المقدمة
أول خفقة قلب
أبوة حانية وتدليل
حب وتقديس
أصدقاؤه
أبي ثروت أباظة
كتب تحدثت عنه
هذه مقتطفات من مقالاته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومقالة أخرى عن الأزهر
برقية تعزية من الرئيس حسني مبارك في وفاة ثروت أباظة
الشورى ينعى ثروت أباظة
كلمة الدكتور مصطفى كمال حلمي في تأبين ثروت أباظة
كلمة الأديب العالمي نجيب محفوظ في تأبين ثروت أباظة
مواقف للأستاذ أنيس منصور
ثروت أباظة الفنان الإنسان
مختارات من إهداءات ثروت أباظة
المقدمة
أول خفقة قلب
أبوة حانية وتدليل
حب وتقديس
أصدقاؤه
أبي ثروت أباظة
كتب تحدثت عنه
هذه مقتطفات من مقالاته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومقالة أخرى عن الأزهر
برقية تعزية من الرئيس حسني مبارك في وفاة ثروت أباظة
الشورى ينعى ثروت أباظة
كلمة الدكتور مصطفى كمال حلمي في تأبين ثروت أباظة
كلمة الأديب العالمي نجيب محفوظ في تأبين ثروت أباظة
مواقف للأستاذ أنيس منصور
ثروت أباظة الفنان الإنسان
مختارات من إهداءات ثروت أباظة
زوجي ثروت أباظة
زوجي ثروت أباظة
تأليف
عفاف عزيز أباظة
المقدمة
في جلسة هادئة قلت لزوجي بين المزاح والجد: لماذا لا تكتب عن حياتنا؟ لقد كتبت عن حياة الآخرين، ولم تفكر أن تكتب عنا. إن حياتنا مليئة بالمشاعر؛ فيها أيام هادئة وأيام يتأجج نارها، إنها ليست حياة مملة ولا روتينية ولا تشبه حياة كل الناس؛ فنظر إلي نظرة طويلة وقال: يجب أن تعلمي أنه لا يطلب إلى كاتب أن يكتب في موضوع يحدد له. - إنه ليس أمر تكليف وإنما أنا أقترح عليك، ومع ذلك سأكتبها أنا. وكتبتها فعلا، ولكني لم أنشرها، وكان ذلك سنة 1975م وكانت كتاباتي حينئذ ما زال فيها ومضة الشباب. ورحل زوجي سنة 2002م، وقابلت الكاتبة المعروفة لوسي يعقوب في حفل تأبين لزوجي، الذي أقامه اتحاد الكتاب والذي يرأسه الآن الكاتب فاروق خورشيد؛ بمناسبة ذكرى الأربعين، وكان منظم الحفل هو الروائي فؤاد قنديل، قابلت لوسي يعقوب وقالت لي في حماس ظاهر: اكتبي عن ثروت أباظة كما كتبت عن أبيك عزيز أباظة.
فقلت لها: إن شاء الله، ولكنني غارقة في أحزاني، وليس في استطاعتي أن أكتب أو حتى أفكر. إلى أن مرت الشهور واستطعت أن أتمالك نفسي وفكرت في الكتابة، وأكون بذلك قد أرضيت نفسي وأرضيت لوسي يعقوب، وبدأت أكتب عن ثروت الذي أسعدني أن أعيش معه مرة أخرى.
ورجعت إلى الكتاب الذي كتبته عن حياتنا سنة 1975م وأخذت نصفه الأول المليء بالمشاعر الجميلة وحماس الشباب، وأكملته بكتابة ما يناسب سني الآن.
وقد دام زواجنا ما يربو على خمسين عاما، ولا أستطيع أن أقول إن هذه الأعوام الطويلة كانت كلها سعادة وسلام؛ فليس هذا من طبع الحياة، ولن يصدقني أحد إذا ادعيت ذلك، ولكني الآن لا أذكر إلا الأيام الجميلة واللفتات الرقيقة، وما عدا ذلك فقد غاب عن مخيلتي ونسيته تماما.
ولو حاولت أن أكتب الجزء الأول من الكتاب الآن ما استطعت؛ لن تكون الأحاسيس بالنضارة التي كتبتها بها سنة 1975م.
أول خفقة قلب
نشأ ثروت أباظة في بيت عز وكرم وثراء، وترعرع في جو كله مبادئ وأخلاق، وفي جو كله سياسة ووطنية، وفي محيط كله شعر وأدب، فجرى كل ذلك في دمه، وتكونت شخصيته الحرة الأصيلة التي لا تقبل إلا الحق ولا ترضى عن الحرية بديلا. كان دسوقي أباظة باشا في شبابه من شباب الأسرة النابهين، وكان يتسم بالذكاء والرزانة ورجاحة العقل والتفاني في خدمة الناس، وكان مغرما بالشعر والأدب منذ فجر شبابه، تخرج من مدرسة الحقوق سنة 1911م، وعين وكيلا لنيابة الجيزة، وتصادف أن وقعت فظائع الجنود الإنجليز أثناء ثورة 1919م في العزيزية والبدرشين والشوبك من سلب ونهب؛ ففتح - بصفته وكيلا للنيابة - محضرا للتحقيق في هذه الوقائع، وكان هو الوحيد في القطر المصري الذي أجرى التحقيق في محاضر رسمية على رغم أن الإنجليز قد اقترفوا مثل هذه الجرائم في أنحاء البلاد، ثم وزع محاضر التحقيق في جميع أنحاء مصر، وطبعها على حسابه الخاص باللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية ليثير سخط المصريين والأجانب، ورأى الإنجليز أن هذا التصرف غير مقبول خاصة وأنه موظف في الحكومة؛ فاستقال من النيابة بعد أن اطمأن إلى أن جميع المصريين قد أحيطوا علما بجرائم الإنجليز. ولما تأسس حزب الأحرار الدستوريين سنة 1922م، اختير عضوا بمجلس إدارته، ثم سكرتيرا عاما له. وقد ظل عضوا بمجلس النواب منذ 1926م إلى سنة 1952م، واختير وكيلا لمجلس النواب سنة 1934م إلى سنة 1938م، ثم اختير وزيرا للشئون الاجتماعية سنة 1941م، ثم وزيرا للأوقاف ثم وزيرا للخارجية.
وعندما كان وزيرا للخارجية رفض البدلات قائلا: إنني أدعو الأجانب والمصريين في منزلي الخاص فكيف آخذ تكاليف ذلك من الحكومة؟ وكان منزله يعج بالكبراء والوزراء والشعراء، وكان رئيسا لجمعية أدباء العروبة، وكان منهم العوضي الوكيل، ومحمود غنيم، وأحمد الغزالي، وأحمد مخيمر، ومصطفى حمام، وطاهر أبو فاشا.
تزوج دسوقي أباظة سنة 1944م من كبرى كريمات عمه عبد الله بك أباظة، وكانت من جميلات الأسرة، حتى إن المغنية التي أحيت فرحها قالت متعجبة: إنني لم أر عروسا واثقة من نفسها إلى هذا الحد؛ فهي لم تضع على وجهها أي شيء من أدوات الزينة، وكانت نعم الزوجة المشرفة، ونعم الأم الراعية، ورزقها الله بأربعة أولاد: ثروت وشامل وزينات ثم كوثر.
وكان بيت دسوقي باشا في العباسية مكونا من ثلاثة طوابق: الطابق الأرضي يسكنه العاملون في المنزل وكلهم من غزالة وبلغ عددهم 32 شخصا، فكل واحد منهم يعيش مع أسرته معززا مكرما ... أما الطابق الأول فكان معدا للاستقبال، وبه حجرة مكتب دسوقي باشا، وحجرة مكتب ثروت، وأخرى لأخيه الأصغر شامل، وحجرة نوم للضيوف وللأقارب من الشباب الذين يأتون من الزقازيق؛ ليكملوا دراستهم الجامعية في القاهرة. وكانت تقوم بطبيعة الحال بين الشباب الضيوف وأصحاب البيت صداقات دامت مدى الحياة.
وأما الطابق الثاني فكان للنوم واستقبال الأقارب المقربين. وكان شامل وابن عمته سامح وابن عمه سمير يكونون جبهة لا تفترق قط، وكان زعيمهم في الشقاوة شامل، وزعيمهم في التخطيط سامح، وأما سمير فكان متفوقا دائما في دراسته، وكان الثلاثة من شباب حزب الأحرار الدستوريين، ونشئوا على الاهتمام بالسياسة وتفهمها، ويعد سامح الآن مرجعا في تاريخ السياسة، ومشت بهم الحياة واختار كل منهم طريقه، ولكن كلما اجتمعوا تجددت ذكريات الطفولة الجميلة.
وأما الأختان زينات وكوثر فقد كانتا لا تفارقان ابنة عمهما سلوى، فقد نشأن معا، وقضين معا أسعد أيام الطفولة، ولم يكن لهن أية صلة بما يدور في الدور الأول، ولا بمن يأتي من ضيوف من أدباء وشعراء، كان لهما عالم آخر، وكان والدهما يصحبهما في سيارته ويذهب إلى اجتماع مجلس وزراء مثلا، والابنتان تنتظران في السيارة ساعة أو أكثر، وكانتا تسعدان بهذه النزهة، أما السينما فكانتا تذهبان إليها بصحبة الخالات أو العمات ولكن بعد مفاوضات طويلة مع الوالد، وتنتظران نتيجة المفاوضات على أحر من الجمر.
لم يكن ثروت طفلا مثل باقي الأطفال؛ فهو لم يتمتع بطفولته ولم يلعب كثيرا معهم، وإنما كان يصاحب والده في كل مكان يذهب إليه، فكان يجالس الوزراء والكبراء والأدباء والشعراء؛ ولذلك فهو لم يتهيب المناصب في كبره؛ لأنه نشأ بينها. صحبه والده أكثر من مرة إلى مجلس النواب، وجلس في شرفة الزوار، واستمع إلى المناقشات السياسية، وتفتحت عيناه على ما يدور في المجالس النيابية؛ فجمع مع حب الأدب تفهم السياسة فكانت كتاباته - عندما بلغ سن الشباب - خليطا من الأدب والسياسة، وكان في نظر إخوته الذين يصغرونه بسنوات بسيطة هو الأخ الأكبر الذي له الحق في مجالسة الكبار وفي مكانته المميزة عند أبويه، ولعل ذلك يرجع إلى أنه أكبر الأولاد، ورزقا به بعد ثلاث سنوات من الانتظار والقلق.
ولم يكن ثروت من المتفوقين في الدراسة على رغم ذكائه وقوة ملاحظته، بل كان ينجح فحسب ولا مانع من أن ينجح في الدور الثاني.
ومع ذلك فقد حدث وهو في المدرسة الابتدائية أن دخل أستاذ اللغة العربية وكتب أبياتا من الشعر على السبورة، وكانت [لمعروف الرصافي]:
1
انظر لتلك الشجرة
ذات الغصون النضرة
ولما انتهى من الكتابة سأل: من يقرأ هذه الأبيات؟ فقام ثروت وقال: أنا حفظتها، فاندهش المدرس وقال: أدر ظهرك للسبورة وسمع، ففعل ما أمر به الأستاذ وسمع الأبيات كلها بدون تردد. وفي مرة أخرى كتب له والده كلمات باللغة الإنجليزية ومعناها بالعربية وطلب منه أن يحفظها وبعد دقائق قليلة قال لقد حفظتها، فقال والده: لو أخطأت فسأعاقبك فأنت لم تأخذ الوقت الكافي لحفظها، وإذا لم تخطئ فسأعطيك ريالا. وكان الريال في هذه الأيام ثروة بالنسبة للأطفال، وفاز بالريال، ولكن مع ذلك لم يكن من التقدميين ولا المتفوقين في الدراسة.
وقد حدث مرة وهو في المدرسة الابتدائية أن أيقظوه على الرغم منه ليذهب إلى المدرسة؛ فما كان منه إلا أن ارتدى ملابسه ونزل إلى الطابق الأول وتوجه إلى غرفة الضيوف واستأنف النوم. وتكرر منه ذلك فصمم كبير الخدم (عم أحمد بخيت) أن يخبر والدته بالأمر؛ لأنه يعتبر نفسه من المسئولين عن أهل البيت.
وذات صباح سمع ثروت خبطا مروعا على باب حجرة الضيوف وكاد الباب أن ينخلع؛ فانزعج وفتح الباب فوجد نفسه وجها لوجه أمام والدته، فعنفته بشدة وأرسلته في الحال إلى المدرسة، ولما عاد لم يجد كبير الخدم الذي أفشى سره وعلم أنه سافر إلى قريته «غزالة» لأن ضميره لم يسمح له بالسكوت وفي نفس الوقت أحس أنه أغضب «ثروت». وعبثا حاولت الأم أن تطلب منه العودة، ولكنه قال لها في التليفون: لن أعود إلا إذا كلمني ثروت، وفعلا اتصل به وقال له إنه لا يحمل له حقدا أو ضغينة، ورجاه أن يعود فورا، وظل هذا الصفاء يلازمه طوال حياته، وقد أتم دراسته الجامعية دون مشاكل.
وكانت عائلة دسوقي باشا معتادة أن تقضي شهرين من الصيف في قريتهم «غزالة» وشهرا في رأس البر، ومن هنا اختلط ثروت بالفلاحين ودخل في أعماقهم، ولم تخف عليه خافية من حياتهم ولا من طباعهم، وعرف أن ما يقوله الكتاب عن الفلاح بأنه ساذج وصف خاطئ؛ فالفلاح المصري ذكي وحريص، وبناء على معرفته العميقة له كتب رواية عن القرية وهي «هارب من الأيام» التي قال عنها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين: إنها أحسن ما كتب عن القرية في الأدب العربي.
وكان دسوقي باشا يجلس في «السلاملك» وحوله الفلاحون من غزالة ومن القرى المجاورة للتحية ولقضاء أشغالهم، ولم يدخر دسوقي باشا وسعا لمساعدتهم وخدمتهم حتى إن أحفادهم يحملون الجميل ويذكرونه حتى اليوم.
