ينبئه أنه لم يهتز كثيرا للنجاح كما خيل إليه من قبل أنه فاعل إذا ظفر، وتلك حال من حالاته العجيبة، بل هي حال من حالات النفس تدعو إلى العجب! فكثيرا ما يتمنى المرء ما ليس في يده حتى لتكون سعادته كلها مجتمعة في أن ينال ذلك الذي يتمناه، فإذا اقترب من بغيته أو شبه له أنه مقترب منها راح يطفر من الفرح، ورأى في كل شيء حوله معاني الحبور والغبطة! أما إذا بعد عن ضالته أو خيل إليه أنه مبتعد عنها، ضاقت في وجهه الدنيا، وبات من همه كأنه في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج، حتى إذا قدر له آخر الأمر أن يرسو على الشاطئ وأن ينال مبتغاه، وقف حياله وقفة من لم يجد شيئا، وفتح عينيه على الحقيقة كمن يفيق من حلم ذابت ألوانه وتلاشت أطيافه وتبددت رؤاه، ذلك هو غرور الحياة أو تلك هي أحلامها، ولكن ما قيمة الحياة في جملتها إن هي خلت من هاتيك الأحلام؟!
عضو في الكونجرس
سافر أبراهام وزوجته سفرا طويلا إلى وشنطون في شهر نوفمبر سنة 1847، وكانت ماري راضية عن زوجها متفاخرة به مطمئنة إلى مستقبله، وفي هذه العاصمة شهدت ماري البيت الأبيض، وأطقلت العنان لخيالها وأمانيها، ورأت زوجة الرئيس بولك تقدم إليها السيدات احترامهن إذ تلقاهن في مثل وقار الملكة المتوجة وعظمتها، وإن لم يعل التاج رأسها. وتطلعت ماري إلى المستقبل وهي تطيل النظر إلى مسز بولك في إعجاب وإجلال.
وفي شهر ديسمبر اتخذ أبراهام مقعدة في الكونجرس عضوا في مجلس النواب عن إلينوى، وهو اليوم غيره حين دخل سبرنجفيلد قبل ذلك بعشرة أعوام على جواده الهزيل؛ هو اليوم مهندم الملابس؛ إذ تعنى زوجه بهذا عناية شديدة، وقد ذهبت عن محياه نظرات السذاجة التي جعلت ذلك الإنجليزي بالأمس يصفه بأنه أشبه بفلاح يشهد البهلوان لأول مرة، وهو اليوم ملم بالسياسة ومسائلها وبمشكلة العبيد وتاريخها، وهو لا يخشى تهيبا ولا وجلا إذا تحدث أو تهيأ للخطابة، وكانت زوجه تراه في مقعده من شرفة الزائرين، وفي وجهها ابتسامة الرضى عنه والزهو بجلوسه حيث يجلس، وإن كانت لتغضب أحيانا حين تسمع من يتساءل عن ذلك الشخص النحيف الطويل، فيكون الجواب أنه محام من الغرب ، وتسأل نفسها متى يذكرونه باسمه، أو متى يعرف كما يعرف غيره من رجال السياسة فلا يتساءل أحد عنه، وإنها لترى دوجلاس وهو في الكونجرس عضو في مجلس الشيوخ أعلى درجة من بعلها، وتجده معروفا لا يتساءل الناس عنه فتتألم وتعبس، ولكن هاجسا يهمس في نفسها بمستقبل أبراهام فيسري عنها غضبها.
وسرعان ما أنس الناس بأبراهام، فهم إذا جلسوا إليه يشعرون أن روحا قوية تسري إليهم منه، وكذلك تطل عليهم نفسه في فيض من قصصه ونوادره، فكثيرا ما يخرج من صمته مبتدئا في بشر بهذه العبارة «يذكرني ذلك بحكاية ...»، ثم يتلو حكايته أو يحكي نادرته في عذوبة روح وسراوة طبع وجمال أداء، حتى ما يدع أحدا إلا وهو شديد الإعجاب به عظيم الانجذاب إليه، سواء من كان مثله من الأصقاع الغربية أو من كان من أصقاع الشرق.
وكانت مسألة الحرب المكسيكية تشغل الأذهان يومئذ، وقد أرسل الرئيس بولك رسائل إلى الكونجرس يبرر فيها أسباب إعلان هذه الحرب ويبرر طولها، ويعبر عن أمله في أن تنتهي قريبا بالنصر.
ونظر رجال الكونجرس، فإذا بذلك المحامي النحيف الطويل القادم من الغرب يخطو خطوة جريئة تلفت إليه جميع الأعضاء كما تلفت إليه الصحافة، ذلك أنه قدم أسئلة إلى الرئيس عن هذه الحرب، ثم أعلن رأيه في خطبة قوية احتفل لها، وفيها وجه اللوم في صراحة وجرأة إلى رئيس الاتحاد أن خرج بهذه الحرب على الدستور كما فرط بها في أصول الخلق والعدالة.
تساءل أبراهام: هل كانت الحرب حرب عدوان أم حرب دفاع؟ وهل كانت الولايات المتحدة هي البادئة بها أم المكسيك؟ ثم قال: «ليجب الرئيس بوقائع لا بجدل، وليذكر الرئيس أنه يجلس حيث جلس وشنطون، وإذا ذكر ذلك فليجب كما كان يجيب وشنطون، وكما أنه لا يليق بأمة أن تهرب من الحق والله لا يسمح أن يهرب منه، كذلك فليتجنب الرئيس الهرب والمراوغة، فإذا استطاع أن يقيم الدليل على أن الأرض التي سالت عليها الدماء أول ما سالت هي أرضنا، فإني أوافقه على ما يسوق من مبررات، ولكنه إذا عجز عن ذلك أو أحجم عن البرهان كنت خليقا أن آخذ على اليقين ما يهجس في نفس مما هو أكبر من الظن، فأرى أنه يشعر بخطيئته، وأن الدم الذي سال في تلك الحرب هو كدم هابيل يستصرخ عليه السماء، فقد ورط الدولتين في حرب ووثق من تجنبه الاستجواب بأن حسر الأبصار في سنا العظمة الحربية، قوس الغمام الجذاب الذي يعلو في رذاذ من الدم أو عين الثعبان التي تسحر لتهلك، ثم أثخن في الأرض وسيق مرحلة بعد مرحلة، حتى إذا فاته التوفيق فيما قدر لإخضاع المكسيك من سهولة، وجد نفسه بحيث لا يعلم أين يكون مما هو بسبيله ...»
ولكن الولايات المتحدة كانت ظافرة، فكانت الحرب لذلك أمرا مستساغا في نظر أكثر الناس؛ لأنها سوف تضم إلى الولايات أرضا جديدة، ومن أجل ذلك لم ينل أبراهام بخطابه من الرئيس، ولم يكن هناك ما يجبر الرئيس على أن يرد على تلك الأسئلة، فكان الفشل نصيب هذا الخطاب من الناحية السياسية، ولكن أبراهام قد جعل الأمر في هجومه أمر عدالة وخلق لا أمر سياسة؛ فإنه يندد بالعدوان على المكسيك ويستنكر ذلك الفعل، وبخاصة من دولة تدعو إلى الحرية وتباهى العالم بأنها أرض العدالة، ولئن كان موقفه ضعيفا إذا أردنا السياسة، فإنه كان عظيم القوة بما أظهر للملأ من اهتمام بروح العدالة في أمر طرب له أكثرهم غافلين عما به من جور.
عضو في الكونجرس.
ومما جاء في ذلك الخطاب قوله: «إن من حق أية أمة في أية جهة إذا أحست في نفسها الميل واستشعرت القوة أن تثور في وجه الحكومة القائمة وتعصف بها، ثم تقيم بعد ذلك من الحكومات ما يكون أكثر ملاءمة لها.» وإنا لنراه بذلك يجعل للثورات صفة شرعية، ثم إنه يقرر مبدأ سلطة الأمة ويجعلها أساس كل سلطة.
تلك هي خطبة لنكولن التي افتتح بها عمله في الكونجرس. تراها - وإن لم تصب موضع العطف من نفوس الأعضاء - قد رفعت ذكر ذلك المحامي في قلوب رجال السياسة في وشنطون، وعلم من لم يكن يعلم منهم مقدار ما أوتي ابن الأحراج من قوة المبادهة ومتانة الحجة وفصاحة اللسان، ومبلغ ما رزق من قوة الجنان ويقظة الوجدان، ورأوا فيه - إلى جانب القصاص الذي لا يبارى - الخطيب الذي يعرف كيف يسحر السامعين، وإن كانوا عن آرائه معرضين.
وكم للتاريخ من مواقف تدعو إلى العجب! فهذا لنكولن اليوم في الكونجرس يقرر حق الشعوب في اختيار ما ترضى من الحكومات ويندد بحرب العدوان، ولسوف يتخذ أهل الجنوب في غد من أقواله حجة عليه، يوم يهمون بالانسلاخ من الاتحاد والرئيس لنكولن يأبى عليهم ما يبتغون، ويعمد إلى الحرب فيصليهم نارها، ويكرههم على البقاء في الاتحاد وهم صاغرون!
ولم يقع خطابه موقعا حسنا في نفوس الهوج من أهل سبرنجفيلد، وإن كانوا يرون فيه ما ألفوه منه من توخي العدالة في كل أمر، كتب إليه صديقه وشريكه هرندن يخبره بذلك، ويعلن إليه أنه كذلك يخالفه فيما فعل. ورد أبراهام على كتابه يوضح وجهة نظره، ويذكر أنه ينكر من الحرب بعدها عن العدالة ومخالفتها روح الدستور، ويؤكد لصاحبه أنه لو كان في مكانه لفعل مثل فعله.
ولقد ساء لنكولن وبلغ من نفسه ما كان من سوء وقع خطابه في سبرنجفيلد على النحو الذي ذكره هرندن، فإنه ما كان يتوقع غير الإعجاب بذلك الخطاب الذي عني به عناية شديدة، وإنه ليجعل للخطابة أهمية كبرى يومئذ ويراها عدة السياسي الطموح، تلمس ذلك في كتاب أرسله إلى هرندن قال فيه: «إنما أمسك قلمي لأقول إن مستر ستيفن المنتمي إلى جورجيا، وهو رجل ضئيل الجرم نحيف شاحب الوجه أنهكه السل له صوت مثل صوت لوجان، قد فرغ لتوه من أحسن خطاب استغرق ساعة سمعته في حياتي، وإن عيني الذابلتين الجافتين لا تزالان مملوءتين بالدمع، ولو أنه كتبه ونشره لرأى الناس نسخا عديدة منه.»
ولم يعف أبراهام من استياء رجال حزبه في سبرنجفيلد أنه وافق على الاعتماد المالي الذي قرره الكونجرس لمتابعة الحرب، وكانت حجة أبراهام في ذلك أنه لا مناص من اعتماد المال وقد تورطت الولايات المتحدة في الحرب فعلا، أما مشروعية هذه الحرب أو دستوريتها فهذا ما لا يؤمن به وما لا يزال يدافع عن رأيه فيه. جاء في كتاب له إلى هرندن قوله:
إن احتياط الدستور في جعل السلطة في شئون الحرب إلى الكونجرس قد أملته كما أعتقد الأسباب الآتية: اعتاد الملوك أن يجروا دولهم إلى الحرب ويجلبوا إليها الفاقة مدعين في أغلب الأحيان - إن لم يكن دائما - أن خير أممهم هو رائدهم، وقد فطن رجال المؤتمر الذي وضع الدستور إلى أن هذا في استبداد الملوك أكثر أعمالهم طغيانا، وعلى ذلك فقد صمموا أن يجعلوا الدستور بحيث لا يسمح لفرد أن يملك من السلطة ما يفرض به علينا هذا الطغيان، ولكن وجهة نظرك تقضي على هذا كله وتضع رئيسنا في موضع هؤلاء الملوك.
وكتب إليه هرندن بعد أيام كتابا يصور فيه مبلغ ما وصل إليه استياء أصدقائه في سبرنجفيلد من مسلكه بصدد حرب المكسيك، وكان لنكولن قد اشترك في مؤتمر عقد في فيلادلفيا لترشيح رئيس جديد للاتحاد، وفيه أيد أبراهام ترشيح ذكرى تيلور بطل حرب المكسيك، وانصرف كما انصرف معظم الهوج عن تأييد هنري كليي.
وكان إعجاب لنكولن بهنري قد ذهب فجأة حين زار أبراهام مدينة لكسنجتن عام 1846؛ ليستمع إلى خطاب أعلنت الصحف أن هنري سيلقيه هناك، فلما رآه أبراهام وسمعه - وكان قد سافر هذا السفر الطويل ليسمعه - لم يعجبه كخطيب، لا في سمته ولا في صوته، كما أنه رآه متكبرا يتعصب لآرائه ويظن أن الناس دونه في الفهم والسياسة، وقد لمس لنكولن فيه هذه الخصال عن قرب؛ إذ دعاه هنري فنزل ضيفا عليه أياما، كان هنري يتسامى فيها على كل شخص معجب به، كأنما يشعر أن من حقه أن يكون موضع الإعجاب وأن يشمخ بأنفه كما يشاء.
وكان أبراهام عائدا من إحدى جولاته الانتخابية، التي أخذ يدعو فيها لتيلور ضد كاس مرشح الديمقراطيين وهو ممتلئ حماسة وأملا ونشاطا، شأنه في كل دعوة يدعو إليها، فوجد كتاب صاحبه هرندن فقرأه ورد عليه قائلا:
إن الأمل والثقة عظيمان في الميدان الانتخابي كله، وكنت أتوقع أن تصلح إلينوى موقفها وتنشط في هذا المضمار، ولك أن تحكم كيف كان ممزقا للقلب أن أجيء إلى حجرتي فأجد كتابك المثبط وأقرأه.» على أن اليأس لم يتطرق إلى قلبه الكبير؛ فقد استرسل في كتابه يقول: «والآن فيما يتصل بالشباب ينبغي ألا تنتظروا حتى يدفعكم إلى الأمام من هم أكبر منكم، وهل تظن مثلا أني كنت أحظى بالاعتبار لو أني لبثت حتى تصيدني ودفعني إلى الأمام الشيوخ، اجتمعوا أيها الشباب وألفوا ناديا حيثما اتفق ورتبوا اجتماعات لكم وخطبا، اقبلوا في صفوفكم كل من تستطيعون قبوله، اجمعوا الفتيان المتوثبين ذوي الجرأة أينما سرتم سواء من بلغ سن الرشيد منهم ومن كان دونها قليلا، واجعلوا كلا منهم يلعب الدور الذي يحسن لعبه أكثر من سواه؛ فبعضهم يخطب وبعضهم يغني وكلهم يهتفون، واجعلوا اجتماعاتكم في الأماسي، فسيذهب الكبار من الرجال والنساء ليستمعوا إلى ما تقولون، وبذلك لا تكون الفائدة من هذه الاجتماعات مجرد الدعوة لانتخاب «زاك العجوز» فحسب، بل إنها تكون مع ذلك قضاء ممتعا للوقت وسبيلا إلى إصلاح مواهب من يشهدونها.
ولكن هرندن كان متشائما يحس ضعف حزب الهوج ويتوقع قرب فنائه، وقد نشرت بعض الصحف المحلية آراءه هذه فقص منها قصاصات، وأرسلها إلى لنكولن فجاءه منه هذا الكتاب الذي تجد فيه أمثلة واضحة لأخلاق لنكولن وسجاياه قال:
وصلني كتابك المصحوب بقصاصات الصحف ليلة أمس، وإن موضوع هذا الكتاب ليؤلمني أشد الألم، ولا يسعني إلا أن أفكر أن هناك خطأ فيما تذهب إليه من الدوافع التي تحرك الشيوخ، وإني أزعم أني الآن أحد الشيوخ، وإني أعلن معتمدا على صدقي الذي أثق من حسن رأيك فيه، أنه ما من شيء يرضيني أكثر من أن أعلم أنك ومن معك من أصدقائي الشباب تأخذون قسطكم في الصراع القائم، وتعملون ما يحببكم إلى الناس، ويرفعكم إلى منزلة أسمى مما استطعت أن أناله من إعجابكم، ولن أستطيع أن أتصور أن غيري يرى ما لا أرى، وإن لم أكن قادرا على أن أبرهن على هذا الزعم الأخير، بيد أني كنت حدثا مرة وإني لواثق من أنه لم يلق بي أحد إلى الوراء إلقاء غير كريم. إن سبيل الشاب إلى الرفعة هو أن يصلح حاله بكل ما استطاع من وسيلة دون أن يظن الظنون بأحد أنه يريد أن يعوق سبيله. ودعني أؤكد لك أن سوء الظن والحقد لم يعينا امرءا قط على أمره في أي موقف من المواقف. أجل، ربما وجدت محاولات غير كريمة لتحول بين شاب وبين طموحه ولتبقيه حيث هو، وإن هذه المحاولات لتنتج إذا سمح لعقله أن يتنكب مجراه الحقيقي ليأسى مفكرا فيما يراد به من ضرر. انظر، ألم يؤذ مثل هذا الشعور كل شخص وقع فيه ممن عرفت؟ وبعد، فأنا على يقين من أنك لن تظن شيئا في هذا الذي ذكرت إلا الصداقة الأكيدة ... إني أريد أن أنقذك من خطأ قاتل، لقد نشأت شابا عاملا دائبا، وإنك تعلم عن معظم المسائل أكثر مما كنت أعلم وأنا في سنك، ولا يمكن أن تفشل في أمر تضطلع به إلا إذا وجهت عقلك وجهة غير صحيحة، وإني أفضلك بعض الفضل في تجارب الحياة؛ لأني أكبر منك فحسب، وإن هذا هو الذي يميل بي إلى أن أنصح لك.
ولعل في هذا الكتاب ما يثير شبهة حول علاقة هرندن بصاحبه، الذي عرفنا قبلا أنه كان من أكبر المتحمسين له المعجبين به، ولعل هرندن قد ذكر شيئا في كتابه عن الشيوخ والشباب واختلاف نزعاتهم وميولهم ورغبة الشيوخ في السيطرة والاستبداد بالأمور، ولكن الأمر فيما يظهر لم يعد أنه خلاف في الرأي، وعجيب أن يزعم لنكولن أنه شيخ وهو لم يتجاوز التاسعة والثلاثين إلا قليلا.
ولم يقتصر الأمر على الخلاف بين أبراهام وصاحبه في شئون السياسة، ولا بينه وبين أصدقائه من الهوج بسبب حملته على الرئيس في حرب رحب بها الشعب كله؛ بل لقد شاع عنه أنه يضن بوساطته وشفاعته على ناخبيه، والواقع أنه لم يكن يقبل أن يتوسط أو يتشفع إلا بالحق، وقد فشا في الناس ما أشيع عنه بسبب حادثة، تتلخص في أنه رفض أن يكتب خطابا طلب منه أحد ناخبيه أن يزكيه به، فأطلق الرجل لسانه فيه بما لا يليق، فكتب إليه لنكولن يقول:
لقد شعرت بأعظم العطف عليك منذ أن تعارفنا، وافترضت أنك تبادلني عطفا بعطف، وفي الصيف الماضي تحت تأثير ظروف ذكرتها لك تألمت إذ لم أستطع أن أجيبك إلى تزكية أردتها، وعلمت بعد ذلك بقليل، علما يحملني على التصديق، أنك أسرفت في الجهر بالطعن علي، ولقد جرح شعوري بالضرورة بسبب ذلك، وعندما تسلمت كتابك الأخير خطر لي هذا السؤال: أتراك تطلب عوني في الوقت الذي تؤذيني فيه، أم أنه قد أسيء تصوير ما حدث منك؟! فإن كانت الأولى فما كان لي أن أرد عليك، وإن كانت الثانية وجب علي ذلك، ولهذا بقيت زمنا معلقا بين الوضعين، وإني الآن أرسل طي هذا الكتاب الذي يمكنك أن تستخدمه إذا رأيته مناسبا.
وكان هرندن يتألم مما يشاع عن صاحبه في سبرنجفيلد، ويدافع عنه ما وسعه الدفاع، وإن كان يتمنى لو لم يلق أبراهام ذلك الخطاب، الذي يحار كيف يدافع معه عن صاحبه وإنه ليخالفه مع المخالفين فيما ذهب إليه.
على أن لنكولن لم يكن بالرجل الذي يتقيد بأهواء غيره فيما يأخذ أو يدع، وإنما كان رائده الحق والعدل، لا يهمه أغضب الناس أم أرضاهم. ولقد كان له في هذا الدور الأول لانعقاد الكونجرس خطبتان غير تلك الخطبة، أعلن فيهما لنكولن آراءه مجردة من كل اعتبار إلا العدالة كما يفهمها ويؤمن بها؛ تكلم في الخطبة الأولى بمجلس النواب عما يتصل بتركيز السلطة، وما نجم عنه من عدم المساواة بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات في بعض المسائل، فضرب لهم المثل بالأسطول فقال: «إن الأسطول مثلا هو أعم هذه الأشياء فائدة، ومع ذلك فإن له مزية خاصة لكل من شارلستون وبالتيمور وفيلادلفيا ونيويورك وبوستن أكثر مما له بالنسبة إلى داخلية إلينوى، وعلى ذلك فثمة فوائد محلية في مسائل عامة، وعكس ذلك صحيح أيضا؛ فلن يكون شيء في محليته بحيث لا ينطوي على بعض الفائدة العامة، والذي يستخرج من هذا كله أنه إذا رفضت الأمة أن تنهض بإصلاحات تتوفر فيها الناحية العامة لأنها تنطوي على بعض الفائدة المحلية، فكذلك تستطيع الولاية للسبب نفسه أن ترفض بعض الإصلاحات المحلية لأنها ربما تؤدي إلى فائدة عامة. تستطيع الولاية أن تقول للأمة: إذا لم تعملي شيئا من أجلي فلن أعمل من أجلك شيئا، وهكذا يتضح أنه إذا كان هذا الجدل الدائر حول عدم المساواة كافيا لوجهة نظر في جانب، فإنه كذلك كاف في كل جانب وفيه القضاء على الإصلاحات نهائيا، ولكن لنفرض مع كل هذا أن هناك قدرا من عدم المساواة، حقا إن عدم المساواة لا يمكن أن يقبل في ذاته، ولكن هل يرفض كل أمر صالح لأنه يتصل صلة لا انفصام لها به؟ إذا كان ذلك فيجب أن نلغي الحكومة كلها، إن هذا البناء - أعني مقر الحكم - قد أقيم بنفقة عامة من أجل الصالح العام، ولكن هل يشك أحد أن هناك فائدة محلية تعود من وجوده على أصحاب الأملاك ورجال الأعمال من ساكني وشنطون؟ فهل نزيله من أجل هذا السبب؟
إني لا أريد التعريض بالرئيس الحالي إذا قلت إنها حالات قليلة تلك التي يتمثل فيها الغنم للقلة والغرم للكثرة - أعني عدم المساواة - بشكل أشد مما يتمثل في منصب الرياسة كما يراه البعض. إن عاملا أمينا يحفر في مناجم الفحم نظير سبعين سنتيا في اليوم، بينما يحفر الرئيس العقليات نظير سبعين دولارا، وواضح أن الفحم أكبر قيمة مما تساويه العقليات، ومع ذلك فما أشنع ما نرى بين الثمنين من عدم المساواة! فهل يقترح الرئيس لهذا السبب إلغاء الرياسة؟! إنه لن يفعل ذلك وينبغي ألا يفعله، إن القاعدة الصحيحة للبت في قبول أمر أو رفضه ليست أن نتساءل هل ثمت شر في هذا الأمر، ولكن هي أن نتساءل هل فيه من الشر أكثر مما فيه من خير؛ فالأشياء التي هي خير كلها أو شر كلها قليلة، ويكاد كل شيء - وبخاصة سياسة الحكومة - يكون مزيجا لا ينفصل من الخير والشر؛ وعلى ذلك فإن المفاضلة بينهما - وهي أحسن ما نتبع للحكم على الأشياء - أمر مطلوب أبدا.»
هذا هو منطق لنكولن القائم على الفهم والإنصاف، تراه لا يتمسك برأي لمجرد المغالبة واللجاج، وترى روح العدالة تسيطر على ما يعرض من الآراء لا يستطيع أن يلتوي أو يداجي أو يتعامى عن الحق، وله مع ذلك حصافة وقوة حجة وقريحة طيعة تواتيه بالأمثلة وتعينه خير عون على المقارنة والقياس والحكم، فما يسع سامعه إلا الاقتناع.
وتجلت في الخطبة الثانية مقدرته العظيمة على التهكم وزلزلة مجادلية بالفكاهة القوية في غير تبذل أو ترخص أو مجانة في القول، وتعد هذه الخطبة من أبلغ وأقوى ما نطق به لنكولن، لا في الكونجرس فحسب، بل في حياته السياسية كلها، وبها برهن أنه قادر أن ينال من خصمه بسلاح السخرية بقدر ما ينال منه بالمنطق القويم والتحليل السليم والسياق البارع.
عاب أحد الديمقراطيين من أنصار كاس مرشح الحزب الديمقراطي على الهوج تناقضهم؛ إذ ينكر بعضهم حرب المكسيك ثم يؤيدون ترشيح تيلور بطل هذه الحرب للرياسة، وقال هذا الديمقراطي متهكما: إنكم أيها الهوج تتخذون مأواكم تحت ذيل حلة حربية. فقال لنكولن: «يقول هذا السيد إننا تركنا مبادئنا جميعا، واتخذنا مأوانا تحت ذيل حلة الجنرال تيلور الحربية، وإن هذا مشين لنا! وإذا كانت هذه هي عقيدته فله أن يعتقد ما شاء، ولكن ألا يتذكر ذيل حلة حربية غير هذا اتخذ تحته مأواه حزب معين آخر زهاء ربع قرن؟ أليست له معرفة بذلك الذيل القوي؛ ذيل حلة الجنرال جاكسون؟ ألا يعرف أن حزبه قد خاض عمار الانتخابات الخمسة الأخيرة للرياسة تحت ذلك الذيل، وأنهم الآن يخوضون المعركة السادسة تحت الغطاء نفسه؟ أجل يا سيدي إن ذلك الذيل قد استخدم لا في انتخاب الجنرال جاكسون نفسه فحسب، بل إنه منذ ذلك الوقت لا يزال كل مرشح ديمقراطي يستمسك به استمساك الاستماتة، إنكم لم تجرءوا ولن تجرءوا أن تبرزوا من تحته، وإن أوراقكم التي تنشرون في المعركة ظلت دائما ملأى بالإشارات إلى هكري العجوز،
1
وبالرسوم الشوهاء التي تمثل الجنرال الشيخ، كما أنها كانت مفعمة بشارات لا نهاية لها، متخذة من جذوع الهكري وأغصانها، ولقد أطلقتم على مستر بولك نفسه شجرة «الهكري الفتية» أو «الهكري الصغيرة»، وها هي ذي الآن أوراقكم الانتخابية تزعم أن كاس وبتلر من فصيلة الهكري ... لا يا سيدي، إنكم لا تجرءون على التحرر من هذا ... ولقد لبثتم متعلقين بذيل ذلك الأسد في منعزله حتى نهاية حياته، وها أنتم أولاء ما زلتم تتمسكون به، وتستمدون منه عونا بطريقة بغيضة بعد موته. زعموا أن رجلا أعلن ذات مرة أنه أحدث كشفا به يستطيع أن يصنع رجلا جديدا من رجل قديم، وأنه قد بقي لديه فضل من مادة الرجل يكفي لصنع كلب أصفر صغير، وهكذا كانت شهرة الجنرال جاكسون لكم كذلك الكشف المزعوم؛ فإنكم لم تكتفوا بصنع رئيسين منه اعتمادا على شهرته، بل إنه لا يزال لكم فضل منه يكفي لأن تصنعوا منه رؤساء أصغر قدرا إذا قيسوا بمن مضوا، وما زال أهم ما تعتمدون عليه الآن هو أن تصنعوا رئيسا جديدا ...!
والآن أيها السيد رئيس المجلس، إن الخيل العتاق وذيول الحلل الحربية أو الذيول من أي نوع ليست من صور البيان التي أرتضي أن أكون أول من يدخلها فيما يجرى هنا من مناقشات، ولكن بما أن ذلك السيد المنتمي إلى جورجيا قد وجدها لائقة لأن يدخلها، فمرحبا به وبك في كل ما استطعتم أو ما تستطيعون أن تفعلوا بها، وإن كان لديكم مزيد من الخيل العتاق فأطلقوها، أو كان لديكم مزيد من الذيول فارفعوها وأقبلوا علينا. إني أكرر أني ما كنت أحب أن أدخل هنا هذا النوع من الكلام، ولكني أرغب أن يفهم السادة من الجانب الآخر أن استعمال الصور البيانية المشينة لعب قد يجدون أنفسهم فيه بحيث لا يصيبون كل مغنم [صوت ... كلا نحن نتخلى عنه] أجل إنكم تتخلون عنه وحسن ما تفعلون. وبهذه المناسبة هل علمت أيها الرئيس أني بطل من أبطال الحرب؟ أجل يا سيدي، في أيام حرب الصقر الأسود، قد حاربت وجرحت، وإن الحديث عن صنيع الجنرال كاس ليذكرني بصنيعي، إني لم أشهد هزيمة ستل مان، ولكني كنت على مقربة منها بقدر ما كان كاس على مقربة من استسلام هل، ولقد شاهدت المكان بعدها كما فعل هو، وإني على وجه اليقين لم أكسر سيفي؛ لأنه لم يكن لدي سيف حتى أكسره، ولكني حرفت بندقيتي عن وجهها بصورة رديئة ذات مرة، وإذا كان كاس قد كسر سيفه، فالمفهوم أنه فعل ذلك يأسا، أما أنا فقد حرفت بندقيتي بغير قصد، وإذا كان الجنرال كاس قد سبقني في التقاط البرقوق البري فأظن أني ظهرت عليه في هجومي على بري البصل، ولئن كان قد رأى هنودا مقاتلين فقد فعل ذلك أكثر مما فعلت، على أنني من ناحيتي قد منيت بمثل ما مني به من نضال دموي، ولكن مع البعوض! ولو أنني لم أدخ قط بسبب ما فقدت من دم، إلا أنني كنت أحس جوعا شديدا أكثر الوقت ...
أيها السيد الرئيس، إذا استطعت أن يكون شأني مع الديمقراطيين بحيث لا يجدون لديهم ما يمنع من ترشيحي لرياسة الولايات، فإني أقرر أنهم لن يسخروا مني كما يسخرون من الجنرال كاس بأن يجعلوا مني بطلا من أبطال الحرب ...
إني أذهب مذهب أحد الأصدقاء، أيها السيد الرئيس، فأرى في الجنرال كاس قائدا موفقا في هجماته، فإن له هجمات حقا لا على أعداء البلاد ولكن على خزانة البلاد! لقد كان حاكما لمتشيجان من اليوم التاسع من أكتوبر سنة 1813 إلى اليوم الحادي والثلاثين من يوليو سنة 1831، وهي مدة سبع عشرة سنة وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما، ولقد استولى أثناء ذلك من خزانة الاتحاد على ثمانية وعشرين وتسعة وستين ألف دولار لخدماته الشخصية ونفقاته الشخصية، فيكون لليوم الواحد أربعة عشر دولارا وتسعة وسبعون سنتيا طيلة هذه المدة، ولقد وصل إلى هذا المبلغ من المال بادعائه أنه كان يؤدي عملا في عدة أماكن مختلفة ، يظهر في كل منها عدة مواهب مختلفة، كل ذلك في وقت واحد!
إني لم أشر إلى حساب الجنرال كاس إلا لأبين لكم مقدرته الجسيمة العجيبة؛ فإنه لا يؤدي عمل عدة رجال في وقت واحد فحسب، بل يؤديه في عدة أماكن بينها مئات من الأميال، ويفعل ذلك في نفس الوقت! ...
أيها السيد الرئيس، لقد سمعنا جميعا نبأ ذلك الحيوان الذي ظل حائرا بين حزمتين من العلف وهو يموت جوعا، ولكن شيئا من ذلك لن يحدث للجنرال كاس، فاجعل بين الحزمتين ألف ميل فستجد لديه ما يأكله في سبيله إليهما، ثم إنه يأكلهما غير مبطئ، ولقد يصيب في الطريق بعض الحشائش الخضراء فوق ذلك، ألا فلتجعلوه رئيسا بكل ما في وسعكم، فإنه سوف يوفر لكم طعامكم إذا ... إذا بقي شيء بعد أن يأكل!»
ولقد علت ضحكات أعضاء المجلس، واتجه أبراهام إلى مقعده بعد أن أتم خطابه والأنظار جميعا تتجه إليه، وما في الرجال من استطاع أن يملك نفسه من فرط الضحك، الخصوم والأنصار في ذلك سواء.
ولما انتهى دور الانعقاد هذا، طوف لنكولن في بعض الجهات الشرقية: مثل نيويورك ونيو إنجلند، والغربية: مثل مقاطعة إلينوى؛ يستأنف الدعوة في حماية لمرشح الهوج تيلور. وكان الديمقراطيون كما ذكرنا يحاولون أن ينسبوا إلى مرشحهم كاس من البطولة الحربية مثلما ينسب الهوج إلى تيلور، والحق أن الحزبين كانا يتمسحان في المجد الحربي منذ أن رأوا أثره في شهرة الرئيس جاكسون من قبل.
ولكن ثمة حزب ثالث؛ وهو شعبة من الديمقراطيين جعلوا مقاومة انتشار الرق همهم الأول، وسموا أنفسهم حزب «الأرض الحرة»، ومن مبادئهم ألا يسمح بالرق في أرض غير التي وجد فيها الرقيق من قبل، وأن يسمح لكل فرد أن يعبر تعبيرا حرا عن آرائه بصدد الرقيق، وكان بينهم أناس ذوو خطر ومكانة وكانوا يرشحون فان بيرن للرياسة.
وكان على أبراهام أن يدعو لتيلور ضد الفريقين المتنافسين، وكان يستشعر الحرج تلقاء أنصار فان بيرن؛ لأن دعوتهم ضد الرق كانت مما يتصل بنفسه بأقوى الأسباب.
وأخذ لنكولن يجوب البلاد؛ فكان إذا قام في جماعة لم يروه من قبل جذب إليه الأنظار بطول قامته وغرابة ملامحه، فإذا أطلق العنان لكلامه سرت في الجموع منه روح عجيبة لا يدرون كنهها وإن أدركوا فعلها، ورأوا عينيه تلتمعان حتى ما يعرف الناس أنهم رأوا مثلهما قط، وأبصروا في ملامحه معاني أبلغ من كل كلام وأعمق أثرا من كل حجة، والخطيب ينتقل بهم من مثل إلى مثل، ومن قصة إلى قصة، ثم إذا به يرسل النكتة البارعة بين حين وحين فإذا هم يضحكون ملء نفوسهم، وهو في حماسته يشمر ردني حلته ويفعل مثل ذلك بقميصه، ولقد يحل رباط عنقه أو ينتزعه من موضعه كأنه مقبل على مبارزة، ولا يكاد يفرغ من خطابه حتى يهرع الناس إليه متدافعين بالمناكب لكي يزدادوا نظرا إليه من كثب.
ولقد كان انقسام الديمقراطيين على أنفسهم من عوامل نجاح الهوج؛ فإن ما ناله فان بيرن من الأصوات كان كفيلا أن يضمن النجاح للمرشح الديمقراطي كاس لو أضيف إلى ما حصل عليه، ولقد فرح الهوج بانتصارهم فرحا عظيما، وفرح لنكولن وارتاح إلى أن جهوده لم تذهب عبثا كما ذهبت من قبل في الدعوة لهنري كليي.
ولكن فرحه بالنجاح لم يصرفه عن هاجس يشبه الندم في قرارة نفسه؛ فإنه يذكر أنه وجه جهوده لنصرة الهوج كما ينبغي أن يفعل كل رجل يهتم بنجاح حزبه وأغضى مؤقتا عن الكلام في مسألة الرق، بل إنه نشط في صرف فريق من متحمسي الهوج ضد الرق عن مشايعة أنصار الحزب الجديد في انتخاب فان بيرن، ذاكرا لهم أن الهوج يكرهون الرق كما يكره هؤلاء، ولكن المسألة في ذلك الوقت مسألة المعركة الانتخابية أولا. على أنه يذكر كذلك أنه حين استمع إلى تلك الخطبة القوية التي ألقاها أحد كبار الداعين إلى التحرير في بوستن ضد الرقيق، وهو سيوارد، لم يخف رأيه بل قال للخطيب: «أعلن أنك محق، لقد آن أن نطرق معضلة الرق، وأن نلقي إليها من اهتمامنا بأكثر مما كنا نفعل من قبل.»
وفي أثناء عودته إلى وشنطون ليحضر الانعقاد الثاني للكونجرس، أيد بكل قوته دعوة أخرى شهيرة قام بها داعية آخر من أشد دعاة التحرير؛ هو ولمت الذي أخذ ينادي بوجوب منع انتشار الرق في الأراضي التي تستخلص من المكسيك.
وأيد لنكولن دعوة ثالثة جاءت على يد رجل من ديمقراطيي الشمال في المجلس النيابي؛ إذ تقدم بطلب منع الرق في كليفورنيا ومكسيكو الجديدة، وهي أرض انتزعت من المكسيك، وقد تحمس لنكولن لرأي هذا الداعية الديمقراطي كما تحمس له الهوج الشماليون.
وفكر أبراهام فبدا له أنه ينبغي أن يخطو في هذا الانعقاد الثاني للكونجرس خطوة ضد الرق يكون بها داعية لا تابعا لمن يدعون، وما حمله عليها رغبته في أن يكون داعية، وإنما حمله كرهه للرق؛ ذلك الكره المستعر في أعماق نفسه منذ حداثته.
وأثار ذلك البغض في نفسه ما رآه من اشتداد الدعوة في البلاد لمحاربة هذا المنكر، ثم إن منظرا أليما كريها كان يتراءى لأبراهام كلما اتخذ سبيله إلى مقر الكونجرس؛ ذلك منظر حظيرة للزنوج كانت تقع على مقربة من ملتقى رجالات الشعب وصرح حريته، وكان يحشر الزنوج في تلك الحظيرة ريثما يرسلون إلى الأسواق في الجنوب، وأي منظر أدعى إلى اشمئزاز النفوس الكريمة من تقابل هذين الضدين! ولئن كانت مرارة الحزن قد بلغت من نفسه، فإنه آثر الاعتدال والركون إلى الحكمة، وأعد لائحة يرمي بها إلى القضاء على الرق في ذلك الحي؛ حي كولمبيا، فينبغي ألا يكون هناك رق، وإنما يسمح مؤقتا لرجال الحكومة أن يدخلوا الرقيق فيه ليكونوا لهم خدما، وعلى الحكومة أن تدفع تعويضا لملاك العبيد الذين تطلق اللائحة عبيدهم، وعليها كذلك أن تعلم من يولد من السود منذ اليوم الأول من عام 1850 على أن يكونوا أحرارا، وبذلك ينقرض الرق على مر الأيام، واحتاطت اللائحة لمن يأوي من الرقيق إلى حي كولومبيا فقضت بردهم إلى حيث كانوا.
وكيف قنع لنكولن بالقضاء على الرق في هذا الحي فحسب متوخيا في ذلك الحذر كله؟ إن مرد ذلك فيما أرى إلى نظرته العملية إلى الأشياء ورغبته ألا يجعل لأحد حجة عليه، ثم لعله كان يريد أن يجعل من نجاحه، إذا نجح، حجة يحتج بها إذا نشط الرأي العام في محاربة الرق ورغب في القضاء عليه.
ولكنه على الرغم من اعتداله وحذره لم يقدر له النجاح، فإن أنصار الرق في الكونجرس قد ماطلوا في عرض لائحته حتى أوشك دور الانعقاد على الانتهاء، فكان لهم من ضيق الوقت عذر اعتذروا به. ومن يدري، فلعل صاحب اللائحة لا يعود إلى الكونجرس مرة أخرى، وهكذا قدر الفشل لهذه المحاولة. على أن أبراهام سوف يعود إلى وشنطون بعد اثنى عشر عاما، لا عضوا في الكونجرس، ولكن رئيسا للولايات المتحدة، ويومئذ يتجه في معضلة الرق الوجهة التي تمليها عليه خبرته وحصافته ومصلحة قومه.
وأخذ أبراهام أهبته للعودة إلى سبرنجفيلد، وما كان يحس شيئا من ذلك الذي يحسه من يغادر بلدا طاب له فيها المقام؛ وذلك لأن قلبه لم يتعلق بوشنطون تعلق حب أو استمتاع، فمع أنها موطن العظمة ومنتجع الشهرة والجاه، فإنها لم تستهو فؤاده؛ فهي كذلك ميدان الأرستقراطية تعج الحياة فيها بالغرور واللؤم والأنانية والجشع، وهو لا يزال في أعماق نفسه ابن الغابة، أعظم ما يرتاح إليه أن يطلق نفسه على سجيتها، فلا يتصنع ولا يتكلف، ولا يحب أن يلتزم في أمر من أموره بقيد من قيود المدنية وأوضاعها وتقاليدها، وكم عجب الناس في وشنطون من بساطته في كل شيء، ومن قصصه التي كان يسردها عن حياته في الأصقاع البرية وعن نشأته الأولى وفاقته ودينه الأهلي! ولا يزال بعض زملائه في الكونجرس يذكر مرآه ذات يوم وقد سار في الطريق يحمل على كتفيه كتبا ضخمة ربطها في منديل أحمر كبير، وقد استعارها من مكتبة المحكمة العليا، فبدا كأنه بائع متجول، أو كأنه لا يزال ذلك العامل في البريد، ولولا أنهم يعرفونه لما صدقوا أنه عضو في الكونجرس!
وكما أنه لم يأس على مفارقته وشنطون، فإنه كذلك لم يندم على مقامه فيها مدة عامين؛ فإنه قد أفاد خبرة وعلما، وعرف كثيرا من ذوي الشخصيات الهامة، واستمع إلى كثير من الخطب ينطق بها أولو العلم والثقافة، وخبر المناورات الحزبية والمجادلات السياسية في مجال أوسع من مجال المقاطعات، ونفذت عينه اليقظة إلى كثير من محاسن الحياة ومساوئها، واختزنت ذاكرته العجيبة الشيء الكثير من الأمثلة والشواهد والمقارنات.
واتخذ لنكولن سبيله إلى سبرنجفيلد، فمر بشلالات نياجرا وشاهد هذا المسقط المائي الهائل، فأثار منظره شاعريته، يدل على ذلك قوله: «كم ذا تبعث نياجرا الماضي السحيق! إنه عندما كان كولمبس يبحث عن هذه القارة، بل عندما كان المسيح يعاني آلام الصلب، وقبل ذلك عندما كان موسى يقود بني إسرائيل على متن البحر، لا، بل عندما كان آدم لا يزال خارجا من يد بارئه؛ كانت نياجرا تهدر كما تهدر الآن.»
ولقد أشار صديقه هرندن إلى أثر هذا المنظر في نفس لنكولن فقال: «لقد حدث بعد ذلك أن زرت نيويورك وعدت كذلك عن طريق نياجرا، وأخذت بعد عودتي بأيام أقص في المكتب على زميلي ما أردت أن أمتعه به من وصف لرحلتي، وتحدثت فيما تحدثت عن شلالات نياجرا، واسترسلت أثناء وصفي في حميا التصوير، ولما تملكتني حماسة الحديث سايرت ملكة الوصف عندي هذه الحماسة، ووجدت مادة غزيرة لصورة أخاذة في الاندفاع الجنوبي للماء الدفوق وفي هديره وفيضه وانسيابه، وفي قوس الغمام وقتذاك، وأثار تذكري هذا المنظر الهائل المروع قواي الخصبة لتمد أقصى مدها في الوصف والتصوير، ولما كدت أحس الجهد مما حاولت التفت إلى لنكولن أسأله رأيه فقلت: أي شيء أثر في نفسك أعمق الأثر ساعة وقوفك لدى تلك العجيبة العظيمة من عجائب الطبيعة؟ ولن أنسى جوابه ما حييت؛ لأنه يرينا بصورة هي من خواصه كيف كان ينظر إلى كل شيء، قال: إن الشيء الذي راعني أكثر من كل شيء غيره، هو هذا العباب الزاخر كيف تجمع ومن أين جاء؟! لم يمد أبراهام عينيه إلى جمال المنظر وعظمته، ولا إلى تدافع الماء واصطخابه وهديره، ولكن عقله اتجه الاتجاه الذي تعوده فلم يحفل جمالا أو رهبة، وانساق انسياقا لا يقاوم يتقصى العلل باحثا عن العلة الأولى، وهذا هو سبيله في كل أمر ... ولئن كان مرد قوته إلى سر ما، فهذا هو السر.»
طالب وظيفة!
كان أبراهام لا يأمل أن يظفر بترشيحه ثانية للكونجرس؛ بسبب ما جره عليه موقفه من حرب المكسيك من استياء كثير من رجال حزبه، ومنهم هرندن نفسه أحب أصحابه إليه؛ لذلك لم يكن أمامه إلا المحاماة، وهي عمله الطبيعي بعد أن نفض من السياسة يديه، ولكن بعض رجال حزبه كانوا قبيل انقضاض الكونجرس قد زينوا له أن يطلب منصبا رسميا أشاروا إلى حقه في طلبه، وقد أبلى في سبيل نجاح الرئيس ما أبلى.
ومن عجيب الأمور أن يتجه أبراهام هذا المتجه فيكون طالب وظيفة! فهل بات الرجل الكادح الطموح يطلب الرزق من أيسر سبله؟ أم هل بات يطمع في الجاه الرسمي الذي ينال بالمنصب الحكومي؟ ولكن ما له ولهذا وهو لا يتصل أقل صلة بطبعه؟! أترى هو العسر يحمله على السعي إلى ما يكره؟ لعل ذلك هو أقرب الفروض إلى المعقول.
وكان المنصب الذي يطمع فيه هو منصب رئيس ديوان الأراضي العامة بوشنطون، وقد أزمعت الحكومة أن تعين فيه رجلا من حزب الهوج، ومن إلينوى على الأرجح، وكان لأبراهام - بما اكتسب من خبرة في مسح الأرض ومن خبرة في ممارسة القانون - ما يجعله يرى نفسه أهلا لهذا المنصب، فكتب إلى الرئيس تيلور يطلب منه أن يعينه فيه.
ولكن بعض ذوي المكانة من الهوج تطلعوا مثله إلى ذلك المنصب ونافسوه فيه، ومن هؤلاء رجلان؛ يدعى أحدهما إدوارد، والثاني موريسون، كانا أقوى المتطلعين وأشد المنافسين.
ولما عاد لنكولن إلى سبرنجفيلد وفاتحه بعض أصحابه في هذا الأمر، قال إنه اتفق وبعض رجال الهوج في وشنطون على أنه إذا تنازل أحد الرجلين - إدوارد أو موريسون - لصاحبه، أيد الهوج من يبقى منهما يطلب المنصب، ثم قال: «إذا ترك هذا المنصب لولاية إلينوى، وكان ذلك على أن أقبله، لا لأي سبب آخر؛ فإني عندئذ أقبل.»
ورأى أبراهام أن لا بد من السفر إلى وشنطون ليكون على مقربة ممن بيدهم الأمر، فسافر إليها، ولنقص نبأ هذا السفر؛ فإن فيه ما يزيدنا علما بجانب من جوانب شخصية لنكولن.
بدأ رحلته في الصباح الباكر ذات يوم من خان للسفر في سبرنجفيلد، ولم يكن في الخان إلا مسافر واحد غيره من أهل كنطكي كان في طريقه إلى موطنه، فصحب أبراهام مسافة طويلة في عربة السفر، وشاهد المسافر ما آلمه من أمارات الهم والعبوس في وجه لنكولن، فأراد أن يمحو شيئا من سأم الرحلة فعرض على أبراهام مضغة من الطباق، فأجابه: «لا يا سيدي، شكرا لك إني لا أمضغ قط.» ثم أعقب ذلك سكون طويل بينهما، وأخرج الرجل بعد ذلك من جيبه علبة مكسوة بالجلد، وانتزع منها دخينة فقدمها إلى لنكولن، فاعتذر إليه شاكرا كما فعل من قبل؛ لأنه لا يدخن قط. ولما صارا على مقربة من إحدى المحطات التي تغير عندها الخيل، أخرج الرجل زجاجة خمر من بين متاعه، وصب منها في كأس ومد بها يده إلى رفيقه المسافر قائلا: «إيه أيها الرفيق الذي لا أعرفه، هل لك وقد علمت أنك لا تمضغ ولا تدخن أن تتناول قليلا من هذا البرندي الفرنسي؟ إنه ممتع من الطراز الأول، وهو إلى جانب ذلك مثير للشهية.» ولكنه قوبل كذلك بالإعراض من رفيقه الطويل المنطوي على نفسه، وكان عذره أنه كذلك لا يشرب الخمر قط. ولما آن أن يفترقا قبل الظهر ليذهب الكنطكي في طريق آخر، صافح ذلك الرجل أبراهام وهز يده في حماسة قائلا: «الآن أصغ إلي أيها الشخص الذي أجهله، إنك رجل ذكي، ولكن أمرك عجب، ربما كان ذلك آخر لقاء بيننا وإني لا أريد أن أسيء إليك، ولكني أحب أن أقول لك إن تجاربي علمتني أن الرجل الذي لا رذائل له قليل الفضائل ...! طاب يومك.»
وثمة حديث آخر في هذا السفر يقصه رجل يدعى توماس نلسن، اختاره فيما بعد لنكولن وهو رئيس وزيرا في شيلي قال: في ربيع سنة 1849، كنت والقاضي هامند الذي أصبح فيما بعد حاكم إنديانا قد أخذنا الأهبة للسفر إلى إنديانا بولس في عربة من عربات السفر، وكان يلزم لقطع هذه الرحلة عادة يوم كامل، ففي فجر ذات يوم أقبلت عربة من الغرب، فلما ركبنا فيها وجدنا المقعد الخلفي يحتله شخص طويل يبدو كأنما تمتد رجلاه إلى نهاية العربة من ناحية، ورأسه إلى نهايتها من الناحية الأخرى! ولم يكن غيره في العربة، وكان يغط في نوم عميق، فربت هامند على كتفه في غير كلفة قائلا: هل استأجرت العربة وحدك هذا اليوم؟ فأفاق ذلك المجهول من نومه وأجاب قائلا: «يقينا لم أفعل ذلك»، ثم وثب إلى المقعد الأمامي تاركا لنا في رقة وكرم مكان الراحة والتوقير.
وأخذنا هذا الشخص المجهول بلمحة، فإذا هو غريب الهيئة زريها، يرتدي حلة بادية القدم رديئة الهندمة بغير قميص ولا رباط عنق، ويلبس فوق رأسه قبعة رخيصة من الخوص دفعها إلى الخلف، وترى أبرز ملامحه في حالة سكونه كثيبة لا معنى فيها، ولما كنا قد رأينا فيه موضوعا للمزاح فقد استرسلنا في طائفة من النكات، فلاقاها جميعا في براءة وطيبة قلب، وشاركنا في الضحك وإن كان الضحك على حسابه. وتوقفنا عند الظهيرة لنتناول شيئا من الطعام في مطعم على جانب الطريق، ودعوناه ليأكل معنا فدنا من الخوان في هيئة تنم على أنه عد ذلك شرفا عظيما، وجلس بنصف جسمه على مقعد صغير، وكان يضع قبعته تحت إبطه أثناء الطعام، وبعد أن فرغنا من طعامنا استأنفنا السفر، ومال الحديث بنا إلى ذلك المذنب الذي كان يومئذ يثير دنيا العلم.
ورأينا رفيقنا المجهول ينصت إلى الحديث في شغف عظيم، ولقد أدلى بطائفة عجيبة من الآراء من فيض قريحته وسأل أسئلة كثيرة، وملأنا عجبا بكلمات علمية طويلة راعدة الجرس، وبعد أن ألقينا عليه ما يملأ الفؤاد دهشة من تهاويل كلماتنا العلمية، سألنا ذلك الشخص المجهول وقد ملكته الحيرة والدهشة: «وماذا عسى أن تكون آخرة هذا المذنب؟» وأجبته أني لست على بينة من أمري، بيد أني أخالف معظم العلماء والفلاسفة، وأميل إلى الرأي القائل بأن الدنيا كلها ستذهب هباء في إثر ذلك الشيء المخيف! وفي ساعة متأخرة من المساء بلغنا إنديانا بولس وخففنا إلى فندق بروننج، وافترقنا نهائيا عن ذلك الشخص المجهول وآوينا إلى حجرتنا لنغسل التراب عن وجوهنا، وبعد دقائق نزلت إلى ردهة الفندق فوقعت عيناي على ذلك الرجل الطويل الواجم المحيا وسط جماعة من المعجبين به من رجال القانون، تبينت بينهم من القضاة مكليان وهانتنجتون وألبرت هويت وإدوارد هانيجان وريتشارد تومسون، وبدا عليهم جميعا أنهم مقبلون في شغف وإعجاب على قصة كان يقصها عليهم، فسألت بروننج صاحب الفندق من يكون ذلك الشخص الطويل؟ فقال: «هو أبراهام لنكولن من إلينوى أحد أعضاء الكونجرس.» فصعقت لهذا النبأ وهرولت إلى الطابق العلوي؛ حيث قصصت على صاحبي هامند ذلك الخبر المدهش، وسرعان ما غادرنا الفندق خفية من باب خلفي إلى فندق غيره؛ كي لا نتصل بعد ذلك برفيقنا في السفر الذي علمنا أنه من ذوي المكانة.
وكان من عجب الأمور حقا بعد ذلك بسنوات، أن تخلى هامند عن منصبه كحاكم إنديانا لبضعة أيام قبل وصول لنكولن إلى إنديانا بولس، وهو في طريقه إلى وشنطون ليحتفل بولايته الرياسة! أما أنا فلقد واتتني الظروف لأزداد معرفة وقربا إلى لنكولن منذ تلك الرحلة التي صحبناه فيها دون أن نعرفه، ولقد صرت من أكبر المتحمسين له والعاملين على ترشيحه وانتخابه للرياسة، وقبل أن يغادر لنكولن موطنه إلى وشنطون دعا جون ب أشر كما دعاني لمرافقته إلى هناك، واتفقنا على أن نوافيه في إنديانا بولس، ومن ثم نسافر معه، ولما بلغنا تلك المدينة علمنا أن الرئيس ومرافقيه قد بلغوها لتوهم، وأنه يتناول طعامه في حجرة الطعام بالفندق، فدخلنا نبحث عنه ووجدنا الرجال يشغلون جميع المقاعد المرصوصة حول عدد كبير من الموائد، ولكنا لم نر الرئيس، فلما كنا على مقربة من باب إدارة الفندق امتدت ذراع طويلة إلى كتفي وسمعت صوتا حادا يقول: «هالو! نلسون، ألا زلت تعتقد أن الدنيا كلها ستذهب هباء في إثر ذلك الشيء المخيف؟!» وكان المتكلم هو مستر لنكولن!
ولنعد إلى ما كنا بصدده من حديث ذلك المنصب الذي طمع فيه؛ لما بلع لنكولن وشنطون تبين أن هناك منافسا خطيرا له ولصاحبيه موريسون وإدوارد؛ وذلك هو بترفيلد، وكان لهذا الأخير شفعاء من بعض ذوي النفوذ، وكان لا ينكص عن السعي لديهم بكل وسيلة بينما كان لنوكلن مترددا يقدم رجلا ويؤخر أخرى، أشار إلى ذلك صديقه هرندن في قوله: «لقد كان يخالج لنكولن شعور خفي من الأنفة والكبرياء، فضلا عما كان ينقصه من إصرار، فكان ذلك الشعور الخفي يأبى عليه تلك المرونة في الرأي، التي لا بد منها لطالب وظيفة رسمية كي ينجح في تحقيق طلبه.» وقال لنكولن نفسه في هذا الصدد: «ليس ثمة عندي ما يجعل لي من الحول ما أطلب به منصبا من الدرجة الأولى، وإن منصبا من الدرجة الثانية لا يعوضني عما عسى أن ألقى من سخرية ممن يطلبونه لأنفسهم.»
ويريد الرئيس أن يجامله فيعرض عليه منصبا غيره؛ هو منصب حاكم إحدى المقاطعات الداخلية، ولكن زوجه تقف بينه وبين هذا المنصب، وتصر على موقفها معلنة أنها لن تقبل لزوجها عملا يعود به إلى الأدغال ولا ترجى لهما منه عودة، ويرفض أبراهام المنصب آخر الأمر، وهكذا نرى زوجته للمرة الثانية حريصة على أن توليه القبلة التي لا ترضى له غيرها قبلة، فهل كانت تدري أية خدمة تؤديها بمسلكها هذا لزوجها ولوطنها وللإنسانية؟
إلى المحاماة
عاد لنكولن إلى المحاماة، وقد ترك السياسة وراء ظهره، وإنه ليعزم العزم كله ألا يعود إليها وفي نفسه مرارة منها ومن أساليبها.
وكان قد هجر مكتبه زمنا ليس بالقصير تاركا هرندن يعمل فيه وحده، ولقد بذل هرندن من الهمة والمثابرة ما جعل للمكتب مكانة لا تقل عن مكانة أكبر المكاتب حوله، فلما عاد لنكولن حدث صاحبه أنه يرى أن ليس له أن يشاركه لا في الربح ولا في العمل، وقد بلغ المكتب بفضل جهوده ما بلغ، ولكن هرندن أبى أن يسلم بذلك قائلا له: لقد أخذتني معك وعلمتني ما لم أكن أعلم، وأعنتني على أمري وأنا صغير أحتاج إلى العون، فإن لم أكن كريم اليد فلا أقل من أن أكون حافظا للجميل، وعلى هذا فلن أترك صحبتك ومشاركتك إياي في عملي. وقبل لنكولن وعادا يعملان معا شريكين.
وأحس لنكولن أن السياسة قد باعدت بينه وبين القانون، فلا بد له أن يعوض ما فاته من درس ومذاكرة، فأقبل على كتب القانون إقبالا لم يشهد صاحبه له مثيلا من قبل، فقد ذكر هرندن أنه رافقه أكثر من مرة إلى بعض المحاكم، وكانا يبيتان ليلهما في الفنادق، فكان ينام وصاحبه على سرير واحد أكثر الأحيان، وإن هرندن ليغط في نومه، فما يصحو إلا بعد ساعات فإذا بصاحبه متمدد إلى جانبه وفي يده كتاب كبير من كتب القانون، وإلى جانب رأسه شمعة أوشكت أن تنفد، وقد أوشك الصبح أن يتنفس!
وكان أبراهام في مكتبه يرسل نفسه على سجيتها، شأنه في ذلك كشأنه في كل شيء يتصل به؛ فهو في المكتب لا يعنى بأعماله الكتابية وإنما كان أول أمره يتركها لصاحبه هرندن، ثم كان بعد ذلك يستعين بمن يطلبون المران عنده من الشبان، وهو لا يهتم بأن يكتب حسابا بينه وبين شريكه، وإنما يقسم ما يجيئهما من ربح بينهما، وهو يعطي صاحبه نصيبه في ثقة وأمانة، ولا يعنى بكتابة دفاعه كتابة منمقة بليغة، بل يكتفي بقراءة القضية ودراستها دراسة جيدة، ثم يعتمد على ذاكرته وعلى معونة الله كما تعود أن يقول، وعلى ما يوحي به الموقف وملابسات الحال ومقتضياته عند المرافعة. وكان إذا جلس لدراسة قضية أسند ظهره إلى ظهر كرسيه ومدد رجليه على كرسي آخر، ووضع المراجع على مقربة منه عن يمينه وعن شماله، فما يشغله شاغل مهما جل عما هو فيه حتى يفرغ منه، وما يصرفه عن انتباهه شيء، ولا يحب أن يقطع عليه أحد تيار فكره، ولو لبث على تلك الحال ساعات.
لنكولن المحامي.
وكان قمطره الرئيسي وحافظة أوراقه الهامة هي قبعته الطويلة؛ فقد كانت تتسع بصورة عجيبة لكل ما يدس فيها من ورق؛ حتى لقد عجب صاحبه أشد العجب كيف يضع فيها لنكولن ما يضع، ولو أنه ألقى إليه به ما عرف كيف يدسه في حقيبة صغيرة.
على أنه قد وضع في زاوية من زوايا الحجرة إضبارة من الورق على منضدة صغيرة، وكتب فوق غلافها «فتش في كل مكان، فإن لم تجد فابحث هنا»، وهكذا لم يخرج الأمر عن قبعته وهذه الإضبارة، فلا تصنيف ولا تبويب في الأوراق، ولا عناوين تميزها بعضها عن بعض حسب محتوياتها، ولا شيء من ذلك التقسيم والترتيب للقماطر على نحو ما يحدث في مكاتب المحامين.
وأحب أبراهام أن يعمل في المحاكم المتجولة، فيقضي أشهرا بعيدا عن المدينة وعن بيته يتبع المحكمة أينما اتجهت؛ إذ كانت المحاكم يومئذ في تلك الأصقاع هي التي تنتقل إلى الناس، وكان سروره عظيما بهذا التجوال؛ فهو ابن الأحراج والغابات والبقاع المترامية، وهو الذي لم يألف الاستقرار في موطن، وإنه ليرى المدينة أضيق في عينه اليوم منها قبل.
على أن شيئا أقوى من ذلك يحبب إليه الابتعاد عن المدينة وعن البيت، وذلك أنه قد ضاق ذرعا بما تثيره زوجه من عوامل الشقاق، فهي ما تفتأ تريه التبرم والسخط، وتأخذه بألوان من العنف يوشك أن ينفد لها صبره لولا أنه يعود بالسبب إلى حدة مزاجها، وإن كان ليسأل نفسه أحيانا أهي مغضبة حانقة عليه لما أصابه من فشل في السياسة، فما تزال تتعلق بأوهى الأسباب لمجادلته ومغاضبته، وقد صغر في عينيها وهان لديها شأنه؟ ولكنه يحس من زوجه أنها على شغفها بتعنيفه تضمر له المحبة والإعجاب كعهده بها، فيطمئن قلبه ويرد الأمر في هذا الشقاق إلى ما يعرف من طباعها.
وكم كان حبيبا إلى نفسه أن يركب مع بعض زملائه في عربة، أو يمتطي جوادا ويصحب القضاة والمحامين على جيادهم إلى حيث تعقد جلسات المحكمة، فإذا فرغوا من جهة انتقلوا إلى غيرها ويبقون على هذه الحال أشهرا، فإذا تصادف أن كان أحدهم أو بعضهم على مقربة من موطنه، ذهب ليقضي الراحة الأسبوعية بين أهله وقد غاب عنهم بضعة أسابيع أو أشهر، إلا أبراهام فما كان يذهب إلى بيته مهما كان قربه منه إلا إذا انتهت الدورة القضائية، وكانت تستغرق أحيانا ستة أشهر.
وكان القضاة والمحامون إذا فرغوا من الجلسات يأوون إلى أحد الفنادق القريبة؛ حيث يطعمون وينامون، وكانوا يتحلقون ليالي الآحاد حول أبراهام، وينضم إليهم عدد كبير من الناس فيمتعهم بأحاديثه وقصصه ساعات، وقد اشتهر أمر لياليه تلك؛ حتى لقد كانت تبلغ الحلقة حوله أحيانا مائتين أو ثلاثمائة رجل كلهم معجب بحديثه شديد الإقبال عليه، وهو ينتقل بهم من نادرة إلى نادرة ومن قصة يستخرج منها عبرة إلى أخرى يثير بها الضحك، وهو إذ يشاركهم في ضحكهم في عذوبة روح ودماثة وظرف لا ينخلع عنه وقاره ولا يتسرب إلى شخصيته شيء من الابتذال، ولو كان غيره مكانه لخيف أن يمسه من ذلك شيء، ولكنه لم يزدد إلا محبة في نفوس الناس، ولم تزدهم أحاديثه إلا تعلقا به، ومن عجب أن اسمه الذي عرف به كان يجري على ألسنة الناس في كل جهة من هاتيك الجهات، فيذكرون أيب الأمين كأنهم وثيقو المعرفة به، وكأنما كان يسبقه هذا الاسم حيثما ذهب.
وكان لنكولن يرى في هذا الطواف مدرسته التي يتلمس فيها المعرفة، وأي معرفة أحب إليه من دراسة طباع الناس والوقوف من كثب على أحوالهم، بل والنفاذ إلى سرائرهم وخلجات نفوسهم؟! لذلك كان في طوافه يغشى المجالس وينطلق إلى البلاد القريبة، فيسمع ويرى ويأخذ بقسط من الأحاديث، ويدلي بآرائه إذا عن له أن يبدي آراءه في أمر، ويستفهم الناس ويسألهم عن أمانيهم، ويظل هذا شأنه حتى ينتهي دور المحكمة فيعود إلى سبرنجفيلد، وتنظر زوجه فإذا هو يدخل الدار وفي عينيه الحنين إليها وإلى أولاده، وفي أساريره من البشر بقدر ما يكون في جيبه من المال، ثم يدفع إليها بمظلة قديمة مهلهلة حائلة الصبغة، تمسكها بعضها إلى بعض خيوط ورقع، ويلقي إليها حقيبة اتخذها من رقعة بساط قديم، بها من الأوراق ما ضاقت عنه جيوبه وما صغرت دونه قبعته، ويقبل على بنيه فيرفعهم على كتفيه وذراعه كالعملاق، وهم فرحون يتسابقون إلى محادثته حتى لتضيع كلماتهم فيما يثيرون من زياط، وأمهم تكظم الغيظ من هذا الخروج على النظام.
وعادت تبرز في المحاماة مواهبه وتظهر خلاله، وأخذ ينشر فيها مبادئه بالعمل لا بالقول. جعل الحق رائده والصدق غايته، كما جعل مرد كل أمر عنده إلى معاني الإنسانية والفضيلة لا إلى أصول القانون وملابساته، وليس معنى ذلك أنه أهمل جانب القانون، كلا إنما كان يهمل جانب القانون إذا أدت ملابساته إلى التعمية وإظهار الباطل في زائف من ثياب الحق؛ ولذلك جعل الفضيلة فوق القانون، والصدق فوق المهارة في الحوار واللباقة في الجدل، وكان يحث أصدقاءه من المحامين ومحبيه من الناشئين على ألا يفرطوا في جنب الفضيلة، قائلا في صراحة وبساطة: «إن هناك رأيا شائعا في الناس مؤداه أن المحامي رجل يتهاون عادة في حق الأمانة؛ ولذلك فلا بد من أن يتمسك المحامي بالأمانة فيما صغر أو كبر من الأمور؛ لكي يدرأ تلك التهمة الشنعاء عنه وعن مهنته.» ومن شهير عباراته قوله: «يجب أن تبث في المهنة روح الفضيلة؛ كي تطرد تلك الروح منها ذوي الرذيلة.» وقوله ينصح أحد الناشئين: «اعمل على أن تكون محاميا أمينا، فإذا لم تستطع أن تكون أمينا وأنت محام، فخير لك أن تكون أمينا وألا تكون محاميا.»
وكان إذا جاءه أحد الناس يطلب إليه الدفاع عنه، استفهمه حتى يستقصي خبره، وهو على طيبة قلبة يقرأ في وجه محدثه أمارات الكذب إذا هم أن يكذب، فما يزال به حتى يرده إلى الصدق في مهارة دون أن يسيء إلى شعوره؛ فهو وإن لم يك من الماكرين، لا يستطيع أن يمكر به أحد، وقد كان لشخصه هيبة وجلال وإشعاع ينتشر منه إلى محدثه، فيوحي إليه وجوب التمسك بالصدق والنفور من الكذب، فيكون شعور محدثه بإزائه كما يكون شعور المرء في مكان مقدس يستفظع فيه الذنب وإن هان.
وكثيرا ما كان يحاول الصلح بين المتقاضين، ومما نصح به في محاضرة عامة قوله: «احرص على أن تقنع المتخاصمين بالصلح ما أمكنك ذلك، وبين لهم أنه غالبا ما يكون الفائز فائزا اسما فحسب، وهو في الواقع خاسر بما دفع من أجر أو أنفق من مال أو أضاع من وقت، والعمل بعد ذلك كثير للمحامي ... وإنه لتتهيأ للمحامي فرصة ثمينة ليصبح طيبا خيرا، وذلك بما يسعى إليه من سلم، فلا تلجأ إلى التقاضي والشحناء، فقلما وجد من هو أكثر سوءا من رجل يفعل ذلك. ولا تأخذ أجرك سلفا إلا قدرا صغيرا منه، فإنك إن أخذت أجرك كله مقدما وبقي اهتمامك بالقضية كاهتمامك بها في حالة ما إذا كان لا يزال أمامك من الأمل ما تتطلع إليه تطلع موكلك إلى النجاح؛ فأنت إذن فوق مستوى البشر.»
وكثيرا ما كان يقنع أبراهام بالقليل من الأجر؛ إذ كان يعد طلب الأجر الباهظ من أكبر آثام المهنة، ثم إنه كان يأخذ المسألة من ناحيتها الإنسانية؛ فيرى في عمله مثل عمل الطبيب والواعظ الديني والمعلم، وعنده أن واجب هؤلاء أن يمدوا يد المعونة للناس، وألا يتقاضوهم من الأجر إلا ما كان في وسعهم. ومما يذكر برهانا على هذا أنه دافع مرة عن حق رجل في مبلغ ستمائة دولار ولم يطلب منه أجرا على ذلك إلا ثلاثة ونصفا. ويذكر أيضا أنه لم يتفق على الأجر مرة، فلما ربح القضية أرسل إليه موكلوه خمسة وعشرين دولارا، فرد إليهم عشرة منها قائلا إن ما بقي هو ما يستحقه. وكان أحيانا يعفي موكله من الأجر إن كان مملقا قانعا من الأجر بالثواب وبالجميل يغرسه في قلبه، وذلك ما حدث حين دافع عن ابن متحديه القديم وصديقه بعد التحدي والمشاجرة آرمسترنج، فإنه لم يسأله أجرا على ما بذل في الدفاع عنه من جهد شديد إلا المودة.
يذكر صديقه وزميله في العمل هرندن أنه سار في قضية ذات مرة في غيبة لنكولن أثناء طوافه، ولأمر ما لا يدخل في نطاق مسئوليته حدث إبطاء في سير القضية، فعمد موكله إلى محام آخر وترك هرندن، فرفع هرندن أمره إلى القضاء يطلب أجرا على ما بذل من جهد، فحكم القاضي على الرجل بدفع أجر معين، وإذ ذاك قدم أبراهام فأسرع إليه الرجل يسأله أن يعفيه مما يقضي به الحكم من أجر مظهرا له فقره وسوء حاله، فنظر إليه أبراهام لحظة، ثم أطلقه وقد أعفاه لم يأخذ منه درهما، فلما حدثه هرندن في ذلك وأشار إلى ما كان من سوء صنع الرجل في نقل القضية إلى غيرهما، قال أبراهام إنه لا يتمالك نفسه إذا اشتكى إليه أحد الفقر والبؤس، وإنه ليحبس دموعه في جهد إذا بكى لديه إنسان. ثم ضحك ضحكة من ضحكاته العذبة وقال: «إني أحمد الله إذ لم يخلقني امرأة؛ وإلا لما كنت أرفض لأحد قط طلبا ليس فيه ما يمس الشرف!»
وكان أبراهام في المحكمة كما كان في خارجها؛ الرجل المتواضع المحتشم، يدخلها وجيوبه منتفخة بأوراقه وقبعته ثقيلة بما حوت منها، لا يشغل نفسه بأبهة المظهر وقد سلم له الجوهر، ولا يدري ما التطاول والتعاظم وقد عظم حتى صارت العظمة هي ما يفعل.
كان الصدق في الدفاع أول وسائله في الإقناع، وقد يتبين له أثناء دفاعه أن الحق قد ألبس عليه بالباطل فيتنحى عن القضية من فوره؛ لأنه لا يستطيع أن يلائم بينها وبين طبعه، أو أن يرفعها إلى مستوى حماسته وصدق شعوره، وكان المنطق السليم والإنصاف بعد ذلك من أهم أدواته، يضاف إليهما الدراسة الدقيقة لما ينهض له والإحاطة بجميع تفاصيله، هذا إلى ما امتاز به من صفاء الذهن صفاء يساعده على تبين الطريق إلى غايته في يسر ووضوح، وما أوتيه من ذاكرة عجيبة تواتيه بما يطلب حتى ما يلتوي عليه أمر أو يعزب عن ذهنه حادث.
وكان يتوخى العدالة فيما يعمل ويعنى أشد العناية بالأمانة في كل صغيرة أو كبيرة من المسائل. حدث صديقه هرندن أنه اضطر ذات مرة إلى تأجيل قضية من القضايا إلى دور مقبل، ولكنه لم يجد في نفسه أسبابا يطلب من أجلها التأجيل، وأحس أنه لو ترافع خسر القضية لقلة استعداده لها، فبينما هو في حيرته إذ سمع محامي الخصوم يذكر خوفه من أن يعلم هرندن بحقيقة من الحقائق، فأسرع هرندن يطلب التأجيل مشيرا إلى تلك الحقيقة، ذاكرا للمحكمة أنه يستطيع تقديم أدلة إثباتها إذا أعطي مهلة، وكاد يظفر بالتأجيل لولا أن قدم لنكولن فسأل زميله هل بنى طلبه على هذا السبب حقا، وهل يستطيع تقديم أدلة إذا أمهل؟ فذكر له هرندن أنه تسقط تلك الحقيقة من محامي الخصوم، ولا ضير أن يطلب التأجيل عله يقع على أدلتها فيما بعد، فتجهم وجه لنكولن ولعب في شعر رأسه مليا بإصبعه ثم قال: «كلا؛ إن هذا نوع من الخداع، والخداع في أكثر الأحيان اسم آخر للكذب، فخير لنا أن نسحب طلبنا؛ فإننا لا نأمن أن نواجه يوما ما بما فعلنا بعد أن تكون هذه القضية قد نسيت منذ زمن طويل.» وسحب هرندن طلب التأجيل وبمساع أخرى بذلها الموكل - ولا دخل لهرندن وصاحبه فيها - أجل القاضي القضية إلى دور مقبل، ونجت القضية من خطر الخسارة.
