ترشف بدور الشاي مع قضمة خبز محمص بالجبنة البيضاء المدهوكة بزيت الزيتون، تمسك السكين الحاد الصغير، تقطع شريحة من الطماطم، يلمع السكين تحت ضوء الشمس، ترمقه بدورن أصابعها البضة ترتعش، أصابتها الرعشة منذ ذهبت إلى الطبيب النفسي، زادت مخاوفها. أتزحف السكين خلسة وتدخل في يدها، أو في يد زوجها الممسكة بالجورنال، أو يده الأخرى الممسكة بفنجان القهوة باللبن؟
يتحرك السكين وحده دون إرادة منها، ربما هي نائمة تحلم وليست جالسة إلى مائدة الفطور، تذوب الحقيقة في الحلم. منذ بدأت كتابة الرواية تختلط عليها الأمور، ربما هي الرواية مصدر الأشباح التي تطاردها في النوم، الأصوات التي تسمعها وهي جالسة في غرفتها تكتب، الظلال التي تتحرك فوق الجدار، لها أشكال آدمية، أو من غير بني آدم. يندفع السكين وحده عبر مائدة الفطور لتخرق العمود في الجورنال، يخرق الصورة في البرواز فوق العمود، تنفذ من الورقة لتدخل في صدر زوجها عبر المنامة الحريرية، يتدفق الدم بلون أحمر فوق المنامة البيضاء، ومفرش المائدة الأبيض. مع ذلك يظل زكريا يقرأ عموده، لا يكف عن قراءة عموده، وتأمل صورته المنشورة على رأس العمود، يستدير السكين من شدة الغيظ ليزحف فوق يدها البضة، تحس شفرة السكين الناعمة الحادة تمشي فوق معصمها، تدخل في بطء داخل اللحم، تصنع شقا صغيرا من الخارج عميقا في الداخل.
تدرك بدور آنها بدرية التي تمسك السكين، بدرية تملك الجرأة لاقتراف جريمة قتل دون أن يضبطها البوليس، تستطيع بدرية أن تتخفى بين أوراق الرواية، أن تهرب من العيون كالخيال، كالظلال المتحركة فوق الجدران. يرمقها زوجها وهي تقطع الجبنة بالسكين، يرى أصابعها ترتعش، يرى الشحوب في وجهها، عيناها منكستان، لا ترفعهما نحوه، تخشى أن تلتقي عيناها عينيه فيرى ما يدور في خيالها، ربما يمسك السكين ويغرزه في صدرها قبل أن تفعل هي، ترى في عينيه الرغبة الدفينة. في أعماقهما رغبة في القتل لا تساويها إلا رغبة في الجنس، يقول لها الطبيب النفسي: إن الإنسان لم يتطور كثيرا عن الحيوان فيما يخص الجنس، تتلاصق غريزة التدمير والموت مع الشهوة. حين يشتهي الرجل المرأة يقول لها: أموت فيكي، وهي تقول له: أموت فيك.
يؤكد لها الطبيب النفسي أنها تحب زوجها حتى الموت حتى الرغبة في قتله أو قتل نفسها. لا يقدم على الانتحار إلا من يحب نفسه إلى حد الموت.
وهي تتمشى في النادي مع صديقتها تزم شفتيها، وتقول لها صافي: طبيبك النفسي في حاجة إلى طبيب نفسي يعالجه من أمراضه. معظم الرجال مرضى، يعانون ازدواجية الشخصية، خاصة الرجال من الطبقة المثقفة العليا. يتزوج الرجل زميلته المثقفة من الطبقة ذاتها زواجا اجتماعيا ليس إلا؛ لتصحبه في الحفلات، تتصور معه في المناسبات. في الليل يتسلل من فراشها إلى الخادمة في المطبخ، أو السكرتيرة في المكتب؛ لا يشتهي إلا الفتيات الصغيرات من الطبقة الدنيا، تراه الواحدة منهن رجلا عظيما عبقريا نادر الوجود ليس له مثيل، إلها أو نصف إله، كما كانت تراه أمه. ترى الأم ابنها غزالا وإن كان قردا، تملأ أذنيه منذ الطفولة بكلمات من نوع: أنت أذكى من كل زملائك، أنت فلتة من فلتات القدر، أنت موهوب يا ابني ليس لك نظير بين الرجال.
