وأما «كوثر» فقد تزوجت من «الدكتور أحمد عبد العزيز» ابن الطبيب الذائع الصيت في النصف الأول من القرن الماضي «الدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل» وسافرت معه إلى أمريكا في أول حياته العملية. وعلى رغم أنها كانت صغيرة السن إلا أنها عرفت بفضل نشأتها كيف تكون مشرفة وكيف تكون أما حازمة وحانية في نفس الوقت، وكانت نتيجة هذا الحزم وهذا الحنو فتاتين هما مثال للأخلاق وحسن الطباع وغزارة العلم، وهما الدكتورة «سناء إسماعيل» و«وفاء إسماعيل» وعجبنا جميعا كيف تستطيع كوثر التي تزوجت في السابعة عشرة من عمرها أن تربي أبناءها هذه التربية المثالية! وأما ابنها «عبد العزيز إسماعيل» فهو من ألمع أبناء جيله، عمل في البنوك وفي الأعمال الحرة، وبرز فيها جميعا.
والذي يسترعي النظر في أولاد دسوقي باشا أن حبهم الشديد وإعجابهم به يكاد يصل إلى التقديس، ترى كيف استطاع دسوقي باشا أن يترك كل هذا التأثير في نفوس أولاده؟! ترى ما الذي خصه به الله ولم يخص به باقي الآباء؟ تمنيت دائما أن أجد جوابا لهذا السؤال.
وأما حب الناس له فهو ما زال موجودا إلى الآن تتوارثه الأبناء عن الآباء والأجداد، حتى إنه عندما دخل «شامل» الانتخابات عام 1975م، نجح نجاحا ساحقا، وقال له الناخبون نحن ننتخبك من أجلك ومن أجل ذكرى والدك، وذلك بعد وفاة دسوقي باشا بعشرين عاما، وعلى رغم استعداء المسئولين في تلك الحقبة الفلاحين على أصحاب الأرض.
والترابط والحب يجمع بين أولاد دسوقي باشا، فإنني أذكر أن قلت لزوجي يوما: «أنا أحب أختيك.» فأجابني بتحد وحماس على الفور: «طبعا فهما محترمتان ومهذبتان ...» وهنا قاطعته: «خلاص بطلت أحبهم!» وأشهد لأختيه وأضم لهما صفية زوجة شامل وأقول: إنني شعرت منهن بعد رحيل زوجي باهتمام زائد ورعاية وحب أكثر بكثير مما كنت أتوقع.
وصلته ب «ماهر أباظة» هي صلة قرابة وصداقة وحب نما منذ الطفولة الأولى، وصداقة الطفولة لها مكانة خاصة في قلوب الناس ولا تنتهي ولا تنسى، وعلى رغم فارق السن البسيط بينهما إلا أن «ماهرا» كان يعامله باحترام، وهذا هو أدب زمان. وعندما وصلا إلى شهادة البكالوريا (الثانوية العامة الآن) نزلا من الإسكندرية إلى القاهرة ليتقدما إلى الجامعة، وأقاما في منزل دسوقي باشا، ولم يكن به أحد لأن أهل البيت جميعا كانوا في المصيف، فبقيا ثلاثة أيام لا يأكلون إلا العنب. وقبل ماهر في كلية الهندسة، وثروت في كلية الحقوق، ومشى بهما الزمن إلى أن تزوج مني. وكان ماهر - وهو عمي - لا يزال في كلية الهندسة لأن سنوات الدراسة تزيد فيها سنة عن كلية الحقوق، وكان ماهر وأخي محمد - وكان في كلية التجارة - يلازماننا عندما نذهب إلى السينما، وكنا أحيانا نتناقش أنا وزوجي في السيارة ، فلا ينطق الضيفان؛ خوفا من أن تسوء الفسحة، وفي الأغلب كانا يتحيزان لزوجي لأنه هو الذي يدفع، وكانا يدخران مصروفهما لسهرات أهم من السينما. ويحضرني قصة طريفة حدثت لهما وماهر في سن السادسة عشرة وأخي في الرابعة عشرة؛ فقد كنا في الصيف في الإسكندرية وأخذهما عمي «عثمان» إلى قهوة التريانو في محطة الرمل ثم أعطاهما جنيها ليحجزا به «لوجا» في السينما للعائلة، وذهبا وأمام شباك التذاكر طلبوا منهما جنيها وقرشا.
ولم يكن معهما هذا القرش فعادا إلى عمي «عثمان» ووقفا أمامه صامتين فقال لهما: «ما لكما؟» فأجاباه بأنه لم يكن معهما قرش ليكملا به ثمن «اللوج»، فاندهش وقال لهما كيف لا يكون مع شابين مثلكما قرش؟ وأعطاهما القرش وحجزا التذاكر ولكنهما عادا من محطة الرمل إلى الشاطبي سيرا على الأقدام.
ونعود إلى صداقة ثروت بماهر، فأذكر أنه في اليوم الذي أنعم فيه الرئيس حسني مبارك على ماهر بوشاح النيل دخل علينا الغرفة وكان ثروت على فراش المرض، فأشار إليه بكلتا يديه أن يقترب منه، ثم قبله قبلة كلها حب وسعادة.
وحدث أن فقدت هدى أباظة زوجة الدكتور عثمان خليل عثمان ابنا شابا في مقتبل العمر وفي كامل صحته وفي ثوان، ومن هول ما أصابها رفضت أن ترى أو تستقبل أحدا، وأغلقت حجرتها عليها وانفردت بآلامها، وقالت: «لو جاء أحد يعزيني لتركت المنزل.» وأخبرت زوجي بحالتها فانزعج وأعطاها كل العذر فيما تفعل، وبعد دقائق أمسكت سماعة التليفون وطلبت ابنة عم أبي «هيام» وهي في سني، وأخذت أتفق معها على أن نذهب سويا للعزاء؛ فإذا بثروت يصرخ قائلا: أنتما تعلمان أنها لا تستطيع أن ترى أحدا ومع ذلك تصممان على زيارتها! - هي وقفت إلى جانبي ومن واجبي أن أقف إلى جانبها. - أنتما تذكرانني بال... وقال كلمة لم أفهمها ولم أسمعها قبل ذلك ولكن معناها أننا نفعل مثل الذين يذهبون إلى المآتم ليأكلوا فيها. - هي قضت معي أنا وإخوتي شهرا في الربعماية وقت رحيل أمي، وكنا أطفالا حينذاك وكان كل همها أن تواسينا وتخفف عنا، فكيف أتركها الآن؟
فصرخ مرة أخرى وأقسم قسما غليظا. - كيف تقسم كل هذا القسم على أداء واجب؟ فأعاد جملته بنفس الحدة.
فأسقط في يدي، إذ إنه من المضحك أن يكون واجب عزاء سببا في نقاش بهذه الحدة بعد زواج دام خمسين عاما، ولم أقف إلى جانبها في الكارثة التي حلت بها ولكن على الرغم مني، ولما فكرت وجدت أن معه كل الحق، فقد فكرت أنا في نفسي وفي الدين الذي في عنقي، أما هو فقد فكر في الأم الثكلى وفي مأساتها المروعة، وأشفق عليها أن تتحمل ما لا تطيق.
صفحة غير معروفة