وكان إذا ترافع يؤثر الهدوء ويعنى بإبراز الحقائق، ولا يحفل بفخامة الألفاظ وصوغ العبارات في صورة خطابية هي إلى الصخب والضجيج في رأيه أقرب منها إلى البلاغة الصحيحة؛ إذ إن البلاغة الصحيحة عنده هي التعبير السليم الواضح عما يراد لا أكثر من ذلك ولا أقل، أو هي الوصول إلى المعنى من أقرب السبل وبأيسر الطرق، وكان لا يتكلف الإشارات والانفعالات والمبالغة في إظهار بعض الألفاظ، أو النطق بها نطقا تطابق نغمته لهجة تأكيد أو إيضاح أو إبراز غضب أو ما شاكل ذلك؛ فإن هذه أمور يراها بعيدة كل البعد عن سلامة الأداء وحسن الإقناع. حدث مرة أن لجأ أحد المحامين عن خصوم موكله إلى الضجيج بالعبارات الطويلة الصاخبة والكلمات الفخمة البراقة، فانتظر لنكولن حتى سكنت ريحه وابتسم في هدوء، ثم عمد إلى حكاية من حكاياته فسردها؛ وهي حكاية عن رجل لا يتقيد بالأديان وجد نفسه وسط عاصفة فيها رعد وبرق، فخر على ركبتيه واتجه إلى السماء قائلا : يا رب إن كانت تجري عندك الأمور هكذا حيثما اتفق وكل وجوهها عندك سواء، فأعطنا من الضوء أكثر من هذا البرق ومن الضجيج أقل من هذا الرعد ... وهكذا نراه أبدا لا تعوزه النادرة أو القصة يصور بها ما يقوم في نفسه من معنى، أو يرتسم بذهنه من سخرية.
وعرف عنه فيما عرف الأناة، فما يقدم على فعل أو قول إلا بعد تثبت ليكون على بينة من أمره، وكثيرا ما تبرم صديقه هرندن وتململ من هذه الأناة، فانظر إلى أبراهام يسأله أن يأتيه بمبراة وسكين، فإذا أحضرهما قال له: «إن سلاح تلك المبراة أقصر وأحد، ولعلك بذلك تظنها أنفع من السكين؛ إذ هي أسرع منها، ولكن انظر أيتهما أبعد من الأخرى غورا إذا نفذتا في جسم؟ ومثل السكين كمثل عقلي في تدبير المسائل والنظر فيها؛ فقد يبدو أني بطيء في قطع الأمور، ولكني إذا قطعت أمرا فإنه يكون بعيد المدى.» ويقتنع صاحبه أن التأني أبعد في سبر الأمور غورا، ويعزم ألا يشتكي بعد من أناته ثم إذا هو يطيق معه صبرا.
وكان مما يهابه منه المحامون تهكمه؛ فهو يعمد في دفاعه أحيانا كما كان يفعل في خطبه السياسية إلى التهكم اللاذع البارع، فيزلزل به قدمي خصمه حتى ليذهل عن رشده بين ما ينبعث من جوانب القاعة من الضحك.
على أنه كان يغضب أحيانا فلا يقف غضبه عند حد؛ وذلك إذا وجد في أحد مجادليه من المحامين أثناء الدفاع ميلا إلى الخديعة أو الكذب، أو إذا اشتم من أحد القضاة شيئا من التحيز، وعندئذ يغلظ في القول، ويقسو في تعبيره أشد القسوة، ويرى الناس منظره في هياجه كريها يبعد كل البعد عما ألفوه من دماثته وهدوئه ورقة حاشيته.
ويرى هرندن أن أبراهام كان محامي قضية أكثر منه رجل قانون؛ أعني أنه كان ماهرا في تقصي الوقائع والتفاصيل الجزئية والوصول بها إلى النتائج التي كان يريدها، أما التطبيق القانوني أو الفقه الذي يقوم على الدراسة والضلاعة فلم يكن فيه أبراهام طويل الباع، وقد شايع هرندن في رأيه هذا بعض الناس وخالفه فيه بعض، ويرى هؤلاء المخالفون أن أبراهام كان يعتمد على حاسة العدالة في نفسه، وكانت هذه الحاسة قوية عنده أشد القوة،، كما كان يعتمد على المنطق، وقد بلغ في قوة المنطق الذروة، وعلى هذا فقد كان من الأفذاذ القلائل الذين يرد القانون إلى إدراكهم وشعورهم ومنطقهم، ولا يرد ذلك فيهم إلى أوضاع القانون واصطلاحاته، وما هو في حاجة بعد إلى الاستناد إلى المواد والنظر في مدى انطباقها أو عدم انطباقها على ما في يده من قضايا، اللهم إلا في حالات معينة لا محيص فيها عن القانون، وهم يرون أن الأمر في مثل تلك الحالات أمر شكل لا أمر فقه؛ فهو في إمكان كل من مرن على مواد القانون وأعانته ذاكرته على حفظها.
ومع هذا فإن صديقه هرندن نفسه يحكي عنه أنه ذات مرة شهده أثناء الدفاع يتعرض للقانون ويستطرد في تاريخ التشريع، وآنس صاحبه في كلامه الضلاعة والإحكام، ولكنه ظن ألا فائدة ترجى منه؛ فإن المحكمة تعرف كل هذا، ولما فاتحه في ذلك بعد خروجهما من المحكمة قال لنكولن: «ذلك موضع خطئك، فإني لم أجرؤ على أن أكل القضية إلى ما يفترض من معرفة المحكمة بكل هذا، والحق أني سرت فيها على افتراض أن المحكمة لا تعلم شيئا من هذا.»
وما من قضية من القضايا التي تناولها إلا وفيها شاهد أو شواهد على سمو الدوافع التي أدت به إلى تناولها، وسمو الروح التي تسيطر عليه أثناء العمل، فإحقاق الحق والدفاع عن المستضعفين غايته أبدا، والأمانة والصدق وتوخي الإنصاف والعدالة سبيله إلى بلوغ تلك الغاية، وهو في القضايا الصغيرة كما هو في الكبيرة متحمس للحق مهتم بالدفاع عنه والاقتناع به.
جاءته ذات مرة عجوز هي أرملة أحد جنود الثورة تشكو من أحد القائمين على شئون المعاشات أنه اقتطع منها ظلما نصف المعاش المقرر لها، فتأثر لنكولن أشد التأثر من حكايتها، وذهب إلى ذلك الرجل فسأله أن يرد إليها مالها، فلما رفض أن يفعل ذلك قدمه إلى المحكمة من فوره، وفي اليوم السابق للدفاع طلب إلى صاحبه أن يجيئه بكتاب في تاريخ حروب الثورة، وظل يقرأ فيه زمنا، وفي غداة دفاعه حمل على ذلك المغتصب حملة شديدة، ولبث ساعة يصف للمحكمة مبلغ ما لقي جنود الاستقلال من مصاعب وما تحملوا من آلام في سبيل قضية أمريكا الكبرى، حتى إذا بلغ في قضيته موضع اغتصاب قسط من معاش أرملة أحد الجنود، التمعت بالغضب عيناه وأربد وجهه وتدفق في حماسة قائلا: «لقد ذهب هؤلاء الأبطال وتصرمت بعدهم الأعوام، واستراح الجندي من عنائه، والآن تسعى إليكم وإلي أرملة مقوسة مضعضعة عمياء تطلب إليكم أن تردوا عنها الحيف ... نعم إنها تتوسل إلينا نحن الذين نتمتع اليوم بما اكتسب لنا أبطال الثورة من نعم، تتوسل إلينا طالبة أن نعينها متعطفين، وأن نحيمها كل يفعل الرجال، وكل ما أتساءل عنه الآن: هل نكون لها أصدقاء؟» ورد لنكولن إلى الأرملة مالها، ولم يكلفها شيئا من أجر بل لقد دفع من ماله نفقات إقامتها في أحد فنادق سبرنجفيلد ونفقات سفرها إلى مقرها، فهي إنما جاءت إليه إذ سمعت عن شممه ومروءته وحمايته للضعفاء.
واتهم بارتكاب جريمة القتل ابن متحديه القديم في مدينة نيو سالم؛ وهو آرمسترنج الذي غدا صديقا لأبراهام وظل على وفائه له حتى مات، وما إن وقع نظر أبراهام على هذه التهمة حتى كتب إلى أمه ينبئها أنه على استعداد لقبول قضيته ليدافع عنه؛ لأنه يستبعد أن يرتكب ابنها مثل هذه الجريمة، وجاءت الأرملة ملهوفة تسأل أبراهام أن يدافع عن ابنها وتؤكد له براءته مما اتهم به، ولم يكن أبراهام يعلم شيئا عن القضية ولكنه قبلها بدافع النجدة والوفاء، ولما قرأها وثق من براءة ذلك الشاب، ووقف في ساحة المحكمة يدافع عنه، وكانت تهمته تتلخص في أنه أثناء شجار عنيف بين أصحاب له وفريق آخر ضرب أحدهم على رأسه فقتله، وظل أبراهام يسرد الوقائع في أناة ووضوح، ويفند أقوال خصومه واحدا بعد الآخر حتى أقنع المحلفين أو أوشك أن يقنعهم ببراءته، ولكن أحد الشهود أقسم أنه رآه رأي العين يضرب القتيل على رأسه وأنه مات بضربته، ولما كانت المعركة حدثت ليلا سأله لنكولن كيف تسنى له أن يرى، فقال: «في ضوء القمر، وكان نوره ساطعا.» فطلب أبراهام تقويما وفتحه وقال: «انظروا أيها المحلفون، لقد كانت ليلة الحادثة من ليالي العتمة التي لا يرى فيها شيء!» وكان كذب ذلك الشاهد من أقوى أسباب اقتناع المحلفين ببطلان التهمة، وحكم القاضي ببراءة المتهم، وفرح أبراهام فرحا شديدا بإحقاق الحق وبهذا الجميل يؤديه إلى صديقه المتوفى في شخص ابنه وشخص أرملته، التي تلقت النبأ وفي مقلتيها دموع الشكر والفرح، وفي قلبها الحب والإجلال لذلك المحامي الذي بذل أعنف الجهد، ولم يقبل شيئا مما قدم له من أجر.
وحدث مرة أثناء محاكمة متهم بجريمة قتل أن حمل أبراهام في عنف على ذلك المتهم، وكان الدفاع عنه يقوم على أساس أنه مجنون، ولما خرج لنكولن من المحكمة سمع عرضا أحد المحامين يقرر وقد سمع اسم المتهم أنه مجنون حقا، وأنه يعرفه من زمن طويل، وقد خبر بنفسه خبله في أمور كثيرة، وفي اليوم التالي ذكر لنكولن لصديقه هرندن، وهما في الطريق إلى المحكمة، أنه لم ينم ليله من شدة ما ساوره من ألم لحملته على المتهم وقسوته عليه، ومما قاله: «لقد سلكت هذا السبيل مقتنعا أنه يدعي الجنون، وإني لأخشى الآن أن أكون آذيته بما كان من عنفي عليه، وقد يكون ذلك المسكين مجنونا حقا، وإذا كان كذلك فهو لا يتبين باطل فعلته؛ وإذن فأنا المبطل إذ أعين بقولي على عقابه.» وظل أبراهام كسيف البال مهموما لا يفتر له هم.
وجاءته سيدة تملك أرضا غالية الثمن تسأله أن ينظر في مقدار ما فرض على أرضها من ضريبة؛ ليقدم دعوى إلى المحكمة إن كانت تدفع أكثر مما يجب، وعمد أبراهام إلى أدواته القديمة فعاين الأرض وقاسها وأحكم قياسها فوقع على أمر آخر، وذلك أن السيدة تضع يدها على مساحة أكبر من حقها، حسب ما يتيحه لها الثمن الذي دفعته؛ وذلك لخطأ وقع فيه البائع، فأهمل أبراهام مسألة الضريبة وطلب إلى السيدة قبل كل شيء أن تدفع ثمن باقي المساحة ليؤدى إلى ورثة البائع، فغضبت السيدة وثارت ثائرتها، فأعلنها أنها إن لم تدفع فسيتقدم بدعوى ضدها، وأذعنت السيدة، ودفعت المال المطلوب فحمله إلى الورثة، وأدى لكل منهم نصيبه منه حسب ميراثه.
هذا هو لنكولن المحامي تراه يسير على نهج من طبعه، وتراه يسمو بالمهنة، فيجعل منها مسألة إنسانية غايته فيها أن يحق الحق وهو فيها - كما هو في غيرها - الرجل العظيم الذي يبث فيها من روحه، ويلقي عليها نور عبقريته.
متاعب وآلام
وماذا يتعبه اليوم ويؤلمه وقد أصبح في سبرنجفيلد وفي إلينوى كلها المحامي العظيم القدر الذاهب الصيت؟! ماذا عسى أن يتعب أبراهام وقد دفع دينه وبات في سعة من الرزق؟! لقد كان عسيا أن ينعم اليوم بهدوء البال وقد أزيح عن كاهله شقاء أمسه، فما باله يراه الناس مهموما كلما وقعت أعينهم عليه في الطريق حتى لتأخذهم به شفقة تشبه أن تكون رثاء لحاله، وإن دعوتهم إياه اليوم لنكولن العجوز كادت تطغى على دعوتهم إياه أيب الأمين، ولم يك يومئذ بالعجوز إذا نظرنا إلى سنه؛ فما تجاوز الأربعين إلا قليلا، ولكن مسحة الهم في وجهه المسنون ونظرات الحزن في عينيه المتسائلتين ومضي الألم في شفتيه المزمومتين؛ تجعله يبدو أكبر من سنه في أعين ناظريه.
وكثيرا ما يراه الناس في الطريق وكأنما أخذته عن نفسه حال، فما في وجهه غير دلائل الهم الذي يجيش في نفسه، ويحييه الناس جميعا إذا مر بهم أو إذا مروا به، فهو حبيب إلى نفوسهم، وقل في المدينة من يجهله، وإنهم ليتبينون شخصه من بعد بقامته المدبدة وخطواته التي يعرفونها وسرواله الذي ما زال قصيرا يكشف جزءا من ساقيه، فإذا دنا منهم نظروا إلى وجهه الذي أحبوه، والذي يملؤهم انجذابا إليه وعطفا عليه ما يرتسم فوقه من دخائل نفسه، فضلا عما فيه من معاني البساطة والدماثة وحسن الطوية، وهو يرد تحية ذاك بقوله «سعد صباحك يا عزيزي الأخ»، أو تلك بقوله «طاب يومك يا أختاه»، ثم ينطلق وكأنما يحس كل من لقيه كأنما سرى إليه شيء من همه.
وكثيرا ما كان يقف وهو في طريقه إلى بيته عند الظهيرة أو في المساء يتحدث إلى هذا، ويسأل ذاك عن حاله، ويتم لصديق أو جار حكاية كان قد بدأها من قبل، أو يعلق على حديث محدثه بنادرة، أو يذكره من أمسه بما يشبه حاله اليوم، أو يستخرج من كلامه عبرة أو عظة، وقد ألف الناس مرآه على هذه الصورة، وألفوا أن يستوقفوه وأن يستوقفهم ولو طال بهم الوقوف.
ويسأل الناس إذ يرونه أحيانا يضحك ملء نفسه ماذا يكربه ويلقي ذلك الهم على محياه، فإنهم ليحسون أن ضحكه إذا ضحك وأن نادراته إذا تندر إنما هي جميعا متنفس يلجأ إليه ليخفف عن نفسه بعض ما بها، يحسون ذلك إحساسا صادقا، فليس يقع مرحه في نفوسهم كما يقع مرح غيره، فما يذوقونه إلا وفيه طعم الهم.
وإن صديقه هرندن - وهو العليم به - ليحار في أمره ويحاول أن يرده إلى ما يعلم من حال معيشته وعلاقته بزوجه، فيجد في هذا ما هو عسي أن يكربه كما يكرب من كان في مثل موضعه من الناس، ولكنه يرى همه أكبر من تلك الأمور التي يعرفها ويظنها أسبابا له.
هل عادت السياسة تشغل نفسه؟ أم هل عادت معضلة الرق تقلق خاطره؟ أم أن ما يكربه اليوم هو ما ذكرناه من قبل مما يكرب كل نفس كبيرة؛ إذ يحس صاحبها أنه قد يعيش مجهولا غير مفهوم؟ أو الإرهاص الذي يسبق كل رسالة كبيرة؟ ولكن هذا الهم بين جنبيه من قديم ولا تزيده الأيام إلا وضوحا. هو في الواقع ذلك الإحساس الذي يهجس في كل نفس ملهمة، والذي يبدو على ملامح صاحبها في صورة من صور الهم، وما هو إلا التطلع للمستقبل تطلعا يكاد يخترق حجب الغيب.
وليته يجد في كنف امرأته ما يذهب عنه بعض همه، وأين هو من هذا وهي كثيرا ما تكون سبب ما به؛ فما تزال تعنف عليه وتغلظ له في القول، وإن ذلك ليؤلمه وإن يكن ألفه ووطن النفس فيه على الصبر، وإنما مرد ألمه إلى أن يطمع أن يسكن إلى زوجه كما يسكن الناس إلى زوجاتهم فلا يجد إلى ذلك سبيلا.
على أنه يثق اليوم أن مسلكها معه وليد مزاجها الحاد وأعصابها المرهفة، فلم يعد يظن بنفسه الظنون ويخشى أن يكون ذلك منها استخفافا بأمره، فهي تعيش اليوم في رغد بفضل ما يكسب من مال، بنت طابقا ثانيا لمنزلها وقد أصبح المكان الذي يقع فيه من أحسن جهات المدينة، واشترى لها زوجها عربة جميلة تغدو فيها وتروح في أنحاء سبرنجفيلد، وإن لم يره فيها الناس قط! ولن يمر أسبوع دون أن تدعو الأصدقاء والصديقات إلى حفل بهيج تقيمه في بيتها، وقد جددت أثاثه وزينته أحسن زينة، وبلغ عدد من حضروا حفلا عندها مرة ثلاثمائة من خمسمائة مدعو حال المطر دون حضور بقيتهم!
وإنه ليضع ماله كله في متناول يدها لتصيب منه ما تشاء بغير حساب، وقد ترك لها أن تفعل ما تحب فيما يتصل بأمر المنزل والحديقة، يثني على كل ما تفعل ويرضى بكل ما تقول. إذا عن لها أن تسأله مرة عن أمر فجوابه الذي لا يملك غيره هو امتداح ما ترى هي من رأي، حتى ملابسه تشتريها هي له كما تشتري ملابس أحد أبنائهما، وهو بهذه الطاعة يطمع أن يسكن هياجها ويخفف حدتها، ولكنه يجد منها التبرم حتى بمسلكه هذا! قالت لأختها مرة: «إنه لا وزن له إذ يكون في البيت، ولن يفعل هنا شيئا أكثر من أن يدفئ نفسه ويقرأ، وما ذهب إلى السوق مرة في حياته، وإني أنا التي أعنى بكل هذا ... إنه لا يعمل شيئا، وإنه لأقل الناس فائدة وأضيعهم حياة على وجه الأرض.» على أنها على الرغم من ذلك يشيع السرور في وجهها؛ إذ تثني أختها على أبراهام، وتتنبأ له في غده بعظيم القدر. وكثيرا ما كان يراه صديقه في مكتبه قد بكر إليه قبله بساعات، فيدرك لم ترك منزله هكذا مبكرا، وكثيرا ما كان يعلم أن صاحبه بقي بالمكتب في الظهيرة فأكل بعض لقيمات وقليلا من الجبن يشد بها متنه، وكثيرا ما علم كذلك أن أبراهام لبث في المكتب إلى قبيل منتصف الليل.
وقد تنتظر امرأته مقدمه عند الغداء، فلا يحضر، فترسل ابنيها الكبيرين يبحثان عنه، فإذا هو في دكان يحيط به نفر من الناس بين عامل وحوذي ونجار وتاجر، وهو مسترسل بينهم في قصصه ونوادره، يشاركهم في ضحكهم إذا ضحكوا ويسألهم عن أحوالهم إذا فرغ من حكاية، ويرد على أسئلتهم، ويقرأ لهم خطاباتهم، كما كان يفعل وهو عامل في دكان أو وهو موظف في البريد.
فإذا انطلق إلى داره لم يمنعه تأخره حيث كان من أن يقف مرات يكلم هذا، ويرد على تساؤل ذاك، ثم هو يعابث ابنيه ويمازحهما جاهرا بصوته، وهما يتواثبان حوله يحاول كل منهما أن يسبق أخاه في تناول ما يمد به إليهما يده من حلوى، ويشرح أبوهما للناس سبب تصايحهما مرة بقوله: «ما الحيلة وليس معي إلا ثلاث قطع وكل منهما يريد لنفسه اثنين؟!» وتعلم أمهما منهما بكل ذلك فتغضب وتصرخ، فيطرق أبوهما برأسه، ويدعها في هياجها لا ينبس ببنت شفة حتى تنفس عن نفسها غيظها كله.
ويحذر وهو يلاعب ابنيه في بيته أن تفاجئهم أمهما فتقلب سرورهم نكدا؛ إذ تعد عملهم عبثا بالنظام؛ ولذلك يستصحب الابنين الكبيرين أيام الآحاد إلى المكتب، فيلاعبهما كيفما شاء، ثم يدعهما يمرحان ويلعبان، وكأنما ينتهزان بعد رقابة أمهما فيأخذان من المرح والزياط بأكبر نصيب، ويشهد أثر ذلك هرندن في اليوم التالي؛ فيما يرى من أوراق ممزقة ومقاعد ملقاة ومداد سائل على القماطر!
ودخلت عليه ذات ليلة وبين يديه ضيف من رجال القانون، فسألته هل نفذ ما طلبت إليه من أمر، فأجاب أنه نسي، فعنفته قائلة إنه يهمل ما تطلب إهمالا معيبا، ثم خرجت معجلة وشدت وراءها مصراع الباب في عنف، فدقت به مصراعه الثاني دقة قوية، وعجب الضيف ونظر إلى أبراهام فضحك يهون المسألة لصاحبه، ثم قال: «لو أنك علمت مبلغ ما في هذا العمل من شفاء لها ومبلغ ما فيه من خير، وكيف تستمتع به حقا، ولو أنك عرفتها كما أعرفها؛ لسرك أنها تجد فرصة لتنفجر ولتنفس عن نفسها ما تشعر به.»
وراض أبراهام نفسه على ألا يغضب مما تؤذيه به، فلا فائدة من الغضب ولا نتيجة له إلا ازدياد غضبها وثورتها، ولقد بلغ بها الأمر أن رآها بعض الناس ذات يوم تدفعه إلى خارج البيت بخشبة مكنسة قديمة!
على أن هرندن يجده ذات مرة قد بكر إلى المكتب، ويراه صامتا كئيبا يرد تحيته في صوت أجش وفي كلمة مقتضبة، ويرى في وجهه عنفا وغضبا، ثم يلاحظ أنه يطيل الإطراق ويسترسل في التفكير، ويلمح حمرة يحس أنها حمرة الخجل تمشي أحيانا في صفحة وجهه، ولكنه لا يسأله عما به حتى يقبل عليه أبراهام يريد أن ينفس عن صدره فيقص عليه أمره؛ وذلك أن امرأته أخذت تغلظ له في القول وتسيء إليه في الصباح الباكر، وهو لا يرد على ذلك بكلمة فلا تهدأ، بل تزداد عنفا وتزيده إهانة حتى أحس أنه يفقد صبره شيئا فشيئا، فخرج من حجرة الطعام ليبتعد عنها، فلما عاد إليها بعد لحظة لأمر اقتضى عودته عادت إلى صراخها، ولقيته بعاصفة جديدة أفقدته صبره وأطارت صوابه، فأمسك بذراعها في عنف ودفعها في شدة وغلظة أمامه إلى الدهليز فالفناء، وما زال يدفعها حتى قذف بها في الشارع، وفعل ذلك على أعين بعض الناس وكانوا في طريقهم إلى الكنيسة؛ الأمر الذي أخجله أشد الخجل حتى وهو في سورة غضبه.
وهو إذ يرى زوجه تمد الموائد المرة بعد المرة في سخاء لصاحباتها، يجد نفسه عاجزا عن أن يدعو إلى الطعام في منزله أحدا من أصحابه، حتى أهله وذوي قرباه، فلم يجرؤ أحد منهم أن ينزل ضيفا عليه، وهم يعلمون من تكبر زوجه وعنفها ما يعلمون.
ولقد قدر على هذا الرجل أن يجد الشقاء في علاقته بالمرأة من أيامه، فطالما تألم لفقد حبيبة قلبه إذ طواها الموت، ولطالما شقي بزوجته قبل زواجه بها من جراء حيرته وتردده، ثم ها هو ذا يشقى بها بعد الزواج، وكان يأمل أن يجد بين يديها ما هو في حاجة إليه من الهدوء والراحة بعد ما لقيه من عنت الأيام وقسوة الحياة.
ولكن قلبه الإنساني الكبير وتمكن العدالة من نفسه يجعلانه على رغم ذلك يعطف على المرأة، فيتحمس لها إن استضعفت ويدافع عنها ما وسعه الدفاع. سئل مرة عن حقيقة إحساسه نحو المرأة فأجاب بما يفهم منه أنه من أكثر الناس حبا للمرأة، ولكنه من أقلهم حظا في الظفر بما يحب، وهو لا يعدم في أي موقف أن يوضح المعنى الذي يريد بحكاية أو نادرة، قال في هذا الصدد: «أذكر أيام كنا نعيش في إنديانا أن صنعت أمي ذات يوم كعكا مخلوطا بالزنجبيل، فلما شممت رائحته أسرعت إليها لآخذ نصيبي منه وهو ساخن، وناولتني أمي ثلاثة صنعتها لي على هيئة رجال، فأخذتها ومضيت إلى ظل شجرة من أشجار الهكري القريبة لآكلها، وكانت تعيش على مقربة منا أسرة أرق حالا منا، فبينا أنا في ظل الشجرة إذ أقبل صبي من تلك الأسرة وقال: أعطني واحدة من الزنجبيل يا أيب، فمددت إليه يدي بها فالتهمها التهاما، وابتلع الرجل في نهم، بينما كنت لا أزال أقضم الساقين، وعاد فسألني أن أعطيه رجلا آخر، وكنت أريده لنفسي، ولكني مددت يدي إليه به فالتهمه كما التهم الأول، فقلت له: يظهر أنك تحب كعك الزنجبيل يا صاحبي؟ فقال ما من شخص في الدنيا كلها يحبه كما أحب، وما من أحد ينال منه أقل مما أنال.»
ورأى الناس لنكولن يختلف إلى مغنية فيستمع إليها في إعجاب وشغف، ويتحدث إليها كذلك إذا فرغت من غنائها، وضايقه بعض أصحابه باستنكارهم ذلك منه، وهز البعض رءوسهم محذرين فأجابهم: «دعوني وشأني ... إنها المرأة الوحيدة التي أسمعتني أحاديث جميلة.» على أن أحدا من خصومه السياسيين لم يستطع - وهو يتصيد له ما يشينه - أن يجد غميزة في خلقه من هذه الناحية.
وكان لأبراهام يومئذ؛ أي عام 1850، ثلاثة بنين، كان أكبرهم في السابعة من عمره، وثانيهم يقرب من الخامسة، وثالثهم في سنته الأولى، ولئن أعوزه أن يحس السرور بين يدي زوجته، فلقد كان يجد بعض العزاء عن ذلك في ملاعبة ابنيه وفي رؤية ابنه الثالث في مهده، ولكن الزمن القاسي يأبى إلا أن يسدد إلى قلبه سهما من أحد سهامه وأوجعها، فينتزع الموت ابنه الثاني وهو في الخامسة من عمره، فيذهب كما تموت الريحانة الغضة، ويجدد موته آلام أبيه وأشجانه، حتى كأنها تجتمع كلها في هذا الموت.
وكأنما لم يكفه ما كان يلاقي من عنت زوجه حتى تأتيه المتاعب من جهة أخرى، فإن أقاربه فضلا عن أبيه ومنهم ابن زوج أبيه جون جونستون لا يفتئون يطلبون منه مالا، ويرجعون إليه فيما ينجم من خلاف ليصلح ذات بينهم، وحسبه ما كان فيه من شغل وهم.
وكان أبوه توماس لنكولن يومئذ شيخا كبيرا قد تجاوز السبعين، وكان يعيش في إلينوى عيشة البساطة التي شاركه فيها ابنه زمنا، ولقد امتد به العمر حتى رأى ابنه الذي كان يحمل الفأس معه في الغابة من ذوي المكانة، يعيش عيشة المدنية في سعة من الرزق، وكان يسر أبراهام أن يرسل إلى أبيه ما يسعه إرساله من المال والهدايا، وكان دائم السؤال عنه بكتبه التي يرسلها إلى من يقرؤها له ممن يعرفهم من المقيمين على مقربة منه.
وفي عام 1851 برحت العلة بالشيخ ودنا الموت منه، فكتب جونستون إلى أبراهام يخبره هذا الخبر فعظم وقعه في نفسه، ولكنه لم يستطع أن يسافر ليرى أباه، فكتب إلى جونستون يقول:
إنك تعلم أني أريد ألا يحتاج أبي أو أمي
1
إلى شيء فيه راحتهما، سواء في مرضهما أو في عافيتهما، ما داما في عداد الأحياء، وأشعر شعور اليقين أنك لم تدخر وسعا في الاعتماد على اسمي في استحضار طبيب، أو أي شيء آخر يطلبه أبي في مرضه، إنني اليوم بحيث لا أستطيع أن أبتعد عن بيتي، حتى ولو لم يكن مرد ذلك إلى سبب قائم هو مرض زوجتي، وإني لآمل أن يسترد أبي عافيته، وعلى أي حال فإني أرجو منك أن تذكره بأن يتجه إلى خالقه ويدعوه، فلن يتولى عنه العظيم الرحيم إذا دعاه في أية شدة، وهو الذي لا يغيب عنه موت العصفور ويعلم عدد شعرات رءوسنا، ولن ينسى الخالق رجلا يقضي نحبه وقد وثق قلبه به. قل لأبي إنه لو كان من المستطاع أن نلتقي الآن فإن لقاءنا يكون أدعى إلى الألم منه إلى السرور، وإذا قدر عليه أن يفارق الحياة فإنه سينعم بأكثر من لقاء بكثيرين ممن سبقونا إلى الموت، حيث يأمل بقيتنا أن يذهبوا بعد قليل برحمة من الله وفضل، اكتب لي ثانية بعد وصول هذا إليك.
وكأنما يذكره موت أبيه بموت أمه، وإلا فما بال خيالها يطوف بخاطره أكثر من ذي قبل كأنها هي التي تموت اليوم، وقد مر على موتها زمن طويل.
وإنه ليفضي إلى صاحبه هرندن ذات يوم بحديث عن أقاربه وصلته بهم، ويتطرق الكلام أثناء هذا الحديث إلى منشئه، فيكشف لنكولن لصاحبه عن سر يتصل بأمه؛ وذلك أنه لا يعرف أجداده لأمه؛ فقد كانت أمه التي أحبها والذي يجل ذكراها ابنة رجل مجهول، وسيظل هذا الرجل مجهولا أبدا، وكل ما يستطيع أن يعرفه عنه أنه من أهل الجنوب، وبيان ذلك أن جدته لأمه كانت تعيش وهي فتاة في ولاية فرجينيا في الجنوب، فأصبحت ذات حمل وإن لم تتزوج، ووجدت نفسها بعد أشهر الحمل تضع أنثى، وكانت هي وحدها التي تعرف والد هذه الأنثى، ولقيت من أهلها أشد الغضب لزلتها، ولكنهم احتضنوا بنتها فنشأت بينهم تنتسب إليهم وليست منهم، ذلك هو السر الذي يفضي به لنكولن إلى صاحبه على ما فيه مما يوجب الكتمان.
ويردف أبراهام قائلا لصاحبه إنه إن كان ثمة من ميزة فيه لا يوجد مثلها في أحد من ذوي قرباه، فمردها لا ريب إلى أجداده المجهولين من أهل الجنوب.
ويحرص أبراهام على وفائه لزوج أبيه بعد موته، ويدعوها أمه في كتبه التي يرسلها إلى ابنها جون جونستون، وهو لا ينسى ما كان من حدبها عليه ومحبتها إياه بعد موت أمه، حتى لكأنه كان ابنها، وقد كان يسمع عن زوج الأب ما زاده إجلالا ومحبة لهذه السيدة العطوف الرحيمة القلب، التي أحس أنها تقوم منه مقام أمه التي ولدته.
حفظ لها جميل صنعها وهو الوفي بطبعه، العظيم الإنسانية بقلبه، وراح يدافع عنها ويمد لها يد العون ويحميها حتى من طيش ابنها وسوء تدبيره.
وكان جونستون يكدر خاطر أبراهام بطلب المال منه المرة بعد المرة، وما يتكدر خاطره إلا لأن هذا الطلب دليل على فساد جونستون أو كسله، اقرأ هذا الكتاب الذي أرسله إليه أبراهام، وقد كثر طلبه المال منه، فستجد فيه أسلوبه في الإقناع وطريقته في الإحاطة بما يعن له من أمر، ومهارته في أن يؤنب في غير إساءة أو استفزاز، وأن يجلو الرأي حتى ما يدع حجة لمجادل، وهذه صفاته التي سوف تبرز غدا في مجال فسيح؛ هو مجال الصراع بين الشمال والجنوب بسبب معضلة الرق، قال أبراهام:
عزيزي جونستون
لست أرى من الخير الآن أن أوافقك على طلبك، فأرسل إليك تلك الريالات الثمانين. لقد كنت تقول في كل مرة من المرات السالفة التي أعنتك فيها إعاناتي اليسيرة إنك سوف تسير في الحياة بعدها سيرا مرضيا، ثم لا ألبث أن أجدك حيال صعوبة تعترض لك، وليس يحدث ذلك إلا لعيب في مسلكك، وأظنني أعلم ماذا يكون ذلك العيب، ليس الخمول من صفاتك، ولكنك مع ذلك تتقاعد، وإني لأشك في أنك منذ رأيتك قد ملأت بالعمل يوما واحدا من أيامك، إنك لا تكره العمل كرها شديدا، ومع ذلك فإنك لا تحب أن تقبل كثيرا على العمل؛ لما يخيل إليك من أن ذلك لا يعود عليك بكثير جدوى. إن هذه العادة، عادة إضاعة الوقت في غير ما يجدي، هي سبب ما تلقى من مصاعب، وإنه لأمر عظيم الأهمية بالنسبة لك، وأعظم أهمية بالنسبة لأولادك أن تتخلص من هذه العادة، وهو أعظم أهمية بالنسبة لأولادك؛ لأن أمامهم أن يعيشوا أطول مما تعيش، ولأيسر عليهم أن يتجنبوا عادة سيئة قبل أن تحيط بهم من أن يخرجوا منها بعد إذ دخلوها. إنك الآن محتاج إلى بعض المال، وإني أقترح أن تؤدي عملا ما بسنك وظفرك لمن يدفع لك أجرا على هذا العمل، ولكي أضمن لك جزاء حسنا على اجتهادك، فإني أعدك أن أدفع لك نظير كل ريال تكسبه أو تنقصه من دينك ريالا من عندي، وذلك منذ اليوم حتى أول مايو، وبهذا فإنك إذا استؤجرت بعشرة ريالات كل شهر تحصل مني على عشرة مثلها، فيجتمع لك عشرون ريالا في الشهر أجرا لعملك. ولست أعني أن تذهب بعيدا إلى سنت لويس، أو إلى مناجم الرصاص، أو مناجم الفحم في كليفورنيا، وإنما أعني أن تبحث عن أحسن أجر يمكنك أن تحصل عليه على مقربة من مقرك، إنك إن فعلت هذا تخلصت من دينك وظفرت بما هو خير من ذلك؛ ألا وهو عادة تعصمك من الوقوع في الدين كرة أخرى، ولكني إن خلصتك من دينك الآن، فإنك سوف تغرق منه في عامك القادم إلى مثل ما تغرق كل حين.
تقول إنك تكاد تعطي مكانك في الجنة في مقابل سبعين أو ثمانين ريالا، وإنك بذلك لتجعل لمكانك هذا قدرا رخيصا جدا؛ لأني واثق أنك تستطيع مع ما أعدك به من عون أن تحصل على هذا المبلغ، إذا اشتغلت أربعة أشهر أو خمسة. وتقول كذلك إنك مستعد أن تودع قطعة الأرض رهينة عندي إذا دفعت لك ذلك المال؛ حتى إذا عجزت عن سداده تنازلت عن ملكك إياها، ألا إن هذا للغو! فإذا كنت لا تستطيع العيش ومعك الأرض، فكيف تستطيع أن تعيش بدونها فيما بعد؟! لقد كنت دائما رحيما بي، ولست أقصد أن أكون بك اليوم غير رحيم، كلا، فإنك إن قبلت نصحي كان أغلى لك ثمانين مرة من الريالات الثمانين!
أخوك المحب أ. لنكولن
وظل جونستون في اضطرابه وكسله حتى لم يعد يجد أمامه مخرجا إلا أن يبيع ما خلف زوج أمه من أرض، ولكن أبراهام عارض في ذلك معارضة شديدة وكتب إليه كتابا شديد اللهجة يمنعه ويحذره، وحاول أبراهام أن يحول بينه وبين أن يبيع نصيب أمه في هذه الأرض ولكنه لم يفلح، وكان يخشى أبراهام أن تسوء حال زوج أبيه، وإنه ليألم ألا يستطيع أن يدعوها لتقيم معه في بيته، وكذلك كان لا يفتأ يسأل عن حالها ويمدها بما يستطيع من عون، وكتب يعرض على جونستون أن يرسل إليه أحد أبنائه ليربيه عنده.
وانقضى عامان، فبعد أن فرغ ذات ليلة من محاضرة عامة كان يلقيها في مدينة صغيرة، أشار إلى أحد الرجال وانتحى به جانبا وهمس في أذنه قائلا: «إن عندك في السجن فتى حدثا أريد أن أراه على ألا يعلم أحد بذلك.» وكان هذا الحدث هو أحد أبناء جونستون، وكان متهما بسرقة ساعة وبعض أشياء أخرى، وقال أبراهام: «إني سأنقذه مما هو فيه هذه المرة، ولئن عاد بعدها إلى السرقة فلن تكون لي به صلة.»
وذهب أبراهام وكلم ذلك الفتى من خلال قضبان السجن، ثم وقف يتحدث مع أصحاب المتاع المسروق، وما زال بهم حتى أقنعهم بالعدول عن الاتهام بعد أن دفع لهم ثمن مسروقاتهم، وتوصل بهذا إلى إطلاق سراح الفتى، ولقد وصفه من شهد موقفه يومئذ فقال: «لقد كان أبراهام شديد الأسف، وما رأيته قط يبدو على وجهه أكثر من هذا الحزن.»
وحق له أن يحزن وهو بفعلته هذه يقف في وجه العدالة، فينقذ من القصاص مجرما، ثم إنه لقي عنتا شديدا من أصحاب المتاع المسروق، وأحس بين أيديهم بالخجل الشديد، وليس هذا بالأمر الهين على من كان في مثل مركزه ومن كان له مثل خلقه، على أنه يحتمل ذلك من أجل زوج أبيه، من أجل تلك المرأة الطيبة الرحيمة التي أحسنت معاملته وهو حدث، وإن قلبا مثل قلبه الكبير لا يمكن أن ينسى صنيعا، وكيف ينسى وهو يسعى بالمعروف أبدا لكل من يطلب المعروف؟! فكيف به حين يرد الجميل لمن بدأه بإحسانه؟!
نظرات وخواطر
كان أبراهام قد بلغ أشده واستوى، وأخذت نظرته إلى الحياة والناس تزداد عمقا في أول العقد الخامس من عمره، ولكنه ما برح يحس كأن شيئا يقلقه، شيئا خفيا لا يجهله ولا يدريه يشغل باله وينقبض له صدره، فهل أخذت السياسة توسوس له من جديد فهو يتأهل لها ويتحفز؟
ويلاحظ أصحابه أن أمارات الحزن التي ارتسمت على وجهه منذ حداثته تزداد وضوحا كلما تقدم به العمر، وقد ازداد ما يخطط ذلك الوجه من تجاعيد هي من أثر الهم لا من أثر السنين، وهو على الرغم من عذوبة روحه في أحاديثه وطلاقة بشره في قصصه، تنطوي نفسه على كثير من الهم لا يتبين مبعثه، وهو إذا خلا إلى نفسه فكر وأمعن في التفكير، وتربد وجهه وانعقدت عليه كآبة مخيفة ينزعج لها خاطر من يراه، وكثيرا ما وافاه صديقه هرندن وهو على هذه الحال، وكثيرا ما سمعه يغمغم بمثل أنين المحزون.
سمعه أحد رفقائه في السفر أثناء تجواله إلى المحاكم، وقد نهض ذات صباح مبكرا، يحدث نفسه، واستمر يفعل ذلك بضع دقائق وهو يلبس ملابسه، حتى لقد ظن صاحبه به الظنون، وحسب أنه قد مسه الخبل بغتة، ثم رآه صاحبه يضع كفيه على وجهه وقد أطرق مليا حتى نبهه جرس الطعام في فناء الفندق، فوثب واقفا وفي وجهه حزن عميق!
وكان إذا سمع أبراهام مغنيا يغني قطعة حزينة، يسأله أن يكتبها له فيترنم بها ويرددها، كأنما يجد فيها عزاء لنفسه أو شفاء لهمه.
وكثيرا ما يتأمل في الكون تأمل الشاعر تارة وتأمل الفيلسوف تارة أخرى، حدث عنه مضيف له في شيكاغو مرة أنه جلس ذات ليلة موزع البصر بين البحيرة العظيمة والسماء، ثم نظر نظرة طويلة في النجوم، وراح يحدث من حوله عما بينها من مسافات هائلة وعما توحيه إلى النفس من شعر وسحر، وعن العلم وما كشف من أبعادها وأحجامها، وعن المناظر المكبرة وما يرجى من فوائدها وما يتوقع من تقدمها، كل ذلك في حسن سياق ودقة وصف وصحة فهم.
وكان يبدو شديد المرح أحيانا فيرسل طائفة من النكات واحدة تلو الأخرى، ويقص بعض نوادره وحكاياته، فما يشك سامعه أنه من ذوي النفوس الراضية التي لا تعرف الهم، ولكن واعيته الباطنة في الواقع هي التي كانت تميل به إلى هذا تخلصا مما يساوره من هم، وكثيرا ما كان يتلمس السلوة في مثل هذه الأحاديث، وما كان ميله إلى الفكاهة إلا نوعا من الهرب مما يوسوس به الهم في صدره.
وكان يخيل إلى محدثه أنه مصيخ إليه مقبل عليه، إذ هو في الواقع في شغل عنه بما يهجس في خاطره من قلق أو يعتلج في نفسه من ضيق، فلا يلبث أن يقطع الكلام على محدثه في صوت عال مندفعا في كلام لا يمت إلى ما يقول بصلة! وكثيرا ما كان يبعث الضحكة العالية تصحبها هزات من رأسه وقد ساد الصمت بعد الصخب في مجلس من المجالس التي تحتويه، وليس الموضع موضح ضحك، فيعجب الجالسون من فعله إلا من يعرفه منهم، وقد يخرج دفترا صغيرا من جيبه فيدون فيه بعض كلمات أو يقلب صفحاته، ثم يسترسل في سرد قصة أو يبعث فكاهة في إثر فكاهة.
وهو منذ حداثته يأبى إلا أن يرسل نفسه على سجيتها لا يقيد نفسه بشيء، وما تزيده الأيام إلا حرصا على رغبته في التخلص من القيود، لا يعنى بمظهر، ولا يلتزم وضعا من الأوضاع في ملبس أو مأكل، وكان قوي البنية نشيط الحركة لا يركن إلى قعود، وذلك دأبه منذ كان في الغابة، وهو في جميع أفعاله تتكشف جوانب نفسه عن طبيعة صادقة كأنما تتحرك عن إلهام أو تعمل بوحي، وتتمثل فيه البشرية في سذاجتها وكمالها وفي ضعفها وقوتها، ويلمح الناس في سجاياه براءة الطفل، وتوقد عاطفته إلى جانب نزعات الفيلسوف ورجاحة عقله.
وكأنك تقرأ سجاياه في أسارير وجهه، وتحس فيها ما تعوده في حياته من البأساء والضراء، فإذا نظرت إلى صورته رأيت شبح حياته الأولى في رأسه الأشعث، ولمحت زكانة نفسه في جبهته العالية العريضة، وأحسست طيب قلبه وصفاء طويته ورقة عاطفته ونفاذ بصيرته في عينيه الوديعتين المتسائلتين، وتبينت صرامته ومضاء عزيمته في أنفه الغليظ الأشم، ثم أبصرت قوة صبره وشدة تحمله وروعة استسلامه تختلج كلها على شفتيه المضمومتين المعبرتين عن مض الحوادث، وطالعتك من هاتيك الملامح في جملتها سذاجة الأطفال وهيبة الرجال، ثم تهلل من وراء ذلك كله سر العبقرية الذي يدق عن كل وصف ويسمو على كل تحليل.
وكان يلوذ بالكتب إذا فرغ من قضاياه وخاف وساوس همه. وإن له في الكتب لغنية ومتعة، وقد ازداد شغفا بشكسبير؛ إذ يرى ومض عبقريته يمس النفس البشرية فينير أكثر نواحيها، وهو مولع منذ حداثته بدراسة النفس البشرية والغور إلى أعماقها، ومن غير شكسبير يهديه السبيل؟ لذلك كان إذا تناول كتابا من كتب القانون ساعة أو بعض ساعة ثم ألقاه، عمد إلى مأساة أو ملهاة من آثار شكسبير فأكب عليها ونسي كل شيء سواها، فإذا أتى عليها فكر وفكر وظل شاخصا ببصره في ثرى الأرض أو في لازورد السماء، كأنما أخذته عن نفسه حال.
وكانت له في بعض آثار بيرون متعة، ومن بينها قصته العظيمة دون جوان، وهو بين هذا وذاك يقلب صفحات التاريخ العام وصفحات تاريخ بلاده، ويقرأ الفلسفة فيدرس كانت ولوك وفخت وإمرسون وغيرهم.
ومن عجيب أمر هذا العصامي أنه تناول فيما تناول كتب العلوم وأخذ يدرسها، وقد جعل لها ساعات من فراغه؛ فهذا علم النبات له نصيب من جهده، وذاك علم الحيوان له نصيب، ثم هذه الكهربة تصيب من عنايته حظا ليس باليسير!
ولكن ما العجب؟ وهل تضيق العبقرية عن شيء؟ هذا لنكولن ابن الغابة الذي علم نفسه، لو لم يكن المحامي أو رجل السياسة ما قعد به شيء عن أن يكون الشاعر الفحل! أو لو أنه أفرغ إلى العلم جهده وجعل للدراسة والتحصيل وقته، لكان لنا منه العالم الفذ أو الفيلسوف المبتدع. وهو في ذلك أكثر الناس شبها بجوت شاعر ألمانيا الأكبر، الذي يجمع بين اللمعة الخيالية والنظرة العلمية والحكمة العملية.
وفكر أبراهام في المسيحية وقلب الرأي على وجوهه في تلك العقيدة، وكان شأنه إذ يفكر فيها كشأنه في كل ما يعرض له من أمر، فاستقلال الفكر قوامه والمنطق سبيله، والإحاطة بالموضوع من جميع أقطاره غايته، ثم إنه يقابل بين الآراء ويتقصى تفاصيل كل رأي في غير تحيز، حتى يتبين ما لهذا الرأي وما عليه، ويخلص من هذا إلى النتيجة التي يراها فتكون في ذهنه واضحة كل الوضوح.
وكان في صدر شبابه لا يتحرج من إعلان رأيه في هذه المسألة، وهي ما يتحرج منها معظم الناس، ولقد أشيع عنه وهو في نيو سالم أنه كافر ينكر الله على الرغم من تمثله في أحاديثه وخطبه بالإنجيل ومواعظ الإنجيل، ولكنه أخذ يتحفظ في رأيه بعد ذلك فلا يفضي بما يعتقد إلا إلى خواصه، على أنه لم يظهر مرة غير ما يبطن، فما يتكلم إلا بما يعلم، على قدر ما يتفق له من فهم.
حدث هرندن عن صديق لأبراهام كتب عنه وهو في الثلاثين من عمره، فقال: «لقد كان يركن أحيانا إلى مبدأ إنكار الله، ولقد ذهب في هذه الناحية إلى مدى بعيد روعني، وكنت وقتها حدثا أعتقد فيما تقوله لي أمي الطيبة، وكان يأتي إلى مكان الكتاب حيث كنت أجلس وبعض الفتيان، وقد أحضر معه الإنجيل فيفتحه ويقرأ فصلا منه ثم يأخذ في تفنيده.»
وحدث ستيوارت أول شريك لأبراهام فقال: «لقد ذهب في معارضة العقائد المسيحية وقواعدها ومبادئها إلى أبعد مما ذهب إليه أي رجل سمعت عنه ... وقد أنكر لنكولن دائما أن المسيح ابن الله كما تفهم وتدين الكنيسة المسيحية، وبعد ذلك بعشرة أعوام علمت من القاضي دافسن أن أبراهام لا يؤمن بالمسيحية كما تأخذ بها الكنيسة، وليس يؤمن إلا بالقوانين والمبادئ والعلل والنتائج.»
وحدث آخر عنه فقال: «كان يصدق بخالق خلق كل شيء لا أول له ولا نهاية، وله القدرة كلها والحكمة، وقد وضع ذلك الخالق مبدأ تتحرك العوالم طوعا له وتقوم به، ويعيش الحيوان والنبات على مقتضاه. ويورد لعقيدته هذه سببا هو أنه بالنظر إلى ما في الطبيعة من نظام واتساق، نجد أن مجيئها على هذه الصورة المحكمة بطريق المصادفة أدعى إلى العجب مما لو كانت من خلق قوة عظيمة مدبرة أحكمتها ... إن ما جاءنا من بينة على ما في المسيح من الله قد أتى على صورة ما، يحيط بها الشك، ولكن نظام المسيحية كان نظاما جيدا على الأقل.»
ومما ذكره كذلك عنه، هذا الرأي: «إن ما عبر به لنكولن عما يرى في هذا الأمر وما يتصل به يخرجه من دائرة المسيحية، ومع هذا فإن مبادئه وما يجري عليه من أمور حياته والروح المسيطرة على حياته كلها، لا تخرج عما يتفق الكافة على عده من المسيحية.»
وقالت زوجه بعد موته: «لم يكن لمستر لنكولن عقيدة ولا أمل فيما يصدق عادة من تلك الكلمات، ولم يتصل بكنيسة قط، بيد أنه مع هذا كان كما أعتقد رجلا دينا بفطرته ... وكان الدين نوعا من الشعر في طبيعته، ولم يكن مسيحيا بالمعنى المتعارف عليه.»
وقال أبراهام مرة إن مذهبه كمذهب رجل شيخ سمعه مرة يقول عقب اجتماع من اجتماعات الكنيسة: «إني إذا فعلت الخير أحسست بالخير، وإذا فعلت الشر أحسست بالشر، وهذا هو ديني.» وذكر هرندن رأيه فيه فقال: «ما من رجل يؤمن بالله في قوة وثبات أكثر مما يؤمن لنكولن، ولكن ينبغي ألا نأخذ تكراره لفظ الله في آخر حياته على أنه يعني إلها مجسدا. وفي سنة 1854 طلب إلي أن أحذف كلمة الله من خطاب كتبه وقرأته عليه لينقده؛ وذلك لأن عبارتي كانت تشعر بأني أقصد إلها في شخص، وإنه ليصر على أن مثل هذه الشخصية لم يكن لها وجود قط.»
وما يعنينا من أمره هذا إلا مبلغ ما فيه من دلالة على استقلال رأيه، وإصراره على تبين ما يأخذ مما يدع من أمور الحياة كلها، ولو كان ذلك الأمر هو الدين، ثم حرصه في كل شيء على الاقتناع والفهم، ثم تصريحه بما يعتقد في غير التواء أو مواربة، وما ذلك إلا لأن الرجل قد جبل على أن يسير على سجيته، وأن يعمل بوحي من فطرته، وفي هذا جانب من جوانب عظمته وناحية من دعائم قوته.
وعجيب بعد ذلك ألا يخلو هذا الرجل الذي يتفلسف في دينه هذا التفلسف، ويتدبر فيه هذا التدبر، من صفة تحملنا على العجب منه أعظم العجب، وتجعلنا من أمره حيال تناقض ليس من الدهشة منه بد؛ وذلك أن لنكولن يؤمن، أو على الأقل يذعن، لتلك الناحية الخرافية من أوهام الناس؛ فيصدق في فائدة حجر من الأحجار مثلا، ويرى في بعض الظواهر أمارات خير أو شر مقبل، كما يفعل بسطاء الناس إذ يرون مثل ذلك في رفيف العين مثلا، ويعلن أهمية كبيرة على الأحلام، ويجتهد في استنباط ما عسى أن تنبئ عنه أو تدل عليه، وتحدثه نفسه أحيانا وتوسوس له فيترقب في اطمئنان أو في خوف.
عض ابنه كلب مجنون فحمل أبراهام الطفل مسافة طويلة إلى إنديانا ليلمس هناك حجرا مشهورا يؤمن الناس أن لمسه يصنع العجائب، وأي فرق بينه في هذا العمل وبين فلاح ساذج محتطب ممن اختلط بهم أمس في الغابة؟! بل أي فرق بينه اليوم وبينه أيام كان ينصت وهو في كوخ أبيه في الغابة إلى صفير الرياح في ثقوب ذلك الكوخ، أو إلى خشخشة الأغصان على بعد في الظلام كأنها صوت ينبعث من البحر؟! وإذا كانت هاتيك الأوهام قد انبثت في نفسه في ذلك العهد، فكيف لم تقض عليها قراءاته وخبرته وصلته بدنيا العلم والحضارة؟ ترى هل فعل ما فعل من فرط محبته ابنه، فهو ينتقل به إلى ذلك الحجر كما يصنع الغريق إذ يحاول أن يمسك شعاع الشمس؟ أم ترى أنه كان يؤمن أن في الحجر سرا يشفي كما يصدق بسطاء الناس؟ ذلك ما يحار عنده المرء فلا يرى وجه الصواب فيه.
صدق أبراهام بالعلامات والأحلام والعجائب، فذلك أمر يحسه في نفسه، وليس مرده إلى العقل والمنطق، وظل مصدقا بها عمره كله، يرتقب ما توحي به من خير أو شر، ولكنه لم يصدق أنها تلوي القدر عن وجهه؛ لأنه يؤمن أن كل شيء مقدر على المرء من قبل أن يبرأ، فلا تجدي وسيلة من صلاة أو دعاء في تغيير ما تجري به المقادير. يقول في ذلك: «إن كل أثر له سببه؛ فالماضي سبب الحاضر، والحاضر سوف يكون سبب المستقبل، ليس في فلسفتي أن شيئا يأتي عفوا ...»
ولذلك فإنه وإن نظر في الأحلام وما عسى أن توحيه، وفي بعض العلامات وما عسى أن يكون ما تنذر أو تبشر به؛ لا يأخذ بها فيما هو فاعل من شيء؛ فلن يغير خطة رسمها أو يقبل على عمل ما لأن حلما من الأحلام يوحي بذلك، أو نذيرا من النذر يوسوس به، أو بشيرا يومئ إليه؛ فكل أولئك لا يقره عقله. ولكنه على الرغم من ذلك يحس ويتوقع ويخاف ويستبشر، كما حدث في آخر يوم من حياته؛ إذ أفضى إلى صاحب له أن فؤاده يحدثه بمكروه، وكما حدث إذ تحدث إلى هرندن ذات يوم قبل ذلك بأعوام قائلا: «بلى ... إني لأخشى أن سوف تأتي نهايتي على صورة مرعبة!»
شمال وجنوب!
كان اتساع هوة الخلاف بين الشمال والجنوب أمرا لا بد أن تفضي إليه الظروف؛ فإن مشكلة الرق أمست كبرى المشاكل القومية، حتى إنه ليمكن القول بأن أكثر ما نجم من المسائل منذ منتصف القرن التاسع عشر، إنما يرد إلى تلك المشكلة التي أعضلت على الحل، والتي وصفها جفرسون من قبل وصفا بليغا في قوله: «إنها مثل الذئب نمسكه من أذنيه فلا نستطيع أن نظل ماسكيه، ولا نستطيع أن نطلقه ونضمن السلامة.»
خفف اتفاق مسوري حدة الخلاف بين الشمال والجنوب زمنا ليس بالقصير، فقد عقد ذلك الاتفاق سنة 1820، وعاد الخلاف يتهدد الاتحاد بسبب مسألة كليفورنيا سنة 1850.
أراد الجنوبيون أن تكون كليفورنيا من ولايات الاسترقاق، وأراد الشماليون أن تكون من الولايات الحرة، وشايع أهلها الشماليين فيما ذهبوا إليه، واحتدمت الخصومة بين الجانبين، حتى بلغ الأمر بالجنوبيين أن رددوا كلمة الانسحاب من الاتحاد، وحتى ظن بعض الناس أن هذا الخلاف الجديد لا بد مؤد إلى انقسام البلاد إلى اتحاد شمالي واتحاد جنوبي.
كان أهل الجنوب ينظرون في قلق إلى تزايد عدد الشماليين نتيجة لما درته الصناعة والتجارة عليهم من خير، ونتيجة لتيسير سبل الاتصال بين الشرق والغرب بتعبيد الطرق ومد سكك الحديد؛ مما أدى إلى نزوح أهل الشمال إلى الجهات الغربية يعمرونها وينسلون فيها، هذا إلى أن دعاة التحرير تزداد أصواتهم ارتفاعا، كأن لم تكف أهل الشمال عداوتهم السلبية للرق فيريدون أن يقضوا عليه بين يوم وليلة.
لهذا أصر الجنوبيون على أن تكون كليفورنيا من ولايات الرق، فإن سكان الولاية عند الانتخاب للمجلس النيابي يقدر عددهم على أساس البيض كلهم مضافا إليهم ثلاثة أخماس السود، وكان الجنوبيون يطمعون أن يعمروا بقاعا جديدة، كما يفعل الشماليون وينشروا فيها الرقيق، فلا أقل اليوم من أن يقروا مبدأ الرق في كليفورنيا، وما أجدرهم أن يعظم سخطهم على الشماليين لوقوفهم بينهم وبين ما يبتغون، وكان الرئيس يومئذ هو تيلور، فأعلن رأيه مؤيدا الشماليين قائلا في صراحة إن من السخف أن يحمل أهل كليفورنيا على أمر لا يريدونه، وزاد رأيه هذا بالضرورة سخط أهل الجنوب، وملأ قلوبهم غيظا وثورة، ولكن تيلور ما لبث أن مات وحل محله نائب الرئيس، فسهل موته العمل على الوصول إلى اتفاق جديد؛ إذ كان تيلور عنيدا يتمسك برأيه ولو أنه بقي لبعد الأمل في التسوية، وكان نائبه سهل الخلق لا يأبى إذا حزبه أمر أن يترك الرأي فيه لمن يراه أقوى على الخلاص منه.
ومن عسى أن يدبر للبلاد مخرجا من هذه الأزمة؟ بهذا تلفت الناس يتساءلون، فاتجهت قلوبهم إلى صاحب اتفاق مسوري؛ إلى هنري كليي، ومن غير كليي إذا اشتد بالناس الخلاف؟ وكان الرجل في عزلته منذ فشله سنة 1844، وقد تقدمت به السن وأخذ الضعف يدب في بدنه، ولكنه وقد أهاب به داعي الوطن لم يكن ليستطيع أن يتخلف وهو الشهير بصدق وطنيته وقوة حرصه على بناء الاتحاد، فبرز من عزلته يمد يده إلى وطنه من جديد.
وأملت عليه مهارته حلا يرضي الجانبين المتنازعين؛ فلتكن كليفورنيا ولاية حرة كلها، وإن كان ما يقرب من نصفها يقع جنوبي خط اتفاق مسوري، وفي مقابل ذلك تفتح للرق أريزونا ومكسيكو الجديدة، وهما من البقاع التي لم تستعمر بعد استعمارا تاما، إذا شاءت حكومتاهما ذلك بعد تكونهما، وإنما يكتفى الآن بتقرير المبدأ. يبقى بعد ذلك أمران؛ أولهما: وجود الرق منذ القدم في منطقة كولومبيا التي تقع فيها مدينة وشنطون، بل ووجود مستودع كبير للرقيق على خطوات من مقر الحكم، وهذا مما اشمأزت منه قلوب الأحرار، وتأذت نفوسهم سنوات طويلة، وكان مصدر شقاق وشحناء بين أنصار التحرير والمتمسكين بالرق. أما الأمر الثاني: فهو قانون الرقيق الآبقين إلى ولايات غير التي كانوا فيها، وكان يقضي الدستور بإعادتهم إلى حيث كانوا، ولكن كثيرا من الولايات أصدرت تشريعات محلية تعطل حكم الدستور في هذا الأمر.
ورأى كليي في أول الأمرين أنه مع الاعتراف بأن كولومبيا منطقة من مناطق الرق، إلا أنه يجب أن يوقف بيع العبيد وشراؤهم في العاصمة، وفي ذلك ما ترتاح له نفوس الشماليين وأنصار التحرير على العموم، ورأى في ثاني الأمرين أن تنفذ الولايات حكم الدستور فيعاد الآبقون إلى ولاياتهم، ولا يحق للولاية التي لجئوا إليها أن تدافع عنهم، وفي هذا ما يرضي أنصار الرق الذين خافوا من تسرب الرقيق إلى الولايات الحرة فرارا من العبودية.
وهكذا يحاول كليي كما فعل في اتفاق مسوري سنة 1820 أن يرضي الجانبين في اتفاق كليفورنيا سنة 1850، وقد ارتاح الناس في الشمال والجنوب لهذا الاتفاق؛ حرصا على الاتحاد.
ولكن ارتياحهم - وا أسفاه! - لم يطل؛ فلم يلبثوا حتى دب بينهم الخلاف؛ إذ كان اتفاق كليفورنيا، على الرغم مما في ظاهره من عوامل التوفيق، ينطوي على أسباب قوية النزاع.
كره أهل الشمال تنفيذ حكم الدستور فيما يتعلق بالرقيق الآبقين، ورأوا في ذلك تمكينا للرق، وهم يعملون على استئصاله. وكان قد صدر قانون سنة 1793، بمقتضاه يتعقب مالك الرقيق أو من ينوب عنه طلبته، حتى إذا وقع عليها قدم حيث وجدت للسلطات ما يثبت ملكيته، وبذلك يحصل على أمر مكتوب، به يستطيع أن يرجع بالهاربين إلى مقرهم، ويحكم بغرامة قدرها خمسمائة ريال على من يضع العقبات في سبيله. ولم يكن للرقيق الفارين حق الدفاع عن أنفسهم، وقد احترف بعض الناس تصيد هؤلاء الآبقين نظير أجر معلوم. وكثيرا ما كان هؤلاء المحترفون يضعون أيديهم على أي فريق من السود ممن لا يتبعون أحدا، ويقسمون جهد إيمانهم أنهم هم المطلوبون؛ وعلى هذا فلن ينفع السود الفرار إلا أن يبلغوا كندا. وقد وصف القصصي العظيم شارلز دكنز تلك الحال عند زيارته أمريكا، فكان مما قاله: «باسم الرأي العام وضع ذلك القانون، كان لأي شرطي في وشنطون - تلك المدينة التي سميت باسم زعيم الحرية الأمريكية - أن يأخذ بناصية أي رجل من السود ويلقي به في السجن وإن لم يرتكب أية جريمة، وحسب الشرطي أن يقول إنه يظن ذلك الأسود من الآبقين، ويمكن الرأي العام لهذا الشرطي أن يعلن في الصحف عن هذا الأسود، فيدعو مالكه أن يأتي فيطلبه وإلا بيع ليدفع نفقات الحبس، ولنفرض أنه قد تبين أن هذا الأسود ليس يملكه أحد؛ أعني أنه حر، فالذي يتبادر إلى الذهن هو إطلاق سراحه، ولكن الحال لم يك كذلك، وإنما كان يباع ليكون ثمنه عوضا لسجانه، وكان يقع ذلك ثم يقع مثنى وثلاث ورباع، وليس للأسود ما يثبت به حريته، ولم يكن له ولي ولا ناصح ولا رسول ولا مساعد على أية صورة ولا من أي نمط، وربما كان هذا الأسود ممن خدموا سنين طويلة ثم اشترى حريته، ولكنه هكذا يلقى به في غيابة السجن في غير ما جريرة ولا تفكير في جريرة، ثم يباع ليدفع نفقات سجنه.»
تلك هي حال الفارين حتى سنة 1850، وكانت بعض الولايات الشمالية قد أرادت أن تشترط أن يثبت طالبو الفارين السود أن هؤلاء كانوا رقيقا لم يعتقوا قبل فرارهم، ولكن المحكمة العليا أصدرت وهي المرجع في تفسير لدستور سنة 1842 قرارا مؤداه أن تدخل الولايات في هذا الشأن عمل غير دستوري، وأراد أهل الجنوب أن يزيدوا سلطة ذلك القانون البغيض، وعلى ذلك أضافوا إلى مواده بعد اتفاق كليفورنيا ما زادوا به الغرامة على من يعوق تنفيذه إلى ألف ريال مع الحبس ستة أشهر، وفضلا عن ذلك يكون عرضة للعقاب من لا يلبي طلب المساعدة عند القبض على الفارين.
ولقد ترتب على ذلك أن ازداد الناس نفورا واشمئزازا من هذا القانون، وبسبب تنفيذه احتدمت المعارك بين الشرطة والناس في بعض الولايات الشمالية، ودخل السجن بعض ذوي المكانة من الأساتذة والأطباء ورجال الدين، وتنبه إلى دعوة التحرير من لم يكونوا يبالون بها من قبل، وطاف بالناس شعور عام أن الرق لم يعد يطاق، وأنه عمل تتبرأ منه الإنسانية، وخليق أن يخجل منه كل منصف، وألا يسكن أولوا النخوة حتى يقضوا عليه.
وفي سنة 1854 نجمت مشكلة جديدة عصفت باتفاق كليفورنيا، ولما يمض عليه إلا أربع سنوات، وزلزلته من أساسه؛ وتلك هي مشكلة كنساس نبراسكا، وكانت البلاد قد فقدت هنري كليي منذ سنتين وانطوت حياة الرجل الذي عمل مرتين على حفظ بناء الاتحاد.
وشهد الكونجرس رجالا جددا أبرزتهم السياسة؛ فمن الشماليين سيوارد، وهو من نيويورك وينتمي إلى وجر، وقد اشتهر بمعارضته قانون الرقيق الفارين، فهيأه ذلك لزعامة أنصار التحرير في الشمال، ومن الجنوبيين جفرسون ديفز، وكان خطيبا مفوها وجنديا أبلى بلاء حسنا في الحرب ضد المكسيك، ومن الجهات الغربية ستيفن دوجلاس الذي انتخب عن إلينوى لمجلس الشيوخ، وكان يلقب بالمارد الصغير.
ولقب دوجلاس بالمارد على صغر جرمه لعظم قوته وشدة حوله؛ فقد كان خطيبا يتدفق حيوية وبلاغة، وهبه الله صوتا يسمع الآلاف، كما وهبه جلدا على الكلام ساعات، يخرج من الخطبة الطويلة قد جرد لها عزمه وبذل فيها غاية جهده، وكأنه أكثر فتوة وأعظم حيوية منه حين بدأ الكلام! وكان له من قصره واستدارة وجهه وكبر رأسه وثاقب نظراته وشدة تأثيره فيمن هم دونه؛ ما يجعله قريب الشبه بنابليون، فلا عجب أن ينعته الناس بالمارد، فهم إنما يشيرون إلى قوة نفسه وشدة مراسه، وما لبثت الظروف أن جعلته في الكونجرس أعلى الرجال صوتا وأبعدهم صيتا .
كانت كنساس ونبراسكا تقعان شمالي خط اتفاق مسوري، وبناء على هذا الاتفاق لا يسمح بالرق فيهما، فلما أريد تعميرهما والحث على الهجرة إليهما كخطوة نحو الغرب، جعلها الشماليون والجنوبيون مسرحا للنزاع القائم بينهما؛ فالشماليون يتمسكون باتفاق مسوري، والجنوبيون يريدون ألا يعبئوا به، وهذه هي المعضلة.
ويخطو حينئذ دوجلاس خطوة يرج البلاد بها رجة عنيفة، ويزيد مشكلة الرق تعقيدا، ويوقد نار الفتنة في البلاد، وكان دوجلاس مقرر اللجنة التي تنظر في مشكلة كنساس نبراسكا في الكونجرس، فأعلن أن تقييد حرية الولايات عمل يخالف روح الدستور الذي يقرر مبدأ سيادة الشعب، ويجعل لكل ولاية الحق أن تضع دستورها كما تريد، وعلى هذا فليترك لأهل كنساس ونبراسكا حرية الاختيار، فتكون هاتان الجهتان من مواطن الرق أو من مواطن الحرية، حسبما ينتهي إليه رأي السكان، وحمل دوجلاس الكونجرس بنشاطه ومهارته على قبول هذا المبدأ، وصدرت به لائحة.
ومعنى ذلك أن اتفاق مسوري قد نقض من أساسه، فلا عبرة اليوم إلا بما يشاء أهل أي جهة تريد الانضمام إلى الاتحاد، ولقد سرت في الشمال موجة من الهياج والسخط لن يصفها كلام، وباتت نذر الشر تتهدد البلاد.
وتنافس الشماليون والجنوبيون في الهجرة إلى كنساس، تريد كل طائفة أن تكون أكثر عددا وأعز نفرا، وأقامت كل منهما حكومة وزعمت كل حكومة أنها الجهة الشرعية، ورأى حتى أقصر الناس نظرا في هذا نذير التفرقة وشرارة الحرب الأهلية، واشتد النضال بين الجانبين عند انتخاب المجلس التشريعي، ولجأ الناس من الجانبين إلى التزوير والشغب، وقتل في ذلك الصراع فريق من كل جانب وجرح فريق، وصارت تذكر كنساس باسم كنساس الدامية، وظهر للناس أول الأمر أن الفوز للجنوبيين لكثرة عددهم، ولكن جمعيات في الشمال تألفت من أجل هذه المشكلة، جمعت المال وأمدت به من استحثتهم للهجرة، وانتهى الأمر بعد عامين بفوز الشماليين، وجاءت أغلبية أعضاء الولاية من أنصار التحرير.
بقي بعد ذلك أن تضع الولاية لها دستورا، ولا بد من مؤتمر عام لتقرير مبادئ هذا الدستور، ثم إن الولاية سوف تطالب بعد أن يتم وضع الدستور بانضمامها إلى الاتحاد، وسوف تكون مسألة الرق هي المشكلة عند وضع دستور الولاية، وسوف تكون مثار نزاع عظيم بين أنصار الرق وأنصار التحرير.
ومهما يكن من أمر كنساس، فإن وجه المشكلة الآن هو أن كل ولاية تستطيع إذا شاءت أن تقرر مبدأ الرق، ومرد ذلك كما هو واضح إلى خطوة دوجلاس.
وما كان دوجلاس ليعجز عن أن يبرر عمله أو أن يتلمس له الأوجه القانونية، وإذا عجز دوجلاس عن هذا فمن يقدر عليه؟! وإنه لأعلم الناس يومئذ بألاعيب السياسة وأضاليلها، يصدر في ذلك عن طبع وعن خبرة، ويسدد الرمية في لباقة وخفة.
ولم يكن اهتمام دوجلاس بتلك المسألة إلا جزءا من خطته التي رسمها، وأراد أن يدلف بها إلى الغاية التي لا يرى دونها غاية؛ ألا وهي الظفر بالرياسة متى حان الوقت، وهو يتحرق شوقا إليها ويتقطع تلهفا عليها، ولا يفتأ يتبين السبيل المؤدية مهما كانت وعورة مسالكها، والآن تسنح الفرصة فيقتنصها، وهو باقتناص الفرص جد خبير. موه على الناس أنه يمكن لسلطان الأمة إذ يرد مسألة الرق إلى رأي الأمة، وأنه يجعل بذلك كلمة الشعب هي العليا لا كلمة الكونجرس، وهو إنما يرمي في الواقع إلى كسب قلوب أهل الجنوب، الذين كانوا يرون من أول الأمر أن يكون لكل ولاية من الحرية ما يحفظ لها شخصيتها أن تتلاشى في الاتحاد، والذين يريدون أن يتخلصوا من اتفاق مسوري.
وكانت أوشكت أن تنتهي أثناء ذلك مدة مجلس الشيوخ، وانصرف الأعضاء سنة 1954 إلى البلاد يدعون لأنفسهم تمهيدا للانتخابات الجديدة، وكان دوجلاس نائبا عن شيكاغو في شمال إلينوى، فذهب إلى هناك يدعو لنفسه، ولكن هاله من رآه من غضب الناس عليه؛ فهو أينما تولى يجد من الناس إعراضا عنه، بل إنهم كانوا يجبهونه بالسوء من القول ويظهرون له ما كانوا يضمرون من حقد ومقت.
وإنه ليجزع ويستولي عليه الحنق إذ يرى الرايات في شيكاغو منكسة في هامات السفن، ويرى الجدران وعليها عبارات صارخة تلذع قلبه، ويسمع النواقيس تجلجل في الجو في نغمة حزينة كأنما أصبحت المدينة في مأتم شعبي، وهو يحاول أن يخطب الناس، ولكنهم يرعدون في وجهه ويسلقونه بألسنة حداد، وتتهاوى لكماتهم على أشياعه وهم بينهم قلة؛ حتى يرغموه على الرحيل، وقد امتلأ قلبه عليهم غيظا كما امتلأ منهم كمدا.
