الزيتونة والسنديانة: مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا تكلم عبد الله
تصانيف
لكن الغصون الكثيفة تتعانق في الريح. •••
أنت، أيها الشاعر، بين الألمان
مواطن في الغربة،
ونحن الألمان نشعر معك
بأننا لم نعد غرباء في الوطن. (ح) ويبقى عادل قرشولي - مع نخبة من أدبائنا العرب الذين يعيشون في لندن وباريس، ويكتبون بالإنجليزية أو الفرنسية - ظاهرة فريدة في المشهر الأدبي والثقافي العام في ألمانيا وأوروبا والعالم العربي. وقد عرضنا في الصفحات السابقة لمشكلة انتماء إنتاجه للأدب الألماني المحلي أو القومي، أو أدب المهاجرين والأجانب، وأجبنا على هذه المشكلة، أو بالأحرى شبه المشكلة؛ بإيماننا الحاسم بأدبية الأدب وإنسانيته وشموله وعالميته. ويبدو أن المسألة لم تحسم بمثل هذه السهولة عند شاعرنا العربي-الألماني؛ إذ جعلته يخوض صراعا طويلا، ويدخل في تحد قاس ومرير ل «الآخر» وثقافته حتى استطاع أن يحقق في ذاته الشعرية والإنسانية ذلك «العناق» الذي عنون به واحدة من أهم دواوينه: «عناق خطوط الطول 1978م»، وأن يجعل من شخصه وشعره جسرا عربيا حيا ممدودا نحو «الآخر العربي» بالمحبة والسلام والمروءة والحقيقة، على الرغم من كل شيء، على الرغم من الحملات الدعائية الضارية، والحصار الإعلامي الغربي الزائف والمزيف ليل نهار، وتسليط ربيبته دولة الإرهاب إسرائيل على إخوتنا وأبنائنا في الأرض السليبة، وعلى وجودنا ومستقبلنا كله.
يقول شاعرنا في أحد الحوارات التي أجريت معه: «كانت الألمانية بالنسبة لي لغة مصطنعة أو مكتسبة، وأنا أميل أحيانا لوصف قراري بكتابة القصائد بالألمانية بأنه كان قرارا طائشا، ومع ذلك فقد كان قرارا قدريا لا مفر منه. لقد عرفت من سيرة حياتي أن دوري هو دور الوسيط. وإذا كان للأدب أن يؤدي دور الوسيط، فلن يمكنه أن يفعل ذلك إلا بالاتجاه من الداخل للخارج، وبالنظر إليه في كليته لا من جهة كونه دعوة أو نداء، أو تحريضا على تبني قضية معينة.» ثم يطل على رحلة حياته وكفاحه ويقلب بين يديه حصادها الناضج، فيقول في حديثه الهام مع السيدة ليلى حوراني (بجريدة السفير، في يوم الجمعة الرابع عشر من شهر يوليو عام 2000م): «أنا شخصيا لم أعد أخاف الآخر؛ لأنني رأيت أنني قبلت بتحديه، وتمكنت على صعيد شخصي من أن أواجهه، بل وأن أكسب هذا التحدي في مجالات كثيرة. إذا عممت تجربتي في هذه المساحة، أقول: ليس علينا أن نخاف الآخر؛ لأنني على ثقة بأن لدينا من التراكمات الإبداعية ما يمكن أن يصمد لعملية التنافس مع الآخر. نعم لو لم يكن إبداعنا محاصرا على كل الأصعدة، لكنا استطعنا أن ندخل بدون خجل ساحة المنافسة العالمية.»