في أيام الانتخابات كان منزل دسوقي باشا يمتلئ بالناس منذ الصباح الباكر وحتى آخر الليل ويقدم لهم كل الإكرام والترحيب، وكان دسوقي باشا ينجح في الانتخابات دائما، إلى أن جاءت وزارة وفدية في الأربعينيات وساعدت خصم دسوقي الوفدي مساعدات سافرة بدون أدنى تحفظ وبلا حدود، وعلى الرغم من ذلك نجح دسوقي باشا، وقد تكاتفت الأسرة شبابها وشيوخها وانتشرت في جميع أنحاء الدائرة للمراقبة والمساعدة إلى أن اطمأنوا على نجاح عميدهم. وقد تعرض فكري باشا أباظة لمضايقات بسيطة أثناء هذه الحملة الانتخابية، وقد كتب الشاعر الأستاذ العوضي الوكيل قصيدة يهنئ فيها دسوقي باشا ويسخر من فشل مناورات الحكومة، مطلعها:
قهرنا الحكومة يا عارها
ودسنا بأقدامنا غارها
2
وكانت كوثر صغرى بنات دسوقي باشا تلقيها وهي في السابعة من عمرها أمام الجموع التي تتواجد في بيت والدها، وكان منزله عبارة عن منزل أدب وشعر.
وفي الدور العلوي كانت تجيء الفلاحات ويجلسن حول سيدة البيت، وكانت تكلمهن وتسأل عن أولادهن واحدا واحدا بالاسم، وكانت تحل لهن المشاكل العائلية، حتى إنه جاءت فلاحة تشكو زوجها فقالت لها: أشركي قريبا من أقاربه، فقالت لقد فعلت وحاولت بكل الطرق إصلاحه ولكن لا فائدة. - اذهبي إلى العمدة ليصلحه بالشدة. - فعلت ولكن لا فائدة. - إذن تحملي من أجل أولادك واتركي عقابه لله. - يا سيدتي لم أعد أستطيع التحمل (قالتها بلهجتها الريفية).
واهتم ثروت بأمر هذه الفلاحة المسكينة وأحضر زوجها وقال له: امض على تعهد أنك لن تؤذي زوجتك. - أنا لا أعرف الكتابة يا بيه. - إذن فاذهب وامح أميتك. - ليه يا بيه أنا حلو كده (بكسر اللام).
وظل حلوا إلى آخر يوم في حياته و«وحشا» (بكسر الواو الثانية أو فتحها) بالنسبة لزوجته.
ولم يتركه ثروت إلا وقد أخذ منه تعهدا شفويا بحسن معاملة زوجته .
ومن غزالة كان يذهب إلى زيارة جدته لأمه وأخواله في الزقازيق، التي تبعد عن قريته بمقدار خمسة كيلومترات، وكان يقضي معهم بضعة أيام، وكان منزل سليمان بك إسماعيل أباظة ملاصقا لمنزل جدته، وكان صديقا لأولاده: إسماعيل ونبيل وعايدة ونوال، وكانوا يقضون وقتهم في مرح وسعادة. وكان لهم مربية اسمها «أم حميدة» تحب ثروت وتخصه «بالسندوتشات». ولما كبروا كانوا يتذكرون أيام الطفولة الجميلة ويسود الضحك والمعاكسات، وسألهم مرة ثروت عن «أم حميدة» فقالوا: إنها توفيت؛ فانزعج وبكاها بكاء مرا بعث في نفسه كل ذكريات الطفولة، وهذه الدموع سالت وهو في سن الخمسين؛ فالإنسان يحن إلى من أحاطه بالحب والحنان في بداية العمر.
وأما الشهر الذي يقضونه في رأس البر فكانت السباحة في البحر هي التسلية الوحيدة للرجال فقط، وكانت «عشتهم» ملاصقة «لعشة» أم كلثوم، وكانت تجلس معهم في الصباح تحت الشمسية، وتتمشى مع دسوقي باشا وثروت وشامل بعد الظهر، وكان ثروت يتركهم ويذهب إلى مكان بعيد على الشاطئ ومعه الشوقيات، ويقرأ حتى تميل الشمس للمغيب ثم يكمل قراءته للشعر على ضوء القمر. ولما وصل إلى المدارس الثانوية هيأ له صديقه وأستاذه «عثمان نويه» الفرصة في أن يكتب في مجلة الثقافة ذائعة الصيت في هذا الوقت، وهي مجلة أدبية بحتة لا يكتب فيها إلا فطاحل
3
الكتاب، وكان يرأس تحريرها العالم الكبير الأستاذ أحمد بك أمين، وكتب ثروت المقالة وأخذها أستاذه وقدمها للأستاذ أحمد أمين وقال: إن هذه المقالة كتبها محام ناشئ. وأعجب بها رئيس التحرير ونشرها، وبعد ذلك ذهب إليه عثمان نويه ومعه ثروت وعرفه بالعالم الكبير، ومن هنا بدأ ثروت أباظة الكاتب.
وكان ثروت ينظر إلى أبي نظرة كلها إعجاب، واتخذه مثلا أعلى له، واقترب منه سواء بالزيارات أو بالتليفونات، وبادله أبي حبا بحب، وأحس فيه بشحنة أدبية تريد أن تنطلق، وكان أبي مديرا لمديرية أسيوط (محافظا) فكلفه أن يحضر «بروفات» مسرحيته الشعرية «العباسة» وكانت تمثلها الفرقة القومية على مسرح الأوبرا الملكية، وطلب منه أن يصحح للممثلين النطق والتشكيل، وقام بما كلف به خير قيام، واطمأن أبي على شعره من أن يفسد النطق الخاطئ الوزن، وزادت ثقته به وزاد الحب أيضا.
وكان ثروت يكلم أبي في أسيوط ليطمئنه على مسرحيته، وكان أبي قبل نهاية المكالمة يعطيني السماعة ويقول له كلم «عفاف» باعتبار أنني من جيله وأحب الأدب، وكان سني حينذاك ستة عشر عاما، وكان يحلو لثروت بعد زواجنا أن يقول: إنني كنت أكلم عمي عزيز في أسيوط في عمل، فلماذا كان يعطي لك السماعة؟ يريد أن يقول: إن أبي هو الذي أوحى إليه بفكرة الخطوبة. وترك أبي الوظيفة، واستقر بنا المقام في القاهرة، وكثرت زياراته لنا، وابتدأت بيننا صداقة وتبادل الكتب والمطارحة الشعرية، ثم بدأ الود من ناحيته وطلبتني والدته من زوجة أبي، ولما سئلت لم يكن لي عليه اعتراض إلا صغر سنه والفارق البسيط بيننا في السن.
وفي يوم رن جرس التليفون وسأل ثروت: لم لا تردين على التليفون منذ مدة طويلة؟ هل تتعمدين ذلك؟ - نعم. - لماذا؟ - ... - إنني أطلبكم أكثر من مرة يوميا ومع ذلك لا أسمع صوتك! - إن الامتحانات قد اقتربت وأفضل ألا أشغلك عنها. - أنت تكتمين عني أمرا وتدخرينه إلى ما بعد الامتحان. - الحقيقة ... نعم. - فهمت.
كانت هذه المكالمة التليفونية هي بداية قصتنا، فقد صور لي غرور الشباب أنني إذا رفضته وأخبرته قبل الامتحان فسوف أقضي على مستقبله، وأصدمه صدمة لا يفيق منها، ويضيع عليه ليسانس الحقوق وأكون أنا السبب؛ فآثرت أن أبتعد عن طريقه حتى لا يسألني هل قبلته أو لا؟
وكنا نستعد لحضور حفل كبير تقيمه جمعية مبرة محمد علي في سميراميس، وذهبت إليه مع أبي وزوجته وأخي، وهناك التقينا به. لم يطل بي المقام في الحفل وعلى رغم الاستعدادات التي سبقته، وعلى رغم الفستان الجديد الذي اشتريته خصيصا لهذه المناسبة، وعلى رغم «الكوافير» والتجميل والانتظار؛ فقد أمرني عمي عثمان - وكنت أناديه بابا - بالعودة إلى البيت. ولم أكن قد أمضيت في الحفل أكثر من نصف ساعة؛ ففي رأيه أنه لا يجوز للفتيات أن يوجدن في هذه المحافل العامة، وانصعت لأمر عمي ولم أنبس ببنت شفة لأن حق عمي علي هو نفس حق والدي علي.
وفي طريقنا إلى السيارة خرج معنا الشاب المتقدم لخطبتي، وذهب أخي للبحث عن السائق ووقفنا معا بين السيارات وكان هذا أول موقف عاطفي بيننا. - أرجو أن تعيدي التفكير، هذا كل ما أطلبه منك. فهل تعدينني بذلك؟
ولم يكن في استطاعتي إلا أن أعد، وكان وعدي صمتا وارتباكا. ومرت الأيام ونجح في الليسانس، وجاء أبي وعيناه الصغيرتان تشعان سعادة يسألني: ما رأيك فيه؟ لقد كلمني والده اليوم ثانية في أمر زواجك، فقولي رأيك؛ فالأمر يخصك أولا وأخيرا. - ... - أنا بالنسبة لك أب وأم؛ فقولي رأيك بصراحة. - وما رأيك أنت؟ - رأيي بعد رأيك. هل لديك عليه اعتراض؟ إنه من أحسن الشباب وأكملهم، ثم إن صلته الروحية بي قوية، ونوع تربيته يعجبني.
في الواقع لم يكن لدي اعتراض على الشاب نفسه؛ فهو طيب القلب، صافي النفس، لا يشرب، ولا يعرف النساء، وعلى خلق. - ولكن يا أبي فارق السن بيننا بسيط، وفي اعتقادي أنه يجب أن يكون الزوج أكثر تجربة وأكثر اختبارا للحياة؛ ليمكنه أن يقود سفينته برفق، وليمكنه أن يحل ببساطة المشاكل التي تبدو للزوجة صعبة الحل شديدة التعقيد. - إنني أنا ووالدتك كنا أسعد زوجين وتمتعنا بسعادة لا يحلم بها أحد، ومع ذلك فقد كان السن بيننا متقاربا.
لم أجرؤ أن أقول: إن الحب الذي كان يجمع بينكما هو الذي تغلب على كل المشاكل وأذاب كل العقبات.
يا بابا، إذا تقارب السن يشعر كل من الزوجين بعدم الثقة في عقلية الآخر، ويصور له غروره أنه هو المتفرد بالرجاحة والاتزان. - شاوري مخدتك وأجيبيني غدا. وحتى إذا تمت الخطبة ولم تشعري بالارتياح فيمكن التراجع فيها.
وبقيت طوال الليل تنازعني أفكار كثيرة، وتصارعني عواطف مختلفة. إنها لأكبر حيرة تملكتني، ماذا أفعل؟ ما الذي يقضيه علي الواجب؟ ما الذي يفرضه علي العقل؟ - مبروك؟
قالها أبي وعيناه تلمعان فرحا.
لم أر هذا الرجل في مثل هذه السعادة، إنها ملأت كيانه، وتبدت في كل حركة من حركاته وفي كل سكنة من سكناته.
إنه ليهز مشاعري أن أحس أنني السبب في إسعاد الرجل الذي ليس لي في الدنيا سواه، إنني أومن بالحب، ولكنني لا أحس به، ولكن أفلا تعادل فرحة أبي خفقة قلب المحبين؟ والله إنها ...
ليس معنى هذا أنني أكره هذا الشاب أو أعترض عليه، لا والله فإنني أحبه كثيرا وأراه متكاملا، إلا أنني أشعر بتباعد كبير في أفكارنا؛ فهو إنسان مطمئن النفس لا يرى الدنيا إلا في قالبها الوردي، وأراها أنا قاتمة الوجه، فكيف يجمع بين النور والحلكة وبين البساطة والتعقيد؟ ثم هو يريد - ككل شاب - أن يكون أبا ويرى أولاده يمرحون من حوله ويملئون دنياه حبا وسعادة، أما أنا فأرى في إيجاد الأطفال جريمة - وهذا الرأي خاص بي - فمن منا يضمن أنه سيعيش حتى يربي أولاده؟ ومن منا يستطيع أن يمنع ما يراه أطفاله بعده من هوان وعذاب؟ ثم إذا جاء الطفل مشوها أو متخلفا كيف أغفر لنفسي أنني أنا السبب في ذلك؟ ومن الغريب أن يكون تفكيري على هذا النحو من التشاؤم ولم أكن قد تجاوزت الثامنة عشرة، ولكن قد يكون موت أمي وأنا في العاشرة هو الذي جعلني أصدم في الدنيا وأصدم في الناس، وجعلني أرى ما يخفى عن الأطفال، فالأم تحمي أولادها كالمظلة تقيهم الحر والبرد والمطر، فإن ذهبت كشرت الدنيا عن أنيابها وزمجرت.
تمت الخطبة في منزل والدي بالزمالك في حفل عائلي نظمته زوجة أبي أمينة صدقي ابنة رئيس الوزراء السابق ما قبل الثورة إسماعيل باشا صدقي، وأضفت عليه من ذوقها الرفيع الرائع جمالا وأناقة وبقلب ينبض بحب وأمومة.
وقارنت بين نفسي المضطربة وبين نفسه المطمئنة الآمنة وخشيت الأيام، كانت فترة الخطوبة عبارة عن تحفظ دائم من ناحيتي، وعن حب متدفق كالشباب من ناحيته، كنت أراه كل يوم يتناول غداءه معنا كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، ثم يعود في المساء بابتسامة هادئة وبقلب ملتهب.
وفي يوم دخل ثروت إلى الصالون وكنت أطلي أظافري، فجلس إلى جانبي وطلب مني أن يقوم هو بذلك، وطبعا المقصود لم يكن المساعدة، وإنما المقصود هو تلامس الأيدي، وكان هذا هو نوع الغزل في فترة الخطوبة، وكنا لا نخرج وحدنا أبدا أيام الخطوبة التي دامت سنتين، وإنما كان خروجنا مع أبي وزوجته ومع أعمامي وزوجاتهم، هكذا كانت التقاليد في هذا الزمن.