وينتهي بالمسير إلى سبرنجفيلد، ولو كان يعلم الغيب لتحول عنها، ففي تلك المدينة سوف يأفل نجمه ويبعد بينه وبين غايته، وكانت المدينة غداة وصوله إليها تموج بالناس؛ إذ كانت في موسم سوق من أكبر أسواق الزراعة، ولقد خيل إليه أن في وجود مثل هذا الجمع الحاشد فرصة، ووقف يخطب الناس ثلاث ساعات وختم خطابه بقوله: «علمت أن مستر لنكولن أحد سكان هذه المدينة يريد أن يرد على خطابي هذا، وإني لآمل أن يفعل ذلك.» وكان لنكولن في جولة من جولاته القضائية في المحاكم مع القاضي ديفز حين بلغه نبأ هذا التحدي، وكان قد آلمه وضايقه ما فعله دوجلاس بشأن مشكلة كنساس.
تحد ونزال!
كان هذا التحدي الذي أعلنه دوجلاس هو الذي نهض بأبراهام ليعود إلى السياسة ثانية بعد أن انصرف عنها سنوات، والحق أنه كان على أهبة ليحول وجهه للسياسة بسبب معضلة الرق، تلك المعضلة التي باتت تحمل في تضاعيفها الخطر كل الخطر على وحدة البلاد، وإنما عجل هذا التحدي عودته أو كان السبب المباشر لتلك العودة، ومتى كان أبراهام يرهب التحدي أو ينكص على عقبيه إذا دعا داعي النزال، ولا سيما إذا كان المتحدي هو دوجلاس! وكان تحديه أبراهام على هذا النحو مثيرا له؛ فهو يتجاهله ويترفع إذ يذكره، فلا يشير إليه إلا بقوله «مستر لنكولن أحد سكان هذه المدينة»، ولم ينس لنكولن ما كان من منافسته إياه بين يدي ماري، كأنما أولع هذا الرجل بمغالبته فلا يحب أن تفلت منه فرصة دون منازلته أو التعرض له.
وقد مضت سنوات خمس على انصراف أبراهام عن السياسة؛ فقد انصرف عنها سنة 1849 عقب انتهاء عضويته في الكونجرس، ولم يعرف عنه اشتغال بالسياسة في تلك المدة، اللهم إلا خطابه في رثاء هنري كليي سنة 1852، إذا عد ذلك اشتغالا بالسياسة! وكانت سنة 1852 هي السنة التي قوي فيها نفوذ دوجلاس، والتي بات فيها الحزب الديمقراطي يتحمس له ويعلق عليه آمالا كبارا.
ويخطو دوجلاس خطوته الشهيرة سنة 1854، فيغدو اسمه على كل لسان في طول البلاد وعرضها؛ وهو بين مادح يغلو في مدحه، وقادح لا يتهاون في قدحه.
وإننا لنرى فيما فعل دوجلاس ليكسب عطف الجنوبيين مهارة الرمية، كما نلمح فيما قال للدفاع عن موقفه أمام الشماليين حذق السياسي وعمق فكرته وسعة حيلته، وكم في الحياة له من نظراء ممن يأخذون في سياستهم بآراء أستاذهم الأكبر مكيافلي، لا يحيدون عنها ولا يفوتهم شيء من تفاصيلها ودقائقها، كأنما عاد أستاذهم نفسه يصرفهم ويوجههم، ولقد برع دوجلاس في هذا المضمار؛ فإنه ليجعل الغاية عنده كل شيء، ولا عبرة بعد بالوسيلة، وهل كان مثله من السذاجة بحيث يتمسك بشرف الوسيلة ويرعى جانب الفضيلة، فيؤدي بذلك إلى فوات الفرصة وضياع الغاية؟
وكان لنكولن صريحا لا يعرف المراوغة، ولا يطيق الالتواء، فهل كانت له طاقة بمناضلة ذلك القزم الماكر المخاتل؟ وأي عود عليه اليوم من طوله والمسألة مسألة مدافعة بالحجج ومقارعة، وليست مسألة مكافحة ومصارعة كما كان الحال يوم لف ذراعه الطويلة حول آرمسترنج وألقى به على الأرض؟ إن الفرق بين الرجلين هو الفرق بين الطبيعتين؛ فهذا ماكر محتال غامض كالبحر، وذلك بسيط صريح كوجه السهل.
وكان حزب الهوجز يومئذ في الشمال في أخريات خطواته إلى الفناء، بينما كان يولد حزب آخر سيأخذ عما قريب مكانه؛ هو الحزب الجمهوري، وكان لنكولن هو الرجل الذي اتجهت إليه أنظار أهل سبرنجفيلد ليكون لسانهم في الحزب الجديد. لهذا ولما اشتهر به بينهم من خلال أكبروها، لم يجدوا من هو أقدر منه على مدافعة دوجلاس، وهكذا التقى الرجلان من جديد في عراك عنيف، ولم يلتقيا منذ كانا نائبين في مجلس المقاطعة.
وقف دوجلاس يخطب، وكان - وهو في صغر جرمه قزم أو كالقزم - ماردا جبارا؛ برأسه الضخم، ولسانه الذي لا يقف، ونشاطه الذي لا يفتر، ودهائه الذي لا ينخلع عنه، ومهارته التي لا تغيب ولا تتخلف مهما تعقد الموقف والتوت مذاهب الكلام.
ولقد كان دوجلاس في الحق من أقوى الرجال في عصره، إن لم يكن أشد منهم جميعا قوة، وكان الحزب الديمقراطي يباهي به ويفخر، وهو يعتقد أن لم يبق بينه وبين كرسي الرياسة إلا خطوات مع أنه لم يكن قد جاوز الأربعين بعد.
أخذ يخطب ويدافع عن رأيه في حماسة وكياسة، وإنه ليشعر أنه يطلق آخر سهم في كنانته! وكان محور دفاعه أنه يعمل على توطيد سلطة الشعب، وكانت العبارات معسولة والحجج تلقي في روع السامعين ألا سبيل إلى رفضها؛ إذ لم يبد ثمة من سبيل إلى نقضها.
وجاء دور لنكولن في اليوم التالي، واحتشد الناس ليروا ما عسى أن يقوله في الرد على هذا الداهية، ووقف ابن الأحراج يقابل الدهاء بالصراحة، والمكر بالصدق، والغرض بالإخلاص، والمراوغة باليقين، والباطل بالحق، والدليل الأعرج بالمنطق الأبلج. ومن وراء هذا كله عبقرية دونها كل تأهب بل وكل كفاية، واستمع الناس إليه أربع ساعات كاملات ومنافسه يعض على ناجذه، وينقم على تلك الأقدار التي ألقت به بين براثن ابن الغابة.
بدأ خطابه بقوله إنه لا يتوخى إلا الحق ولا رائد له إلا الصدق، فإذا أحس مستر دوجلاس خطأ فيما يقول فإنه ليسره أن يرده خصمه لساعته إلى الصواب. ولقد استغل دوجلاس هذا الحق وجعل يقاطعه بين حين وحين؛ ليلويه عن قصده وليلبس عليه الأمر، حتى ضاق لنكولن بتلك المقاطعة فصاح قائلا: «أيها السادة إني لا أستطيع أن أنفق وقتي في مساجلات، وعلى ذلك فإني آخذ على نفسي المسئولية أن أحق الحق وحدي، فأعفي القاضي دوجلاس بذلك من ضرورة تلك التصحيحات العنيفة.»
وأخذ بعدها يتكلم والأبصار شاخصة إليه والسكون شامل على شدة ازدحام المكان، والخطيب المرتجل لا يعرف اضطرابا ولا اعوجاجا، يهدر كالسيل لا يصرفه عن وجهه عائق، وكأنما ينطق عن وحي؛ فما سمعه الناس من قبل يقول مثل هذا الكلام، ولا رأوه يبين كهذه الإبانة، وإنه في حركاته وإشاراته ونبرات صوته لموفق توفيقا ما شهد الناس مثله قبل هذا.
وفرغ من خطابه وهو في قلوب قومه أرفع قدرا مما كان، ومنافسه مبتئس زائغ البصر، موزع الفؤاد بين كلمات الاستحسان تنثر على صاحبه كما ينثر الزهر، وكلمات الاستهجان تصوب إليه كما تصوب السهام. ونظر فإذا هو بما أدلى من حجج كالعنكبوت اتخذت بيتا، ولم يبق في قلوب الناس أثر لما ردده من عبارات معسولة تدور حول سلطة الأمة؛ إذ لم يترك له أبراهام دليلا إلا سفهه، وأظهر للناس ما يقوم عليه من بهرج وما يستتر وراءه من طلاء، وبهذه الخطبة فتح لنكولن فصلا جديدا في تاريخ حياته، وقطع شوطا كبيرا نحو الرقي عوض عليه ما فاته بسبب ما مر من الركود؛ وذلك لأن موضوع الكلام كان يتصل بأمر عظيم الخطر يشغل الرأي العام في الشمال والجنوب، ولأن منافسه كان من الذين يحسب لهم الناس ألف حساب.
ورأى أصحاب لنكولن أن يذهب أبراهام في إثر دوجلاس أينما ذهب ليرد عليه كلما خطب الناس، وذهب لنكولن إلى بيوريا بعد ذلك باثنى عشر يوما، وقد أعد خطبة مكتوبة، وبدأ دوجلاس في بيوريا كما بدأ في سبرنجفيلد واستمر يخطب ساعات ثلاثا، ورد لنكولن في المساء فاستغرق خطابه مثل هذا الزمن، ويشهد الذين سمعوه في المرتين أنه كان يوم ارتجل أعظم شأنا وأعمق في نفوس سامعيه أثرا، حقا لقد كانت خطبته المكتوبة أحكم بناء وأحسن نسجا، ولكنها لم تكن أكثر من سابقتها سحرا.
قال أبراهام يرد على دوجلاس قوله إن من الامتهان لأهل نبراسكا أن نعتبرهم غير جديرين بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم: «إني أسلم أن المهاجر إلى كنساس ونبراسكا جدير أن يحكم نفسه، ولكني أنكر عليه الحق في أن يحكم شخصا آخر بغير رضاء ذلك الشخص.» وكانت عبارته هذه كالرمية القاتلة، فهي تهدم ما بنى دوجلاس من أساسه، ولا تدع لذلك الذي زعمه من دفاع عن سلطة الأمة أية قيمة.
وقال أبراهام في رده على ما زعمه دوجلاس من أن الحكومة إنما أقيمت لصالح البيض لا لصالح الزنوج: «إني أوافق على ذلك من حيث ما هو واقع في ذاته، ولكني أرى في هذه الملاحظة التي ساقها القاضي دوجلاس معنى هو عندي مفتاح تلك الغلطة الكرى التي فعلها في قرار نبراسكا، إن كان ثمة من غلطة كهذه، إنها تدل على أن القاضي لا يقوم في ذهنه ما يريه أن الزنجي إنما هو إنسان، وعلى ذلك فليست تقوم في رأسه ضرورة وجود العنصر الخلقي إذا أراد أن يشرع له.»
ومما جاء في خطابه عن قرار نبراسكا قوله: «إن هذا القرار يؤيد حياد الحكومة، ولكنه ينطوي في الواقع في جانب انتشار الرق على حماسة لا يسعني إلا أن أمقتها؛ أمقتها لما ينطوي عليه الرق في ذاته من جور قبيح، وأمقتها لأنها تسلب نظامنا الجمهوري الذي نسوقه مثالا للعالم من أثره الحق في هذه الدنيا، وأمقتها على الأخص لأنها تدفع كثيرا من رجالنا الأخيار إلى حرب صريحة ضد المبادئ الأساسية للحرية المدنية، فهم يوجهون انتقادهم إلى وثيقة إعلان الاستقلال، مصرين على اعتقادهم أنه ليس ثمة من مبدأ حق تقوم عليه أعمالنا، فما هناك إلا المصلحة الشخصية.»
وقال لنكولن في تلك الخطبة الشهيرة: «إن مبدأ حكم الشعب نفسه مبدأ صحيح، صحيح بلا أقل ريب، وسيظل إلى الأبد صحيحا، ولكن إذا كان الزنجي إنسانا، ألسنا بقدر ما في المبدأ من صحة، نرى أننا إذا حرمناه من أن يحكم نفسه إنما نحطم بذلك مبدأ سيادة الشعب؟ حينما يحكم الرجل الأبيض نفسه فإن ذلك في رأينا هو مبدأ سيادة الشعب، ولكنه حينما يحكم نفسه ويحكم في الوقت ذاته رجلا آخر فإن ذلك يكون أكثر من سيادة الشعب؛ فهو الاستبداد، ليس في الناس من يتوفر لديه الخير إلى حد أن يحكم غيره دون رضاء ذلك الغير، هذا هو المبدأ الأول والمرفأ الأمين لنظامنا الجمهوري.»
واستمع إليه إذ يأسر لب السامعين بقوله: «إن رداءنا الجمهوري قد علقت به الأقذار وجر في التراب ذيله، ألا فلنعمل على تطهيره مما علق به، دعونا نرجع إلى الماضي فنغسله في روح الثورة إن لم نستطع أن نغسله في دمائها.»
ذلك منطق ابن الغابة وتلك آياته البينات، وهو الذي نشأ كما رأينا عصاميا لم يعلمه أحد، إنما يصدر الرجل عن طبع ويترجم عن فطرة، مثله في ذلك كمثل غيره من أعلام البشرية وقادة القافلة في طريق الإنسانية.
وماذا عسى أن يقول دوجلاس ردا على هذا مهما كان ما أوتي من فصاحة وما رزق من فطنة؟ انظر إليه يمشي على استحياء، فيتقدم إلى خصمه فيسلم إليه سيفه وقد بهره الحق، قال دوجلاس وهو يومئذ من هو، يخاطب لنكولن: «إنك لتفهم مسألة منع انتشار الرق في الأراضي أكثر مما تفعل المعارضة كلها في الكونجرس، ولست أستطيع أن أظفر بشيء من مجادلتي إياك في هذا الأمر، ولقد وضعت في طريقي هنا وفي سبرنجفيلد من المتاعب ما لا يضع مثله رجال المعارضة في الكونجرس مجتمعين.»
وإنا لنستطيع أن نعود بالسبب في نجاحه في هذه الخطبة إلى صفاته الأساسية التي فطر عليها، وفي مقدمتها تبين ما يعرض له والإحاطة به جملة وتفصيلا، ثم النفاذ إلى جوهره، والاستعانة بذلك على توضيح ما يريد أن يقول في بساطة ويسر مع توخي الصدق والأمانة، كما يفعل حين ينهض للدفاع في المحكمة، هذا إلى لقانة عجيبة يميز بها في سرعة الصواب من الخطأ والحق من الباطل، وذهن منطقي مصقول كأنه الميزان الدقيق، يرى باللمحة أن هذا الرأي عليه ضباب الشك وذاك عليه نور اليقين.
وعمل دوجلاس على الفرار من الميدان فطلب إلى لنكولن أن يقطعا حبل ذلك الجدل، وأجابه لنكولن إلى ما يريد، وهكذا انتصر ابن الأحراج وفر ابن آوى، ولكن كان ذلك إلى حين؛ فلسوف يلتقيان عما قريب في صراع يتضاءل أمامه هذا الصراع.
وانصرف دوجلاس ولكنه قبل أن ينصرف أبى إلا أن يأتي بما يدل على طبعه؛ فقد نقض العهد وألقى بعد يومين خطابا جديدا حاول فيه أن يدافع عن آرائه، ولم يستطع لنكولن إلا أن يظل عند كلمته، فما كان هو من ينقض عهدا قطعه على نفسه.
ولقد كان لانتصار أبراهام على دوجلاس السياسي الملحوظ المكانة أثر بعيد في حياته، وازدادت ثقة ابن الغابة قاطع الأخشاب في نفسه، فأخذ يشتد طموحه ويمتد بصره، واطمأن عامل البريد وفتى الحانوت بالأمس إلى مكانته في نفوس قومه اليوم.
لنكولن والرق
حينما بلغ لنكولن نبأ نجاح دوجلاس في حمل الكونجرس على قبول رأيه في مشكلة كنساس نبراسكا وإصدار اللائحة الشهيرة بذلك، كان في جولة من جولات عمله في المحاماة، ويشهد من صحبه يومئذ أن وقع ذلك القرار كان عظيم الألم في نفسه، لقد ظل مسهدا طول ليله يتفكر في موضوع ذلك القرار ومغزاه، وفي الصباح أفضى إلى أحد زملائه بقوله: «أقول لك يا دكي إن هذه الأمة لا يمكن أن تعيش ونصفها رقيق والنصف الآخر أحرار.»
وظل لنكولن ربيع سنة 1854 في تجواله كما تطلب عمله حتى عاد إلى سبرنجفيلد، وكان بينه وبين دوجلاس ما كان من تحد ونزال.
بسبب مشكلة الرق خاصم أبراهام دوجلاس، وبسبب تلك المشكلة سيعود أبراهام من المحاماة إلى السياسة ليكون محامي الحرية الأكبر، وبالوقوف في وجه الرق ستسمو منزلة أبراهام في قومه ويعظم فيهم خطره ويلتمع في أفق السياسة نجمه، وبقضاء الرئيس لنكولن على الرق سيغدو بطلا من أبطال أمريكا وعلما من أعلام الإنسانية.
وما كان لرجل مثل أبراهام أن ينبه في الناس شأنه إلا لصلته بقضية من قضايا الإنسانية، أما الدوافع الشخصية والأطماع الدنيا فلم تك مما يتفتح له قلب مثل قلبه، ولا مما يمتد إليه بصر كبصره.
كانت تقع عينا الصبي أبراهام لنكولن على نفر من هؤلاء السود أحيانا وهو مع أبيه في الغابة، فتأخذه الحيرة من أمرهم والشفقة والرثاء لهم، ولم تبين له كلمات أبيه سبب شقاء هؤلاء السود ولم كانوا كدواب الزراعة في نظر البيض، فهل كانوا كذلك لأنهم سود فحسب؟ ومن أين جيء بهؤلاء السود؟ ولم كانوا سودا؟ ولم يجعلهم سوادهم أذلة؟
ولن ينسى أبراهام رحلته إلى نيو أورليانز في أول شبابه وانقباض نفسه وانكدار خاطره؛ إذ رأى جموعا من هؤلاء السود في الأصفاد يحشرون إلى حيث يباعون كما تباع الماشية، ولن يبرح يطوف بخياله فيؤلمه مرأى تلك الجارية الحسناء، التي عرضت هناك في أحد الأسواق نصف عارية على المشترين كما تعرض الفرس الكريمة.
منذ ذلك اليوم استقر في أعماق نفسه كراهة الرق، وفي ذلك اليوم قال كلمته وهو يشير بجمع يده: «لئن قدر لي يوما أن أسدد ضرباتي إلى هذا النظام فسأضرب بشدة.» وكأنما شاءت الأقدار أن تريه ما رأى عن قصد؛ ليكره الرق منذ حداثته كما يكره الأخيار المصطفون منذ نشأتهم الكفر والفسوق والعصيان.
ومنذ ثلاثة عشر عاما من يومه هذا، يوم سماعه بلائحة كنساس، كتب أبراهام كتابا إلى أخت صديقه سبيد يصف رحلة له على صفحة المسيسبي، جاء فيه:
وفي تلك الأثناء كنت تلقاء مثل جميل على ظهر القارب يصلح لأن أتأمل فيه لأرى كيف تؤثر الظروف في سعادة الإنسان؛ اشترى أحد السادة البيض اثنى عشر زنجيا من جهات مختلفة في كنطكي، وكان بسبيله إلى الجنوب ومعه زنوجه، وقد سلكوا كل ستة في سلسلة، وكان يدور غل صغير بمعصم اليد اليسرى لكل منهم، ويوثق بسلسلة صغيرة تنتهي إلى السلسلة الكبيرة على مسافات تدع بين الواحد ومن يليه بعض الفراغ، فكانوا أشبه حالا بسمكات في مثل عددهم تعلق بحبل الصائد كل منها في شص، وكانوا على مثل هذه الصورة ينتزعون إلى الأبد من مجالي طفولتهم ومن أصدقائهم ومن آبائهم وأمهاتهم وإخوتهم وأخواتهم، وفيهم من انتزعوا كذلك من زوجاتهم وأولادهم، ليساقوا إلى رق أبدي، حيث لا تقل ضربات السياط من يد سيدهم فوق أجسادهم لهيبا عنها من أي يد أخرى، وفي مثل هذا الوضع وهاتيك الظروف التي ما حسبناها بادئ الرأي إلا محزنة لنفوسهم، كانوا أكثر من على ظهر القارب مرحا وأكثرهم فيما يبدو من أمرهم سعادة؛ أما أحدهم - وقد كانت جريمته، التي من أجلها بيع، فرط محبته وولوعه بزوجته - فكان لا يكاد يدع المزمار من يده أو يمل ألحانه فيه، وأما الآخرون فكانوا يرقصون ويغنون ويتبادلون النكات ويلعبون ألعابا مختلفة بالورق من يوم إلى يوم، ألا ما أصدق قول القائل «إن الله يسكن الريح من أجل الحمل المجذوذ»، وفي عبارة أخرى إنه يجعل أتعس الظروف الإنسانية محتملة، في حين أنه لا يسمح لأسعدها أن تكون أكثر من أنها محتملة.
وهو اليوم في الخامسة والأربعين من عمره لا يزال يمقت الرق من أعماق قلبه الإنساني الكبير، ولكن المسألة ليست اليوم مجرد عاطفة بل هي مسألة سياسة، وهو اليوم ينظر إليها من ناحيتيها العاطفية والسياسية جميعا، يتألم قلبه أشد الألم كلما فكر في حال الرقيق، ولكنه حذر من الدعوة إلى التحرير لا يميل إلى أصحابها كل الميل؛ لأن سياستهم المتعجلة المتحمسة تؤدي إلى فصم عرى الاتحاد، وذلك ما يخافه أشد الخوف؛ فإن المحافظة على بناء الاتحاد لا تقل عنده أهمية عن القضاء على الرق.
إذن فليقتصر اليوم على الوقوف في وجه الداعين إلى مبدأ السماح بانتشار الرق، وهؤلاء هم الديمقراطيون، حتى تحين الفرصة التي تمكنه من العمل الحاسم ثم من الضربة القاضية.
تألم لنكولن من قرار الكونجرس في مسألة كنساس نبراسكا ألما شديدا كما أسلفنا القول؛ فقد كان قبل هذا القرار - فضلا عن كراهة الرق كرها شديدا - لا يفتأ يفكر في هذه المعضلة ويديرها في رأسه، وإن كثرت في المحاماة مشاغله. تحدث عنه جون ستيوارت، فقال إنه بينما كان وأبراهام في طريقهما ذات يوم أثناء جولة من الجولات القضائية سنة 1850؛ أي قبل قرار الكونجرس بأربعة أعوام، قال له وهو يحاوره: «لنكولن! إنا مقبلون على الوقت الذي سوف نكون فيه إما من دعاة التحرير جميعا أو ديمقراطيين جميعا.» وفكر أبراهام لحظة ثم قال في لهجة التأكيد: «إذا ما جاء ذلك اليوم فقد جمعت له عزمي؛ لأني أعتقد أن معضلة الرق لن ينجح فيها بعد ذلك مساعي التوفيق.»
وكان يكره لنكولن دائما ما يزعمه الجنوبيون من مبررات لتمسكهم بالرق، فلا يفتأ يرد على مزاعمهم بما يدحضها، وإنه لحريص على أن يلزم جانب الحق والإنصاف فيما يرد به؛ لتكون لحججه وقعها الطيب في النفوس كما هو شأنه في كل ما يقول، كما أنه حريص على الإبانة والوضوح والسهولة، تجد خير مثال لذلك في قوله: «نعلم أن أهل الجنوب يقولون إن رقيقهم أحسن حالا من العمال المأجورين عندنا، ألا ما أقل إدراكهم ما يقولون! ليس لدينا طبقة دائمة من الأجراء، فمنذ خمس وعشرين سنة كنت أنا نفسي أجيرا، وإن أجير الأمس ليعمل اليوم لحسابه وسوف يأجر غيره ليعملوا له غدا، إن الرقي والتقدم من طبيعة الجماعة المكونة من نظراء، وبما أن العمل هو العبء المشترك في هذا الجيل، فإن محاولة بعض أهله أن يلقوا بنصيبهم من هذا العبء على عواتق الآخرين لهي النكبة الخطيرة التي يقدر لها الدوام، وهي في أصلها نكبة تتنقل في الجيل كله، فإذا حصرها الرق في طائفة منه، فإنها تصبح بذلك نكبة مضاعفة يصيب الله بها عباده. إن العمل الحر يمتاز بأنه يبعث الأمل في النفوس، أما العبودية فلا أمل فيها، وإن للأمل لقوة عجيبة في جهود الإنسان وسعادته، ويدرك هذه القوة مالك الرقيق نفسه، ومن ذلك كان نظام العمل بين الرقيق، فإن العبد الذي لا تستطيع أن تدفعه بالسوط ليقطع خمسة وسبعين رطلا من الألياف اليوم، إذا أنت دفعته ليقطع مائة ووعدته أن تدفع له أجره على هذه الزيادة، فإنه يقطع مائة وخمسين؛ فلقد أحللت الأمل محل العصا، ولعله لم يخطر ببالك أنك بقدر ما تكسب من فائدة بهذه الطريقة قد تركت نظام الرق إلى نظام العمل الحر.»
وكان يحس أبراهام أن قضية الرق تزداد خطرا في وضعها يوما بعد يوم، تجد مصداق ذلك في هذه العبارة، وقد نطق بها في جماعة من خلانه سنة 1854 قبيل منازلته دوجلاس، قال يصف الفكرتين، فكرة الرق وفكرة الحرية: «مثلهما كمثل وحشين كل منهما على مقربة من الآخر، ولكن يرتبط كل منهما في سلسلة ويحال بينه وبين الآخر، ولسوف يكسر أحد هذين العدوين اللدودين أو الآخر سلسلته يوما ما، وعندئذ يوضع حد للمسألة.»
ولن يزال منذ قرار نبراسكا يعلن سخطه على الرق، قال ذات يوم عن امتلاك الرقيق: «إنه أكثر أنواع الملك في العالم بريقا وفخرا وغرورا، فإذا تقدم شاب ليخطب فتاة فإن أول سؤال يتلى عليه كم من الرقيق يمتلك، ويسأل هو كم تمتلك فتاته، إن حب امتلاك الرقيق يبتلع كل امتلاك آخر، ألا إن الرق لظلم صارخ عظيم، وإنه لجريمة قومية فادحة.»
وأبدى لنكولن تعجبه ذات يوم قائلا: «إن من العجب ألا ترى المحاكم سقوط حق الرجل في متاع له سرق منه، ولكنها ترى أن حقه في نفسه يسقط بمجرد أن يسترق هو!»
من هذا ومن كثير مثله يتبين لنا إلى أي مدى كان لنكولن عدوا للرق، وإلى أي مدى كان يعده ظلما وإثما، وقد رأينا ما كان منه أثناء مجادلته دوجلاس في خطبتيه في سبرنجفيلد وبيوريا.
ولكن أبراهام على الرغم من هذا الكره يرى - كما رأى جفرسون قبل ذلك بسنوات - أن مشكلة الرق «كالذئب نمسكه من أذنيه؛ فلا نستطيع أن نظل ماسكيه، ولا نستطيع أن نطلقه ونضمن السلامة»، فإنه يخشى أن يؤدي التطرف في دعوة التحرير إلى انسحاب الجنوبيين من الاتحاد، فينهار بناء الوحدة وتكون الطامة الكبرى على البلاد، وكل همه الآن أن يظل الرق منحصرا حيث هو، فيقوى الأمل في فنائه يوما ما، أما أن يسمح بانتشاره في مواطن جديدة فلا أمل مع هذا في فنائه.
لذلك نراه في موقف دقيق بعد خطابه في بيوريا، فلقد أعجب به دعاة التحرير وبلغ من إعجابهم به أن دعوه ليكون قائدا لجماعتهم، ورأى لنكولن أنه إن أجابهم إلى ذلك أغضب الذين يقصرون همهم على معارضة قرار الكونجرس؛ لأنهم يخشون من دعوة التحرير أن تفصم عرى الاتحاد، وإن رفض دعوتهم أغضبهم هم، وإنه ليشاركهم عاطفتهم وإن كان يخالفهم في سياستهم، كما أنهم خصوم لدوجلاس وإن عددهم ليزداد يوما بعد يوم، ولم يجد أبراهام مخرجا من هذا المأزق إلا الهرب مؤقتا، فذهب في جولة من جولات عمله في المحاماة.
والواقع أن لنكولن المحرر الأكبر في غده يخشى أشد خشية من دعاة التحرير اليوم؛ لأنه يرى في عملهم إذ ذاك ثورة في غير أوانها، قال يرد على أحدهم: «إن المقاومة الدامية أمر يعد خطأ من أساسه وهو عمل غير دستوري بل إنه خيانة، ففي الديمقراطية التي تحكم فيها الأغلبية عن طريق الانتخاب العام وفق القانون لا يوجد مكان لتلك الثورة ... فإن شئتم أن تثوروا فليكن ذلك خلال صناديق الانتخاب.»
طموح وفشل!
أراد أبراهام على أثر انتصاره على دوجلاس أن يخطو خطوة جديدة في مضمار السياسة، فطمع أن ينتخب عضوا في مجلس الشيوخ، وأمل بذلك أن يعود إلى وشنطون، ولم يك يرى نفسه دون دوجلاس مقدرة ومكانة وهو قاهره على أعين الناس في أمر له عند الناس خطره، وكان قد انتخب في تلك الأثناء عضوا في مجلس مقاطعة إلينوى، ولكنه ما لبث أن استقال منه، وأخذ يدعو لنفسه ليختار عضوا في مجلس الشيوخ للولايات.
وفرحت ماري بذلك بعد أن لبثت خمس سنوات طويلة تترقب اليوم الذي يعود فيه زوجها إلى السياسة، ليخطو فيها خطوة أو خطوات نحو الهدف الذي لا ترضى له هدفا دونه.
وكان منافس أبراهام في الظفر بعضوية الشيوخ شيلدز، ذلك الرجل الذي تحداه إلى مبارزة بالسيف قبيل زواجه من ماري لما كتبه لنكولن عنه يومئذ في إحدى الصحف وعده إهانة له، وهكذا يعود الرجلان إلى المبارزة ولكن في صورة أخرى ليس يجدي فيها طول الذراع ولا قوتها على حمل السيف.
وكان أعضاء مجلس المقاطعة هم الذين ينتخبون عضو مجلس الشيوخ، وكان مجلس مقاطعة إلينوى يومئذ يجمع أنماطا من الرجال، فرقت بينهم الأهواء وباعدت الآراء؛ ففيهم بقايا حزب الهوجز الذين يمقتون التطرف، وفيهم الديمقراطيون من أنصار مبدأ انتشار الرق ومن معارضي قرار نبراسكا، وفيهم غير هؤلاء وهؤلاء ممن تتذبذب سياستهم وفق ما يقوم في رءوسهم من الآراء في مسألة الرق.
وكاد يظفر أبراهام بما كان يتوق إليه وبما باتت زوجه تمني النفس به، لولا أن دعا الديمقراطيون في اللحظة الأخيرة إلى رجل غير لنكولن ومنافسه، وهو من معارضي قرار نبراسكا ومن الذين يخشون من دعوة التحرير، وعندئذ أشار لنكولن على نصرائه أن يمنحوا هذا الرجل الجديد أصواتهم ليفوت الأمر على منافسه الأول؛ إذ كان من أصحاب دوجلاس ومن مؤيدي قرار نبراسكا، بينما كان المنافس الجديد تتفق سياسته مع سياسة لنكولن، وإن كان ديمقراطيا من الوجهة الحزبية، وهكذا يذوق لنكولن طعم الفشل مرة أخرى.
ولكن الفشل هذه المرة لم يبلغ من نفسه ما بلغه في الأيام السابقة، فهو اليوم مطمئن إلى نصيبه من رضاء الناس وإلى حظه من النفوذ والصيت، ولقد قابل الأمر بدون اكتراث لولا ما أظهرته زوجته من حنق وغضب، على أنها ما لبثت أن رضيت وسكنت ثورتها، ذلك أنها كانت تكاد ترى رأي العين ما ينتظر زوجها من مستقبل عظيم.
ولم يصرفه الفشل عن السياسة كما كان عسيا أن يفعل في ظروف غير هذه، فلقد عرف أن فشله يومئذ إنما يرجع إلى أسباب لا يستخذى لها، ومن أهم تلك الأسباب ما فعله دعاة التحرير؛ فلقد حشروا اسم لنكولن على غير علم منه في معضديهم وراحوا يباهون به الأحزاب، ولقد أدى هذا إلى انزعاج كثير من الديمقراطيين؛ إذ حسبوا أنه مال إلى الطفرة في مشكلة الرق، كذلك أنكر عليه الهوجز أن ينحرف عن سياسته القائمة على الحذر، ولقد كانوا يحبون منه اكتفاءه بمقاومة انتشار الرق، أما أن يميل إلى التحرير فجأة فيعمل مع المتطرفين على القضاء على الاتحاد، فذلك ما لا يقبلونه منه، وهكذا أخذ على الرجل ما لم يجنه فأصابه من الخذلان ما أصابه.
لا جرم أنه اليوم رجل سياسة أكثر منه رجل محاماة، ولا جرم أن معضلة الرق قد صار لها المكان الأول من همه، فهو لن يرجع حتى ينفس عن صدره بما يفعل في هذه المعضلة التي صارت المحور الذي تدور عليه سياسة الاتحاد، والعقدة التي يتوقف على حلها مصير البلاد. وإنا لنرى فيه الرجل الذي يتطلبه الموقف، شأنه في ذلك شأن غيره من عظماء الرجال الذين يظهرون في فترات الزمن ليتم بهم للتاريخ وسيلة تحركه، إذ يصبح التاريخ ولديه الرجل العظيم والفكرة العظيمة، فما إن يتمثل العظيم الفكرة ويمزجها بنفسه حتى يقدم لا يلويه شيء عن الغاية، فيصل إليها أو يهلك دونها ويذر لمن بعده أن يتم ما بدأ.
على أنه كان في سنه يومئذ قد وصل من المحاماة إلى أوج الشهرة، فكان وهو في السابعة والأربعين الرجل الذي يظفر في مهنته بأطباق الناس على توقيره، وإجماعهم على التسليم له بالنبوغ وطول الباع وسعة الخبرة، هذا إلى ما انفرد به من سجايا جعلته بينهم وكأنه أكثر من أن يكون منهم!
وتوافى له، فيما توافى من أسباب العظمة، تلك الخصلة التي لا تقوم عظمة بدونها، والتي تجعله يظهر بين الناس وفيه شيء يحملهم على إكباره طائعين أو كارهين، شيء يحسونه وإن كانوا يجهلونه، شيء مبعثه ذلك السر العجيب الذي نعبر عنه بقولنا روح الرجل العظيم، والذي يسميه بعض الناس الحماسة، ويسميه بعضهم الإخلاص، ويسميه آخرون الإيمان، والذي هو في الحق مزيج من هذا كله، لا ندري كيف يتم، مزيج ينبض به قلب العظيم ويجري في نفسه جريان الدم في عروق جسده، ومن الناس من وهبوا الذكاء الحاد والمهارة الفائقة، ولكنهم حرموا تلك الخصلة، فما استطاعوا في أعمالهم أن يرقوا بأنفسهم إلى مستوى أعلى من مستوى غيرهم من عامة الناس، ومنهم من يعظم ذكاؤهم ويمس قلوبهم قبس من ذلك السر العجيب فإذا هم غير الناس، ثم إذا هم فوق الناس، ومن هؤلاء النفر ذلك الرجل الذي درج في الغابة، والذي بنى نفسه فسار في الحياة على نهج من قلبه وعلى دليل من طبعه، ذلك الرجل الذي لا يذكر لأحد عليه يدا، والذي تنكرت له الأيام وعركته المحن فبقي كما يبقى الجوهر الحر؛ لا تترك فيه النار من أثر إلا البرهان القاطع على أن جوهر لا مظهر.
وتشاء الأقدار أن تقوم عظمة أمريكا على كاهلي رجلين من أبنائها، درجا في مدرج الشعب وبرزا من صفوف العامة؛ وهما جورج وشنطون وأبراهام لنكولن؛ أما أولهما فيرفع القواعد ويقيم الصرح، وأما الثاني فيمسكه أن ينهار، وتكون بذلك عظمة أمريكا عظمة ذات أصالة؛ إذ لم تنشأ عن تقليد أو تستند إلى بهرج من سلطان زائف، ويكون صراحها كالجبال التي هي أوتاد الأرض لا كالبناء الذي يجوز أن يجتث من فوق الأرض.
مضت الأيام تسير بابن الغابة سيرا معجلا وثيقا ليؤدي رسالته، ولعله أشرف من حاضره على ما يعده له الغد القريب، أجل لعله أخذ يدرك أن مشكلة الرق مفضية به حتما إلى خطوة واسعة يخطوها غدا، فيترك في تاريخ بلاده ما تذكره به الأجيال، اقرأ كتابه هذا إلى صديقه سبيد تقع فيه على مدى اهتمامه بتلك المشكلة، ونتبين كثيرا مما كان يجول في نفسه يومئذ، قال: «إنك لتعلم أني أكره الرق، كما أنك توافق أن الرق خطأ في ذاته، فليس ثمة خلاف بيني وبينك إلى هذا الحد، ولكنك تقول إنك تفضل أن ترى الاتحاد وقد انفصمت عراه قبل أن تتنازل للرقيق عن حقوقك المشروعة، وبخاصة إذا كان هذا التنازل إذعانا لإلحاح من لا مصلحة لهم في ذلك، ولست أعلم أن أحدا يدعوك إلى ذلك التنازل، ولست على اليقين أدعوك إلى هذا، وإني أصارحك يا صديقي أني أكره أن أرى هؤلاء المساكين يصطادون ويوضعون في الأغلال، ويعاد بهم إلى حيث يجدون النصب والعناء، ولكني أعض على شفتي وألزم الصمت.
في عام 1841 قمنا معا برحلة مملة على صفحة ماء منخفض في قارب بخاري من لوسفيل إلى سان لويس، ولعلك تذكر كما أذكر أنه كان على ظهر القارب عشرة أو اثنا عشر عبدا مقرنين في الحديد، ولقد كان هذا المنظر مبعث عذاب دائم لي، وإني لأحس شيئا مثله كلما لمست نهر الأهايو أو أية جهة من جهات الرق، وخلاف الجميل منك يا صديقي أن ترى أني لا أهتم بذلك الشيء الذي ينطوي على قوة تكربني، والذي لا يفتأ يسبب لي الكرب. لقد كنت حريا أن تتبين إلى أي مدى يخنق سواد الناس في الشمال مشاعرهم لكي يستطيعوا أن يحتفظوا بولائهم للدستور والوحدة. إني أعارض انتشار الرق لأن رأيي وشعوري يؤديان بي إلى ذلك، وليس هناك ما يجبرني على العمل بخلافه، فإذا كان هذا هو مبعث الخلاف بيني وبينك فلنختلف إذن. تقول لو أنك كنت الرئيس لأرسلت جيشا على المتمسكين باتفاق مسوري في انتخابات كنساس، وتقول إنه إذا انتهت الانتخابات هناك إلى جانب الرق فيجب أن تقبل ولاية وإلا وجب حل الاتحاد، وكذلك تقول إنه لو انتهت الانتخابات إلى جانب الحرية فإنك كمسيحي تفرح لذلك، ويقول مثل هذا الكلام كل ذي دماثة من مالكي الرقيق، ولست أشك في إخلاصهم، ولكنهم لن يسلكوا في الانتخابات مسلكا وفق ما يقولون. إن اطرادنا نحو الانحطاط يسير فيما أرى سيرا معجلا، لقد بدأنا أمة بإعلاننا أن الناس جميعا خلقوا متساوين، وتجدنا نقول اليوم خلق الناس جميعا متساوين إلا الزنوج، وسيكون قولنا في المستقبل خلق الناس جميعا متساوين إلا الزنوج والأجانب والكاثوليك! ولئن بلغنا هذا المدى فسأفضل الهجرة إلى دولة أخرى لا تدعي حب الحرية، إلى الروسيا مثلا؛ حيث يتخذ الاستبداد صورة سهلة خالية من النفاق.»
ويقص صديقه هرندن قصة جديرة بأن نثبتها هنا، لنتبين كيف يهتم أبراهام اهتماما كبيرا بالمعنى العظيم وإن جاء في أمر صغير، ولنرى مبلغ حرصه على مقاومة الرق، قال هرندن: «حدث أن ذهب زنجي من سبرنجفيلد إلى نيو أورليانز ولم يصطحب معه أوراقه التي تثبت عتقه، فاستوقف هناك وألقي به في السجن ليباع عما قريب فيكون ثمنه أجر إقامته في السجن، وفزعت أمه إلى لنكولن وإلي، فذهبنا إلى حاكم إلينوى وكلمناه في الأمر، فأظهر لنا أسفه ألا يستطيع أن يقدم لنا معونة حسب القانون، فنهض لنكولن قائلا في لهجة تنم عن التأكيد: أقسم لك بالله أيها الحاكم لأجعلن الأرض في هذا الاتحاد أسخن من أن تطأها قدم زنجي، سواء وجدت من القانون ما يبرر إطلاق هذا الغلام أو لم تجد. واتصل أبراهام بحاكم لويزيانا فلم يك أحسن حظا عنده منه عند سالفه، ولم يعدم أبراهام حيلة، فقد افتتح اكتتابا عاما لجمع ثمن هذا الغلام الزنجي، وسرعان ما اجتمع لديه المبلغ فدفعه إلى حاكم لويزيانا وأعيد الغلام إلى أمه في الشمال.» وما قصد أبراهام بالاكتتاب العام إلا التشهير بالرق والتنديد بهذا الظلم العظيم.
وكان يوحي إليه ذهنه المنطقي العجيب وبعد نظره في قياس الأمور ما عسى أن تنتهي إليه مشكلة الرق، وكأنما كان يشرف من حاضره على مستقبله، كان يعتقد أنه بالخروج على اتفاق مسوري لم يعد هناك أمل في الإبقاء على أي اتفاق يقام، وسيتمادى أنصار الرق في غيهم حتى يخرجوا على الدستور نفسه، ولكن الوطنيين المتمسكين بالدستور لن يقروهم على ذلك، فيكون ثمة صراع عظيم بين الجانبين، وفي هذا الصراع يجتث الرق من جذوره فما له بعد من قرار، ولسوف تأتي الحوادث مصدقة لما يرى، ولسوف يكون هو بطل الصراع، والذي يقتلع الرق من جذوره.
ولن يضيره اليوم ألا يصل إلى مقعد الشيوخ، بل ربما كان الشر في أن يظفر بهذا المقعد، فلقد كان له بعد فشله هذا جولات سوف يكون لها خطرها في حياته؛ جولات سوف تنتهي به إلى رياسة الاتحاد فلم يبق على الدرب إلا مرحلة.
وكثيرا ما يبتئس المرء إذا فاتته فرصة كأنما أغلقت بفواتها مسالك الفوز من دونه، ولا يدري أنه ربما كان الخير في فواتها، والحياة مليئة بالأمثال حافلة بالعبر، والعظماء وحدهم هم الذين لا يلويهم فوات الفرص ولن تبتئس لفواتها نفوسهم، بل إنهم ليحمون على الشدائد ويستعرون على الكفاح، ويستشعرون اللذة في النصر كما يستشعرونها في ركوب الصعاب إلى ذلك النصر، ولن ينقص منها ما قد يصيبهم من خذلان.
ولقد كان لنكولن من هؤلاء البواسل الأفذاذ الذين لا يحفلون بالصعاب، والذين لا يحول بينهم وبين وجهتهم خذلان مهما عظم، بقي في سبرنجفيلد بعد فشله ليكون في المدينة زعيم الحزب الجديد الذي كانت تستقبل البلاد يومئذ مولده، وهل كان غيره في المدينة تجتمع عليه القلوب والأهواء؟
حزب جديد
كان من نتائج قرار الكونجرس في مسألة كنساس نبراسكا مولد حزب جديد في البلاد، فقد اجتمع فريق من رجال السياسة على فكرة يمكن تلخيصها في العمل على مقاومة انتشار الرق حسب اتفاقية مسوري، وكان هؤلاء السياسيون أنماطا من كل حزب؛ ففيهم الديمقراطيون، وفيهم الهوجز، وفيهم غير هؤلاء وهؤلاء ممن يحصرون همهم الآن في العمل على مقاومة انتشار الرق. ولقد كان أول اجتماع عام لأنصار هذا الحزب الجديد في مدينة فيلادلفيا سنة 1856، واتخذ المجتمعون اسما لحزبهم فسموه الحزب الجمهوري، واختير لرياسته الكابتن فريمونت أحد أهالي كليفورنيا، وكانت شهرة عند الجمهور باكتشافه الطرق وشقه الأحراج إلى الغرب؛ فكانت تضيئ حوله هالة من البطولة، ثم أخذ أنصار الحزب بعد ذلك ينشرون الدعوة إليه في كل ولاية.
وانتشرت الدعوة إليه في إلينوى كما انتشرت في غيرها من الولايات، ودعا أنصار الحزب الجديد فيها إلى اجتماع تمهيدي يتدارسون فيه الأمر، ويحددون الغاية ويسددون إليها الوسيلة.
وانعقد هذا الاجتماع في مدينة ديكاتور وشهده لنكولن فيمن شهد من رجال السياسة المبرزين، وأدلى إليهم برأيه وإن كان لا يزال من الهوجز، وفطن المجتمعون إلى سياسته التي لن يتحول عنها، والتي تتلخص في أمرين: مقاومة انتشار الرق، والمحافظة على كيان الاتحاد.
وانضم هرندن إلى الحزب الجديد وتحمس له، ودعا أنصار الحزب إلى مؤتمر عام يعقد في مدينة بلومنجتن لاختيار ممثلي الحزب في الولاية، وكان لنكولن في جولة من الجولات القضائية، فوضع صديقه هرندن اسمه في قائمة الداعين إلى المؤتمر دون أن يرجع إليه، ثم أرسل إليه ينبئه بذلك فجاءته برقية منه قال فيها: «لا ضير. امض قدما.» وبذلك وافق أبراهام على الانضمام إلى الحزب الجديد وأصبح عضوا من أعضائه.
واحتشد رجال هذا الحزب في بلومنجتن لينظروا في أمرهم، وأدلى أبراهام برأيه فقال لمن حوله: «دعونا نجعل حجر الزاوية في بناء حزبنا الجديد هو قرار إعلان استقلال أمريكا.» وهو يريد بإعلان الاستقلال ذلك الحادث التاريخي الذي ظهرت به الولايات المتحدة أمة مستقلة في هذا العالم، وكأنه يشير إلى ما يتضمن الاستقلال من معاني الوحدة والإخاء والحرية والمساواة، تلك المبادئ التي جعلها رجال الثورة شعار ثورتهم، وأصدر المؤتمرون قرارهم بعد أن اختاروا ممثلي الحزب في الولاية فقالوا: «أجمعنا أمرنا على أننا نعتقد، وفق تجارب وآراء رجال السياسة المبرزين جميعا من كافة الأحزاب في السنوات الستين الأولى لحكومة الاتحاد، أن المؤتمر يملك في ظل الدستور السلطة التامة لمقاومة انتشار الرق في الولايات، وأنه كما يحرص على جميع الحقوق الدستورية لأهل الجنوب، يعتقد كذلك أن العدالة والإنسانية ومبادئ الحرية - كما نص عليها في إعلان استقلالنا وفي دستورنا القومي وما نتوخاه لحكومتنا من بقاء ودوام - تستدعي أن يكون تنفيذ السلطة بصورة تمنع انتشار الرق في الولايات التي تعد حرة حتى الآن.»
وإنا لنرى سياسة لنكولن واضحة تمام الوضوح في هذا القرار الذي أعلنه المؤتمرون، وفي ذلك يتضح الدليل على أنه كان غداة المؤتمر الرجل الذي ينبض بمبادئه كل قلب، ويتحرك باسمه كل لسان، ونحن إذا نظرنا إلى مبادئ الحزب الوليد في الولايات جميعا نجدها لا تختلف كثيرا عما جاء في قرار رجال إلينوى، وبعبارة أخرى نجدها لا تختلف كثيرا عن مبادئ لنكولن، وفي ذلك دليل جديد على عبقرية الرجل وصدق نظرته وأصالته.
ونظر أبراهام فإذا رجال المؤتمر، على اتحادهم في الغاية، يختلفون في الوسيلة التي يصلون بها إلى غايتهم، وإذا هم باعتبار ما سلف من أمرهم فئات متباينة الآراء، وإنه ليخشى أن يؤدي الاختلاف على الوسيلة إلى ضياع الغاية، بل إلى طمس معالم الطريق وركوب الظلام، وفي ذلك سوء المنقلب، وإنه ليتحرق شوقا أن يرى هؤلاء القوم وقد اجتمعت على الوسيلة كلمتهم كما اجتمعت على الغاية، إنهم إذن لفائزون وإن لهم لبأسا يهون عنده كل عسير، ثم إنهم لخطب فادح لا يطيقه المتمسكون بالرق من أهل الجنوب.
وتجاوبت أرجاء المؤتمر باسم لنكولن، وراح المؤتمرون يتصايحون: «لنكولن! لنكولن! نريد أن نسمع لنكولن!» وما كان له أن يتخلف وهو الخطيب الذي تهيب به مثل هاتيك المواقف، وتواتيه عبقريته كلما أحست نفسه جلال الحادثات، وكأنما أحس لنكولن أن هذه ساعته، وأنه يوشك أن يخطو خطوة واسعة نحو غايته الكبرى؛ لذلك ما لبث أن وثب من مكانه ووقف فيهم وقفة الخطيب وهو لا يدري أول الأمر ماذا يقول، وسكتت الأصوات بعد جلبة، واستقر الرجال بعد أن كان بعضهم من فرط الحماسة والتطلع يموج في بعض.
وقف الخطيب أول الأمر صامتا كأنما أغلقت من دونه مسالك القول، والناس ينظرون إلى قوامه السمهري وقد مال برأسه إلى الخلف وبرز بصدره إلى الأمام، والتمعت عيناه وتشكلت أساريره بما في نفسه، فبدت في مظهر يقصر عن وصفه معنى الجمال، وصفه أحد الحاضرين فقال: «كان في تلك اللحظة أوجه من رأت عيناي أبدا.»
وتكلم فإذا المستمعون كأنهم رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا جدال، وقد سرت إليهم من الخطيب موجة قوية من السحر، وسرى إليهم منه تيار شديد من الحماسة، وهو يرسل فيهم القول يجمع بين العاطفة تهز المشاعر، والحجة تبهر العقول، والأمثلة تبهج النفوس. وكانت تشتد العاطفة حينا فتفيض عيون، ويلتمع البرهان آونة فتصفق الأكف حتى تكاد تدمى، وتنطلق بالهتاف الحناجر حتى توشك أن تبح، ويروق المثال أو تلمح النكتة بين هذا وذاك فتجلجل الأفواه بالضحكات، والخطيب يلعب بالأفئدة ويستهوي المشاعر، ويتدفق لا يكل منطقه ولا تفتر حماسته ولا يضعف صوته، والسامعون مأخوذون عن أنفسهم بما يقول، حتى لقد ألقى مندوبو الصحف أقلامهم وأقبلوا بعقولهم وقلوبهم عليه يحرصون ألا تفوتهم كلمة من هذا السحر الحلال. وصفه أحد المستعمين فقال: «لم أعلم قبل ذلك قط أن مستمعين لخطيب فعلت فيهم الفصاحة الإنسانية فعل الكهرباء كما فعلت فصاحة لنكولن بهؤلاء، لقد كانوا يثبون من أمكانهم نهوضا على أقدامهم أو فوق المقاعد بين حين وحين، وكانوا يعبرون عن مبلغ ما أثرت كلماته في عقولهم وقلوبهم بصيحات طويلة وبالتلويح بقبعاتهم في أيديهم.»
ذلك أن الغاب قاطع الأخشاب، ذلك هو النجار هدية الأحراج إلى عالم المدنية، قد هيأته الأقدار لرسالته؛ فبعثته من موطنه قويا قوة الطبيعية لا يعتريها ضعف، واضحا وضوح الشمس لا يحجبها غيم، ولكنها أودعت في نفسه سر العظمة رهيبا عميقا خافيا عن الأبصار، تحس النفوس تلقاءه بمثل ما يحس به من يقف في مدخل الغابة.
أوضح في خطابه سياسته فلم يترك مجالا للبس أو شك، وكان إلى التحذير والإنذار أقرب منه إلى التفاؤل والتمني، حذر الناس أن يشتطوا فيؤدي شططهم إلى انسحاب أهل الجنوب من الاتحاد، فإنه ليحس أن في الجو مثلما يسبق العاصفة، وأنذرهم أن يتهاونوا أو يتخاذلوا فتذهب ريحهم وتضيع أصواتهم بددا، وهو في كل ما يزجي من القول صريح كأعظم ما تكون الصراحة، واضح كأتم ما يكون الوضوح.
تعرض لمسألة كنساس فقال في قوة اليقين وفي جلال الحق: «ستكون كنساس حرة.» وكانت الولاية لم تستقر بعد على وضع والصراع فيها بين أنصار الرق وأنصار الحرية على أشده، وذكر السامعين أن الخروج على اتفاق مسوري والسماح بانتشار الرق وراء الحد الفاصل مفض حتما إلى جعل الرق مسألة قومية عامة؛ ولذلك فإنه للفوز أبدا أو الهزيمة أبدا، فإنه ليشعر بتزايد قوة أنصار الرق، بينما يتراخى الداعون إلى مقاومة تياره، وكان يبدو منه في خطابه ما يبدو من رجل مقبل على موقف حاسم في تاريخ حياته، ففي نبراته رنين الإخلاص، وفي مقاطعه وابتداءاته لهجة اليقين وبينات الحرص الشديد على أن يتدبر المنصتون كلامه، وعلى وجهه علامات الاهتمام حينا، وأمارات القلق حينا، ومخايل الحذر والخوف واللهفة أحيانا، وكذلك العظيم إذا تكلم كان كلامه من وجدانه ومن لبه، وكانت حركاته خفقات جوانحه ووثبات قلبه.
ولقد تنبأ ذلك الرجل العظيم فذكر للناس أن مسألة الرق لن تحل حتى تنتهي إلى أزمة تجتازها الأمة بفضل صلابتها وقوة إرادتها، فإن تلك الإرادة متى أوقظت اجتاحت الصعاب، وكأنه كان يتطلع من وراء حجب الغيب على ما ينتظر البلاد من حرب أهلية ضروس، وامتزجت في قلوب السامعين الحماسة لما يقول الخطيب بالوجل الذي يلقيه في روعهم بما ينذر، فلقد اشتدت في الجنوب الحركة التي ترمي إلى الانسحاب من الاتحاد حتى باتت خطرا قريبا يحسب له حسابه. •••
وحدث أن كان مولد الحزب الجديد في نفس السنة التي كانت تختار فيها البلاد رئيسا جديدا للولايات؛ وهي سنة 1856، فكان النشاط السياسي بذلك مضاعفا، وأحس الناس جميعا أن مسألة الرق قد أصبحت القطب الذي يدور عليه هذا النشاط السياسي، فألقوا بالهم إليها على نحو لم تسلف بمثله فترة في تاريخ البلاد.
وكان مرشح الجمهوريين هو كابتن فريمونت، وكان أول مرشح للحزب الوليد، كما كانت الانتخابات في تلك السنة أول انتخابات يخوض هذا الحزب معركتها، ورشح الحزب لمنصب نائب الرئيس ويليام ديتون من ولاية جرزي الجديدة، ولكن أهل سبرنجفيلد وأهل إلينوى أرادوا أن يكون لنكولن من يرشح لهذا المنصب.
ورشح الديمقراطيون للرياسة بوكانون وهو من ولاية بنسلفانيا، وقد حاول دوجلاس بكل ما في وسعه أن يظفر بهذا الترشيح، ولكن بوكانون تغلب عليه وظفر بتأييد أغلبية أنصار الحزب.
وظهر في الميدان حزب ثالث باسم حزب أمريكا، وهو في الواقع بقية الهوجز، وقد رشحوا للرياسة فلمور، وكان نائبا للرئيس تيلور سنة 1848.
واشتدت المعركة بين الأحزاب، وكان مدار الدعاية اليوم قضية الرق وموقف كل حزب منها وما يعتزم أن يفعل إذا قدر له الفوز، وهكذا يشمل الاتحاد إحساس عام أن هذه القضية أصبحت المحور الذي تدور عليه سياسة البلاد.
وأعلن الجمهوريون أثناء المعركة مبادئهم وعملوا على إذاعتها في طول البلاد وعرضها، ومؤداها أنه لا الكونجرس ولا أي مجلس غيره في أية مقاطعة ولا أي فرد من الأفراد ولا جماعة من الجماعات؛ لا أحد من هؤلاء جميعا يملك أن يجعل امتداد الرق أمرا مشروعا في أية بقعة من بقاع الولايات المتحدة، وذهب الجمهوريون إلى أكثر من ذلك فقالوا إن الدستور قد جعل للكونجرس سلطة الحكم في جميع الولايات، وعلى ذلك فمن حق الكونجرس ومن واجبه عند تنفيذ هذه السلطة أن يقضي في الولايات على «التوأمين الباقيين من عهد الهمجية؛ وهما تعدد الزوجات والرق.»
أما الديمقراطيون فلم يعلنوا آراءهم واضحة في المشكلة كلها، وإنما أعلنوها واضحة في مشكلة كنساس نبراسكا، فقالوا كما قال دوجلاس إن لأهل الولايتين أن يقرروا ما إذا كانوا يأخذون بالرق أو يرفضونه، وترى من ذلك أن قرار كل من الحزبين يناقض الآخر، ومن هنا كانت المعركة بين الرق والحرية.
وقد اختير لنكولن في ولايته فيمن اختيروا من هيئة انتخاب الرئيس، وراح يبذل أقصى جهده في الدعوة لمرشح الجمهوريين أينما حل، وتكلم كثيرا وندد بالرق كثيرا، بيد أنه كان لا يغفل عن تأكيد رغبة حزبه في الحرص على كيان الاتحاد.
وكان أنصار الرق من أهل الجنوب ومشايعوهم من الشماليين ينشرون في طول البلاد وعرضها مبدأ دوجلاس الخلاب؛ وهو تقرير سيادة الشعب، ولن يكون ذلك إلا أن يترك الناس أحرارا في نظرهم إلى الرق، وكانت كنساس حتى ذلك الوقت لا يزال يتوزعها أنصار الرق وأنصار الحرية، وكان النضال بينهم فيها عنيفا، كل يطمع أن ينتصر مبدؤه.
ومما يذكر من فكاهات لنكولن في معركة الرياسة هذه أن فاجأه أحد المستمعين في جهة من الجهات بسؤال أراد به أن يزعزعه فقال: «أحقا يا مستر لنكولن أنك دخلت هذه الجهة أول ما دخلت حافي القدمين تسوق أمامك عددا من الثيران؟» وأجاب لنكولن: «إن لدي هنا «دستة» من الرجال على الأقل يشهدون بصحة هذه الواقعة إذا كان إثباتها أمرا ضروريا في القضية التي نحن بصددها.»
وتحمس لنكولن فقال إن ما بلغه من مكانة إنما كان ثمرة من ثمار الحرية، وعلى ذلك أليس محقا في أن يمقت الرق الذي يوبق الروح، ويستذل النفوس في صفوف السود والبيض جميعا، ويمجد الحرية التي يبلغ المرء في كنفها ما يطمح إليه من رفعة؟ وختم خطابه بقوله: «نعم سنتكلم في سبيل الحرية وضد العبودية طالما يتيح لنا دستورنا حرية الكلام؛ حتى لا تشرق الشمس على هذه الأرض العريضة ولا ينزل الغيث ولا تهب الريح على رجل يقسر على ما لا يؤجر عليه من عمل.» وكان يستطيع أن يقول على رجل يسترق، ولكنه لم يزل حريصا لا يحب أن يندفع في محاربة الرق إلى حد الجهر بالتحرير.
وانجلت المعركة الانتخابية عن فوز بوكانون، ولكن نجاح الحزب الديمقراطي كان ينطوي على معنى الضعف، فإن ثلث عدد أصواته انضم إلى الحزب الجديد الذي كان يتلو على حداثته الحزب الفائز في عدد الأصوات، حتى لقد اعتقد الكثيرون أن الفوز الحقيقي إنما كان للجمهوريين، ولولا الخوف من دعوة التحرير وسرعة انتشارها في البلاد وشدة إشفاق الجنوبيين وأنصار الرق في الشمال منها؛ لجاز أن كانت تأتي نتيجة الانتخاب يومئذ بخلاف ما انتهت إليه.
أحداث ونذر!
ما لبثت أن بدرت في البلاد بوادر الطامة الكبرى؛ فقد تلاحقت الأحداث، وجرت الشائعات بالنذر وانبعثت الإحن والحزازات، وتنابذ الناس وتباغوا، وأصبح بأسهم بينهم شديدا. فما هي إلا رجفة ثم ينفجر البركان ويزلزل البنيان.
وكانت أولى تلك الأحداث ما وقع في مجلس الشيوخ؛ فقد كان في المجلس رجل يدعى سمنر، وكان أستاذا للقانون بجامعة هارفارد، وتلقى العلم أثناء شبابه بأوربا، وقد عرف بقوة الجنان وزلاقة اللسان وتوقد القريحة، وكان ممن يكرهون الرق أشد كره، فحمل في قوة وجرأت على قرار نبراسكا، وأهاب بالناس أن يتمسكوا باتفاق مسوري، وكانت لهجته لاذعة وحجته قاطعة وعبارته مقذعة، وقد تهكم تهكما قاسيا على أحد الأعضاء وهو المدعو بنلر وجعله سخرية الساخرين، فلما كان ذات يوم بعدها جالسا إلى مكتبه في المجلس يكتب في سكون، إذ هجم عليه أحد أقارب بتلر فأهوى على أم رأسه بعصا غليظة فخر على الأرض صعقا! وظل بعد ذلك سنوات يقاسي آلام العلة من هذه الضربة.
وكانت هذه الضربة في الواقع أولى ضربات الحرب الأهلية؛ فأهل الجنوب بدل أن يستنكروا هذه الفعلة هللوا لها واعتبروا صاحبها بطلا جديرا بالإعجاب والتوقير، وقدم له جماعة من الطلبة عصا ذات رأس من الذهب، أما أهل الشمال فلك أن تتصور مقدار ما بلغته الفعلة من نفوسهم وما تركته من الغيظ في صدورهم، فذلك ما لا ينهض لتصوره كلام.
وجاءت بعد ذلك قضية دردسكوت، فكانت حادثا رج البلاد من أركانها وإن كان هينا في ذاته؛ وذلك أن عددا من العبيد رحلوا مع سيدهم إلى ولاية من الولايات الشمالية الغربية، وكان فيهم عبد ذكي رزق حظا من التعليم ويدعى دردسكوت، أدرك أنه وراء الحد الفاصل بين ولايات الرق والولايات الحرة - أي حد اتفاق مسوري - فرفع أمره إلى القضاء يطلب أن يتمتع هو وأسرته بالحرية ما داموا في ولاية حرة.
ولكن هذا العبد كان يحمل ومن معه بالقوة من جهة إلى جهة، فصار ينقل قضيته من محكمة إلى محكمة، وحجته أنه ظفر بالحرية فعلا؛ إذ كان وراء خط اتفاق مسوري؛ ولذلك فإن نقله بالقوة إلى الجانب الآخر من خط الاتفاق - أي إلى الجهات التي تأخذ بالرق - لا يذهب عنه حريته؛ لأنه انتزاع رغم أنفه.
وكان دردسكوت في الواقع يمثل ملايين العبيد، فقضيته قضية الرقيق جميعا، فما يجوز عليه يجوز على كل زنجي في البلاد، ومن هنا جاءت أهميتها، ثم إنها وقعت في وقت كانت تتصارع فيه الآراء والمبادئ وأذهان الناس جميعا متجهة إلى ما عسى أن تفضي إليه معضلة الرق، ولو أن هذه القضية قد جاءت قبل ذلك لما كان لها مثل ما اتفق لها الآن من خطر.
انتقلت القضية من محكمة إلى محكمة حتى وصلت إلى المحكمة العليا للولايات، ويصف دردسكوت موقفه في إحدى المراحل في كتيب تداولته الأيدي، ونقلت عنه الصحف حتى بات حديث البلاد كلها، ومما جاء فيه قوله: «قال القاضي إنني وفق تلك القوانين كنت حرا كمالكي على سواء أثناء أن كنت في إلينوى وفسكنسن، وكان لي أن أجعل من الرجل الأبيض عبدا لي كما يجعلني عبدا له، وشعرت بالأسف لأن أحدا لم يقل لي مثل هذا الكلام وقت أن كنت هناك، وقد استشعرت الفرح إذ حسبت أن القاضي سيهبني الحرية، ولكن القاضي تكلم بعد هنيهة فقال إنه بمجرد أن جاء بي مالكي إلى هذه الناحية من خط اتفاق مسوري ذهب حقي في الحرية، وعدت أنا وأطفالي وأسرتي متاعا من المتاع فحسب! وأحسست القسوة في أن يرسم البيض خطا من صنع أيديهم على سطح الأرض، على جانب منه لا يكون الرجل الزنجي رجلا بأي حال، وأنهم يبقون ذلك سرا فلا يطلعون أي زنجي عليه حتى يعودوا به إلى هذا الجانب من الخط؛ ولذلك لم أجد بدا من الالتجاء إلى المحكمة العليا ... يا إخواني في الإنسانية، هل فيكم من يستطيع مساعدتي يوم الفصل في القضية؟ ألا يتكلم أحد كلمة من أجلي في وشنطون ولو لم يكن له عليها من أجر إلا دعوات رجل أسود وأسرته؟ لست أدري ماذا أفعل، ولست أملك إلا أن أصلي وأدعو الله أن يتحرك قلب كريم بالشفقة علي، فيفعل لي ما لست أستطيع أن أفعله لنفسي، وأن تعلن المحكمة العليا إذا رأت الحق في جانبي للناس هذا الحق ...»
وبات الناس ينتظرون حكم المحكمة وقلوبهم مليئة بالإشفاق على هذا الزنجي الفرد، الذي تجاوبت البلاد كلها صدى كلماته مفعمة بالرثاء له، ثم إن قرار المحكمة لن يكون إلا حكما في قضية الرق كلها، وكانت المحكمة العليا هي التي تفسر ما يختلف الناس فيه إذا كان اختلافهم على دستورية قانون من القوانين وقولها في ذلك الفصل.
وقضت المحكمة بحكم لم يكن للناس في البلاد حديث غيره زمنا؛ لفرط دهشتهم منه، ولأهمية مغزاه في تلك الظروف، ومؤدى هذا الحكم أنه ما كان لأي زنجي أن يرفع قضيته أمام محكمة من محاكم البلاد كما يفعل الرجل الأبيض، وأنه ليس للكونجرس ولا لأي مجلس من مجالس الولايات أي سلطة تخوله أن يمنع أي شخص من أن يعود برقيقه من الولايات الحرة إلى ولايات الرق، وليس لأحد أن يتدخل بين مالك الرقيق ورقيقه في أي جهة من الجهات!
ومغزى هذا الحكم أنه يجعل اتفاق مسوري اتفاقا غير ذي موضوع؛ لأن مالك الرقيق بمقتضى الحكم حر فيما يفعل برقيقه في أية ولاية من الولايات، ما كان منها في هذا الجانب من خط اتفاق مسوري أو في ذاك. وكذلك يقضي هذا الحكم على قرار نبراسكا الذي يجعل لمجلس الولاية الحق في تقرير مبدأ الرق في الولاية أو رفضه، فمرد المسألة الآن إلى مالكي الرقيق أنفسهم، وفي هذا وحده من معنى حماية المحكمة العليا لملاك الرقيق في البلاد ما حق لأهل الجنوب أن يطفروا فرحا به.
أما أهل الشمال فكان الحكم في نفوسهم غمة وفي حلوقهم شجى، فلا حديث لهم أينما تلاقوا إلا ما ينطوي عليه من معان، وأدرك الشماليون أن قد أزفت الآزفة، واقترب اليوم الذي يحتكم فيه أنصار الحرية وأنصار الرق إلى السيف، فقد أعلن الجنوبيون أن على الشماليين أن يذعنوا للحكم وإلا انسحبوا هم من الاتحاد، وكانوا يتهمون دعاة التحرير بأنهم هم الذين دبروا هذه القضية، وأن دردسكوت ما عمل إلا بوحيهم، وأيقن لنكولن أن الحوادث تؤيد ما ارتأى، ولعله كان يحس بينه وبين نفسه أن قد اقتربت الساعة التي يتناول فيها معولا، لا ليقطع الأخشاب كما كان يفعل من قبل في الغابة، بل ليهوي به على ذلك النظام البغيض فيضربه الضربة الحاسمة.
أيقن لنكولن ذلك، فهو وإن لم يكن يعرف الذهاب بنفسه يدرك اليوم أن قد صار له في السياسة مكانة الزعماء؛ فلقد ذاع اسمه خارج ولاية إلينوى وتقبله الناس بقبول حسن، وقد رأينا أن أهل إلينوى رشحوه لمنصب نائب الرئيس، ونذكر أنه نال من أصوات المؤتمر الأهلي للجمهوريين في مساشوست مائة صوت وعشرا، ونال ديتون مائتين وستة وخمسين، فأصبح ديتون مرشح الحزب، على أن حصول لنكولن على هذا العدد - وإن لم يرشح - دليل على نمو مكانته في نفوس الجمهوريين، ولما علم لنكولن بذلك تبسم ضاحكا وقال: «حسبت أول الأمر أن هناك رجلا عظيما في مساشوست يدعي كذلك أبراهام لنكولن.»
وقد تألم لنكولن وانكدرت نفسه لذلك الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا، تلمح ذلك فيما عقب به عليه؛ إذ أخذ يقارن حال العبيد يومئذ بما كان يرجى لهم غداة إعلان استقلال الولايات، قال: «في هاتيك الأيام كان إعلاننا الاستقلال أمرا يعده الناس مقدسا كما أنهم عدوه ينتظم السكان جميعا، أما اليوم فقد سخر منه وهوجم وأول وفق الأهواء ومزق شر ممزق، حتى إنه لو أمكن أن يبعث صانعوه اليوم من مراقدهم ما أمكنهم أن يتعرفوه، وذلك بما فعلنا إذ حاولنا جعل استعباد الزنجي أمرا عاما أبديا، وإن جميع قوى الأرض لتظهر كأنها تتحد سريعا عليه، فأله المال «ممون» في أعقابه، ومن ورائه الطمع، ثم من وراء هذا الفلسفة، تتلوها جميع نظريات العصر التي تتكاتف جميعا لتؤيد الصيحة ضده. لقد ألقوا به في سجنه بعد أن فتشوه ولم يدعوا في يده أية آلة ينقب بها الجدار، وأغلقوا عليه الواحد بعد الآخر أبوابا ثقيلة من الحديد، كل منها ذو مائة مفتاح، ولا يمكن فتحه إلا أن تتفق على ذلك كل هاتيك المفاتيح، وإنها لفي أيدي مائة من الرجال مختلفين مبعثرين في مائة مكان سحيق، وإنهم فوق ذلك ليفكرون أي اختراع في كافة جوانب العقل والمادة يمكن أن يضاف إلى ذلك، ليتأكد لهم استحالة هربه أكثر مما يتأكد على هذه الصورة!»
وحق لأبراهام أن ينطلق لسانه بهذا الغضب، وأن تجزع نفسه لهذا الحكم؛ إذ ما نصيب موقف حزبه من القرب أو البعد من روح الدستور بعد هذا الحكم، وهو الحزب الذي يجعل اتفاق مسوري القاعدة التي يصدر عنها في معضلة الرق؟
وظلت الأحداث والنذر تأتي بعضها في إثر بعض؛ فهذه كنساس لا تزال تتوثب فيها الفتنة ويتحفر الشر، فقد أخذت تضع لها دستورا، وكان أنصار الحرية فيها أكثر عددا من أنصار الرق، ولكن هؤلاء عمدوا عند انتخاب مؤتمر عام يضع الدستور إلى القوة المادية، وتألفت عصابات منهم ومن بعض مؤيديهم من الولايات القريبة، وحالوا بين الأحزاب وبين أمانيهم بوسائل الإرهاب والتنكيل، وجرت الانتخابات على صورة مؤلمة، فلم ينتخب إلا أنصار الرق، فانفردوا بوضع الدستور، وقرروا فيه أن كنساس من ولايات الرق، واجتمع أنصار الحرية وأعلنوا احتجاجهم، وأعدوا دستورا آخر يحرمون فيه الرق.
ويأبى الرئيس بوكانون في تلك الآونة العصيبة إلا أن يعتمد قرار المؤتمر، فيقبل الولاية في الاتحاد على أنها إحدى الولايات التي تأخذ بنظام الرق كما جاء في دستورها.
وجاء هذا مع الحكم في قضية دردسكوت ألما على ألم لنفوس الأحرار، ولشد ما تألم لنكولن لهذا القرار، ولكن ذلك كان عنده الألم الذي يلد الأمل ويحفز النفوس إلى العمل ويغريها بالجهاد، ولولا أن كان من المؤمنين الصادقين لتطرق إلى نفسه الوهن ومشى في عزمه اليأس.
وفضلا عما أحدث دستور كنساس من أثر في قضية الرق العامة، نراه يؤثر في موقف لنكولن من خصمه دوجلاس؛ فقد كان يرجى لنكولن أن يظفر بأصوات الناس إذا رشح نفسه مرة ثانية لمجلس الشيوخ، ولكن دوجلاس عرف كيف يستغل هذا الموقف ويكسب تأييد عدد من الجمهوريين أنفسهم بتلونه واتباعه سياسة اقتناص الفرصة المواتية.
رأى دوجلاس أن قرار المحكمة العليا قد قضى على ما راح يدعو إليه من توطيد مبدأ سيادة الولايات في تقرير مصيرها، ذلك المبدأ البراق الذي ظل يخلب الألباب ويلوح به لأهل الجنوب ليكونوا عدته في الوصول إلى الرياسة، ولقد بات من أمره في حيرة شديدة؛ فهو يخشى أن يفقد محبة أهل الجنوب إذا عارض دستور كنساس، بينما هو يخشى كذلك أن يفقد ثقة أهل إلينوى إذا هو نسي مبدأ سيادة الولايات وسلطانها؛ فيؤدي ذلك إلى خذلانه في الانتخاب لمجلس الشيوخ، وقد أوشكت مدته فيه أن تنتهي.