والكلام - كما يقال - لا يحتاج لتعليق. إنه يجسد ويؤكد وجود ذلك «الحاضر/الغائب» الذي لم نكن في يوم من الأيام أشد حاجة إليه منا في هذا الوقت الذي تسحقنا فيه طاحونة تواطؤ الآخر مع ربيبته العدوانية، وتجاهله وصمته المريب، ذلك هو الثقة بأنفسنا. (ط) من طبع الشعراء، والممسوسين بإلهام من ربات الفن ألا يرضوا عن أنفسهم. أحيانا ينظر الواحد منهم وراءه «بغير غضب»، وربما بشيء من الرضا أو الغبطة بنجاح حققه أو إنجاز أتمه. لكن الصوت لا يلبث أن يناديه ويؤرق سكون لياليه حتى آخر نفس في صدره «لا لم تحقق حتى الآن ما كنت تحلم به وتتمناه» هذا شيء طبيعي ومألوف يجربه كل من أصابته لعنة الفن والإبداع، أو بالأحرى نعمته. ومع أن ذلك الصوت لا يتوقف أبدا عن فتح الجروح وكي الجلد والروح، فإنني أعتقد أن من حق شاعرنا - ومن حقنا أيضا معه - أن ينظر إلى الوراء وإلى الإمام - بعد طول المشقة والعناء، وبالرغم من كل العقبات والمرارات - بقدر غير قليل من الطمأنينة والرضا، ومن الامتنان والحمد والعرفان بعد كل شيء. وها هو ذا اليوم يتحسس بيده - أو بيد حكيمه العاقل الملهم عبد الله - نبض الكون الذي يخربه الظلم، ويفترسه التعصب، يصرخ مع المعذبين والمضطهدين، ويهمس مع العشاق والمحبين، وينشر سجادة كلماته على طريق الأمل، ويدق بإصرار على أبواب الحقيقة، منتظرا في صبر وبلا يأس أن يرد عليه صوت واحد، يقول له: ادخل! لو تردد يوما هذا الصوت في سمعه، لو أحس بنبضه يسري في دمه وجلده وعظمه، هل سيكون في الوجود من هو أسعد منه؟ أليست هذه الدعوة إلى رحاب الحقيقة هي الجزاء الأوفى عن ليالي الأرق ، والقبلة الدافئة فوق الجبين المرهق والعيون المتعبة، والبلسم الشافي للجروح التي لا تنفك تفتحها سكين البحث عن مقطع له رنين الإيقاع الحلو، أو عن كلمة يفوح منها عطر الحقيقة والصدق؟ (راجع قصيدة عزاء للذات، من ديوانه «عناق خطوط الطول»، 1978م، ص20.) (ي) وأخيرا يكفيه أن يهتف به نداء الحقيقة قائلا: طوبى لك ولشعرك! أديت وظيفة الفن والفكر والشعر الجوهرية، فكنت خير وسيط عدل ونعم الجسر المشرف. واستطعت - كما يقول صديقك الروائي هيدوتشيك
12 - أن تحمي نفسك من الشرين الخطرين: من التكيف مع ثقافة الآخر إلى حد الذوبان والتشوه وضياع الهوية، ومن التصلب على تراثك الخاص إلى حد التقوقع والتمزق واليأس. إنك استطعت أن تتحدى وتواجه وتصمد، ثم تحلق بجناحي طائرك الشعري، وتشدو بغناء العالم والأرض والإنسان. وبذلك استحقت شجرتك الشعرية أن تكون - كما جاء في فاوست - هي شجرة الحياة الذهبية الخضراء قبل أن تكون شجرة زيتون أو شجرة سنديان. واستحق شخصك وشعرك أن يقفا في نفس الصف الذي تقف فيه «جسور» أخرى مباركة، وسفراء مشرفون لحضارتنا وثقافتنا وكرامتنا وعدالة قضايانا؛ مثل: نجيب محفوظ، وأحمد زويل، ومجدي يعقوب، وفاروق الباز، ومحمد غنيم، ورمزي يسى، وغيرهم من عشرات، وربما مئات، النابغين العرب المنتشرين بأدبهم وعلمهم وفنهم في مدن الآخر وجامعاته ومكتباته، ينتزعون منه الاحترام والتقدير والإعجاب، ويخترقون حواجز التحيز والتعالي والتجاهل التي يتمترس وراءها، في مناطق مهمة، ويفرضون عليه - في غابة عالمنا الذي تدوي فيه طبول القوة ووحوشها - أن يعيد النظر في مواقفه المتجنية علينا، كما اضطر أن يفعل مع بلاد أخرى في الشرق الأقصى، والبعيد استطاعت أن تفرض عليه احترامها. (ك) وأكرر في النهاية أن هذا الكتاب لا يعدو أن يكون مجرد مدخل أولي إلى حياة شاعرنا وإنتاجه الزاخر، ودوره المرموق في مد الجسور والجذور، ومواجهة جدران الجهل والتجاهل والصلف والغرور بما فطرنا عليه من الصبر والتسامح، والشجاعة والحكمة، والثقة التي تشتد حاجتنا إليها اليوم أكثر من أي وقت آخر في تاريخنا القديم والوسيط والحديث. والكتاب في النهاية تحية حب وتقدير وعرفان بقلم واحد من أحباب الشاعر وأصدقائه وعارفي فضله الذين يعيشون في العالم العربي وعلى ضفاف النيل.
القاهرة في أبريل 2001م
عبد الغفار مكاوي
صفحة غير معروفة