وكنت أسأل نفسي هل أستحق منه هذا الحب؟ وكنت دائما أجيبها بغرور الشباب واعتقادي أن مثلي يجب أن يحب إلى هذه الدرجة بل وأكثر. ولكن مثلي دائما تهزه العواطف الجياشة الصادقة التي يحسها من قلب محب، فلقد وجدتني يوما وبدون سابق إنذار أشعر بتناقض غريب في مشاعري؛ أحسست بأن هذا الثلج الذي تراكم على قلبي كاد أن يذوب، إنني لم أكن أتصور أن قلبي سيخفق يوما بالحب، ولكن إذا بي وبعد شهور أسأل ابن خالي وكان أخا وصديقا: هل يمكن أن يكون تفكيري الدائم فيه حبا؟ وهذا القلق إذا غاب والفرح إذا أقبل أيكون هذا هو ما يسميه الناس بالحب؟ وهذه الخفقات التي تعلو حتى يكاد يسمعها الناس من حولي وهذا اللهيب الذي يطفو من القلب إذا هو ناداني أو نطق باسمي، إذا كان هذا هو الحب فأهلا به بعد طول الغياب.
وكانت أيام الخطوبة تعني بالنسبة لي لهفة وحبا من الخطيب، وهدوءا ورزانة من الخطيبة، وليس عليها أن تبدي مشاعرها بل عليها أن تستقبل المشاعر الجياشة بشيء من الكبرياء، وكنت لا أسمع منه إلا الكلمات الحلوة الرقيقة، ولكن للأسف لم يكن في مقدوري أن أسمعه بدوري كلمات جميلة؛ فقد كانت تقف في حلقي وتظل حبيسة به. وبقيت على هذه الحال بعد زواجي بسنوات طويلة. ولو كان يسمع نغمات قلبي وخفقاته لشعر بالزهو والثقة بالنفس. وإني لأندم الآن لأنني حرمته من المشاعر التي يحب الشباب أن يشعروا بها، وأنني ظلمته. ومشكلتي كانت في كبريائي وخجلي، وما حيلتي؟ فهذا هو قدري. ومع أني ألوم نفسي الآن بعد ما علت بي السن، وأقول يا ليتني ويا ليتني ... غير أنني واثقة أنه لو عاد بي الزمن إلى الوراء ما كنت غير الذي كنته، وتذكرت بيت الشعر الذي تعلمته من أبي وأنا طفلة وهو:
دلائل الحب لا تخفى على أحد
كحامل المسك لا يخلو من العبق
فما حاجتي للكلمات؟
وقد لامني إخوتي على ذلك؛ أختي الكبرى فردوس وأخي واثق، وقالا لي: إنك تعاملينه بشراسة، وهذا طبعك منذ طفولتك؛ فقد كنت دائمة الشجار معنا ومع أقاربك الذين من سنك، ولم أفصح لهما بالطبع عن أسباب هذه المعاملة.
وبدأ الإعداد للزواج، ولم يقبل أبي المهر من دسوقي باشا كما فعل مع أختي الكبرى، ولكن زوجة أبي - ولا أحب أن أدعوها كذلك لأنها أم بكل ما تحوي هذه الكلمة من معان - تدخلت وأصرت أن يحترم أبي التقاليد؛ فوافق أبي على مضض واشترى لي بالمهر «بروشا» من الماس، ولكن للأسف لم أتزين به لأنه كان كبير الحجم وأكبر بكثير من «البروشات» التي تتزين بها صديقاتي، وأقيم الفرح في منزل دسوقي باشا، وكان المدعوون من السيدات فقط، وأما الرجال فكانوا أقرب المقربين لي ولثروت، وكانت «الكوشة» عبارة عن ستائر من الحرير الأبيض مطرزة بالخيوط الذهبية، وكانت زوجة أبي قد قضت صباح يوم الفرح في إعدادها.
وبدأت الزفة، وهي في نظري الدقائق العصيبة التي تمر بها كل فتاة، يقولون: إن هذه الدقائق لا تحسب من العمر، وهي فعلا لا تحسب من العمر لأنها تخرج الفتاة عن الشعور بالحياة، فأمام كل هذه العيون التي تنظر في لحظة واحدة إلى شيء واحد لا يسعها إلا أن تكف عن الحياة، وبينما أنا خارج الحياة لم أر إلا عيون أبي تتابعني وبجانبه أم كلثوم، واستطعت أن أسمع أغنية الزفاف التي سمعتها أجيال من قبلي وسيسمعها أجيال من بعدي. وبعد انتهاء السهرة جاءت زوجة عمي أحمد وقالت لي: هيا غيري ملابسك لتذهبي مع زوجك إلى فندق مينا هاوس، فقلت لها: ولكنني لم أستأذن أبي ولا أعمامي، فنظرت إلي طويلا لتتأكد أنني لست بلهاء. وفي اليوم التالي ذهبنا إلى الإسكندرية، وبدأ شهر العسل، ونزلنا في فندق البوريفاج ، وهو من أهم الفنادق هناك، وأخذنا نتجول في البلد، وذهبنا إلى محل هانو ، وكان صورة طبق الأصل من محلات باريس، ولفت نظري نوع من العطر، وقلت: إنني أحب هذا العطر ولم أشتره لأنني كنت قد اشتريت في جهازي كل ما أريده ولا ينقصني شيء، ولما عدنا إلى الفندق قدم لي ثروت هذا العطر الذي أعجبت به، وبدلا من أن أفرح به وأشكره قلت له في سخافة: لماذا اشتريته؟ فقد كنت أستطيع أنا أن أشتريه، ولكني تذكرت أن عندي منه ما يزيد عن حاجتي. ولن أقول ماذا حدث، غير أنني أستحق منه أي رد فعل ممكن؛ فهو شاب في الثالثة والعشرين من عمره وتزوج منذ يومين ويريد أن يشعر أنه زوج وأنه مسئول عن زوجته، فقد صدمت عنده كل هذه المشاعر بغطرستي، وقضينا أسبوعا ولم أكن أتناول فيه من الطعام إلا الشاي، ونزل وزني خمسة كيلوجرامات؛ لأنه في اعتقادي أنه لا يصح أن يتكفل هو بمصاريفي، إلى أن جاء عمي أحمد وزوجته إلى الإسكندرية ودعونا على العشاء في مطعم معروف هو «سانتا لوتشيا» وأكلت وعوضت الأيام التي لم أتناول فيها الطعام لأن عمي هو الذي دفع. وكان يحلو لثروت أن يروي هذه القصة فيما بعد ويقول يا ليتها بقيت كما كانت في شهر العسل. وطبعا مع مرور الزمن تغيرت هذه الأفكار نهائيا.
وانتهى شهر العسل على خير وعدنا إلى بيتنا الجديد في الزمالك في شارع الكامل محمد، وكانت شقة أثثتها زوجة أبي بذوقها الرفيع. وفي أوائل أيام زواجنا ذهب ثروت إلى أبي ليسأله عن المبلغ الذي يكفي مصاريف بيتنا في شهر، فكان أبي رحيما به وحدد مبلغا يكفينا أكثر من أسبوع؛ لأننا كنا نذهب إلى السينما مرتين في اليوم على الأقل، ونذهب إلى المسرح مرتين أو ثلاثة في الأسبوع، ونتناول غداءنا أحيانا في مطعم «نيو كورسال» وعشاءنا في كازينو الحمام، وبعدما تنفد مرتباتنا يمسك كل منا التليفون لأبيه فيلقنوننا درسا طويلا في التدبير ثم يهبون إلى نجدتنا.
وابتدأنا نستضيف شقيقتي ثروت ، وقد أحببتهما وأحبتاني، وكنا ننتظر زيارتهما بفارغ الصبر كل أسبوع، كانتا في بواكير الشباب في الخامسة عشرة والثالثة عشرة من عمرهما، وكانتا تعتبران زيارتهما لنا حلما من الأحلام؛ ففي بيت أبيهما لا يخرجان إلا مرة كل شهر، وبعد رجاء ملح منهما وتردد طويل من الأهل، فقد كان خروج البنات في ذلك الوقت نادرا، وبلغ من شدة سعادتهما أن اصطحبتا معهما في الأسابيع التالية ابنة عمهما سلوى وكنت أقول لهما ضاحكة: من قال لكما إننا سنتحمل الضيف الثالث؟ ألا يكفي ضيفتان؟ أهو ذنبنا أننا رحبنا بكما، وكانت الضيفات الثلاث مستعدات أن يتحملن هذه المداعبات بل وأكثر منها ما دمن يخرجن ويسهرن ويتسلين.
وبعد يوم مشحون بالأفلام والمسرحيات ذهبن إلى فراشهن ونادين علي لأسهر معهن وأخذنا الحديث والسمر إلى ما بعد منتصف الليل، ولما أردت العودة إلى حجرتي كن يمنعنني باحتجاج شديد، ولما حاولت الخروج أقفلن الباب بالمفتاح، لنستأنف معا الضحك والمرح، ولم يكتفين بهذا بل كن يقصصن على أبيهن أخبار السينما، فكان يعنف زوجي ويمنعه من اصطحابهن بهذه الكثرة إلى الملاهي، وكان زوجي يقول لهن: أنا لا أجني من إكرامي لكن إلا التعب والتعنيف. وحدث أن احتاج زوجي لجراحة استئصال الزائدة وكانت عملية كبيرة نظرا لتأخر التشخيص وتأخر التنفيذ.
وحددنا اليوم وذهبنا إلى المستشفى بتشجيعي وتشجيع زوجة أبي؛ فقد كنا نراه متعبا متألما وعصبيا، وأجريت العملية، التي تستغرق في العادة نصف ساعة، في ساعتين، وتوترت أعصابنا جميعا وخفقت قلوبنا، ولم أحتمل نظرات والدته اللائمة؛ فهي طبعا لم تكن موافقة على الجراحة، واعتبرتني بطيبة قلبها وتلقائيتها مسئولة عن هذا الموقف الدقيق. وخرج أخيرا إلى غرفته وهو ما زال تحت تأثير المخدر الثقيل، لا يكاد ينطق إلا باسمي. ودخل أبوه وقلبه يملؤه القلق، ووقف إلى جانب سرير ابنه ينظر إليه، ويسمعه يناديني ويمد لي في الهواء ذراعيه؛ فطلب مني الأب أن أقترب، وكنت واقفة بعيدا محرجة من هذا الموقف العاطفي أمام الأهل، واقتربت بعد تردد وبحذر شديد، وأخذ يكلم - وهو نصف نائم - الممرضة الإنجليزية بلغتها ويحكي لها عن حبه لي. وما إن أفاق واستعاد نفسه حتى بدأت المناقشات من جديد، وكان الصراع بين الكبرياء والكبرياء، بين الحب والحب، واستمر سنوات وسنوات كنت أحس بحبه الجارف لي؛ فتجبرت وأخذت أثبت وجودي وأدافع عن كياني بقوة الشباب. عاتبته على الهفوة، آخذته على نغمة الصوت وعلى خائنة الأعين وما تخفي الصدور، تخاصمنا، وتقاطعنا، وترك كل منا البيت، ولكن الحب الكامن في قلبينا كان يشفع لكل هذا، وكان الحب المتدفق يعيدنا إلى البيت دائما.
وكانت عقدة حياتي هي أنني أريد أن يعاملني كخطيبة وليس كزوجة، فقد كان الصوت خافتا والكلمات رقيقة، أما بعد الزواج فيرتفع الصوت من القرار إلى الجواب والرقة تقل تدريجيا، وكان كلما كلمني بطريقة الأزواج تصدم مشاعري فأجيبه بعدوانية، وهو طبعا لا يفهم السبب، فيحار ويتعجب، ثم يغضب - ومعه الحق - ولولا هذه العقدة لسارت حياتنا في مسار أهدأ، وبقينا على هذه الحال سنوات، ولكن أحمد لله أن مد في عمر زواجنا واستطعت أن أقبل الأمر الواقع، وأن أكون زوجة ككل الزوجات وأن أعوضه عن بعض ما فات، ولكن كنا قد وصلنا إلى الكهولة، وشتان ما بين الشباب والكهولة!
وفي أوائل سنوات الزواج كان معتادا أن يسافر إلى قريته «غزالة» من وقت لآخر، وسافر مرة وكلمني بالتليفون عند وصوله إلى هناك مساء، وفي أثناء المكالمة احتد أحدنا على الآخر؛ فأغلق التليفون في وجهي، وجن جنوني، ولم يكن عندنا اشتراك للاتصال بخارج القاهرة، وبقيت والدم يغلي في عروقي إلى أن طلبني ثانية فأسرعت وأقفلت التليفون في وجهه؛ واستطعت أن أنام. وعندما عاد وزال الغضب قال لي: إنني طلبتك ثانية لأنني أعرف أنك لن تنامي قبل أن تردي الإهانة؛ فأردت أن أمكنك من ذلك، وهذه القصة على رغم بساطتها إلا أنها أثرت في نفسي ولا أزال أذكرها حتى الآن.
ذهبنا يوما لزيارة عمة لنا، وأثناء مرورنا بالحديقة تعثرت قدمي وكدت أن أقع؛ فصرخ زوجي صرخة عالية خوفا علي ولهفة، ولكن ما كان مني إلا أن قلت له : لا تصرخ هكذا! فتملكته الدهشة واعتبر هذا برودا مني، وقال لي إنني لا أستحق منه هذه اللهفة.
والواقع الذي لم يفهمه زوجي إلى آخر وقت من عمره هو أنني خجلت أن يسمع أحد صرخته ويعرف ما بيننا من مشاعر، وأظن أنه لم يخطر بباله هذا الخاطر، ولكن هذا ما شعرت به وخجلت أيضا أن أشرح له حتى بعد مضي السنين، إلا أنها أثرت في نفسه، وكنا نقضي شهور الصيف في الإسكندرية ولم نكن قد رزقنا بأبنائنا بعد فكنا أحرارا كالطيور في السماء نذهب حيثما نشاء في أي وقت نشاء، وكان مكاننا المفضل هو نادي السيارات حيث نشاهد غروب الشمس ونتابعها وهي تغيب رويدا رويدا وبتؤدة وجلال في البحر، وكان منظرها يملأ نفوسنا سعادة وانشراحا، وبعد المغيب نقضي الوقت في ترديد الشعر؛ يقول كل منا أجمل ما يحفظه منه، أنا أقول شعر أبي في الغزل وهو يقول شعر شوقي.