وآثر الآن أن يحرص على ثقة ناخبيه لمجلس الشيوخ، فأعلن عداءه لدستور كنساس، ووقف يحمل عليه في المجلس حملات شديدة بعثت في قلوب الديمقراطيين الغيظ وأثارت في عقولهم الدهش، فهذا الرجل الذي يعدونه من أقوى رجالهم لا يستحي أن يخرج على هذه الصورة، ولا يتورع أن يعارضهم في غير هوادة، كأنما انقلب بغتة فصار من رجال الحزب الجديد.
ولقد هلل بعض زعماء الجمهوريين لموقف دوجلاس واستبشروا به، بل لقد أخذوا يوحون بضم دوجلاس إلى حزبهم ليزدادوا به قوة ومنعة، وراح جريلي أحد أصحاب الصحف بنيويورك، وهو من قادة هذا الحزب، يدعو القراء إلى انتخاب دوجلاس، وأخذ يثني على صفاته ويتوخى في مديحه الإطناب والمغالاة، وكان هذا الرجل من أشهر رجال الصحافة في الشمال، وكانت له عند الناس مكانته، كما كان لصحيفته عدد كبير من القراء المعجبين به.
ولكن أبراهام أنكر كل هذا الاتجاه ولم يحس في نفسه الميل إلى هذا التناقض، وهنا تعود للظهور خصلة من أبرز خصاله؛ ألا وهي الاستقامة إذا صح أن تعبر هذه الكلمة عن المعنى الذي نريد، والذي نراه ينحصر في إطلاق النفس على سجيتها لتسير على نهج من فطرتها في غير تناقض أو تذبذب أو اضطراب، وما كان أبراهام ليتكلف شيئا لا ينزع إلى وجدانه، ومن هنا كانت خطواته بطبيعتها مسددة صوب الغاية مفضية إليها، مهما كثر ما يعترضه من الصعاب، ثم من هنا كان خطره إذا هم بأمر، قال حين علم بتلك الدعوة الجديدة: «لقد أتى جريلي نحوي بما لا يعد عدلا. إني جمهوري من صميم الجمهوريين، ولقد وقفت دائما في طليعة الصفوف عند المعركة، والآن أراه يفاوض دوجلاس خير من يمثل رجل الاتفاقات وأنصاف الحلول، ذلك الذي كان ذات مرة آلة أهل الجنوب، والذي هو اليوم أحد معارضيهم، ذلك هو الرجل الذي يحاول أن يضعه في صفنا الأمامي ... إنه يحسب أن مكانه الرفيع وشهرته وتجاربه ومقدرته - إذا سره ذلك - تقوم مقام المركز الجمهوري الخالص الذي ينقصه، بل وتزيد على ذلك ... ولذلك فإن إعادة انتخابه للشيوخ - على أن يمثل القضية العامة لحزبنا - أجدى علينا من انتخاب من هو خير منه من رجالنا الجمهوريين الخلص ممن ليست لهم مثل شهرته، ماذا تعني «نيويورك تريبيون» بذلك الإطراء والإعجاب والتعظيم الذي تزجيه دائبة لدوجلاس؟ هل تعبر بذلك عن شعور الجمهوريين في وشنطون؟ هل وصلوا نهائيا في رأيهم إلى أن قضية الحزب الجمهوري على العموم تتقدم خيرا من ذي قبل بتضحيتنا هنا في إلينوى؟ إن كان ذلك كذلك فنحب أن نعلمه عاجلا، على أني حتى الآن لست أعلم بجمهوري هنا يرغب أن ينضم إلى دوجلاس، وإذا استمرت التريبيون ترن باسم دوجلاس في مسامع الخمسة أو العشرة الآلاف من قرائها في إلينوى، فإن ذلك يكون أكثر من أن نأمل معه أن يظل الشمل جميعا. إنني لا أشكو ولكنني أرغب في أن أصل إلى بينة من الأمر.»
ذلك هو لنكولن اليوم، انظر كيف يجمع بين منطق المحامي وحصافة السياسي، وانظر كيف يدفع عن نفسه بما نشأ عليه من دماثة ما يجد فيه عدوانا على شخصه ونيلا من كرامته، فهو يطيق أن يكون دوجلاس خصما له، ولكنه لا يطيق أن يراه مرشح الحزب دونه في إلينوى، وهو فيما يعتقد لا يرى كفايته تتقاصر عن ذلك.
وسافر صديقه هرندن إلى الجهات الشرقية ليرى ما حال الحزب هناك، وليقابل زعماءه البارزين، فعاد إليه ينبئه بأن اسمه يقابل بالاحترام من كثير من قادة الحزب، بيد أنه يحمل إليه مع ذلك أنباء لا تسره؛ فرجال الحزب منقسمون بعضهم على بعض؛ فإن لجريلي آراءه، ولستيوارد أطماعه، ولغيرهما من أساطين الحزب من أوجه الرأي ما يخشى منه انحلاله.
هكذا صارت السياسة شغله الشاغل فهو لا يستطيع اليوم غير ذلك، لا لأنه يتخذ من السياسة وسيلة إلى تحقيق أطماع شخصية كما عسى أن يفعل غيره؛ ولكن لأن عقيدة تحرك نفسه وتستثير وجدانه، ولأن رسالة من الرسالات الإنسانية الكبيرة ينبض بها قلبه الكبير. وهل عهدنا عليه من قبل ما نحمل معه اشتغاله بالسياسة على غير محمله؟
على أنه لم ينفض يده من المحاماة بعد، فما زالت المحاماة مرتزقة، ولقد ارتفع فيها إلى مستوى يحق معه لرجال المحاماة جميعا، في كل جيل وفي كل بلد، أن يذكروه كعلم من أعلامها، وأن يضيفوا اسمه إلى ما يعدونه في مهنتهم من دواعي الشرف وبواعث الفخار.
ومن أعماله في المحاماة يومئذ قضية آرمسترنج التي سلفت الإشارة إليها، فقد وقع بصره في إحدى الصحف على جريمة قتل يدعى أحد المتهمين فيها آرمسترنج، فدهش وتساءل هل يكون ذلك ابن متحديه القديم في نيو سالم ثم صديقه بعد ذلك منذ كان فتى يبيع في الحانوت، ولما تبين له أنه هو كتب إلى أمه يقول:
عزيزتي مسز آرمسترنج
علمت الآن بألمك العميق وبإلقاء القبض على ابنك متهما بالقتل، ويصعب علي أن أصدق أنه عسي أن يرتكب ما اتهم به، إن ذلك لا يبدو ممكنا، وإني لأرجو أن يجرى معه تحقيق عادل على أي حال، وإن عرفاني بالجميل نحوك وما كان لي منك أيام شدتي من عطف طالت أيامه؛ ليحدوني أن أتقدم في سماحة نفس بخدماتي المتواضعة لصالحه، فإن هذا سوف يتيح لي الفرصة أن أرد ولو بقدر ضئيل تلك المبرات التي نلتها على يديك ويدي زوجك المأسوف عليه؛ إذ لقيت تحت سقفكم مأوى كريما بغير مال وبغير ثمن.
وثمة حادثة أخرى لها دلالتها على عظمة الرجل ونبله وسمو نفسه؛ ذلك أنه تقدم عن طيب خاطر ليدافع عن حفيد القس كارترايت، ذلك الرجل الذي طعنه في دينه قبل ذلك بعشرين عاما وهو ينافسه في الوصول إلى مقعد في مجلس الولاية، وكانت هذه التهمة كذلك تهمة القتل، ولشد ما تأثر كارتريت وهو اليوم شيخ كبير؛ إذ شاهد حرارة دفاع خصمه القديم لنكولن عن حفيده الذي ما لبث أن برئت ساحته.
على أن للسياسة اليوم أكثر همه، فما يفرغ من عمله إلا أخذ يتقصى حال حزبه، وكان نشاط دوجلاس يومئذ، ورغبته أن يظفر بمقعده ثانية في مجلس الشيوخ، وميل بعض زعماء الجمهوريين من أمثال جريلي إلى اجتذابه للحزب الجمهوري؛ كل أولئك كان موضع اهتمامه، لا يني يفكر فيه؛ وذلك لصلته بالقضية الكبرى التي باتت قضية الاتحاد كله؛ ألا وهي قضية الرق، فها هي ذي الأحداث والنذر - كالاعتداء على سمنر، وحكم المحكمة العليا في قضية دردسكوت، وقبول الناس في الاتحاد ولاية من ولايات الرق - تسبق العاصفة وتنذر بالراجفة.
دوجلاس ولنكولن
أيقن أبراهام بينه وبين نفسه أنه أصبح أعظم الجمهوريين مكانة في سبرنجفيلد وإلينوى، ولكن موقف دوجلاس من دستور كنساس وإقبال بعض الجمهوريين عليه من أجل ذلك لا يعجبه، ولشد ما ضايقه وكدر خاطره موقف جريلي؛ إذ عد أبراهام ثناءه على دوجلاس نيلا منه غير مباشر.
دخل على صديقه هرندن ذات يوم في مكتبهما فرآه صاحبه مهموما مكتئبا، وما لبث أن تبين أن مرد ذلك لم يكن إلى شيء من جانب زوجه، كما حسب بادئ الرأي، ولكن دعوة جريلي هي التي كدرته، وقد تحدث بهذا إلى صاحبه شاكيا مبينا ما في هذه الدعوة من ظلم وخطر عليه، ويقول صاحبه إنه انصرف من المكتب ولم يزايله همه، ولم يستطع أن يأتي عملا حتى انتصف النهار.
وسافر هرندن إلى الولايات الشرقية فوجد لاسم لنكولن شهرة على بعد الشقة، يحبه الناس وإن لم يروه؛ فما ذكر صاحبه اسمه إلا قوبل بالبشاشة والثناء، وكتب هرندن إلى صديقه ينبئه بذلك وأفضى به إليه حين عاد فطابت بذلك نفسه.
ولقي هرندن دوجلاس فيمن لقي، وأشارا إلى لنكولن فأحس هرندن أن دوجلاس يوجس من صاحبه خيفة، وقد قال له إذ هم بالانصراف: «لست أضمر للنكولن شرا، ولست أفكر أن أعترض طريقه. بلغه احترامي.»
وانعقد سنة 1858 مؤتمر من الجمهوريين في سبرنجفيلد لترشيح عضو عن الولاية لمجلس الشيوخ، واجتمعت كلمة رجاله على ترشيح لنكولن، وفعلوا ذلك في غبطة وفي حماسة شديدتين.
وهكذا اتفقت كلمة الجمهوريين على لنكولن يقدمونه لينافس دوجلاس رجل الديمقراطيين، وسيلتقي الخصمان، ويكون بينهما هذه المرة صراع دونه كل ما سلف من صراع.
دوجلاس.
وعرف لنكولن مبلغ ما ينطوي عليه الموقف من خطر، وأدرك أنه ملاق منه رهقا شديدا وعنفا، ولكنه يحس في قرارة نفسه أن له في ذلك ما يشفي نفسه، فهو يحمى على الصراع، ولا تظهر مواهبه على أحسن ما تظهر إلا حين يبتعثها ضجيج الموقف وتستثيرها حرارة الدفاع.
وكذلك أشفق دوجلاس وأوجس في نفسه خيفة، فلقد فطن - وهو الخبير بأقدار الرجال البصير بأمور السياسة - إلى دقة الموقف، وأدرك أن أبراهام اليوم غيره بالأمس، فهو منه اليوم حيال قوة لا تنفع معها حيلة ولا يجدي مكر أو دهاء.
وفيما كان رجال حزبه يقدمونه، كان أبراهام يعد خطابا حاسما يعبر به عما في نفسه، ولقد ظل يثبت ما يجري في باله على قصاصات من الورق يدسها في قبعته حتى استوى له موضوعه، فجمعه بعضه إلى بعض في عناية شديدة، وظل يراجعه فقرة فقرة حتى اطمأنت نفسه إليه، وأغلق أبراهام باب المكتب ذات يوم وأنزل الستارة من داخله على الجزء الزجاجي منه، ثم جلس يتلو هذا الخطاب على صديقه هرندن، وكان يبدو على وجهه الاهتمام الشديد، وتدل ملامحه على أنه مقبل على عمل حاسم، وكان يقف في نهاية الفقرات ثم ينظر في وجه صاحبه يتبين موقعها في نفسه، أو ينتظر رأيا منه. واعترض هرندن حين وصل أبراهام إلى قوله: «إن البيت المنقسم بعضه على بعض لن تقوم له قائمة»، وهي فقرة من الإنجيل أشفق منها أن تؤول تأويلا سيئا، فتلقي في روع الناس أن الاتحاد انقسم بعضه على بعض أو هو بسبيل الانقسام، ولكن لنكولن أصر على بقاء هذه الفقرة قائلا إنه يفضل أن يكون نصيبه الفشل وتبقى في خطابه هذه العبارة؛ لأنه تعمد أن يأتي بعبارة قوية قصيرة تألفها أذهان الناس وألسنتهم من قبل، بينما هي تناسب المقام فتقع من نفوسهم موقعا يهز مشاعرهم هزا.
وجمع لنكولن بعض خلصائه قبيل الموعد الذي حدد لخطابه في المؤتمر الجمهوري وتلاه عليهم، فأنكروه جميعا وأظهروا خوفهم على مكانة الحزب وعلى لنكولن، ونصحوا إليه ليصرفوه عن كثير مما جاء فيه، إلا هرندن فقد أيده وقال متحمسا: «ألق هذا الخطاب فسيجعلك رئيس الاتحاد.» ولم يك يدرك هرندن مبلغ ما في نبوءته هذه من صدق.
وكان لنكولن إذا صمم على أمر لن يلويه عنه شيء فقال لأصحابه: «أي أصدقائي، إن هذا الشيء قد أجل إلى مدة طويلة أرى فيها الكفاية، لقد حان الوقت الذي ينبغي فيه أن أعبر عن وجداني، فإذا قدر لي أن يكون مصيري السقوط بسبب هذا الخطاب، فلأسقطن مربوطا إلى الصدق. دعوني ألقى حتفي في الدفاع عما أرى أنه الحق والعدل.»
وقام لنكولن يلقي في المؤتمر خطابه فقال:
حضرة الرئيس، حضرات السادة رجال المؤتمر، إذا استطعنا بادئ ذي بدء أن نعلم أين نحن وإلى أي وجهة نريد أن نتجه، أمكننا أن نعرف ماذا نصنع وكيف نصنعه. إننا الآن قد قطعنا شوطا في العام الخامس منذ تلك السياسة التي أردنا بها وضع حد لما تثيره معضلة الرق من قلق، ولكن هذا القلق لم يقتصر أمره على أنه لم يوقف فحسب، بل لقد ظل يتزايد أبدا، وفي رأيي أنه لن ينتهي حتى يفضي بنا إلى أزمة لا بد أن نجتازها. إن البيت المنقسم بعضه على بعض لن تقوم له قائمة، وإني أعتقد أن هذه الحكومة لا يمكنها أن تدوم ونصفها إلى الرق والنصف الآخر إلى الحرية، ولست أبغي أن ينهار البيت، ولكنني أريد ألا يستمر في انقسامه، ولسوف يكون كله إلى هذا الجانب أو إلى ذاك؛ فإما أن يحول أعداء الرق دون أي اتساع له في المستقبل ويضعوه حيث يرتاح الرأي العام إلى أنه وضع في الموضع الذي يفضي به إلى الفناء النهائي، وإما أن يدفعه أنصاره إلى الأمام بحيث يصبح أمرا مشروعا في جميع الولايات، القديم منها والجديد، الشمالي والجنوبي.
ذلك جانب من الخطاب الذي أفضى به لنكولن إلى رجال المؤتمر في صراحة وجلاء، ولقد أشفق منه كثير من رجال المؤتمر كما أشفق خلصاء لنكولن وخافوا، وهو يريد بالبيت المنقسم على نفسه الولايات الأمريكية أن يظن خصومه أنه يشير بقطع العقدة لا بحلها، وأنه يلمح بذلك إلى الحرب.
ولكن أبراهام كان يعبر بهذا الكلام في الواقع عن شعور أعداء الرق جميعا، فقد باتت المعضلة تستوجب الحل، وكل تهاون فيها إنما يزيدها سوءا على سوء، كالجرح الذي ظهر خطره إن هو أهمل كان فيه الموت المحقق، ومن هنا كانت أهمية هذا الخطاب، ثم من هنا كانت أهمية موقف أبراهام يومئذ، فقد بات لقومه نذيرا، ونفذ قوله إلى الأسماع والقلوب، وطالما أنذرهم غيره فلم تغن النذر.
وكان دوجلاس قد نزل بشيكاغو يدعو الناس إلى تجديد انتخابه لمجلس الشيوخ، فوجد في خطاب خصمه لنكولن فرصة يغتنمها، فاتهمه أنه من دعاة التحرير بالقوة، وأخذ يحذر الناس من انتخابهم إياه، واغتاظ لنكولن لتلك التهمة النكراء، ولكنه لم يستكثرها على دوجلاس، وإنه لواثق أنه سيقذف عما قريب بحقه على باطل خصمه فيدمغه فإذا هو زاهق.
وما كان أبراهام ممن يقرون الثورة والعنف مهما بلغ مقته للرق ومهما ضاق به صدره، ولسوف يبقى دستوره حل تلك المعضلة على أن يكون ذلك في كنف الاتحاد وتحت رايته، التي لا يرضى إلا أن تظل خفاقة عالية تجمع على محبتها وإكبارها بني الوطن جميعا.
وعول دوجلاس على أن يخوض المعركة على أساس خصومته لبوكانون في مسألة دستور كنساس، لا على أساس مخاصمته منافسه لنكولن فيما جاء في خطابه الجديد من آراء، كأنما يستعظم أن يكون ذلك الرجل الذي ما زال شأنه منحصرا في ولايته ندا له، وإن كان دوجلاس ليحس بينه وبين نفسه مبلغ ما تنطوي عليه نفس خصمه من عظمة، ومبلغ ما يحمله قلبه من إيمان.
ولقد شاع خطاب أبراهام في الولايات، وتناقلته الصحف في طول البلاد وعرضها، فكان ذلك أبلغ رد على ترفع دوجلاس وذهابه بنفسه، وأحس أبراهام مبلغ ما أحدثه ذلك الخطاب من أثر في البلاد، تتبين ذلك في قوله: «إذا كان لي أن أمر بالقلم على صفحات تاريخي وأمحو حياتي كلها عن الأنظار، وقد ترك لي أن أختار شيئا أستثنيه من هذا المحو، فإني أختار هذا الخطاب فأدعه للعالم لم تذهب معالمه.»
وليس في قوله هذا شيء من المغالاة؛ فإن خطابه كان أكبر حافز لأولي الرأي أن يقفوا من مسألة الرق موقف الذي يريد الوصول إلى الغاية، فلا تهاون ولا تلكؤ بعد اليوم، وإلا تفاقم الخطب واستعصى على الحل، ودخلت البلاد في طور من الفوضى الجامحة تأتي على الأخضر واليابس. كما أن هذا الخطاب كان أهم حادث في تاريخ حياته، فبعده صار للسياسة كل همه، وبه قدر له أن يصبح في السياسة من رجال أمريكا كلها لا من رجال إلينوى فحسب.
وخطب لنكولن بعد ذلك في شيكاغو يرد على ما اتهمه به دوجلاس، فأعلن أن الوثيقة الكبرى التي يجب أن يتقيد بها الأمريكيون ويسيروا على نهجها هي وثيقة إعلان الاستقلال، وأنه يجب أن ينظر إلى مسألة الرق نظرة إنسانية، وأن يراعي اتفاق مسوري فيما ينجم بين الفريقين من خلاف.
وتكلم دوجلاس بعد ذلك في بلومنجتن ثم في سبرنجفيلد، ورد عليه لنكولن في المرتين، ثم بدا له فخطا خطوة لم يسبقه إلى مثلها رجل من قبله في التاريخ السياسي للبلاد، وذلك أنه أرسل إلى دوجلاس رسولا، يعلن إليه أنه يتحداه أن يلتقي وإياه في مبارزة خطابية يستمع فيها الناس إليهما، ويحكمون بينهما حسبما يرون من كلامهما.
ولقد ضاق دوجلاس بهذا التحدي، وهو الذي يعرف أصالة صاحبه وشدة إيمانه، ذلك الإيمان الذي رسخ حتى ما يحتال عليه بحيلة أو تزعزعه مطاولة، أو يفل منه جاه أو إغراء، والذي جعل كل وسيلة من وسائل المغالبة بحيث تكون منه كالموج من الصخر لا يلطمه إلا لينحسر عنه، ولم يبق فيه من طبيعة الموج شيء.
وأبى على دوجلاس كبرياؤه وغلواؤه أن يتخاذل عن هذا النزال، فقبله على كره منه قال: «سوف تصبح يداي مليئة. إنه رجل حزبه ذو البأس، ملؤه الذكاء والحقائق التاريخية، وإنه لأمين بقدر ما هو حذر أريب، ولئن قدر لي أن أظهر عليه فسوف يكون انتصاري بشق النفس.» وأسر في موضع آخر إلى صديق له قوله: «إني لا أحس أني أرغب في الذهاب إلى هذا الجدال، إن البلاد كلها تعرفني ولقد سبق أن قدرتني، وإن لنكولن إذا قيس إلي ليعد غير معروف، فإذا أتيح له أن ينتصر علي في هذا الجدل، وإني لأود أن أذكر أنه أقدر رجل في الحزب الجمهوري؛ فإنه يكسب كل شيء بينما أخسر أنا كل شيء، أما إذا قدر لي الفوز فإني لن أغنم إلا قليلا، إني لا أحب أن أذهب إلى تلك المجادلة معه.»
وحددت سبع مدن يلتقي فيها الرجلان فيتناظران، والناس من حولهما يشهدون ما يكون بينهما، وفرح لنكولن وقد أتيحت له أعظم فرصة ليعبر عما في نفسه، وأية فرصة هي؟! ألم يك دوجلاس في الناس أكثرهم استفزازا له، وأدعاهم أن يبرز له ما استكن من مواهبه؟ ثم أليست هذه المجادلة كفيلة أن تجمع إلى أنصاره ومحبيه أنصار دوجلاس ومحبيه، فيكون الكلام في حشد قلما يتسنى أن يكون مثله، فإذا قدر له أن يكسب هذه القلوب أو يصل إلى إقناع هذه العقول، فأي فوز هو وأي فخر!
أثناء النزال.
والحق أن هذا التحدي كان خطوة من خطوات لنكولن بالغة المهارة، فليس أفضل منها وسيلة لإذاعة رأيه في معضلة الرق، وفي النيل من الديمقراطيين في شخص دوجلاس الذي يباهون به.
واتخذ دوجلاس للأمر عدته، لم يدع وسيلة أو يغفل عن حيلة، أما أبراهام فلم تكن به حاجة إلى ما يحتال به من أساليب التأثير المتكلفة الخادعة، ولديه البيان والمنطق، فما هو إلا أن ينصت له الجمع حتى يبتعث اليقين ما قر في نفسه فيحرك به لسانه، فإذا بيانه كالنهر الحادر يفهق بما لا يفتأ يواتيه به المنبع، ويجيش بهذا الفيض ويهدر، ويتدفق لا يصده عن وجهه شيء.
وكان لدوجلاس من بعد الصيت ما جعل اسمه ملء الأسماع في طول البلاد وعرضها، وكان في رأي الأمريكيين أقدر رجال حزبه وأكثرهم فطنة، وأطولهم في السياسة باعا وأقواهم بمصاعبها اضطلاعا، بل لقد كان عند الكثيرين من ذوي الرأي أعظم رجال أمريكا كفاية يومئذ وأعزهم مكانة، وكان يلقب بالمارد الصغير؛ أن كان له على صغر جرمه وقصر قامته قوة المارد وسلطان المارد ودهاء المارد، وكانت له حيوية تتقطع دونها حيوية الرجال، وتتقاصر عنها هممهم، ومن وراء ذلك ثروة شخصية ضخمة وجاه حزبه وقوته، والحق لقد كان دوجلاس يومئذ أنبه الناس شأنا وأعزهم نفرا، وهو من عهد قريب لم يك يسمع به أحد خارج إلينوى.
لذلك كان للناس عجبا أن يطاوله أبراهام وأن يدعوه إلى نزل، وأخذ من لم يكن يعرفه منهم هذا الفعل من جانبه على أنه ضرب من الغرور أو نوع من الغفلة، ولو أنهم عرفوا دخيلة صاحبهم الذي افتتنوا به وتبينوا ما هجس في نفسه من خواطر إزاء هذا التحدي الجريء، لأيقنوا أن جبروت ماردهم وأساليبه ما كانت لتغني عنه شيئا من هذا العملاق الذي درج من الغابة ليقف أمامه كالسنديانة.
وكانت أتارا أولى المدن السبع التي اختيرت ميادين لذلك الصراع، وقد جاءها الناس ليشهدوا ما لم تقع عليه من قبل أبصارهم أو تتعلق به أوهامهم، وقد اتفق أن يكون الكلام أول الأمر لدوجلاس فيخطب الجمع ساعة، ثم يتكلم بعده أبراهام ساعة ونصف ساعة، ويختتم دوجلاس هذا الدور بعده بحديث يستغرق نصف ساعة.
وكان دوجلاس في انتقاله بين المدن يتخذ مركبة فخمة تجرها ست من كرائم الخيل، وحوله ستة وثلاثون فارسا رمزا لعدد الولايات يومئذ، يتزيد بهم من الهيبة والأبهة، وكان وراء ركبه مدفع يرسل ستا وثلاثين طلقة إذا دخل مدينة من المدن، وقد وقف في مركبته الفخمة وتكلف أكثر ما يطيق من الصرامة، فما يكاد يلتف حوله الناس مصفقين مهللين حتى تنقلب صرامته وسامة، فيحيي الجموع بيديه وإيماءاته وابتساماته، ويلتفت نحو هذا ويهش لذاك، كأنه ملك يطلع على شعبه، وإذا هو حل بقوم أو سار إليه قوم عرف كيف يوحي إليهم تبجيله والإعجاب به، فهو بين الصلف وخفض الجناح يحيي وجوههم وكبراءهم ويغمرهم بنعمة منه وفضل.
أما لنكولن فكان ينتقل بين الناس كأحدهم، وكثيرا ما يكون دون بعضهم، فإذا أخذ مكانه في قطار أو في مركبة عامة كان بين ركابها كما كان بين الناس في نيو سالم إذ كان يبيع في حانوت؛ يتبسط لهم في القول، ويسترسل معهم في شتى الأحاديث، ويقص عليهم من قصصه، وإن له في هذا كله لمتاعا ولذة لن يحسها إلا من كان له مثل قلبه.
وكان بعض أصحاب لنكولن يشفقون من مطاولة دوجلاس، ويظنون أنه تورط في هذا الأمر. لقيه أحدهم في سبرنجفيلد قبيل سفره للقاء الأول، فصارحه بخوفه وأظهره على مخاوف كثير من أصحابه، فمشت في وجه لنكولن كدرة، ثم ما لبث أن أشرقت صفحته وابتسم ابتسامة عذبة، وقال وقد التمعت عيناه: «اجلس هنا دقيقة يا صاحبي سأقص عليك قصة: لقد سافرنا في الجولات القضائية معا وشهدنا جلسات المحاكم، وكثيرا ما رأينا رجلين على وشك أن يتصارعا؛ أما أحدهما، وهو المارد الكبير أو الصغير حسبما تكون الحالة، ففخور ذو جلبة يقفز عاليا في الهواء، ويضرب قدميه إحداهما بالأخرى، ويدق جمعي يديه واحدة بأختها يشير إلى ما يعتزم أن يصنع محاولا أن يخيف خصمه. وأما الثاني فلا ينطق بكلمة وذراعاه إلى جانبيه وكفاه مبسوطتان ورأسه ثابت فوق عاتقيه، وهو يدخر نفسه وقوته للصراع. سيضرب هذا الرجل إذا وقع الصراع ، وسيكون له فيه مثل ما ترى من ثباته قبله. اذكر ذلك ولا تنسه ... رافقتك السلامة.»
والتقى الرجلان في أتاوا واحتشد الناس في الموعد المضروب فضاق بهم مكان الاجتماع، وحانت ساعة الكلام، فوثب «المارد الصغير» إلى موقع مرتفع أطل منه على الناس، فتمزقت بالتصفيق أكف أنصاره وتشققت بالهتاف حناجرهم، وهو يرسل نظراته في جنبات المكان ويوزع إيماءاته هناك وهنا حتى سكنت ريحهم فبدأ الكلام.
وكان يومئذ في الخامسة والأربعين بادي الفتوة مرموق الشباب، يتهلل وجهه لولا كدرة طفيفة هي مما فعلته به ابنة العنقود وسكنى المدن، ولكنها كدرة كانت تنقشع حين تلتهب بالحماسة وجنتاه، وكان في موقفه بارز الصدر قوي العاتقين، تتجه نظرات الجمع إلى رأسه الضخم، فما تلبث أن تلتقي بعينيه الزرقاوين السريعتين، فترتد حاسرة كأنما عشيت من ضوء وهاج، وكانت تفتن الأنظار أناقة ملبسه ونظام هندامه، كما كانت تسحرها لفتاته وحركاته، كأنما كان يحس مثل ما يحس الممثل القدير قد عرف سبيله إلى قلوب محبيه، فهو يحرص الحرص كله ألا ينحرف قيد شعرة عما يشيع في نفوسهم السحر من مظهره.
وتكلم فكان في كلامه ثبت الجنان زلق اللسان، وكانت له في هذا الاجتماع خطة بالغ في إحكامها، ومؤداها أن يرمي لنكولن والمتشيعين له بأنهم من المتطرفين الذين يريدون حل مسألة الرق بالقوة، ثم يحمل على بقية الجمهوريين فيرميهم بالتذبذب، وراح يلقي تلك التهم فيتحمس ويعلو صوته ويكثر من الإشارات، يحسب أن ذلك يغني عن الإقناع بالحجة، وكان يسمو بعباراته أحيانا فلا ترتقي إليها أفهام الكثيرين، أو كما يقول الإنجليز كان يتكلم من فوق رءوس سامعيه، على أنه كان له من جاهه ونفوذه وهيبته في قلوب الجماهير عوض عن ذلك أي عوض، فحسبهم أنهم يستمعون إلى ذلك الذي بات يتحدث باسمه كل إنسان، حسبهم أنهم يستمعون إلى دوجلاس السياسي الأشهر والثري العريض الثراء، والأمريكي العزيز الجانب الذي سافر إلى أوروبا وحظى بلقاء بعض الرءوس المتوجة، وإن في كثير من النفوس البشرية من الغرائز ما يميل بها إلى الخضوع للسلطان والانقياد للقوة، ولو كان فيما تأمر به القوة ما هو جدير أن يقابل بالعصيان.
وجاء دور أبراهام فطلع على الناس بقامته الطويلة، فهتف باسمه أنصاره وتحمسوا له، واتجهت إليه الأنظار، وإنه ليبدو كأنما أخذته من الموقف ربكة، فليس له تطلع دوجلاس وتحفزه، ونظر الناس إلى شعره الأشعث وملابسه المتهدلة، وبخاصة سرواله الذي يكشف - لقصره - عن جزء من ساقيه، وقارنوا دون أن يشعروا بين تلك الملابس وبين حلة دوجلاس الأنيقة، فبدت أكثر حقارة مما هي عليه، وكانت تستقر الألحاظ من حين إلى حين على محياه، وقد ازدادت مسحة الهم فيه وضوحا، وبدا عليه ما يشبه المسكنة والانكسار، ولكن الناس على الرغم من ذلك أو بسبب ذلك على الأصح يرتاحون إلى مظهر ذلك المحيا، ويشعرون نحو صاحبه بالحب.
بدأ الخطيب في صوت أجش تتخلله حشرجة ثقيلة، ثم ما هي إلا برهة حتى انطلقت نفسه على سجيتها، فإذا ذلك المحيا يتهلل ويشرق وتتشكل أساريره بما يهجس في خاطره، وإذا تلك العينان الواسعتان المتسائلتان تنفذان إلى أعماق القلوب، وإذا الرجل يبدو في هيئة يتقاصر عن وصفها الكلام، وتتفتح مسالك صوته، فينطلق رائقا له نبرات تتشكل حسبما يعبر عنه من المعاني، وكان إذا تحمس يعلو صوته فيدوي في أرجاء المكان، ويكون لفحولته وروعته وقع في النفوس أي وقع.
تدافعت إلى ذهنه الألفاظ، وقد جاءت كما يحب وكما يتطلب المعنى في غير زيادة أو نقص، وتزاحمت عليه المعاني وقد أسفرت عن وجوهها ومشت إلى غايتها في غير تحرج أو التواء. وبرزت في ذلك الموقف مواهبه في كمالها، فكان له ما شاء من سهولة اللفظ مع إشراقه وبلاغته ودقة المنطق مع سلاسته وسلامته، هذا إلى يقين ينفث في قوله الحرارة وتمكن مما يقول يذيع فيه الروعة، وأمثلة يسوقها للناس من حياتهم فتستقر في نفوسهم وكثرتهم من العامة، ومن وراء ذلك العبقرية التي تستعصي على التحليل وتسمو على التأويل.
وينساب السيل لا يصده عن وجهه شيء ولا تمشي - على تدفقه وجيشانه - في صفائه كدرة، والناس مفتونون وإن هم لم يفطنوا إلى سر فتنتهم، فهم مأخوذون بما يسمعون عن أن يفكروا فيما سحرهم، وإنهم لفي سكرة أشبه بما يجدون فيه أنفسهم إذ يصغون إلى لحن من تلك الألحان التي تسحر الأنفس وتملك الألباب.
ونزل لنكولن وله في قلوب السامعين من أنصاره وخصومه مكانة فوق ما كان له من قبل من مكانة، فلقد استطاع أن يقنعهم، كما استطاع أن يشعرهم بما هو أقوى من الإقناع وأبعد أثرا؛ ألا وهو الإعجاب، وإنهم ليتهامسون بعضهم إلى بعض: ليت لسادتنا وكبرائنا قلوبا مثل قلب هذا الرجل.
ولقد ارتكب دوجلاس من الخطأ في هذا الاجتماع الأول ما عده عليه المنصفون أنه أفحش أخطائه جميعا في هذا النزال كله؛ وذلك أنه أبرز مكتوبا موقعا عليه باسم لنكولن يفهم منه أن أبراهام من زعماء المتطرفين، ولكن سرعان ما أقام أبراهام الدليل في دوره على أنه زائف، وأنه مما جاء فيه براء، وكانت لطمة قوية استخزى لها دوجلاس في سامي منزلته، وفقد بعدها ثقة الكثيرين.
وحل موعد الاجتماع الثاني فتسابق الناس إليه أفواجا، وقد اشتهر أمر ذلك الصراع؛ إذ لم تبق صحيفة إلا وقد أسهبت في الحديث عنه، وفي هذا الاجتماع طعن لنكولن خصمه طعنة لم يفطن أول الأمر إلى خطرها، فلقد أعد له سؤالا ليلقيه عليه: إذا أرادت ولاية أن تلغي الرق فيها، فهل هي مستطيعة أن تفعل ذلك دون أي حرج؟ ولقد أنكر عليه أنصاره هذا السؤال؛ إذ لم يفهموا الغرض منه، وهم يعلمون أن دوجلاس سيجيبه: بلى، تستطيع الولاية ذلك. فقال لهم ولكنه يفقد بذلك عطف الجنوبيين وإن كسب عطف أهل إلينوى من خصوم الرق، ولن يضير لنكولن أن يظفر دوجلاس اليوم بمقعد في مجلس الشيوخ ويفشل غدا إذا هو تطلع للرياسة!
ووجه لنكولن السؤال إلى دوجلاس فأجاب بقوله: «نعم، تستطيع الولاية أن تفعل ذلك في غير حرج.» وابتسم أبراهام وهو يدرك ما سيكون من وقعها في نفوس أهل الجنوب، ولقد برهنت الأيام فيما بعد على بعد نظره، ومما قاله لنكولن في ذلك: «إن دوجلاس يتبعه عدد كبير من العميان، وإني أريد أن أجعل بعض هؤلاء يبصرون.»
وفي الاجتماعين الثالث والرابع لم يأت كلاهما بجديد، وإنما اجتهد لنكولن في مدافعة ما رماه به خصمه من اتهامات، ولوحظ على دوجلاس في الاجتماع الرابع أنه كان ضائق الصدر، يروح ويغدو على المنصة أثناء تكلم خصمه وهو مربد الوجه زائغ البصر، ينظر الفينة بعد الفينة في ساعته حتى نفد الوقت المحدد فصاح به: «اجلس يا لنكولن! اجلس قد انتهى زمنك.» ونظر الخطيب إليه في هدوء وقال: «أجل، أحسب وقتي انتهى.» ورد أحد الجلوس قائلا: «حسب دوجلاس ما لاقى.»
وفي الخامس من هاتيك الاجتماعات اتخذ لنكولن خطة الهجوم، بعد أن أخذ ينشر خصمه ويطويه في الاجتماعين الماضيين حتى دوخه، وكان هجومه شديدا ضاق به دوجلاس وانخلع عنه مكره، فقد عاب عليه لنكولن أنه لا يحفل بالاعتبار الخلقي في النظر إلى الرق، مع أن النظرة الخلقية بعد الخروج على اتفاق مسوري هي الوسيلة الوحيدة التي يعول عليها في منع انتشار الرق، وعلى ذلك يكون دوجلاس داعية إلى أن يصبح الرق مسألة قومية عامة، لا تحرج ولا تأثم منها!
وأحس دوجلاس مهارة الرمية فراح يرد على رمية برمية، وعاد فاتهم لنكولن والحزب الجمهوري أنهم من دعاة الثورة، وأنهم يدفعون البلاد إلى الدمار.
ولكن لنكولن جعل الاجتماع السادس لتحديد مذهب الحزب الجمهوري، فقال في جلاء:
إن الجمهوريين هم أولئك الذين يعدون الرق خطأ من النواحي الخلقية والاجتماعية والسياسية، ولكنهم يتمسكون بدستور الاتحاد ويسيرون في تحقيق أغراضهم على نهجه، أما الذين لا يرون عيبا في الرق فهم الديمقراطيون، وهم ليسوا من الجمهوريين في شيء، كذلك ليس من الجمهوريين من لا يعبئون بالدستور في موقفهم من مشكلة الرق، مهما بلغ من مقتهم لذلك الوزر.
وحار دوجلاس ماذا يفعل أمام تلك القوة وأمام ذلك الوضوح الذي لا يدع مجالا لمستريب، فأخذ يداجي ويعبث، وتثعلب بعدما سبق أن استأسد.
وضيق لنكولن عليه الخناق بسؤال آخر طلب إليه أن يجيب عنه في غير مداجاة، فقال: «أيعد الرق صوابا أم خطأ؟» وازدادت حيرة المارد الصغير، وأحس أنه على جبروته يتلوى في قبضة ذلك العملاق، وأحس لنكولن مثل ما كان يحسه من ثقة في قوة ساعده، أيام كان يهوى بفأسه في الغابة على جذع من تلك الجذوع التي ما كانت تقوى عليه مهما بلغ من متانتها، ولكنه اليوم يحس الثقة في قوة قلمه ولسانه.
وعجب الناس لهذا الرجل الذي لا يرى نظيره في الرجال، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ماذا دهى المارد الصغير؟ وكيف تسنى لابن سبرنجفيلد المتواضع، الذي لم يعرف سلطانا ولا جاها، أن يأخذ الطريق هكذا على ابن وشنطون الجبار المدل بماله ومنعته ونفوذه؟
ولكن هاجسا يهجس في نفوسهم أن للحق سلطانا دونه كل سلطان، وعزة يستخزي عندها كل اعتزاز، ومنعة ترتد عنها كل مطاولة؛ وأن الباطل مهما تنمر ومهما استعدى على الحق من أساليب بهتانه وألاعيب مكره، لا يكون منه إلا كما يكون الليل من وجه الصباح. أدرك الناس أن خير خادم للناس من يدرج بينهم فيحس إحساسهم، ولا يزال مهما بلغ من سمو منزلته واتساع ثقافته قادرا على أن يشاركهم عواطفهم وألا يضيق بأحلامهم، وأي هذين الرجلين أخلق بهذا؟ أهو دوجلاس الذي أثرى بغتة بحيلة لم تتطلب منه إلا أن يشتري مساحات من الأرض بأبخس الأثمان، ثم يعمل بنفوذه على أن تتخذ سكة الحديد فيها مجراها فيبيعها بما تمتلئ به خزانته، والذي باعد بينه وبين الناس وتكلف مظهرا أرستقراطيا تطرب له نفسه ولا ترتاح إلا له؟! أم هو لنكولن الذي ما برح يأكل من كده، والذي ظل في الناس على رجاحة عقله وعلو همته أحد الناس، والذي لا يطيب له العيش إلا إذا استشعرت نفسه آمال الناس وآلامهم، ولا يحلو له السمر إلا حيث يجلس في قوم ارتفعت بينه وبينهم الكلفة، وازدادت الألفة مهما يكن من الفوارق العلمية أو الفوارق المدنية؟!
تحدث أبراهام مرة يصف دوجلاس فقال: «لقد سوته الطبيعة بحيث إن ضربه السوط إذا نزلت على ظهره تؤلمه وتؤذيه، بينما هي لا تؤلم ولا تؤذى إذا نزلت على ظهر أي شخص غيره!» وما كان أبراهام مسرفا في قوله، وما نحن بمسرفين إذا قلنا إن أبراهام قد سوته الطبيعة بحيث يحس ضربة السوط على ظهره إذا نزلت على ظهر أحد غيره من الناس.
وما كان أبراهام يطمع من وراء هذا النزال أن ينال لنفسه شيئا، وهل عرفت في خلقه غميزة منذ كان يقطع الأخشاب في الغابة ليشتري بالمئات من شرائحها سروالا؟ إنه منذ صدر شبابه يسير إلى غاية، شعر بذلك أو لم يشعر به، فلقد استقر في نفسه من مقت الرق ما لا يستطيع أن يقعد معه عن العمل أو ينصرف عن الغاية، فكانت ثمة عزيمة تهون أمامها جسيمات الأمور، وكانت ثمة رسالة يحلو في سبيلها الجهاد، ومرد ذلك كله إلى قلب إنساني كبير ونفس مطمئنة صابرة وبصيرة، كأنما تشرف من حاضره على المستقبل فلا تقف من دونها حجب الغيب.
إنه اليوم ينافس دوجلاس على مقعد مجلس الشيوخ، فهل كان ذلك قصارى همه؟ كلا، وما كان بعض همه أن يرقى إلى كرسي الرياسة ذاته، وإنما كان همه أن تتحقق مبادئه ولو بذل في سبيلها نفسه، ولن يكون مقعد الشيوخ أو كرسي الرياسة عنده أمرا ذا بال، إلا أن يكون وسيلة إلى السير بمبادئه إلى حيث يعتنقها الناس، وإلا فالجاه والثراء والحكم عنده من صغيرات الأمور، وهو إنما ينفر من كل أولئك بطبعه الذي يعزف عن الزهو ويتخوف دواعي البطر.
وإن أمثال ابن الأحراج هذا في تاريخ البشرية لقليلون، ولكنهم هم الذين رسموا لها طريقها، وولوها قبلتها التي ارتضوها لها، وما كان أتعس البشرية لو لم يوجد هؤلاء الذين يتمثل بهم ضميرها أناسا يمشون على الأرض.
قال أبراهام ذات يوم من أيام هذا النزال:
لست أدعي أيها السادة أني غير أناني، ولن أتظاهر بأني لا أحب الذهاب إلى مجلس الشيوخ، لن آتي هذا الادعاء المنافق، ولكني أقول لكم إنه في هذا الجدال الصارم ليس يعنيكم، ولا يعني عامة الناس في هذه الأمة، ما إذا كان القاضي دوجلاس أو ما إذا كنت أنا بحيث تسمعون عنا شيئا بعد هذه الليلة أو لا تسمعون، ربما كان هذا أمرا تافها بالنسبة لنا كلينا، وهو إذا نظر إليه تلقاء هذه المسألة العظيمة التي ربما يتوقف عليها مصير البلاد، فإنما يكون في حكم العدم.» وقال في معرض آخر: «لا تشغلوا أنفسكم بالتفكير فيما عسى أن يكون المصير السياسي لأي رجل مهما يكن ذلك الرجل، ولكن انظروا فيما تنطوي عليه وثيقة إعلان الاستقلال من حق، وإنكم لتظفرون مني بكل ما تريدون إذا وعيتم تلك المبادئ المقدسة ... وفي الوقت الذي لست أدعي فيه عدم المبالاة بأي مجد من أمجاد هذه الدنيا، أعلن أنه ما ساقني إلى هذا التطلع إلى منصب. وإني لأطلب إليكم أن تسقطوا من عقولكم أية فكرة لا مغزى لها من نجاح شخص ما، إن تلك الفكرة ليست بشيء يذكر، ولست أنا شيئا مذكورا، وكذلك ليس القاضي دوجلاس، ولكن لا تقضوا على ذلك الرمز الخالد للإنسانية؛ ألا وهو قرار استقلال أمريكا.
هذا هو أبراهام رجل المبدأ، لا يعنيه أن يظفر أو أن ينهزم، وإنما تعنيه قضية البلاد الكبرى، بل قضية الإنسانية كلها، ولن يهدأ له بال حتى تحل أو تسير في سبيلها إلى الحل.
وأنى لدوجلاس أن يقف في وجه تلك القوة العاتية؟! أنى له أن ينال من ذلك الذي يتكلم فيخيل إلى سامعيه أن الأخلاق نفسها تقول كلمتها؟! حاول دوجلاس ذات مرة أن يعبر عن عدم مبالاته بقضية الرق، فانبرى له أبراهام قائلا: «إنني أبغض مثل هذا المظهر، مظهر عدم المبالاة، إن من شأنه أن يضعف حاسة العدالة في دولتنا، وإنه ليمد أعداء النظام الدستوري السلمي بما يشبه الحق أن ينظروا إلينا كأننا منافقون، كما أنه في الوقت نفسه يمد أنصار الحرية الحقيقيين بسبب وجيه لتشككهم في إخلاصنا.» وقال أبراهام في مجال آخر: «إنكم باعتيادكم أن تطئوا حقوق غيركم إنما تفقدون بذلك حقيقة استقلالكم، وتصبحون طعمة لكل طاغية يخرج من بينكم. دعوني أخبركم أن مثل هذا إنما يعده لكم منطق التاريخ، إذا جاءت أدوار الانتخاب الآتية بحيث تجعل الحكم في قضية دردسكوت التالية وغيره من الأحكام أمرا يقبله الناس. إنكم تستطيعون أن تخدعوا كافة الناس ردحا من الوقت، وأن تخدعوا بعض الناس طول الوقت، ولكنكم لن تستطيعوا أن تخدعوا إلى الأبد جميع الناس.»
بمثل هذا المنطق السائغ، وبمثل هذه العبارات السهلة، كان أبراهام يأخذ الطريق على دوجلاس في غير مشقة، وكان الناس يلمسون الصدق في هذه العبارات وأمثالها وهم واثقون من نزاهة غرضه وشرف مقصده.
ويريد أبراهام أن يصور موقف كل من الولايات القديمة والجديدة من الرق، فيصل إلى غايته في وضوح ويسر إذ يقول: «إذا أنا أبصرت ثعبانا قاتلا يزحف في الطريق، فإن أي رجل يقرني على أن أعمد إلى أقرب عصا فأقتله، ولكنني إذا وجدت هذا الثعبان بين أطفالي في سريرهم، فإن المسألة تتخذ وضعا آخر، فإني ربما آذيت أطفالي أكثر مما أوذي الثعبان، وربما عضني ذلك الثعبان. وتختلف المسألة أكثر من ذلك إذا أنا وجدت ذلك الثعبان في سرير جاري، وكنت على اتفاق وثيق مع ذلك الجار ألا أتدخل في شئون أطفاله مهما يكن من أمر، ولكن إذا كان ثمة سرير صنع حديثا وأزمع حمل الأطفال إليه، واقترح في نفس الوقت أن يحمل إليه عدد من الثعابين، فليس في الناس من يرى خلافا في أي الطرق أسلك.»
ويعمد أبراهام إلى تهكمه في عذوبة روح وترفع عن الإساءة وحذر شديد أن يجرح شعور أحد، ومهارة يضيق عنها ذكاء خصمه وتتخلف دونها بديهته، ويذهل عندها مكره. استمع إليه كيف يسفه وسائله ويزيف رأيه، وقد رأى منه أنه أنكر ما سلف أن أقره، قال أبراهام: «أقول إنك خلعت قبعتك، ولكنك تريد أن تكذبني، فتضعها على رأسك وتثبت بذلك أني كاذب، وهذا قصارى ما لك من قوة في هذا الجدل.» ثم انظر إليه كيف يحمل الناس على الضحك بأن يستخرج من إحدى عبارات دوجلاس ما يشبه القانون الرياضي، قال دوجلاس: «إذا كان ثمة عراك بين رجل من البيض وبين زنجي فإني أقف إلى جانب الأبيض، أما إذا كان بين زنجي وتمساح فإني مع الزنجي.» فأجاب أبراهام بقوله: «يستخلص من ذلك أن الأبيض من الزنجي كالزنجي من التمساح، وعلى ذلك فبقدر ما يكون من الحق في معاملة الزنجي للتمساح يكون منه في معاملة الأبيض للزنجي.»
ورأى دوجلاس يعمد إلى المداجاة ويجهد أن يلبس الحق بالباطل، فشبهه بنوع من السمك من خصائصه أن يفرز مادة سوداء كالمداد يضل بها الصيادين؛ فهو لا يفتأ يرسل من العبارات الجوفاء ما يرمي به إلى التعمية وطمس الحقائق، والناس يضحكون مما يقول أبراهام معجبين به مستزيدين منه.
ويتساءل لنكولن ضاحكا ذات مرة: «لماذا لا يجيب القاضي دوجلاس عن الحقائق؟ لو كنت درست علم الهندسة فإنك تتذكر أن إقليدس أثبت بالبرهان أن مجموع زوايا المثل يساوي زاويتين قائمتين، وقد بين إقليدس الخطوات التي توصل بها إلى هذا، فإذا أردت أن تنقض هذه النظرية وأن تبرهن على خطئها، أتفعل ذلك بقولك إن إقليدس كاذب؟» ويضحك الناس فيدعهم لنكولن حتى يسكتوا ثم يقول: «بمثل هذه الطريقة يجيب القاضي دوجلاس عما يجادل فيه.»
ولم يدع أبراهام قولا مما ساقه دوجلاس مساق المبادئ إلا حمل عليه وكشف عما فيه من بهرج، ومن ذلك ما أعلنه دوجلاس في مسألة نبراسكا وسماه مبدأ سيادة الشعب، قال أبراهام: «مبدأ سيادة الشعب معناه حق الشعب أن يتولى حكم نفسه، فهل اخترع القاضي دوجلاس هذا المبدأ، كلا ... فقد اتخذت فكرة سيادة الشعب طريقها إلى النفوس قبل أن يولد صاحب مشروع نبراسكا بعصور، بل قبل أن يطأ كولمبس بقدميه أرض هذه القارة، فإذا لم يكن القاضي دوجلاس هو مخترع ذلك المبدأ، فدعنا نتتبع الأمر لنتبين ماذا اخترع غيره؛ أهو حق المهاجرين إلى كنساس ونبراسكا في أن يحكموا أنفسهم وعددا من الزنوج معهم إذا أرادوا ذلك؟ يظهر في وضوح أن ذلك لم يكن من اختراعه؛ لأن الجنرال كاس أعلن ذلك من قبل أن يفكر دوجلاس في مثله بست سنوات؛ وإذن فماذا اخترع «المارد الصغير»؟ لم يخطر على بال الجنرال كاس أن يسمي اكتشافه بذلك الاسم القديم؛ ألا وهو سيادة الشعب، أجل ... لقد استحى أن يقول إن حق الناس في أن يحكموا الزنوج هو حق الناس في أن يحكموا أنفسهم، وهنا أضع تحت أنظاركم اكتشاف القاضي دوجلاس بكل ما فيه؛ لقد اكتشف أن تربية الرقيق والإكثار منهم في نبراسكا هو سيادة الشعب.»
ورأى أبراهام في هذا الصراع فرصة قلما تتاح له مثلها، فعول ألا يدع في مسألة الرق شيئا غامضا، وأخذ يقلبها على وجوهها في سهولة تستهوي الألباب، تلمس ذلك في قوله هذا عن المتمسكين بالرق، قال: «يظهر لي مبدأ الاستعباد عندهم كما يأتي: ليست العبودية صوابا من جميع الوجوه، وليست كذلك خطأ من جميع الوجوه، وإن من الخير لبعض الناس أن يكونوا عبيدا، وإنهم في هذه الحالة يكونون خاضعين لإرادة الله. حقا ما كان لنا أن نعارض مشيئة الله، ولكن لا تزال ثمة صعوبة في تطبيقها على بعض الحالات الخاصة، فلنفرض مثلا أن شخصا يدعى الدكتور روس الموقر يملك عبدا اسمه سامبو، فإنا نتساءل: هل مشيئة الله هي أن يظل سامبو عبدا، أم هي أن يطلق سراحه؟ ولن نظفر من الله بإجابة سريعة عن هذا السؤال، ولن نجد في كتابه جوابا لذلك، أو لا نجد في الغالب إلا ما يثير الجدل حول معناه. وليس يفكر أحد أن يسأل سامبو ما رأيه في ذلك، وعلى ذلك يترك الأمر للدكتور روس ليفصل فيه، وبينما يفكر في الأمر تراه يجلس في الظل وعلى يده قفازه يقتات بالخبز الذي يكسبه سامبو تحت الشمس المحرقة، فإذا هو قرر أن مشيئة الله هي أن يظل سامبو عبدا، فإنه بذلك يحتفظ بمكانه المريح، أما إذا قرر أن مشيئة الله هي أن يصير سامبو حرا، فإن عليه أن يخرج من الظل وينزع قفازه ويكدح من أجل خبزه، فهل يفصل الدكتور روس الموقر في الأمر بما تقضي به النزاهة المطلقة التي لا بد منها في كل فصل حق؟»
وانتهى بعد ثلاثة أشهر ذلك الصراع الذي اشتهر أمره، فكان نصيب لنكولن من المؤيدين مائة وخمسة وعشرين ألفا، ونصيب دوجلاس دون ذلك بأربعة آلاف، ولكن مجلس الولاية كان هو الذي يختار عضو مجلس الشيوخ وفق القانون، وكان بهذا المجلس أربعة وخمسون عضوا من الديمقراطيين وستة وأربعون من الجمهوريين؛ لذلك فاز دوجلاس فصار عضو مجلس الشيوخ، ولقد عد انتصاره في نظر بعض المؤرخين بعد هذا الصراع أعظم انتصار شخصي في تاريخ أمريكا السياسي.
وهكذا يفشل أبراهام مرة أخرى في محاولة الحصول على مقعد في مجلس الشيوخ، ويحظى دوجلاس دونه بذلك المقعد، ولكن أبراهام على عادته لا يعبأ بهذا الفشل، بل إنه ليستشعر الراحة بينه وبين نفسه أن استطاع أن يسمع هاتيك الألوف صوته، وإنه ليحس أن مبادئه قد أخذت سبيلها إلى قلوب الكثيرين منهم على صورة طالما منى نفسه بها، وأي شيء أحب إليه من ذلك؟ لقد أصبح اسمه على كل لسان، وتسامعت أمريكا كلها باسم أبراهام لنكولن، وصار يعد من رجال وطنه الأفذاذ، وأضاف الناس إلى ألقابه في الشمال لقبا جديدا؛ فقالوا لنكولن قاتل المارد، وطنطنت باسمه الصحف، ومن ذلك ما قالته إيفننج نيويورك بوست: «لم يصل رجل في هذا الجيل إلى الشهرة في قومه بمثل تلك السرعة التي وصل بها لنكولن في هذا الانتخاب.» وكتب إليه شخص يقول: «إن مثلك اليوم كمثل لورد بيرون، الذي أفاق ذات يوم من نومه ليجد نفسه ذائع الصيت. إن الناس يستنبئون عنك بعضهم بعضا. لقد قفزت دفعة واحدة من محام له الصدارة في إلينوى إلى سياسي له الشهرة في قومه.»
أما هو فقد وصف شعوره يومئذ بقوله: «مثلي كمثل الصبي اصطدم إصبع قدمه بشيء آلمه، فكان الألم أشد من أن يصحبه ضحك، وكان الصبي أكبر من أن يبكي.»
ولاقى أبراهام عنتا من بعض خصومه في بيتسبرج وبعض جهات غيرها، فأرادوا إيذاءه وتصايحوا ضده، فأسمعوه من البذاء ما أعرض عنه إعراض المؤمنين الصابرين، وكانوا يطلقون عليه اسم الجمهوري الأسود؛ مبالغة في الزراية به، تقدمت سيدة تحمل في يدها عروسا سوداء من الخشب فرفعتها أمام وجهه، فنظر أبراهام إليها باسما وقال: «أهذا طفلك الرضيع يا سيدتي؟» فاستخزت أيما استخزاء، ولم يقو خصومه أنفسهم على كتم ضحكاتهم منها، وجاء شاب على ظهر جوداه فمشى به قبل لنكولن حتى أصبح في محاذاته، ورأى أبراهام في وجهه أمارات السفه، فما زاد على أن نظر إليه نظرة حملته على الفرار في فرق وخزي.
ولكنه استقبل في أتاوا استقبال الفاتحين، فحمله شباب المدينة فوق أعناقهم والألوف تهتف به، إذ هو ضائق بهذا يطيقه على رغمه، ولو أنه استطاع أن يفلت منه لفعل مسرعا، وما كان أشبهه ساعتئذ بخليفة المسلمين عمر حين صاح بقومه في موقف لهم من مواقف الزهو أن كاد يقتله الزهو.
أجل! تبرم أبراهام بهذا الزهو فما كان من شيمته أن يزهى، ولا كان من خلقه أن يترفع أو أن يطغى، بل إنه كان لا يزداد حظه من الصيت إلا تواضع، ولا يعظم نصيبه من الجاه إلا خفض جناحه وألان جانبه للناس جميعا، أنصاره وخصومه في ذلك سواء.
يحكي صديق له أن عاصفة ألجأته وأبراهام أثناء ذلك الصراع إلى عربة مظلمة من عربات سفن الشحن، وجلس أبراهام القرفصاء على أرض العربة كما كان يفعل في كوخ أبيه في الغابة، وكلم صديقه وسط الظلام فقال: «كانت أعظم أمنية لي أيام كنت أبيع في حانوت بمدينة نيو سالم أن أدخل المجلس التشريعي للولاية.» وسكت لحظة ثم استأنف قوله ضاحكا: «أما أن أطمح إلى عضوية مجلس الشيوخ في وشنطون، فذلك ما دفعتني صاحبتي إليه ... والآن أحس أني - إذا أردت الحق - كفؤ لذلك، ولكني مع هذا لا أبرح أقول لنفسي إن هذا الأمر أكبر من أن أضطلع به ولن أصل إليه أبدا، على أن ماري لا تزال مصرة على رأيها في أني سوف أكون عضوا في مجلس الشيوخ ورئيسا للولايات المتحدة.» ثم ضحك من قول زوجته ضحكة اهتز لها كيانه كله، وقال ويداه تعتقلان ركبتيه وإنه لا يزال يضحك ملء نفسه: «صور لنفسك يا صاحبي كيف يكون أبله مثلي رئيسا!»
وعاد أبراهام إلى سبرنجفيلد بعد أن قضى في ذلك النزال أكثر من شهرين، عاد إلى زوجه وأولاده فلقيته ماري راضية عنه على الرغم من إخفاقه؛ أوليست ترى الصحف كلها تذكر زوجها، وترى أكثر صحف الشمال تطنب في مدحه وتعده بطلا من أبطال قومه؟ أوليست هذه هي النغمة الحلوة التي تحب سماعها؟ وأي شيء هو أحلى وقعا في قلبها من أن ترى نفسها زوج رجل عظيم يعترف الناس بعظمته؟!
وأقبل على المحاماة من جديد؛ فلقد أنفق في هذا الصراع من المال ما أرهقه من أمره عسرا، هذا إلى أنه بانقطاعه عن مهنته طوال تلك الأيام لم يكسب من المال شيئا، وهكذا يعود ابن الغابة إلى كدحه ليقيم أوده وأود أسرته، بينما يذهب دوجلاس يرفل في النعمة إلى وشنطون، ويجر ذيل الخيلاء السابغ الضافي.
بين المحاماة والسياسة
عاد المحامي يكدح من أجل قوته كدحا شديدا، ويأخذ قسطه من النصب مع صديقه هرندن، وكان قد تركه وحده طيلة ذلك الصراع العنيف، وإن به بعد عودته هذه لحاجة إلى المال شديدة، فهو اليوم ذو عسرة، وليس يطلب المال ليستعين به على الوصول إلى جاه كما يفعل دوجلاس ومن على شاكلته من الناس، وإنما ليؤدي به ما تتطلبه أكلاف العيش.
وكان من العادات المعروفة في مجال السياسة أن يكلف ذوو المكانة من السياسيين من أي حزب بدفع قدر من المال؛ لتستعين به اللجنة المركزية للحزب في الولاية على ما يتطلبه العمل السياسي من أوجه الإنفاق، وكتب رئيس اللجنة المركزية للحزب الجمهوري في إلينوى إلى لنكولن يطلب إليه أن يرسل ما عليه من المال، فرد عليه يقول: «إني على استعداد لأدفع على قدر ما أستطيع ... لقد قضيت زمنا طويلا أنفق ولا أكسب شيئا، وإنه ليعوزني المال اليوم فلا أكاد أجده حتى لمطالب بيتي، على أنك إذا أديت عني مبلغ مائتين وخمسين ريالا مما على من دين للجنة، فإني سأحسب هذا المبلغ متى التقينا لنصفي ما بيننا من حساب شخصي، فإذا أضفت إلى ذلك ما دفعته فعلا، وأضفت إليه كذلك مكتوبا بدين يحق لي قدمته، فإن هذا كله يفوق ما علي للحزب وقدره خمسمائة ريال، وإن هذا - فضلا عما أنفقته في المعركة السالفة وما ترتب على دخولي تلك المعركة من ضياع لوقتي وشئون عملي - لخليق أن يرهق من لم يكن له أكثر مما لي من طيبات هذه الدنيا.»
وكانت ماري على ما به من خصاصة لا تفتأ تطلب منه الكثير من المال؛ لتظهر به في المظهر الذي يليق بما أصبح له من مكانة؛ فلن ترضى حتى تشتري عربة جديدة وملابس جديدة، وحتى تزيد أبهة البيت وتضيف إليه أثاثا جديدا، ولقد أدى إليها ثمن هذا كله ولم يتفوه بكلمة؛ فما يقوى على مخالفتها في هذا وإن اشتد به العسر.
على أنه يقوى على مخالفتها في أمر غير هذا تطلبه إليه؛ فهي تريد أن تفرق بينه وبين صاحبه هرندن؛ لأنها لا تطيق أن يقاسم زوجها ربح المكتب لكل نصفه مع ماله اليوم من شهرة هي في زعمها أساس الربح، فضلا عما هو معروف من ضلاعته وطول عهده بالحرفة، ويأبى أبراهام عليها ذلك مهما يكن من غضبها، فما كان هو - والأمر أمر وفاء - بالذي يتنكر لصديق، بله هرندن الذي يحبه ويكبره ويتحمس له. ولا تبرح ماري تذكر صاحبه بالسوء، فتشير إلى وضاعة منبته في لهجة أرستقراطية، وتشير إلى إلحاده وإلى أنه يشرب الخمر، وتقول إنه لا يليق أن يكون مثله صاحبا له، ولكن زوجها يعرض عن حديثها في إصرار وقوة.
وإنه ليفطن إلى أن عودته إلى المحاماة إنما هي إلى أجل قريب؛ فلقد خطا في السياسة خطوة لن يكون بعدها نكوص، على أنه لم يجعل للمحاماة كل همه، فإن للسياسة اليوم نصيبا كبيرا من وقته ومن جهده، فهو يقرأ الصحف قراءة تمعن ليرى ماذا يقول الناس في مسألة الرق، ولينظر في الأمر ليتعرف كيف يتطور وإلى أي متجه تتجه البلاد فيها، وهو يدعم بنيان حزبه في إلينوى، ويعد له ما استطاع من قوة يعتد بها في غد.
على أنه يخشى الفاقة؛ فقد كتب إليه بعض أصحابه ليستأنف طوافه في البلاد ويخطب الناس، فرد عليه بقوله إنه يخشى ألا يجد قوته إذا هو انصرف عن حرفته كما انصرف عنها أثناء مجادلة دوجلاس.
وعول على أن يجمع خطبه وخطب دوجلاس في كتاب يذيعه في الناس، وفعل ذلك دون أن يزيد على خطبه شيئا أو ينقص من خطب خصمه شيئا؛ فقد نقل كلام دوجلاس من صحف الحزب الديمقراطي كما هي، وإنه ليعلم أن أصحاب دوجلاس نمقوها، وأضافوا إلى مواضع الحماسة فيها ما يزيدها حماسة، وحذفوا من مواضع الضعف ما سبب هذا الضعف؛ وذلك أنه واثق من أن حجته هي العليا وحجة خصمه السفلى؛ لأنه تكلم عن يقين وتكلم دوجلاس عن غرض. وإنه للقوي الأمين الذي لا يستطيع أن يخادع أو يغش أو يحتال.
وكان أبراهام يومئذ ممتلئا نشاطا وقوة، على الرغم من طول الصراع وعنفه بينه وبين دوجلاس. وكان الناس يعجبون من قوة بدنه وخفة حركته ونضارة محياه، على الرغم مما يعلق به أبدا من أمارات الهم والقلق، ولو أنهم ذكروا كيف سوته الغابة وكيف بنته يوم كان يهوي بفأسه على شجرها ما داخلهم من بأسه عجب.
وينظر الناس إليه اليوم نظرتهم إلى ذي جاه، ويشيرون إليه في إعجاب وإكبار، ويتهامسون أنه لا بد مرشح للرياسة بعد أمد قريب، ولكنه لا يزداد إلا دعة ولينا، فيدل بذلك على أن عظمته هي العظمة الحق تبدو للناس في أبسط مظهر، فتكون بذلك في أبهى مظاهرها.
والعظمة الحق كالذهب الحر في بساطة جوهره وروعة منظره، ولن يخرج الذهب عن صفته خلوه من الزينة، والنحاس لن يكون إلا نحاسا مهما نقش وزين، والعظيم لا يتكلف ولا يتصنع، أما المتعاظم فهو إنما ينبه الناس إلى حقيقة أمره بما يدعي لنفسه من أوجه الكمال، فيرونه صغيرا وإن تكبر، ولا تقع أعينهم منه إلا على مظهر وإن خيل إليه أنه جوهر.
ولقد كان لنكولن يفعل الفعل أو يرى الرأي في أمر من الأمور عن لقانة مدهشة وطبع معجب بكماله، فإذا رددت فعله أو رأيه إلى ما تواضع الناس عليه من عرف وما اتفقت عليه قلوبهم وعقولهم، ما وجدت فيه شذوذا ولا نقصا. كان في أعماله وأقواله كالكوكب في هذا الفلك الدائر؛ يتحرك وفق نظام فلا يضطرب ولا يتذبذب إلا أن ينفرط عقد ذلك النظام.
وظل من أحب الأشياء إلى نفسه أن يرفع بينه وبين الناس الكلفة، فيصاحبهم ويعاشرهم كأنه أصغرهم قدرا وله اليوم مكانته وصيته، فإذا غشي مجلسا لهم رآهم يتنحون له عن مكان الصدارة فيأبى أن يجلس إلا حيثما اتفق له، وإنه ليحب أن يناديه الناس باسمه مجردا من كل لقب يراد به التعظيم، وهو عندهم «أيب الأمين» أو «أيب العجوز» أو هما معا، وهي ألفاظ لها في أذنه سحر وفي قلبه وقع؛ لأن فيها جمال الصدق وجلال التواضع.
أقام أبراهام في سبرنجفيلد يكدح من أجل قوته، ولكن اسمه ملء الأسماع في كل مدينة من المدن الكبيرة، وبخاصة في الشمال. والصحف لا تفتأ تشير إلى ما كان بينه وبين دوجلاس، ولا تكاد تذكر مسألة الرق اليوم إلا مقترنة باسمه. ثم إن مسألة الوحدة تذكر كلما ذكر الرق؛ فقد أخذت تزداد في الجنوب دعوة الداعين إلى الانفصال عن الشمال، وكان خصوم أبراهام دائبين على أن يرجعوا إليه وإلى الحزب الجمهوري ما ينذر البلاد من بوادر الفرقة، ودأبوا كذلك على نعته بالجمهوري الأسود حنقا عليه وكيدا له.
وفكر أبراهام في أن يزيد كسبه من المال بإذاعة بعض المحاضرات، فأعد أول الأمر واحدة شهد صديقه هرندن كيف أعدها؛ فقد رآه كلما جالت بخاطره فكرة أثبتها في ورقة صغيرة ودسها كما هي عادته في قبعته، حتى تهيأ له موضوع في «الاختراع والاكتشاف والتقدم» فأذاعه على الناس، ولكنه لم يحس فيه من النجاح ما يحس مثله في خطبه السياسية، وما لبث بعد محاولة أو اثنتين غير هذه أن انصرف عن هذا الميدان.
وانهالت عليه الدعوات من مدن كثيرة في الشمال ليخطب الناس فيها، فأعرض أول الأمر عن هذه الدعوات قائلا إنه إن ترك عمله في المحاماة ، كما فعل من قبل، فلن يجد ما يمسك به صلبه وصلب أولاده.
ولكن خصومه لن يدعوا الكيد له ولن يتوانوا عن تشويه مبادئه، وكان لا يزال يرى في دوجلاس أخطر خصومه، لا لما كان بينهما من منافسة، بل لما كان يمتاز به ذلك الرجل من مكر شديد ومقدرة على أن يخدع الناس في سياسة بلادهم؛ ليصل من وراء ذلك إلى تحقيق أطماعه الشخصية؛ فهو لا يرعى في الحق إلا ولا ذمة.
وكأن دوجلاس لم يكفه ما كان بينه وبين أبراهام من جدال، فعاد يحمل في أهايو على الحزب الجمهوري ويقذفه بما شاء من التهم؛ وإذن فإلى الرد عليه من جديد ما من ذلك بد، وهكذا يعود أبراهام إلى خطبه السياسية.
ذهب لنكولن فخطب في كولومبس وسنسناتي رادا على دوجلاس، وكان مما ذكره في سنسناتي قوله: «إني أعلن أول الأمر لأهل كنطكي أني كما يقولون - ولكن كما أفهم أنا - جمهوري أسود. إني أعتقد أن الرق خطأ خلقي وسياسي، وإني أود ألا تنتشر العبودية من بعد في هذه الولايات المتحدة، ولست أعارض إذا وجدته يسير إلى الفناء في الاتحاد كله.» وقال يخاطب خصوم الحزب الجمهوري: «إننا معشر الجمهوريين نذكر أنكم أخيار مثلنا، وأنه لا فرق بيننا وبينكم إلا ما جاءت به الظروف، ونعلم دائما ونخطر في بالنا أنكم تحملون في صدوركم قلوبا لها من الطيبة ما لقلوب غيركم من الناس، أو مثل ما نزعمه لقلوبنا نحن؛ وعلى هذا الأساس كانت معاملتنا إياكم، ونحن نريد أن نتزوج من بناتكم كلما سنحت فرصة، وأقصد البيض منهن! وإنه ليشرفني أن أعلن إليكم أني قد سنحت لي مثل هذه الفرصة مرة ... أفتقاتلوننا وتقتلوننا جميعا؟ لماذا أيها السادة؟ إن ظني بكم أنكم بواسل أماثل كأحسن ما يكون الناس، وأنكم قادرون على أن تقاتلوا من أجل غرض سام، رجلا لرجل، في شجاعة وإقدام كما يفعل أي قوم غيركم من الأحياء، ولقد برهنتم على أنكم بذلك خليقون في بعض الظروف، ولكنكم رجلا لرجل لن تكونوا خيرا منا، وليس بينكم من هؤلاء الشجعان مثل ما بيننا منهم قوة وعددا، ألا إنكم لن تضربونا، فإننا لو كنا أقل منكم عددا لجاز لكم أن تفعلوا، ولو كنا وإياكم متساوين لتعادلت كفتا المعركة، أما وأنتم أقل منا عددا، فإن محاولتكم السيطرة علينا لن تغني عنكم شيئا.»
هكذا يسير أبراهام دائما على نهج من خلقه؛ فيكون مع خصومه دمثا مهذب الحديث، ولكنه لن يرضى أن يكون لين المغمز ضعيف العريكة. يحفل أبدا بأن يقول ما يعتقد أنه الحق في وضوح ويسر، ويحرص أبدا على ألا يسيء إلى أحد أو يستثير غضبه.
وعاد ينتقد ويفند مزاعم دوجلاس فيما يبدئ فيه ويعيد ما سماه مبدأ سيادة الشعب، فقال: «ما هذه السيادة الشعبية في حقيقة أمرها؟ إنها كمبدأ لن يخرج عن أنه إذا أراد أي رجل أن يستعبد رجلا آخر، فليس لهذا الرجل المستعبد ولا لأي شخص غيره حق الاعتراض. إن استعباد الغير أمر يبدو هينا عند عضو الشيوخ دوجلاس. لقد سوته الطبيعة بحيث إن ضربة السوط إذا وقعت على ظهره تؤلمه، وإذا وقعت على ظهر غيره لن يحس لها ألما قط ... إن هذه السياسة التي يجرى عليها بإعلانه هذا المبدأ إنما هي عقبة دائمة في سبيل الوصول إلى حل لتلك المشكلة، وإني أعتقد ألا ضرر منها إذا كانت هي السياسة الدائمة للأمة كلها؛ لأنها في مثل تلك الحالة لا يكون وراءها تحيز أو غرض. ليس في الناس من لا يعنى بشيء، فما في الناس جميعا إلا من يعنى بهذا الجانب من المسألة أو ذاك. أما دوجلاس فإنه الرجل الوحيد في الأمة كلها الذي لم يقل ما إذا كان يعد الرق خطأ أم صوابا.»
