الزيتونة والسنديانة: مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا تكلم عبد الله
تصانيف
لا تجلب النسيان.
أمام النافذة يتساقط الثلج على الطرق الخالية،
بلا هدف،
على الحقول الجرداء، وعلى حواجز الحدود يتساقط الثلج أبيض.
وجد نفسه يعامل ممن حوله كعامل أجنبي معوق أو طفل متخلف العقل. لم تشفع له قراءاته لرامبو وبودلير، وتولستوي، وماياكوفسكي، وناظم حكمت، ونيرودا، وجوته، وهيني، ولم يمكنه الفتات الذي حصله من اللغة الغريبة من تخطي الحواجز والأسلاك الشائكة إلى «الآخر» الذي لم يضن عليه بالتهكم، ولم يرحمه من الشراسة والصلف والغرور. وحاول في ميونيخ وبرلين أن يمد جسر اللغة بينه وبين الآخرين، فخذله الحصاد البائس الذي كان يلتقطه من الأعمال المهينة التي يزاولها، ولا يساعده على تحمل نفقات التعلم. كانت قوة الصدمة أكبر من قوة الاحتمال والصبر. وكاد المغترب - المفعم بحكم طبيعته بالإصرار والثقة والأمل - أن يفقد كل أمل أو ثقة في نفسه وفيمن حوله.
لقد كان أقسى ما يلقاه كشاعر أن يفقد اللغة والمخاطب الذي اعتاد أن يتوجه إليه، وهو ما يساوي فقدان الظل والهوية. فهل ستساعده المنحة، التي حصل عليها بمحض الصدفة أو المعجزة للدراسة في بلد الاشتراكية والديمقراطية والأخوة والتضامن الإنساني، على أن يجد في اللغة الجديدة وطنه الجديد؟ وهل سيستطيع الشعر الذي سينظمه بها أن يجذب إليه أذن المخاطب الجديد وعينه ووجدانه؟ (ه) وحصل على المنحة المأمولة في سنة 1961م للدراسة بمدرسة المسرح في ليبزيج. لم يتردد لحظة واحدة عن مغادرة ألمانيا الغربية التي قاسى فيها الأمرين، والرجوع إلى بلد اليوتوبيا (المدينة الفاضلة)، التي طالما طافت بها أحلامه وأحلام جيله. وبدا كل شيء في الأيام والأسابيع الأولى، وكأنه يعيش بحق في الجنة: «في اليوم الأول الذي قضيته في بيت الصداقة أعطوني غرفة مدفأة، وأخذتني معلمتي إلى المجمع الاستهلاكي، فاشترت لي معطفا وبذلة وسلمتني ثلاثمائة مارك اشتريت منها جهازا لتشغيل الأسطوانات (جراموفون)، مع السيمفونية السادسة لتشايكوفسكي. ما زلت أذكر هذا إلى اليوم. لقد شعرت بأنني إنسان، وأصبحت جمهورية ألمانيا الديمقراطية في نظري هي الفردوس .»
3
ولازمه الشعور في تلك الأيام والشهور الأولى، بل حتى اليوم الحاضر، بالامتنان نحو البلد الذي آواه، وما يزال يؤويه إلى الآن، حتى نسي أو كاد ينسى أن سلطاته البيروقراطية قد رحلته قبل ذلك بسنتين إلى برلين الغربية، ليشقى فيها وفي غيرها من المدن المتوحشة، ولكنه الإحساس بالوفاء والعرفان الذي لم تخمد جذوته أبدا في صدره، وإن كانت نارها قد ضعفت خلال عقد الثمانينيات الذي تعرض فيه للضغوط النفسية الثقيلة، والذي سبق انهيار التطبيق الاشتراكي وتوحيد الشطرين: «إني أكسر هذا السور العالي، سور الشكر الذي يفصل بيننا، أكسره حجرا حجرا.»
4
وساعدته موهبته اللغوية الفائقة، مع الظروف النفسية والاجتماعية والسياسية الطيبة التي أحاطت به، إلى الحد الذي جعله يقدم أول قراءة لقصائده بالعربية، مع ترجمتها الألمانية، أثناء الفترة التي قضاها في معهد «هيردر»، الذي التحق به لتعلم اللغة. (و) وأشرق في أفق حياته ربيع آخر عندما تمت الموافقة في سنة 1963م على التحاقه ب «معهد الأدب في ليبزيج»، وهو المعهد الذي كان يحمل اسم الشاعر التعبيري والثوري المعروف، وأول وزير للثقافة في «ذلك البلد الأفضل» وهو يوهانيس ي. بيشر. كان قرشولي هو الشاعر الأجنبي الوحيد في هذا المعهد بين زملائه من الشعراء والكتاب الشبان. وتفرد المعهد يرجع إلى اقتصاره على قبول شباب الشعراء والكتاب الذين سبق أن أثبتوا مواهبهم الإبداعية في الكتابة الأدبية، شعرية كانت أو قصصية أو مسرحية أو نقدية ... إلخ، بحيث يتولى أساتذة المعهد من كبار الشعراء أو النقاد صقل هذه المواهب، وتفجير الطاقات الإبداعية، ومدها بالوقود المعرفي والجمالي والحرفي والفني المتجدد.
صفحة غير معروفة