ويمضي الوقت ولا نكاد نشعر بمروره، وكان زوجي يقول لي إنه حفظ الشوقيات في رأس البر، وإنه كان يقرؤها في ضوء القمر، وكنت أقول له: إن أبي كان يعلمنا الشعر ونحن أطفال؛ أختي وأخي وأنا، وكان يقوله ونحن نردده وراءه حتى نحفظه، وكنا نحفظ الشعر خصيصا لنستعمله في المطارحة الشعرية التي كنا نقتل بها ملل السفر الطويل.
وسافرنا مرة إلى أسوان والمسافة طويلة بينها وبين القاهرة، وقطعنا الوقت بالحديث والقراءة، ثم أخذ هو يقول الشعر، وهو من أكثر الناس حفظا للشعر، وأخذ يتغنى ساعات طويلة بشعر أمير الشعراء أحمد شوقي؛ إلى أن استبد بي الغضب وتجهم وجهي على الرغم مني، ولما سألني عن السبب لم أقل له شيئا، ولكن الواقع أنه لم يذكر بيتا واحدا من شعر أبي، وأنا أعرف أنه يحفظ منه الكثير، ويعجب به أشد الإعجاب.
ووصلنا إلى أسوان «بتكشيرة» كبيرة مني ودهشة وتعجب منه. وفي أوائل شهور زواجنا طلب عمي أحمد - وأنا أناديه يا بابا كعادة أهل الريف - من زوجي أن يذهب إلى منزل فنانة معروفة جدا حينذاك، وكان يقال إنها لا تقاوم، فحاولت أن أعترض ولكني لا أستطيع أن أرد لعمي طلبا، وطلب منه أن يتم معها إجراءات شراء سيارتها، وكانت قد عرضتها للبيع حينما تلقتها هدية من أمير عربي. وذهب ثروت في الميعاد واستقبلته الفنانة بقميص نوم و«روب» شفافين يظهران أكثر مما يستران، وتمت الصفقة وأعطته مفاتيح السيارة، وكان مكتوبا على السلسلة غزل في عيون الفنانة. وحكى ثروت لعمي ما رآه، وندم عمي على أنه لم يذهب بنفسه، وعاد زوجي إلى بيته سالما.
ومن مداعبات بابا أحمد لنا هذه القصة؛ فقد كنا نخرج كثيرا في أوائل سنوات الزواج، وكنا نذهب إلى السينما مرتين في اليوم، وكانت لي صديقة شابة مطلقة وعلى خلق عظيم، فكنا دائما ندعوها للخروج معنا؛ لأنه في ذلك الوقت لم يكن مسموحا لشابة في سنها أن تخرج وحدها أو حتى مع صديقات لها؛ فكانت تخرج يوميا معنا، وكنا جميعا سعداء بذلك. وفي يوم كنت أزور عمي فقال لي أتخرجين دائما مع صديقتك فلانة؟ قلت له نعم، فقال لي: إن والدتها قالت لي إنها تتمنى لو أن ابنتها تتزوج من ثروت.
على رغم أنني أعرف أنه يمزح إلا أنني قلت لنفسي وما أدراني لعلهم يفكرون في ذلك فعلا؛ فإذا بي أنقلب 180 درجة من ناحية صاحبتي المظلومة، وقررت ألا أدعوها للخروج معنا بعد ذلك. وفي يوم قال لي زوجي: هيا نذهب إلى السينما وكلمي صديقتك لتأتي معنا، فإذا بي أنفجر فيه وأحاصره بالأسئلة؛ فبهت ولم يجب. وهكذا كانت دعابة عمي سببا في حرمان صديقتي من الخروج. ولكن صداقتنا بقيت كما هي؛ فهي لا ذنب لها إلا أنني أخذت دعابة عمي مأخذ الجد، وظلت هي حبيسة المنزل إلى أن تزوجت مرة أخرى وأفرج عنها.
وأول مرة سافرنا فيها معا إلى أوروبا كانت في يناير سنة 1967م، فقد فاجأنا صديقنا «محمود خضر» وكان عضوا بارزا في المخابرات العامة، وفي نفس الوقت كان زوجا لراوية أباظة وهي من أقرب المقربين لنا؛ فاجأنا حين قال لثروت: «استطعت أن آخذ لك ولزوجتك إذنا بالسفر إلى الخارج.» وكان السفر في هذا الوقت من أصعب الأشياء ، وكان في أضيق الحدود لا يسمح به إلا للمرضى، وحتى المريض الذي يحتاج إلى العلاج في الخارج يعرض على «قومسيون» طبي للتأكد من مرضه، وقد يعقد هذا «القومسيون» بعد أن تسوء حالة المريض، ولكنه يضطر للانتظار حتى يأتي دوره، ولا يحصل على قرار «القومسيون» إلا المريض سعيد الحظ. كان هذا بالنسبة للمريض فما بالك بالسليم؟ تملكتنا فرحة غامرة وكنا لا نكاد نصدق أنفسنا؛ فلسنا ضباطا أو مشرفين على الموت حتى يسمح لنا بالسفر، وشكرنا صديقنا «محمود خضر» ولم ننس له هذا الجميل إلى الآن. وبعد الفرحة والسعادة تذكرنا أننا لا نملك تكاليف السفر، وما هي إلا ثوان ووجدتني أذهب إلى أبي وأقص عليه ما حدث؛ فقال دون تردد: «دي فرصة ما تتسابش.» وتكفل على الفور بتكاليف سفري أنا وثروت، فأخذ يبحث عن وسيلة إلى أن اهتدى إلى طريقة تحقق له هذا السفر، فقد اتصل بناشر لبناني كان قد نشر له كتابا وطلب منه، بوسيلة أو بأخرى أن يحول مستحقاته من لبنان إلى سويسرا على بنك في جنيف، وهذا البنك يتعامل معه صديق له.
وتم الاتفاق وسافرنا، وكان سفرا مباركا، ففي روما أول محطة لنا وجدنا السيدة «قوت القلوب الدمرداش» وهي صديقة للعائلة الأباظية، وكانت قد غارت مصر مع أولادها بعد الثورة لأنها كانت من أغنى الأغنياء، ووضعت تحت الحراسة واستولت الحكومة على بيتها الذي كان يطل على كوبري قصر النيل. خصصت لنا هذه السيدة الكريمة سيارة «مرسيدس» يقودها ابنها الأكبر لنتجول بها في روما، وكان ثروت مصرا أن يرى تمثال «موسى» لمايكل أنجلو، ولم يكن موجودا في متحف إنما كان في مكان على ربوة في وسط المدينة، فأخذ سائقنا وهو ابن صديقتنا يسأل ويبحث إلى أن وجدناه. ولهذا التمثال قصة شهيرة حكاها لي أبي وأنا طفلة «وهي أن صانعه الفنان العظيم بعد أن أتم نحته نظر إليه فأخذ بعظمته فلم يتمالك من أن يأخذ عصاه ويضربها على التمثال ويقول له: انطق!» وتم لزوجي ما أراد. وكان سفير مصر في إيطاليا هو المربي الكبير «نجيب هاشم» الذي كان ناظرا على ثروت في المدرسة الثانوية، ويعرفه جيدا لأنه كان يشكوه دائما لوالده دسوقي باشا لتأخره عن ميعاد الدخول صباحا. وعاملنا «نجيب بك هاشم» كوالد وعرفنا بعائلته الكريمة وأحببناهم جميعا. ولا أنسى سفيرنا في الفاتيكان «محمد التابعي» وزوجته فهما أصدقاء الأسرة أيضا، وكيف اهتما بأمرنا، وتبادلت زوجت السفيرة «نجيب بك هاشم» وزوجة السفير «محمد بك التابعي» الاهتمام بي وخصوصا في الذهاب إلى المحلات، وكانت كل منهما تصحبني إلى المحل المفضل عندها، وكنت أجد نفسي مضطرة للشراء مجاملة لهما مع أن الميزانية لم تكن في منتهى الازدهار. وعند سفرنا من روما إلى باريس أوصلنا مستشار السفارة وكان زميلا لثروت في المدرسة بسيارته «المرسيدس» إلى المطار، وفي باريس قابلنا «إبراهيم الدسوقي أباظة» الذي كان يحضر الدكتوراه هناك وهو المحامي والكاتب الكبير الآن في جريدة الوفد، وقد تنازل لنا عن شقته الكائنة في شارع «جان جاك روسو» واستعار سيارة صديق له لنتجول بها في باريس وضواحيها. واستقبلنا في مطار باريس أيضا «إبراهيم أباظة» وكان يعمل في شركة مصر للطيران، وكان يلازمنا دائما ويدعونا إلى منزله على أكلات مصرية تصنعها زوجته الجميلة أمينة. ومن باريس ذهبنا إلى لندن، وهناك وجدنا صديق زوجي المقرب جدا إليه وقد ترجما معا أعمال «همنجواي» و«شتاينبك» وهو «عبد الله البشير» وكان ملحقا ثقافيا هناك ويملك ناصية اللغة الإنجليزية، وقد تولى أمرنا طوال إقامتنا في لندن. كل هذا الإكرام في هذه الرحلة كان راجعا للصداقة الشخصية فقط، ووجد ثروت كل شيء سهلا ميسرا على الرغم من أن المسافر لأول مرة يجد صعوبة في التعرف على معالم المدينة وفي المواصلات. وكنت أقول له: إن صفاء نفسك وطيبة قلبك جعلنا نسافر كالملوك على رغم أنه ليس لك أية صفة رسمية وإنما أنت محاط بحب الناس واحترامهم.
وكتبت لأبي أشكره وأطمئنه علينا فهو يعلم أننا نسافر لأول مرة، وقلت له: إننا سعداء جدا وننتقل في جولاتنا من مرسيدس إلى مرسيدس.
ولما عدنا إلى القاهرة استقبلنا أولادنا في المطار، وكان دسوقي يحمل في يده «برطمانا» صغيرا لوح به في وجهنا وهو في غاية السعادة، وقال: «لقد عملت عملية المصران، أهو في البطرمان.» فانزعجنا وضمه أبوه إلى صدره وقال له: «لن أغيب عنك أبدا مرة ثانية.» فبكى دسوقي وكان في الثامنة من عمره، فنظر إلي ثروت وقال لي بيتين من شعر أمير الشعراء عن أولاده:
بكيا لأجل خروجه في زورة
يا ليت شعري كيف يوم فراقه
لو كان يسمع يومذاك نداهما
ردت إليه الروح من إشفاقه
ولما بدأ في كتابة القصص القصيرة كتب قصة قصيرة، أخذ يتغزل فيها في جمال بطلتها وفي شعرها الذهبي المنسدل على جبينها وعلى كتفيها، وفي عينيها الزرقاوين الواسعتين؛ فتملكني الغيظ لأن هذه الأوصاف لا تنطبق علي على الإطلاق، فخبأت القصة في حصن حصين لأثير غضبه.
وعندما عاد من الخارج سأل عن «الكشكول» الذي كتب فيه قصته فقلت له: إنني لم أره. فثارت ثائرته، ولما بلغت مأربي في إثارته أظهرت له القصة، وقلت له: «أنت عندك عقدة الخواجة.» هل تعتقد أن الشعر الذهبي والعيون الزرقاء هي الشرط الوحيد للجمال؟ فقال لي منتقما أنا أعجب كثيرا بالشقراوات.
وكان لا يحب المرأة المتكلفة التي تبالغ في إظهار زينتها، ويحب فيها أناقتها وبساطتها، ولا يحب المرأة التي تتكلم في المواضيع العامة كالسياسة مثلا بحدة مثل الرجال، ولا يحبها أن تحاول في مناقشتها أن تحل مشاكل الشرق الأوسط. وكان له مناقشة قاسية مع سيدة تتكلم عن الذرة والإشعاع وهي ليست متخصصة، ولم تشفع لها أنوثتها عنده.
وأحب أن أضيف أنه كلما رأى المذيعة الجميلة نجوى إبراهيم على شاشة التليفزيون كان يقول لها من على المقعد وهي على الشاشة ولا يبالي بوجودي ويقول بصوت عال: «أنت قمر!» ويتكرر هذا الإعجاب كلما ظهرت أمامه.
كان لا يفوته مسلسل في «التليفزيون» وكان يتابعه باهتمام شديد ويقول لي: «هذا بالنسبة لي شغل.» أما أعماله «التليفزيونية» فقد اعتاد أن يرى بعضها مختلفة تماما عما كتب، ولكنه كان يقول: «أنا مسئول عن كتابتي فقط.» وكان له مسلسل في السبعينيات فيه طفل حديث الولادة تحمله أمه بين ذراعيها، وكان والده في سنة أولى في كلية الطب، وتخرج الأب بعد سبع سنوات ولا يزال الطفل محمولا على ذراع أمه، وفي نفس حجمه عندما ولد، ولم يتمالك زوجي أن يطلب المعد ويصرخ فيه: ماذا فعلتم بكتابي؟! وعرض له فيلم سينمائي لا يمت لكتابه بأية صلة ولكنه فقط يحمل اسمه.
وكان يحب أن يشاهد أفلام الفيديو ويقول: إنني أنا الذي أقرر ما أريد أن أراه، لا يتحكم في أحد (يقصد التليفزيون)، ويطلب مني دائما أن أذهب إلى مكتب الفيديو في الزمالك لأختار له أفلاما مسلية وخفيفة، ويقول لي: عندما أعود من عملي لا أحب أن أتعب ذهني فاختاري لي أتفه الأفلام. فأذهب إلى مكتب الفيديو وأختار فيلما تافها، فترشح البائعة فيلما جادا فأقول لها: أعطيني فيلم «الفول صديقي» وفي يوم آخر تعرض علي فيلما تاريخيا معروفا فأقول لها بل أعطيني فيلم «تجيبها كده تجيلها كده هي كده»، وفي اليوم التالي لم أذهب بنفسي وإنما أرسلت السائق، فلما عاد قال في انفعال ظاهر: البائعة قالت لي «كلام وحش أوي». - ماذا قالت؟ - قالت كيف يستطيع ثروت أباظة أن يعيش مع هذه السيدة وهي بهذه العقلية التافهة؟
فضحكت لأني لم أشاهد هذه الأفلام بالمرة، بل أحيانا أنظر إليها ولا أتتبعها فأنا لا أطيق التفاهة بطبعي، ولكني أتفهم رغبة زوجي في مشاهدة هذه الأفلام، فرأسه مشحون بقضايا كثيرة متنوعة، وهي مسئولية كبيرة تتعب تفكيره وترهقه؛ فيحاول أن يخفف منها قبل النوم، ولكن حاسته الفنية كانت تغلبه، وكان يسعى إلى مشاهدة أفلام نجيب الريحاني كلها في الفيديو، كل ليلة يشاهد فيلما ولما تنتهي الأفلام كلها يعيدها من جديد، وكان يحفظ كثيرا من حوارها، وعلى رغم إعجابي الشديد بنجيب الريحاني إلا أنني لم أكن أحب أن يشاركنا حياتنا بهذا الشكل.