وفيما هو ينافح عن حزبه ويجادل خصومه في مبادئه، إذ وقع في البلاد من الأحداث والنذر حادث جديد زاد هياجها، وكان كالزيت يلقى به على النار؛ وذلك هو حادث جون برون؛ فإن هذا الرجل - على كبر سنه - قد أعلن الثورة لتحرير الرقيق، ولقد كانت له قبل ذلك بثلاث سنوات حركة جريئة لنصرة قضيتهم في كنساس، ولقد عول اليوم على أن يذكي نار الثورة في البلاد؛ إذ لم يعد يطيق صبرا على هذا الوضع البغيض، وكان أهل الجنوب قد قتلوا ابنه من قبل وباتوا يتربصون به كذلك ليقتلوه.
خرج هذا الرجل في ثمانين لا أكثر من الرجال، منهم خمسة من الزنوج، وكان قلبه - على رغم شيخوخته - يفيض حماسة وقوة، فأعلن خطته في جرأة الأبطال واستهتارهم بالموت؛ ألا وهي حق كل زنجي في أن يثور على مالكه، فلم يعد أمام الزنوج إلا القوة.
ولكن جون لم يكد يخطو الخطوة الأولى في سبيل غايته، ويستولي على مركز أراد أن يجعله قاعدة لحركته؛ حتى أحيط به وغلب على أمره ثم حوكم وأعدم! ولقد قابل الموت بجنان ثابت ونفس مطمئنة، ولما حانت منيته استنزل في ثبات وقوة لعنة الله على أعداء الحرية الظالمين، واغتدى جون بجرأته ثم بميتته هذه بطلا عند دعاة التحرير في الشمال، وأخذوا ينظمون الأناشيد في بطولته، ويجعلونه رمزا لأحرار الشمائل ومثالا يجب أن يحتذيه كل من كان يخفق قلبه بحب الحرية.
ويرى دوجلاس في هذا الحادث فرصة يحذر أن تفوته، فيعلن أن ذلك ليس بعجيب، فلن تفضي مبادئ الجمهوريين إلا إلى مثله، ولقد جعل هذا المارد الصغير ديدنه الطعن على الجمهوريين، لا تفلته حادثة ولو كانت أبعد ما تكون عنهم، كهذه الحادثة التي لا تمت إليهم من قريب ولا من بعيد.
وأدرك لنكولن خطر التهمة، ولو كان غيره مكانه لأخذته مما هوش به المارد الصنير ورطة، ولكن صوت الحق لن يضيع في ضجيج الباطل، فها هو ذا لنكولن يتلقى دعوة من نيويورك فيلبيها مسرعا، ويلقي هناك خطابا من أبدع وأبرع ما واتته به عبقريته، وفي جمع لم يسبق أن وقف في مثله.
تلقى أبراهام الدعوة في أكتوبر سنة 1859، وهو الشهر الذي وقع فيه حادث جون برون، بينما كانت البلاد مقبلة على موسم انتخاب رئيس جديد للولايات؛ إذ كانت سنة 1860 هي نهاية مدة الرئيس القائم، وكان انتخاب رئيس الولايات أهم الحوادث السياسية التي تشهدها البلاد ، وإنه لأعظم خطرا اليوم وأبعد في مصير البلاد أثرا؛ ذلك أن الانتخاب يقوم هذه المرة على ما يشغل الناس من أمر الرق ومن أمر الاتحاد؛ لهذا كان ذلك العام نقطة يبدأ منها تاريخ البلاد عهدا جديدا ويتدرج في مسلك جديد.
ورغب الناس في الولايات الشرقية أن يروا لنكولن، هذا الذي سمعوا عنه أنه من أهل الغرب، رأي العين، وأن يستمعوا إليه خطيبا وأن يناقشوه ويتبينوا سياسته، وما تلتفت قلوبهم إليه يومئذ إلا لأنهم أحسوا ما بات له من شأن وخطر.
وأجاب لنكولن الدعوة وحدد شهر فبراير سنة 1860 لإلقاء خطبة، وقضى الوقت بين تلقي الدعوة واليوم المحدد للسفر في إعداد تلك الخطبة والتأهب لهذا الموقف الخطير.
واحتشد لسماعه في تلك المدينة العظيمة جمع من كبار الساسة وقادة الرأي وذوي الثقافة وأساطين الصحافة، فكان لهذا الحفل بهم مهابة وجلال وخطر، واحتشد كذلك عدد هائل من عامة الناس ليروا لنكولن هذا، الذي كان يشتغل نجارا أول ما نشأ فما زال يرقى حتى استطاع أن يقف من دوجلاس الشهير موقف الند، وأن يظهر عليه في الخطابة والمجادلة.
ولقد ارتاع فؤاد أبراهام عندما بلغ مكان الاجتماع، وذلك حينما رأى هؤلاء السادة في ملابسهم الأنيقة، ورأى في وجوههم نضرة النعيم، وفي أحاديثهم وتحياتهم روح المدنية. ولما نهض للخطابة شاهد الناس علامات الحيرة بادية عليه؛ فقد كان على غير ما ألف مشغول البال بحلته العتيقة التفصيل والحياكة، التي تبدو بمقارنتها بما يقع عليه بصره كأنما جيء بها من متحف! وقد كانت في الواقع حلة جديدة، ولكنها كانت على نمط أهل الغرب في حياكتهم، كما أنها تكسرت من طول وضعها في الحقيبة.
وتطلع الناس إليه في دهشة، وقد قدمه للخطابة وليم جلن براينت، الشاعر والسياسي والصحافي الشهير، الذي ربما كان أبرز شخصية يومئذ في نيويورك، وتقسمت ألحاظ السامعين بين قامته الطويلة ويديه الكبيرتين اللتين تدلان في جلاء على أنهما خلقتا للمعول لا للقلم، ووجهه المصفار المسنون الذي تغشاه سحابة عميقة من الهم، وعينيه الواسعتين اللتين تعبران عن وداعة الأطفال وحماسة الرجال، وأنفه الأشم الغليظ الذي يترجم عن صرامة عزيمته وقوته في الحق، وشعره الأشعث الذي يعلو رأسه الكبير في غير نظام كأنه ألفاف الغابة.
وصفه أحد من شهد الحفل فقال: «كان يستقر رأسه على جذع طويل نحيف، ولم أتبين ما بلغت يداه من الضخامة حتى بسطهما في إشارة من إشاراته، وقد بدأ في صوت عميق، أشبه بصوت من اعتاد الكلام في الفضاء الطليق ويخشى أن يجهر بصوته، وقال مستر تشيرمان واستعمل غيرها من العبارات العتيقة، وقلت لنفسي: لن تفلح يا صاحبنا الكهل، إن ما يبدو منك صالح الصلاح كله للغرب البري، ولكنه لن يشاكل نيويورك. وكان من جميع أقطاره أشبه بهؤلاء البسطاء من الناس الذين يسره أن يعد واحدا منهم. ولم يك ثمة شيء أخاذ في مظهره، وكانت تتهدل ثيابه على هيكله البائن الطول كأنه المارد، وكانت ملامحه مغبرة شاحبة لا يتردد فيها لون، غير مستوية، تحمل أمارات البؤس والحرمان. ولاحت عيناه الغائرتان يملؤهما الهم، ولكنه حين استرسل أخذ يضيء وجهه بما في باطنه من نيران، وجلجل صوته وعظمت قوة خطابته، واتفق له إلى مدى عظيم مثل سهولة الإنجيل البالغة. وكان يسود المكان صمت عميق بينما كان يتكلم، حتى لقد كان يسمع إذا سكت هسيس الغاز منبعثا من ثقوب المصابيح، فإذا تحمس السامعون دوت في جنبات المكان رعود قاصفة من الاستحسان، ولما فرغ من خطابه وثبت على قدمي وصرخت كما يفعل هندي مجنون، وفعل بقية الناس مثل فعلي. إنه لشخص مدهش!»
بهذه الموهبة التي من الله بها عليه استطاع ابن الغابة، الذي علم نفسه بنفسه والذي لم يدخل قط مدرسة أو جامعة، أن يسحر السامعين في دنيا الحضارة؛ في نيويورك العظيمة، وأن يحمل على الإعجاب بشخصه والافتتان به الألوف من ذوي الثقافة والمدنية. هذه هي العبقرية إذ تستعلن في مظهر من مظاهرها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولقد عد خطابه هذا من أبلغ الخطب السياسية في تاريخ أمريكا كله. قال عنه جريلي، وهو الذي رأيناه منذ عامين يدعو لدوجلاس ويتمنى انضمامه إلى الجمهوريين: «ما من رجل استطاع أن يبلغ بخطابه لأول مرة ما بلغه لنكولن من عظيم الأثر في جمهور السامعين في نيويورك.»
عاد لنكولن فأوضح خطة الحزب الجمهوري وموقفه من الرق، فأتى بما لا يدع مجالا بعد ذلك لدسائس خصومه، ثم استنكر ما فعله جون برون وأعلن براءة الحزب الجمهوري منه، إلى أن قال في هذا الصدد: «لا يمكننا أن نعارض في الحكم على جون برون جزاء خيانته ولاية من ولايات الاتحاد، لا يمكننا أن نعارض في ذلك. ولو أنه يوافقنا فيما يراه من خطأ الرق، فإن ذلك لا يبرر العنف وسفك الدماء والخيانة.»
ومما قاله عن الجنوبيين عبارته هذه التي توضح أسلوبه في الجدل، قال: «إنكم - كما تقولون - لا تطيقون انتخاب رئيس جمهوري؛ لأنكم إن فعلتم ذلك قضيتم على الاتحاد، ثم إنكم لتلقون في هذه الحال تبعة انهيار الاتحاد على عاتقنا، مثلكم في ذلك كمثل قاطع الطريق الذي يصوب غدارته إلى رأسي ثم يتمتم بين أسنانه: قف وأعط ما معك وإلا قتلتك فتكون أنت المسئول عن جريمة القتل!»
وأقبل عليه الناس يهنئونه بما ظفر من توفيق في هذا الحفل المشهود، ويعلنون إليه حبهم وولاءهم وإعجابهم بمبادئه، ولقد طار صيته بهذا الخطاب على نحو لم ير مثله من قبل.
وأخذ يحس الناس أنه الرجل الذي تجتمع عليه القلوب والأهواء، ورأى بعض الصحف تتحدث عن احتمال أن يكون هو مرشح الجمهوريين للرياسة في الانتخاب الذي يحل ميعاده في صيف هذا العام. وقبل ذلك بأسابيع قليلة نشرت بعض الصحف أسماء أربعة وثلاثين من مشاهير الساسة الذين يمكن أن يطمحوا إلى الرياسة، فلم يك من بينهم اسم أبراهام لنكولن!
وسافر لنكولن من نيويورك إلى نيو إنجلند قبل عودته إلى سبرنجفيلد ليزور ابنه الأكبر روبرت، وكان يتلقى تعليمه في مدرسة هناك، وكان يسأله الناس أن يخطبهم في بعض الأماكن، وقد ذاع فيهم اسمه، فيفعل ويملأهم إعجابا به ومحبة له. وفي اليوم السادس من شهر مارس خطب خطبة قوية في نيوهفن ، جاء فيها عن الرق وأنصار الرق: «إن الشخص الذي يقتني الرقيق لا يحب أن يعد شخصا وضيعا بسبب تملكه هذا النوع من الملك، وعلى ذلك يقوم صراع بينه وبين نفسه، ولا يزال يجهد في إقناع نفسه بأن الرق صواب؛ وذلك لأن الملك يؤثر على عقله ... تناقش مرة أحد أحرار الفكرة من رجال الكنيسة مع آخر ممن يتمسك بآراء الكنيسة، فكان هذا يجيبه دائما: لست أرى ذلك كذلك. ففتح الإنجيل وأراه عبارة ولكنه أجابه: لست أرى ذلك كذلك. فعمد إلى كلمة واحدة وسأله: هل ترى هذه الكلمة؟ فقال: نعم أراها. فوضع المفكر الحر جنيها فوق الكلمة وسأله: هل تراها الآن؟ وهكذا الحال؛ فإن من يتملكون هذا النوع من الملك هم الذين يقررون ما إذا كانوا يرونه فعلا على حقيقته، ولكنهم في الواقع يرونه خلال بليونين من الدولارات، وهذا غطاء كثيف، ومن المؤكد أنهم لا يرونه كما نراه نحن.»
وتحدث لنكولن إلى هرندن بعد عودته إلى سبرنجفيلد عما لقيه من نجاح في نيويورك، ويقول صاحبه إن هذا النجاح قد زاد ثقة أبراهام في نفسه زيادة كبيرة، حتى ليظنه يومئذ يطمح إلى أعلا منصب في البلاد ويراه قريبا منه. ويعجب هرندن من طيب قلبه؛ إذ يراه بعد أن يقص عليه أنباء الاحتفال، وإقبال الناس عليه بعده، وتهافت الصحف على خطابه، وثناء كبرياتها عليه؛ يشير - وعلى شفتيه ابتسامة وفي عينيه وملامحه أمارات الخجل - إلى ما كان من أمر حلته وغرابة هيئتها، وما لاقاه من ضيق أثناء خطابه كلما فكر فيها وقارن بينها وبين ما تقع عليه من حلل في هذا الحفل، بله ياقته؛ فقد كان نصفها الأيمن يثب إلى أعلى كلما رفع ذراعه بإشارة، فتظهر جزءا من عنقه بينه وبين القميص، ويضحك لنكولن ضحكة يخالطها شيء من الاستخزاء، كأنما يريد أن يقول أنى لمثله أن يكون له مكان بين هؤلاء السادة، فضلا عن مكان الرياسة ومقعد الزعامة، وإن حاله الآن ليشبه إلى حد ما حالته يوم كان يستخزي كلما فكر في زواجه من ماري .
فالق الأشجار!
وثق أبراهام من نباهة شأنه عند الناس واستفاضة شهرته، فحدثته بالأماني نفسه، وحدثته كذلك بالعبء الجسيم إذا قدر لتلك الأماني أن تتحقق.
وكان أبراهام في الحادية والخمسين من عمره في سنة 1860، وهي السنة التي كانت تتأهب فيها البلاد - كما سلف القول - لانتخاب رئيس جديد، وكان الانتخاب في هذه السنة أمرا بالغ الخطورة؛ لصلته بمصير الاتحاد كله، أيبقى كما هو أم ينصدع فإذا به شمال وجنوب!
وكان الحزب الجمهوري، الذي يعد أبراهام اليوم من أبرز رجاله، أقوى الأحزاب نفوذا وأعزها نفرا؛ إذ كانت مبادئه أقرب من غيرها إلى جمهرة الناس في الشمال؛ فهو يحول دون انتشار الرق وإن كان يرعى جانب الدستور في كل ما يقول أو يعمل.
وأخذ الجمهوريون يستعدون للمعركة القادمة، فامتلأت صحفهم بفيض أقلامهم، وماجت كبريات البلاد في الشمال بمظاهر نشاطهم ومعالم استعدادهم.
ولبث أبراهام في سبرنجفيلد خائفا يترقب، وأي شيء أدعى إلى الخوف عنده من تصدع الاتحاد، فلئن فاز أحد الجمهوريين بالرياسة، فماذا يكون موقف أهل الجنوب؟!
وماذا يكون الحال لو فاز هو بالرياسة؟ طفق أبراهام يسأل نفسه هذا السؤال فتجيبه نفسه أو تسأله سؤالا آخر؛ أواثق هو من ترشيح حزبه إياه حتى يفكر في الرياسة؟
وماذا عسى أن يحول بين الحزب وبين أن يرشحه؟ إن نفسه لا تفتأ توحي إليه أنه مرشح الجمهوريين في الانتخاب القادم، وكلما استبعد ذلك هجس في نفسه هاجس لا يتبينه ولا يجهله، فيملؤه ثقة وأملا بأنه الرجل الذي سوف تجتمع عليه القلوب.
ولم يقنع أبراهام بانتظار ما عسى أن تأتي به الأيام، فشمر عن ساعديه يدعو لنفسه ولكن بين خاصته ومحبيه؛ وذلك بكتبه إليهم وأحاديثه معهم، أما إذا سأله من لا يطمئن إلى إخلاصه هل يطمح إلى الرياسة، رد عليه في تواضع وكياسة بما لا يدع مجالا لاتهامه بالتطلع ولا بالإحجام، تجد ذلك في رده هذا: «إنني إذ أتذكر ما يكون عليه حال رجل ليس بالعظيم جدا حين يذكر اسمه ليشغل منزلة عظيمة جدا، وما يصيب رأسه إذ ذاك من دوار؛ أصارحك أني لست أليق شخص لإجابتك على ما سألتنيه من سؤال.»
وكان في الحزب الجمهوري رجلان يخشى أبراهام منافستهما إياه: أولهما هو سيوارد حاكم نيويورك السابق، وهو من أقدم رجال الحزب ومن أوسع الناس ثقافة ومن أعظم السياسيين جاها، فضلا عن أن كرهه للرق ونضاله ليحول دون انتشاره لا يقل عما بذل أبراهام من جهد في هذا السبيل؛ وثانيهما تشيس حاكم أهايو، وهو كصاحبه ثقافة وجاها، ولعله أعرق منه في محاربة الرق، وكانا كلاهما عضوين في مجلس الشيوخ ومن أساطين القانون والمحاماة.
وكان أبراهام يرجح أن يختار أحدهما لولا ذلك الصوت الذي يهجس في نفسه، فيحس أنه هو المختار، على الرغم مما يبدو له من رجحاتهما. وكان صديقه هرندن يستبعد أن يكون أبراهام هو المرشح، قال في ذلك: «لم يكن أبراهام ذا مال، وكان يعوزه أي تنظيم لأموره مهما يكن نوعه، وكان لسيوارد ذلك كله، ومن ورائه سجل براق في مجلس شيوخ الاتحاد، به يبهر عيون أتباعه.»
وكان يشعر الناس أن مرشح الجمهوريين هو الفائز في المعركة بالرياسة؛ لذلك كان اتفاقهم على رجل هو كل شيء بالنسبة إلى هذا الرجل؛ إذ لا يبقى بينه وبين الرياسة بعد ذلك إلا خطوة.
وفي ربيع ذلك العام الفذ عقد الجمهوريون في ولاية إلينوى مؤتمرا؛ لينظروا في نشر الدعوة لأبراهام فيما يصل إليه سعيهم من الولايات؛ ليحظى بترشيح الحزب إياه في مؤتمره العام الذي سوف ينعقد عما قريب ليختار رجله لمعركة الرياسة.
وعقد المؤتمر التمهيدي في مدينة ديكاتور، وهناك اشتدت حماسة المؤتمرين لأبراهام، فما تهتف الألسن إلا به، وما تحنو الجوانح إلا عليه، والخطباء يتسابقون على المنصة متنافسين في الثناء عليه والدعوة له.
ولم يكد يلمح المؤتمرون، أبراهام يدخل الباب ويطلع عليهم بقامته الطويلة، حتى وثبوا واقفين مصفقين وما منهم إلا من ينافس جاره في الهتاف، وما سكنت ريحهم حتى عاودوا الهتاف والتصفيق وهم أكثر حماسة وأروع مظهرا مما كانوا، وظلوا على تلك الحال لا يسكتون إلا ليعودوا إلى هتافهم وتصفيقهم، حتى ليظن من يراهم أنهم لن يسكتوا أبدا.
مرشح الحزب الجمهوري سنة 1860.
وبينما هم في جلبتهم وضوضائهم إذ سمعوا خارج المكان ما زاد على ضوضائهم جلبة وضوضاء، فأطلوا يستطلعون، فإذا بموكب كبير يذهب فيه البصر من ها هنا ومن ها هنا إلى آخر ما يمتد، تختلط فيه أصوات الهاتفين بألحان الموسيقى، ونظروا فإذا في مقدمة هذا الموكب علم منشور على قطعتين شوهاوين من الخشب، شد إليهما بأشرطة ما بين حمراء وزرقاء وبيضاء، وكان يحمل العلم جون هانكس ابن عم أبراهام وهو يهتف من أعماق نفسه لأبراهام فالق الأشجار وشاق الأخشاب، ووقف يخطب الناس، فقال إن هاتين القطعتين شقهما أبراهام بنفسه بين ثلاثة آلاف غيرها، قطعتها فأسه في الغابة أيام كان صبيا يعين أباه، وكان أبوه أحد الطلائع الذين افتتحوا الغرب وتعرضوا للمهالك من أجل وطنهم، وطلب إلى الجمع أن يهتف باسم أبراهام شاق الأخشاب، وسرعان ما ذهبت هذه الكلمة في الناس، فصار لا يذكر أبراهام بألقابه السالفة وأصبح عند الجموع شاق الأخشاب.
ووقف أبراهام مأخوذا بما يرى من حماسة الناس لهذا الاسم الجديد، وفي وجهه دلائل الشكر والرضاء عن ابن عمه، ولكن فيه كذلك ما يشبه الإنكار. وتجمع الناس حوله فأطل عليهم قائلا: «أظن أنه يجب علي أن أقول شيئا حول هاتين الخشبتين؛ لقد كان ذلك منذ زمن بعيد، ومن الممكن أن أكون أنا الذي شققتهما بيدي بيد أني لا أستطيع أن أتعرفهما ... وكل ما أستطيع قوله هو أني شققت من الأخشاب كثيرا غيرها أحسن منها مظهرا.»
واشتد تصفيق الجموع لهذه الكلمة، فما تخذل الأمانة أبراهام في موقف مهما هان، فها هو ذا لا يشايع ابن عمه؛ لأنه لا يستطيع أن يقطع بصحة دعواه، كما أنه لا يحب أن يخزيه؛ ولذلك يجعل الأمر في حكم الممكن فحسب ويؤكده بأنه شق عددا عظيما من هاتيك الأخشاب، ويعجب الناس بمثل جديد لصدقه وأمانته واستقامة طبعه، وهو عندهم منذ عرفوه أيب الأمين، ولكن لقبه الجديد أشهى إلى نفوسهم وأجمل وقعا في قلوبهم، فما هو إلا أن سمعه الناس حتى ألفوه كأنهم عرفوه من قديم، وما كاد ينقضي أسبوع على النطق به حتى ذاع في البلاد أمره، فما يذكر الناس أبراهام إلا بقولهم شاق الأخشاب.
وأثر هذا الاسم أثرا بعيدا في نفوس الناس، وازداد وضوحا في نفوسهم ما كان يحمله اسم أبراهام من معنى إلى تلك النفوس؛ فهو من الشعب بل ومن أعماق طبقاته، وبذلك فهو رمز لإرادة الأمة، وفي اختياره للرياسة تأكيد لرغبة محببة إلى النفوس؛ ألا وهي أن الناس جميعا سواسية، فلا يصح أن يتفاضلوا إلا بالمكارم.
وما كان يدور بخلد أبراهام وهو يشق تلك الخشبات في الغابة منذ نحو ثلاثين سنة ليشتري بثمن الآلاف منها سروالا؛ أنها سوف تجدي عليه مثل هذه الجدوى، وما كان يدري أن ابن عمه يملك له هذا الصنيع الذي يصغر حياله كل صنيع.
كان الجمهوريون يتخذون الأهبة لمؤتمرهم العام في مدينة شيكاغو، فلندعهم حتى ننظر ماذا كان من أمر الديمقراطيين في هذه السنة المشهودة.
كان الحزب الديمقراطي قد هان على الناس أمره؛ وذلك بانقسامه وتنازع رجاله؛ ففريق من أهل الجنوب يكرهون اليوم دوجلاس لما كان منه أيام مجادلته لنكولن، أولم يصرح بأن لكل ولاية الحق كل الحق أن تقضي على الرق فيها متى شاءت ذلك، فوقع بتصريحه هذا في حبائل خصمه؟ ثم إن فريقا من الديمقراطيين في الشمال قد كرهوا منه معارضته الرئيس بوكانون في دستور كنساس، حتى لقد فكر بعض الجمهوريين في ضمه إلى حزبهم، وإنه ليجني اليوم ثمار غرسه، وهل كان له أن يجني من الشوك العنب؟! لذلك فشل الديمقراطيون إذ حاولوا أن يجمعوا أمرهم على رجل، وانفض مؤتمرهم الذي عقد في شهر أبريل في مدينة تشارلستون والخلاف بين الشماليين من رجال الحزب على أشده؛ إذ كان يريد أهل الشمال من الديمقراطيين أن ينعقد الإجماع على دوجلاس، وتعددت بعد ذلك مؤترات الديمقراطيين، ولكن ظلت قلوبهم شتى، وانتهى الأمر أخيرا بأن انقسموا فريقين؛ اتفق أحدهما على دوجلاس، واتفق الآخر على بركنردج، وكان هذا الانقسام في صفوف الديمقراطيين من أكبر أسباب ضعفهم وفشلهم.
ونعود إلى الجمهوريين فنقول إنهم كانوا يعدون العدة لمؤتمرهم العام، وقد اختاروا له مدينة شيكاغو، وكان الرأي السائد أن سيوارد هو الفائز بتشريح الحزب إياه، وكانت أكثر الصحف في الشرق تكاد تجزم بهذا، وكان سيوارد واثقا من ذلك؛ ولهذا لم يكترث لما يشاع عن شهرة لنكولن ومحبة الناس إياه؛ لأنه كان يعتقد أنه مهما يكن من أمره فلن يصل إلى مطاولته؛ فهو رجل الحزب وزعيمه الحقيقي.
وفي شهر مايو احتشد في شيكاغو أربعون ألفا من الجمهوريين ليشهدوا هذا المؤتمر العظيم، وجاء من نيويورك عدد كبير من أنصار سيوارد من خاصة الناس ومن عامتهم، وجاء من إلينوى عدد مثله من أصحاب لنكولن ومحبيه.
وانعقد المؤتمر من رجالات الحزب وزعمائه من كل ولاية، ولم يحضره لنكولن بل ظل في سبرنجفيلد ينتظر أنباءه، وضاق مكان الاجتماع بشهود المؤتمر وضاق بهم الطريق أمامه.
وتدارس المؤتمرون طويلا في المبادئ أولا فلم تخرج عما أوضحه أبراهام في خطبه وأحاديثه، فالمؤتمرون لا يقرون انتشار الرق بعد اليوم، ويحبون أن ينقرض فيذهب إلى غير عودة، وتقدم مندوب من أهايو يدعى جدنج فاقترح أن يضيف المؤتمر إلى قراره تلك المادة من مواد إعلان استقلال أمريكا، التي تشير إلى أن الناس ولدوا أحرارا، وخاف بعض رجال المؤتمر أن تحمل هذه العبارة على التطرف في مسألة الرق، فيظن بعض الناس أن الجمهوريين قد باتوا من حزب التحرير بالقوة؛ ولذلك أوشكوا أن يرفضوا الاقتراح، حتى نهض من المؤتمرين رجل فصيح هو جورج كيرتس فحمل بفصاحته المؤتمر على قبوله، ودوت جنبات المكان بالتصفيق الشديد، وجاوبه الناس خارج المؤتمر بتصفيق مثله.
وجاء بعد ذلك دور الترشيح فنهض أحد مندوبي نيويورك وقدم اسم وليم سيوارد، ونهض على إثره أحد مندوبي إلينوى وقدم اسم أبراهام لنكولن، ثم ذكرت أسماء خمسة أشخاص غيرهما قدم كلا منهم مندوب، ولكن الحماسة والتصفيق كانا لسيوارد ولنكولن فحسب.
وتأهب مندوبو الصحف ليدونوا ما يريدون تدوينه أثناء الانتخاب، وكثر عددهم في القاعة ونشط أصحاب سيوارد جيئة وذهابا كما نشط أصحاب لنكولن، وجلس على سطح القائمة رجل ظل يرقب من نافذة فيها ليعلن النتيجة للمجتمعين خارجها متى أعلنت، وتأهب المكلفون بالرسائل البرقية من جانب الصحف في طول البلاد وعرضها ليسرعوا إلى مكاتب البريد ليبرقوا لجرائدهم، وبدأ الانتخاب والناس عالقة أنفاسهم وكأن عليهم الطير مما سكنوا.
والقوم خارج القاعة يموج بعضهم في بعض وهم يتساءلون لمن يكون النصر؛ فيؤكد هذا أن النصر لسيوارد في إشارة حازمة ولهجة جازة فيقبل عليه جماعة منهم فرحين، ويصيح ذاك بل النصر لفالق الأخشاب فيتهافت عليه كثيرون.
وكان أبراهام أثناء ذلك جالسا في قاعة أحد أصحابه من رجال الصحافة في سبرنجفيلد، وكان القلق يساوره أحيانا، فهو يقول لصاحبه: «إني أعتقد يا صديقي أني سأعود ثانية إلى المحاماة وأعمل عملي في القانون.» ثم يعاوده الأمل حينا ويخالجه الشك حينا، كما يحدث عادة في مثل هذه الأحوال إذ ينتظر المرء عاقبة أمر يهمه، وأي أمر أهم من ذلك الذي كان يتوقع أبراهام عاقبته؟ إنه اليوم في مفترق الطرق من حياته، فإما إلى رسالته وإما إلى حرفته!
وطال به الانتظار حتى كاد أن يسأم فلينصرف إلى القراءة، وكان ديوان شعر لبيرنز هذا الذي يقلب صفحاته، وكان يقرأ كما يقرأ المرء في مثل تلك اللحظات بعينيه أكثر منه بعقله، ثم يدع الكتاب حينا ليفكر وليتنازع فؤاده الشك واليقين.
والمؤتمر منصرف إلى عمله في شيكاغو يفتتح في تاريخ البلاد فصلا جديدا سوف يترتب عليه كل ما يليه من فصول.
وتعلن نتيجة الدفعة الأولى للولايات، فإذا سيوارد يزيد على أبراهام بسبعين صوتا وصوت، فيهتف أنصار سيوارد ويتصايحون، ويكتئب أصحاب أبراهام، ثم تعلن الدفعة الثانية فإذا أبراهام لم يبق بينه وبين سيوارد سوى ثلاثة أصوات، ويسود الصمت في جنبات المؤتمر، وشخصت الأبصار، وخفقت القلوب، وتأهب رجال الصحافة لتلقي النبأ الأخير؛ ففي الدفعة القادمة القول الفصل، وما هي إلا لحظة ثم يرتفع صوت باسم لنكولن، فتهب في القاعة عاصفة هائلة من الهتاف والتصفيق تجاوبها خارجها عاصفة أشد منها قوة وأطول أمدا ؛ إذ يظل الناس يتعانقون ويتصايحون ويقذفون بقبعاتهم في الهواء، ويتواثبون ويرقصون زهاء ربع الساعة كأنما مسهم طائف من الجنون.
وأبراهام في غرفة صاحبه في سبرنجفيلد يوجس خيفة في نفسه طورا ويثق في النصر طورا، وحوله جماعة من أنصاره ينتظرون كما ينتظر. وبينما هم كذلك إذ أقبل شاب من مكتب البرق يحمل رسالة، يطفر بها كما يطفر العصفور من شدة فرحه وهو يهتف باسم أبراهام ويقبل عليه بالنبأ السار، ثم يهيب بالحاضرين أن يهتفوا ثلاث مرات لأيب الأمين رئيس الولايات المقبل.
ويقبل على أبراهام صحابته وفي مآقيهم دموع الفرح وعلى ألسنتهم ما لا يفي بالتعبير عما في قلوبهم من معان، وهو منشرح الصدر مثلج الفؤاد، ولكنه واقف بينهم معقود اللسان لا يدري ماذا يقول؛ لأنه لا يجد من الكلام ما يفصح عما في نفسه، وبعد لحظة يقول لهم: «إن امرأة صغيرة قصيرة هنالك في بيتنا يسرها أن تعلم هذا النبأ!» يقول ذلك ويمضي مسرعا إلى ماري فيفضي إليها بأجمل وأبهج ما انفرجت عنه أمامها شفتاه.
وجاء وفد من قبل الحزب ينبئه رسميا بظفره بترشيح الحزب إياه، وتلقى أبراهام وزوجته الوفد في دارهما، وقد أعدت ماري العدة لهذا اللقاء؛ فعنيت قبل كل شيء بما ينبغي أن يحرص عليه زوجها فيما يتصل بملابسه وفيما يتصل بقواعد المائدة، وما إلى ذلك مما يليق بمن سوف يكون في غده رئيس الولايات المتحدة. وقطع أبراهام على نفسه العهد ضاحكا أن يكون كما تحب، ثم أعدت ماري من ألوان الطعام ما تكرم به الضيوف، وأرسل بعض أصحاب أبراهام إليه وإلى زوجته زجاجات خمر كي يشرب منها رجال الوفد، ولكن أبراهام ردها إليهم جميعا معتذرا بأنه لا يشرب الخمر ولا تدخل الخمر بيته، فلا محل لأن يقدمها لضيوفه.
وأعجب رجال الوفد بالرئيس المنتظر، فما برحوا داره إلا وقد ارتبطت قلوبهم بقلب ذلك الرجل العظيم، فهم وإن رأوه بسيطا في كل شيء حتى لا يختلف في شيء عن عامة الناس، يحسون أن فيه ما يرفعه درجات فوق الناس ويستبشرون به وينقلبون إلى حزبهم فرحين.
ويكتب أبراهام رده ولكن قبل أن يرسله إلى الحزب يذهب إلى معلم من معلمي المدينة، فيرجو منه أن يقرأ كتابه ليرى إن كان خاليا من الخطأ النحوي؛ فإنه كما يقول للمعلم غير متمكن من النحو، فيقع المعلم على غلطة فيصلحها، ويذكر القاعدة لرئيس الغد فينصت كما ينصت التلميذ، وينطلق أبراهام بكتابه، وإنه ليسأل نفسه لم لم يتعلم النحو ويتقنه كما تعلم القراءة وأتقنها أيام كان يشق بفأسه الأخشاب.
نذر العاصفة
لبث أبراهام نحو أربعة أشهر في سبرنجفيلد ينتظر موعد الانتخاب للرياسة، وأقام في المدينة هذه المدة فما عهد عليه أحد من أهلها أنه تغير أدنى تغير عما كان عليه؛ فهو في الناس فرد منهم وإن كان بسبيل أن يذهب عما قريب إلى البيت الأبيض.
وظلت سبرنجفيلد أياما في ابتهاج ومرح وأبراهام يلقي الوفود في داره خافضا لهم جناحه باذلا من الود والحب أكثر مما يبذلون، وهم معجبون برجلهم الذي هو اليوم مناط آمالهم وموضع تجلتهم، يعجبون منه بكل شيء، وبخاصة ذلك التواضع الذي يبدو الآن رائع الجلال باهر الجمال.
وكان أبراهام في تلك الأيام كثير الصمت يطيل التأمل والتفكر أحيانا أكثر مما كان يفعل من قبل، ولقد أحاط الناس بداره ليلة مجيء ذلك الوفد وطلبوا إليه أن يخطبهم، فأطل عليهم بعد إلحاح منهم، فقال وهو الخطيب الذي يفيض كما يفيض السيل: «أي مواطني! توجد لحظات في حياة كل سياسي يكون خير ما يفعل فيها أن يحتفظ بشفتيه مضمومتين، وإني أحسب أن مثل تلك اللحظات قد حانت الآن بالنسبة إلي.» ولم يزد على هذه الكلمة شيئا على الرغم من تحمس الناس لسماعه.
ولما ضاقت بالوفود داره جعل لقاء الناس في قاعة من قاعات مقر الحكم في المدينة، لا يرد عن مجلسه أحدا ولا يأخذ الحيطة من أحد، فإذا سأله شخص عن أمر في السياسة ناقشه في هدوء أو أعطاه نسخة من مجموعة خطبه، وهو يذهب بنفسه إلى مكتب البريد فيحضر رسائله المتعددة التي تأتيه من كل فج، فيفضها ويقرؤها ويرد على ما يتطلب الرد، إما بيده أو بيد كاتب اتخذه له منذ قريب.
وظل أياما طويلة يلقى أنماطا من الناس؛ فمن معجبين بشخصه محبين له، إلى مستطلعين يحبون أن يروا أبراهام لنكولن ذلك الذي اختاره الجمهوريون وآثروه على سيوارد، إلى صحفيين يريدون أن يوافوا صحفهم بكل ما يستطيعون من نبأ عن ذلك الرجل الذي يشغل الحديث عنه أذهان الناس، ويملأ مجالسهم في طول البلاد وعرضها. وكم كان يبتسم ابن الغابة ابتسامة السخرية من غرور الحياة إذ تقع عيناه في صحيفة على مثل قول أحد الصحفيين: إنه لا يعيش كما يظن بعض الناس عيشة الأوساط أو أقل منهم؛ فإن له بيتا جميلا، وإنه يرتدي ملابس جيدة التفصيل، وإن امرأته تتكلم الفرنسية في طلاقة، وإن له ابنا في جامعة هارفارد.
ولبث في سبرنجفيلد لا يأبه لما يتقول عليه أعداؤه، ويرتاح لما يثني به عليه أولياؤه. وقد وقع في نفسه أحسن وقع ما كتبه سيوارد عنه؛ فقد طلبت إليه إحدى صحف نيويورك أن يكتب كلمة عن أبراهام ليعرفه لمن يجهله من الناس؛ فإن كثيرا من الولايات الشرقية لا يعلمون عنه إلا اليسير، وضرب سيوارد مثلا طيبا، فكتب يثني على أبراهام ويصف خلاله، ويهنئ البلاد باختيار حزبه إياه ويتمنى له الفوز في المعركة الأخيرة.
ووقع في نفسه كذلك موقعا طيبا ما سمعه عن دوجلاس خصمه العنيد؛ فقد قال دوجلاس عندما علم باختيار حزبه إياه إن الحزب قد اختار في الحق رجلا قويا جد قوي أمينا حق أمين، وقال يصفه لأحد أصدقائه: «إنه من أقدر الرجال في الأمة كلها.»
وما فتئت الكتب تلقى إليه من أنحاء البلاد تحمل إليه التأييد والإعجاب، وإن كان بينها عدد كريه جاءه من خصومه ينطق بكراهتهم إياه ويسمعه تهديدهم ونذرهم.
ومن أجمل ما جاءه من الكتب وأعجبها كتاب جاءه من بنت صغيرة تستفهمه فيه عن أسرته وتطلب إليه أن يطلق لحيته، ولقد رد عليها أبراهام بكتاب قال فيه:
أي فتاتي الصغيرة العزيزة، تلقيت كتابك الجدير جدا بالقبول، المؤرخ في 15 أكتوبر سنة 1860، وإني لآسف أن أراني مضطرا إلى إخبارك أنه ليس لي ابنة، إن لي ثلاثة بنين؛ عمر الأول سبعة عشر عاما، والثاني تسعة، والثالث سبعة، ومن هؤلاء وأمهم معهم تتألف أسرتي كلها. أما عن إطلاق لحيتي أفلا ترين، ولم تكن لي من قبل لحية، أني إذا أطلقتها الآن إنما آتي بذلك ما يعد ضربا من التكلف السخيف؟ ... هذا وإني لك الصديق الوفي المخلص.
أ. لنكولن
وسخط الناس في الجنوب على اختيار رجال حزبه إياه، وأصابهم من ذلك كرب شديد وضيق، وراحت صحفهم تناله بفاحش الهجاء؛ فهو تارة الجمهوري الأسود، وآونة فالق الأخشاب الجاهل الذي هو بسبيل أن يفلق الاتحاد، وأحيانا الرجل الذي لا يحسن إلا النكات الخشنة المسفة، وطورا الشبيه بالغورلا، وهو يقابل ذلك كله بالصبر الجميل مترفعا ترفع الكرام عن جهل اللئام.
ولم يحدث منذ نشأة الولايات المتحدة أن قامت العداوة والبغضاء بين أهل الجنوب وأهل الشمال كما قامت بينهما عقب اختيار الجمهوريين أبراهام لنكولن.
وهبت من الجنوب الشائعات بالنذر؛ فلقد ازدادت الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد، وإلى إعلان التمرد والعصيان إذا قدر أن ينتخب لنكولن رئيسا للولايات، ونمى إليه فيما نمى من الأنباء أن أهل الجنوب يطاردون بالقوة كل من يدعو إلى تحرير العبيد في ولاياتهم، وكتبت صحف الجنوب تندد بدعاة التحرير من أهل الشمال، وقد غاظ الجنوبيين أن ينظر خصومهم إلى الرق نظرة خلقية؛ إذ إنهم بذلك يعرضون بهم ويريدون أن يقولوا إنهم قوم بعيدون عن الإنسانية، وأخذت تلك الصحف الجنوبية تنكر على الشماليين ما يزعمون لأنفسهم من نبل؛ فهم في رأيها قوم يتظاهرون بالسمو في حين أنهم أجلاف ليس فيهم إلا كل متكلف كثير الادعاء.
على أن أعظم ما أزعج أبراهام يومئذ ما أفضى به إليه قائد من القواد من أنهم في الجنوب يعدون معدات القتال! لقد ارتاع أبراهام لسماع ذلك وأحس بميل شديد إلى معرفة كل شيء، ولكنه يشعر، ولم ينتخب للرياسة بعد، أن ليس له أن يسترسل فيما هو فيه من استطلاع، فيطلب إلى محدثه أن يتبين قبل أن يزيده علما، فإذا لم يكن في الإفضاء بما يعلم خيانة فليفض به وهو يترك له تقدير ذلك.
ولم يقتصر الأمر على الجنوب؛ فإن في الشمال قوما يخيفهم أن ينتخب أبراهام، ويرون أن المسألة لم تعد مسألة الرق فحسب، بل هي اليوم مسألة الاتحاد، وهل يظل قائما أم ينهار بناؤه، وإنهم ليخافون ما تنذر به الأيام؛ فها هم أولاء بعض المدينين من تجار الجنوب يرفضون أن يدفعوا ما عليهم لدائنيهم من أهل الشمال، والأسعار في جميع عروض التجارة آخذة في الارتفاع، وكثير من الناس يكرهون أن يسمعوا ما يقال عن الرق ويضيقون بقضيته ذرعا، حتى لقد فض فريق من أهل بوستن بالقوة اجتماعا عقده بعض أعداء الرق، وبعض ضباط الجيش يعلنون في غير حرج أنه إذا انتخب لنكولن رئيسا للاتحاد فسوف يتخلون عن مناصبهم ويذهبون إلى الولايات الجنوبية.
ولا يخفي كثير من كبراء الجمهوريين أنفسهم مخاوفهم من اختيار لنكولن في مؤتمر شيكاغو، ويرون في ذلك نذرا سوداء تقض مضاجعهم وتقلق بالهم، كتب أحدهم في ذلك يقول: «أذكر إذ وقعت عيناي لأول مرة على ذلك النبأ مكتوبا على لافتة انتخابية في أحد شوارع فيلادلفيا؛ أني أحسست لحظة بألم جثماني شديد، وكان حالي يومئذ حال من أصيب بضربة قوية فوق رأسه، ثم خانتني قوتي وشعرت أن قضيتنا قد منيت بفشل لا رجاء معه.»
وكان نفر من الجمهوريين في الولايات الشرقية يرون أن سيوارد قد ذهب ضحية الغفلة والجهل، وأنه أحق من أبراهام بالرياسة، وذهبوا في ذلك إلى حد أنهم نصحوا له أن يتجاهل قرار مؤتمر شيكاغو ويتقدم لمنافسه أبراهام في معركة الانتخاب، ولكنه رفض أن يستمع إلى ذلك.
وبات أنصار أبراهام من الجمهوريين موضع استهزاء الجنوبيين وسخطهم؛ فهم أجراء حقيرون، وهم قوم لا يدرون معنى الاجتماع، وهم سذج بلهاء مخبولون، وإن الواحد منهم في أحسن حالاته لا يصلح لأن يكون ندا لخادم من خدم سيد من أهل الجنوب!
وتصل أنباء هاتيك النذر جميعا إلى أبراهام وهو في سبرنجفيلد فينكدر لها خاطره، ولكنه ينتظر ما عسى أن تأتي به الأيام، ولكم استمع إلى نذر العاصفة في الغابة وهو في كوخه، ولكم أنصت إلى دويها وهي هوجاء مجنونة تحطم الفروع وتقتلع الجذوع، فما مثله من ينخلع فؤاده من عاصفة وإن كانت اليوم تنذر بالنار والدم. إنه يكرهها ولكنه ليس يحس تلقاءها شيئا من الخوف.
الرئيس أبراهام لنكولن!
تأهبت البلاد في شهر أكتوبر من عام 1860 للمعركة الانتخابية، وما من أمريكي ذي صلة ولو قليلة بالسياسة إلا وكان يدرك ما كانت تنطوي عليه تلك المعركة يومئذ من خطورة بالغة، ولعله لم يسبق في تاريخ الاتحاد أن عظم اهتمام الناس بما عسى أن تكون نتيجة المعركة كاهتمامهم بذلك في عامهم هذا؛ فإنه إما أن يبقى بناء الاتحاد، وإما أن ينصدع فإذا هو اتحادان.
وأخذ كل حزب يسعى سعيه وينشر في البلاد ما وسعه من أساليب الدعوة، وأخذ اسم فالق الأخشاب ينتشر في طول البلاد وعرضها، وأخذت صورة هاتيك الأخشاب فوق الصناديق والعلب وغلايين الطباق، وصار الناس يتغنون بأغنيات تدور حول النجار فالق الأخشاب، ووضعت قطعتان من هاتيك الأخشاب في مقر الحزب في نيويورك على أنها من صنع أبراهام نفسه، كما ادعى ناد من الأندية السياسية أن لديه المعول الذي استعمله في فلق الأخشاب فتى الغابة أبراهام لنكولن.
وعظمت حماسة الناس في الولايات الناقمة على الرق حتى ما ينهض لوصفها كلام، ودوت هذه الحماسة في الاتحاد كله، وتألفت فرق من المتحمسين كانت تطوف في البلاد تحمل المشاعل أثناء الليل والأعلام في وضح النهار، وكانت تحمل لوحات عليها اسم لنكولن ولوحات أخرى رسمت على كل منها عين مفتوحة حدقتها إلى أقصى ما يمكن أن تفتح، وسميت هذه الفرق باسم «المقل الساهرة اليقظة».
وسارت فرق غيرها من الجمهوريين في مظاهراتها تحمل قطع الأخشاب، أو تحمل مثالا مصغرا للأكواخ التي درج في أشباهها أول ما درج مرشح الجمهوريين ابن الأحراج؛ أبراهام لنكولن.
ونشط أصحاب لنكولن من ذوي المكانة يدعون له ويعملون على فوزه بكل ما في طوقهم من الوسائل، ومن هؤلاء زميله هرندن، ولندع هرندن يقص علينا بعض الذي حدث، قال: «لقد فرح الجمهوريون بالمعركة ووضعوا أيديهم في أيدي دعاة التحرير، ومشوا جميعا صوب النصر متأثرين بما توجه عبارة لنكولن: إنه ينبغي أن يوقف اتساع نطاق الرق في المستقبل، ويجب أن يوضع الرق بحيث يطمئن الرأي العام إلى أنه مقضي عليه في النهاية بالفناء.
ولما حميت المعركة واشتدت، تقدمت بخدماتي فألقيت عددا من الخطب في بعض مراكز الولاية، وأذكر ذات يوم وأنا ألقي خطبة في بيترسبرج، وقد قاربت موضعا حماسيا منها، أن جاءني رجل قد تقطعت من الجري أنفاسه وناولني كتابا، ولقد ارتعت أول الأمر وفزعت من أن يكون به أنباء عن حادث وقع لأسرتي، ولكم كان ارتياحي عظيما إذ تلوته ولقد جهرت بتلاوته، وكان كتابا من صاحبي لنكولن ينبئني فيه أنه يحق لي أن أغتبط؛ فقد باتت أهايو وبنسلفانيا وإنديانا جمهورية، وكان خط الرسالة ملتويا بعض الالتواء؛ مما يدل على أن لنكولن كان مضطربا لا يملك أعصابه وقت كتابتها. وقد سببت تلاوة هذه الرسالة كثيرا من الهرج، وبعثت في السامعين حماسة شديدة، حتى لقد نسوا أن هناك خطيبا يخطبهم، وخرجوا من القاعة هاتفين صائحين، حتى ما استطعت بعد ذلك أن أتم خطابي.»
وكان لنكولن أثناء المعركة التي بدأت في أول شهر أكتوبر ينتظر ما عسى أن تأتي به، وهو في سبرنجفيلد لا يبرحها، وكان يلقى الناس ورجال الصحافة أثناء النهار في قاعة من قاعات مقر الحكومة في المدينة، وقد اتخذ له كاتبا يرد على رسائله كما ذكرنا. أما في الليل فكثيرا ما كان يختار الجلوس في مكتبه ومكتب زميله هرندن؛ حيث يوافيه عدد من صحابته الأدنين، فيخلص إليهم من مشاغل المعركة ويجلسون هناك جلسات هادئة، يذكر صاحبه هرندن أنها كانت من أجمل ما احتفظ به هو وخلافه من ذكريات صاحبهم العظيم.
وظل الرجل العظيم على عادته يذهب بنفسه إلى مكتب البريد، فيأتي برسائله ويجلس في قاعة لا يتخذ له حاجبا ولا يوصد بابه في وجه أحد، على الرغم مما لقيه من كتب سوداء تنذره بالويل، وكانت بين يديه مئات من مجموعة خطبه يعطيها لمن يسأله آراءه السياسية قائلا في رفق ودماثة: «كأنك يا صاحبي لم تقرأ خطبي؛ إذن فدونك مجموعة منها ففيها تجد آرائي.»
وهو لا يضيق بزائريه مهما كثر عددهم، اللهم إلا فئة لا يرتاح إليهم، ولكن أدبه يجبره على أن يكتم عنهم ضيقه منهم، وهؤلاء هم الذي يظهرون الزلفى ويكشفون عما يبتغون من خير على يد الرئيس المنتظر، إما بالتلويح وإما بالتصريح، لا يعنيهم إلا أشخاصهم، وكان يزدري الرئيس المنتظر هذه الطائفة، ولكن خبرته بالدنيا ومعرفته بطباع الناس كانت تخفف أحيانا من موجدته عليهم، حتى ليكون أقرب إلى الرثاء لهم منه إلى مجافاتهم وبغضهم.
وأمسك أبراهام عن الخطابة أثناء المعركة؛ فقد جرى العرف ألا يخطب في الناس داعيا لنفسه من يرشح للرياسة، وكان خيرا له ما فعل؛ فلقد بين للناس من قبل آراءه، فليدعها على ما هي عليه بينة سهلة لا غموض فيها ولا التواء. ولقد أوحى إلى كاتبه نيكولي أن يكتفي بإرسال نسخة من خطبه إلى كل من يكتب إليه يسأله آراءه السياسية، مشفوعة بكتاب مؤاده أنه بينما يتلقى كتبا من بعض الناس يسألونه رأيه في بعض مسائل السياسة، إذا به في الوقت نفسه يتلقى كتبا غيرها يرجو فيها مرسلوها منه ألا يدلي بآرائه بعد أن بينها من قبل؛ فقد وضحت تلك الآراء عندما اختاره حزبه، وينبغي تجنب ما عسى أن يشيع الاضطراب في المعركة الانتخابية الدائرة، وبهذا يخلص أبراهام من الحرج؛ فلا هو أهمل الرد على سائليه، ولا هو زاد مشاغله بإرسال آرائه السياسية إلى كل سائل.
وكان ينتقل أحيانا إلى بعض جهات المدينة ليشهد حفلا أقامه محبوه للدعوة له. وقد رآه الناس ذات مرة يمشي بين جموعهم على قدميه إلى مكان الاجتماع، وقد اشتد الحر فكان يرتدي سترة خفيفة حال لون صبغتها قليلا، وكان يضع فوق رأسه قبعة تغضنت بعض التغضن من جانبيها، وهو هو لنكولن الذي عرفوه واحدا منهم، يحيي هذا ويبتسم لذاك ويهش لهؤلاء، ويذكر الجميع بأسمائهم، ويطرق برأسه إذ يهتفون باسمه متحمسين؛ فما يجب أن يزهى.
على أن هذا الرجل - وإن كان التواضع من شيمه - لا يحب أن يظهر له أحد شيئا يفهم منه عدم الاكتراث له، كما لا يحب أن يجبهه أحد بالخشن من القول، وهو حتى في مثل هذه المواقف يأبى إلا أن يظل دمثا مهذبا، ولكنه يخرج من الحرج في كياسة وظرف وقد ألقى في نفس المخطئ ما يشيع فيها الخجل، ويحملها في رفق هو أبلغ من العنف على الاحتشام والتأدب؛ ومن ذلك أنه بينما كان ذات يوم يتحدث واقفا إلى بعض الرجال، تقدم شخص بادي الغلظة وجلس على كرسي لنكولن، وكان هو الكرسي الوحيد الخالي، فلمحه أبراهام، وبعد أن أتم حديثه التفت إليه يكلمه، ثم مد يده إليه مسلما وهو على خطوتين؛ بحيث لا يستطيع ذلك الشخص مصافحته إلا إذا نهض من مكانه، واتجه لنكولن إلى الكرسي في هدوء، فجلس وترك ذلك الرجل يعاني الخجل والارتباك! وهكذا يأبى الرئيس المرتقب إلا أن يحرص على دماثته دون أن يسهو عن مكانته.
وعمل خصوم لنكولن على إسقاطه ما وسعهم العمل، لا يدعون فرية إلا ألصقوها به مهما افتضح أمرهم؛ فهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، بل إنهم ليزدادون عدوانا وإثما كأن بينهم وبينه ترة.
ومن أكبر ما كدره يومئذ موقف رجال الدين في سبرنجفيلد؛ فقد حمل إليه أنصاره ذات يوم قائمة بأسماء مريديه في المدينة، فنظر في أسماء رجال الدين فلم يجد إلا ثلاثة منهم وهم ثلاثة وعشرون، فبدت أمارات الأسف والألم على محياه، على الرغم من أنه يرى في القائمة ما يشبه الإجماع على محبته، ولعل هذا الإجماع هو الذي أبرز موقف رجال الدين حياله، فقال معقبا على ذلك الموقف: «يعلم هؤلاء الناس حق العلم أني أنصر الحرية وأن خصومي ينصرون الرق، ومع هذا فإنهم وهذا الكتاب في أيديهم (وهو الإنجيل قد أخرجه من جيبه) هذا الكتاب التي لا تعيش الأغلال الإنسانية في ضوئه لحظة، أقول إنهم مع هذا يريدون أن يمنحوا أصواتهم خصمي، إني لست أفهم ذلك أبدا، إني أعلم أن الله حق، وأنه يكره الظلم والاستعباد، وإني أرى العاصفة مقبلة وأرى يد الله فيها، فإذا كان قدر لي موضعا فيها وعملا - وذلك ما أظنه واقعا - فإني أعتقد أني على أهبة. إني لست شيئا مذكورا ولكن الحق هو كل شيء، وإني لأعلم أني على الحق؛ لأني أعلم أن الحرية هي من الحق وأن المسيح يدعو إليها. ولقد أخبرتهم أن البيت المنقسم بعضه على بعض لا يمكنه أن يتماسك، وإن المسيح وإن العقل ليقولان مثلما أقول، ولسوف يعلمون ذلك. وما يبالي دوجلاس نصر الرق أم خذل، ولكن الله يبالي ذلك والإنسانية، وإني لأباليه ولن أخذل ما دام الله في عوني، وقد لا يقدر لي أن أرى الخاتمة ولكنها آتية، ولسوف تكون مبررة لما أقول، ويومئذ سيرى هؤلاء الناس أنهم لم يقرئوا الإنجيل كما ينبغي أن يقرأ.» وسكت أبراهام لحظة ثم أضاف إلى ذلك في لهجة شديدة قوله: «إني أفكر في هذه المسألة؛ أعني مسألة الرق، أكثر مما أفكر في أية مسألة أخرى، ولقد فعلت ذلك منذ سنين.»
ولم يكن منافسوا لنكولن ضعاف الجانب كما قد يخيل إلى المرء بالنظر إلى قوة الحزب الجمهوري، وحسب المرء أن فيهم دوجلاس، ولقد خرج دوجلاس على العرف وخاض المعركة بنفسه يخطب الناس أينما حل، ويحمل في صرامة على الجمهوريين وأنصارهم من دعاة القضاء على الرق لا يفرق بينهم، ويرميهم جميعا بأنهم قاضون بسياستهم الطائشة على بناء الاتحاد، وكان في تلك الخطب الملتهبة يرمي آخر ما في جعبته من سهام، ولكنها إن دلت على حماسته ونشاطه، فإن خروجه على العرف إنما يدل على أنه يفعل فعل اليائس الذي يخاف أن تفلته وسيلة، وكان كلامه يدور حول فكرة مؤداها أنه أسلم من في الميدان جانبا؛ لأنه لا يسلك مسلك لنكولن في محاربة الرق ولا مسلك بركنردج في التمسك به، ولكن الأمة كانت في الحق قد سئمت هذه السياسة، وأصبح الإحساس العام هو الوصول إلى حل لتلك المشكلة؛ فإما بقاء الرق وإما فناؤه.
وكان أهل الجنوب يسخطون على دوجلاس منذ أن أوقعه أبراهام في الشرك إذ سأله في صراعهما الطويل: إذا أردت أن تقضي على الرق فهل تفعل ذلك في غير حرج؟ ورد دوجلاس على ذلك بقوله نعم تفعل ذلك في غير حرج، فأغضب الجنوبيين، ورضي بالعاجلة وهي الظفر بمقعد في مجلس الشيوخ، حتى جاءت الآجلة وهي الرياسة، فتبين له سوء ما فعل، ولقد فطن لنكولن إلى ما سوف يكون لقوله من أثر منذ قال، وتنبأ بهذا الأثر وأظهر أصحابه عليه كما بينا ذلك في موضعه.
وزاد موقف دوجلاس ضعفا على ضعف انقسام الديمقراطيين كما أسلفنا؛ فإن كثيرين منهم يظاهرون بركنردج، وعلى الأخص في الجنوب، بينما أجمع الجمهوريون أمرهم على رجل وحد هو لنكولن.
وكان في الميدان منافس آخر هو بل، التف حوله أنصار حزب جديد عرف باسم حزب الاتحاد الدستوري، وهو حزب ينكر إثارة مشكلة الرق ويدعو إلى الحرص على كيان الاتحاد وفق مبادئ الدستور.
وشملت المعركة أمريكا كلها، فما مر بالبلاد في تاريخها الحر معركة كان لها من الخطر مثل ما لهذه المعركة الدائرة، ورددت الألسن اسم أبراهام لنكولن في الشمال والجنوب والشرق والغرب على نحو لم يسلف بمثله الزمن لاسم آخر، وكان لنكولن عند أنصاره الرجل الذي جاء على قدر من الله ليمسك البناء أن ينهار، فهو المتمم لما فعل وشنطون، وكان عزاؤهم في المحنة التي تتهدد البلاد أن الأقدار قد هيأت لها هذا الرجل، وكان عند خصومه هو المحنة التي يخافون، فلئن أصبح الرئيس فلسوف يكون للجنوب رئيس غيره، ومن هنا يستطيع أن يتصور المرء مبلغ ما كان لهذه المعركة من عظيم الخطر، ومبلغ ما شغل الأذهان من أنبائها وضوضائها، وما ملأ البلاد من مظاهر نشاطها وجلبتها.
وجاء يوم الفصل وهو اليوم السادس من شهر نوفمبر، وترقب الناس النبأ العظيم، فإذا هو فوز فالق الأخشاب! وأصبح لنكولن الخليفة الخامس عشر للرئيس وشنطون العظيم بطل الاستقلال، وكأنما أرادت الأقدار أن تقرن اسمه باسم وشنطون في تاريخ بلاده، فلئن كان هذا قد أقام الصرح فعلى أبراهام اليوم أن يمسك بنيانه أن يخر من القواعد.
وكان نجاح أبراهام محققا قبل يوم الفصل؛ بما كان لحزبه من جاه ونفوذ في أهل الشمال، وهم أحكم سياسة من أهل الجنوب، وذلك فضلا عن اتحاد كلمة هذا الحزب بينما كان يتنازع الديمقراطيون كما رأينا كأن بينهم عداوة.
حصل لنكولن على قرابة مليوني صوت من عدد أصوات الناخبين جميعا، وكانوا نحو أربعة ملايين ونصف مليون رجل، وقد زاد على دوجلاس أقوى منافسيه بنحو أربعمائة صوت، وحصل المنافسان الآخران مجتمعين على نحو مليون من الأصوات.
وأما باعتبار مندوبي الولايات المتحدة، وهم الذين ينتخبهم الناس في كل ولاية لينتخبوا بدورهم الرئيس حسب قواعد الدستور، فقد ظفر لنكولن منهم - وكان عددهم ثلاثمائة رجل وثلاثة - بمائة وثمانين هم الذين اجتمع فيهم المليونان، وظفر دوجلاس باثني عشر رجلا فحسب، وهم الذين اجتمع فيهم المليون ونصف المليون، وظفر بركنردج باثنتين وسبعين، وبل بتسع وثلاثين.
ومما هو جدير بالملاحظة أن لنكولن لم يظفر بمندوب واحد من خمس عشر ولاية، وفي عشر ولايات لم ينل صوتا واحدا، ولقد ظفر بأغلبية المندوبين في ولايات الشمال الثماني عشرة ما عدا نيوجيرسي؛ حيث تعادلت الأصوات فيها بينه وبين دوجلاس، ولم ينل إجماع المندوبين إلا في ولاية مسوري.
وراح خصوم أبراهام يعيرونه بهذا الفوز؛ إذ كانوا لا يعدونه فوزا إلا إذا نظر إليه باعتبار ما ظفر به من أصوات المندوبين، فإذا نظر إليه باعتبار أصوات الشعب، فإن لنكولن لم يفز إلا بأقل من النصف.
ولكن أصحابه لا يعبئون بهذا الكلام، وعندهم أن العبرة بعدد أصوات المندوبين لا بما يكون وراء هذه الأصوات من أعداد تقل أو تكثر حسب إقبال الناس على الانتخاب، ولقد ناله لنكولن من أصوات المندوبين ما قلما ظفر بمثله رئيس قبله إذا قيس ذلك إلى ما ناله كل من منافسيه، وبخاصة دوجلاس ذو الخطر والمكانة.
دوي العاصفة!
كان على أبراهام أن يقضي أربعة أشهر أخر قبل أن يحتفل بتسلمه أزمة الحكم، فقضاها في سبرنجفيلد، بينما كان الرئيس بوكانون يكمل مدته بقضاء تلك الأشهر في البيت الأبيض في وشنطون.
ولبث أبراهام في سبرنجفليد يلقى زائريه كل يوم، ويمشي كعادته في الطرقات بين الناس لا يجعل بينه وبينهم كلفة، ولا يتخذ من دونهم حجابا، يحييهم فيدعوهم بأسمائهم ويردون فيدعونه بأحب أسمائه إليه؛ فمنهم من يناديه أيب العجوز، ومنهم من يقولها مجردة من النعوت، وتبدو «أيب» يومئذ أقرب النعوت منه وأعلقها به؛ فإن على محياه لكآبة شديدة هي من أثر ما يهجس في نفسه، وإنه اليوم لكثير التأمل والإطراق لا يسمع الناس من أقاصيصه ما كانوا قبل يسمعون، ولا يشهدون من عذوبة روحه ما كانوا يشهدون.
أما امرأته فمرحة طروب لا تملك نفسها من الزهو إذ تقف إلى جانب بعلها في شرفة الدار وهما يطلان على الجماهير الهاتفة، وإن كانت لتكره منه وتتبرم بهذا الوجوم وهذا الصمت، وإن كانت لتنكر عليه ما يظهر فيه من ملابس، وبخاصة قبعته التي ألحت عليه وما تفتأ تلح أن يستبدل بها أخرى جديدة فلا يطيع.
وحق له أن يبتئس وأن يرتاع؛ فما تزال تترامى إليه الشائعات والأنباء المزعجات؛ فهذه صحيفة من صحف الجنوب تعلن نبأ اختياره للرياسة تحت عنوان «أخبار خارجية»، وهذا حاكم كارولينا الجنوبية يتناول المعول فيهدم أول حجر من بناء الاتحاد، فقد استقال أعضاء مجلس الشيوخ من هذه الولاية وانسحبوا من وشنطون، وأخذ ذلك الحاكم يعد ما استطاع من معدات الحرب وتذيع صحفه في صراحة أن قد صار الاتحاد أثرا بعد عين، وإنه ليسعى بالتفرقة ويحرض الولايات الجنوبية على الانسحاب من الاتحاد، بعد أن أعلن بلسان المجلس التشريعي في ولايته أن لا صلة اليوم لهذه الولاية بالاتحاد، وأخذ يقيم لولايته حكومة مستقلة.
وإنه ليدور بعينيه في هذه المحنة باحا عمن عسى أن يشد أزره من الرجال، فيرى والأسى يرمض فؤاده أن كثيرا من رجال حزبه لا يرون رأيه، فهم يميلون إلى مصالحة أهل الجنوب، وكان على رأس القائلين بذلك سيوارد نفسه.
ولكن أبراهام يعلن إليهم في ثبات عجيب أن مصالحة أهل الجنوب معناها التهاون في المبادئ، والتسليم بانتشار الرق، والاعتراف بحقهم في اتباع القوة وفي الانسحاب من الاتحاد، وهو لا يأمن أن يعودوا إلى مثل ذلك في أي وقت. ويسمع أصحابه ذلك الكلام ويعقلونه ولكنهم خائفون، وإنهم ليحملونه كل ما عساه أن ينجم بعد ذلك من مصائب.
والنذر لا تني تأتي من الجنوب بما يقلق المضاجع ويزعج النفوس؛ فها هي ذي ست ولايات أخرى تنسحب من الاتحاد، وتنضم إلى كارولينا الجنوبية فتؤلف من بينها تحالفا، وتجعل له حكومة يرأسها جفرسون دافز. وهكذا يقع ما طالما تخوف أبراهام أن يقع؛ ففي البلاد اليوم حكومتان، وينهار البناء على هذا النحو حجرا بعد حجر، والرئيس الجديد ما يزال في سبرنجفيلد يشهد ما تفعل العاصفة.
ويحمل البريد إلى أبراهام كل يوم آلافا من الرسائل، بينها نوع تنفر نفسه منه كل النفور، وإن كان لا يجزع ولا يرتاع، نوع ملؤه الوعيد والسباب، وتفصيل صور الموت التي تنتظره إن هو مضى فيما هو فيه وأصر على عناده، وهو يطوي تلك الرسائل ليلقي بها في النار مخافة أن تقع عين امرأته على ما يتوج الكثير منها من صور الخناجر وأسلحة الموت.
ويتطلع أبراهام في هذا الهول إلى وشنطون ليرى ما عسى أن يفعله بوكانون الرئيس القائم، ولكن هذا الرجل يسلك مسلكا عجبا؛ فهو يتراخى ويتهاون ويدع الأمر كله للرئيس القادم، فما هي إلا أيام حتى يأوي إلى عزلته، وليته يحافظ على الحال كما هي، إذن لخفت تبعته وقل وزره، ولكنه يدع أنصار الجنوب يفعلون ما يشاءون ويعدون ما يستطيعون من قوة ومن عتاد الحرب، ثم يزيد فداحة الخطب بتصريح له خطير، مؤاده أنه وإن لم يكن للولاية حق الانسحاب من الاتحاد، فليس لحكومة الاتحاد حتى ردها إليه بالقوة إذا هي انسحبت، ويكون بوكانون بتصريحه هذا كمن يلقي بالحطب على النار حين يجدر به أن يلقي عليها الماء!
وتشيع الخيانة في وزرائه، فيرسل بعضهم الرجال والمال إلى الولايات الجنوبية، ويستقيلون من مناصبهم، ومن ذلك ما فعله وزير الحرب؛ إذ أرسل أكثر رجال الجيش إلى الجنوب كما أرسل إلى هناك ما استطاع إرساله من العتاد والمؤن، وكذلك ما فعله وزير المال؛ إذ أرسل ما وسعه إرساله من مال الخزانة العامة إلى الجنوب، حتى أوشكت أن تصبح خالية، وما فعله وزير الشئون الداخلية؛ إذ عمل على سحب الجند من بعض المواقع الهامة وتسليمها إلى أهل الجنوب! وهكذا يبيت الأمر فوضى، حتى لكأن البلاد بغير حكومة. وليس أدل على مبلغ هذه الفوضى من كلمة قالها أحد الشيوخ من ولاية كارولينا الشمالية يومئذ؛ فقد حدث وزير الشئون الداخلية هذا الشيخ قائلا له إنه انتدب ليعمل على أن تنسحب كارولينا الشمالية من الاتحاد، وفهم الشيخ أن ذلك معناه أن الوزير استقال حتى يكون له أن يفعل ذلك، ولكن ما كان أعظم دهشة الشيخ إذ نفى الوزير استقالته، قائلا إن الرئيس بوكانون يريده على أن يبقى حتى اليوم الرابع من شهر مارس، وتساءل الشيخ في دهشة، أيعلم بوكانون ماذا يصنع الوزير في كارولينا الشمالية؟ وأجاب الوزير أنه يعلم ذلك، فصاح الشيخ قائلا: «لم أعلم من قبل أن حاكما يرسل عضوا من أعضاء وزارته ليصنع ثورة ضد حكومته.»
وتقدم أحد الوزراء إلى بوكانون ساخطا يعلن له احتجاجه فما أصاخ إليه، فقال له ذلك الوزير الأمين: «إن واجبي كناصحك الشرعي هو أن أنبئك أنه ليس لك من حق في أن تسلم شيئا مما هو من أملاك الدولة، ولا أن تدع أعداءك يأخذون جيشها وسفنها، وإن ما سلكه وزير الأمور الداخلية في هذا الشأن لهو من الخيانة، ولوسف يشركك ومن كان له يد في هذا فيما ينطوي عليه ذلك الفعل من معنى.» ثم ناوله الوزير استقالته.
ويشتد عدوان أهل الجنوب، وقد اتخذ الاتحاد الجديد هناك دستورا جديدا يقر الرق، ويعلن أنه أمر مشروع من وجهة الدين ومن وجهة الخلق، وكذلك من وجهة النظام الاجتماعي؛ ويعظم بذلك هياج العاصفة ويشتد دويها.
وأبراهام في سبرنجفيلد كالسنديانة العظيمة لا تهز العاصفة إلا فروعها؛ يخوفه سيوارد عاقبة الأمر فلا يخاف ولا يلين، ويسخط بعض أهل الشمال أنفسهم على أبراهام وينكرون عناده وإصراره على موقفه من الرق فلا يحجم ولا يتراجع. قال ذات مرة لرجل يحاوره: «اذهب إلى شاطئ النهر وخذ معك غربالا متينا فاملأه بالحصى، فسترى بعد هزات قوية أن الرمل وصغيرات الحصى تنفذ من الثقوب وتتوارى عن الأعين؛ إذ تضيع على الأرض وتبقى في الغربال القطع التي تزيد عنها حجما؛ إذ إنها لا تنفذ من بين الخيوط ... وبعد هزات أخرى متكررة يتبين لك أنه من بين القطع الباقية في الغربال تصل كبرياتها إلى القمة، وهكذا فإنه إذا لم يكن من الحرب بد، وأن هذه الحرب سوف تهز البلاد من وسطها إلى جوانبها، فإنك ستجد صغار الرجال يتوارون عن الأنظار في هزاتها، بينما ترتكز الكتل على قواعد ثابتة ويرتقي أكابر الرجال إلى القمة، ومن بين هؤلاء يبرز أعظمهم فيكون منه قائد القوم في الصراع القائم.»
هذا هو العز الذي لا يعرف التردد، ولكن من وراء هذا العزم نفسا شاعرة وقلبا عطوفا وطبعا ينفر من الشر، وما كانت هموم نفسه إلا مما يريد أن يدفعه عن بلده من شر وبيل يوشك أن يملأها من بعد أمنها خوفا، أما عن نفسه فهو لا يبالي أن يذوق الموت بعد أن جمع للجهاد عزمه وجعل لقضية الاتحاد همه.
وها هو ذا قد وصل في بلاده إلى القمة، فهل ابتغى من وراء ذلك جاها أو تلهى بالعرض عن الجوهر؟ هل تنفس الصعداء واستكان إلى الدعة وجعل من المنصب متعة وغرورا؟ كلا، فها هو ذا يجعل من وصوله إلى هذه المرتبة مبدأ مرحلة جديدة في جهاده المرير، وإنه ليحس أنه هالك في الجهاد لا محالة، ففي نفسه من المعاني ما يشير إلى ما سوف يلقاه من خطوب وويلات، تحدث هذا الصنديد الجلد إلى صديق له بعد فوزه بالرياسة بسنوات، يصف ما كان يهجس في خاطره عقب ذلك الفوز، فذكر أنه نظر ذات مرة يومئذ، وقد جلس متعبا على مقعد إلى مرآة أمامه، فرأى فيها لوجهه صورتين، فوثب في مكانه يستوثق من ذلك فامحت الرؤيا، ولكنها عادت كما كانت حين عاد فجلس، وكانت إحدى الصورتين تخالف الأخرى في أنها تبدو مصفارة مخيفة، ولقد أوجس أبراهام في نفسه خيفة، ولم يكن خوفه مما رأى في ذاته، بل كان لما انبعث منه من معان في نفسه. ولقد تكرر ذلك المنظر بعد أيام ثم انقطع على رغم محاولاته أمام المرآة، أما امرأته فإنها فسرت ذلك بأنه سيختار للرياسة مرة أخرى ثم يموت في تلك المرة! يالله ما أعجب نبوءات هذه المرأة!
هكذا كان أبراهام يحس ما يخبئه له الغد من مكروه؛ ولذلك فهو يقدم على علم بما ينتظره، فلا يتهيب ولا ينكص وإنما يحذر ويتدبر أن تصيب بلاده دائرة.
وظل يمني نفسه أن يثوب أهل الجنوب إلى رشدهم وأن تخشع للحق قلوبهم، ولكنهم في شطط من عنفهم وغرورهم، فها هي ذي الأنباء تأتي بجديد من كيدهم، وبيان ذلك أنه كانت لحكومة الاتحاد حصون في الولايات الساحلية، بها جند تحميها، وكان من تلك الحصون في كارولينا حصنان؛ أهمها حصن سمتر، فأرادت كارولينا أن تستولي على الحصنين لتتم سيادتها فلم تفلح إلا في أحدهما، وكان ذلك عقب إعلان انفصالها.
