وهمست بدرية لأوراق الرواية، كان نفسي يكون لي بنت تشبه نعيم.
في الليل تحتضن بدور القلم، يدور الحوار بينها وبين بدرية ونعيم، والشخصيات الأخرى في الرواية. ينقطع الحوار أحيانا، يجف القلم، ينطفئ الضوء المشع من المقلتين الزرقاوين السوداوين، كبيرتان في العينين الواسعتين، جسمه نحيف طويل صلب كالرمح، رأسه مرتفع فوق عضلات عنق لا تلين ولا تلتوي، ضربوه على رأسه بكعب البندقية، صفعوه على صدغه، إلا أن كيانه الواقف ظل منتصبا في مكانه لا يتحرك، لا تنتفض له عضلة في وجهه ولا يطرف له جفن حين ساقوه إلى العربة البوكس خارج البدروم. كانت الدماء تنزف من أنفه وفمه، تسيل فوق الفانلة البيضاء الكاشفة عن ضلوعه، بغمرها شعر أسود، يكتسب بالتدريج لونا أحمر، يهبط اللون الأحمر إلى سرواله الأبيض من القطن المصري، رائحة القطن في أنفه مع رائحة الدم ورائحة التراب، الأرض الخصبة السوداء تترعرع فوقها الشجيرات الخضراء بالنوارات البيضاء. كان طفلا في الثامنة من عمره، يغني مع أطفال القرية، وهو يجري بين مساحات الخضرة تلمع بضوء أبيض: نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل، اجمعوا يا بنات النيل يا لا ده مالوهش مثيل، قطن ما شالله ...
فوق رصيف الشارع كان الأطفال يغنون الأغنية، تدق زينة بنت زينات اللحن، أصابعها الطويلة الرفيعة الصلبة تدق الأسفلت. ليس هو اللحن القديم، ليست هي أغنية القطن والنوارات البيضاء في مساحات الخضرة. انقرضت الخضرة، ذبلت الشجيرات والنوارات، ضمرت وجوه الأطفال، لم يعد لهم أرض ولا بيت ولا أهل، أقدامهم الصغيرة تمشي دون حذاء، يجتازون المسافات في ظلمة الليل، يولدون فوق الأسفلت، ينبشون صفائح القمامة مع القطط المشردة والكلاب، ترمقهم العيون داخل السيارات الطويلة بازدراء، يبتعدون عنهم، يغلقون النوافذ خوفا من الأمراض، يتحسسون محفظاتهم في جيوبهم؛ خوفا من السرقة أو النشل، يحكمون إغلاق الأبواب والستائر.
يدب الأطفال بأقدامهم المشققة فوق الرصيف، يحوطون زينة بنت زينات كالأم، يرددون وراءها الأغنية، يرقصون معها على الإيقاع، يتوقف المارة في الشارع، يشهدون العرض. فرقة كاملة من الأطفال يتبادلون الأدوار، يتبادلون الآلات البدائية؛ الطبلة والرق والمزمار والناي والعود ، أصواتهم تتصاعد مع تصاعد اللحن، كعوبهم المشققة تدق الأرض، يتحول الغناء إلى هتاف، آلاف الأفواه تهتف معهم: «يسقط الظلم، تحيا الحرية.» الأجساد تسد الشوارع، عمال طردوا من المصانع المغلقة، شباب تخرجوا في الجامعات دون عمل ولا أمل، نساء ثكالى وأرامل ومطلقات، موظفون في الحكومة انحنت أعناقهم وزوجات مقهورات، خادمات في البيوت وماسحو الأحذية ودادات.
دادا زينات كانت تمشي في المظاهرة في الصف الأخير مع الخادمات، جسمها طويل نحيف، جلبابها قديم من الجبردين، في قدميها حذاء من الكاوتش كلن أبيض اللون. تتفرق المظاهرة تحت خراطيم الماء والغاز المسيل للدموع، الميكروفونات تزعق بأصوات تطغى على الطلقات. تسقط بعض الأجسام، تنزف الدماء، تدوس العربات المصفحة الدم، تخطف الشباب، تمتلئ السماء بالدخان والغبار.
تواصل دادا زينات المشي حتى يأتي الليل. ابنها أخذوه ولم يعد، ابنها الوحيد راح منها، لا تعرف من أخذه منها، بوليس الحكومة أو الله، ترتفع عيناها إلى السماء تسأل الرب المتخفي وراء السحابة السوداء. - أنت يا رب اللي أخدته والا الحكومة؟
يرتعد جسدها خوفا من عقاب الله، يعود الإيمان إلى قلبها مع الرعدة، يمتلئ أنفها وفمها بتراب الشارع. كان ابنها الوحيد أملها الوحيد، فلذة الكبد والقلب طويل القامة ممشوق، خطوته فوق الأرض ثابتة واسعة، المقلتان الكبيرتان في عينيه تشعان بالضوء، ينظر في عينيها ويبتسم: خلاص يا أمي الثورة جاية بكرة، شوفي يا أمي الشعب كله ثار، حتى الأطفال في الشوارع والقطط والكلاب. - منذ اختفاء ابنها لم تعد دادا زينات تنام الليل. ترتدي جلبابها وتنتعل حذاءها الكاوتش، تخرج في الظلام تبحث عنه، تدور عيناها تفتشان الأرض والسماء، تنبش صفائح القمامة والصناديق الملقاة في عرض الطريق، تستريح قليلا فوق دكة خشبية مكسورة على حافة النيل، تتأمل سربا من النمل والخنافس يزحف نحو كوم من القمامة، والأطفال يتنافسون مع القطط الصغيرة على قطعة من الخبز، أردافهم عارية. طفل يعرج وهو يجري يسابق كلبا أعرج، بترت السيارة المسرعة في الليل ساقه.
تعود دادا زينات إلى غرفتها في البدروم، تملأ كيسا من البلاستيك الأسود ببقايا الطعام . كان البدروم مخزنا لكل ما يلقي به سكان العمارة، كل ما يفيض عن حاجتهم يرمونه من المناور؛ ملابس قديمة وطعام زائد ومقاعد مكسورة، ومراتب مهترئة يفوح منها البول، وبطاطين منحولة الوبر.
تملأ دادا زينات الكيس الأسود من البلاستيك، تمسح عن الخبز الغبار، تلف قطعة اللحم في جريدة قديمة، تلمح صورة الرئيس أعلى الصفحة، أو صورة وزير، أو كاتب كبير من أصحاب الأعمدة، فوق عموده ترى صورته داخل البرواز، عيناه مطموستان بالغبار أو الطين، أو مخرومتان بشوكة سمك أو عظمة ضلع مأكولة.
تمسح بكفها الغبار والطين عن ورقة الجريدة، تلف بها الخبز وبقايا اللحم، أو قطعة من الكيك، كعكة من بقايا كعك العيد، أو شريحة من الجبن، وحبات زيتون أخضر أو أسود، وليمونا مخللا أو نصف خيارة.
صفحة غير معروفة