أبوة حانية وتدليل
وبعد مضي خمس سنوات رزقنا الله بأول طفلة وأسميناها أمينة على اسم زوجة أبي أمينة صدقي، وهي الأم التي أكرمنا بها الله بعد وفاة أمنا، وقد أسميناها على اسمها، وهو أقل ما نستطيع أن نظهر لها به مشاعرنا. ومضى العهد الذي تصرفنا فيه كشباب مدلل، وبدأ كل منا يمد يده للآخر ويسانده بكل ما أوتي من قوة، ويعتبر كل منا الآخر كهفه الذي يحميه من الأيام. ولكن بدأ الخلاف على تربية الأولاد؛ فويل للأم من أول طفل، وويل للطفل من أول أمومة؛ فالطفل الأول يعاني من عدم خبرة أمه، والأم تعاني بدورها لأنها لم تتعامل قبل ذلك مع هذه المخلوقات الصغيرة؛ فكلاهما معذب.
بعد عامين جاءنا دسوقي وهو على اسم دسوقي باشا والد ثروت، بدأت الخلافات لأنني كنت أريد الدقة في المواعيد وفقا لما قرأت في كتب تربية الأطفال، وكان زوجي يسخر من مواعيدي ومني ويوقظ الأولاد بعد أن يناموا لأنه اشتاق لهم، وكان علي أن أكرر المجهود الشاق الذي تعرفه كل أم عندما تنيم أطفالها، ولم يكن أطفالي ممن ينامون بسهولة. كنت أبالغ في التمسك بالقواعد الصحية وكان زوجي يقول لي: الريف فيه أطفال أكثر مما يجب، ولا يراعي أحد هناك القواعد الصحية. وتمر الأيام ويتكون في بيتنا حزبان؛ حزب فيه زوجي والأولاد، وحزب أنا فيه وحدي؛ هم يريدون الفوضى وأنا أريد النظام، هم يريدون التسامح في الغلط وأنا أريد الضرب على أيدي هؤلاء الأشقياء الصغار، هم يريدون التربية الحديثة وأنا أريد التربية القديمة، هم يريدون السهر أمام شاشة التليفزيون في السن الصغيرة وأنا أريد النوم المبكر، هم يريدون - وبخفة دم - الحرية وأنا أريد - بجدية - الضبط والربط. وكنت أحيانا أشك في أدائي لأنني وحدي ضد الأغلبية.
وكنت كلما حاولت أن أوجههم فقط على المائدة غضب ثروت وقال: دعينا (أي هو والأولاد) في حالنا وكفى نكدا. - ولم تدخل نفسك مع الأطفال وأنا لم أوجه إليك الحديث؟ - أنت دائمة الانتقاد ولا تدعين الأولاد وشأنهم. - إنه واجبي، ويجب علي أن أعلمهم كيف يأكلون، وإذا لم أفعل فمن يفعل ؟ وإذا لم أقم بواجبي فما جدوى وجودي في الدنيا؟ - إنني لا أحتمل أن أرى أولادي باكين دائما. - إنني أربيهم. - بالله دعينا وشأننا.
وتنتهي المناقشة بأن أترك الغرفة محتجة وأجلس وحدي، ويبقى هو والأولاد سعداء هانئين.
ويرى زوجي أنني إذا طلبت من أمينة طلبا ورفضت وعاقبتها أنا وعنفتها فأنا ظالمة، وإذا شكت لي ناظرة المدرسة أحد الأولاد وأخذت جانبها فأنا أم غير طبيعية وأريد أن أدعي العدل؛ وما علي إذن إلا أن أتحمل اعتراضات زوجي وتمرد أولادي ولكن لا أكف عن التوجيه.
كانت عادتنا في الشتاء أن نأخذ أولادنا معنا في الغرفة وأمامنا التليفزيون في ليلة الأحد وهي ليلة عطلة المدرسة، وفي مرة حرمت أمينة - وكان عمرها أربع سنوات - من مشاهدة التليفزيون معنا عقابا لها على ذنب لا أذكره الآن، وكانت تفتح الباب علينا وتقول في عذوبة مصطنعة: أنا غلطانة، أنا وحشة.
ثم تغلق الباب وتختفي قليلا ثم تعود وتقول في رقة تمثيلية: لك حق تذنبيني يا مامي.
وتغلق الباب وتختفي ثانية؛ فنظر إلي ثروت في تحد وقال: إن لم تأت أمينة معنا الآن فسأبكي.
وهكذا كان عطفه وحبه لأولاده زائدا عن الحد.
وتستطيع الشيطانة الصغيرة أن تناقش ساعات وساعات دون ملل، شعارها «أنا وبعدي الطوفان.» وتعود وتقول وهي في الخامسة عشرة: هاتي يا ماما العطر الذي تستعملينه. - لماذا؟ إنني أحبه. - وأنا أيضا، ثم إن عندك غيره. - وأنت أيضا. - أعطيني نصفه. - أهذا استخسار؟ - إذن أعطيني هذه الأسورة التي في يدك. - أنت لا تلبسين ولكنك تضيعين. - أعطيني ظل العين. - إن حجرتك تفيض بأدوات الماكياج، فهل هذه الأدوات القليلة هي التي تعجبك؟ - أنا شابة صغيرة. - وأنا ما زلت على قيد الحياة ومن حقي أن أتجمل ما دمت لا أحرمك من شيء. - أعطيني الكتاب الذي تقرئين. - إنني لا أستطيع أن أحصي عدد الكتب التي بدأتها ولم أكملها بسبب مصادرتك لها، قولي بالمرة: إنك تريدين الهواء الذي أتنفسه. - أريد الهواء الذي تتنفسينه.
وتبتسم ابتسامة فداؤها الحياة.
ودخل أبوها وهي تطلب مني الهواء الذي أتنفسه فضحك من أعماق قلبه وربت على شعرها، وأظن أنه لم ير أن أمينة تطلب أمرا عجيبا.
وأقول لابني دسوقي عند عودته من المدرسة: هيا احفظ القرآن فعندك امتحان غدا. - إنني حفظته في المدرسة وسأقرؤه عليك.
وقرأه كلاما غير مفهوم ليس فيه حرف واحد سليم، وأخطاء في التشكيل وفي النطق. - اقرأ بالتشكيل. - إن المدرسة لا تطالبنا بذلك فلماذا تصممين أنت عليه؟ - لأن القرآن كلام الله ويجب أن نقرأه قراءة صحيحة، ثم إن أسلوبه جميل وأنت بنطقك هذا تجعلني لا أريد أن أسمعه. - إننا نكتبه في الامتحان ولا ننطقه؛ فلماذا أتعب نفسي؟ هل أنت أكثر معرفة وأكثر دقة من المدرسة؟
ولأن موضوع النقاش بيني وبين ابني يدور حول القرآن واللغة؛ لهذا السبب فقط تدخل الأب وهاله استهانة ابنه بحفظه، وعدم اهتمامه بالنطق والشكل؛ فعنفه بشدة، وبقي معه إلى أن قرأ القرآن كما يجب أن يقرأ. وكانت جدته لأبيه تحبه حبا عارما؛ فقد سمي على اسم زوجها الذي كان كل حياتها، ولأنه صبي، وكانت الجدات في هذا الوقت يفضلن الذكور على الإناث، وكانت تقول لأبي بكل فخر: دسوقي يقرأ القرآن كما أنزل. ولما كبر دسوقي تعمق في دينه وتمسك بتعاليمه في السر أكثر منه في العلن.
عندما كان دسوقي في الثالثة عشرة من عمره أراد أن يهرب من مدرس اللغة العربية بحجة أن المدرس تأخر، فغضبت وأصررت أن ينتظره إلى أن جاء متأخرا عن ميعاده ساعتين، فكتم دسوقي غيظه ولكنه خاصمني، وفي مساء ذلك اليوم حدثت مشادة بيني وبين أبيه لا أذكر سببها ولكن الذي أذكره أن ثروت خرج من الغرفة غاضبا وذهب ليقضي الليلة في غرفة أخرى، وذهلت عندما رأيت ابني الذي أغضبته منذ قليل يروح ويجيء بهمة ونشاط بين حجرتي وحجرة أبيه؛ لا ليقرب وجهات النظر وإنما لنقل «راديو» أبيه إلى الغرفة الجديدة، ثم يعود مسرعا وهو يغني ليأخذ «الأباجورة» والكتاب، ثم يرجع مهرولا لأنه نسي أن يأخذ «الترموس»، وهو يعلم جيدا أنني لا أطيق هذه المظاهر أمام أهل البيت ولكنه مع ذلك أصر على أن يظهر لي شماتته؛ فثارت ثائرتي وقلت لنفسي: لأنهين تلك الأعمال الصبيانية ولأشمتن أنا فيه. ولأول مرة أتصرف على عكس مشاعري وذهبت إلى زوجي في حجرته بابتسامة متشنجة وقلت له: إن ما تفعله أكثر مما يحتمل الأمر، سأنقل كل هذا إلى مكانه وكأن شيئا لم يكن. - إنني أتعب طول النهار وعندما أعود تتشاجرين معي. - لقد انتهت المشاجرة الآن ولا داعي لكل ذلك.
وعدنا إلى غرفتنا هو يمسك بالراديو والكتاب وأنا أمسك بالأباجورة والترمس، ومشينا بهذا الموكب أمام الشرير الصغير، وفرحت في نفسي أن ابني لم تتم فرحته في.
ويستغل أولاده طيبته وحبه الذي لا نهاية له ويمكرون عليه؛ فقد أرادت أمينة أن تسافر في رحلة تمر بموانئ البحر الأبيض فرفضت لأنني لا أحب أن تسافر وحدها وهي في السادسة عشرة من عمرها في رحلة مع آخرين لا أعرفهم، ولكن ابنتي أمينة لا تيئس، فأعادت الطلب ولكن من أبيها وقالت له إن صديقتها ووالدتها ستكونان في هذه الرحلة فلم لا تذهب في حمايتهما؟ فرحبت حينئذ بالفكرة ولو أني لا أعرف الصديقة ولا والدتها ولكنها ستكون في رعاية أم مثلي على كل حال. ودفعنا مصاريف الرحلة وتحدد ميعاد السفر فاتصلت بوالدة صديقتها تليفونيا لأوصيها أن ترعى أمينة كما ترعى ابنتها، وجاءني في التليفون صوت هامس فيه نعومة واستكانة؛ صوت مدرب ومثقف ثقافة معينة؛ صوت اقشعر منه بدني؛ فقررت في التو واللحظة أن أمينة لن تسافر مع هذا الصوت، ورويت القصة لزوجي؛ فسخر مني: هل تحرمين البنت من رحلة تتمناها وتنتظرها بلهفة؛ لأن أذنك لم ترتح للصوت؟
فقلت ضاحكة: أنا لا أخطئ، هذا الصوت لا يمكن أن يكون إلا لامرأة من نوع معين. - ارحمي ابنتك. - أأرحم ابنتي إذا أرسلتها في رحلة مع هذا الصوت؟ - البنت ستجن، ارحمي. - لا لن أرحم.
ولم تذهب أمينة إلى الرحلة على رغم احتجاجها وثورتها وبكائها. ولما هدأت ثائرتها جاءت وجلست بجانبي وقالت: أتعرفين يا مامي أم صديقتي تعمل ...؟ - يا خبر أسود، وكنت تعرفين؟ - طبعا، ولكن ماذا يضيرني؟ إنني لست محتاجة لمن يحافظ علي؛ فأنا التي أحافظ على نفسي. - وترمينني بالظلم وأنت تعرفين أنني على حق وأن أذني لم تخطئ؟ - الرحلة تستاهل.
وقلت ضاحكة: سأقول لأبيك ليكف عن الوقوف بجانبك. - أتعرف ابنتك كانت ستسافر مع من؟ - مع من؟! - مع سيدة تعمل ... - يا خبر أسود! - لست في حاجة أن أقول إنني كنت على حق.
ولم يدر كيف يدافع عن ابنته.
وكان يعطي أولاده من وقته الكثير، ويذهب معهم إلى حديقة الحيوان وإلى حديقة مينا هاوس، وكنا نصطحب معنا «أمين أباظة» ابن عمي وكان في سن دسوقي، ونعتبره ابنا ثانيا لنا، وكان له مربية دميمة، فلما وصلنا إلى مينا هاوس لم يستطع ثروت أن يصبر وطلب والدة أمين وهي ابنة خاله وقال لها: حرام عليك، أهذا منظر تأتين به إلى منزلك؟ أهذا منظر ترسلينه لي في نزهة مع الأولاد؟! أهذا وجه يكون إلى جانب ابنك أمين طوال الوقت؟! حرام عليك والله، وأغلق الهاتف وعاد إلينا وقد شفى غليله. و«أمين أباظة» ولد وحجمه أكبر بثلاثة أضعاف من حجم الطفل العادي حتى إنهم ألبسوه قميصا من الأمام وقميصا من الخلف حتى يغطي جسمه، وفي يوم ذهب ثروت لزيارة ابنة خاله والدة أمين وأخذ يعلق على سمنة ابنها، ويمزح معها حتى راودها القلق، وشرب ثروت معها القهوة وخرج، ولما خرج عادت المربية إلى فنجان القهوة وأخذت قليلا منه ورسمت رسومات على جبين أمين، وكان يشاع أن هذه الرسومات تمنع الحسد، وتصادف أن عاد ثروت إلى الحجرة، ورأى ما حدث؛ فقال لابنة خاله: هذه القهوة قهوتي أنا، فقالت ضاحكة إن عينيك ملونتان، ويقال إن العيون الملونة عيون حاسدة. وضحك معها ولم يمس الطفل بسوء ولم يحسد إنما زادت سمنته.