واحتمى الجند في حصن سمتر وأرسلوا إلى الرئيس بوكانون أن يمدهم بالعون والذخيرة، فلم يستطع بوكانون أن يصم أذنيه عن هذا الطلب وأرسل سفينة تحمل المئونة والرجال، ولكن أهل كارولينا أطلقوا النار عليها في ميناء شارلستون وأجبروها على الرحيل، وطلبت حكومة الاتحاد الجنوبي تسليم حصن سمتر، فرفضت الحامية بقيادة أندرسون أن تسلمه، فضرب عليه الحصار، وبات في الواقع أهل الشمال وأهل الجنوب في حرب.
وعاد سيوارد يلح على أبراهام أن يتفق أهل الشمال وأهل الجنوب على شروط تخفف من غضبهم، فرفض أبراهام ذلك وأعلن أنه مصر على الرفض مهما يكن من الأمر. ولما يئس سيوارد من إقناعه عرض عليه أن يزحف على العاصمة في جيش من المتطوعين، ويأخذ بيده زمام الأمور من بوكانون قبل أن يستحفل الشر، فرفض أبراهام أن يفعل ذلك لما فيه من خروج على الدستور.
وازداد الموقف شدة حين ترامى إلى سمع لنكولن أن كثيرا من الناس يودون لو ينسحب ويدع تقرير الأمور إلى رئيس غيره يختار. ولو أن رجلا غيره كان في موقف مثل موقفه هذا لخارت عزيمته وانكسرت نفسه، ولكنه ما وهن ولا استكان، وما زادته الشدائد إلا صبرا وعزما ولا المحن إلا رغبة في النضال والجلاد.
وظل في سبرنجفيلد يعد الأيام بل يعد الساعات وفي مسمعيه بل في أعماق نفسه دوي العاصفة، ولكنه لا يستطيع اليوم أن يفعل شيئا؛ الأمر الذي يؤلمه ويكربه. قال ذات ليلة لأحد أصحابه وقد جلس إليه يحدثه ويسري عنه: «إني أرحب أن أفقد من عمري من السنين ما يساوي عدده ذينك الشهرين الباقيين لي هنا؛ كي أتسلم مقاليد منصبي وأقسم اليمين الآن.» ولما سأله صاحبه لم ذلك أجاب بقوله: «لأن كل ساعة تمر علي هنا تزيد تلك المصاعب التي انتدبت لمواجهتها، وما تفعل الحكومة الحاضرة شيئا لمقاومة هذا الاتجاه نحو الانهيار، وأنا الذي دعيت لكي أضطلع بهذه التبعة الخطيرة يتحتم علي أن أبقى هنا لا أعمل شيئا ... وإن كل يوم يمر إنما يزيد في حرج الموقف وصعوبته.»
على أنه يحاول أن يفعل شيئا وهو في سبرنجفيلد، فإن له صديقا من أهل الجنوب؛ ألا وهو ألكسندر ستيفن زميله في الكونجرس، ذلك الديمقراطي الذي ألقى خطابا ذات يوم في صدد حرب المكسيك دمعت له عينا صاحبه، وأشار إلى شدة إعجابه به فيما كتب يومئذ إلى صديقه هرندن، ولقد ظلت صلته وثيقة بهذا الديمقراطي منذ أن عرفه قبل اثنى عشر سنة.
ولقد قرأ لنكولن بعد انتخابه بشهر خطبتين لصديقه الجنوبي، جاء فيهما أن اختيار لنكولن عمل دستوري، وأن الثورة خطة غير مضمونة، وإذا وقعت الحرب فقد تؤدي إلى القضاء على الرق. وكان صوت ستيفن نذيرا لأهل الجنوب، وسرعان ما ذاع في الأمة كلها، وكان وقعه عظيما في نفس لنكولن، فكتب إليه أبراهام يساله أن يرسل إليه الخطبتين، فرد عليه ستيفن يعتذر بأنه لم يحتفظ بنصيهما وجاء في رده قوله: «إن الأمة في خطر عظيم حقا، ولم يقع قط على كاهل رجل من التبعات ما هو أعظم مما يقع على كاهلك في هذه الأزمة القائمة.»
وكتب إليه لنكولن في كياسة وحسن سياسة يقول: «هل يعتنق الناس في الجنوب الخوف حقا مما عسى أن يؤدي إليه قيام حكومة من الجمهوريين من تدخل في شئون الرقيق، أو تدخل في شئونهم هم، فيما هو من الرق بسبب؟ إذا كان الأمر كذلك، فإني أود أن أؤكد لك - وقد كنت صديقي ذات مرة ولست كما أرجو حتى اليوم من عدوي - أن هذه المخاوف لا تقوم على شيء، لن يكون الجنوب اليوم في هذه الحال أقل أمنا مما كان في عهد وشنطون، وإني أظن أن هذه المخاوف لا تتفق والقضية القائمة، إنكم ترون أن الرق صواب وينبغي أن يتسع نطاقه، ونحن نرى أنه خطأ وينبغي أن يمنع اتساعه، وهذا هو الاحتكاك، إنه حقا هو الخلاف الوحيد الملموس بيننا وبينكم.»
ولكن ستيفن الذي طالما ذهب مذهب صاحبه فيما مضى في سبيل الإنسانية، وإن اختلفا من الوجهة الحزبية، ما لبث اليوم أن انساق في تيار الجنوب، حتى لقد أصبح نائب الرئيس في الاتحاد الجنوبي، وعدم لنكولن في هذه المحنة معونة رجل كان يرجو على يديه أن تضيق هوة الخلاف بين شقي الأمة.
ويشتد ضيق الرئيس الجديد وهو لا يستطيع أن يفعل شيئا، وكلما لمح له ما يأمل فيه أن يكون معينا له على أمره سعى إليه ولو بدا أنه غير ذي خطر، ها هو ذا يعلم أن جريلي الصحفي الذي طالما تنكر له من قبل يمر بالمدينة ويقيم بفندق من فنادقها، فلا يستنكف الرئيس أن يذهب إليه بنفسه، وقد رأى منه أنه لم يطلب مقابلته، وقد كان خليقا أن يغضب لقعود هذا الصحفي عن السعي إليه وهو اليوم رئيس الولايات المتحدة، ويمضي الرئيس إلى الفندق فيقابل جريلي ويحاول أن يقنعه بأن يسدي إلى الأمة صنيعا لا ينسى؛ بدعوة أهل الجنوب إلى الرشد وتأييد قضية الرئيس الجديد بقلمه وبما له من صيت ومكانة، ولكن جريلي لا يقتنع. ويخرج الرئيس من عنده وعلامات الأسف على محياه.
وأخذ الرئيس يختار مجلس وزرائه، وقد قرب موعد سفره إلى واشنطون ليحتفل بتلسمه أزمة الحكم، ووقع اختياره أول ما وقع على سيوارد، وقد وقف إلى جانب أبراهام بعد أن رأى من ثباته وعزمه ما لم يتعلق به من قبل وهمه، ورضي سيوارد بادئ الرأي أن يعمل معه في منصب يعادل منصب وزير الشئون الخارجية في الحكومات الحالية، يضاف إلى ذلك أنه كاتم سره ومستشاره وحامل أختامه، وأخذ أبراهام يبحث عن غيره ممن يأنس فيهم الكفاية في مثل هاتيك الشدة.
وكان قد كتب إليه تشيس أحد منافسيه من الجمهوريين عقب فوزه يهنئه ويشير إلى عظم العبء الملقى على عاتقه ويرجو له التوفيق، فاختاره لنكولن أحد وزرائه وقبل هذا بعد أن تدبر في الأمر ثلاثة أشهر.
وقال الرئيس ذات يوم لبعض جلسائه، لو أنه استطاع أن يؤلف مجلس وزرائه من المحامين الذين كانوا يصحبونه في إحدى جولاته القضائية، لأمكن أن يتجنب الحرب، فقال أحد الجالسين: «ولكن أكثرهم كانوا ديمقراطيين.» فأجاب الرئيس: «لأن أعمل مع ديمقراطيين أعرفهم خير لي من العمل مع جمهوريين أنا في جهل من أمرهم.»
وكان يشغل الرئيس في تلك الأيام طالبو المناصب ومتصيدوها ممن يمشون بالزلفى بين يدي كل رئيس جديد، وقد ضاق بهم فندق المدينة، والرئيس يصغي لكل قادم إليه لا يتأفف ولا يضيق به ذرعا مهما ألح ولج في إلحاحه، حتى ليعجب أصدقاؤه من طول صبره وعظيم دماثته، ويظهرون له ألمهم وضجرهم، فيبتسم قائلا إنه لا يستطيع أن يعنف ذا حاجة، وإنه وقد نشأ بين عامة الناس لا يسعه الإفلات منهم أو التكره لهم.
ولكن الرئيس لا يعد أحدا على حساب الصالح العام، ومهما يكن من طول صبره فهو لا يعدو أن يصرف الطالبين بالحسنى، أو يعد من يستحق بإجابة مطلبه متى جاء وقت ذلك، ولا يحب أن يحيل أحدا على مرءوسيه من الموظفين تخلصا منه؛ لأن في هذا التواء لا يتفق مع طبعه.
ويعلن الرئيس أنه لن يبعد عن منصبه أحدا ممن يخالفونه في السياسة، بل إنه ليذهب إلى أبعد من ذلك، فيبدي رغبته في أن يضع في بعض المناصب فريقا ممن كانوا خصوما للحزب الجمهوري إبان المعركة! بل إنه ليود لو جعل من وزرائه رجلين من أهل الجنوب.
ويعجب الناس من أمره هذا كل العجب، فقد جرى العرف أن يختار كل رئيس أعوانه في الحكم من مؤيديه، وأن ينأى بجانبه عن مخالفيه في الرأي وخصومه في السياسة.
وقابل ذات يوم صديقه القديم سبيد، ذلك الرجل الذي آواه عنده يوم أن دخل سبرنجفيلد يريد أن يحترف المحاماة، ومتاعه في جوالق يحمله على ذراعه ولا يجد له مسكنا، والذي توثقت بينه وبين لنكولن عرى الصداقة والمحبة منذ ذلك اليوم، ويسأله الرئيس ضاحكا عن حاله فيفطن سبيد إلى غرضه فيقول له: «أيها الرئيس، يخيل إلي أني أفطن إلى ما تريد أن تقول، إني بخير ولك شكري، فما أظن أني في حاجة إلى أي منصب تريد أن تقدمه إلي.»
وتتندى عينا الرجل العظيم ويبتهج قلبه؛ فها هو ذا سبيد يقدم دليلا جديدا على صدق محبته ونزاهة صداقته.
وقرب يوم الرحيل ودوي العاصفة ملء نفسه، لكنه كلما أخطر بباله عظم ما هو بسبيل أن يضطلع به ازداد عزما ويقينا، وما أندر ما غاب عن باله هذا العبء الجسيم الذي قل مثله فيما تمتحن به بطولة الرجال.
الرجل القادم من الغرب
جال أبراهام جولة في البلاد التي قضى فيها صدر شبابه، وزار من لا يزالون أحياء من أهلها، وحج إلى قبر والده وأوصى بأن يعنى به، وكأنما كان يطوف بهاتيك الجهات طواف مودع لها لن تراها بعد عيناه أبدا، فهل كان يحدثه بذلك قلبه؟
وكان ممن رآهم في تلك الجهات زوج أبيه، وقد عانقته عناق الوداع وفي وجهها أمارات الخوف، وإنها لتدعو الله أن ينجيه من كيد أعدائه ، وكذلك فعلت زوج آرمسترونج، وقد قال لها ضاحكا: «إنهم إذا قتلوني فلن أذوق الموت مرة ثانية.»
وكان الشيوخ الذين رأوه في صدر شبابه يضحكون فيما بينهم فرحين برؤيته ذاكرين قصصه وأحاديثه ونكاته العذبة، يتحدثون عن ذلك الفتى القوي الطويل القامة، الذي كان يقطع الأشجار في مهارة ويسحب أزمة الثيران في قوة وخفة حركة، ويعجبون وهو اليوم في نحو الثانية والخمسين من عمره كيف تغير حاله كل هذا التغير حتى غدا الرئيس لنكولن، وهم لم يعرفوه إلا باسم أيب لنكولن.
ولما أزف يوم الرحيل لاحظ أهل المدينة على وجهه ما يبدو على وجه من يوشك أن يرحل عن وطن اشتد حبه له وعظم تعلقه به، ولقد زاده هذا نحولا على نحوله وهما على همه، وكذلك اشتد أسف الناس فهم لا يدرون كيف يصبرون على رحيله عنهم، ولقد كان لصغارهم الأب العطوف الرءوف ولكبارهم الصديق الوفي والناصح الأمين، ولكنهم يتأسون عن فراقه بما باتوا يأملونه من خير للبلاد جميعا على يديه.
ويعتكف أبراهام قبل رحيله ليكتب الخطبة التي يلقيها في وشنطون غداة تسلمه أزمة الحكم، ويطلع على خطب بعض الرؤساء الذين خلوا من قبله مثل جاكسون ووبستر، كما يضع أمامه دستور الولايات المتحدة، ويقول هرندن إن صاحبه هو الذي أعد تلك الخطبة وحده، وفي هذه الشهادة ما يقضي على ما ذكره بعض حاسديه من أن لزميله الفضل في صوغها، قال هرندن: «لم أكتب له قط سطرا واحدا، ولم يسألني مرة أن أفعل ذلك ... لقد كان يستشيرني فيما يتصل بالأسلوب أو باستعمال لفظ أو عبارة، وكنت إذا طلبت إليه أن يغير كلمة يحس أنها تعبر خير تعبير عن شعوره لا يطيعني ولا يتحول عن رأيه.»
وذهب في مساء ليلته الأخيرة بالمدينة إلى مكتبه؛ حيث كان ينتظره صديقه هرندن، ولندع هرندن يقص علينا حديث تلك الليلة، قال: «حضر لنكولن إلى المكتب ليفحص بعض الأوراق وليشاورني في بعض المسائل القانونية التي كان لا يزال مهتما بها، وكان قد أشار إلي في بعض مناسبات سالفة أنه سوف يأتي إلى المكتب ليحدثني حديثا طويلا، على حد تعبيره، وقد نظرنا في السجلات، ورسمنا ما نعمله لإتمام ما لم يتم من المسائل ... وبعد أن فرغنا من هذه الأمور ذهب إلى حيث جلس على تلك الأريكة القديمة، أريكة مكتبنا التي اضطررنا أن نسندها إلى الحائط وقد تطاول عليها العهد، وقد رفع وجهه ونظر في السقف لحظات دون أن يتكلم أحدنا، ثم ما لبث أن قطع الصمت قائلا: «بلي - وإنه ليدعوني دائما بهذا الاسم - كم سنة قضيناها ها هنا معا؟» وأجبته قضينا ما يزيد عن ست عشرة سنة، فسألني هل كانت بيننا قط كلمة شديدة طوال هذه المدة؟ فأجبته في حماسة كلا، ثم أخذ يستعيد من الماضي بعض حوادث عهده الأول بالمحاماة ... ثم قال فجمع عددا من الكتب وبعض الأوراق التي أراد أن يأخذها معه وتهيأ ليخرج، ولكن قبل أن يبرح المكان طلب إلي طلبا غريبا؛ وذلك أن تبقى اللافتة التي تحمل اسمي واسمه حيث هي، قائلا: «دعها معلقة هنا لا تتحول عن موضعها، ودع أصحاب القضايا يفهمون أن انتخاب رئيس لا يغير شيئا من مكتب لنكولن وهرندن، وإذا قدر لي أن أعيش فسأعود ثانية، ويومئذ نزاول عملنا في المحاماة كأن لم يحدث شيء.» ثم تلكأ لنكولن قليلا كما لو كان ذلك ليلقي آخر نظرة على تلك الأشياء القديمة من حوله، ثم خرج من الباب إلى الدهليز الضيق، وصاحبته حتى قرار السلم، وقد تحدث في طريقه عن المكاره التي تحيط بمنصب الرئيس قائلا: «إني منذ الآن يحيط بي السأم من ولاية المنصب، وإني لأرتعد كلما ذكرت ما ينتظرني من عمل في غدي»، وقال إن ما يخالجه من أسى على فراقه ما ألف من الناس والأشياء أعمق مما يستطيع أن يتخيل بعض الناس، وكان هذا الأسى أكثر وضوحا في وقفه هذا لما كان يهجس في نفسه من شعور يلح عليه بأنه لن يعود حيا، وعارضته في هذه الفكرة التي لا تتفق وما يرسمه رئيس من مثل أعلى ذاع في الناس، ولكنه رد في سرعة قائلا: «ولكنها تتمشى مع فلسفتي ...» ثم شد على يدي في اهتمام وقال في حماسة: «إلى اللقاء»، واختفى شخصه في الشارع ولم يعد بعد ذلك إلى المكتب أبدا.»
وكان لنكولن قد أجر بيته، ووضع متاعه عند جار من جيرانه، وكان يقيم هذه الليلة في فندق المدينة، وهناك أخذ يعد حقائبه بنفسه ويحزم ما يريد أن يحمل معه من المتاع بيده حتى فرغ من ذلك، فكتب على تلك الحقائب بخطه «أبراهام لنكولن بالبيت الأبيض بوشنطون»، ثم أوى إلى مضجعه فنام.
وأسفر الصبح فركب وجماعة من أصدقائه مركبة أقلتهم إلى المحطة، وقد تلاقى هناك جمع كبير من أهل المدينة جاءوا يحيونه، فما رآهم حتى وقف في مؤخرة العربة وأطل عليهم وقد شحب لونه وتبادر دمعه، فقال: «أي أصدقائي، لن يستطيع أي رجل لم يكن في مثل موقفي هذا أن يدرك مبلغ ما يخالجني من حزن لدى هذا الرحيل. إني مدين بكل شيء لهذا البلد ولكرم أهله، ولقد لبثت فيه من عمري ربع قرن، ودرجت فيه من شاب إلى رجل مسن ... هنا ولد أبنائي، وهنا دفن واحد منهم، وها أنا ذا أرحل ولست أدري ما إذا كنت عائدا إليكم بعد اليوم ... أرحل وأمامي عمل هو أعظم من ذلك الذي ألقي على كاهل وشنطون، ولا نجاح لي ما لم أصب معونة الله الذي كان معه أبدا ... ولئن ظفرت بهذه المعونة فلن أخيب، فلنأمل في حسن المنقلب، مخلصين واثقين في الله الذي هو معي ومعكم، والذي يكون منه الخير في كل مكان، وإني إذ أكلكم إلى عنايته - كما آمل أن تكلوني إليها في صلواتكم - أقرئكم وداعا حارا.»
وانطلق القطار يمشي الهوينا وهم ينشدون للرئيس نشيدا كانوا أعدوه، وقطرات المطر تنزل على رءوسهم الحاسرة كأنها دموع منصبة من السماء، وهو في مؤخرة العربة ينظر إليهم خلال دموعه، ولكم التقت ساعتئذ قطرات السماء بما فاض من المآقي، حتى غاب القطار وغاب في مؤخرة العربة شخص الرئيس ... ورحل أبراهام ليعود بعد جهاد شديد ومراس، فإذا هو شهيد تذرف الدموع عليه أمة بأسرها.
ذهب أبراهام ليواجه العاصفة، وإنه ليراها اليوم عاصفة دونها تلك العواصف التي طالما هبت في الغابة هوجاء عاتية، فزعزعت باسقات الدوح وشعثت كثيفات الألفاف وأفزعت الرجال والدواب. إنه يراها اليوم عاصفة من عمل الإنسان لا من عمل الطبيعة، وما أهول ما يفعل بنو الإنسان حين ينسون إنسانيتهم، فتستيقظ فيهم غرائزهم التي دبت فيهم أول ما دبوا على هذه الأرض!
رحل «الرجل القادم من الغرب»، كما اعتاد أن يسميه أهل العاصمة وغيرهم من أهل المدن الشرقية السابقة في المدنية، وتقدم الربان ليقود السفينة ودوي الأنواء في مسمعيه.
وقضى في رحيله إلى العاصمة اثنى عشر يوما. وعلم الناس بهذا الرحيل، فكانوا يلقونه في المدن التي يمر بها مرحبين، وقد تلاقت جموعهم على نحو لم تشهده البلاد من قبل، فما في الناس إلا من ملكه حب الاستطلاع، وكثير منهم كانت تدفعهم المحبة إلى هذا اللقاء.
وكان قد عقد النية على أن يظل صامتا إلا ما يكون من تحية يرد بها على ما كان يلقاه من تحيات، ولكن إصرار الناس في كل مكان على أن يسمعوا حديثه جعله يتحلل مما اعتزم، ثم إنه رأى أن هذه كانت آخر فرصة يتحدث فيها إلى عامة الناس، وهم الذين يعول عليهم ويطمع أن يتخذ منهم ظهيرا فيما هو مقدم عليه من كفاح.
وكانت له في خطبه أثناء ذلك المسير خطة رشيدة، فقليلا ما كان يبرم أمرا، أو يقطع في المسائل القائمة برأي، وإنما كان يشرح الأمور حتى تستبين، ثم يتساءل عن أوجه الصواب تاركا الناس يتدبرون حتى تأتيهم البينة، تتمثل ذلك في مثل قوله في إنديانا بولس: «أي مواطني، لست بمبرم أمرا إنما ألقي عليكم أسئلة لتتدبروها ...»
ولقد تكلم في هذه المدينة فأشار إلى ما كان يجري على الألسن يومئذ حول الاتحاد في رد الولايات الخارجة عليه بالقوة، ولقد عد أنصار الجنوب ذلك العمل عدوانا، فتساءل الرئيس: هل يكون في الأمر عدوان إذا لجأت حكومة الاتحاد إلى المحافظة على ما تملك هناك من عقار، أو إذا حافظت على سبل مواصلاتها وحرصت على جباية المال المقرر على البضائع المستوردة؟
واستقبل أبراهام في سنسناتي استقبالا لم تر هذه المدينة لأحد من قبل نظيرا له، وتزاحم الناس عليه يريدون رؤيته وباتت المدينة في مثل فرحة العيد؛ ففيها الأنوار الوضاءة والأناشيد الصداحة والجموع الغفيرة المستبشرة، وفيها ما هو أسمى من سمات العيد هذه؛ ألا وهو الحب الصادق تفيض به القلوب.
ومر بحدود كنطكي وهي ولاية من ولايات الرق تشتد فيها الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد، وهي تلك الولاية التي نشأ فيها أول ما نشأ، فقال يوجه الكلام إلى أهلها: «أي مواطني أهل كنطكي، هل لي أن أدعوكم بما أدعوكم به؟ إني في موقفي الجديد لا أجد حادثا ولا أحس ميلا يدعوني أن أغير كلمة من هذا، فإذا لم تنته الأمور إلى الخير فثقوا أن الخطأ في ذلك لا يكون خطئي ...»
وفي بيتسبرج أفصح عن سروره؛ إذ كان استقباله استقبالا شعبيا لا أثر للحزبية فيه، ثم قال: «إذا لم تجتمع كلمتنا الآن لننجي سفينة الاتحاد القديمة الطيبة في رحلتها هذه، فلن يكون ثمة من فرصة بعدها لقيادتها إلى رحلة غيرها.»
وفي محطة من المحطات الصغيرة وقف لنكولن بعد أن قرت حماسة المستقبلين، فقال إنه يذكر أن كتابا جاءه من فتاة هذه بلدتها تسأله فيه أن يطلق لحيته، ولقد فعل كما أشارت فهو ذو لحية اليوم كما يراه الناس، ثم عبر عن رغبته في رؤية تلك الفتاة إن كانت حاضرة، فبرزت من بين الجموع تلك الفتاة ومشت على استحياء حتى وصلت إلى الرئيس، فقبلها قبلة على جبينها والناس بذلك معجبون فرحون.
وفي ألبني عاصمة ولاية نيويورك العظيمة كانت حفاوة الناس به شديدة، وكذلك كان شأنه في مدينة نيويورك التي سبق أن زارها لأول مرة من قبل ليخطب الناس، فأصاب من النجاح ما سلفت الإشارة إليه.
ووقف في ترنتن على مقربة من ميادين القتال التي سالت فيها دماء الثورة غداة حرب الاستقلال، فأخذه جلال الموقف، وهزته روعة الذكرى، فجرى لسانه بما اختلج في نفسه، قال: «إني لأرجو أن تسامحوني إذا ذكرت في هذه المناسبة أني في أيام طفولتي وفي مستهل عهدي بالقراءة قد تناولت كتابا صغيرا يدعى حياة وشنطون، تأليف ويمز، وإني أتذكر كل ما جاء فيه عن ميادين القتال وعن مواقف النضال من أجل الحريات في هذه البلاد، ولكن ما من حادثة تركت في نفسي من أثر مثل ما تركه موقف النضال هنا في ترنتن ونيوجيرسي.» وبعد أن أشار إلى بعض الحوادث قال: «وإني لأذكر الآن أني فكرت يومئذ ولما أزال غلاما صغيرا، أنه لا بد أن يكون أمرا غير عادي ذلك الذي كافح من أجله هؤلاء الناس، وإني لأحس رغبة ملحة قوية أن أرى هذا الذي كافحوا من أجله، وأرى شيئا آخر هو أعظم من الاستقلال القومي، شيئا ينطوي على وعد للناس جميعا في هذا العالم في كل ما هو آت من العصور ... أقول إني شديد التطلع أن أرى الوحدة والدستور وحرية الناس؛ بحيث تصبح أبدية مقترنة بتلك الفكرة الأصلية التي من أجلها قام الكفاح، ولسوف أكون جد سعيد إذا أصبحت الأداة المتواضعة في يد القوي العلي وأيدي هؤلاء الذين يكادون أن يكونوا شعبه المصطفى، للعمل على أن يدوم ذلك الذي انبعث من أجله ذلكم النضال العظيم.»
وكان الكتاب الذي يشير إليه لنكولن في هذه الذكرى هو بعينه ذلك الكتاب الذي أعاره إياه أحد معارفه، والذي بللته قطرات المطر فأصابته ببعض العطب، وتركت الصبي الفقير في حال شديدة من الغم، حتى لقد سار يحمله إلى صاحبه وهو شديد الحيرة، فلما جاءه عرض عليه أن يأجره عنده بما يساوي ثمن الكتاب، ذلك هو الكتاب الذي قرأ فيه الغلام النجار في الغابة حياة وشنطون العظيم، ولم يك يدور بخلده أنه سيجلس يوما حيث كان يجلس وشنطون، ويسدي إلى بني قومه وإلى الإنسانية جميعا من صنيعه ما لو شهده ذلك البطل العظيم لتمنى لو كان مما قدمت يداه فوق ما قدمتا.
واستأنف الرئيس لنكولن ومن معه سيرهم إلى العاصمة حتى وصلوا فيلادلفيا، وهناك علم أن فريقا من بني جنسه يأتمرون به ليقتلوه! سمع أبراهام أن أمامه الخطر يوشك أن يحدق به، وما كان أبراهام بدعا من العظماء، فكم من أماثل خلوا من قبله لاقوا مثلما يلاقي اليوم من عنت ودبر لهم مثلما يدبر له، فما وهنوا ولا انصرفوا عن وجهتهم حتى أدركوا الغاية أو أدركهم الموت.
وارتاب لنكولن أول الأمر، فما كان يظن أن أحدا تحدثه نفسه بإتيان هذا العمل، ولكن جاءه رسول من صديقه سيوارد ينبئه أن قائد الجيش حدثه أن مكيدة تدبر له، وأن عليه أن يحذر حتى لا يكون ضحية للغادرين، فلما سمع لنكولن هذا لم يعد يرتاب وبات على حذر وإن لم تأخذه خيفة.
وكانت لفيلادلفيا، وهي المدينة التي كتب الثوار فيها وثيقة الاستقلال وصاحوا صيحة الحرية، منزلة عظيمة في نفسه وفي نفس كل أمريكي من أنصار الحرية، وكان أبراهام قد رضي أن يخطب الناس في تلك القاعة التاريخية التي ولدت في ساحتها الحرية، وكأنما توافقت الذكريات لتزيد من جلال الموقف، فقد تصادف أن كان ذلك اليوم هو يوم ميلاد الزعيم وشنطون، ورغب الناس أن يرفع العلم على القاعة الزعيم لنكولن، وقبل لنكولن مغتطبا فرحا، كما قبل أن يخطب الناس مساء ذلك اليوم في مدينة هرمسبرج، وكانت تقع غير بعيد من فيلادلفيا.
وخشى أصحاب أبراهام أن يفتك به المجرمون في زحمة الناس في ذلك اليوم المشهود في أي من المدينتين، وأشاروا عليه أن يقتصد في الاتصال بالناس، فيفوت على الغادرين مقصدهم، ولكنه أبى إلا أن يفي بوعده ولو كان في ذلك هلاكه.
ورفع أبراهام العلم في فيلادلفيا وكان موفقا في ذلك، فقد صعد في ثبات إلى حيث يقوم العمود الذي يثبت فيه العلم، فشد الحبل فانبسط العلم ورفرف، وصفق الناس واستبشروا وهم ساعتئذ جموع خلفها جموع إلى غاية ما يذهب فيهم البصر، وكلهم يحيون الرئيس في حماسة وغبطة.
وخطب في القاعة التاريخية فأفصح عن شيء من سياسته على غير ما جرى عليه في خطبه السالفة، قال : «كثيرا ما سألت نفسي ما ذلك المبدأ أو ما تلك الفكرة التي حفظت الاتحاد هذا الزمن الطويل؟ إنها لم تك مجرد انفصال المستعمرات عن الأرض الأصلية، ولكنها كانت تلك العاطفة التي ولدت الحرية، لا لهذه الأمة فحسب، ولكن للناس جميعا في كل عصر مقبل كما أرجو، إنها كانت تلك العاطفة التي بشرت أنه متى حان الوقت المناسب رفع العبء عن كواهل الناس جميعا، ومنح كل امرئ فرصة بقدر ما يمنح أخوه ... تلك هي العاطفة التي انطوى عليها إعلان الاستقلال. والآن إني أسائلكم يا أصدقائي هل يتسنى خلاص هذه البلاد على هذا الأساس؟ إذا أمكن ذلك فإني أعد نفسي، إن استطعت أن أساعد على خلاصها، من أسعد الناس في هذا العالم. أما إن كان من المستحيل إلا أن يضحى بهذا المبدأ، فإني أفضل أن أقتل هنا على أن أضحي به ... والآن أرى أنه ليس ثمة من ضرورة إلى سفك الدماء والحرب، ليس ثمة ضرورة إليها، وإني لا أميل إلى اتجاه كهذا، وأضيف إلى ذلك أنه لن تقوم حرب إلا إذا أجبرت الحكومة عليها، ولن تلجأ الحكومة إلى القوة إلا إذا شهر في وجهها سلاح القوة ... أي أصدقائي! هذه كلمات جاءت على غير ترتيب سابق ألبتة، فأنا لم أك أتوقع قبل وصولي أني سوف أدعى إلى الكلام هنا، لم أك أحسب إلا أني سأرفع العلم فحسب، وعلى ذلك فربما كانت كلمتي هذه ينقصها الحرص، ولكني لم أقل إلا ما أريد أن أعيش عليه وما أريد - إذا كانت هذه مشئية الله - أن أموت عليه.»
وذهب لنكولن في المساء إلى هرمسبرج وخطب الناس كما وعد، وكانت بلتيمور هي المدينة التي اعتزم المجرمون أن يقتلوه فيها، وهي في طريقه إلى العاصمة، فعاد لنكولن إلى فيلادلفيا قبل الموعد المضروب، وركب ومن معه قطارا عاديا، كان قد استبقى بناء على إشارة قادمة ليحمل «طردا» هاما إلى وشنطون، وترك لنكولن القطار الخاص الذي كان معدا لسفره، فمر ببلتيمور قبل الموعد المعروف، ففوت بذلك على الكائدين كيدهم فكانوا هم المكيدين.
وفي الساعة السادسة من صباح اليوم التالي بلغ الرجل القادم من الغرب ومن معه وشنطون، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، اللهم خلا سيوارد ورجلا آخر كانا على علم بمقدمه فلقياه، وركب لنكولن إلى فندق لينتظر بضعة أيام حتى يحتفل بتسلمه أزمة الحكم.
دخل الزعيم لنكولن عاصمة البلاد في مثل تلك الساعة المبكرة وفي مثل تلك الحال المتواضعة، ليجلس في كرسي الرياسة الذي جلس فيه من قبل وشنطون، دخل ليحمل العبء وليبدأ في حياته مرحلة من الجهاد والجلاد دونها كل ما سلف من جهاد وجلاد.
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
أقام لنكولن في الفندق ينتظر يوم الاحتفال، وإنه ليحس أنه كالغريب في هذه المدينة العظيمة، ولقد كان كثير من أهلها يتوقعون قبل وصوله أن تصلهم الأنباء عن مقتله في الطريق، فلما فوت على الماكرين قصدهم ودخل المدينة ولم تزل غافية، أصاب المؤتمرين به كمد وغم، ولكن هل فاتت الفرصة فلا سبيل لهم إليه بعدها؟ كلا، فما يزال الكائدون يتربصون به حتى لقد سرت في الناس إشاعة قوية أنه لن يحتفل بالرئيس الجديد، وأنه راجع إلى سبرنجفيلد قبل ذلك اليوم حيا أو ميتا.
وكانت المدينة إلى أهل الجنوب أكثر ميلا منها إلى أهل الشمال، وكان سادتها وكبراؤها ممن يقتنون العبيد ويتمسكون بنظام العبيد، وكانت تقع عين القادم إلى المدينة على العبيد رائحين غادين، ولقد كان هذا منظرا تنفر منه عينا لنكولن وهو يطل من الفندق على المدينة، وكان ذوو النفوذ من أهلها يكرهون الجمهوريين ولا يشيرون إليهم إلا بقولهم الجمهوريين السود؛ لذلك أحس أبراهام أنه في جو غير جوه، كالنبات نقل إلى حيث لا يجدي معه ري ولا ينفع غذاء.
وجلس أبراهام يفكر ويتدبر؛ فإذا امتد إلى الحاضر فكره رأى كيف تشيع الفتنة، وكيف يستفحل الشر، وكيف يزلزل بناء الاتحاد حتى لينهار حجرا بعد حجر؛ وإذا استشرفت للمستقبل نفسه، رأى ظلمات فوقها ظلمات؛ فالحرب - كما يبدو له - واقعة لا محالة، ما لم يحدث ما ليس في حسبان أحد، وهي إذا شبت نارها واستعرت اكتوى بسعيرها أبناء الوطن الواحد وأصحاب المصلحة الواحدة، إنها حرب سوف تكون بين نصفي شعب لن يكون بقاؤه وسعادته إلا في اتحاد كلمته والتئام شمله.
وليت الفتنة اقتصرت على الناس ولم تمتد إلى الحكومة، إذن لكان أهون على الرئيس وعلى الشعب، فها هي ذي كما رأينا قد اندست حتى تغلغلت في وحدات الجيش والبحرية والسادة المسئولين من رجال الدولة، ولقد وقف بوكانون حائرا لا يدري ما يأخذ مما يدع، حتى لم يعد في إمكانه أن يحسم الشر، فكان وجوده حتى ذلك اليوم على رأس الحكومة شرا على شر.
ولكن أبراهام لم يك من طراز بوكانون، وحسبه عزمه المصمم الجبار في هذا الموقف الرهيب، هذا إلى إخلاصه وكراهته للعدوان، ويقينه الذي لا يداخله شك ولا يحوم حوله شيء مما ينسج الباطل من وهم، وما يصور من ريبة.
ولقد أشفق من لم يكونوا يعرفونه، بل لقد جزع بعض الناس من أن تلقى أزمة الحكم في مثل هذه الظروف في يدي رجل هو، في زعمهم، لم تحسن يداه أن تقبضا على شيء غير المعول. وعجبوا أن تترك الأمور للرجل القادم من الغرب، لذلك المحامي الذي كان من قبل يخطط الأرض ويوزع البريد، والذي نشأ بين الأحراج ونما كما ينمو وحشي النبات. وسخط أعداؤه ممن لا يجهلون مقدرته، واشتد بهم الغيظ ألا يجلس في كرسي الرياسة يومئذ إلا هذا الجمهوري الأسود، كما شاء لهم حنقهم أن ينعتوه، هذا الذي يعد - كما يزعمون - في الجمهوريين كبيرهم الذي علمهم ما يلوكونه من عبارات تؤذي الأسماع وتخز القلوب وتقبض الصدور!
أما الذين عرفوا لنكولن وخبروا خلاله، فما خالطهم شك في أنه الرجل الذي ليس غيره في الرجال تكون على يده السلامة ويتم الخلاص. والحق لقد خلقت الحوادث هذه الأزمة، وخلقت في الوقت نفسه الرجل الذي ينهض لها، والذي لا يقوى على حمل أعبائها سواه، ولو لم يكن في أمريكا يومئذ ذلك الرجل الذي أخرجته أحراجها، لتغير تاريخها باتخاذه وجهة غير التي سار فيها .
وإنا لنرى في أبراهام أحد الأفذاذ الذين يبرهنون بأعمالهم على فساد الرأي القائل بأن الظروف هي التي تكون العظماء؛ فهذا رجل نجم عن أبوين فقيرين، ودرج بين أحراج الغابة وألفافها، فلما واجه الحياة وأخذ يعول نفسه، راح يشق طريقه في زحمتها ومفاوزها كما كان يشق طريقه بين الأدغال، ولا عاصم له مما كان يحيط به إلا عزيمته وفتوته.
راح أبراهام يستقبل الحياة ويمشي في مناكبها، وكأن الظروف كلها من عدوه، فما زال يغالب الظروف وتغالبه ويعركها وتعركه، حتى بلغ موضع الرياسة في قومه دون أن يستمد العون مرة من أحد، أو أن تكون له وسيلة من جاه أو مال أو حظوة عند ذي قوة، أو غير هذا وذاك مما يبتغي به الناس الوسائل إلى ما يطمحون إليه من غايات.
ولما أن بلغ هذا الموضع كانت البلاد تتوثب فيها الفتنة ويتحفز الشر، فكانت الظروف يومئذ كأسوأ ما تكون الظروف، ولكنه على الرغم من ذلك سار إلى غايته غير خائف ولا وان ولا منصرف عن وجهته إلى وجهة غيرها، حتى عقد له النصر وتم له أداء رسالته.
وكيف لعمري تخلق الظروف العظماء؟ وكيف يسمى عظيما ذلك الذي تخدمه الظروف، فلا يكون له من فضل إلا ما يجيء عن طريق المصادفة؟ ألا إن العظيم الحق لهو الذي تخاصمه الظروف فينجح على الرغم مما تكيد به الظروف، وتتجهم له الأيام فيقدم على العظائم على الرغم من تجهم الأيام، وتعترضه الصعاب الشداد، فلا تثني عزيمته أشد الصعاب، بذلك تكون الظروف هي التي تخلق العظماء، فيكون الرجل الذي يظهر عليها ويظفر على الرغم منها هو العظيم، ويكون في ذلك كالدر تظهر النار حقيقة جوهره.
لبث أبراهام في الفندق ينتظر حتى يتخلى له بوكانون الشيخ عن قيادة السفينة، وكان أبراهام يستمع إلى دوي العاصفة يزداد يوما بعد يوم، فيتلفت فلا يرى حوله غير سيوارد، ولكن سيوارد لا يلبث أن يدب بينه وبين صاحبه خلاف شديد، فلقد كبر على سيوارد ألا يشاوره أبراهام في الخطبة التي أعدها ليوم الاحتفال، وكان قد كتبها قبل أن يسافر من سبرنجفيلد.
وعلم أبراهام بالأمر فألقى بالخطبة بين يدي صاحبه، فاقترح عليه سيوارد أن يغير فيها أشياء وأن يضيف إليها أشياء، فلم ير أبراهام رأيه، على أنه قبل أن يضيف إلى الخطبة خاتمة كتبها سيوارد وتناولها أبراهام بالتغيير، ليلتئم أسلوبها مع أسلوب الخطبة، وظن أبراهام أنه أرضى بذلك صديقه، ولكنه فوجئ في اليوم السابق ليوم الاحتفال بكتاب من عند صاحبه، ينبئه فيه أنه يتحلل من وعده الذي سبق أن قطعه على نفسه بالاشتراك معه في الحكم! وطوى أبراهام الكتاب متألما مكتئبا؛ ألا ما أشد عنت الأيام! حتى سيوارد ذلك الذي ليس غيره ترجى منه المعونة تكون من جانبه العقبات؟
وأشرقت شمس اليوم الرابع من مارس عام 1861، وكان يوما من أيام الربيع طلق المحيا رخي النسائم، فخرج الناس يشهدون موكب الرئيس الجديد، وكان موكب الاحتفال بولاية الرئيس من أعظم ما تهتم به البلاد، وهو في هذه المرة أجل قدرا منه في كل ما سلف من الأيام؛ وذلك لما كان يحيط بولاية أبراهام من معان تجيش بها نفوس الخصوم والأنصار!
وقضى أبراهام صباح ذلك اليوم يقرأ خطبته ويهذبها بالحذف والإضافة، حتى متع النهار فجاء الرئيس بوكانون في عربة إلى الفندق، فركب إلى جانبه أبراهام والناس على جانبي الطريق إلى الكابتول، تقع أعينهم على الرجلين، فهذا هو الرئيس القديم يشيع في رأسه الشيب، ويبدو على بدنه ومحياه الهزال من أثر السنين، ومن أثر ما حمل من عبء أوشك أن يلقيه عن كاهله، وقد أربى اليوم على السبعين، وهذا هو الرئيس الجديد يبدو فتيا قويا وهو يومئذ في الثانية والخمسين، هذا هو الرجل القادم من الغرب! هذا هو ابن الغابة! تملأ الأعين قامته الطويلة التي تلوح أكثر طولا إلى جانب صاحبه الشيخ الضئيل الجرم، وهو يرتدي اليوم حلة ما ارتدى مثلها من قبل، حلة ارتضتها له ماري وهيأتها لذلك اليوم، ثم هو يقبض على عصا جميلة أنيقة بيده الضخمة التي أكسبها في صدر أيامه حمل المعول كبرها وخشونتها.
وضاقت الناس بالطرقات، وكان رجال الشرطة قد أبعدوا الجموع قليلا عن حافتي الطوارين، وقد أمرهم كبيرهم ألا يسمحوا بأي عبث بالنظام مهما خيل إليهم أنه تافه، وكان كبير الشرطة يخاف أن تمتد أيدي الآثمين إلى الرئيس بالعدوان؛ إذ كانت الإشاعات قد اتخذت مجراها في كل سبيل، وملأ الهمس بها الآذان ووجفت من هول ما تتصور الجريمة قلوب الكثيرين من المخلصين.
وبلغ الرئيس مكان الاحتفال، وهو مرتفع أعد لهذا الغرض، وقد امتلأت الساحة المحيطة به بجموع من الناس حي ما تتسع لقدم. وكان على مقربة من المكان تمثال وشنطون المنحوت من المرمر الأبيض، يتلألأ في ضوء الشمس وتنبعث منه معاني العظمة والبطولة والحرية والفداء.
ووقف الرئيس لنكولن يوجه الكلام للشعب جميعا لأول مرة، وقف ابن الأحراج أمام هاتيك الجموع ثبت الجنان، مستوي القامة، مرفوع الهامة، وألقى نظرة أمامه على علية القوم من الشيوخ والأعيان ورجال الجيش ورجال الدين والقضاة وغيرهم وغيرهم، ثم مد بصره في الجموع وقد سكنت ريحهم فتهيأ للكلام، ولكن ماذا عراه؟ لقد وقف يمسك بإحدى يديه قبعته وبالأخرى عصاه، فكيف يمسك الورق ليتلو منه خطبته؟! ها هو ذا يسند العصا إلى الحاجز الخشبي أمامه، فأين يضع القبعة؟ لقد أوشك أن يقع في ورطة وأوشك أن يثير ضحك الخصوم بحيرته، ولكن ها هو ذا رجل يثب من مكانه - وكان يجلس منه في سمت بصره - فيأخذ القبعة من يده، ومن هو ذلك الرجل؟ إنه دوجلاس خصمه القديم ومنافسه بالأمس ذو البأس الشديد.
وكان دعاة الانسحاب من أنصار الجنوب يأملون أن يتهدد لنكولن الولايات الجنوبية ويتوعدها؛ فيشتد بذلك الهياج في تلك الولايات ويتعذر بعدها أن يجنح أهلها للسلم، ولكن لنكولن خيب ظنونهم وزادهم بحكمته وحصافته ويقظته وبعد نظره غما على غم.
كانت خطبته خير مثال للاعتدال في غير تفريط، وللتواضع في غير استخزاء أو استسلام، وللتحذير في غير إثارة أو استفزاز، وللمرونة في غير رياء أو التواء، وللعدالة في غير جفاء أو عداء، كما كانت كالسلسل العذب سهولة لفظ وفصاحة عبارة، هذا إلى ما امتازت به من نصوع البرهان ومتانة الحجة واستقامة المنطق، وبراعة السياق ودقة الإلمام بالموضوع والإحاطة به من أقطاره جميعا، وحسن التفطن إلى ما كان يشغل يومئذ الأذهان.
وكان الخطيب رنان الصوت، قوي الجرس، حسن الإشارات بيديه، على محياه الجد والهيبة والعزم، وفي كلماته حرارة الإيمان وقوة اليقين وصدق الإخلاص؛ ولذلك كانت عباراته تنفذ إلى قلوب أنصاره وخصومه على السواء، وإن كان خصومه ليكرهون فوزه وينكرون مبادئه.
قال يشير إلى مخاوف أهل الجنوب: «يظهر أن المخاوف تنتشر في الولايات الجنوبية، ومبعثها أن قبولهم حكم الجمهوريين من شأنه أن يعرض أملاكهم وسلامتهم وأمنهم على أشخاصهم للمخاطر، ألا إنه ليس ثمة من سبب معقول لهذه المخاوف، بل لقد قامت بينهم أقوى شهادة على نقيض ذلك، وكانت دائما تحت أسماعهم وأبصارهم، إنها كانت توجد في كل خطبة من خطب محدثكم الآن، وإني لأقتبس من إحدى تلك الخطب؛ إذ أقول إنه ليس لي من غرض مباشر أو غير مباشر للتدخل في نظام الرق في الولايات التي يقوم فيها هذا النظام، وإني لأعتقد أنه ليس من حقي أن أفعل ذلك، وأن الذين رشحوني وانتخبوني إنما فعلوا ذلك وهم على أتم علم بأني كثيرا ما صرحت بمثل هذا، وما تزحزحت مرة عما قلت.»
ولم يقف الرئيس في اعتداله عند هذا الحد، بل لقد ذهب إلى التصريح بأن العبد الآبق إلى الولايات الحرة لا تمنح له الحرية، ولقد أشفق كثير من أنصاره من هذا التصريح، ولكن لنكولن يستند في ذلك إلى مبادئ الحزب، التي لا يمنح بمقتضاها العبد حريته إلا إذا ذهب مع سيده غير آبق إلى ولاية حرة فأقام فيها.
وتكلم لنكولن عن انسحاب الولايات من الاتحاد فقال: «لن يخول القانون لأية ولاية حق الانسحاب ...» ثم أردف قائلا إن القسم الذي أقسمه على المحافظة على الدستور يجعل لزاما عليه أن يؤدي واجبه، فيعمل على أن يكون قانون الولايات المتحدة نافذا في جميع الولايات، واختتم الحديث في هذا الموضوع بقوله: «إني واثق من أنكم لن تحملوا على التهديد كلامي، بل إنها كلمة الاتحاد يعلن أنه سوف يحمي بناءه ويدعمه على أساس من الدستور، وهو إذ يفعل ذلك لا يرى ثمة حاجة إلى سفك الدماء أو العنف، ولن يكون شيء من هذا إلا إذا أجبرت عليه السلطة القومية.»
وأشار إلى الوحدة من الوجهة العضوية، فقال إن نصف الشعب لا يستطيع أن يقوم بغير النصف الآخر، وإذا كان في الدستور عيب فمن الممكن إصلاحه بمؤتمر يجتمع فيه ممثلو الشعب، فإذا رأى الشعب الانفصال حقا لكل ولاية فله رأيه وليفعل كما يرى، أما هو فما يملك من قوة إلا ما منحه الشعب.
وتكلم عن الداعين إلى الثورة، فقال إنه لا مبرر للثورة إلا إذا لجأت الأغلبية إلى الطغيان، ومثل هذا المبرر لا وجود له، وإن الانسحاب معناه الفوضى، ولا نتيجة للفوضى إلا الاستبداد.
واختتم لنكولن خطبته بتلك العبارة التي اقترحها سيوارد وتناولها هو بالتعديل قال: «لسنا أعداء بل نحن أصدقاء، ويجب ألا نكون أعداء، ولو أن الغضب قد جذب حبال مودتنا إلا أنه يجب ألا يقطعها، وإن الأناشيد الخفية التي ترن في الذاكرة منبعثة من كل ميدان من ميادين القتال، ومن كل قبر من قبور الوطنيين، إلى كل قلب حي وإلى جانب كل موقد في هذه البلاد العريضة، لتزيد جوقة الاتحاد إذا ما مسها ثانية وحي من طبيعتنا، كما نثق أنه واقع.»
وأقسم أبراهام ويمناه على الإنجيل، وتولى صيغة القسم القاضي تين، صاحب قضية دردسكوت الشهيرة، وكان يومئذ القاضي الأعلى للبلاد. وبعد أن أدى أبراهام القسم على أن يحترم الدستور ويحافظ على قوانين البلاد، سار إلى البيت الأبيض، وكان أول عمل له عقب وصوله أن تناول القلم فكتب إلى سيوارد الكتاب الآتي:
سيدي العزيز
تسلمت رقعتك المؤرخة في اليوم الثاني من الشهر الحالي، والتي تسألني فيها أن أقبل انسحابك من الاشتراك معي في إدارة شئون الحكم، ولقد كانت رقعتك هذه سببا لأعظم القلق عندي إيلاما، وإني لأشعر أني مضطر إلى أن أرجو منك أن تلغي هذا الانسحاب . إن الصالح العام ليدعوك أن تفعل هذا، وإن شعوري الشخصي ليتجه في قوة نفس الاتجاه، أرجو أن تتدبر في الأمر وأن يصلني رد منك في الساعة التاسعة من صباح الغد ...
خادمك المطيع أبراهام
جلس أبراهام ينتظر رد سيوارد بصبر فارغ وفؤاد قلق، فإنه ليعجب كيف يقف منه صاحبه مثل هذا الموقف، على أنه لن يحجم عن مواجهة العاصفة وحده مهما بلغ من شدتها، وإن كان ليرجو بينه وبين نفسه أن يظل سيوارد إلى جانبه في تلك الشدة التي تطيش في مثلها أحلام الرجال، وإن كانت تزن الجبال.
يود أبراهام أن يستعين بصاحبه، فهو واثق من كفايته مطمئن إلى إخلاصه. وما بال الرئيس تزداد سحابة الهم كدرة على محياه حتى ليبدو للأعين كمن أخذته غاشية من حزن أليم؟! ما باله طويل الإطراق كثير الصمت، لا يستمع إلى حديث زوجته إلا قليلا، ولا يشاطرها جذلها ومرحها، ولا يشاركها فيما دب في قلبه من الزهو بما باتا يتلقبان فيه من نعمة ويحظيان به من جاه؟!
إنما يكرب الريس ما آلت إليه حال بلاده، فما به خاف أو تردد وما هو عن بذل روحه بضنين، وإنه ليحزنه أن يكون بنو قومه بعضهم لبعض عدوا في غير موجب لذلك، وهم في عماية عن الحق من تبلبل أفكارهم وتسلط العناد على نفوسهم، وما له إلى هديهم بالتي هي أحسن، حيلة.
ورضي سيوارد آخر الأمر أن يعمل مع أبراهام، وقد كان سيوارد قليل الثقة في كفاية صاحبه في إدارة أمور الحكم؛ لأنه لم يسبق له أن شغل منصبا إداريا قبل هذا المنصب الخطير؛ ولذلك كان يطمع سيوارد أن تكون له السلطة فعلا وتكون للرئيس الرياسة فحسب، وبهذه الروح بدأ العمل مع صاحبه.
واختار لنكولن رجالا للحكومة كون منهم مجلسه، ومن أشهر هؤلاء تشيس، وكان من أعظمهم كفاية بعد سيوارد، غير أنه لوحظ على الرئيس أن أربعة من رجال مجلسه كانوا من منافسيه في الرياسة؛ مما يخشى معه أن ينسوا الصالح العام وأن يعمل كل منهم على توطيد مكانته توطئة للانتخاب القادم، ولكن لنكولن يرد على ذلك بما أملاه عليه بعد نظره، فلكل من هؤلاء شيعة وأعوان، وكل منهم يمثل ولاية من الولايات الشمالية، هذا إلى ما يعلمه من كفايتهم، وإنه ليركن إليهم مطمئنا إلى وطنيتهم، قائلا إن الوقت عصيب فما يظن أن أحدا تحدثه نفسه أن يعمل لصالحه الشخصي في ظروف كتلك الظروف.
ولما جلس لنكولن بينهم حول المنضدة عرف كيف يؤلف بين قلوبهم، وكيف يحملهم على احترامه وعلى محبته، ثم على الإذعان له والتسليم بالتفوق، ولقد باتوا جميعا يعجبون؛ كيف يدبر الأمور - كما يرون ويلمسون - رجل لم يعهد إليه مثل هذا العمل من قبل، ولولا أنهم جميعا يعرفونه ما صدقوا أن هذه أول مرة يضطلع فيها بمثل هذا العمل.
رأوه يخفض لهم جناحه ويبسط مودته ويوسع صدره، يستمع لآرائهم جميعا ولا يتكلم حتى يفرغوا من أقوالهم، فإذا أعجبه رأي قبله مغتبطا، وإذا خالف أحدا في رأيه أظهر له في دماثة سبب مخالفته إياه، مع شدة الحرص على احترام شخصية من يخالفه، وإظهار الاستعداد للاقتناع إذا استطاع محدثه أن يزيده إيضاحا أو يسوق له الجديد من الحجج.
وعرفوا خلاله من كثب، فأعجبوا بأدبه وعذوبة روحه ونقاء سريرته وطيبة قلبه، ولمسوا شجاعته في الحق، وأنسوا نكرانه لذاته ونسيانه كل شيء إلا رسالته التي يستمد منهم العون في أدائها، وبلوا بأنفسهم صبره في الشدائد وعزيمته إذا هم بما اقتنع بصوابه، وتبينوا حصافته وأناته وبعد نظره، وبهرهم فوق هذا ذهنه المصفى ومنطقه المستقيم، وأعجبتهم فصاحته وفطنته، تلك الخلال التي جعلته أقدر الناس فيهم على أن يفصح عن آرائه لمن يستمع إليه، وأن يتبين ما يأخذ مما يدع في كل ما يعرض له من الأمور، مهما تعقدت على غيره والتوت الأمور.
ولقد عد كثير من المؤرخين إدارة لنكولن مجلسه على هذه الصورة مظهرا قويا من مظاهر عظمته، وناحية بارزة من نواحي نجاحه، وسلكوه بها في ثبت كبار الساسة في تاريخ الأمم، ولا عجب؛ فإنه ليندر أن نجد في سجل الأيام مجلسا حكوميا شعر أعضاؤه بمثل ما شعر به أعضاء هذا المجلس من معاني الاحترام نحو رئيسهم، لا يستثنى منهم أحد حتى سيوارد ذلك الذي كان يدل أول الأمر بتجاريبه ودرايته بأساليب الحكم والسياسة، فإنه ما لبث أن اعترف في نبل وكرم نفس أن صاحبه أقدر على ذلك المنصب وأجدر به منه.
لنكولن ومجلس وزرائه.
في مهب العاصفة
كان أول ما تلقاه الرئيس من البريد في صباح اليوم التالي لتسلمه العمل خطابا من الجنرال أندرسون في حصن سمتر، ينبئه فيه أنه ما لم يصل مدد إلى الحصن فإنه لا يقوى على الدفاع عنه أكثر من أسبوع.
وكان أهل الجنوب وأهل الشمال على اتفاق ألا يهاجم أنصار الانسحاب الحصن إلا إذا رأوا من أهل الشمال ما يبرر ذلك، وماذا عسى أن يفعل الرئيس إذن؟ أيترك حامية الحصن بلا مدد، أم يرسل المدد فيتحدى بذلك أهل الجنوب؟ إن عليه أن يختار بين أمرين أحلاهما مر.
لذلك أخذ الرئيس يتدبر عله يجد مخرجا، وهو على عادته طويل الأناة لا يخطو خطوة قبل أن يحسب لكل أمر حسابا. ولكن سيوارد يضيق ذرعا بهذه الأناة، وينصح للرئيس أن يأمر بإخلاء الحصن، وكذلك يشير عليه سكت رأس جنده، وهو لا يرى ما يريان، فالمسألة دقيقة شائكة، أوليس التخلي عن الحصن معناه الاعتراف ضمنا لأهل الجنوب بصواب دعوتهم إلى الانسحاب؟ ثم أليس في ذلك خروج على ما أعلن الرئيس في خطبة الاحتفال؟ وهو إن أرسل المدد إلى الحصن ألا يعتبر عمله هذا تحديا للثائرين، فيكون بذلك هو الذي خطا أول خطوة نحو الحرب، الأمر الذي يحرص أشد الحرص أن يتجنبه؟ إذن فلا بد من الروية والتدبر والصبر.
وجاء رجلان من الجنوب إلى العاصمة الشمالية كممثلين لدولة أجنبية يطلبان أن يفاوضا لنكولن على هذا الأساس، ولكنه رفض أن يلقاهما، ولم يفعل أكثر من أن يرسل إلى كل منهما نسخة من خطبته. ولقد طلب إليه بعض الناس أن يحبسهما على أنهما خارجان على القانون، ولكنه رفض أن يفعل ذلك حتى لا تزداد الفتنة، وبقي الرجلان في العاصمة يجمعان الأنباء ويرسلانها إلى أهل الجنوب.
والصحف تهيب بالرئيس أن يأتي عملا، ولكنه صامت يفكر، والرأي العام يغلي كالمرجل، حتى لقد أطلق بعض الناس ألسنتهم فيه بالسوء من القول، فهو غر جبان متورط لا رأي له ولا بصيرة ولا حزم، إلى غير ذلك مما باتت تنوشه به الألسن.
وتفرق الناس في الشمال شيعا؛ فمنهم من يرى وجوب الحرب، ومنهم من لا يرضى إلا المسالمة والاتفاق، وأكثر هؤلاء من التجار والصناع الذين لا يستغنون عن الجنوب، ومنهم من يتذمر ويتبرم، ولكنه لا يرى شيئا ولا يحس غير القلق والخوف، والرئيس لا يجيب إلا بقوله: «إذا أخلى أندرسون حصن سمتر فسيكون علي أنا أن أخلي البيت الأبيض.»
ويهتدي ابن الأحراج بعد طول روية إلى رأي فيه دليل قوي على حنكته السياسية، حتى لكأنه مارس السياسة طول حياته، وذلك أنه يزمع أن يرسل القوت فحسب إلى الحصن، وحجته أن ذلك عمل إنساني لا عدوان فيه، فإذا قبل الثائرون هذا حلت المشكلة، أما إذا قابلوا ذلك بالقوة فعليهم إثم ما يفعلون؛ فهم بذلك يكونون بادئ العدوان ومشعلي نار الحرب. ولأهل الشمال بعد ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم العدوان إن كانت في نفوسهم حمية وفي رءوسهم نخوة الرجال.
وتسير السفن محملة بالقوت، بعد أن يرسل الرئيس نبأ عنها إلى قائد الثوار حول الحصن، ولكن القائد لا يكاد يبصر السفن من بعد، حتى يطلق النار على الحصن فيسقط علم الاتحاد، وتنسحب الحامية بعد دفاع مجيد.
ووثب أهل الشمال وثبة واحدة، فلا خلاف بينهم بعد ذلك ولا تنازع، وما فيهم إلا من يريد الدفاع عن الاتحاد، ورد الإهانة التي لحقت العلم الذي طالما خفق على رأس وشنطون وجنوده البواسل غداة حرب الاستقلال.
وما حدث في تاريخ أمريكا كله أن تحمس الشعب إلى الدعوة للجهاد كما تحمس أهل الشمال يومئذ، فلقد كان الشيوخ قبل الشباب يريدون خوض غمار الحرب، ولم يتخلف النساء ولم يقعدن عن شحذ العزائم واستنهاض الهمم، وإن لم تكن هناك حاجة إلى سعيهن. أما الشباب البواسل فقد استحبوا الموت على الحياة، فساروا مغتبطين يطرحون نفوسهم تحت المنايا، كأنما يسيرون إلى نزهة لا إلى مثل عذاب الجحيم.
وهكذا تقع الحرب بين نصفي شعب واحد، ولقد كان الرئيس أكثر الناس في الشعب جميعا تألما، وكان قلبه الإنساني يكاد يتفطر، ولكن ما الحيلة وهو يرى بناء الاتحاد أمام عينيه ينهار حجرا بعد حجر؟
وكان الموقف قبل وصول المتطوعين إلى العاصمة أشد ما يكون هولا وخطرا، فلم يكن لدى لنكولن سوى ثلاثة آلاف، ولن يستطيع هؤلاء الدفاع عن العاصمة مهما يكن من استماتتهم وشجاعتهم؛ لذلك سري الخوف في المدينة، وأيقن أهلها أنها واقعة في يد الأعداء لا محالة.
والرئيس يرتقب قدوم المتطوعين لإنقاذ المدينة من الخطر المحدق بها، وأخذ ذلك الخطر تشتد وطأته تبعا لمسلك الولايات المحايدة وبخاصة فرجينيا؛ إذ كانت تلك الولايات تقف من النزاع موقفا مبهما ظن من أجله أنها تلتزم الحيدة، وإن كانت في الواقع لتنزع إلى أهل الجنوب، وكانت فرجينيا أقربها موقعا من وشنطون لا يفصلها عنها إلا نهر ضيق، فإن هي أعلنت انضمامها إلى الاتحاد الجنوبي بات العدو بذلك على أبواب أهل الشمال، بل وأصبح البيت الأبيض على مرأى من الجند؛ لذلك شاع في الناس أن الجند عما قريب سيعبرون النهر فيستولون على مركز الحكومة ويسوقون لنكولن ومجلسه أسرى بين أيديهم.
وامتلأت العاصمة بالفزع حين تهامس الناس أن الانفصاليين، كما كان يسمى أهل الجنوب، يريدون إحداث فتنة فيها وإحراقها ليضعوا الرئيس بين نارين، ثم حين أخرجت الحكومة النساء والأطفال والمرضى والضعفاء من المدينة.
وتزايد القلق وعظم الهول واشتد بالناس الكرب، والرئيس يسأل عن المتطوعين فلا يجد جوابا شافيا من أحد، ولن يزال في ترقبه وقلقه يذرع ردهات البيت الأبيض جيئة وذهابا وهو مطرق يتفكر، ويسأل موظفيه فلا يظفر منهم إلا بتقليب الأكف والصمت، وينزل الرئيس إلى الشارع وما يزال يمشي حتى يصل إلى مقر جنده، فيسألهم عما إذا كان لديهم نبأ عن المتطوعين ومتى يصلون فلا يجد عندهم شيئا، ويحس الرجل بحرج بالغ، ويرى أنه في أشد ما عرف من محنة حتى يومه هذا، ويبلغ به الضجر أن يصيح قائلا: «بدأت أعتقد أن لا شمال هناك!»
ويصل إلى العاصمة بعد بضعة أيام قطار يهرول الناس إلى المحطة على صوت صفيره، فتقع أعينهم على أول فرقة من فرق المتطوعين وهي فرقة نيويورك، وتعظم حماسة الجميع فيتصايحون ويرددون الأناشيد، وينتعش الأمل في النفوس وهي ترتقب وصول فرق أخرى.
ويبحث الرئيس عن القائد الذي يكل إليه أمر هذه الحرب فلا يجد خيرا من قائد يدعى «لي»، وكان يومئذ غالبا في فرجينيا وقد حدثه الثقات أنه الرجل الذي ينهض بهذا العبء في ساعة العسرة هذه، ولكن لي يرفض قيادة الجيش فيجزع لنكولن ويكتئب، ويصور القائد سكت للرئيس الخسارة بقوله إن رفض لي أشد ضررا مما لو فقد الشمال عشرين ألف رجل.
ويستقيل لي من منصبه وقد انسحبت فرجينيا من الاتحاد وإن لم تنضم بعد إلى الجنوبيين، ويوضع لي على رأس جنود فرجينيا للدفاع عنها، ولن يلبث إلا قليلا حتى يصبح القائد العام للجيوش الجنوبية، وقد انضمت فرجينيا إلى الاتحاد الجنوبي ونقلت إلى عاصمتها رتشمند حكومة دافيز.
وبينما كان يبحث الرئيس عن قائد غيره ينذره أهل بلتيمور عاصمة ماري لاند - وهم الذين تآمروا من قبل على قتله - أنهم لا يسمحون بمرور جند من ولايتهم لأنهم محايدون. ويتعجب الرئيس قائلا إنه لا بد من المدد، ولا يستطيع الجنود أن يطيروا فوق ماري لاند ولا أن يزحفوا تحت أرضها، فكيف يمنعهم أهلها أن يمروا خلالها؟
وينقض أهل بلتيمور بعد ذلك على فرقة قادمة من مساشوست، كانت من أقوى الفرق وأعظمها نظاما، فيقتلون عددا منها ويجرحون عددا، ويحمل الجرحى على محفات إلى وشنطون، فتلهب جراحهم حماسة القوم وتثير حميتهم وتزيد بأسهم.
ولم يكتف الثوار في بلتيمور بما فعلوا، فحطموا الجسور التي تصلهم بالشمال والغرب، وعطلوا خطوط الحديد المؤدية إلى وشنطون، ولكن أحد القواد البواسل الموالين للرئيس لنكولن خرج من وشنطون على رأس فريق من المتطوعين وباغت المدينة ليلا، وقبض على كثير من الثوار، وقتل نفرا منهم ففت ذلك في عضدهم، ثم أعلنت ولاية ماري لاند - وقد خضعت عاصمتها على هذا النحو - انضمامها صراحة إلى الاتحاد، وكانت هذه الخطوة من جانب المتطوعين أولى خطواتهم الموفقة.
وأعلن الرئيس لنكولن الحصار البحري على موانئ الاتحاد الجنوبي ليقطع الصلة بينها وبين العالم، ثم أهاب بالولايات الخاضعة له أن تمده بمدد جديد من المتطوعين، فما لبث أن أمدته بما طلب، حتى لقد غصت وشنطون بهؤلاء المستبسلين الذين أراد لنكولن أن يستعيض بحماستهم عما يعوزهم من التدريب والنظام.
وفي تلك الأيام العصيبة نرى دوجلاس خصم لنكولن القديم يسعى إلى البيت الأبيض، ويقابل الرئيس ويفضي إليه بإعجابه بما انتهج من خطة، ويعده أن يظل إلى جانبه خادما لقضية الاتحاد، وتتوثق عرى المودة بين الرجلين، ويستأذن الرئيس صديقه الجديد أن يذيع في الناس هذا النبأ، فيأذن دوجلاس مغتطبا بعد أن يقرأ ما أعد للنشر، ويقابل الجمهوريون هذا النبأ بالابتهاج، ويشعرون بقوة جديدة يظفر بها أهل الشمال.
ولا يني دوجلاس يدافع عن الرئيس وسياسته، يخطب الناس في المدن يستحثهم إلى البذل والتضحية، ولا يفتأ يضع بين يدي الرئيس من نصحه ومشورته ما يحرص الرئيس على الانتفاع به.
ولكن يد الموت لا تمهل دوجلاس أكثر من شهرين فيلقى حتفه! ويتلقى لنكولن نبأ الفجيعة فيذرف الدمع السخين، ويشتد به الغم حتى يرمض فؤاده.
ولقد امتدت يد الموت قبل دوجلاس إلى شاب مجاهد كان أول أمره يعمل في مكتب لنكولن أيام كان يحترف المحاماة، ولقد أعجب لنكولن بذكاء هذا الشاب وملك قلبه شدة محبته له، فلما سار الرئيس إلى العاصمة سار معه، ولما تحرجت الأمور برز هذا الشاب الباسل الذكي يجمع الفرق ويدربها ويعدها للنضال، إلى أن كان ذات يوم فأرسله لنكولن إلى ضفة النهر المواجهة للعاصمة ليحتل المرتفعات هناك.
ثم إن هذا الشاب - وكان يدعى إلزورث - ذهب على رأس جنده فاحتل الأماكن المعينة، وهناك بصر بعلم من أعلام الثوار يخفق على جدار فندق في مدينة صغيرة تسمى الإسكندرية، فتسلق الحائط في بسالة عجيبة وانتزع العلم من موضعه، وبينما هو نازل من أعلى الجدار إذ أصابته رصاصة فانكب على وجهه، وتدفق الدم من قلبه على هذا العلم، فكانت ميتته هذه ميتة بطل، تركت في نفوس أصحابه ما لا يتركه النصر في معركة حامية. ولا تسل عما أصاب الرئيس يومئذ من هم وحسرة؛ لقد حزن على هذا البطل كما كان يحزن لو أن الميت كان وحيده، وجاءت بعده منية دوجلاس، فكانت المنيتان فاتحة الكوارث في هذا النضال العظيم.
كانت أولى المعارك الكبيرة معركة حدثت في فرجينيا بعد ثلاثة أشهر من سقوط حصن سمتر، عرفت باسم بول رن، وبيان خبرها أن جنود الاتحاد التقوا بجموع الثائرين، وكانت الحماسة والاستبسال هي كل ما لدى هؤلاء المتطوعين من عدة، وكان لأهل الجنوب - وإن كان معظمهم من المتطوعين كذلك - قواد مدربون كانوا قبل ذلك في الجيش النظامي للبلاد وتسللوا منه إلى الجنوب حيث تفرقت الكلمة!
وبدا أول الأمر أن النصر في جانب الشماليين، ولكن موجتهم ما لبثت أن انحسرت، ثم ولوا بعدها هاربين على صورة منكرة تبعث على الرثاء، حتى لقد قيل إن بعض الفارين لم يقفوا عن العدو حتى دخلوا منازلهم في وشنطون.
ودخلت فلول المنهزمين المدينة في حال شديدة من الذعر والهلع، وطافت بالناس الشائعات أن المدينة واقعة لا محالة في أيدي الجنوبيين، فألقى الرعب في قلوب السكان وبخاصة حينما وقعت أعينهم على أكثر من ألف من الجرحى، وحينما علموا أنه قد قتل في هذا اللقاء الأول خمسون وأربعمائة.
ولو أن أهل الجنوب تقدموا غداة انتصارهم لأخذوا المدينة، ما في ذلك شك، ولكنهم نكصوا ورضوا من الغنيمة بفرار خصومهم على هذا النحو، وحسبوا أنهم بعد ذلك أحرار فيما يفعلون فلا خوف عليهم من أهل الشمال، ثم إنهم قد خيل إليهم أن عدد أعدائهم يبلغ خمسين ألفا أو يزيدون، مع أنهم لم يتجاوزوا ثمانية عشر ألفا.
وكثيرا ما يكون التاريخ في تطوره رهينا بحادث صغير، ومن أروع الأمثلة على ذلك وقوف أهل الجنوب عن الزحف على وشنطون، ولو أنهم فعلوا لكان للولايات المتحدة وجود غير هذا الوجود، وتاريخ غير هذا التاريخ.
وكذلك كان يتغير وجه التاريخ لو أن القنوط يومئذ تمكن من نفوس الناس، ولولا أن كان على رأسهم أبراهام لذهبت ريحهم وخارت عزائمهم وتفرقت كلمتهم، فلقد صمد ذلك الصنديد للنبأ كشأنه في كل ما مر به من الحادثات، ولئن ابتأس للهزيمة وتحسر على الفشل في أول لقاء علق عليه الكثير من آماله، فإنه صبر وصمم ألا يني عن الجهاد مهما بلغ من هول الجهاد.
وسرعان ما سرت روح ابن الغابة في الناس، فعادت إليهم ثقتهم بأنفسهم، وازدادوا حماسة على حماسة، فما يقر لهم قرار بعد اليوم حتى يغسلوا عن أنفسهم هذه الإهانة الجديدة، وينصروا حقهم على باطل أعدائهم.
ولقد استطاعت قوة الشماليين البحرية بعد ذلك أن تستولي على حصنين بالساحل في موانئ أهل الجنوب، كما استطاع القائد ماكليلان أن يفصل بقوته البرية الجزء الغربي من فرجينيا عن جزئها الشرقي ويضمه إلى الاتحاد، وكان أكثر أهله ممن يرفضون الانسحاب من الاتحاد، فكان ذلك ردا على الهزيمة في معركة بول رن.
وكان لنكولن قد دعا الكونجرس ليشاور ممثلي الأمة في الأمر، وليطلعهم على الموقف من جميع نواحيه، ولقد بعث إلى الكونجرس برسالة كانت من خير ما كتب من الرسائل، تناول فيها كل ما يهم الناس يومئذ معرفته.
بدأ لنكولن يسرد الحوادث حتى انتهى إلى موقف أهل الجنوب، فذكر أنهم وضعوا البلاد بين أمرين: فإما الحرب وإما تفكك الاتحاد. ثم قال إن الأمر لا يقف عند هذه الولايات المتحدة، بل إنه ليتعداها إلى مبدأ عام هو مبلغ نجاح الحكومات الديمقراطية القائمة على إرادة الشعب.
ولقد كان لنكولن جد موفق في إشارته هذه إلى ذلك المبدأ العام، كما كان يصدر في ذلك عن طبع، فهو من أشد أنصار الحرية ومن كبار العاملين على تقرير سيادة الشعب.
