الزيتونة والسنديانة: مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا تكلم عبد الله
تصانيف
أنا أيضا أحمل العبء معكم عن طيب خاطر.
لو شاء أحد أن يقول:
كم هو ثقيل على الظهر المحني لهذا البلد!
7
لكن هذا المسلك الأصيل لم يكن ليمنع الأنا من إعلان غضبها على الكسل، والجمود، واللامبالاة التي تظهر أحيانا على الوجوه الحجرية في المطاعم والمتاجر والمكاتب، تلك الوجوه المتبرمة الساخطة على كل محاولة للخروج «من إسفنج الجدران الأربعة المقدسة».
8
ومع ذلك، فإن كل مظاهر الجفاء أو العداء لا يمكنها أن تقتلع جذر انتمائه للتربة الجديدة. فهناك الزوجة والأطفال والأصدقاء والأماكن، والذكريات التي تجعل من هذه المدينة - ذات الهواء الفاسد الملبد بغبار الفحم - وطنا يعتز به، دائم الشوق إليه، حتى في أحلام نومه ويقظته. فهو في أحد هذه الأحلام يتخيل أنه يدق باب أي بيت، ثم يدخل ويتسلق التماثيل النصفية المتصلبة لسكانه؛ حتى يصل إلى الصدر، وتخرج التماثيل من جلدها السميك، وتستقبل الزائر كما يجب أن يستقبل الضيف قائلة له: اجلس يا أخي على مائدتنا، قل لنا ما الذي أضناك طول النهار، وأنت تجوب وحيدا هذه الشوارع الخالية؟ ثم يرى - في الحلم بطبيعة الحال - أنه يسند جلده المشبع بأحلام يقظته الرطبة على جلدهم الدافئ.
9
ومع الأحلام يطير به بساط الآمال متجها نحو إنسان يناديه في الليل، أو صدر أو جلد دافئ، أو عين طفل ينظر إليه كما يتمنى هو أن ينظر للعالم، أو شارع مشمس في اللحظة التي يتجمد فيها من البرد، وربما يحمله إلى «سيزيف» يدحرج الصخرة أسفل الجبل، أو إلى «بروميثيوس» يقبض على النار، ولا يتركها تسقط من يده، أو صديق يفكر فيه، ويشعر أن القلق يعذبه في هذه الليلة، فيطوقه بدرع الصداقة والمحبة والثقة؛ لأنه مختلف عن ذلك «الآخر» الذي انطلق - وليس في سلة رأسه سوى أرقام - ليقطع عليه تحليقه في الطريق اللبني.
10 (ح) نعم، لقد صمم على الحياة في هذه المدينة التي جعلها وطنا له؛ رغم إحساسه أحيانا بالاغتراب، ورغم تأزمه وتمزقه بما يراه، ويلمسه من تناقضات الواقع الذي يعايشه ويشارك فيه. وهو في سبيل هذه المحاولات الدائبة لغرس الجذور في الوطن الآخر لا يتردد، حتى عن أن يزجر أشواقه لوطن الطفولة، وأن يكبت «نداءات» الوطن المتكررة في الصحو والمنام بالعودة إليه، هذه العودة التي ستبدو بغير شك - وسط المعارك التي يخوضها لتثبيت وجوده في الوطن الآخر - أشبه بالفرار أو الهروب. من أجمل ما يصور ذلك: قصيدته التي جعل عنوانها «أورفيوس»:
صفحة غير معروفة