وأمين أباظة أصبح الآن شابا رشيقا ووسيما، عمل في البنك الأهلي والبنك المصري الخليجي، ولفت الأنظار إليه لكفاءته ولذكائه، ثم دخل مجال القطن، وما إن مرت فترة وجيزة إلا وقد ألم بدخائله وعرف أسراره؛ وأصبح يرأس مؤتمرات القطن في الشرق والغرب.
وعودا إلى اهتمام ثروت بالأولاد وخروجه معهم إلى الأماكن التي يعرف أنها تدخل السرور على قلوبهم، كان البحر هاما جدا عنده، ولا يعترف باليوم الذي يمنعه طارئ من الذهاب إلى «الشاطئ»، ولكن قبل الذهاب إلى البحر ومن الساعة العاشرة صباحا وحتى الثانية عشرة ظهرا كان عنده موعد مقدس وهو الذهاب إلى قهوة بترو للقاء الأستاذ الكبير نجيب محفوظ والأستاذ الكبير توفيق الحكيم، ويبقى معهم إلى أن أمر عليه أنا والأولاد ونذهب معا إلى البحر، وعند ذهاب أمينة ودسوقي ليخبرا أباهما أن ميعاد البلاج قد حان يصمم توفيق بك الحكيم على أن يشربا كوكاكولا على حسابه ثم يقول لهما: ميعادنا الصيف القادم فأنا لا أدفع لكما الكوكاكولا إلا مرة في السنة. ثم نذهب معا إلى المنتزه حيث نجد في البحر الدكتور الدمرداش أحمد وهو صديق ذواقة، يأخذهما الحديث في الأدب والشعر والسياسة إلى أن يحين موعد العودة إلى المنزل.
وفي البحر كان يلتف حوله شباب الأسرة وهم جميعا في المرحلة الثانوية والإعدادية، وكان يكلمهم عن طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي، فسألته إحدى الفتيات قائلة: «ومن هو عبد الرحمن الشرقاوي؟» أجاب: «اغربي عن وجهي واتركينا الآن حالا.» فذهلت الفتاة، ولكن طاهر أباظة وهو من المداومين على هذه الندوة الشبابية قال لها: «اخرجي من البحر الآن وعودي بعد قليل.» وعندما كان يكلمهم عن السياسة والسياسيين تكلم عن تشرشل فسأله طاهر أباظة: «ومن هو تشرشيل؟» فكان رده عليه بمثل ما رد على الفتاة منذ قليل. وعلى رغم ذلك كان هؤلاء الشباب يتمتعون بهذه الندوات اليومية التي تعقد في عرض البحر، وكان يشجع الأولاد على القراءة، وكان رأيه أن يقرأ الأولاد في كل شيء وفي أي موضوع حتى لو لم يكن مناسبا لسنهم؛ فقد كان رأيه أن يقرءوا فحسب، ولا أمل من أن أقول إن هذا لم يكن من رأيي.
وكبرت الأولاد بعد مشوار طويل في الدراسة ودخلت أمينة كلية الآداب قسم لغة فرنسية وكانت تنجح بأعجوبة؛ فهي لا تفتح كتابا إلا قبل الامتحانات بشهر واحد. وفي «الليسانس» حدث نفس الشيء ولما ظهرت النتيجة كلم عميد الكلية أباها وقال له مبروك أمينة نجحت، ففرح ثروت في أول رد فعل ثم طلب العميد ثانية ليتأكد منه، وأعاد العميد نفس الكلام، وما كان من ثروت إلا أن أخذ سيارته وتوجه إلى كلية الآداب ولم يهدأ إلا عندما رأى اسمها مع الناجحين.
وبعد التخرج عملت في المصرف العربي الدولي وانتعشت حالتها المالية هناك، ولكنها لم تجد نفسها في البنوك؛ فاستقالت. وأرسلها والدها إلى الأستاذ الكبير موسى صبري في الأخبار، فذهب معها بنفسه إلى مكتب الأستاذ الكبير رشدي صالح وعملت معه في مجلة آخر ساعة سنة كاملة، وكتبت تحقيقا عن العوامات وساكنيها، وعن المدبح. ولما علم الأستاذ رشدي صالح عن موضوع المدبح قال لها: يجب أن تكتبي عن الزهور وعن جمال الطبيعة وليس عن المدبح. وكلم موسى صبري أباها وقال له ابنتك لطيفة وجميلة ولكنها «روشتني» لأنها سريعة الخاطر، سريعة الكلام، سريعة الحركة، وحينما عدت إلى منزلي قلت لزوجتي ابنة ثروت أباظة «روشتني». واستقالت أيضا من آخر ساعة وعملت في الإذاعة في قسم مراقبة الأفلام، ثم انتقلت إلى قسم الترجمة في القناة الفضائية تترجم من العربية إلى الفرنسية التي تملك ناصيتها، ثم فكرت أن تفتح مستشفى صغيرا لإيواء الكلاب الضالة وحمايتهم من الأطفال الذين دأبوا على رميهم بالطوب ولا أحد يدري السبب، فهذه الحيوانات أرواح خلقها الله يجب أن تعامل بإنسانية، في حين نرى الطفل الأجنبي يمسح بيده على ظهر الكلب ويربت على رأسه في حب وحنان. وهي تأخذ هذه الكلاب وتعالجهم وتطعمهم وتجد كثيرا من الناس يقولون لها: لماذا لا يكون هذا المستشفى للأطفال؟ فتقول: إن الأطفال يجدون الحضانات المدفوعة وغير المدفوعة، ولكن لا أحد يفكر في هذه الحيوانات المعذبة من سوء المعاملة، وقد جمعت سورا من القرآن الكريم، وأحاديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم
يحث فيها على الرفق بالحيوان لتقنع بها من يعارضونها، ويساندها في ذلك الكاتب الكبير أحمد بهجت والدكتور صلاح عبد الستار الأستاذ في جامعة السويس.
تزوجت أمينة من رجل الأعمال رءوف مشرفي وهو رجل غاية في الرقة والأدب والرقي، يجمع بين الثقافة العربية والفرنسية والإنجليزية واستقر بها الأمر في حياة زوجية هادئة.
لابنتي أمينة صديقات فرنسيات يعملن بالتدريس، وهن على دراية واسعة بالحركة الأدبية عندنا، فقد قرأن لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وثروت أباظة، ودائما يقلن لها: إن الشعب الفرنسي يقدر الأدباء ويعتبرهم أرقى البشر ويصنع لهم هالة من التقديس، ويتعجبن كيف أن أمينة لا تتباهى بما أعطاها الله؟! فلها أب كاتب معروف، هيأ لها مقابلة نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وكبار الكتاب.
وأما دسوقي فبعد حصوله على الثانوية العامة أراد أن يدخل كلية الآداب قسم فلسفة ولكن والده نصحه بكلية الحقوق، ولما طال بينهما النقاش اقترح ثروت أن يشرك الأستاذ الكبير نجيب محفوظ في الأمر، وقال نجيب بك لدسوقي: «جميل جدا أن تدخل فلسفة ولكن لتستطيع أن تكون شيئا في الحياة يجب أن تكون من الأوائل.» ففكر دسوقي وقرر أن يدخل كلية الحقوق، وتخرج منها ودخل المركز القومي للدراسات القضائية الذي افتتح في هذه السنة بالذات، وكان رئيسه المستشار سمير ناجي، وكان هذا المركز صورة مصغرة لمثيله في باريس من ناحية الشكل والأداء، ورفض سمير بك أن يأخذ مقابلا لإدارة هذا المركز، وكان دسوقي الأول على دفعته وعددها 260 وكيلا للنيابة؛ فأرسله سمير بك في مهمة مدتها ستة أشهر إلى باريس، وعند السفر ودعنا دسوقي وداعا حارا والدموع في عينيه ويضم شفتيه بقوة حتى لا تنهمر تلك الدموع، ولكن بعد شهرين من وصوله إلى باريس فوجئنا بتليفون منه يطلب من أبيه أن يمد البعثة إلى سنة، ولكن أباه رفض رفضا باتا. وعاد دسوقي وعمل وكيلا للنائب العام في النيابات المختلفة، ثم اختاره المستشار سمير بك ناجي ليعمل رئيسا للمكتب الفني، وليدرس لوكلاء النيابة الجدد اللغة الفرنسية فقبل، وأراد أن يتمثل بأستاذه وأن يرفض مقابلا لهذا العمل ولكن سمير بك رفض هذا الطلب. وظل دسوقي في القضاء وأحب عمله؛ ولذلك نجح فيه. وعمل لسنوات عديدة ثم ترك السلك القضائي وعمل في الجامعة العربية.
ولدسوقي أسلوب رصين في الكتابة، نشرت له جريدة الأهرام عدة مقالات، آخرها مقالة يودع فيها الداعية الجليل محمد متولي الشعراوي. وهو قارئ منذ فجر شبابه، ويقرأ في الدين وفي الآداب والشعر، وهو يحفظ كثيرا من شعر أحمد شوقي ومن شعر جده عزيز أباظة.
وتجده دائما إلى جانب اليائس والذي تتعثر معه الأيام، وقد تحمل المسئولية بعد أبيه بصبر وسماحة نفس.
وتزوج دسوقي من جيهان حتاتة كريمة منير بك حتاتة المحامي المشهور، وهي زوجة وأم وسيدة منزل ممتازة، وأنجبا «ياسمين وعفاف وملك».
وقد أخذ دسوقي وأمينة عن أبيهما القيم والأخلاق والصدق والسعي في مساعدة الناس بكل قواهما، وأخذا أيضا حب الخير والعطف على المحتاجين ونجدتهم.
وظل ثروت يرعى أولاده ويغدق عليهم من حبه وحنوه ولم يبخل عليهم بماله ولا بجاهه، وكان حصنهم الحصين، وأما أحفاده فكانوا النور الذي يضيء حياته وينسيه كل متاعبه.
وهم بدورهم يرتمون في أحضانه ويجدون عنده الأمن والأمان، ومن اللافت للنظر أن هذا هو حال كل الأطفال معه وليس فقط أحفاده، فالطفل يحس بالنقاء والصفاء فيلجأ إليهما لحمايته، وحتى الحيوانات المنزلية الأليفة كانت تختار مكانها تحت أقدامه وتنام وهي هادئة مطمئنة راضية.
أما أول أعمال ثروت الأدبية فكانت بعد زواجنا بقليل، طلب منه المخرج المشهور الأستاذ فتوح نشاطي أن يشترك معه في كتابة مسرحية عن ابن عمار والمعتمد بن عباد؛ لأن قصتهما مثيرة وتستحق أن يكتب عنها، ولكن الظروف لم تساعد على إتمام هذا العمل وظلت الفكرة تراوده وتداعب ذهنه، وبدأ يفكر في أن يكتب كتابا عن ابن عمار، والقصة التاريخية معروفة وكتبها فعلا. وفي رأيي أن أسلوبها العربي الرصين كان سببا لأن تقرر وزارة التربية والتعليم تدريسها أوائل الستينيات على تلاميذ الشهادة الإعدادية. وكان لا يحرم في رواياته المجرم والفاسد من الضمير نهائيا، وإنما دائما يترك لهم شعاعا منه ليحاسبهم حتى وإن لم تصل إليهم يد العدالة؛ على اعتبار أن الأمل في الندم والتوبة موجود دائما.
وبعد ذلك كتب «هارب من الأيام» وهو يصور فيها شرذمة من الأشرار روعت قرية وسلبت أموال أهلها وعاثت في الأرض فسادا، وكان هدفه من هذه الرواية هو الحرية وتصوير الرعب والمناداة بالخلاص من نير الاستعباد، وكانت الحرية هي شغله الشاغل في كل كتاباته، ولما تقرر أن يتحول كتاب «لقاء هناك» إلى فيلم سينمائي والذي يتكلم عن الصراع بين المادة والإيمان وعن المصالحة بين الأديان، كان على ثروت أن يذهب إلى شيخ الأزهر «الشيخ عبد الحليم محمود» وإلى «البابا شنودة» ليوافقا على عرض الفيلم، وكانت هناك مناقشات بين شيخ الأزهر وبابا الأقباط اللذين حضرا العرض الأول للاطمئنان على سلامة التنفيذ. وقد نجح الفيلم نجاحا كبيرا، وقد عبر عن الوحدة الوطنية أجمل وأصدق تعبير.
وكانت له حاسة سياسية صادقة، وكثيرا ما تنبأ بأحداث سياسية قبل وقوعها؛ فقد تنبأ بحرب 56 في اللحظة التي أعلن فيها الرئيس جمال عبد الناصر تأميم القنال، وعمل رهانا مع توفيق بك الحكيم على ذلك وكان مستبعدا تماما للحرب، وتناقش كثيرا مع محسن أباظة السفير في ذلك الوقت وكان متأكدا من عدم نشوب حرب، وعندما بدأ العدوان الثلاثي اعترف بحاسته السياسية، وتنبأ أيضا بانهيار الاتحاد السوفييتي في مقال نشره في الأهرام سنة 1970م، ولعل نشأته في بيت كله سياسة ساعدت على تنمية هذه الحاسة فيه.
وكان دائما يصف الإخوان المسلمين في مقالاته بأنهم بداية الإرهاب، ويهاجم الناصريين وينقل حيثيات من أحكام المحاكم تثبت بطشهم، ويهاجم الشيوعيين أيضا، وعبثا حاولنا - أولاده وأنا - أن نخفف من هجومه، ولكنه رفض أن يقلل منه، وكان يقول: أنا مع الحق إلى أن أموت.
وفي أوائل حياتنا الزوجية لم يكن أيضا عندنا «تكييف» ولم يكن منتشرا كل هذا الانتشار، فكان يهرب إلى سينما ريفولي وكانت قد افتتحت أول كافتيريا مكيفة في القاهرة، وكتب هناك رواية «هارب من الأيام» وكان يكلمني من وقت لآخر ليقرأ لي ما كتب. وبعد صدور الرواية كان الأقارب والأصدقاء يقولون لي مجاملين أنت التي ألهمته هذه القصة الشيقة ، وكنت أقول لنفسي: بل تكييف سينما ريفولي هو الذي ألهمه. وقد نال على هذه الرواية الجائزة التشجيعية سنة 1958م، وكان هذا أول تكريم رسمي يحصل عليه. ثم كتب بعد ذلك «شيء من الخوف» ونشرت في مجلة صباح الخير على حلقات، ثم اختارها الفنان صلاح ذو الفقار لينتجها فيلما سينمائيا، وتم إعداد السيناريو في منزلنا وكان يجتمع المنتج بالمخرج العظيم حسين كمال والسيناريست صبري عزت للمشاورة وتبادل الآراء؛ ولذلك خرج الفيلم بهذا الجمال، وكان للموسيقى والتصوير والتمثيل فضل كبير في نجاحه.