تزم صافي شفتيها، تبتلع لعابا مرا، تلف رأسها بطرحة بيضاء. كانت تؤمن بالماركسية، حتى هجرت زوجها الماركسية وتزوجت من زميلها الإسلامي، ارتدت الحجاب ونشرت كتابا عن حقوق المرأة في الإسلام، حتى هجرت الرجل الإسلامي وتزوجت كاتبا ليبراليا. طلب منها أن تخلع الطرحة وتكف عن التشدق بالدين، خلعت الطرحة وارتدت التيربون الأنيق، تحوطه بعض حبات اللؤلؤ، نشرت كتابا عن النقد الأدبي. هجرها زوجها ليعاشر طالبة من طالباتها في الجامعة، علاقة حب دون ورقة زواج رسمية أو عقد عرفي. اكتشفت العلاقة بالصدفة، اعترف لها زوجها أنه يحب الفتاة والفتاة تحبه، إنه حر والفتاة حرة، لم تفهم صافي هذه الحرية الجديدة وقررت الانفصال عنه. - أنت أشجع مني يا صافي، أحلم كل يوم بالانفصال عن زكريا دون أن أملك الشجاعة. - أنت تخافين الوحدة يا بدور. - ألا تشعرين بالوحدة يا صافي؟ - الوحدة خير من جليس السوء يا بدور، كنت مثلك أخاف الوحدة، أرضى بالهوان خوفا من الوحدة، كنت سجينة الخوف، حتى عرفت الوحدة فوجدتها جميلة موحية. نحن نولد في الخوف، نعيش في الخوف ونموت في الخوف. - ألا تخافين يا صافي؟ - أخاف من ايه؟ - الموت مثلا؟ - الموت مثل الوحدة مجرد وهم، نحن لا نحس بالموت حين نموت؛ لأن الميت لا يحس شيئا. تصوري يا بدور أن نعيش حياتنا كلها نخاف من شيء لا يمكن أن نحس بها. - أتؤمنين بالحياة بعد الموت؟ - كنت أؤمن بها ثم تحررت من هذا الوهم أيضا. - والإيمان بالله يا صافي؟ - كنت شديدة الإيمان بالله يا بدور قبل أن أدرس الدين، أردت أن أتعمق في دراسة الدين ليصبح إيماني أكثر عمقا، إلا أن العكس كان يحدث، كلما زادت معرفتي بالله زاد إنكاري له.
ينتفض جسد بدور وهي تمشي إلى جوار صديقتها صافي، عيناها ترتجفان، ترفعهما إلى السماء، تخشى أن يصب الله لعنته على صافي، أن تسقط إلى الأرض مصابة بالشلل في جسدها كله، أو على الأقل الشلل في لسانها الذي ينطق الكفر. - كنت أومن يا بدور بكتب الله الثلاثة كما أمرنا ربنا في القرآن، كنت ألقي الأحاديث الدينية في المؤتمرات والإذاعات وأنشر المقالات عن الإيمان والتقوى وحجاب النساء، لكن شيئا غريبا كان يؤرقني في الليل. أنهض من الفراش أتوضأ وأصلي، لا أكف عن الركوع والسجود، أتمتم بصوت خافت حتى لا أوقظ زوجي، أستغفر الله من كل ذنب عظيم، أكررها المرة وراء المرة، عشرات المرات، مئات المرات. أحرك حبات السبحة بين أصابعي المرتعشة، تصورت أني مريضة بالحمى، لكني كنت مريضة بالشك، حتى تعمقت أكثر وأكثر في دراسة الأديان، كلما كنت أتعمق أكثر كانت الرعشة تزول ويزول معها الإيمان. نحن نرث الإيمان عن الأسرة يا بدور، يدخل الإيمان خلايا عقلنا وجسمنا منذ الولادة حتى الموت، لا يمكن التحرر منه إلا بالدراسة والتعمق في العلم والمعرفة والدين نفسه، إنه طريق صعب مليء بالمخاطر، أنا أفتح لك قلبي يا بدور لأنك صديقة عمري، أرجو أن تكتمي هذا السر وإلا قتلوني. نحن نعيش في دولة دينية لا تسمح بحرية التفكير، رغم كثرة الحديث عن الحرية، لكن الأحرار لا يتحدثون عن الحرية؛ لأنهم يعيشونها. فاقد الشيء يتكلم عنه طوال الوقت.