وتكلم الرئيس عن الولايات الوسطى التي تظاهرت بالحياد، فقال: «إنها تقيم سدا لا يجوز اختراقه على الحد الفاصل بيننا ، ومع ذلك فليس هو بالسد الذي لا يخترق، فإنها تحت ستار الحياد تغل أيدي رجال الاتحاد، بينما هي تبيح الطريق في غير تحرج للأمداد ترسل من بينهم إلى الثوار، الأمر الذي ما كانت تستطيع فعله أمام عدو صريح.»
ورد الرئيس على دعوى جفرسون دافيز زعيم الولايات الجنوبية، الذي يقول إن مبدأ الانسحاب حق يبيح القانون الحرب من أجله، ولقد عد الرئيس هذه الدعوى من لغو الكلام، قال: «إن الستار الذي يستترون وراءه وهو أن ذلك الحق المزعوم لا يستعمل إلا مع وجود مبرر عادل، بلغ من التفاهة حدا لا يستحق معه أية ملاحظة، وهم سيكونون الحكم في عدالة ذلك المبرر أو عدم عدالته.»
وكان رد الرئيس على جفرسون من الخطوات التي ارتاح لها أهل الشمال، فلقد أشفقوا أن تجد مزاعم جفرسون سبيلها إلى قلوب الأغرار والأغفال.
ثم أهاب الرئيس بالكونجرس أن يمده بالمال والرجال، فهو في حاجة إلى أربعمائة مليون من الدولارات وأربعمائة ألف من الرجال، وسرعان ما أجابه الكونجرس إلى ما طلب في حماسة جعلته يزيد العدد في المال والرجال عما طلبه الرئيس.
وأيقن الناس في طول البلاد وعرضها، وقد رأوا من صلابة الرئيس وعزمه ما رأوا، أن الحرب سيطول أمرها، فتألفت في البلاد كلها جماعات للنجدة، حتى لكأنما نسي الناس أحوالهم فليس ما يشغل أذهانهم ويستدعي جدهم ونشاطهم إلا هذه الحرب.
ولقد تغلغلت تلك الروح في جميع الطبقات؛ الكوخ والقصر في ذلك سواء، والقرية الحقيرة لا تفترق فيه عن المدينة العظيمة، وأصبح النشيد الذي يتردد على كل لسان ذلك الذي جعل مطلعه: «نحن قادمون إليك يا أبانا أبراهام ... ستة آلاف من الأشداء ... نحن قادمون.»
والرئيس لا يعرف الراحة ولا يذوق طعمها، يصل إلى ديوانه في الصباح الباكر قبل أن يطرق البيت الأبيض أحد، ويظل هناك حتى يهبط الليل فيقضي طرفا منه بين أوراقه، وامرأته تضيق بذلك وتعلن إليه غضبها، ولكنه في شغل عنها بما هو فيه من عظيمات الأمور، وأنى له في مثل ذلك الموقف بلحظة من هدوء البال!
هكذا وقفت أمة واحدة فئتين تقتتلان؛ فهنا الوحدة والحرية، وهنالك الفرقة والعبودية، وهنا وهناك من مظاهر الحماسة والتضحية ما يضيع في ضجيجه وصخبه صوت الحق ويتبدد دعاء الإنسانية. وكانت الدماء التي تجري على الأرض دماء شعب واحد، فمن كل قاتل ومقتول صورة جديدة لقابيل وأخيه هابيل.
كان البيض في الشمال يبلغون قرابة عشرين مليونا، وكانت عندهم الصناعة والتجارة الخارجية، وكانوا يعتقدون أنهم يدافعون عن حق، ويناضلون في سبيل غاية ترتخص لها الأموال والأنفس، فهم يمسكون بناء الوحدة الذي أقامه أجدادهم الأولون.
وكان اعتمادهم في الحرب على المتطوعين الذين تمتلئ قلوبهم حماسة وإن كانت تعوزهم الخبرة بفنون الحرب وأساليب القتال، كما كان لأسطولهم بأس وأثر قوي في مغالبة أهل الجنوب ومضايقتهم.
ولكن هؤلاء الشماليين كانوا في حاجة إلى مهرة القواد الذين يمشون إلى النصر من أقرب سبله، ولقد ظل لنكولن زمنا ليس بالقصير يبحث عن نفر من القواد يركن إليهم ويطمئن إلى كفايتهم، حتى كاد اليأس يشيع في النفوس لولا ما كان من صدق عزمه وبعد همته.
وكان البيض في الجنوب لا يزيدون عن خمسة ملايين، ولكنهم كانوا أوفر عدة بما تسرب إليهم على أيدي بعض وزراء بوكانون منذ انتخب للرياسة لنكولن، وكذلك كانوا أكثر مالا.
وكانوا قد اتخذوا الأهبة للكفاح فأعدوا ما استطاعوا من قوة ودربوا جنودهم منذ أن انتخب أبراهام، في حين لم يتأهب الشماليون ولم يدربوا أحدا.
وكانت أهم ميزة امتاز بها أهل الجنوب وجود عدد من أكفأ القواد على رأس جيشهم، ومن هؤلاء «لي» الذي انحاز مع ولاية فرجينيا إلى الجنوبيين بعد أن انسحبت هذه الولاية من الاتحاد.
وكان يطمع الجنوبيون أن تدب الفرقة بين الشماليين فتذهب ريحهم ويفشلوا، وكذلك كانوا يطمعون أن يقع ما ليس في حساب أحد فتتدخل في الحرب قوة أجنبية، وأقرب الدول إلى التدخل إنجلترة؛ وذلك لأن حصار الشماليين موانئ الجنوب يمنع وصول مزروعاته وخاماته إليها.
في البيت الأبيض
ما كان للرئيس أن يركن إلى الراحة ولو شيئا قليلا حتى يؤدي رسالته ؛ لذلك فهو يجعل للعمل وقته جميعا لا يكاد يدعه لحظة، وكان له في جهاده الأكبر خير عون من عافيته وقوة بدنه؛ فلقد بنته الغابة كما تبني دوحاتها العظيمة، كأنما كانت تهيئه لهذه العظائم.
وكثيرا ما كان يستعين على همه بالضحك وبما يأخذه الجاهلون بحقيقة أمره على أنه ضرب من اللهو وعدم المبالاة، وما كان إلا تعلة يمسك بها نفسه أن تذهب حسرات. كان مرحه وضحكه وما يسرد في أحلك الساعات من نكاته وأقاصيصه تجلد القوي يستكبر أن يذعن للهم، ويحب أن يوحي القوة والأمل إلى كل من يرونه!
ولم تكن الحرب وحدها هي كل ما يحمل الرئيس من عبء؛ فلقد كان له ممن يعملون معه من الرجال، كما كان له من اختلاف الأحزاب وتبلبل الرأي العام؛ أثقال فوق أثقاله.
وهناك فوق ذلك موقف الولايات الوسطى التي عرفت باسم المحايدة، فكان يخشى الرئيس أن تنضم إلى الاتحاد الجنوبي فتزيدهم قوة وعزما، ولن تكون تلك القوة في الوقت نفسه إلا خسرانا لأهل الشمال.
ثم هناك موقف أوروبا من هذا النزاع، وهو أمر له خطره، يحسب الرئيس له ألف حساب، وإن كان سيوارد لا يرى له أول الأمر ما يراه الرئيس من خطر. •••
لم يترك الناس رئيسهم كي يتفرغ لقضيتهم الكبرى، فقد راح الكثيرون منهم يطرقون بابه يرجونه ويسألونه إلحافا؛ فهذا ممن ساعدوا الحزب الجمهوري يطلب من طريق خفي أن يكافأ على خدماته، وذاك يطلب وظيفة يأكل من راتبه فيها، أو يدفع إليه ظلامة، أو يوصيه بقريب له، أو يشتكي إليه حاكما من الحكام!
جانب من حجرة الرئيس في البيت الأبيض.
الرئيس أبراهام لنكولن.
والموظفون في البيت الأبيض يعجبون من هذا الرئيس الجديد الذي لا يجعل كبير فرق بين قاعة الحكم هناك وبين حجرة مكتبه في سبرنجفيلد!
وقد جعل الرئيس للناس يومين كل أسبوع يلقاهم فيهما، لا يوصد بابه في وجه أحد، وإنه ليستمع إلى كل ذي حاجة، فإن استطاع أن يعينه على أمره دون أن يجور على القانون، فعل ذلك في غير تردد أو تكره، وكثيرا ما كان يجعل الرحمة فوق العدل، إذا رأى نفسه بين أن يعدل فيقسوا أو يرحم فيميل بعض الميل، ولكنه في ذلك لا يسيء إلى الخلق أو يتهاون في قاعدة جوهرية، وحاشاه أن يفعل ذلك أو ما هو دونه.
ولن يضيق صدره أبدا بذوي الحاجات لديه، مع أنهم كانوا يلقونه على السلم، أو يقفون أمام غرفته صفوفا خلف صفوف، بل كثيرا ما كانوا يستوقفونه في الطريق ويزحمونه! وهو من الكاظمين الغيظ، ولن يستطيع قلبه الإنساني الكبير أن ينهر السائل فيزيده بؤسا على بؤسه وهو الذي عرف اليتم منذ حداثته، وذاق الشقاء ألوانا.
على أنه مهما بلغ من رحمته وبره بالمساكين، يعرف أساليب الماكرين إذا مكروا، فلا ينخدع بما يقولون وإنما يصرفهم بالحسنى، وإلا فبشيء من الشدة يشبه التأنيب ويراد به الزجر. دخل عليه رجل كسرت ساقه يسأله معاشا إذ قد كسرت في الحرب رجله، فسأله الرئيس أيحمل أية شهادة أو دليلا على صدق دعواه؟ ولكن الرجل لم يكن يحمل شيئا! فصاح به الرئيس قائلا: «ماذا؟ ليس لديك أية أوراق، أو أية شهادات، أو أي شيء يرينا كيف فقدت رجلك! ... فليت شعري ... كيف أتبين أنك لم تفقدها في فخ وقعت فيه وقد سطوت على بستان جارك؟!»
ويعجب القائمون على أمر الحكومة كيف يطيق الرئيس - وقد ملأت وقته الأحداث الجسام - أن يلقى هؤلاء الناس، ويستمع إلى مثل هذه الأمور الصغيرة، وكان جديرا به أن يكلها إلى غيره؟ ولكن، أليس هو من الناس؟ أليس خادم الجميع قبل أن يكون رئيس الجميع؟ وهل يغير المنصب ما فطرت عليه نفسه الكريمة من كريم الخصال؟!
ها هو ذا النجار الذي خرج من الغابة، تراه في البيت الأبيض ولم يزل هو هو؛ وداعة في قوة، وتواضع في عزة، ورقة في وقار ... ومن وراء ذلك قلب تسع رحمته شكوى الناس جميعا، قلب لا يتهنأ ولا يفرح إلا إذا صنع المعروف وأولى الجميل، فأفرح القلوب وأدخل عليها الهناءة.
وما كان أعظم الرئيس إذ ينزل إلى الشارع في الصباح الباكر فيستوقف أحد المارة قائلا: «نعم صباحك يا صاحبي ... ألم يصادفك أحد باعة الصحف؟ إن صادفك أحدهم فأرجو منك أن ترسله إلي.» وقد يعرف هذا أن الذي يرجوه هو الرئيس أبراهام لنكولن ... فيرد تحيته بقوله: «سعد صباحك يا أبانا أبراهام»، أو «طاب يومك يا أبا الناس!» وينطلق الرجل وفي نفسه كل معاني الإجلال للرئيس العظيم.
أما الرئيس فيعود لا إلى جناح إقامته وأسرته في البيت الأبيض، ولكن إلى جناح عمله في الناحية الجنوبية والصحيفة في يده، فما يفرغ من قراءتها حتى يشمر عن ساعديه قبل أن يحضر الموظفون، فيقرأ كثيرا من الأوراق، ويقطع برأي في بعض المسائل.
وما كان أعظم الرئيس وأجمل تواضعه حين كان يلقى في الطريق إلى حجرة الرياسة، أو إلى مقر أسرته، أحد معارفه ممن لاقاهم في مضطرب الحياة، فيصافحه في حماسة، ويناديه باسمه، ثم يضع يده على كتفه ويقف وإياه، ويضحك من فرط سروره إذ يسأله عن حاله وحال أسرته. ولقد يأخذه معه إلى قاعة الرياسة، فيذكر له الأيام الماضية، حتى ما يشعر الرجل أنه بين يدي رئيس الولايات المتحدة، فهذا الرئيس يقول له: «أتذكر إذ كنا ببلدة كيت وأنا أطوف بالبريد حين وقع لنا كيت وكيت؟» أو يقول: «أتذكر حين كنت أسحب الأبقار في الغابة ولقيتني ففعلنا كيت وكيت؟» أو يقول: «أتذكر حين كنت أترافع في كيت وكيت من القضايا، وحين كنت ترشدني وتعينني على أمري وتنصح لي؟»
وما كان أعظم الرئيس وأنبله حين كان الفقراء يستوقفونه في الطريق، فيقف ليستمع إليهم وليكلمهم كأنه أحدهم، فلا ترفع ولا كبرياء ولا غلظة.
ولن يستنكف الرئيس أن يطيل الحديث أحيانا عله يستطيع أن يكفكف بكلامه شيئا من دموعهم، ويخفف بالعطف عليهم بعض آلامهم. ولئن كانت له حيلة إلى إجابتهم إلى ما سألوا، فما هو عن ذلك بضنين.
ولقد كان ينكر عليه مسلكه هذا بعض موظفي البيت الأبيض، ولكنهم حين كانوا يزعمون أنه لا يليق بمن كان في مثل مركزه كان يغيب عنهم أنه لا مسلك غيره لمن كان له مثل قلبه، على أنهم لم يلبثوا أن أكبروا الرئيس وأعجبوا بخلاله، وأصبحوا لا يرون أي مأخذ عليه، وأصبح من المناظر المألوفة عندهم أن يدخل أحدهم ببطاقة للرئيس، فيراه ينهض بنفسه إلى خارج الحجرة يلقى مرسلها مرحبا ضاحكا، أو أن يروه يأتي بنفسه إلى الحاجب فينهره حين يسمعه يمنع طالبي الدخول عليه.
أما الوزراء وكبار الموظفين وقواد الجيش، فقد تعودوا أن يروا الرئيس يسعى إليهم أحيانا بدل أن يدعوهم إليه، وكثيرا ما كان يلتفت الواحد منهم، فإذا حاجبه مقبل يعلن إليه أن الرئيس على السلم، أو في الردهة في طريقه إليه.
ويدخل الرئيس فيجلس إلى مرءوسه يستفهمه عما يريد وينصت إليه، فإن كلمه مرءوسه في أمر فني كلام الأخصائي، لا يستنكف الرئيس أن يستوضحه وكأنه منه التلميذ حيال أستاذه، ويعجب المرءوسون من هذا الرجل الذي لا يدعي أبدا العلم في أمر يجهله، والذي يفهم ما يبين له في فطنة وسرعة. •••
أما أبهة المنصب والتمتع فيه بالحياة الدنيا وزينتها، فقد ترك الرئيس ذلك كله لزوجه، لعزوفه عن ذلك بطبعه أولا، ثم لانشغاله بما هو فيه من عظائم ما عرف تاريخ قومه مثلها قط.
وكانت ماري تضيق منه بانصرافه عنها إلى ما كان يشغل البلاد كلها، ولا تزال تعنف عليه وتغلظ له وهما في البيت الأبيض كما كانت تفعل ذلك وهما في سبرنجفيلد، وإنه لأهون عليه أن يقابل ما يقابل من عواصف هذه الحرب الأهلية، من أن يقابل عاصفة من حربها الأهلية الداخلية.
وكانت ماري تضيق أكبر الضيق بهذه الحرب التي تعصف بالبلاد؛ لأنها حرمتها كثيرا مما كانت تتمنى إقامته من الحفلات والولائم، فما يجدر كما يقول الرئيس أن تنصب معالم الفرح والموت يتخطف أبناء الأمة في الحرب الدائرة.
لهذا كانت تتطلع ماري إلى اليوم الذي تضع فيه الحرب أوزارها لتنصرف إلى ما منت به نفسها أعواما طويلة من الولائم والحفلات، فلقد أصبح حلمها القديم بالبيت الأبيض حقيقة واقعة، ولكن أف لهذه الحرب التي تكدر عليها صفوها كثيرا، وأخوف ما تخافه أن تنقضي السنوات الأربع والحرب قائمة تحول بينها وبين ما تشتهي.
وتجد ماري نفسها وسط مظاهر الجاه والأبهة، وتحس أنها ملكة ينقصها التاج إذ تنتقل في ردهات القصر وأفنائه وحجراته، وإذ تنظر إلى أثاثه ورياشه وما فيه من خدم وحراس وحجاب ووصيفات لها يتبعنها ويتقدمنها أينما سارت، وتكره ماري ألا يعبأ زوجها بهذا كلما وجهت الحديث إليه، ولقد يغيظها معابثا فيذكر الغابة وحياة الغابة، حتى لتهتاج وتوشك أن تصرخ، فيدعها لتوه فيما هي فيه من أبهة وزينة ويذهب ليلقى القواد والوزراء.
ويدع لها زوجها أحيانا أن تمتع نفسها بشيء من الولائم والحفلات في بعض المناسبات القومية، فإنها تستتر وراء هذه المناسبات وتأخذ ما تحب من متع الحياة، ويقرأ بعلها ما تلغط به صحف خصومه، فيخفي في نفسه ما لا يحب أو ما لا يجرؤ أن يبديه لها من العتب والملامة.
وكان يؤلم الرئيس ويكاد يفقده صبره أن يعلم أن ماري تتدخل فيما ليس من شئونها؛ فتتصل بالوزراء تشفع لفلان، أو تطلب تعيين فلان في أحد المناصب أو ترقيته، وبخاصة ذوي قرباها الذين أغدقت عليهم النعمة ومدت لهم أسباب الجاه.
كانت ماري تحب الملق وتطرب لعبارات الإطراء والثناء يزجيها إليها في غير خجل أو اقتصاد طلاب الحاجات، وسرعان ما كانت تعنى بأمرهم وتيسر لهم ما صعب عليهم من المسائل في دواوين الحكومة، وكان يندس بين هؤلاء بعض المتجسسين الذين اتخذوا الملق وسيلة إلى جمع الأنباء.
ولم يكن يعلم لنكولن إلا بالقليل مما تصنع، فلا يفعل في أكثر الأحيان أكثر من أن يبسط أمامها الصحف التي تعيب عليه ضعفه، وتعيب على زوجته تدخلها في شئون الدولة، ولقد يغلظ لها في القول أحيانا، فما كاد يفعل حتى يجن جنونها فيغادرها حتى يذهب عنها الغضب.
الرئيس وأسرته في البيت الأبيض.
بهذا وبغيره مما تفعل ماري حرم لنكولن من أسباب الراحة والعزاء ما كان حريا أن يجده بين يدي زوجته.
وكان لنكولن يطلب العزاء بعض الوقت في الجلوس إلى ابنيه ومداعبتهما، وكان لأبراهام عند مجيئه إلى البيت الأبيض ثلاثة بنين: روبرت وكان في الثامنة عشرة، وكان أبوه لا يلقاه إلا قليلا لوجوده في جامعة هارفارد؛ حيث كان يدرس القانون؛ وولي وكان فوق العاشرة بقليل؛ وتوماس أو تاد كما كان يسمى في البيت، وكان في نحو الثامنة.
وكان يتسلل لنكولن أحيانا إلى حيث يشهد بعض المسرحيات، وكان يحرص أن يذهب بصفته الشخصية في بساطة ودعة فليس معه إلا بعض الخلان.
ولقد يكون له في الموسيقى بعض ما يخفف همه، وفي الكتب مسلاة له أحيانا إذا خاف من وساوس النفس وأوهامها في ساعات الفراغ، إن كان ثمة له من فراغ!
جنون العاصفة!
لم يكد يمضي ثلاثة أشهر على اشتعال نار هذه الحرب الأهلية التي انبعثت شرارتها الأولى في الثاني عشر من شهر أبريل سنة 1861، حتى ماجت وشنطون بالمتطوعين، وأصبحت المدينة معسكرا عظيما.
ولكن الرئيس يعوزه القواد، وإنه ليطيل التفكير فيمن عساهم يصلحون للقيادة في هذا النضال الهائل. لقد كان على رأس القوات سكوت، وهو شيخ كبير ناهز الخامسة والسبعين، والموقف يتطلب قائدا فتيا يبث من روحه في قلوب جنده ويمشي بهم إلى النصر، ألا بئس ما يفعل لي! لقد رفض ما عرض عليه ثم انضم إلى الثائرين وأصبح أكبر قوادهم.
فكر الرئيس وتدبر، وأخذ يقلب الأمر على وجوهه، والرأي العام من حوله يزيد موقفه صعوبة، فلكل حزب رأي ولكل جماعة فكرة، ولحكام الولايات آراؤهم وإلا توقفوا عن إرسال الجنود.
والرئيس يتمنى أن يهيئ له الناس بسكوتهم أن يختار قواده على أساس الكفاية، ولكنهم لا يفعلون وهو لا يستطيع أن يغضب هاتيك الجهات في مثل هذه الظروف القاسية، بينما هو لا يستطيع كذلك أن يرضيهم جميعا.
ويستعرض الرئيس الموقف الحربي فيجد القائد ماكليلان قد وفق في أعماله في فرجينيا الغربية، ويسمع الثناء عليه من جهات كثيرة حتى لقد سماه بعض الناس نابليون الجديد؛ ولذلك يدعوه الرئيس إليه ويعينه قائدا عاما للقوات في فرجينيا.
وتتجه الأنظار كلها إلى القائد ماكليلان؛ فهو شاب في الرابعة والثلاثين، وفيه كثير من الصفات التي تحمل الناس على محبته، فله حسن السمت وهيبة الطلعة وروح الشباب، وله من صغر جرمه ما يشبه به نابليون، وكذلك له من صفات نابليون بريق عينيه وما يبدو من مضاء عزيمته وتوقد حماسته.
وسرعان ما تعظم شهرته حتى يجري اسمه على الألسن جميعا، وكم له في الحياة من أشباه ممن قامت شهرتهم على أوهام الجماعات، ولكن لعل الأيام تثبت جدارته، فإن الأعين والقلوب متفقة على الإعجاب به.
على أن للشباب نزعاته ونزواته، فهذا القائد يدل بجاهه من أول الأمر، ومرد ذلك إلى أنه بات يعتقد أنه الرجل الذي يستطيع أن ينقذ البلاد مما هي فيه، وشايعه في هذا الزعم كثير من الناس حتى بعض الوزراء، فلقد عظمت ثقة هؤلاء فيه حتى ليميلون إلى جانبه أحيانا إذا هو رأى من الأمر ما لا يراه الناس، والرئيس يتذرع بالصبر ويتغاضى عن ذلك في سبيل ما يعقد من الآمال على ما عسى أن يأتي به ذلك الشاب.
وأخذ القائد الشاب يدرب مائتي ألف رجل على حدود فرجينيا، وقام بذلك العمل على خير ما يرجى، ولكنه أطال التدريب وأطاله حتى تسرب الملل إلى الرأي العام فضاق بما يفعل، فإن الناس كانوا يستعجلون الزحف، وكذلك ضاق الرئيس ذرعا، ولكن ماكليلان يعد الناس أنه يستعد لحركة عظمى سوف تطفئ نار الثورة.
وشاع في الناس اسم قائد آخر هو فريمونت، أول مرشحي الحزب الجمهوري للرياسة عند نشأته، ولقد كانت له جهود محمودة في الجهات الغربية يومئذ، وكان لهذا الرجل قبل ذلك في الناس منزلته وخطره، وله في قلوب الساسة وأولي الرأي نفوذ كبير.
ولن يقل فريمونت عن ماكليلان اعتزازا وترفعا، فهو يحيط نفسه بفرقة من الحرس، ويرقى بعض الجند دون أن يرجع إلى الرئيس الذي هو بحكم منصبه القائد الأعلى لقوات الدولة. وكذلك يتباطأ فريمونت في الرد على البريد القادم من العاصمة، ولن يقف أمره عند ذلك، بل تأتي الأنباء أن فريمونت ينوي إقامة اتحاد ثالث في الجهات الشمالية الغربية!
ولكن الرئيس لا يصدق هذه الشائعات، فهو واثق قبل كل شيء من إخلاص الرجلين لقضية الاتحاد، وإلا فما كان ليضعهما حيث وضع مهما يكن من الأمر.
وأحاط فريمونت نفسه أول الأمر بجو من الكتمان، ولكنه ما لبث أن أذاع قرارا خطيرا اهتز له الرئيس وتبرم منه وضاق به؛ وذلك أن القائد أنذر أهل ولاية مسوري في آخر شهر أغسطس سنة 1861؛ أي بعد قيام الحرب بنحو أربعة أشهر، أنه منفذ قانون الحرب في الولاية؛ ولذلك فهو يحدد منطقة فيها يجعلها محرمة، فيعدم كل من يحمل السلاح فيها ضد حكومة الاتحاد، وكذلك يعلن القائد أن كل من تحدثه نفسه بالثورة من أهل الولاية جميعا يكون جزاؤه مصادرة أملاكه وتحرير عبيده إن كان له عبيد.
ارتاع لنكولن للقرار وتربد وجهه وأوشك أن ينفد صبره، وكان يلاحظ من رأوه ساعة أن علم به علامات الهم الشديد على محياه، ولكنهم رأوا كذلك أمارات العزم والصلابة ودلائل الحزم والثبات.
انزعج الرئيس لإثارة مسألة العبيد في تلك الآونة؛ فلقد جعل المبدأ الذي قامت عليه هذه الحرب من أول الأمر المحافظة على الاتحاد، حتى تكون قضية دستورية لا عيب فيها، وبذلك تجد سبيلها إلى القلوب، وتستنهض الهمم بما تثيره عدالتها من حماسة، ولا تدع سبيلا لأحد أن يتهم أهل الشمال بأنهم أوقدوا نار الحرب من أجل أغراضهم، وبدافع عواطفهم في مسألة الرق. وكذلك كان يتحاشى الرئيس إثارة تلك المسألة حتى لا تثور الولايات المحايدة وتنضم إلى أهل الجنوب، ويفقد الرئيس بذلك كل أمل في ضمها إلى جانبه، ومن تلك الولايات مسوري نفسها؛ فقد كان فيها كثيرون ممن يقتنون العبيد، وأهم منها وأعظم خطرا كانت ولاية كنطكي التي ينتمي إليها الرئيس منذ نشأته، ولقد بذل الرئيس كل ما في وسعه للمحافظة على مودة أهلها لتنضم إلى جانبه أو لتبقى على الأقل محايدة، فلموقعها الجغرافي في هذه الحرب شأن أي شأن.
ولكن هذه السياسة الرشيدة العاقلة التي جرى عليها الرئيس ما لبثت أن طاح بها ذلك القرار الطائش، فسرعان ما هاجت الخواطر في تلك الولايات المحايدة، وسرعان ما جزع كثير ممن يسلمون بنظام الرق من أهل الولايات الشمالية.
وعظم خطر هذا القرار حتى أصبح نقطة تحول جديد في الموقف كله. ونظر الرئيس فإذا هو تلقاء عاصفة شديدة من هياج الرأي العام، فإن دعاة التحرير وأعداء نظام الرق ما لبثوا أن هتفوا بالقائد الجريء الحازم، وراحوا يمتدحون خطته بقدر ما أخذوا يعيبون على الرئيس تردده، بل وخوره كما كانوا يزعمون!
وانطلقت الصحف تدعو الرئيس أن يقر فريمونت وأن يحذو حذوه؛ فيعلن قرارا عاما ينطبق على الولايات الثائرة جميعا، ولما وجدوا منه الإعراض والغضب، عصفت برءوسهم النزوات حتى لقد راح بعضهم يدعون إلى إرغام الرئيس على اعتزال منصبه ووضع فريمونت مكانه.
ويتطلع الرئيس بعينيه الواسعتين فإذا بوادر الفرقة والتنازع تكاد تقضي على قضية البلاد، وإذا العاصفة تشتد وتشتد، وإذا هو تلقاء أمر لا يقل خطرا عن الحرب الدائرة.
ولكنه الرجل الذي لم يعرف الفزع يوما ما، وهل يذكر أنه خاف العاصفة مرة حين كانت تنطلق مدوية عاتية فتهتز لها أرجاء الغابة، وتكاد تجتث من شدتها عظيمات الدوح؟ كلا، بل كان يقف منها موقف المتفرج، وذلك الموقف الذي ما كان يطيقه صبي في مثل سنه إلا إذا كان مثله من بني الأحراج الذين ألفوا ملاقاة العواصف.
لم يتردد الرئيس في العمل على إبطال قرار فريمونت، على الرغم مما بدا له من تحمس الرأي العام له، ومظاهرته إياه فيه على نحو ما بينا. ولقد كان من أبرز خلال أبراهام أنه كان لا يعرف التردد أو النكول إذا عقد النية على أمر اقتنع بصوابه ووثق من مقدرته على الاضطلاع به. وما جرب عليه من عملوا معه أنه صمم قط على رأي ثم انصرف عنه، وذلك أنه كان لا يصمم إلا عن بينة وطول أناة وحسن مشاورة، فإذا عزم أذعن له مرءوسوه طوعا وكرها، فما لهم من ذلك بد.
وتصرف لنكولن تصرف السياسي الحكيم، فكتب إلى فريمونت يشير عليه بأن يعدل قراره بنفسه، وأن يظهر للناس أنه يفعل ذلك من تلقاء نفسه، ولكن فريمونت لم يذعن لذلك وكبر عليه أن يتراجع.
ولم ير الرئيس بدا من أن يعلن قرارا يلغي به قرار فريمونت غير عابئ بدوي العاصفة في مسمعيه وفي نفسه، ولا وجل من تصايح الصائحين من دعاة التحرير.
وبذلك العمل الخطير الحازم قضى الرئيس على سبب خطير من أسباب التنابذ والفرقة، وكسب بذلك وقوف ولاية كنطكي إلى جانبه.
وما كان أبراهام، كما تقول عليه خصومه ومخالفوه في الرأي من أنصاره، متخذا بما فعل سبيلا رجعية، كلا، إنما هي السياسة الحكيمة تقضي عليه ألا يتنكب الطريق التي رسمها منذ شبت الحرب؛ ألا وهي جعل المحافظة على الوحدة أساس هذا الصراع القومي، أما مسألة العبيد فما هو عنها بغافل، وإنما يؤثر الأناة حتى تتهيأ الفرصة. •••
هذا ما كان من أمر فريمونت، أما ماكليلان فلقد ظل يدرب جيشه على حدود فرجينيا وهو لا يفتأ يرسل إلى الرئيس يطلب فرقا جديدة، ولا يفتأ يتبرم بأي استفهام يأتيه من قبل الرئيس عما هو عسي أن يفعله، ولقد كان هذا القائد يكره من الحكومة ما يعده تدخلا في شئونه، بل لقد كان يزدري أعضاء مجلس الوزراء ويرميهم بالغباء، أو كما يقول في تهكم: «إني أشاهد أكبر نوع من الأوز في هذا المجلس.»
ولقد بلغ به الذهاب بنفسه حدا جعل الناس يظنون به الظنون حتى ليحسبونه يتطلع إلى الرياسة، فهو ينتظر لا يعمل عملا حتى تواتيه الفرصة إلى انقلاب يأتي به على غرة.
ولكن الرئيس على الرغم من تلكؤ ماكليلان يعينه قائدا عاما للقوات بعد أن يترك سكوت العمل لكبر سنه.
ولا يقف صلف ماكليلان عند حد، فانظر كيف بلغ به الشطط كل مبلغ؛ فلقد ذهب الرئيس إليه مرة يستنبئه عن أمر، فتركه القائد لحظة قبل أن يلقاه! وشاع ذلك في الناس وأشارت إليه الصحف، واجتمعت الآراء على استنكاره، ولكن الرئيس العظيم لم يعبأ بما حدث، فما كان أبراهام بالذي تلهيه الأمور الشخصية عما هو فيه، ولم يزد على أن رد على فعل القائد بقوله: «إني لأمسك لماكليلان زمام جواده إذا هو جاءني بنصر.»
ولم يفطن الناس إلى حصافة ابن الغابة وبعد نظره وعمق سياسته، فإنه يدع القائد المدل الذي افتتن به الناس ويصابره حتى يعلم الناس حقيقة أمره؛ فإن سار إلى النصر فذلك ما يبغي الرئيس ويبغي الناس، وإن قعد عن ذلك وتبين أنه في مسلكه لم يكن إلا متلكئا، نبذه الناس وخلعه الرئيس في غير ضجة.
وحدث بعد ذلك أن ذهب الرئيس ومعه كبير وزرائه إلى مقر القائد فلم يجداه، فجلسا ينتظران حتى رجع، وأنبأه بعض الجند بانتظارهما إياه، ولكنه بدل أن يخف للقائهما صعد إلى غرفته وأرسل إليهما رسالة يأسف فيها لعدم استطاعته أن يراهما، معتلا بأنه متعب! واستشاط سيوارد من ذلك غضبا، ولكن الرئيس راح يهون الأمر، على أنه كف بعدها عن زيارة ذلك القائد المدل بنفسه. •••
وعادت العاصفة تهب من ناحية أخرى، وقدر على الرئيس أن يجد عنتا جديدا من الرأي العام، فقد راح الناس يأخذون عليه مسالك القول والعمل في مسألة جديدة، كانت نتيجة لما أدت إليه الحوادث بين حكومة الاتحاد الشمالي وبين الحكومة الإنجليزية.
كان يخشى لنكولن أن تسوء العلاقات بين حكومته وبين إنجلترة؛ إذ كانت الأنباء تنذر بذلك، فكثير من رجال الحكومة الإنجليزية كانوا يرون أن تعترف حكومتهم بالاتحاد الجنوبي كحكومة مستقلة؛ حتى يتسنى لإنجلترة أن تدخل سفنها الموانئ الجنوبية، وبخاصة موانئ القطن، دون أن يكون في ذلك تصادم مع قرار الحصار المضروب عليها من الشماليين. وأخذت الحكومة الإنجليزية تدعو إلى ذلك وتلح في الدعوة غير عابئة بما ينطوي عليه ذلك من تحد لأهل الشمال.
واشتد غضب حكومة الاتحاد الشمالي بقدر ما عظم فرح الجنوبيين؛ إذ كان كل فريق ينظر باهتمام شديد إلى ما عسى أن يحدث من جانب إنجلترة. وبلغ من استياء سيوارد أنه كتب احتجاجا عنيفا إلى الحكومة الإنجليزية، لم يخفف من عنفه ما أدخله عليه الرئيس من تعديل؛ فلقد كان يحرص الرئيس أشد الحرص على أن يفوت على الجنوبيين ما يأملونه من انضمام إنجلترة إليهم .
وفي هذا المأزق الشديد يأتي أحد القواد البحريين من الشمال عملا تزداد به الأمور تحرجا، حتى ليحسب الناس أن الحرب واقعة بين إنجلترة والولايات الشمالية ما من ذلك بد.
وبيان ذلك أن القائد البحري ولكس داهم سفينة إنجليزية كانت تحمل رسولين من قبل الولايات الثائرة: أحدهما إلى إنجلترة والثاني إلى فرنسا؛ ليسعيا سعيهما لدى الحكومتين الإنجليزية والفرنسية كي تأخذا بيد الاتحاد الجنوبي، وأرغم ولكس الرسولين على النزول من السفينة وأسرهما، على الرغم من احتجاج قائدها.
ووصلت الأنباء إلى واشنطون فراح الناس يعلنون إعجابهم بولكس ويثنون على عمله، وما لبثت أن انهالت عليه رسائل الإعجاب والثناء، ولقد أثنى عليه فيمن أثنوا المجلس التشريعي نفسه، وكثير من الزعماء ورجال الصحافة، وهكذا ينحاز الرأي العام إلى ولكس كما انحاز إلى فريمونت من قبل، لتزداد الأمور بذلك تعقدا وخطرا.
أما عن موقع النبأ في إنجلترة، فلك أن تتصور مبلغ ما أثار من سخط واستنكار في ظروف كتلك التي تتحدث عنها، وكذلك كان للنبأ في فرنسا موقعه الشديد وأثره السيء.
اعتبرت إنجلترة هذا العمل من جانب القائد ولكس إهانة للعلم البريطاني، الذي كان يخفق في سارية تلك الجارية التي كانت تحمل الرسولين، وأسرعت لندن فأرسلت احتجاجها إلى وشنطون وأنذرتها أنها تقابل العدوان بمثله إلا أن تتلقى الترضية الكافية! ولن ترضى إنجلترة بأقل من إطلاق الرسولين وعدم التعرض لها أينما اتجها، ثم الاعتذار عما حدث.
عندئذ اشتد هياج الولايات الشمالية، ورأت في إنذار إنجلترة إياها على هذه الصورة معاني الإذلال وسوء النية وقبح استغلال الحادث، وأصر الناس على المقاومة مهما يكن ثمنها. وأمدت إنجلترة حامية كندة، وأخذت الولايات تزيد في قوة ثغورها الشمالية، ودوت العاصفة في أذني الرئيس وفي نفسه من جديد، فلن يرضى الناس إلا بإعلان الحرب.
على أن بعض العقلاء استطاعوا أن يطيلوا الوقت المحدد للإنذار بضعة أيام؛ عل أهل الولايات وخصومهم في إنجلترة يجدون حلا تحقن به الدماء.
وأخذ الوقت يتصرم، ولكن أهل الولايات مصرون على موقفهم لا يثنيهم عنه شيء! ورئيسهم ووزراؤه يتفكرون في هذا الخطر الداهم، وكان سيوارد يميل إلى خوض غمار الحرب ضد هؤلاء الإنجليز، الذين تنطوي قلوبهم على الحقد والحنق منذ خلعت الولايات الأمريكية نير إنجلترة في عزة وإباء.
وهكذا يجد لنكولن نفسه في شدة ما مثلها شدة؛ فهو بين أن يجاري الرأي العام، وبذلك يجر على البلاد حربا خارجية طاحنة تأتي مع الحرب الداخلية القائمة في وقت واحد؛ أو يطلق الرسولين ويقضي على أسباب الخلاف بينه وبين إنجلترة؛ وبذلك يجنب البلاد خطرا محدقا، وإن تعرض بعدها للوم اللائمين وسخط الساطين واتهامات المبطلين.
ولكنه لنكولن الذي لا يعرف الخور والذي لا يطيش في الملمات صوابه، إنه الرجل الذي تزداد عزيمته مضاء بقدر ما تزداد الحادثات عنفا وخطرا، والذي تزداد قناته صلابة كلما ازدادت الخطوب فداحة والأعباء ثقلا واستفحالا.
عقد أبراهام مجلس وزرائه وأخذ يناقش الأعضاء ويناقشونه، وهو من أول الأمر لا يؤمن بعدالة ما فعله ولكس، وبعد جهد استطاع أن يحمل المجلس على قبول رأيه، ثم أعلن بعدها في شجاعة وحزم إطلاق الرسولين! وأجاب على إنذار الحكومة الإنجليزية برسالة متينة، جاءت دليلا قويا على حكمته وبعد نظره، رسالة احتفظ فيها بكرامة بلاده وعزة قومه، وجنبها بها في الوقت نفسه خطرا ما كان أغناها عنه يومئذ.
ذكر لنكولن في رده على الحكومة الإنجليزية أنه إنما يعتذر عما حدث لأنه يتنافى مع مبادئ أمريكا نفسها، ولئن كان ما فعله ولكس عدوانا، فإن حمل إنجلترة رسولين من الجنوبيين في سفينة من سفنها عمل فيه معنى العدوان؛ وذلك لأنه خروج على مبادئ الحياد.
وما كان لإنجلترة أمام هذا المنطق القوي وهذا العمل المنطوي على الشجاعة والكياسة، إلا أن تبدي ارتياحها، وإن كانت لتخفي غيظها من إفلات الفرصة التي كانت تؤدي بها إلى محاربة الولايات الشمالية، وقلما واتت إنجلترة فرصة لتعكير المياه إلا عكرتها؛ لأنها تحسن الصيد في الماء العكر.
ولكن الرئيس لقي في بلاده من السخط والاستياء ما لم يكن يقوى على مواجهته غيره، ولو كان في مكانه غيره لخيف على مكانته في القلوب أن تتزعزع؛ فلقد أخذ يرتاب فيه حتى أشد أنصاره تحمسا له، أما المبطلون فقد وجدوا فرصة يصفون فيها عمله بالجبن والخور.
ولكنه بينه وبين نفسه يعتقد أنه أسدى صنيعا إلى قومه لا يدركه إلا العقلاء، الذين لا يجعلون للعواطف في كل وقت سلطانا على أعمالهم. قال مرة يرد على الساخطين: «لقد حاربنا بريطانيا العظمى مرة لأنها فعلت عين ما فعله الكابتن ولكس، فإذا ما رأينا إنجلترة تحتج على هذا الفعل وتطلب إخلاء سبيل الرسولين، فواجبنا ألا نخرج على مبادئنا التي ترجع إلى عام 1812، يجب أن نطلق هذين السجينين وحسبنا حربا واحدة في وقت واحد.»
ومضى الرئيس بعدها يؤدي للإنسانية وللوطن رسالته، وإننا لنرى هذا الجبار الذي درج من بين الأحراج والأدغال يحمل العبء وحده في الواقع، بل إنه كما ذكرنا ليلاقي مما يفعل كثيرا من أكابر رجاله أعباء تضاف إلى أعبائه، ولكنه معود حمل الأعباء ومواجهة الأنواء.
وإنه ليسأل نفسه: ألم يأن لهؤلاء الرجال أن يعملوا كما تحتم الظروف؟ وماذا كان يضير فريمونت لو أنه رجع إليه؟ ثم ماذا كان يضير ماكليلان لو أنه خفض جناحه وألان جانبه وأخذ الأمور بالشورى؟
على أن العاصفة لا تهدأ في جهة إلا لتنبعث من جهة أخرى؛ فها هو ذا قائد آخر يفعل مثل ما فعل فريمونت أو أشد منه، وذلك هو هنتر الذي كانت له القيادة في كارولينا الجنوبية.
كان هنتر أكثر جرأة من فريمونت أو على الأصح أكثر نزقا، فلقد أعلن أن العبيد في فرجينيا وفلوريدا وكارولينا الجنوبية أحرار بعد اليوم إلى الأبد.
وهال الرئيس هذه الخطوة البالغة الجرأة، فلم يسعه إلا أن يعجل بنقض هذا القرار في غير مجاملة أو هوادة؛ فلقد كان هنتر خليقا أن يعتبر بما كان من أمر صاحبه فريمونت. وكان مما أعلنه الرئيس قوله: «إن حكومة الولايات المتحدة لم تمنح القائد هنتر، ولا أي قائد أو شخص سواه، من السلطان ما يعلن معه تحرير العبيد في أية ولاية من الولايات، وإن هذا الإعلان المزعوم سواء أكان حقيقيا أم زائفا، هو إعلان باطل.»
ولكن الرئيس لا يكاد ينتهي من نزق إلا ليواجه نزقا غيره، وما يذكر ابن الغابة أنه شهد في مجاهل الأرض، حيث نبت ونما، عاصفة متعددة نواحي الهبوب كهذه العاصفة التي يواجهها، فها هي ذي تنذر بهبة جديدة؛ وذلك أن وزير حربيته نفسه، كامرون، يرسل رسالة إلى بعض الضباط شبيهة بما أعلن فريمونت وصاحبه هنتر! ولولا أن تدارك الرئيس الأمر لأحدثت من سوء الأثر ما يصعب بعد علاجه، فلقد أبرق إلى مكاتب البريد لترد نسخ تلك الرسالة المطبوعة، وحال بذلك دون وصولها إلى وجهاتها.
ألا ليت هؤلاء يفطنون إلى أن رئيسهم أشد عداوة منهم للرق، وأنه يتمنى بينه وبين نفسه لو قضى عليه بكلمة يحبسها في نفسه، وأنه لأكثر منهم تحرقا إلى ساعة إعلانها.
الربان
بدأ العام الجديد؛ أي عام 1862، وقد مضى على قيام الحرب نحو ثمانية أشهر ولا يزال ماكليلان حيث هو لا يعمل أكثر من تدريب جنده، ولا ينفك يطلب فرقا جديدة، وقد بلغ السأم بالرئيس وبالناس كل مبلغ من تردده وتلكؤه، ولكن الناس لا يزالون يعلقون عليه أكبر الآمال.
وحق لأهل الولايات الشمالية أن يضيقوا بهذا الركود، ولولا أن جاءتهم أنباء بشيء من التوفيق صادفه أحد قوادهم، وهو القائد جرانت في جنوبي كنطكي، لأوبق أرواحهم هذا الركود؛ فقد استطاع هذا القائد - الذي سوف يلتمع اسمه شيئا فشيئا حتى يصبح بطل هذه الحرب - أن يأخذ عنوة حصنين من حصون الجنوبيين، وأن يرغمهم على التراجع في شهر فبراير.
ولما أن يئس الرئيس من ماكليلان، رأى أن الموقف يقضي عليه أن يدرس فنون الحرب والتعبئة! أليس هو بحكم مركزه القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية؟ وإذن فعليه أن يتعلم فن الحرب اليوم كما تعلم مسح الأرض من قبل وتخطيطها، وكما تعلم القانون حتى حذقه، بل كما تعلم القراءة والكتابة قبل ذلك جميعا وهو يشق الأخشاب في مطارح الغابة.
شمر الرئيس عن ساعده وراح يدرس ويتعلم لا يني ولا يكل ساعات طويلة من النهار وساعات من الليل . الخريطة مبسوطة أمامه، ومعلموه الحربيون يتناوبون تعليمه الواحد بعد الآخر حتى فهم بعض الفهم وأصبح له شيء من الرأي! يا عجبا لهذا العبقري الجبار الذي يحمل فوق كتفيه ما كان ينوء بحمله أطلس أو آخيل.
واستطاع الرئيس بعد زمن أن يدلي للقواد برأي في فنهم، ولكنه كان حذرا يعرض الفكرة ويترك القطع للقائد الذي أرسلت إليه. ولقد كتب ذات مرة إلى أحدهم برأيه ثم شدد عليه ألا يتقيد به، قائلا إنه يلومه أكبر اللوم إن تحيز له أو تردد في العمل بما تمليه عليه خبرته إذا كان ذلك الرأي لا يتفق وهذه الخبرة.
على أنه يكتب لماكليلان نفسه ذات مرة يشير عليه بما يجب أن يعمل في خطة رسمها على أساس من الفن، ولما رد ماكليلان عليه برفض تلك الخطة لم يقره الرئيس، وعاد فكتب إليه يسأله أسئلة تدل على فهم دقيق وإلمام شامل، ودعاه إلى أن يجيب على تلك الأسئلة الفنية إجابة صريحة نزيهة، وهو مستعد بعدها أن يقره، ثم تحاكما إلى أخصائيين، فما زال الرئيس يدلي لهم بحججه ويريهم أن خطته أضمن وأسلم من خطة القائد ماكليلان، ولكنهم آخر الأمر أقروا خطة القائد، ولم يسع الرئيس إلا أن يذعن وإن كان لا يزال يرى وجاهة آرائه.
وتعجب ماكليلان وتعجب الناس معه من هذا المحامي الذي يدلي برأي في الخطط الحربية، كأنه من أصحاب الحرب وممن لهم بفنونها خبرة، وما عرف عنه أنه شهد حربا من قبل، اللهم خلا تلك المعركة الصغيرة التي اشترك فيها وهو في صدر شبابه ضد الصقر الأسود.
ولكن الذين يؤمنون بسر العبقرية لم يروا في الأمر عجبا، وكذلك كان الذين تربطهم بالرئيس صلة من كثب، والذين رأوا رجاحة عقله وسلامة منطقه وقوة لقانته. ومن ذا الذي يقول إن الكتب هي التي أوحت إلى نوابغ العالم في شتى مناحي الحياة ما أتوا به من المعجزات؟ إنما يسير هؤلاء على نهج من فطرتهم وعلى هدي من نور عبقريتهم.
وهل التوت الأمور على ذلك الرجل في السياسة ولم تكن له بأسبابها من قبل صلة؟ أولم يحمل الذين أشفقوا أول الأمر من رياسته على الإعجاب به ثم على محبته والإجلال له؟ وإذا كان هذا شأنه في السياسة ولم يتعلمها، فلم لا يكون كذلك في أمور الحرب، وقد استعان بالأخصائيين في تعرف مداخلها بادئ الرأي؟
أخذت الأزمة تشتد في الميادين، وذلك بتوالي الهزائم على أهل الشمال؛ إذ كان هؤلاء ينقصهم القادة القادرون، ولولا أن كان لهم لنكولن في كرسي الرياسة يومئذ لحاق بهم الفناء، ولقد شهد الذين تتبعوا أطوار هذه الحرب حتى نهايتها أن النصر فيها كان مرده إلى شخص الرئيس وقوة يقينه، فلقد كان وحده جيشا مغالبا، وكان وهو رجل أمته وحده أمة في رجل!
وظل ماكليلان على حاله يدرب جنده ويطلب المزيد من الفرق، والرئيس صابر لا ينفد صبره وإن أوشك أن ينفد صبر الناس، فلقد باتوا جميعا يستعجلونه بالزحف على رتشمند عاصمة الجنوبيين.
ومع أن الرئيس أمره بهذا الزحف في نهاية شهر يناير سنة 1862؛ أي بعد نحو تسعة أشهر منذ بدأت الحرب، فإنه لبث في مكانه حتى شهر مارس، ثم أخذ يتحرك ولكن في حذر وبطء؛ مما دعا الرئيس أن يطلب إلى وزير الحرب أن يستحثه؛ لأنه أوشك أن ينفد صبره عليه، ولكن ما كان أعظم دهشتهما إذ كتب إليهما ذلك القائد يطلب المزيد من الرجال؛ لأن العدو متكاثر أمامه! •••
وفي مثل هاتيك الظروف التي كانت تتطلب من الرئيس ما أشرنا إليه من صبر وجهد، يأبى القدر إلا أن يصوب إليه سهما يصمي مهجته، ويوشك أن يذهب بلبه ويزعزع فؤاده؛ فلقد غالت المنية ابنه ولي، ولقد كان مع أخيه يواسيان الجند في مستشفى من مستشفيات الحرب، فسرت إليهما العدوى ولم يقو الصغير على المرض فذوى كما تذوي الريحانة الغضة.
الرئيس الحزين.
لقد ارتاع الرئيس ووهى جلده أمام هذه المصيبة، ورأى الناس ذلك الجبل الشامخ يتمايل ويتخاذل من الوهن ولا يستطيع أن يخفي عن الناس جزعه وحزنه، وإنه ليجهش كما يجهش الصبي وفي عينيه حزن وحسرة وفي وجهه كدرة وصفرة. قال لمن حوله ذات مرة: «لقد أذهلتني هذه الضربة، ولقد أطلعتني على ضعفي في صورة لم أر مثلها من قبل.» وقال لصديق له بعد ذلك: «ألم تر في منامك ذات مرة صديقا عزيزا عليك، وشعرت أنك تنعم بلقاء حلو مع هذا الصديق، في حين أنه كان يمازج شعورك هذا شعور آخر حزين بأن ذلك اللقاء لم يكن حقيقة؟ ... هذا يا صاحبي هو حالي، فعلى هذه الصورة أحلم بلقاء ولدي ولي.» وعلم من الممرضة أنها فقدت زوجها وولديها، فسألها هذا الطود الذي يحمل أعباء قومه كيف تحملت هاتيك المصائب؟ فأجابته أنها تحملت ضربات الدهر ضربة ضربة، وأنها تثق في رحمة الله، فمنه تستمد العزاء والسلوان ... وهنا يجيبها الرجل العظيم الشديد البأس إنه سيحاول أن يتعلم منها الصبر، وأنه لم ييأس من رحمة الله، وأن الله سوف يهبه العزاء، ثم يردف قائلا: «أتمنى لو كان لي مثل إيمان الأطفال، هذا الإيمان الذي تتحدثين عنه، وسوف يمدني الله به.» ويعود فيعبر عن مبلغ حزنه بقوله: «إنها أعظم محنة لاقيتها في حياتي. لم كان هذا؟! ... لم كان هذا ...؟!» •••
أجاب الرئيس ماكليلان إلى ما طلب وأمده بالرجال؛ لكيلا يكون للقائد حجة عليه، فلقد كان يشيع في الناس من أول الأمر أن عدم تحرك القائد إنما يرجع إلى أن الحكومة تضن عليه بالمال والرجال. ولقد كتب إليه الرئيس كتابا كان مما جاء فيه قوله: «أحسب أن القوات التي سيرت إليك قد بلغتك، وإذا كان الأمر كذلك فإنك الآن في الوقت الذي ينبغي أن تضرب فيه ضربة، إن العدو يكسب بتأخرك.»
ولم يسع القائد إلا أن يصرح في رسالة له أنه واثق بعد ذلك من النتيجة، وأنه آخذ من فوره في الزحف، ولكنه في الوقت نفسه راح يشتكي من المطر الهطال والمسالك الوعرة، فكان هذا جهد ما فعل.
ولم ير الرئيس بدا من أن يبرق إليه في الخامس والعشرين من مايو يقول: «أظن أنه قد أزف الوقت لكي تهاجم رتشمند، أو تدع هذا العمل جانبا وتأتي للدفاع عن وشنطون نفسها.»
وكأنما أراد ماكليلان في ذلك الوقت أن يكيد للرئيس، أو كأنما أراد أن يخلق مشاكل جديدة يتخذ منها علة لهذا الجمود، فكتب إليه ينتقد الموقف الحربي كله في جميع الميادين، بل إنه لم يقتصر على شئون الحرب فراح ينتقد الحكومة في جميع شئونها.
وتقدم القائد بعد ذلك إلى رتشمند تقدما بطيئا وذلك في شهر يونيو، وكان معه من الرجال والعتاد ما كان حريا أن يكسب به معركة كبرى كما أجمع النقدة فيما بعد، ولكن نابليون الجديد ما كاد يتصل بطلائع الجنوبيين حتى أزمع الارتداد بعد سبعة أيام في قتال غير شديد، ولقد هيأ بهذا التردد للجنوبيين أن يرسلوا المدد إلى جيش لهم كان في طريقه إلى وشنطون يريد تهديدها.
وتلقى وزير الحرب من ماكليلان رسالة فيها دليل يأسه وحيرته، قال: «لو أتيح لي عشرة آلاف أخرى لاستطعت أن أكسب معركة كبيرة في غد. ينبغي ألا تعدني الحكومة مسئولا، وإنها لن تستطيع ذلك. إذا أنا نجيت هذا الجيش فإني أقول لك في بساطة إني في ذلك لن أدين لك بشيء من الشكر، لا ولا لأي شخص في وشنطون، فلقد بذلتم قصارى جهدكم في تضحيته.»
وكان قائد الثوار الكبير، لي، في ذلك الوقت يزحف على وشنطون، وكان على الدفاع عنها بوب أحد قواد الشمال ومعه ثمانية وثلاثون ألفا من الرجال، ولكن جيش لي كان أكثر عددا وأشد بأسا، وتبين أن خير وسيلة لرد لي عن وجهته أن يبادر ماكليلان بالزحف على رتشمند، لا أن يتباطأ ويتراجع كما فعل.
ولما يئس الرئيس منه في هذا السبيل عاد فأرسل إليه يدعوه لحماية العاصمة، وهو لا يدعوه في لهجة الأمر كما كان عسيا أن يفعل غيره من الرؤساء، مخافة أن يغضب القائد في هذا الوقت العصيب، والناس يعجبون من تردد ماكليلان بقدر ما يعجبون من ضبط الرئيس نفسه على هذه الصورة، وطول صبره في موقف لو طاش فيه حلم الحليم لكان له عن طيشه العذر كل العذر، ولن يفوت الرئيس أن يضحك ليهون الأمر على نفسه وعلى الناس، فيقول ذات مرة لمن حوله: «إذا لم يكن القائد ماكليلان في حاجة إلى جيش بوتوماك، فإني أرجو منه أن يعيرني إياه فترة من الزمن.»
ورد ماكليلان على الرئيس بقوله إنه سوف يجيبه إلى ما طلب «إذا رأى الظروف تسمح به»، وكان ذلك في شهر أغسطس.
وعاد الرئيس فكتب يطلب إليه القدوم بكل ما في وسعه من سرعة. وأوفد إليه القائد هاليك يستحثه، ولكنه لم يأبه لذلك كله، ولم يصل إلا بعد قرابة شهر من هذه الدعوة.
وكان أمرا طبيعيا أن تنزل الهزيمة بالقائد بوب، وأن تبيت وشنطون معرضة للسقوط، ولقد عاود الذعر هذه المدينة على نحو ما حدث غداة الهزيمة في معركة بول رن، بل لقد كان الموقف يومئذ أشد هولا؛ إذ اختلفت وجهات النظر في مجلس الوزراء، واحتدم الجدل في المجلس التشريعي، وارتفعت الأصوات بطلب عقد الصلح مع الجنوبيين، الأمر الذي خيف منه أن يؤدي إلى انحلال العزائم.
ولكن لنكولن وحده بقي على عزمه وثباته، يعالج الموقف بالصبر والحزم، ويهيب بالرجال ألا يتخاذلوا وينكصوا على أعقابهم.
ولقد كان للناس من هذا الصبر وهذا الثبات مثل ما يكون من النصر في معركة، وبذلك قل فزعهم وعادت الثقة إلى نفوسهم ووقفوا إلى جانب رجلهم.
ثم إن الرئيس ضم عددا من الجيوش بعضها إلى بعض، وجعل منها جيشا جديدا وضعه تحت قيادة ماكليلان، وطلب إليه أن يقابل لي بهذا العدد الهائل الذي زاد عن مائتي ألف، ولكن ماكليلان لم يفعل، فأصاب أهل الشمال هزائم أخرى في أكثر من جهة.
ولقد كانت هذه السنة الثانية للحرب أسوأ الأيام التي مرت بالرئيس في حياته كلها، وأي شيء أكثر سوءا من الهزيمة والخذلان؟ وإن الرئيس ليخشى أن تنحل العزائم وتخور القوى، وبخاصة حين أحس الناس أن الحرب لا بد أن يطول أمدها ويشتد سعيرها، وها هو ذا تهامس الأمهات بدأ يصل إلى مسمعيه، وليته كان تهامس الأمهات فحسب، فإن كثيرا من الرجال قد أخذوا يبدون تململهم وتذمرهم، ويعلنون عن رغبتهم في وضع حد لهذه المحنة القومية.
وكان مما يكرب الرئيس ويوجع نفسه أن كثيرا من الناس كانوا يلومونه ويردون سبب الهزائم إليه، ويغفلون عما كان يفعل قواده وبخاصة ماكليلان، ذلك الذي كانت محبته والثقة به من أخطاء الجماعات وأوهامها.
رجحت كفة الجنوبيين في البر ولكنهم في البحر كانوا أذلة، وذلك أنهم لم يكن لهم مثل ما كان للشماليين من الجاريات المواخر فيه، ولقد استطاع أحد القواد البحريين، وهو فراجت، أن يسير في أبريل بسفنه إلى نيو أورليانز فيصليها من ناره ويأخذها عنوة، وكان انتصاره هذا وإذلاله أهل الجنوب على هذا النحو، مما خفف على الشماليين بعض ما راحوا يلاقونه في البر من هوان وذلة. ولسوف تكون هذه القوة البحرية في النهاية عاملا من أهم عوامل النصر، الأمر الذي لم يفطن إليه أهل الجنوب إلا بعد فوات الفرصة.
وظل الرئيس لنكولن في محنة قومه ثبت الجنان حتى لتتزعزع الجبال ولا يتزعزع، ولكنه كان مع ذلك رءوفا عطوفا يكره الحرب ويتألم منها أكثر مما يتألم الناس جميعا، ويتمنى أكثر مما يتمنى غيره أن تضع أوزارها في أقرب وقت؛ ولذلك كان ينكر على المتشددين تشددهم ولا يقر أحدا على قسوة أو يطاوعه في صرامة، فإذا أنس الرئيس من محدثه غلظة على العدو تجهم وأشاح عنه، في حين أنه كان يقبل على من يطلب إليه اللين والمغفرة، وهو يقول له وللناس جميعا إنه يمقت تلك الحرب من أعماق قلبه، وإنه ما دخلها إلا وهو موقن أنه شر لا بد منه، وما أراد بها إلا أن تكون علاجا لمعضلة باتت تهدد كيان بلاده، أما أن تكون انتقاما وعلوا في الأرض واستكبارا، فليس هو من ذلك في شيء.
وكثيرا ما كان يصدر من الأوامر ما يتعجب منه القواد ولا يشايعونه فيه وإن نفذوا ما يأمر به. قدموا إليه في تلك الأيام ورقة بشأن شاب كانت عليه الحراسة ووجد نائما في الخطوط، ليوقع عليها بإعدامه حسب قوانين الحرب، فنظر الرئيس في الورقة مليا ثم أمر فأحضر ذلك الشاب، وكان اسمه وليم سكت، ونظر إليه الرئيس وقال له: «لن ينجيك إلا الصدق فقل الحق، هل نمت في الخطوط؟ وما سبب نومك؟» فقال الفتى: «أجل نمت أيها الرئيس، فلم تكن على النوبة تلك الليلة، ولكني وجدت صاحب النوبة ينتفض من الحمى، وهو من بلد قريب إلى بلدي، فحملت السلاح عنه لأحرس الخطوط، فغلبني النوم، وقد كانت علي النوبة الليلة السالفة فقضيتها ساهرا، وعلى ذلك فلم أستطع السهر ليلتين متتاليتين.» وسأله الرئيس عن بلده وعن بلد صاحبه، فعرف البلدين وذكر طوافه بهما أيام كان يعمل في البريد، ثم سأل الرئيس القواد عن بعض ما جاء في كلام وليم، وأمسك القلم فصاح به الفتى: «من فضلك ... من فضلك أيها الرئيس لا تقتلني ... لا تقلتني.» فنظر إليه الرئيس وقال: «لن أقتلك وإنما أرسلك إلى الخطوط لتجاهد مع المجاهدين.» ونظر الفتى إلى الرئيس والدموع في مقلتيه، فقال له لنكولن: «ولكني أتقاضاك دينا على هذا، فماذا تصنع لسداد هذا الدين؟» فاضطرب الفتى ولم يفطن إلى ما يريد الرئيس، ثم قال في تلعثم وارتباك: «لست أدري ما إذا كان لدينا ما يكفي من المال لأداء هذا الدين، فنحن فقراء، على أن لدينا قليلا منه اقتصدناه، ويستطيع أبي أن يبيع مزرعته، وربما مد إلينا الأصدقاء يد العون، فنجمع بذلك ألفين أو ثلاثة آلاف من الفرنكات، فإذا انتظرت ...» وضحك الرئيس، وزاد عطفه على هذا الفتى، ولم يتكره له لجهله أو ينهره على غباوته، وقال له في رفق: «كلا يا بني، فإن ديني عظيم وليس أداؤه في طوق أسرتك ولا مزرعتك ولا أصحابك، وإنما هناك شخص واحد يملك أن يؤدي هذا الدين، وذلك هو وليم سكت، فإذا أدى وليم واجبه على خير ما يؤدي الجندي واجبه، واستطاع عند موته أن يقول «لقد وفيت بوعدي للرئيس لنكولن»، فعند ذاك يؤدي ما عليه من دين.» وأدى الفتى التحية ومضى إلى الخطوط، واحتج القواد، فقال الرئيس مغضبا: «أيكون جزاء مروءته الإعدام؟ إني لا جلد لي أن أفكر أنني ألقى الله ودم هذا الشاب المسكين على يدي.» وهكذا يأبى الرئيس أن يتقيد بقوانين الحرب، وما يستمد قوانينه إلا من قواعد الإنسانية.
لنكولن وماكليلان.
ونظر الرئيس بعد ذلك بأيام في أسماء القتلى فوقعت عيناه على اسم وليم سكت، فاكفهر وجهه وسأل كيف مات، فأخبر أنه كان يهجم هجوما شديدا على العدو بهر القواد جميعا، وما زال في هجومه حتى صرعته رصاصة، ووجد أصحابه ورقة علقها على صدره، وقد كتب عليها «ليحمي الله الرئيس أبراهام لنكولن»، وما سمع الرئيس حتى ذلك أسرع إلى حجرة قريبة، ودخل عليه بعض قواده بعد حين فوجدوه يبكي!
وعفا الرئيس مرة أخرى عن ضابط تأخر عن المعركة لأنه ذهب للقاء خطيبته، ولما احتج القواد قال لهم الرئيس ضاحكا، عفوت عنه لأني أفعل فعله لو كنت في مثل سنه!
وحمل إليه البريد فيما حمل من الكتب كتابا من سيدة تقول إنها أرسلت إلى ابنها كتبا كثيرة فلم يرد عليها، فإن يكن مات ففي سبيل وطنه، وإن كان لا يزال حيا فإنها تحب أن يكتب إليها، وإنها لتلجأ إلى الرئيس؛ إذ لم تبق لديها حيلة، وشكت الأم من غلظة ابنها إن كان حيا، وشرحت للرئيس كيف ربته بعد موت أبيه حتى تخرج ضابطا في المدرسة الحربية.
والرئيس خير من يدرك بقلبه الإنساني الكبير كيف تكون حال أم في هذا الموقف، فأرسل إلى قائد الفرقة التي حددتها الأم في كتابها يأمر بإرسال هذا الضابط إلى البيت الأبيض في غير إبطاء، ولما حضر الفتى أدخلوه على الرئيس فحيا ووقف أمام مكتبه دهشا، فقال له الرئيس في شيء من العنف: «قص علي يا فتى كيف تعلمت بعد وفاة أبيك ولا تخف عني شيئا إن كنت من الصادقين.» فقص الفتى عليه قصته كما جاءت في كتاب أمه، وقاطعه الرئيس يصحح له واقعة فقال: «وماذا بعتم أيضا غير متاع البيت، وكان بيعه شديدا على نفس أمك؟» وتفكر الفتى وقال في شيء من الخجل: «بعنا ساعة أبي.» ونظر الرئيس إليه بعد أن فرغ من قصته، ثم قال: «هل جاءتك في الصفوف كتب من أمك؟» وقال الفتى: «أجل جاءتني.» وتكره له الرئيس وعبس ووضع يديه على جانبي صدره تحت ياقة حلته - وهي عادته حين يغضب - وقال: «أيكون جزاء أمك على ما فعلت هذا العقوق فلا ترد على كتبها؟» وأراد الفتى أن يعتذر فقاطعه الرئيس قائلا: «اجلس على هذا الكرسي.» وناوله بيده ورقة لمح الفتى في زاويتها العليا كلمة البيت الأبيض، مكتب الرئيس، وأعطاه الرئيس ريشته ومحبرته وقال له: «اكتب كتابا لأمك.» ومشى الرئيس إلى النافذة فأطل منها وهو يردد شعرا لشكسبير أوله: «اعصفي يا ريح الغرب الهوجاء فلست أقسى من قلب منكر ...» وتناول الرئيس الكتاب فأعطاه إلى من يلقيه بالبريد، وقال للضابط: «كن بارا بأمك لتكون بارا بوطنك.» ولم يشأ أن يظل عنيفا عليه وهو يحارب من أجل قضية البلاد، فربت على كتفه في رفق وهو يصرفه.
ولقد كان أبراهام يتلقى الأنباء عن عدد القتلى والجرحى وهو أكثر الناس إشفاقا وجزعا، ولقد كان يسأل عن عدد من صرع من الفريقين المتحاربين لا من أهل الشمال فحسب، فيحزن لهؤلاء وهؤلاء جميعا كأبناء أمة واحدة.
وكثيرا ما كان يذرف الرئيس الدمع على ما يصيب رجاله في تلك الحرب الهائلة. ذهب ذات مرة إلى مقر أحد الجيوش فعلم بموت صديق له كان من جلسائه في سبرنجفيلد، فأسرع إلى العودة مضطربا ويداه على صدره كأنما يمسكه أن يتصدع، وعيناه تفيضان، وعلى وجهه شحوب وكدرة، وإنه ليسير بين الجنود لا يلتفت إلى تحياتهم فلا يردها من شدة الغم، وتكاد لا تقوى على حمله رجلاه.
وكان لا يفتأ يقرأ شكسبير، ففي مآسيه صدى لنفسه الحزينة وعزاء لها، على أن عينيه تقعان ذات مرة على تساؤل أم ولهى في إحدى هذه المآسي تقول: «لقد سمعتك أيها الأب الكاردينال تذكر أننا سنرى أصدقاءنا في السماء ونعرفهم، ولئن كان هذا حقا فلسوف أرى ابني ثانية ...» فانظر إلى هذا الرجل القوي يضع الكتاب ويكب بوجهه على كفيه فيملؤهما من روافد دمعه.
ذلك هو الربان الذي قدر أن يكتوي فؤاده بنار هذه الحرب الطاحنة، وإنه ليحس كل ضربة أو طعنة فيها موجهة إليه قبل غيره، ولكن من كان يقوى غيره على حمل هذه الأهوال والصبر على مكاره هذا النضال؟
المحرر!
في هذه السنة الثانية للقتال؛ أي سنة 1862، بينما كانت الحرب تتأجج نارها ويتفجر بركانها، وتتوثب في البر والبحر شياطينها، اشتدت الدعوة إلى حل معضلة الرق، وارتفعت الأصوات من كل جانب بوجوب إعلان قرار التحرير، ونشطت الصحف والمجلات تطالب الرئيس أن يخطو هذه الخطوة، وانهالت على الرئيس الكتب يحبذ فيها أصحابها أن يقطع العقدة فذلك أيسر من حلها.
ووقع الرئيس على كلمة عظم تأثيرها في نفسه وتدبر فيها طويلا، وهي قول أحد الكتاب المؤرخين: «إن هذه الحرب الأهلية هي الأداة التي سخرها الله لاقتلاع جذور العبودية، وإن أعقابنا لن يرضون عن نتيجتها إلا إذا كان مما تحدثه الحرب ازدياد عدد الولايات الحرة، هذا ما يتوقعه الجميع، وهذا هو الأمل الذي تنشده جميع الأحزاب.»
وكتب جريلي في صحيفته نيويورك تريبيون يدعو الرئيس إلى العمل، وكانت عبارته صارمة أخذ فيها على الرئيس تردده، واختتمها في لهجة أقرب إلى الأمر منها إلى الرجاء أن يعلن تحرير العبيد.
وأرجف المرجفون أن نابليون الثالث سوف يتدخل إلى جانب الجنوبيين، فإذا أعلن التحرير اكتسبت قضية الشماليين معنى يقدره أحرار أوروبا، وبهذا يحجم نابليون عن التدخل.
والرئيس يتدبر في هذا كله، ولكن المحافظة على الاتحاد ما زالت عنده أساس هذا الصراع القائم، ولو كانت جيوشه ظافرة لجازله على أن يقدم على هذا العمل، فكيف والفشل يلاحق الشماليين في كل جهة وماكليلان في موضعه لا يريد أن يتحرك؟
لذلك يؤثر الرئيس التريث والصبر، وكان يقول في نفسه دائما منذ أوائل تلك السنة الثانية: «ألا ليت ماكليلان يخطو خطوة نحو النصر ...» وكلما اشتدت الدعوة إلى التحرير اشتد تألم الرئيس من هذا القائد، الذي لا يريد أن يعمل شيئا إلا أن يطلب المزيد من الجند كما بينا.
وعجب الناس أن رأوا الرئيس يرد بنفسه على جريلي ، وذلك في صحيفته، ومما جاء في رد الرئيس قوله: «إذا كان في الناس من لا يحافظون على الوحدة إلا أن يحافظوا على الرق، فإني لست منهم، وإذا كان في الناس من لا يحافظون على الوحدة إلا أن يقضوا على الرق، فإني لست منهم؛ إن غرضي الأسمى هو أن أحفظ بناء الاتحاد وليس هو أن أحفظ العبودية أو أن أقضي عليها ... فإذا تسنى لي أن أنقذ الاتحاد دون أن أحرر عبدا واحدا فعلت ذلك، وإذا كان في وسعي أن أنقذه بتحرير جميع العبيد فعلت ذلك ... وإذا استطعت أن أحافظ عليه بتحرير بعض العبيد وترك البعض فعلت ذلك أيضا.»
الحق أن الرئيس لم يغفل يوما عن مسألة العبيد، ولم ينس ذلك النظام المنكر البغيض الذي نشأ على مقته وازدرائه، والذي طالما تمنى أن تنجو البلاد من آثامه، ولكنه كان يحرص ألا تفسد مسألة العبيد عليه قضية الحرب.
ولم يهمل الرئيس مسألة الرق كل الإهمال، وإنما سار فيها بقدر؛ ففي أوائل تلك السنة الثانية للحرب أرسل في السادس من شهر مارس إلى الكونجرس مقترحا، مؤداه أن يصدر ذلك المجلس قرارا به تعوض الولايات التي تقضي على الرق فيها تعويضا ماديا عادلا. وأصدر المجلس هذا القرار ولكن الولايات المحايدة عارضته ورفضته، وهي المقصودة به قبل غيرها. ودعا الرئيس ممثليها وحاول إقناعهم، ولكنهم لم يقتنعوا فمنيت الفكرة بالفشل، ولم يفد الرئيس إلا تعرضه لنقد هذه الولايات ولومها، ثم للوم دعاة التحرير من جهة أخرى؛ لأنهم رأوا في الفكرة ترددا وتقاعدا، وهم لا يقنعون بأقل من التحرير الكامل في غير تراجع أو تحفظ.
وفي شهر أبريل أصدر الكونجرس قرارا بتحرير العبيد في العاصمة وما حولها، ولما وقع لنكولن على هذا القرار قال: «عندما تقدمت باقتراح إلى الكونجرس سنة 1849 للقضاء على الرق في هذه العاصمة، ولم أكد أجد من يستمع إلى ذلك الاقتراح، لم أكن أحلم أنه سوف يتحقق بهذه السرعة.»
ودعا الرئيس ممثلي الولايات المحايدة إلى مؤتمر في آخر يوليو، وحاول أن يقنعهم بقبول التعويض، ولكنهم أعرضوا عنه وأصروا على عنادهم.
وظلت الدعوة إلى التحرير تشتد يوما بعد يوم، وظل الرئيس يتدبر ويقلب الأمر على وجوهه. ولقد كان من أجل مواهبه كما ذكرنا أنه كان يتبين الأمور على حقيقتها، مهما التوت عليه سبلها واختلطت وشائجها، ثم يسدد خطاه على هدى مما يرى دون أن تفوته صغيرة أو كبيرة مما تقع عليه عيناه.