ولهذا الفيلم بالذات قصة، فقد اعترض عليه وكيلا وزارة الثقافة حسن بك عبد المنعم وعبد المنعم بك الصاوي وطلبا أن يراه الوزير، وكان الدكتور ثروت عكاشة هو وزير الثقافة في ذلك الحين. ولما رآه وأحس بما فيه من إسقاطات وتلميحات على الحكم طلب بدوره أن يعرض الفيلم على رئيس الجمهورية شخصيا. وقد كان تعليق الرئيس جمال عبد الناصر: «لو كنت أنا مثل هذا الرجل لقتلني الشعب.» وسمح بعرضه. وأما التكريم الذي ناله ثروت فهو تكريم الجمهور الذي أحس بنفسه وأحس بالمرارة التي تملؤه تحت نير الطغيان، وكانت الناس تتعجب كيف ظهر هذا الفيلم؟! كيف كتب له أن يرى النور؟! وحتى الآن لا يزال يعرض ويقابل بنفس الإعجاب وبنفس التقدير. والحقيقة أن «شيء من الخوف» كان صرخة مدوية تنادي بالحرية.
ثم جاءنا «التكييف» وكتب باقي رواياته في حجرة مكتبه في المنزل، وكتب كثيرا منها في سويسرا وبالتحديد في لوزان، وكان يستوحي رواياته من الواقع المحيط به وينتهي من كتابتها في سنة تقريبا، وكنت أحاول أن أقنعه بأن يخفف قليلا من عنف مقالاته ولكنه كان لا يتزحزح عن مواقفه ويقول لي: «أنت خلقت كما أنت، وأنا خلقت هكذا.» وحدث أن هاجمه أحد الكتاب في صحيفة حزبية، وهاجم أباه دسوقي باشا بألفاظ لا تمت للأدب بصلة؛ فصمم أن يلجأ إلى القضاء، وكلف المحامي المعروف منير بك حتاتة - حما ابنه - أن يترافع في القضية، وكسبها، وحكم على الكاتب الصحفي بالسجن، وتدخل صحفيون وشخصيات معروفة لإقناعه بالتنازل عن القضية ولكنه صمد لكل هذه الضغوط، وقال لي: «قد أتنازل عن حقي، ولكن لن أتنازل عن حق أبي.» وكل كتاباته كان يكتبها في حجرة مكتبه في المنزل، ويغلق عليه الباب ولا يسمح لأحد بالدخول، ولا يحب أن ندخل عليه لنسأله إذا كان يريد قهوة أو شايا، إنما يحب أن يطلب هو في الوقت الذي يريده. وكان قد ذاع اسمه فسعى إليه الناشرون للنشر في المطابع المختلفة، ثم بعد ذلك عهد بكل أعماله دون استثناء لدار المعارف.
وإذا كان لي أن أصف أخلاقه فأشهد أنه كان عنده صفاء نفس كصفاء الأطفال، لا يعرف قلبه الحسد ولا الحقد، ولا ينطق إلا صدقا، طاهر القلب واليد والضمير، يسعد لسعادة الناس، وكان شموخه وهيبته تجبر الناس على احترامه وحبه في نفس الوقت، وكانت زوجة ابني دسوقي «جيهان» تقول: «إذا نطقنا باسم عمي ثروت فإن اسمه يكون كالكلمة السحرية؛ يسهل كل صعب ويذلل كل مشكلة في جميع المجالات، وفي جميع الأوساط، وهذا فضل من الله عليه.»
وقال لي المخرج المعروف منير التوني - وكانت تجمعه بثروت أعمال تليفزيونية كثيرة - قال لي: إنه طلب من ثروت طلبات لتعيين أقارب له وأصدقاء، وما إن سمع ثروت الطلب حتى رفع سماعة التليفون واتصل بالمسئولين وهو على علاقة طيبة بهم جميعا وفعلا أجابوه إلى طلبه في الحال.
وهذه قصة تستحق أن تروى، فالصحفي فاروق أباظة كان كاتبا في مجلة «المصور» ودأب على أن يهاجم «ثروت» على صفحات مجلته على مدى سنوات، ولكنه حين فاجأه مرض خطير يحتاج إلى العلاج في الخارج لم يلجأ إلا إلى ثروت أباظة الذي لم يتوان عن مساعدته، وطلب رئيس الوزراء في الحال ورجاه أن يسافر الصحفي على نفقة الدولة؛ وقد كان، وعاد إلى بلده سليما معافى وعاد أيضا بحب وبتقدير لثروت. وإحقاقا للحق أنه عندما هاجم الأستاذ جلال أمين «ثروت» بعد وفاته مباشرة بهجوم غير موضوعي بالمرة - ويكفي أنه يهاجم إنسانا ليس في إمكانه أن يرد عليه، وكان هذا الهجوم على صفحتين من جريدة العربي - تصدى له فاروق أباظة مدافعا عن ثروت بكل صدق وشهامة.
والأستاذ جلال أمين له سابقة مع ثروت ولكن في حياته؛ فقد كتب مقالا ينتقد فيه «ثروت» نقدا غير موضوعي يحس فيه بالحقد والكراهية، ولم يشأ ثروت أن يرد عليه أو العنف به، والمعروف أنه كان عنيفا في خصومته، ولكنه آثر الصمت إكراما لذكرى والد الأستاذ جلال أمين الأستاذ العالم الجليل أحمد بك أمين.
وقد كان أحمد بك أمين أول من أفسح لثروت صفحات مجلة الثقافة الشهيرة التي كان يرأس تحريرها في الأربعينيات، وكان ثروت لا يزال في البكالوريا - الثانوية العامة الآن - وبالطبع لم ينس لأستاذه أبوته ورعايته وتشجيعه.
وكانت كلمته عقدا ووعده حقا؛ فقد حدث أن باع قطنه في بلدته غزالة، واتفق مع التاجر على ثمن محدد ولكنه لم يكتب عقدا وإنما كان الاتفاق بكلمة، وفي اليوم التالي جاءه تاجر آخر بسعر أعلى بكثير، فقال له دون تردد: «أنا أعطيت كلمة أمس.» وعبثا حاول الذين حوله أن يذكروه بأنه لم يكتب عقدا، ولكنه أصر، وهذا هو خلقه.
وبما أننا نتكلم عن غزالة، فقد كان عاشقا للقرية التي نشأ فيها، ونعم بأرضها وسمائها، وتعلم فيها وغاص في أعماقها؛ فقد تبرع بقطعة أرض لإنشاء مركز للشباب بها، كما سعى بعد ذلك لإنشاء مدرسة ابتدائية، وأدخل السنترال، وأهدى الجامع الذي بناه والده دسوقي باشا إلى وزارة الأوقاف، فهدمته وأنشأت بدلا منه جامعا كبيرا، وكان والده قد تبرع من قبل بقطعة أرض ليبني عليها معاهد دينية ابتدائي وإعدادي وثانوي. وأسوق هنا قصة غريبة وهي أميل إلى الطرفة، ولكنها حدثت فعلا؛ فقد اشترى «يوسف عبد القادر الكلاف» في القرية من ثروت قطعة أرض صغيرة في الخمسينيات وكان سعر الفدان زهيدا، فقد اشترى قيراطين ليبني بيتا صغيرا، واتفق مع ثروت أن يدفع جزءا من ثمنها والباقي على أقساط، ولكن الذي حدث أنه عجز عن دفع القسط الأول فاقترح أن يسمن ديكا روميا ويدفعه بدلا من كل قسط، ووافق ثروت، واستمر الأمر على هذه الحال حتى سدد ثمن القيراطين كاملا.
وإن دلت هذه القصة على شيء فعلى أن قلبه منسوج من البر والرحمة.
تعرض منزله في قرية غزالة للسرقة؛ فكبر على نفسه أن يسرق بيته من أهل غزالة التي نشأ على حبها، وأمسك التليفون فورا واتصل بمدير الأمن بالزقازيق ولما سأله المدير عن عنوان غزالة قال «غزالة الخيس.» ولم ينس وهو في أوج انفعاله وثورته أنه عاشق للغة العربية فقال لمدير الأمن «الخيس معناه بيت الأسد.» ثم ظهر أن اللصوص ليسوا من أهل غزالة.
وكان إيمانه بالله لا حدود له، يسلم له أمره، ولا تساوره الهواجس أو القلق، إنما هو مؤمن وتغمره الثقة أن الله لن يضيره أبدا.
وكان يتهمني بضعف إيماني؛ وذلك لأني أخاف من «الأسانسير» وأخاف من الظلام، وأخاف على أولادي إذا تأخروا، وأتخيل سيناريوهات كلها مؤلمة، وكنت لا أقول لزوجي، ولكنه كان يلاحظ على وجهي ما أخفيه من فزع فيقول لي:
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا
وكنت أخاف من الطائرة وكان يمكن أن ينام هو ونحن معلقون بين السماء والأرض، في حين أظل أنا مستيقظة أنصت إلى صوت المحركات وأراقبها. وفي مرة أحسست بانخفاض في صوت المحركات بعدما كانت مدوية؛ فأصابني الهلع، وبعد ثوان خرج مساعد الطيار ممسكا في يده فنجانا من القهوة وكأنه ليس في الأمر شيء، وقال: إننا مضطرون إلى الهبوط في أثينا لسوء الأحوال الجوية في جنيف وهي مقصدنا؛ فتأكدت أن كارثة على وشك الوقوع. وفي أثناء الهبوط سأل زوجي هذا المساعد عن السبب الحقيقي فقال: «إن محركا من محركات الطائرة قد توقف.» فأدركت أن من شدة خوفي أحسست بانخفاض صوت المحركات، وكان ثروت هادئا يحاول أن يهدئ من روعي وكنت أحسده لأنه لا يهاب الموت، وإنما إيمانه ينشر السكينة في قلبه.
وكان دائما ينتقدني لأنني عندما تعجبني مقالة وتدخل إلى أعماقي أتحمس وأحب أن أكلم صاحبها لأهنئه، وإذا رأيت فنانا أجاد دوره وبرع فيه كالفنان العظيم محمود ياسين في مسلسل «أبي حنيفة النعمان» الذي أذهلتني براعته وتعمقه في الشخصية وأردت أيضا أن أهنئه، أعجبت بدور الفنان العملاق نور الشريف في مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» فقد كان أداؤه فوق القمة، ودور الفنان عمر الحرير في مسلسل «عمر بن عبد العزيز» الذي جسد فيه عبد الملك بن مروان؛ كان رائعا، وفي رأيي كان يستحق عليه جائزة، ودور الحجاج في نفس المسلسل الذي قام به الفنان الكبير عبد الرحمن أبو زهرة بقوة واقتدار.
وأعجبت بمطربة شابة ذات صوت جميل أصيل، ولكنها كانت ترتدي فستانا لا يناسب سنها، ويظهر من كتفها ما كنت أفضل أن يستر، وعلى رغم أن الفستان ليس عاريا إلا أنني كنت أحب أن أقول لها: «إن صوتك وحده سيبلغ بك إلى أعلى الآفاق؛ فلا داعي لإظهار القليل من كتفك، فصوتك لا يحتاج إلى أية مساعدة من مظهرك، فكوني بسيطة في أزيائك واحرصي على أن تناسب سنك.» أما الفنانة الكبيرة سميرة أحمد فقد رأيتها في رمضان تتحدث في برنامج «على الورق» قالت: «إذا أردت أن أتكلم عن الفنانات في مصر فإنني أستثني الفنانة العظيمة «فاتن حمامة» فلا أحد منا يستطيع أن يصل إلى مستوى فنها وعبقريتها.» أردت أن أهنئها على هذه البساطة وعلى إنكار الذات.
ولما قلت لزوجي: إنني سأهنئهم جميعا شبهني بسيدة نعرفها وننتقدها دائما لأن لها رأيها الخاص في كل المواضيع العامة، وتتصرف بناء على هذا الرأي، فهي تكلم التليفزيون وتهاجمه بشدة وإذا صدر في الصحف قرار لا يعجبها تتصل بصاحب القرار وتناقشه وتهاجمه، وكان زوجي يقول عنها: إنها تدس أنفها في كل شيء! ولا يكف عن السخرية من ضعف عزيمتي، ولم أكلم أحدا بعد هذا التشبيه.
قرأت يوما في الستينيات في مجلة المصور مقالا كتب صاحبه وهو شاعر غير معروف من شعراء الشعر الحديث أن أغراض الشعر المعروفة وهي الغزل والفخر والمدح قد عفى عليها الزمن، ويجب أن يكون أغراض الشعر هي معاناة الناس في الجمعيات الاستهلاكية، ومعاناتهم أمام طابور الجمعية؛ فشعرت بغصة في حلقي؛ فقد نشأت على الشعر الجميل ، وموسيقى الشعر الساحرة؛ فكيف يريدنا أن نسمع شعرا يتكلم عن طابور الجمعية! فكتبت للأستاذ الشاعر صالح جودت وكان رئيس تحرير مجلة المصور؛ رسالة، وقلت له فيها: «إذا كان الشاعر يريد أن يتكلم الشعر عن الجمعية والدجاج فلتدع ذلك للشعر الحديث وليتكلم الشعر العمودي الأصيل عن الحب والجمال والخيال.» فنشر صالح جودت هذه الرسالة وكانت بدون إمضاء. قدمت لزوجي مجلة المصور وقلت له ما كان، وعلى رغم أن رأيه من رأيي إلا أنه اعترض على تحمسي وعلى مسارعتي بالرد على الشاعر، وقال لي: «ليس هذا من شأن النساء!» ولا أذيع سرا إذا قلت إنه شبهني بمن يدس أنفسه في كل شيء، وكان لا يحب هذا الحماس ولا هذا التصرف من المرأة.
