تغمض بدور عينيها، تسترخي عضلات جسدها المشدودة، يرتخي الحزام الجلدي حول عقلها، تذوب قشرة المخ تحت شحنات الدم الساخن، تتغير كيمياء الدم قليلا مع موجات المخدر الناعمة ، يتخفف القلب من العبء، تعلو وجهها ابتسامة حالمة، تعقبها تكشيرة، تختفي هي الأخرى. تصبح ملامحها هادئة مستسلمة لتيار من الدفء، تنفرج الشفتان من صوت أشبه بالهمس، أو الحديث في النوم: سرقوها مني يا دكتور؟ - مين هي؟ - الرواية يا دكتور. - انتي ناقدة أو روائية؟ - طول عمري أكره النقد يا دكتور، عمري ما كنت عاوزة أكون ناقدة. النقد الأدبي مهنة طفيلية. النقاد كائنات متطفلة زي الديدان الشريطية، تعيش على حساب شخص آخر، عنده موهبة، عنده اكتفاء ذاتي، إحنا النقاد عندنا عقدة نقص، إحنا كتاب فاشلين، نعوض عن فشلنا بنقد الغير. مهنة النقد الأدبي زي مهنة ماسحي الأحذية، شغلتنا تلميع أحذية الآخرين. - عشان كده كتبت رواية؟ - أيوه، كان لازم أثبت للعالم أني أقدر أكتب رواية، أني روائية كبيرة مش ناقدة من غير قيمة. - أنا أحب أقرأ الرواية يا بدور، هاتيها معاكي المرة الجاية. - الرواية مش معاية يا دكتور. - مع مين؟ - الحرامية. - الحرامية مين؟ - اللي سرقوها. - سرقوها مين؟ - المولودة يا دكتور. - إيه؟ - قصدي الرواية المولودة.
حار الطبيب النفسي في حالة بدور، لم يكن في إمكانه الوصول إلى مواطن الألم، في عقلها أو جسدها. يتغلب عقلها الواعي على أحداث الماضي بالنسيان، عقلها الباطن مربوط بحزام من الخوف المتراكم طبقة فوق طبقة جيلا وراء جيل، من أمها وجدتها إلى الجدات السابقات، منذ آلاف السنوات، منذ تأثيم حواء والخطيئة الأولى. - أيوه يا دكتور أنا جبانة، يعني حاكون أشجع من طه حسين؟ أكبر دليل على جبني إني تزوجت. - كل الستات بيقولو كدة يا بدور، دايما يندموا، والندم أخطر شيء، الندم سبب الاكتتاب، ثم إن زوجك راجل عظيم، نار على علم. أنا باقرأ عموده كل يوم الصبح، أحسن عمود في الجرنال هو عمود زكريا الخرتيتي.
ترمقه بنظرة متشككة. أصبح النفاق سمة العصر، الوباء المنتشر، يصيب الناس جميعا حتى الأطباء، لا علاج له إلا ثورة أو بركان يفجر الأرض.
جسدها السمين القصير ينتفض فوق الأريكة. في أعماقها حنين دفين للثورة، تعود فتاة في التاسعة عشرة، تمشي في المظاهرة تهتف: «يسقط الظلم، تحيا الحرية.» إلى جوارها يمشي نسيم، طويل ممشوق عيناه تشعان الضوء، يحوطها بذراعيه يهمس في أذنها، سيكون لنا طفل يغير العالم!
لم تكن بدور تقرأ عمود زوجها، لم تعد أذناها تسمعان صوته حين يحكي عن أمجاده، عن رسائل الإعجاب من القراء والقارئات والوزير؛ حتى الرئيس نفسه هنأه على العمود حين التقاه في صلاة الجمعة. كان يقف في الصف الثاني خلف الرئيس مباشرة، يسمع صوت الرئيس وهو يتلو آيات القرآن، يسمع أنفاسه حين يركع بين يدي الله، وطقطقة عظام ركبتيه حين يسجد وتلامس جبهته الأرض. وهو يحكي لزوجته يتهلل بالسعادة، كأنما أنعم عليه الرئيس بوسام الشرف، أو جائزة التفوق الكبرى.
إلى مائدة الفطور في الصباح لا يمل النظر إلى صورته فوق عموده، يختلس النظر إلى العمود الآخر بقلم زميله محمود الفقي، يتابع عيني زوجته وهي تقرأ العمود، تتوقف بدور طويلا عند عمود محمود الفقي، تقرؤه من أول كلمة حتى آخر كلمة. يخاطبها زوجها بلهجة ساخرة: يظهر إنك معجبة أوي بعموده؟ - الحقيقة إن عموده ممتاز! - أحسن من العمود بتاعي؟ - أنا ما قريتش عمودك لسه يا زكريا. - قريتي عموده قبل عمودي يا بدور؟ - أيوه يا زكريا. - يعني عموده أحسن من عمودي؟
ترمقه بطرف عينها، يغمره لون أصفر يشبه الغيرة، يرن صوته في أذنيها كأنما يقول، قضيبه أحسن من قضيبي؟ كلمة العمود في اللغة مرادفة لكلمة القضيب، الأعمدة هي قضبان من الحديد أو الخشب. - بتضحكي على إيه يا بدور؟ - مش باضحك على حاجه يا زكريا. - أنا عارف انتي بتضحكي على إيه، أنا عارف إنك بتعتبريني متوسط الموهبة، كتاباتي عمرها ما أعجبتك، من يوم ما اتجوزنا عمري ما شفت في عينيك نظرة إعجاب بكتاباتي، طول عمرك وأنت معجبة بعمود الفقي، وهو كمان معجب بيكي، كان لازم تتجوزي محمود الفقي، مش عارف اتجوزتيني ليه؟ - وإنت اتجوزتني ليه يا زكريا؟ - غلطة يا ستي أيام الطيش. - أيوه صحيح غلطة يا زكريا. - غلطة العمر.
يدور الحوار بينهما على هذا النحو السنة وراء السنة، يعترف كل منهما أن الزواج كان غلطة، لا يحاول أحدهما إصلاح الغلطة.
أمامهما فوق المائدة إبريق الشاي وإبريق القهوة، بدور تشرب الشاي في الصباح، زوجها بشرب القهوة مع اللبن الخالي الدسم. صحن به جبن خالي الدسم؛ جبنة قريش، طماطم وخيار وجرجير، زيت زيتون. تقدم بهما العمر وزاد الكوليسترول في الدم، وارتفاع الضغط. يلعب زكريا الجولف في النادي مع زملائه في الصحافة، بدور تتمشى في النادي مع صديقتها صافي، أو مع ابنتها مجيدة، تلف ملعب الجولف مرتين كل أربعين دقيقة مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع.
أحيانا يأتي زميل من زملائها في الجامعة فيمشي معها، أو محمود الفقي بعد أن ينتهي من الجولف يرافقها في رياضة المشي البطيئة، مع تبادل الأحاديث والأخبار عن أحداث السياسة والأدب والنقد والفن والثقافة.
صفحة غير معروفة