وعدلت صامتة عن طريق الدراسة إلى الأزهر، فتبعها وهو يكاد يخرج من جلده فرحا. ورجع رأسها صدى هذه الكلمات «طريق مأمون .. الظلام وشيك.» فأدركت أنها تقارف فعلا تحاذر عليه أعين الرقباء، وابتسمت بجانب ثغرها في تحد! كانت «الأخلاق» أهون شيء على نفسها المتمردة، وقد نشأت في جو لا يكاد يتفيأ ظلها، أو يتقيد بأغلالها. وزادها استهانة طبع جموح وأم مهملة قليلا ما تستكن في بيتها، فانطلقت على سجيتها تخاصم هذه وتعارك تلك، فلا تعمل لشيء حسابا، ولا تقيم لفضيلة وزنا .. وأما عباس الحلو فقد لحق بها، وسار لصقها وهو يقول بصوت ينم عن الفرح والسرور: دمت من فتاة كريمة.
ولكنها قالت له في شبه ضجر: ماذا تريد مني؟
فقال الفتى وهو يتمالك أنفاسه المضطربة: الصبر طيب يا حميدة، تلطفي معي ولا تكوني قاسية علي.
فعطفت نحوه رأسها وهي تغطيه بطرف ملاءتها وقالت بحدة: هلا قلت لي ماذا تريد؟! - الصبر طيب ... أريد ... أريد كل شيء طيب.
فقالت بتأفف: لا تريد أن تقول شيئا ، ونحن نجد في السير فنبتعد عن طريقنا، والوقت يمضي، وأنا لا أستطيع أن أتأخر عن موعد عودتي!
فأشفق من ضياع الوقت وقال بلهفة: سنعود في وقت قريب، فلا تخافي ولا تجزعي، وسنجد عذرا تنتحلينه لأمك، إنك تفكرين كثيرا في الدقائق، أما أنا فأفكر في العمر كله، في حياتنا جميعا، هذا هو شغلي الشاغل. ألا تصدقينني؟ إنه جل تفكيري وهمي وحياة الحسين الذي يبارك هذا الحي الطاهر.
كان يتكلم في بساطة وصدق، فشعرت بحرارة حديثه، ووجدت لذة في الإصغاء إليه، وإن لم يتحرك قلبها الجامد، فتناست حيرتها المعذبة، وألقت إليه بانتباهها، ولكنها لم تدر ماذا تقول؟! فلاذت بالصمت، وتشجع الفتى فاستدرك قائلا في انفعال: لا تعدي علي الدقائق ولا تلقي علي هذا السؤال الغريب. تسألينني يا حميدة عما أريد، أتجهلين حقا ما أريد قوله؟ لماذا أتعرض لك في الطريق؟ لماذا أتبع عيني ظلك حيث تكونين؟ لك ما تشائين يا حميدة. ألم تقرئي شيئا في عيني؟ يقولون: إن قلب المؤمن دليله، فماذا علمت؟
اسألي نفسك. اسألي أهل الزقاق جميعا، كلهم يعرفون.
وقطبت الفتاة وتمتمت وهي لا تدري: فضحتني!
فهاله قولها، وهتف متأثرا: لا فضيحة في حياتنا، وما أكن لك إلا الخير، وهذا الحسين يشهد قولي ويعلم بسريرتي. أنا أحبك، ولطالما أحببتك، أحبك أكثر مما تحبك أمك، وأحلف لك على صدقي بالحسين، وجد الحسين ورب الحسين!
صفحة غير معروفة