كانت بدور تنصت إلى صديقتها وهي مطرقة الرأس، الرعشة تسري في أحشائها، شحنات الدم الساخنة تصعد إلى الرأس ثم تهبط إلى بطن قدميها، شيء ينخس بطن قدمها يشبه إصبع الشيطان في طفولتها، يدغدغ بطن قدمها اليسرى. كان الشيطان يقف دائما عن اليسار، كما سمعت من الناس حولها في البيت وفي المدرسة. - كان زوجي يقول لي: إن الدين ضروري للأخلاق، إن غاب الدين غابت الأخلاقي، لكني اكتشفت أن الأخلاق لا علاقة لها بالدين، بل هناك تناقض كبير بين الدين والأخلاق. كان زوجي شديد التدين شديد الإيمان، وفي كل ليلة يكذب علي؛ يقول: إنه ذاهب إلى الاجتماع أو إلى المؤتمر أو ليقابل الوزير أو الوكيل، ثم يذهب إلى المرأة الأخرى في بيتها أو في بيت البغاء. كان يقول إن من حق الزوج أن يكون له أربع زوجات، بخلاف الإماء والجواري ومن ملكت اليمين. كان عضوا في تلك المجموعة التي رفعت شعار الإسلام هو الحل، أو تطبيق الشريعة وإلغاء الدستور، كان زميلا لأحمد الدامهيري الأمير!
انتفضت بدور وهي تسمع اسم أحمد الدامهيري ابن عمها الشيخ، كان وكيلا للأزهر أو نائب الوكيل، ورث عن أبيه العمامة والرأس المربع الصغير، والذقن المربع والشفة العليا الأكثر نحافة من السفلي، يمطها إلى الأمام علامة التفكير العميق. أصبح أحمد الدامهيري أحد الزعماء الجدد، ينادونه الأمير، من حوله عدد من الشباب العاطلين عن العمل يحملون شهادات عليا، أحلامهم مجهضة يقودهم أميرهم إلى حظيرة الإيمان، جسمه نحيف قصير القامة أصابعه صغيرة ناعمة تشبه أصابع البنات. صوته ناعم، عظامه طرية، يخاف من الصراصير والفئران، في أعماقه إحساس بالنقص يعوضه بالكبرياء والعظمة، يشد عضلات صدره ويمشي شامخا برأسه، فوق جبينه الزبيبة السوداء بحجم حبة الفول السوداني، لحيته سوداء كثيفة تتدلى فوق صدره، جلبابه ناصع البياض، عمامته ناصعة البياض، يحيي الشباب بحركة بطيئة من رأسه مع ابتسامة صغيرة. - أحمد ابن عمي أصبح رجلا خطيرا يا صافي، كان طفلا مدللا، لم يرغب في شيء إلا أخذه بالمكر أو بالتحايل، باللين أو بالعنف إن لزم الأمر. أحمد الدامهيري يمكن أن يقتل؛ لينال ما يريد وهو يريد ...
توقفت بدور عن الكلام. لم تكمل الجملة. - أحمد الدامهيري يريد زينة بنت زينات. - عرفت إزاي؟ - كل الناس عارفة الحكاية دي، زينة بنت زينات أصبحت نجمة معروفة، رجال كثيرون يجرون وراءها. لا أحد يستحقها، بنت موهوبة بصحيح، بنت أمها رضعت لبن أمها دادا زينات!
صفحة غير معروفة