وشعرت بسرور ولذة، ودخلها زهو تملق نزوعها الجامح إلى القوة والسيطرة. والحق أن كلمات الحب الحارة خليقة بأن تطرب الآذان ولو لم ترجع القلوب أنغامها، فهي كالأفاويه للنفس المسدودة! بيد أن خيالها وثب وثبة قوية عبر بها قنطرة الحاضر إلى المستقبل، فتساءلت: ترى كيف تكون حياتها في كنفه لو صدقت الأيام أمله؟ إنه فقير، رزقه كفاف يومه، ولسوف يأخذها من الطابق الثاني لبيت الست سنية عفيفي إلى الطابق الأرضي في بيت السيد رضوان الحسيني. وأحسن ما يمكن أن تجهزها أمها فراش نصف عمر، وكنبة، وعدد من الأواني النحاسية. ولا يدخر لها بعد ذلك إلا الكنس والطبخ والغسل والإرضاع. وربما قطعت طريقها حافية في جلباب مرقع. وريعت كأنما اطلعت على مشهد مخيف، وتحرك في أعماقها هيامها المفرط بالثياب، وتيقظ ذلك النفور الوحشي من الأطفال الذي تعيرها به نسوة الزقاق، وعاودتها حيرتها المعذبة، فلم تدر أأصابت أم أخطأت في مطاوعتها له وسيرها معه. وكان عباس ينعم إليها النظر في افتتان وهيام وأمل، فأول صمتها وتفكيرها على هواه، وقال لها بصوت ينبعث من أعماق فؤاده: لماذا تصمتين يا حميدة! .. كلمة واحدة تشفي الفؤاد وتغير الدنيا .. كلمة واحدة تكفيني .. تكلمي يا حميدة .. اخرجي عن هذا الصمت!
ولكنها لم تنبس بكلمة، وظلت فريسة للحيرة، فاستطرد عباس قائلا: كلمة واحدة تملأ روحي أملا وسعادة، لعلك لا تدرين ما فعله حبك بي! إنه يبعث في روحا جديدة لا عهد لي بها! إنه يخلقني خلقا جديدا، ويدفعني لاقحتام الدنيا غير هياب. أما علمت هذا؟ .. لقد استيقظت من سباتي، وغدا ترينني شخصا جديدا!
ماذا يعني؟ وانعطف رأسها كالمتسائل؛ فانشرح صدره لاهتمامها وقال بحماسة وفخار: أجل، توكلت على الله وسأجرب حظي كالآخرين، سألتحق بخدمة الجيش البريطاني، وعسى أن يصادفني من التوفيق ما صادف أخاك حسين.
فلاح الاهتمام في عينيها وسألته على غير وعي منها: حقا .. متى يكون ذلك؟
كان يؤثر بلا شك أن تحدثه حديثا آخر، وأن يلمس انفعالها قبل أن يستثير اهتمامها، أن يسمع هذه الكلمة العذبة التي تذوب نفسه شوقا لسماعها، ولكنه ظن هذا الاهتمام قناعا نسجه الحياء ليستر به عاطفة مشبوبة كعاطفته تهاب البوح بسرها، واهتز صدره فرحا، وقال مفتر الثغر: عما قريب أسافر إلى التل الكبير، وسأشتغل بادئ الأمر بيومية مقدارها خمسة وعشرون قرشا، وقد أكد لي جميع الذين استشرتهم في الأمر أن هذا المقدار قليل من كثير مما يصيب جميع المشتغلين في الجيش، وسأجعل همي في أن أوفر من يوميتي أقصى ما أستطيع توفيره، حتى إذا عدت إلى هنا عقب انتهاء الحرب - وهي بعيدة كما يقولون - فتحت صالونا جديدا في السكة الجديدة أو شارع الأزهر، واستقبلت حياة رغيدة ننعم بها .. معا .. إن شاء الله .. ادعي لي يا حميدة.
هذا شيء جديد لم يخطر لها ببال، وإذا كان الفتى جادا فقد حقق لها كثيرا مما تصبو إليه نفسها، وإن نفسا كنفسها مهما تناهى بها التمرد والجموح حرية بأن يروضها المال ويستأنسها. وغمغم عباس معاتبا: ألا تريدين أن تدعي لي؟
فقالت بصوت خافت وقع من أذنيه موقعا جميلا، وإن كان صوتها نقطة ضعف في جمالها: الله يوفق خطاك.
فتنهد مسرورا وقال: آمين. استجب لها يا رب. ستبسم لنا الدنيا بإذن الله. ارضي أنت علي ترض الدنيا جميعا .. أنا لا أسألك شيئا إلا الرضا.
وأخذت تخرج من حيرتها رويدا رويدا، فقد وجدت في الظلمة التي كانت تتخبط فيها بصيص نور .. نور الذهب اللامع. وإذا كان شخصه لا يرضيها، ولا يحرك أنوثتها، فعسى أن يبرز منه هذا الضوء اللامع الذي يستهويها، ويلبي نزوعها الصارخ إلى القوة والجاه. وهو بعد هذا كله - وقبل هذا أيضا - الفتى الوحيد الصالح في الزقاق! أجل، هذا حق لا ريب فيه. وقد خامرها شعور بالارتياح، وأنصتت إليه وهو يقول: ألا تسمعينني يا حميدة؟ أنا لا أسألك إلا الرضا!
فارتسمت على شفتيها الرقيقتين ابتسامة، وغمغمت: وفقك الله.
صفحة غير معروفة