كان يخشى الرئيس أن يغضب التحرير الشامل العاجل الولايات المحايدة فتنضم إلى الاتحاد الجنوبي، وكان يعد ذلك والحرب قائمة كارثة عظيمة. ثم إنه يخشى أن يتهم أنه ما أثار هذه الحرب الضروس إلا من أجل القضاء على الرق مع أن الدستور يقره، وهو لم يخض غمار هذه الحرب إلا للمحافظة على الاتحاد.
وإذا أقدم الرئيس على التحرير خرج بذلك على الدستور وهو الحريص على مبادئه، العامل منذ اشتغاله بالسياسة على المحافظة عليه وتقديسه.
ولكن الرئيس يرى للمسألة وجوها أخرى، فالتحرير في ذاته هو العمل الإنساني الجليل الذي طالما تاقت نفسه إليه منذ حداثته، وقد كان الرق أبغض شيء إلى نفسه، وهو في الوقت نفسه يرى أن تحرير العبيد سوف يدعوهم إلى التمرد على سادتهم في الجنوب، فتضعف شوكة هؤلاء السادة في الحرب، هذا إلى ما يرجى من رفضهم في العمل في فلاحة الأرض بعد تحريرهم، فيضطر البيض إلى العمل مكانهم، فتتضاءل جيوشهم وتضعف مواردهم، فضلا عن أن التحرير من شأنه أن يكسب الرئيس وحكومته عطف الأحرار في أوروبا، فلا تناوئه بالتدخل في هذه الحرب. وأما عن الدستور فالتحرير ضرورة تدعو إليها الضرورة الحربية، ولن يجد الرئيس صعوبة كبيرة في حمل ممثلي الأمة على تعديله فيما يتصل بهذا الأمر.
وتفكر الرئيس وأطال التفكر، وكلما مر يوم ازداد ميله إلى التحرير وبعد عن تردده، ولكن شيئا واحدا لا يزال يقوي ميله إلى التريث؛ وذلك هو الموقف الحربي وما فيه من خذلان وضعف وجمود من جانب ماكليلان حتى صيف هذا العام الثاني للحرب، عام المحنة والخوف.
ولكن دعوة التحرير تشتد، وكلما بلغت مسامع الرئيس هزت نفسه إلى هذه الخطوة الإنسانية الكبرى، فيكاد ينسى كل اعتبار غيرها، وإنك لتجد ما يهجس في نفسه واضحا في هذه العبارة التي كتبها بخط يده: «إني بطبيعتي أمقت الرق، وإذا لم يكن الرق خطأ فما في الدنيا من خطأ قط، ولست أذكر لحظة لم أفكر فيها هذا التفكير وأشعر هذا الشعور، ولكني في الوقت نفسه لم أذهب إلى أن الرياسة أكسبتني حقا لا يدفع أن أعمل رسميا وفق هذا التفكر وهذا الشعور، لقد كان هذا القسم الذي أقسمته ينطوي على أن أحافظ على دستور الولايات المتحدة، وأن أحميه وأن أدافع عنه، وما كنت لأشغل هذا المنصب بدون قسم، وما اتجهت قط إلى أني أؤدي القسم الذي به أصل إلى السلطة، ثم أقضي على هذا القسم أثناء استعمالي هذه السلطة. وكذلك كنت أفطن إلى أنه في الأحوال المدنية العادية يمنعني هذا القسم من أن يكون لمجرد اعتباري الخلقي تجاه الرق أثر عملي في مسلكي، أكان من الممكن أن أفقد الأمة وأحافظ على الدستور؟ إن القوانين العامة تقضي بأن أحمي حياتي وساقي، ولكن الساق يضحى بها في العادة لإنقاذ الحياة، ولن يتمشى مع العقل أن يضحى بالحياة لإنقاذ الساق. وشعرت بأن بعض الإجراءات وإن عدت غير دستورية في مواقف أخرى، إلا أنها تجد ما يبررها من حيث إنها لا بد منها للمحافظة على الدستور، وذلك بالمحافظة على الاتحاد ذاته.»
وتبين الرئيس موقفه فأخذ يتحفز ويستجمع قوته ليقدم، ثم عزم وصمم فليس من الإقدام بد، وليس لما عسى أن يلقاه من معارضة أي وزن عنده. ومتى عقد أبراهام النية على أمر ثم تخاذل عنه أو تهاون في العمل على إنفاذه؟
صمم الرئيس أن يضرب الضربة التي طالما تمنى أن يضربها، أجل أراد أبراهام لنكولن اليوم أن يضمن تاريخ البلاد، بل وتاريخ الإنسانية، أجل عمل قام به؛ ألا وهو تحرير العبيد في أمريكا، وإنه لن يحجم اليوم أن يعلن رسميا في مجال واسع ما أنكره قبل عام من فريمونت وهنتز، ولن يتردد أن يأخذ بما رفض من قبل مهما يكن من غرابته، وهو كفيل أن يوضح للناس قضيته وأن يحمله على قبول حجته.
وفي الثاني والعشرين من شهر يوليو دعا الرئيس إليه مجلس الوزراء، ولم يكن يعلم أحد منهم الغرض من الاجتماع. ولما اكتمل عقدهم، نظروا فإذا على وجه الرئيس من أمارات الجد ما لا عهد لهم بمثله، حتى في أخطر ما سلف من المواقف. وأخرج الرئيس من جيبه ورقة طلب إليهم أن يستمعوا إلى ما جاء فيها، وراح يتلوها في حزم وثبات: «أنا أبراهام لنكولن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية والقائد الأعلى للقوات البرية والبحرية للاتحاد ...» وأنصت الوزراء فإذا به يتلو عليهم قرار التحرير.
وتعجب الوزراء ونظر بعضهم إلى بعض، فهذا الرئيس لم يدعهم ليشاورهم، ولكن ليعلن إليهم ما عقد عزمه عليه، وقطع سيوارد الصمت بأن رجا من الرئيس أن يرجئ إعلان ذلك إلى حين؛ فإنه إن فعل اليوم والحرب على ما هي عليه والشماليون يلاقون الهزائم، عد ذلك ضربا من اليأس، وأخذ على أنه خطوة مهزوم مستضعف.
وتدبر لنكولن في قول سيوارد فرأى وجاهته، ثم وافق على التأجيل على ألا ينكص على عقبيه إذا ظفر الشماليون بأول انتصار لهم؛ لأنه يرى تأييدا لكلام سيوارد أن التحرير والشماليون في ضعفهم معناه «آخر صرخة في الهروب.»
وطوى الرئيس ورقته ثم وضعها في قمطره حتى يظفر الشمال بأول انتصار، وللمرء أن يدرك مبلغ ما كان لما عسى أن يأتي به ماكليلان يومذاك من خطر.
ووقع في نفس الرئيس أسوأ وقع ما حل بالشماليين من الهزائم في شهر أغسطس، على نحو ما بينا حين كان جيش الجنوبيين يزحف إلى وشنطون بقيادة لي. •••
وتحرك ماكليلان آخر الأمر في سبتمبر، والتحم الجيشان: جيش لي وجيش ماكليلان، في أنتيتام، وحمي القتال وتوالى بين الجيشين الجزر والمد، ولم يقو الجنوبيون على مواصلة القتال فانسحبوا من المعركة انسحابا يشبه الهزيمة، وكان ذلك في اليوم السابع عشر من شهر سبتمبر، وعدت أنتيتام أولى المعارك التي تبشر بالنصر؛ فهي - وإن لم تكن نصرا كما يكون النصر - قد بثت العزم في نفوس الشماليين، وأوحت إليهم أنهم إن عملوا فسيظفرون بالجنوبيين.
المحرر.
وفي الثاني والعشرين من هذا الشهر دعا الرئيس الوزراء إلى الاجتماع، ولما اكتمل جمعهم كان في يد الرئيس كتاب فلم يشأن أن يلقيه دون أن يقرأ عليهم منه قصة أعجبته، وكان يضحك أثناء قراءته والوزراء يضحكون إلا ستانتون؛ فقد كان يضيق بكثير مما يفعله الرئيس وبما يأتيه من ضروب المزاح، وهو لا يدري أن مثل هذا الرجل في شدة كهذه الشدة أحوج ما يكون إلى أن يرفه عن نفسه ويخفف عنها بعض ما بها، وإلا فكيف كان يستطيع أن ينهض بذلك الحمل الذي يئود حمله الجبال؟
ولما فرغ الرئيس من تلاوة القصة غامت أسارير وجهه، وبدت عليه أمارات الجد ودلائل الاهتمام والحزم، وأخرج من جيبه تلك الورقة التي كتب عليها بخط يده قرار التحرير.
أعلن الرئيس أن العبيد في الولايات الأمريكية جميعا أحرار منذ اليوم الأول من السنة الجديدة سنة 1863؛ وذلك لكي يتيح فرصة للولايات المتمسكة بالرق حتى ذلك التاريخ، وأعلن أن الحكومة ستعين كل عبد على بلوغ حريته وأنها ستعوض الولايات الموالية عما تطلقهم من العبيد.
بهذا الإعلان ضرب الرق الضربة القاضية، وأتيح لذلك الفتى الطويل النحيل، الذي وقف في صدر شبابه ذات مرة في مدينة نيو أورليانز يشهد سوق العبيد، أن يحقق ما اعتزمه يومئذ حين تهدد أن يضرب بشدة إذا أتيح له أن يضرب هذا الرق البغيض. وصح حلم طالما منى به أبراهام نفسه، ورأى ذلك النجار الذي خرج من الغابة أن معوله اليوم يهوي على الظلم فيقتلعه من جذوره، فها هو ذا يعلن باسم حكومة هو رئيسها أن لا عبودية بعد اليوم المحدد، وأن الشعب الأمريكي كله شعب حر، وأن أمريكا دولة حرة وأمة حرة.
أعلن الرئيس كلمته وأدى رسالته، وشهد ابن الغابة اليوم الذي ينطق فيه باسم الشعب في أمر طالما شغل بال الأحرار في هذا الشعب، ورأى العالم نوعا جديدا من الحركات الكبرى تضاف إلى سجله وينتقل بها التاريخ من فصل إلى فصل.
وهزت البلاد من أعماقها فرحة عظيمة، وراح أعداء الرق يعلنون عن ابتهاجهم بالزينات ينصبونها والليالي يقيمونها ويملئونها بأفراحهم ومظاهر حبورهم.
وانهالت على الرئيس وسائل التهنئة وبرقيات الإعجاب يحملها البريد والبرق من أمريكا ومن خارج أمريكا؛ فلقد تلفتت أوروبا تنظر ما تفعله الدنيا الجديدة للمرة الثانية من أجل الحرية، فهذه الدنيا التي ولدت الديمقراطية في القرن الماضي تئد العبودية في هذا القرن، وتضع اسم رجلها وهدية أحراجها لنكولن إلى جانب اسم بطلها ومحررها وشنطون، الذي انتزع لها استقلالها بحد السيف من الغاصبين من أعدائها.
والرئيس خافض الجناح لا يعرف إلا الزهو كما لا يعرف الخور، يتلقى تهاني المهنئين وإعجاب المعجبين في سكون وتواضع، وإنه ليحس أنه لا يزال بينه وبين يوم الراحة جهاد وجلاد مظهرهما هذه الحرب التي ما فتئ يزداد سميرها.
السنديانة!
اضطر لي أن يعبر نهر بوتوماك متراجعا، فكان على ماكليلان ألا يضيع هذه الفرصة، فيتعقب الجيش المتراجع ويعركه في تراجعه ويوقع به هزيمة تفت في عضده، ولكنه قعد دون ذلك على الرغم من إلحاح الرئيس عليه أن يفعل، وراح يطلب المدد من جديد!
وعادت شئون الحرب تكرب نفس الرئيس؛ فقد كان عليه وعلى رجال حكومته بعد قرار التحرير أن يبذلوا قصارى جهدهم ليضعوا حدا لتلك الحرب، فإنه لو أتيح النصر لأهل الجنوب كان معنى ذلك القضاء على كل شيء؛ إذ تصبح الحرية مجرد أمنية، وتصير الوحدة ضربا من الوهم.
وبات يكرب نفس الرئيس شيء آخر؛ فإن الحزب الديمقراطي في الشمال بعد أن فرغ الناس من حماستهم لقرار التحرير، أخذ يندد بسياسة الرئيس، وأخذت صحف الديمقراطيين تكرر القول أن الجند يبذلون دماءهم من أجل شيء واحد؛ هو حرمان الجنوبيين من ملك يبيحه لهم الدستور.
أما الجنوبيون فما برحت صحفهم تتهكم على قرار التحرير، وتعلن أن البيض لم ينصرف منهم واحد عن القتال، فإن السود يعملون في الحقول هادئين، وفي هذا أكبر دليل على أنهم ما كانوا في حاجة إلى أحد يحررهم.
على أن لنكولن لا يعبأ بقول الجنوبيين؛ فما يسكت العبيد إلا من الخوف، فها هم أولاء يفرون ألوفا من جيوش الجنوبيين حيث يلوذون بجيش الشمال ليعملوا تحت راية مسيحهم، كما كانوا يسمون الرئيس لنكولن الذي منحهم الحرية والذي جعلهم ناسا من الناس. ولكم كان من أقبح الظلم أن يساق هؤلاء العبيد إلى القتال ليقتلوا قوما يحاربون ليحرروهم، وكثيرا ما كان يوضع هؤلاء السود بحيث تحصدهم المدافع، فيكونون بذلك دريئة لسادتهم الجنوبيين!
وأخذ يتبين السر فيما يبدو من مسلك ماكليلان؛ فقد جاءه رسول من الديمقراطيين قبيل معركة أنتيتام يعرض عليه ترشيح الحزب إياه للرياسة في انتخاب سنة 1864! وكتب ماكليلان عقب المعركة يقبل هذا الترشيح.
وراح الجمهوريون يذيعون أن ماكليلان يسلك في الحرب مسلك الهوادة ليرضي الجنوبيين، وقالوا إن ذلك لا يبعد كثيرا عن تهمة الخيانة العظمى!
وتدبر الرئيس في الأمر، ولم يعد يطيق صبرا على تلكؤ ماكليلان، وأخذت تصدر منه عبارات تعبر عما في نفسه نحو القائد، ومن ذلك قوله: «حقا إن ماكليلان لا يريد أن يحطم جيش العدو.» ومن ذلك أيضا ما كان منه ذات مرة وقد كان يبيت في المعسكر؛ إذ سأل ذات صباح وهو يستقبل الشمس المشرقة قائلا: ما هذا كله؟ فلما أجابه أحد القواد: إن هذا هو جيش بوتوماك. صاح قائلا: كلا إنه الحرب الخاص للجنرال ماكليلان.
جمع الرئيس عزمه على أمر، وظل نحو خمسة أسابيع يستحث ماكليلان على العمل، ولما لم يجد ذلك أصدر الرئيس في شهر نوفمبر أمره بعزل ماكليلان من قيادة جيش بوتوماك ووضع مكانه القائد بيرنسيد! •••
راح أهل الشمال يعلقون الآمال على تغيير القيادة، ففي أنفسهم أن ما حل بهم من الهزائم فيما سلف إنما يرجع إلى سوء تدبير ماكليلان.
ولكن في الجيش عددا كبيرا من الجند قد آلمهم أن يفارقهم قائدهم، أو أن يحال بينهم وبينه على هذه الصورة؛ لذلك لم يحسنوا لقاء القائد الجديد، أو لم يشعروا تحت رايته بما كانوا يشعرون تحت راية ماكليلان من حماسة.
وزحف القائد الجديد على رأس جيش ليحتل فردريك سبرج على الضفة الأخرى للنهر، حيث كان يرابط لي قائد الجنوبيين العظيم، ووقف القائد الشمالي تجاه خصمه يفصل بينهما نهر بوتوماك، وقف ينتظر أن توافيه إليه هناك تلك المعابر المتنقلة التي لا بد له منها ليعبر النهر، ولكن المعابر وصلته متأخرة فاستطاع خصمه القوي أن يحصن المرتفعات حول المكان، فلما أخذ يعبر النهر هو وجنوده انصبت عليهم النيران الحامية من كل صوب، ونظر القائد فإذا كثير من جنده حوله صرعى، لا يقل قتلاهم عن الجرحى، فكان لا بد أن يتراجع، وكانت هزيمة جديدة تضاف إلى سلسلة الهزائم في هذا العام المشئوم.
وحمل الجرحى إلى وشنطون فضاقت بهم المستشفيات، حتى لقد حول عدد كبير من الكنائس وغيرها من الأبنية إلى أمكنة للجرحى، وطافت النذر بالمدينة وانعقدت فيها سحب الهم مركومة سوداء، وأخذت الناس غاشية من الحزن ورجفة من الذعر، زاغت لهما الأبصار وبلغت القلوب الحناجر!
وأخذت الأنظار تتجه إلى البيت الأبيض وليس فيها من معاني الأمل بقدر ما فيها من معاني اللوم والغيظ، وكأنما كانت ترف حوله أرواح القتلى فتلبسه كآبة وتشيع فيه ما يكرب النفوس ويؤلم الصدور. وأخذ يظهر في العاصمة حزب جديد يرمي إلى وضع حد لهذه الحرب بأية وسيلة، وألفى الرئيس نفسه بين تصايح المتصايحين؛ فهنا من ينادون بوضع حد لهذه المحنة، وهنا من يطلبون إعادة ماكليلان إلى القيادة والسير في الحرب، ولكن في سرعة وحمية وإقدام، وغير هؤلاء وهؤلاء قوم يطالبون بتغيير القواد والبحث عما يكفل النجاح من وسائل جديدة، وقوم آخرون خيل إليهم أن الفرصة قد سنحت لهم لإعلان رأيهم في مسألة تحرير العبيد، وكانوا يرون ألا يمس ذلك النظام بما يغير من أصوله، وعلى الرئيس أن يراجع نفسه قبل حلول اليوم الأول من العام الجديد؛ وهو يوم التحرير.
وترامى إلى الناس فضلا عن مزعجات الحرب وشائعاتها أن المجلس التشريعي منقسم بعضه على بعض، وأن مجلس الوزراء نفسه قد فشا الخلاف في أعضائه، ورأى الناس مما يشاع ويذاع أنهم على حافة الكارثة!
ولكن السنديانة ثابتة وقد جن جنون العاصفة، لا تنال الريح العاتية شيئا من ثبوت أصلها وسموق فرعها، أولم يك في الغابة منبتها وكان فيها غذاؤها وريها؟
أجل إن رجلا واحدا هو الذي بقي أمام هذه الشدة رابط الجأش، فقد وقف أبراهام عزيزا لا يهون، صلبا لا يلين، بصيرا لا يطيش حلمه، أمينا لا يخون العهد الذي قطعه على نفسه، مؤمنا لن يقعد حتى يتم رسالته أو يموت في سبيلها، وكان موقف الرئيس هذا كل ما بقي للقضية من عناصر القوة، وأية قوة أعظم وأبقى من هذه القوة؟ وليت شعري ماذا كان يحدث لو لم يكن على رأس البلاد هذا الذي درج من بين أدغالها؟ أجل ماذا كان يحدث في هذه الظروف لولا هذا الصبر العظيم من جانب الرئيس، وأي صبر أعظم وأجمل من صبر هذا الطود الراسخ الأشم؟
وكان من قواد الحرب يومئذ قائد يدعى هوكر، وقد كان بلي بيرنسيد في المرتبة، وكانت بينه وبين هالك المستشار الحربي للرئيس بغضاء وشحناء، فراح يذيع في الجند أن البلاد أشد ما تكون حاجة إلى ديكتاتور يقضي على المنازعات، ويرغم الأحزاب على أن تحبس هذرها وتدفن خلافها، وأن الجيش لن يقوده إلى النصر إلا مثل ذلك الرجل الذي يقبض بيد قوية على أزمة الأمور في الدولة وفي الميادين جميعا!
ولقد ذاعت أفكار هوكر حتى لقد اجترأ ضابط كبير أن يعلن «أن الجيش وعلى رأسه ماك الصغير يستطيع أن يطهر الكونجرس والبيت الأبيض»، قالها في غير تحرج وإن كان قد قبض عليه من أجلها.
وكتب لنكولن إلى هوكر يعاتبه ويحذره العاقبة، وقد عينه في الوقت نفسه قائدا لجيش فرجينيا، ونجد في كتابه إليه شيئا من تهكمه قال: «لقد علمت علما يحملني على أن أصدق ما قلته حديثا؛ ألا وهو أن الجيش والحكومة في حاجة إلى ديكتاتور، ولقد عينتك لا بسبب هذا القول بالضرورة، وإنما على الرغم منه، إن القواد الذي يكسبون نجاحا هم وحدهم الذين يقيمون الديكتاتوريين، وغاية ما أرجوه منك الآن هو النجاح الحربي، أما الديكتاتورية فدعني أنا أجازف في هذا السبيل. إنك لن تستطيع، لا ولن يستيطع نابليون نفسه أن يرجع بخير من جيش هذه هي روحه، ألا حذار من التعجل ... ولكن أقدم في نشاط وحمية لا تخبو، واكسب لنا النصر.» •••
انقضى العام الثاني لهذه الحرب الهائلة، وقد لاقى الشماليون ما لاقوا من الهزائم، ولقي الرئيس من عنت الظروف والرجال ما لاقى.
وحل العام الثالث فلقي الرئيس وفود المهنئين بالعام الجديد وباليوم الذي حل فيه موعد التحرير، ويجد الناس على وجه الرئيس من أمارات الجهد ما تأخذهم به من أجله الرأفة كل الرأفة، ففي هذا الوجه كآبة وكدرة، وفي صفحته سمرة عجيبة تخالطها صفرة، حتى لكأنهم منه حيال رجل غيره، وما يرون وجهه الذي ألفوه إلا حين يشرق بنكتة أو بنادرة مما يسري به عن نفسه.
والرئيس مشغول أكثر وقته بالحرب، يتفكر ويطيل التفكير، ويسأل نفسه ماذا عسى أن يفعل هوكر، وما نصيب القضية في عامها الثالث.
وكان يزور الرئيس ميدان القتال على نهر بوتوماك، فيقضي بين الجند أسبوعا أو أسبوعين في خيمة، لعل في قربه من الجند ما يذهب عنه شيئا مما يساوره من قلق.
وفي شهر أبريل تحرك جيش بوتوماك، ولكنه ما لبث في شهر مايو أن هزم هزيمة منكرة في شانزلو رزفيل، بعد أن أبلى في المعركة بلاء حسنا أول الأمر.
ثم انقطعت أنباء الجيش عن العاصمة بعد هذه الهزيمة حتى بات الناس في حيرة شديدة، ورضى لنكولن من الغنيمة بأوبة الجيش، وتمنى لو عاد إلى موضعه الأول ليمنع الطريق إلى العاصمة. ووصلت إليه بعد حين رسالة من القيادة أن الجيش قد عاد إلى موضعه، وقرأ الرئيس الرسالة فتندت جفونه، وهو يقول لمن حوله ماذا عسى أن يقول الشعب؟ ماذا عسى أن يقول الشعب؟ واشتد به الغم حتى ما يفلح كلام في الترفيه عنه.
وركب الرئيس وجماعة من صحبه زورقا بخاريا إلى حيث يرابط الجيش، فاستطلع القائد واستفهمه عن سبب الهزيمة، ثم رجع إلى المدينة وقد عقد النية على أمر.
أعلن الرئيس ما يشبه الأحكام العرفية، فحد من حرية الصحافة ومن حرية القول، وأنذر من يعمل على عرقلة قضية الاتحاد بتقديمه إلى المحاكم العسكرية لتنظر في أمره، ولم يعبأ الرئيس بالانتقاد الشديد يوجه إليه من كل جانب، فلقد كان مستندا إلى أحكام الدستور الذي يخول له أن يتخذ عند الخطر ما تتطلبه مصالح البلاد من أحكام.
وحل الورق محل الذهب والفضة في المعاملة؛ إذ كانت الحكومة في حاجة إلى المال لتنفق منه على هذه الحرب الضروس، ولقد التجأت من أجلها إلى القرض.
وعمت الضائقة حتى شملت الناس جميعا، وهكذا ظهر للناس أن العام الجديد أشد هولا مما سبقه.
ولكن هذه السياسة العنيفة لم تأت بالغرض منها، فلقد وجد أعداء الحرب وأعداء القضية فيها فرصة لنشر آرائهم، وسرعان ما تألفت في نواح كثيرة من البلاد جمعيات سرية تعمل على مقاومة الرئيس وحكومته بكل ما يمكن من الوسائل.
وجهر فريق من ذوي الرأي والمكانة بمقاومتهم هذه السياسة، ومن هؤلاء ولندنجهام، وهو نائب عن أوهايو في الكونجرس، ولقد أخذ هذا الرجل يعمل في نشاط وقوة على معارضة كل مشروع في المجلس يراد به نصرة قضية الحرب، وفي خارج المجلس راح يسخر ويطلق لسانه في الرئيس بكل فاحش من القول؛ فتارة يسميه الملك لنكولن، وتارة يضحك من «ذلك الرجل الذي يريد أن يخلق الحب بالقوة، وأن ينمي شعور الإخاء بالحرب»، وتطرف ذات مرة فهتف بسقوطه في مجتمع احتشد فيه عدد ممن أعجبوا به من الديمقراطيين.
وكان بيرنسيد يقود الجيش في الجهات التي تقع فيها أوهايو، مدينة ذلك النائب العائب، وأعلن القائد هناك أن كل شخص يعرقل قضية الحرب وقضية الاتحاد، فجزاؤه أن يقدم إلى محكمة عسكرية لينال عقابه. ورد ولندنجهام على هذا بخطبة حماسية احتشد الناس في تلك الولاية لسماعها، ودعا الناس إلى رفض هذا القرار وعصيانه، ولم يسع القائد إلا أن يقبض عليه ويسوقه إلى المحكمة العسكرية، فقضت بحبسه في أحد الحصون هناك.
وارتفعت الأصوات بالاحتجاج على هذا الفعل الذي يتجلى فيه - كما زعموا - خفق الحرية، فغير لنكولن حكم الحبس بالنفي إلى خارج مناطق النفوذ الشمالي، وأرسل ذلك النائب المتمرد إلى الولايات الجنوبية في حراسة نفر من الجند.
تكاتفت السحب واكفهر الجو، ولم يعد يرى الناس بصيصا من نور الأمل، فيئسوا من النصر، وتحرجت الأمور حتى ما يعرف لنكولن نفسه ماذا يفعل! ألا هل من قائد يكسب معركة واحدة فيعيد الرجاء إلى النفوس والأمن إلى الخواطر، والعزم إلى القلوب؟
إن هزيمة الشماليين في شانزلو رزفيل، كانت أقسى ما لاقوا من محن، حتى لقد عد مايو - وهو الشهر الذي وقعت فيه الهزيمة - أشد الأيام هولا في تاريخ هذه الحرب الأهلية الكبرى. ولقد كانت خسائر الشماليين في تلك المعركة بعد ما ذاقوا من الهزائم قبل مما يثبط الهمم ويحل العزائم، بينما خرج منها الجنوبيون ولم يخسروا كثيرا، اللهم إلا ما لحقهم من خسارة فادحة بموت قائدهم الكبير جاكسون، الذي أودته رصاصة طائشة في ظلمة الليل من يد أحد جنوده.
ها هو ذا الرئيس يفكر ويدور بعينيه يتلمس القائد الذي يرجى على يديه النصر. ألا من له بهذا القائد؟ من له بهذا القائد؟ ولكن أين جرانت؟ إنه ذلك الرجل! إن قلب الرئيس ليلتفت إليه كأنما يلتفت عن إلهام.
لقد برهن جرانت على كفايته في بعض المواقع وإن لم تكن مواقع ذات بال، ولكن حسبه النصر فيها على أي حال، ولعله لا يتخلف عنه النصر إذا ألقيت على عاتقه القيادة في المعارك الكبيرة. إن الرئيس لا ينسى أنه استطاع أن يستولي على حصني هنري ودونلسن في فبراير سنة 1862، وهي سنة الكروب والهزائم، واستطاع كذلك أن يحمل الجنوبيين على التراجع في معركة حامية خاضها في أبريل من تلك السنة.
وكان الرئيس لا يعرف جرانت معرفة شخصية، ولكن هاتيك الانتصارات في أوقات عز فيها النصر تنم عن كفاية، وتدل على بطولة، ألا إن قلب الرئيس ليحس أنه الرجل المرجو، وإنه ليتحدث عنه حديث الواثق من كفايته كلما جاء ذكره، وإن القواد ليلمسون أن الرئيس شديد الإقبال عليه، وأنه ليبدو لهم أنه مرسل إليه عما قريب فمعطيه الراية؛ ولذلك أخذ يدب الحسد في بعض القلوب، فبينما كان الرئيس يثني عليه ذات مرة إذ قال بعض جلسائه إنه لا يكاد يفيق من السكر، فاستمع إلى الرئيس الذي لا تفارقه النكتة أبدا، قال لنكولن: «أرجو أن تدلوني أي نوع من أنواع الويسكي يحب ذلك الرجل؛ لأرسل منه برميلا كبيرا إلى كل قائد آخر!»
وأيقن لنكولن وقد اتجه قلبه إلى جرانت أنه اهتدى إلى القائد الذي يكون في ميدان القتال مثل هذا الرئيس في البيت الأبيض؛ رشيدا لا يزوغ بصره، قويا لا يكل عزمه، ثابتا لا يخف حلمه، حكيما يعرف ما يأخذ مما يدع، جريئا مؤمنا يرى الحياة الحق أن يموت في سبيل مبدئه.
هكذا يفكر الرئيس أن يعطي جرانت لواء القيادة، ولكنه يؤثر أن يتريث قليلا، كشأنه في كل ما يفكر فيه من أمر. •••
أراد الجنوبيون أن يهجموا هجوما قويا على العاصمة الشمالية فيضربوا الاتحاد الضربة القاسمة، فزحف قائدهم الكبير لي بجيشه وعبر نهر بوتوماك، وسار حتى أصبح على خمسين ميلا أو نحوها من وشنطون في مكان يدعى جتسبرج، وهناك التقى به جيش الشماليين، وكان على رأسه القائد ميد وقد جعله لنكولن قائدا لجيش بوتوماك لعله يصيب النجاح.
ودارت في هذا المكان معركة عنيفة دامت ثلاثة أيام، وقد استبسل الفريقان فيها واستقتلوا وتوالى بينهما الجزر والمد، وكأنما طلب لهم الموت فتسابقوا إليه جماعات، وانتهى الصراع بانسحاب لي ولكن في ثبات واطمئنان، وكان ذلك في اليوم الثالث من يوليو سنة 1863.
وعدت هذه المعركة التي سقط فيها أكثر من عشرين ألفا من الضحايا فاتحة الانتصارات الكبيرة لأهل الشمال؛ فقد يئس لي من الزحف على عاصمتهم وأيقن أنهم قوة لا تغلب، وسوف ينصرف بعدها عن الهجوم إلى الدفاع.
وما إن وصل إلى وشنطون نبأ ارتداد لي مكرها حتى تدفق الناس إلى حيث يجلس الرئيس، وهم من فرط ما قد سرهم من النبأ لا يدرون ماذا يفعلون للتعبير عما في نفوسهم نحو هذا الحصن الحصين وهذا العتاد المتين؟
ونام الرئيس ليلته ملء جفونه لأول مرة منذ قامت الحرب، وفي اليوم التالي حمل إليه البرق رسالة من جرانت، وكانت له القيادة على ضفاف المسيسبي، وفض الرئيس البرقية وقلبه يخفق؛ فإن له في جرانت أملا، وقرأ الرئيس فإذا جرانت ينبئه نبأ عظيما؛ فقد سقطت في يده فكسبرج. وكانت هذه المدينة لمناعتها ولأهمية موقعها تسمى جبل طارق المغرب؛ إذ كانت مفتاح النهر إلى الجنوب، ولقد جمع فيها أهل الجنوب ما استطاعوا من قوة وعدة، وكان جرانت قد اتجه إليها منذ فاتحة ذلك العام، وكان هو وجنوده يلقون النار الحامية من المدافعين عنها، ولكنه لم يعبأ بما كان يلقى، ولبث يعمل في هدوء حتى أحكم الخطة فأحاط بالمدينة، ثم أتى حاميتها من فوقهم ومن أسفل منهم، وما زال بهم حتى أجبروا على التسليم تاركين في يده ثلاثين ألفا من الأسرى، وعددا هائلا من البنادق والأسلحة، ومقدارا كبيرا من المئونة والزاد.
ولا تسل عما فاض في العاصمة الشمالية من مظاهر الجذل والحبور، فلقد شعر الناس بقرب انكشاف الغمة، والتمعت في سمائهم بوارق الأمل في النصر النهائي بعد هذا العذاب الشديد.
واشتدت العزائم الخائرة، ورأى المستضعفون كما رأى الذين استكبروا ما كانوا قبل في عمى عنه؛ رأوا فضل الثبات والصبر، فراحوا يتوبون إلى رئيسهم ويهنئونه بما صبر.
والرئيس يشارك القوم جذلهم، ولكن نشوة النصر لا تصرف عينيه عما هو فيه، كالربان الماهر الحاذق لن يدير عينيه عن البحر إذا هو اجتاز جنادله، ولن يزال محدقا متيقظا حتى تلقي السفينة مراسيها.
وكان في نفس الرئيس شيء يكاد ينسيه فرحة النصر؛ وذلك أن ميد وقف فلم يتعقب لي عند انسحابه، فسهل عليه بذلك عبور النهر إلى فرجينيا كما فعل ماكليلان في موقف مشابه من قبل، ولكن ميد كان يرى الجيش في حال من الإعياء يستحيل معها أي زحف مهما هان، فلقد جاء نصره بشق الأنفس، وأحس القائد المنتصر الحرج من موقف الرئيس حياله، فطلب إليه أن يعفيه من القيادة، فرد عليه الرئيس ملاطفا في صفح يشبه الاعتذار.
وكأنما جاء انتصار الشماليين في المعركتين على قدر من الظروف، فلقد كانت تأتي الأنباء من خارج أمريكا بسوء موقف الحكومة الإنجليزية من قضية أهل الشمال! تلك الحكومة التي كان يعتقد لنكولن أنها سوف تحمد له قضاءه على العبودية، فأعلن قرار التحرير وفي نفسه هذا الرجاء، ولشد ما آلمه بعدها أن يرى الحكومة تتذبذب وتلتوي، ولا تخطو إلا على هدي من مصالحها المادية.
على أنه كان مما يخفف وقع الجحود في نفس الرئيس ما كانت تأتي به الأنباء من موقف فريق من أحرار الشمائل من الشعب الإنجليزي حياله؛ فلقد علم أن اجتماعات عقدت في مانشستر ولندن هتف فيها باسم الرئيس هتافا عاليا، حتى لقد وقف الناس في أحدها دقائق يلوحون بقبعاتهم في الهواء عند ذكر اسمه، وظل هذا شأن أحرار الإنجليز حتى بلغ إنجلترة نبأ انتصاره، فاستخزى الطامعون وذوو الأغراض من رجال الحكومة والبرلمان، هؤلاء الذين كانوا يريدون أن يتخذوا من انتصار الجنوبيين ذريعة لإعلان اعترافهم بهم أمة مستقلة، والذين بلغ بهم الحقد على لنكولن وحكومته أن جهزوا سفنا لمناوءة تجارة الشماليين في المحيط، وأرسلوا بعضها فعلا لهذا الغرض.
تلك هي نتائج الانتصار في المعركتين وما كان له من أثر في الداخل والخارج. قال لنكولن حين قرأ رسالة جرانت: «الآن يستطيع أبو المياه أن يذهب من جديد إلى البحر وليس في سبيله عائق.»
واجتمع الناس في حفل كبير عند موضع جتسبرج ليمجدوا ذكرى ضحاياها، وطلبوا إلى الرئيس أن يخطبهم في هذا الحفل المشهود، فكان مما قاله: «منذ سبعة وثمانين عاما أقام آباؤنا في هذه القارة أمة جديدة، نشأت على الحرية وعلى ما نودي به من أن الناس خلقوا جميعا متساوين، ونحن الآن في حرب أهلية هي بمثابة اختبار لنا، لنرى هل تستطيع هذه الأمة أو أية أمة نشأت نشأتها أن تعيش طويلا ... ونحن نجتمع هنا لنمجد موضعا منها نجعله مقرا أخيرا لهؤلاء الذين بذلوا أرواحهم كي تستطيع أمتهم أن تعيش، وهذا عمل خليق بنا أن نعمله، ولكنا لن نستطيع في معنى أوسع من هذا أن نخلد أو نقدس هذه البقعة مهما فعلنا ... ذلك أن البواسل من الرجال سواء في ذلك الأحياء والأموات الذين ناضلوا هنا، قد خلدوها بما لا نستطيع أن نزيد عليه أو ننقص منه، وإن العالم لن يهتم كثيرا بما نقول ولن يذكره طويلا، ولكنه لن ينسى ما فعل هؤلاء ...» ثم زاد الرئيس على ذلك فقال: «يجب أن نعقد العزم على ألا ندع هؤلاء يذهبون عبثا، وعلى أن تمنح هذه الأمة في عناية الله مولدا جديدا؛ هو مولد الحرية، وعلى أن تكون حكومة الشعب التي قامت بإرادة الشعب لتعمل للشعب، بحيث لا تزول أبدا من فوق هذه الأرض.»
هذا خطاب الرئيس الذي سمعه الناس في تلك البقعة التي صبغتها دماء المجاهدين، وقد وصلت كلماته إلى أعماق نفوسهم فهزتها هزا، ولم يتمالك الكثيرون أن يحبسوا دموعهم من فرط ما أحسوا.
ولاحظ المتصلون بالرئيس أن الشدائد قد نالت من جسده وإن لم تنل من عزمه، ورأوا السنديانة يمشي إليها الذبول شيئا فشيئا حتى ليخافوا أن تذوي فتسقط. أجل، فزع الناس أن يروا أبراهام تتجمع وتتزايد في وجهه الغضون والخطوط، وأن يلمحوا في صفحة هذا الوجه المحبوب أمارات الجهد، وفي نظرات تلكما العينين البريئتين أثر السهر وطول العناء، ولكن روحه أعظم من أن يتطرق إليها الوهن. ذهب إليه أحد كبار السياسة في أمر من أهم الأمور، فأخذ الرئيس يقص عليه من قصصه ويضحك ضحكات عالية، فلم يطق الرجل صبرا ووثب من مكانه قائلا وفي لهجته شدة وفي عبارته حدة: «أيها الرئيس، إني ما جئت هذا الصباح لأسمع قصصا ... إن الوقت عصيب.» ونظر إليه الرئيس نظرة عتب وقال له في رزانة وأدب: «أجلس يا أشلي ... إني أحترمك كرجل مخلص ذي حمية ... وإنه لن يبلغ اهتمامك بما نحن فيه أكثر مما بلغ اهتمامي الذي ما فارقني منذ أن بدأت هذه الحرب، وإني لأقول لك الآن إنه لولا هذا الذي أنفس به أحيانا عن نفسي لحاق بي الموت.»
وسار العام الثالث إلى نهايته والبلاد يزداد أملها في النجاح، بعد أن كاد اليأس يعصف بالقضية كلها فيأتي عليها؛ ولذلك كانت جتسبرج وفكسبرج صخرتي النجاة، فها هي ذي نيويورك تنبعث منها بوادر فتنة، لولا هذا النصر لجرف تيارها كل شيء، وبيان هذه الفتنة أن حاكم ولاية نيويورك - وكان من أكبر المنادين بوضع حد لهذه الحرب - ما فتئ يحرض الناس حتى هبت ثورة عنيفة في مدينة نيويورك، اقترف فيها المشاغبون ودعاة الفوضى أفعالا منكرة، وبالغوا في تمردهم وعصيانهم حتى اضطرت الحكومة أن ترسل عليهم فريقا من الجند فقضوا على الفتنة. ومن غريب أمر هؤلاء العصاة أن قامت حركتهم التي دبروها من قبل عقب الانتصار في جتسبرج وفكسبرج. ولقد كانت تلك الحركة من مآسي هذا العام، ولولا أن جاء النصر كما ذكرنا وأشرق نور الأمل في ظلمات اليأس، لجاز أن تمتد الفتنة فتأتي على كل شيء.
الأب أبراهام!
افتتح العام الرابع والبلاد تتأهب للانتخاب! فلقد قرب موعد الانتخاب للرياسة، ورأى المخالفون الفرصة تواتيهم ليعلنوا ما في نفوسهم نحو الرئيس لنكولن وسياسة حكومته.
وظهرت في الصحف، وتواترت على الألسن أسماء مرشحين جدد لينافسوا الرئيس، فإن الديمقراطيين كانوا يقدمون ماكليلان، ذلك الذي انسحب من الحرب على نحو ما رأينا، وكان بعض الجمهوريين يرشحون جرانت، وبعضهم يميلون إلى تشيس وزير المالية، وأيد هؤلاء جريلي الذي ما برح ينتقد الرئيس ويسدي له ما سماه نصحا، ورشح فريق فريمونت لهذا المنصب العظيم.
ولبث الرئيس ساكنا مطمئنا إن خاف على شيء فخوفه على قضية الوحدة فحسب، ومتى ذاق أبراهام طعم الراحة منذ أن ولي الرياسة؟ كان يخشى أن يترك قيادة السفينة لربان غيره وهي لما تزل في مهب الأنواء وفي مسالك الصخر، ولو أنه كان موقنا من وجود غيره ليقودها ما تردد أن يكلها إليه، فحسبه أن تصل إلى المرفأ. وكثيرا ما كان يقول إنه لو وجد في الرجال من يحسن إدارة الأمور خيرا منه لتنازل له عن طيب خاطر، بل لقبل ذلك مبتهجا؛ إذ يرى فيه وسيلة من وسائل النجاح.
على أنه يترك الأمور للبلاد فلها القول الفصل، قال لبعض جلسائه يوما: «إن انتخابي للرياسة مرة ثانية شرف عظيم كما أنه عيب عظيم، وإني لن أجفل منهما إذ قدر لي ذلك.»
ولكن البلاد لم ترض عن رجلها بديلا، وما لبث أن أدرك مخالفوه أنهم كانوا واهمين، وكيف تتخلى البلاد عن ذلك الذي تدين بنجاحها له على الرغم مما يحيط بها من شدة، ولماذا ينصرف عنه الناس ومكانته في صميم قلوبهم؟ ألأنه أبلى فأحسن البلاء وصبر فأوشك أن يجتني من الصبر الظفر، وسهر فلم يشك يوما من السهر؟ لقد كان الناس يدعونه بقولهم الأب أبراهام، وكانوا يخاطبونه فيقولون: يا أبانا ماذا ترى في كيت وكيت. وما كان أشد تأثره بهذا اللقب الذي أضافوه إلى ألقابه!
ألا إن الناس ليحرصون على أبيهم هذا، لا تدور أعينهم إلى غيره، ولا تتسع قلوبهم لسواه، فها هي ذي العرائض بترشيحه تترى على الحزب من أنحاء البلاد ومن ميادين القتال في كثرة عظيمة تليق بجلال قدره وخطورة شأنه وعظيم ما قدمت يداه. •••
ولندع حديث الانتخاب لنعود إلى الحرب وشئونها، وأول ما نذكره أن الرئيس قد اتفق مع الكونجرس على إسناد القيادة العليا للجيوش جميعا إلى القائد جرانت، ثم كتب إلى جرانت يدعوه إلى العاصمة فحضر إليها، وتوجه إلى البيت الأبيض فلقيه الرئيس وأسمعه عبارات الإطراء والثناء، ثم تلقى منه جرانت نبأ تعيينه في منصبه الخطير.
وكان لهذا القائد الذي بزغ نجمه كبير شبه بالرئيس في نشأته وفي كثير من طباعه؛ كلاهما واجه الحياة ولما يزل في سن اللهو واللعب، وكلاهما شق طريقه فيها بنفسه، فكان كالنبتة القوية المستقيمة، لا كتلك الألفاف التي لا تعرف من معنى النماء إلا أن تتسلق على غيرها وهي في ذاتها هزيلة نحيلة.
كان جنديا في سني يفاعته، ثم انصرف عن الجندية إلى الزراعة حينا، ثم إلى التجارة بعد ذلك، وظل بضع سنين حائرا يضرب في الأرض في طلب الرزق، ولو لم تقم هذه الحرب الأهلية ما وعى التاريخ عنه إلا بقدر ما يعي عن الآلاف غيره من البشر، الذين يعبرون هذا الوجوده وكأن لم يخلقوا.
ولقد تزاحم الناس وتدافعوا بالمناكب حول البيت الأبيض وفي قاعته؛ ليروا هذا القائد الذي تعلق عليه بعد زعيمهم الآمال، ولقد علق جرانت على هذا اللقاء العظيم بقوله: «هذه معركة أشد حرا مما شهدت في الميادين من معارك.»
وبعد أن درس القائد خططه المقبلة مع الزعيم ورجاله، استأذن في الرحيل، فطلب إليه الرئيس أن يبقى قليلا ليحضر وليمة أعدتها زوجته له، ولم يكن يعلم الرئيس بها من قبل ليدعوه إليها، فاعتذر عن عدم قبوله بقوله: «حسبي ما لاقيته من تلك المظاهر أيها الزعيم.» وفرح الزعيم أيما فرح بما يسمع، فما يهدم الرجال شيء في رأيه أكثر مما يهدمهم الغرور.
ورحل جرانت إلى الميدان وقد زوده الرئيس بقوله: «أنت رجل همة وعزم، ولست أريد - وقد سرني منك ما تقول - أن أضيع وقتك أو أن أضع في طريقك ما يعوقك، وإذا كان في طاقتي أي شيء يمكنني أن أمدك به فدعني أعرف ذلك. والآن سر في عون الله على رأس جيش باسل وفي سبيل قضية عادلة.» •••
برز جرانت إلى الميدان وفي نفسه من العزم بقدر ما في فؤاده من الأمل، وكأنما سرت عزيمته إلى قواده وجنوده؛ فما منهم إلا من وطد النفس على أن يخوض أهوال القتال إلى النصر، ونبغ من هؤلاء البواسل قائدان صار لهما في هذه الحرب خطر عظيم؛ وهما شيرمان وشريدان.
وزحف جرانت بجيشه في مايو سنة 1864، وكانت خطته أن يواصل الزحف ما وسعه القتال حتى يأتي رتشمند عاصمة الجنوبيين فيحصرها، ولقد لازمه النصر في هذا الهجوم على الرغم من مقاومة أعدائه، وما زال يدفعهم أمامه حتى أصبح على مقربة من عاصمتهم، وكانت تصل أنباء انتصاره إلى العاصمة فتهزها هزا، وكان الناس يجتمعون حول البيت الأبيض فيطل الرئيس عليهم ويخطبهم، وقد سره أن ذهب عنهم الروع.
وكذلك سار شيرمان مبتدئا من الغرب، وراح يدفع أعداءه أمامه، وإنهم لينازعونه الأرض شبرا شبرا ويعركون جيشه عركا شديدا، حتى واتاه النصر عليهم في اليوم الثاني والعشرين من شهر يوليو، فسقطت في يده مدينة أتلنتا بعد أيام، وهي موقع حصين ومركز حربي خطير، وكان على رأس الجنوبيين في تلك الجهة قائدهم هود، وهو من ذوي البأس، ولقد لم شمل جيشه وخاض الحرب مرة أخرى ولكنه ما لبث حتى عاودته الهزيمة. وسر الرئيس وأصحابه أيما سرور بانهزام هود وجنوده فلقد كانوا يوجسون منه شرا.
ونشط الشماليون في البحر وضيقوا الخناق على أعدائهم، وشدوا الوثاق فأذاقوهم لباس الجوع والخوف، وكانت سيطرة فراجت على البحر وثيقة، فكان موقفه بذلك من أكبر عوامل النصر.
وراح جرانت يبذل كل ما في وسعه ليحيط بالقائد الكبير لي، فإنه يدرك أن تطويقه خير وسيلة لهزيمته وإجباره على التسليم، وكان يدرك جرانت أن عدته وجنده أوفر مما هو لدى عدوه منهما؛ ولذلك عول أن يشد عليه الوثاق.
وكان لنكولن وأصحابه يتلقون هاتيك الأنباء الطيبة فتطمئن نفوسهم، ولكن الرئيس كان لا يفتأ يبدو مهموما ضائق الصدر، وكيف يطيق قلبه الكبير أن يعلم نبأ هاتيك الضحايا دون أن يتحرك؟ لقد كان يجزع أشد الجزع لمرأى الأمهات والزوجات يقفن في طريقه أو يتجمعن حول البيت الأبيض متسائلات، وإنه ليسأل الله أن يجعل للناس من هذا البلاء مخرجا.
وبينما كانت جرانت وشيرمان يروعان بجيشهما أهل الجنوب على هذه الصورة، إذ زحف أحد قواد الجنوب - ويدعى إيرلي - زحفا مباغتا على وشنطون حتى بات منها على سبعة أميال! ولقد كان عمله هذا من أسوأ ما لاقته المدينة في هذه الحرب، فما أقبح الخوف بعد الأمن! وما أوجع الغم بعد الفرح!
ولكن جرانت لم يلبث أن أرسل شريدان فأقصى العدو ورماه بهزيمة كبيرة، وكان ذلك في أوائل سبتمبر عقب سقوط أتلنتا بيوم واحد.
ولندع جرانت وأصحابه فيما هم فيه من جهاد ونصر لننظر ماذا كان من أمر الانتخاب. •••
لقد كان انتصار الجيوش على هذا النحو مما قضى على كيد الكائدين من خصوم الرئيس، إذ كانت البلاد تتأهب لمعركة الرياسة.
وكان الديمقراطيون يذيعون في الناس أن من المصلحة العامة اختيار رئيس غير هذا الرئيس، وراحوا يقولون إن الحكومة من الوجهة الحربية قد منيت بالفشل منذ قامت الحرب، ولا محيص من أن يتبع في الحرب سياسة أقوى وأسرع من سياستها، وتارة أخذوا يطالبون بمصالحة أهل الجنوب ووضع حد لهذا البلاء، وهم في ذلك يرشحون ماكليلان للرياسة، ولقد اختاره لذلك مؤتمرهم الذي انعقد في شيكاغو في أغسطس من ذلك العام.
وكان بعض الجمهوريين من حزب لنكولن يدعون إلى انتخاب رجل غيره؛ إذ كانوا يزعمون أنه ابتعد عن مبادئ الحزب وعن روحه، فهم يخالفونه فيما أعلن غداة تحرير العبيد من أن ذلك كان من أجل ضرورة حربية، متجاهلين أنه كان يبرر بذلك تصادمه بالدستور الذي أباح الرق، وهم يعيبون عليه مسلكه تجاه الولايات الوسطى وتجاه أهل الجنوب. كما أنهم يقولون إن الحرب لا تسير على خير ما يرجى.
وكان هؤلاء الجمهوريون يرشحون جرانت تارة وفريمونت تارة، ولكن معظمهم كانوا يميلون إلى تشيس وزير المالية، وكان تشيس هذا من أكفأ الرجال، وكان الرئيس يحترم آراءه ويحرص على أن ينتفع بها، كما كان يشهد له بالذكاء ويقر بفضله. ولكن تشيس كان دائم الشكوى من الرئيس وكثيرا ما ضايقه بتقديم استقالاته من الوزارة، وذلك أن تشيس كان ينفس على الرئيس منصبه ويعتقد أنه أحق به منه وأجدر.
وما كان الرئيس كما أسلفنا يحرص على الحكم إلا أن يكون وسيلة لتحقيق غرضه. قال ذات مرة يرد على الداعين إلى ترشيح جرانت: «إذا كان الناس يعتقدون أن القائد جرانت في منصبي يكون أسرع مني في القضاء على الثورة، فإني أتخلى له عنه.»
وعلى الرغم من ذلك كان خصومه يدعون أنه حريص على الحكم مولع بالرياسة، وكان من أقدر هؤلاء الخصوم وأنشطهم جريلي، ذلك الذي طالما حرص الرئيس على مودته وعمل على إرضائه، على أن الرئيس كان على علم بهذا كله فلم يعبأ به؛ وذلك لأنه كان يجعل اعتماده على عامة الناس، وهل اعتمد على غيرهم منذ كان يقطع الأشجار ويسحب الأبقار معهم في الغابة؟
وجاءت بعد ذلك أنباء انتصار جنده، فكان ذلك أبلغ رد على ما يزعم المخالفون والخوارج.
ولقد كان مؤيدو الرئيس من الجمهوريين أعز نفرا وأعلى في البلاد صوتا، وهؤلاء أجمعوا أمرهم على ترشيحه في مؤتمرهم الذي عقدوه في الثامن من يونيو سنة 1864، وكانت حماستهم له جديرة به شديدة على كارهيه وخصومه. وحمل إليه نبأ ذلك فتلقاه على عادته في دعة، قال: «إنهم رشحوني لا لأنهم رأوني أعظم رجل في أمريكا وأفضل رجل، وإنما كان ذلك لأنهم لم يروا من الحكمة أن يغيروا الخيل أثناء عبور الماء، ولأنهم رأوا بعد ذلك أني لست فرسا بلغ من السوء مبلغا لا يمكن معه استخدامه، ولو في مشقة أثناء محاولة ذلك العبور.»
وكان المؤتمر قد عبر عن رغبته في تعديل الدستور، بحيث لا يكون من مواده ما يتضمن الاعتراف بالرق؛ حتى لا يتعارض قرار التحرير مع نصوص الدستور، ولقد وافق الرئيس على ذلك قائلا: «إن مثل هذا التعديل المقترح يجيء خاتمة مناسبة ضرورية للنجاح النهائي لقضية الاتحاد، وهذا وحده يقف ردا على كل تجن، وإن الذين يوافقون على الوحدة بلا شرط من الشماليين والجنوبيين يدركون خطورته ويتعللون به، فباسم الحرية والوحدة مجتمعتين دعونا نعمل لنكسبه صفة شرعية وأثرا عمليا.»
وسمع أن ولاية ماري لاند قد عدلت دستورها على هذا الأساس فعلا، فاغتبط قائلا: «إن ذلك يساوي عندي انتصارات كثيرة في الميدان.»
وحسب جريلي أنه واجد غميزة أخرى في سياسة الحرب، فراح يندد بها وبتطاولها ويدعو إلى الصلح، قائلا إن البلاد على شفا جرف هار، وإن السلم على شروط معقولة خير من هذه الحرب التي ضجت البلاد منها ورزحت تحت أعبائها. ومما ساقه في هذا المجال قوله إنه على صلة بقوم من الجنوب يقبلون الصلح على أساس الوحدة والقضاء على الرق، وهنا لم يتردد الرئيس أن يرسل إليه يقول إنه على استعداد أن يلقى أي رجل أو جماعة من الجنوب يفاوضونه على هذا الأساس، على أن يكونوا مسئولين، وليكن جريلي شاهدا على ذلك، وعاد جريلي مستخذيا، وقد رأى أن الذين دعوه إلى السلم من الجنوبيين قوم لا أهمية لهم.
وتطلبت الحرب عددا جديدا من الرجال، وأشفق أنصار لنكولن أن يدعوا البلاد إلى رجال في مثل هاتيك الظروف، ولكن هل كان مثله يحجم عن أمر يعتقد صوابه، وبخاصة إذا كان هذا الأمر يتصل بالحرب، بله الحرب تحت قيادة جرانت؟ لم يحجم الرئيس ولم يتردد، وأصدر أمره في ثبات وجرأة.
وجاء يوم الانتخاب فكان فوز الرئيس عظيما. قال، وما أجمل ما قال: «إني أعرف قلبي، وأرى غبطتي لا يشوبها شائبة من الفوز الشخصي، وإني لأعترض على بواعث أي شخص ضدي، وليس مما يسرني أن أظفر على أحد، ولكني أشكر الله على هذا البرهان الشاهد على اعتزام الناس أن يؤيدوا الحكومة الحرة وحقوق الإنسانية.»
وكان الداعون إلى السلم ينشرون مبدأهم في العاصمة الشمالية، حتى لقد أخذوا على الرئيس أنه يصم أذنه عن هذه الدعوة. وحدث أن أرسل جفرسون دافز رسولا إلى السلم، ويقترح عقد مؤتمر لتقرير ذلك. وكتب الرئيس لنكولن ردا حمله ذلك الرسول إلى جفرسون، وفيه يوافق الرئيس على عقد المؤتمر، واجتمع في مركز قيادة القائد جرانت ثلاثة من قبل أهل الجنوب، وناب عن الشماليين سيوارد ثم لحق بهم الرئيس، وعرض الشماليون شروطهم فلم تحز قبولا لدى خصومهم، ورأى الرئيس أن في الأمر خداعا، وأنهم لا يبغون سوى أن يكسبوا الوقت بالمفاوضة ريثما يعدون ما يستطيعون من قوة؛ ولذلك نراه ينصح لجرانت ألا يتهاون أو يخفف من وطأته، وانفض المؤتمر ولم يصل إلى رأي.
وفي اليوم الرابع من شهر مارس 1865 احتفلت وشنطون الاحتفال التقليدي بتسلم الرئيس أزمة الحكم، وشهد وفد من السود هذا الحفل، فكان بهذا أول حفل من نوعه في تاريخ الولايات المتحدة، وأطل الرئيس على القوم فراعهم ما مشى في بدنه من سقم ونحول، وما تجمع في محياه الكريم من خطوط وغضون، وبدا لهم كأنه شيخ في السبعين وهو لم يتجاوز السادسة والخمسين.
وأوضح الرئيس سياسته في خطابه الرسمي، وإنك لتجد هذه السياسة واضحة في هذه العبارة التي اختتم بها هذا الخطاب، قال: «والآن فمن غير موجدة على أحد، بل مع نية الإحسان للجميع والثبات على الحق كما يطلب الله أن نرى الحق، دعونا نجاهد كي نفرغ من هذا العمل الذي نحن بصدده، وأن نضمد جراحات الأمة، وأن نعنى بهؤلاء الذين جاهدوا وبأراملهم وأيتامهم، وأن نبذل قصارى جهدنا لنصل إلى السلام الدائم، وأن نعزه بين أنفسنا وبين جميع الأمم.»
في رئاسته الثانية.
الشهيد!
جعل الرئيس ينتظر أخبار الميادين، وكثيرا ما كان يقضي الوقت الطويل في غرف البرق يترقب ويتوقع، وكثيرا ما كان يشخص بنفسه إلى مراكز الجند فيزورها واحدا بعد الآخر، ففي الحادي والعشرين من ديسمبر سنة 1864 أخذ شيرمان مدينة سفانا عنوة، فأبرق إلى الرئيس يقول: «أرجو أن تسمح لي أن أقدم إليك مدينة سفانا هدية عيد الميلاد.» واستمر شيرمان في زحفه فاستولى على كولومبيا وشارلستون، وما زال حتى دخل ولاية كارولينا الشمالية وأصبح على اتصال بجنود جرانت، وبذلك أوشكت جنودهما أن تحيط بجيش الجنوبيين.
وكان جرانت يثخن في أرض الجنوبيين لا يألوهم نزالا كأهول ما يكون النزال، وكانت ضحاياه كثيرة يدمى لها قلب الرئيس، ولكنه كان لا يلين، وما لبث هو وأعوانه أن هزموا الجنوبيين في كل مكان حتى لم يبق في الميدان غير لي.
وحاصر جرانت مدينة رتشنمد، ودام حصاره طوال أشهر الصيف من سنة 1864 وأشهر الشتاء من سنة 1865. وفي السابع والعشرين من شهر مارس التقى لنكولن وجرانت وشيرمان على زورق في نهر جيمس على مقربة من مركز القيادة، وتداول ثلاثتهم في الأمر، ولشد ما تألم الرئيس أن علم أنه لا يزال دون النصر معركة حامية، وراح يتساءل في جزع: «ألا يمكن تجنب تلك المعركة؟ ألا يمكن تجنب تلك المعركة؟»
وأمكن تجنب تلك المعركة كما تمنى الرئيس؛ فلقد تمكن شريدان - وكان إلى ميسرة جرانت - أن يقطع على لي آخر منفذ للهرب فتم لهما تطويقه، وبات تسليمه أمرا لا بد منه.
وفي اليوم الثالث من شهر أبريل سنة 1865 سقطت رتشمند طراودة هذا الصراع المتصل الطويل، وهيهات أن يصف الكلام مبلغ ما كان بالعاصمة من شعور الفرح والحبور. لقد بات الناس وأفاقوا على مثل مظاهر العيد، وأي عيد أجمل من هذا الذي يبشر الناس فيه بقرب انفراج الغمة واتحاد الأمة؟
وغادر جفرسون دافز والقائد لي مدينة رتشمند، وأحرق الجيش المنسحب المستودعات وكل ما يمكن أن ينتفع به الفاتحون، وشاعت الفوضى في المدينة على صورة خيلت للناس أن جهنم فتحت أبوابها.
وأرهف الناس آذانهم على صوت بعيد سمعوه، صوت لا يكون مثله في الجحيم، فإذا هو لحن الجيش الجمهوري تعزف به موسيقاه، وتقدم هذا الجيش وكان في طليعته عدد ممن كانوا يسمون بالأمس الرقيق، فدخل المدينة وأعاد فيها الأمن، وعني بالجرحى وأطفأ الحريق.
وجاء القواد يدعون الرئيس لنكولن لتسلم المدينة التي حاربتها جيوشه خمسة أعوام، وأنصت الرئيس إلى برنامج الاحتفال، وكيف يتألف الموكب الرسمي، وماذا يختار من الفرق لتسير في طليعته وفي مؤخرته، ومن هم القواد الذين يصحبون الرئيس، وماذا يفعل الرئيس بالمدينة المفتوحة، إلى آخر ما أعد القواد من مظاهر الزهو والأبهة. وكان يخيل إليهم أن الرئيس يقرهم على ما يقولون.
وقبل أن يحل اليوم الموعود قصد الرئيس المدينة وحده يمسك بيده يد ابنه الصغير تاد، وعبر إليها النهر في قارب حربي كان يرسو على مقربة منها ولم يعلم أحدا، فلا موكب ولا فيالق ولا شرطة يفسحون الطريق.
ودخل الرئيس العظيم المدينة في الصباح وفي يده تاد الصغير وهو يمشي على الأرض هونا وليس في وجهه زهو ولا تطاول!
ورآه بعض السود وكانوا يكنسون الشوارع، فعرفه أحدهم؛ إذ كان يرى صورته في إحدى الصحف، فأشار إليه وإلى الصورة وأطلع زملاءه على الصورة قائلا هذا هو الرئيس! وضحك الرئيس فأقبلوا عليه ومنهم من يضحك ومنهم من يبكي، فمد إليهم يده مصافحا في تواضع ورفق وهم يلثمون يديه وأطراف ثوبه، ويمسحون بأكفهم حلته كما لو كان أحد القسيسين.
وما إن شاع النبأ حتى هرع الناس من كل مكان يشهدون الرجل الذي دوت باسمه البلاد، وتزاحموا حوله وهو بينهم رابط الجأش يبدو للأعين قوامه الطويل، وأسرع بعض الشرطة والجند فحفوا به.
وتلفت الرئيس فإذا جموع السود تتقاطر من كل صوب وهم يملئون الجو بهتافاهم باسم مخلصهم ومحطم أغلالهم أبراهام لنكولن، وكانوا من حوله يرقصون ويثبون في الهواء لا يدرون ماذا يفعلون للتعبير عما في نفوسهم نحو هذا المحرر الأعظم، ثم تقدموا متزاحمين فتلاقوا على الأرض أمامه يقبلون قدميه، وهو يرفعهم بيديه ويمسح بها على جباههم وأكتافهم والدموع تتساقط كبيرة ساخنة من عينيه الواسعتين، فتجري على محياه الكريم وتقطر بها لحيته.
وحار الرئيس لحظة فلم يدر ماذا يقول، وهو الذي ما عرف قبل عيا ولا حصرا، ثم ناداهم قائلا: «أي أصدقائي المساكين، أنتم أحرار ... أحرار كهذا الهواء ... وإنكم لتستطيعون أن تطرحوا اسم العبودية وتطئوه بأقدامكم، فإنكم لن تسمعوه بعد اليوم ... إن الحرية حقكم الذي منحكم إياه ربكم كما منح غيركم.» وتألم الرئيس من أن يخروا سجدا على قدميه، فقال: «لا تسجدوا لي، هذا ليس بصواب؛ إنما أنا رجل مثلكم ولا فرق بيني وبينكم إلا هذا المنصب، وعما قريب أعود فأكون واحدا منكم، يجب أن تسجدوا لله وحده وأن تشكروه على الحرية التي سوف تتمتعون بها منذ اليوم.»
وعاد الرئيس إلى وشنطون وفي وجهه مثل ما يكون في وجوه الأبرار الصالحين، والناس حول ركابه جموع خلف، وهم يهتفون باسم الأب أبراهام بطل الحرية ومحطم الأصفاد، ومعيد الوحدة إلى البلاد وحامي دستورها ورسول حاضرها إلى غدها.
وفي اليوم التاسع من هذا الشهر المشهود وضعت الحرب الأهلية أوزارها؛ فقد سلم لي سيفه للقائد جرانت علامة الهزيمة، ولكم كان جرانت عظيما إذ أبى أن يتسلم السيف من خصمه قائلا: أبقه في يمينك أو في منطقتك فهذا أجدر موضع به.
وتلقت العاصمة النبأ وتلقاه الرئيس، وأحس الناس أول الأمر كأنما أفاقوا من حلم مخيف لا تزال في نفوسهم مخاوفه.
وتنفس أبراهام الصعداء، وتنفس معه الناس، وأحس ابن الأحراج بعد هذا الكفاح الطويل الشاق أن قد آن له أن يستريح بضعة أيام. وتزاحم الناس حول البيت الأبيض وهم من فرط سرورهم يبدون كأنما طاف بهم طائف من الجنون، وأطل عليهم الرئيس وهم يتصايحون ويتواثبون ويقذفون بقبعاتهم في الهواء، وعظمت حماسة هذا البحر الزاخر من الخلق زمنا طويلا، وهم تحت شرفة الرئيس يموج بعضهم في بعض.
الرئيس وابنه تاد.
لم يدر الرئيس ماذا يقول وهو الخطيب الذي لم يعرف تاريخ بلاده ندا له، وما زاد على أن مسح بيده الدموع المنحدرة من عينيه، ثم طلب إلى الناس أن يهتفوا ثلاثا بحياة القائد جرانت وجنوده وحياة القواد البحريين ورجالهم، وأحنى للجموع رأسه الأشم ثم عاد إلى حجرته.
وظلت العاصمة منذ هذا اليوم التاسع من أبريل ومظاهر الفرح تملأ جوانبها وتشيع في البلاد. وفي اليوم الرابع عشر كان على مجلس الوزراء أن ينعقد ظهرا، وكان جرانت ممن سوف يشهدون الاجتماع، وفي صباح هذا اليوم ظل الرئيس معتكفا وقد اعتذر عن لقاء من طلبوا لقاءه، وجلس يتحدث إلى ابنه الكبير روبرت وقد عاد من الميدان صحبة جرانت، وظل أبوه يخبر مدى استعداده بأسئلة ألقاها عليه، وهو لم يجلس إليه منذ زمن طويل؛ لتغيبه في الجامعة، ثم لذهابه من الجامعة إلى الميدان.
ولاحظ بعض المقربين إلى الرئيس أن التفاؤل في المستقبل أخذ يملأ جوانب نفسه، وأنه كان منشرح الصدر ضحوكا، يقص عليهم أنه رأى حلما لا يراه إلا قبيل العظيم السار من الأحداث، ولقد رآه قبيل جتسبرج وفكسبرج وأنتيتام، وهو حلم عجيب، قوامه ركوب الماء في قارب غريب لا يوصف ينطلق بالرئيس في سرعة شديدة إلى شاطئ مظلم مجهول، ولكن الرئيس يصحو قبل أن يبلغ الشاطئ. ألا ليته يصحو قبل أن يصل به القارب مساء هذا اليوم إلى ذلك الشاطئ المخيف، فلقد أعد المجرمون الآثمون عدتهم وبيتوا كيدهم.
واجتمع مجلس الوزراء ليرى ماذا تفعل الحكومة لإصلاح ما أفسدته الحرب، وعارض الرئيس أشد المعارضة القائلين بالانتقام من الجنوب، وصاح بهم: «كفانا ما ضحينا من الأنفس، يجب أن نعمل على شفاء الجراح كما يجب أن نطفئ في قلوبنا السخائم إذا أردنا أن نقيم الوحدة والوفاق.» ألا ليت المؤتمرين به سمعوه إذ يقول ذلك! ألا ليتهم سمعوه!
يجب أن تسجدوا لله.
وركب الرئيس وزوجته في نزهة عصر ذلك اليوم، وكانت ماري فرحة بانتهاء الحرب، تحدث نفسها بما تقيم غدا من ولائم، وكانت تقول لزوجها إنها تعتزم بعد انتهاء مدة هذه الرياسة الثانية أن تزور أوروبا فتقضي هناك سنة، ويضحك لنكولن قائلا: «أما أنا فسأزور كليفورنيا الجديدة والأصقاغ الغربية.»
ولما عادا لمح أبراهام وهو ينزل من العربة قوما خارجين من البيت الأبيض، فعرف بعضهم وهم من أصحابه القدماء من أهل إلينوي، فناداهم من بعد وأشار إليهم بيده كما كان يفعل في سبرنجفيلد قائلا: «هالو ... ارجعوا إلي أيها الرفاق ... مرحبا يا أصحابي ...» وفتح لهم ذراعيه وبسط كفه، وإنهم ليعجبون أشد العجب أنه لا يزال على عهدهم به، ومشى الرئيس معهم إلى إحدى الحجرات وهو يضحك بينهم ويمزح كما كان يفعل بالأمس، وسألهم عن أشخاص ممن يعرف، ثم جلس بينهم يقص عليهم قصصا مضحكة ويضحك ضحكات مدوية، وقد رفع بينه وبينهم الكلفة كأنما يجلسون أمام دكان من دكاكين سبرنجفيلد، وظل الرئيس يتلو نكاته ويضحك ملء نفسه، ويضحك سامعوه، وكلما جاء الخادم يدعوه إلى الطعام صرفه بإشارة من يده وأخذ في حديثه، إلى أن جاءه ما يشبه الأمر من ماري، فنهض ومد إليهم يده مودعا.
وفي المساء ذهب الرئيس وزوجته ليشهدا رواية تمثيلية في المسرح، وكانت الصحف قد نشرت اعتزامه الحضور ومعه القائد جرانت، وتخلف القائد لأنه أراد السفر، فذهب مع الرئيس وزوجته ضابط وخطيبته وجلسا معهما في المقصورة الخاصة.
وما أطل الرئيس من مقصورته على الجمهور حتى دوت جنبات القاعة بالتصفيق والهتاف، وأحنى الرئيس رأسه للجميع وجلس يشهد التمثيل.
وانقضت ساعتان، وتسلل إلى المقصورة في منتصف الساعة الحادية عشرة الممثل ولكس بوث رأس المؤامرة ليغتال الرئيس، وكان على اتصال بنجار المسرح، وكان هذا النجار عضوا في المؤامرة، فصنع له أثناء النهار ثقبا في باب المقصورة لينظر منه، وأعد له رتاجا خشبيا لباب الردهة المؤدية إلى المقصورة من الداخل.
وحمل الحارس الواقف بباب الردهة الخارجي بطاقة من المجرم إلى الرئيس، تظاهر بها أنه رسول يحمل إليه نبأ، وسمح له الرئيس بالدخول، فأغلق من الداخل باب الردهة بذلك الرتاج الخشبي، ونظر من الثقب، ثم فتح الباب وأطلق رصاصة إلى رأس أبراهام، وطعن الضابط بخنجره حين هم أن يمسكه، وقفز إلى المسرح الذي طالما مثل أدوارا عليه، ولكن ثوبه علق بخشبة العلم، فهوى وانكسرت ساقه، ووثب على الرغم من ذلك وخرج يعدو، وكان شركاؤه قد أعدوا له حصانا فهرب على ظهره عدوا.
وحاول أبراهام أن ينهض فلم يستطع، وخر على مقعده، وهوت السنديانة من هذه الضربة، وطالما استعصت من قبل على الضربات!
وحمل الرئيس إلى بيت قريب من المسرح، واجتمع حول سريره الوزراء ورجال الدولة وخاصة أصدقائه، وهو لا يسمع ولا يعي شيئا مما حوله، وفي الساعة السابعة والدقيقة الثانية والعشرين من صباح اليوم التالي، وهو الخامس عشر من شهر يوليو مات أبراهام لنكولن!
وساد في الحجرة صمت رهيب كان يقطعه بكاء ماري، ووقف ابنه روبرت مصفار الوجه على رأس سريره، ثم قال الوزير ستانتون: «الآن أصبح أبراهام لنكولن ملكا للزمان ودخل في التاريخ!»
وروعت العاصمة بالنبأ الفاجع، وتلاقت أمة بيضها وسودها تحمل شهيدها الأكبر ومحررها العظيم إلى حيث يستريح راحته الأبدية، وذهبوا بجثمان البطل إلى سبرنجفيلد في قطار كبير مجلل بالسواد يقل مرافقي جثمانه من رجال الدولة، وسار في نفس الطريق الذي جاء منه إلى العاصمة قبل ذلك بأربع سنوات، والناس اليوم على جانبيه يجهشون ويشهقون، ولا يملكون غير الدمع في هذا الخطب الفادح، وكان السود أكثر الناس بكاء عليه وأشدهم خشوعا وهم يطوفون بنعشه في البيت الأبيض قبل نقله إلى سبرنجفيلد!
ودفن الرئيس إلى جانب ابنه الصغير، ولما هموا بوضع تابوته في التراب، ارتفعت أصوات الناس جميعا بضجة عظيمة من البكاء، الكبراء والعامة في ذلك سواء، وانصرف السود وهم يرددون قولهم: «لقد رفع مسيحنا الجديد إلى السماء!»
ألا ليتهم حملوا ابن الغابة إلى الغابة ليدفن حيث نشأ وحيث شب!
অজানা পৃষ্ঠা