وكان يستطيع أن يفتح موضوعات للحديث، ولا يستعصي عليه أن يكلم شخصا قابله لأول مرة في شتى المواضيع، وله قدرة أن يثير مناقشات تشغل الحاضرين ويندمجون فيها. وحدث أن دعينا مرة عند عمي أحمد على العشاء، وكان من ضمن المدعوين أمير عربي، وظل هذا الأمير صامتا لا ينطق على رغم محاولة الجميع في فتح حوار معه، وأراد ثروت أن يشرك الأمير في الحديث؛ فأخذ يسأله ويحاوره إلى أن اضطر الأمير اضطرارا إلى أن يخرج عن صمته، بل أخذ يتحدث معه في مواضيع شتى. وجاء محمود ابن عمي أحمد وقال لي ضاحكا: «عمي ثروت يستطيع أن يكلم طوب الأرض.» وتذكرني هذه الواقعة بواقعة شبيهة على رغم اختلاف الشخصيات؛ فقد دعانا «حسن الطاهي» الذي يعمل عندنا؛ لحضور عقد قرانه في قريته في طنطا، فذهبنا بطبيعة الحال، وأخذنا معنا الشربات وصينية حلوى، تماما كما فعلنا يوم عقد قران ابننا دسوقي، وكان قد تزوج حديثا، ولما وصلنا دخلنا داره وهي مبنية من الطوب اللبن، واستقبلنا والده، وهو فلاح طبعا، وأخذ ثروت يحدثه، وأعتقد أن أحسن موضوع يتكلم فيه الفلاحون هو الزراعة، فسأله: كم قنطارا من القطن يرمي الفدان هنا؟ - لا أعرف. - كم إردبا من القمح يرمي الفدان؟ - لا أعرف.
كان هذا هو الرد دائما على أسئلة ثروت؛ فأسقط في يده! وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يفشل فيها في إجراء حوار مع شخص ما، ثم دعونا لتناول العشاء وأكرمونا ما وسعهم ذلك، ثم ودعونا بكل امتنان.
ووصلنا للكهولة وذهبت الخلافات الصبيانية، والواقع أن الحب كان دائما سبب الخلاف، وكان دائما هو سبب الصلح، وهدأت العصبية وحل محلها الهدوء، وأصبح كل منا يرعى الآخر ويسانده بكل ما أوتي من قوة، واطمأن زوجي إلى أنه ليس الزوج المنقاد لزوجته، وأصبح أكثر ليونة، وأصبح لا يجد حرجا في أن يكشف لي بكلمات رقيقة حلوة عما يختلج في نفسه دون أن يخشى أن أتسلط عليه وإن استغل حبه لي، وكان هذا الخوف يقلقه ويلازمه منذ بداية زواجنا، وتصرفاته العصبية أغلبها نتيجة لهذا الخوف. ولكنه طوال حياته كان يحب بيته ويحترمه ويقدر زوجته ويتفانى في إسعاد أولاده، وفي الكهولة أيضا تحتاج الزوجة بعد طول المسئولية أن تستشير طبيبا كبيرا في أحوال صحتها؛ فذهبت إلى الدكتور العظيم محسن إبراهيم، وبعد خروجي من عيادته وقبل وصولي إلى المنزل كان ثروت يطلبه في التليفون ليستفسر عن صحتي وليطمئن علي، ولم يكن يعرف بعد الدكتور محسن إبراهيم وإنما كان كل منهما يسمع عن الآخر ولكن بدون معرفة شخصية.
وفي يوم جاء الدكتور محسن إبراهيم إلى منزلنا للكشف على ثروت، وكان قد أصبح الطبيب المعالج له بعد وفاة الدكتور عبد العزيز الشريف، جاء إلى منزلنا وحضر مناقشة حادة بيني وبين زوجي؛ فهو من شدة تفاؤله يخفف من وصف حالته للطبيب وأنا أريد أن أصف الحالة كما هي. فقال لي الدكتور محسن لا تناقشيه ولا تغضبيه فإنه الزوج الوحيد الذي يسألني عن صحة زوجته بعد الكشف عليها، وأنا طبيب منذ عشرات السنين ولم أسمع صوت زوج واحد يسألني عن صحة زوجته بعد الكشف عليها.
وكان صريحا ليس عنده ميل أو مواربة، وأكبر دليل على صراحته الزائدة ووطنيته المتعصبة هذه الواقعة، فقد دعانا سمو الأمير تركي بن عبد العزيز وسمو الأميرة هند إلى السعودية لأداء العمرة، وأقمنا في فنادق فاخرة، وأحاطنا كالعادة برعايته واهتمامه، وحدث أن دعانا ناشر سعودي يطبع لثروت كتابا؛ على العشاء في منزله، وبينما نحن على المائدة بدأ الداعي يقطع الخروف الذي هو علامة من علامات الحفاوة هناك، وسأل ثروت: هل رأيت كورنيش جدة؟ - نعم؟ - أليس أجمل من كورنيش القاهرة؟
فهب ثروت وارتفع صوته وقال له: إن مصر ليس عندها أول كورنيش فقط، وإنما عندها أول حضارة في العالم عمرها 7000 سنة فلا تقارن بينها وبين غيرها.
فبهت الداعي ولكنه أمن على هذا الكلام باللفظ والإشارة.
ودعي مرة أخرى إلى مسقط لإلقاء محاضرة عن القصة في الأدب العربي، وذهبنا إلى هناك وقوبل بحفاوة كبيرة، ودعاه السفير المصري للتعرف على أدباء مسقط وعلى المصريين المقيمين هناك، وجاء موعد المحاضرة وتكلم ثروت عن القصة في الأدب العربي بادئا برواية زينب للكاتب الكبير حسين هيكل باشا، والحب الضائع ثم شجرة البؤس لعميد الأدب العربي طه حسين باشا، ثم تكلم عن محمود تيمور، وتوفيق الحكيم، والأديب العالمي نجيب محفوظ. وبينما هو منهمك في الحديث قام أحد الأدباء العمانيين وقال بانفعال شديد: «ألا يوجد أدب إلا في مصر؟!»
وقبل أن يكمل المقاطع المحتج كلامه رد عليه ثروت على الفور: ألأنكم دعوتموني إلى بلدكم وأكرمتموني اعتقدتم أنكم اشتريتموني؟! نعم، مصر هي منارة الأدب والشعر والفن، ومن إشعاعها وصل إلى كل البلاد العربية النور بعد طول الظلام الدامس.
زار الأهرام شخصية عربية هامة في السبعينيات، وتكلم الضيف في الندوة، وقال: إن مصر باعت القضية واستسلمت؛ فهب ثروت واقفا وقال بانفعال شديد: إن مصر لم تبع القضية ولم تستسلم وإنما استرجعت أرضها بالحرب ثم بالسلم، ولماذا تكون أرضكم عزيزة عليكم وتعجبون أن تكون أرض مصر عزيزة علينا؟ فغضب الضيف العربي الكبير وشكا ما كان من ثروت، ولما سئل أجاب كيف أسمع تحقير بلادي ولا أرد؟
وكان مؤيدا ومن كل قلبه للرئيس أنور السادات بعد حرب 73 ثم مؤيدا وبكل حماس وصدق للرئيس محمد حسني مبارك، وكان يعلن تأييده على صفحات الأهرام في مقالاته الأسبوعية، وطلب منه ابنه دسوقي أن يخفف من حماسه لأن خصومه يتهمونه بأنه منافق (ويعلم الله أنه لا يعرف النفاق) فرد عليه قائلا: لو كنت منافقا لنافقت عهد الطغيان، ولو كنت منافقا ما شاركت الأستاذ الكبير نجيب محفوظ والأستاذ الكبير توفيق الحكيم في إرسال بيان جريء إلى الرئيس أنور السادات قبل حرب 73 نقول فيه: «ما دام ليس هناك حرب فلا داعي لشعار لا صوت يعلو على صوت المعركة.» وقد أقالني الرئيس من الاتحاد الاشتراكي - مع أني لم أكن عضوا فيه في يوم من الأيام - ولكن كان هذا لإظهار الغضب، ولو كنت منافقا ما دافعت عن بشوات ما قبل الثورة؛ لأن الدفاع عنهم يعتبر جريمة لا تغتفر، والثورة بحديدها ونارها وجبروتها وعنفوانها لم تستطع أن تثبت الخيانة على واحد من باشوات مصر وفديا كان أم سعديا أم مستقلا، ولو كنت منافقا ما قال عني الأديب العالمي نجيب محفوظ: إن ثروت لم يكن يوما من الأيام ممن ينافقون السلطة؛ ولذلك بقي بلا عمل حتى اقترب من الخمسين.
وكان وجه الشبه بيننا أن كلا منا له ضمير حساس ويجري في دمائه حب الشرف، وكلانا يحب الشعر، ومن حسن حظه أنني أحب الأدب وأحس بكل ما يكتبه، وكلانا يحب كل ما هو جميل.
أما أوجه الاختلاف بيننا فكانت في الحياة اليومية وليس في الخطوط العريضة؛ فقد كان هو صريحا إلى أبعد درجة، ويواجه الناس بالحقائق في غير مواربة، وكنت أغضب شفقة عليهم، وأحيانا أتبنى رأيهم حتى ولو لم يكن رأيي، وهذا كان أساس خلافاتنا خصوصا في أول الزواج. وكنا نختلف أيضا في طريقة تربية الأولاد؛ فهو أب يملأ قلبه الحنان والعطف على أولاده، لا يحب أن يراهم يبكون، ولا يحب أن يعاقبهم أحد، وكنت أرى أن من واجبي أن أوجههم وأعلمهم باللين أولا ثم بالشدة ثانيا وكانت هذه الشدة مثار الخلاف بيني وبين زوجي.
وكنا نقضي سهرة رأس السنة في غرفتنا وعلى مدى 52 عاما هي عمر زواجنا، سهرنا خارج المنزل مرة عند الفنان العظيم صلاح طاهر، وكانت تربطنا به وبزوجته العظيمة صداقة وطيدة، ومرة عند الكاتب الكبير أنيس منصور ، وكنا على ود وصداقة جميلة وعرفنا زوجته السيدة الفاضلة الجميلة شكلا وخلقا، أما باقي السنوات فكنا كما ذكرت نقضيها في غرفتنا ومعنا أمينة ودسوقي وهما أطفال صغار، وكان احتفالنا بالسنة الجديدة أن نشتري «تورتة» نأكلها معا ثم نقبل أولادنا الساعة 12 ونتسابق جميعا لننام.
ولما وصل أبناؤنا إلى سن 12، 14 سنة كانا يتهكمان على هذه السهرة العائلية ويحكيان لأقاربهما وأصدقائهما ما يحدث ليلة رأس السنة عندنا، ويسخرون من الطقوس التي نتبعها دائما في نفس هذا اليوم.
إلى أن كبرا وتزوجا، وبقينا وحدنا واستغنينا عن «التورتة» واكتفينا بمشاهدة التليفزيون والنظر في الساعة كل خمس دقائق متعجلين نهاية السهرة، وعندما نتأكد أن إشراقة السنة الجديدة قد هلت علينا يتمنى كل منا للآخر سنة سعيدة.
وكنا نقضي شهر سبتمبر من كل سنة في سويسرا على مدى سنوات طويلة، وكان يكتب رواية كل مرة في لوزان ويكملها في أسبوعين، في حين تستغرق في مصر عاما بأكمله؛ فهناك الهدوء والجو الجميل والمناظر الساحرة توحي بالأعمال الجميلة، بالإضافة إلى عدم قطع الكتابة بتليفون أو بمتطلبات الحياة عندنا. وكنا نستأجر شقة صغيرة صاحبتها سيدة في التسعين ولكنها بصحة ممتازة ونشاط يلفت النظر، وكانت عندما تدخل عليه وهو يكتب تنظر بانبهار إلى الصفحات المكتوبة ويزداد انبهارها وتقول «سيد أباظة يكتب بثبات ولا أرى أية كلمة مشطوبة بالمرة!» وهناك في أوروبا ينظرون إلى الكتاب والمؤلفين نظرة كلها إعجاب بل وتقديس.
وإني الآن وأنا أكتب أعجب مما يحدث؛ فأنا أشطب في كل صفحة وأعيد كتاباتها أكثر من ثلاث مرات، وأظن أن سبب هذا أنني لست كاتبة ولا محترفة، وكان زوجي عندما كنت أكتب كتاب «أبي عزيز أباظة» سنة 1973م، وعند عودته من عمله مساء يدخل غرفة النوم فيجدني جالسة على السرير وأوراقي مبعثرة حولي، تضيع مني ورقة؛ فأكتب غيرها، ثم بعد ذلك أجدها، وكان يضحك من منظري وأنا أتقمص دور المؤلفة، ويا ليته يراني الآن بعد مرور ثلاثين عاما وأنا أكتب عنه بعد رحيله بنفس الطريقة الفوضوية، ولكن بنفس الحماس وبنفس الصدق.
وغيرنا هذه الشقة وفضلنا أن ننتقل إلى فندق بسيط في لوزان يطل على بحيرة «ليمان» وكنت أستيقظ في الصباح الباكر وأنزل «كافتيريا» الفندق وأتناول إفطاري وأستمتع بفنجان القهوة باللبن المشهور في أوروبا لتكسبني نشاطا أستطيع أن أقوم بمهامي، وعندما يستيقظ زوجي أطلب له الإفطار في الغرفة وعلي أن أصب الشاي واللبن في الفنجان وأقلب السكر وآتي بالسجائر والولاعة، وقبل ذلك كله أجهز الدواء قبل الأكل وبعده، وكان هذا روتينا في أوروبا فقط، وكان كثيرا ما يقول لي: «لماذا لا تتناولين إفطارك معي؟» فأقول له: «لو تناولته معك ما استطعت أن أسدي لك أية خدمة من هذه الخدمات، فلا بد لي أن أشرب القهوة أولا وبعد ذلك أستطيع أن أساعدك.»
ثم أساعده على ارتداء ملابسه، ونخرج معا إلى ميدان «سان فرنسوا» في وسط المدينة، حيث توجد قهوة اعتاد أن يجلس فيها سنوات طويلة ومعه أوراقه، ويترك لنفسه العنان في الكتابة؛ أتركه في حالة الإبداع وأتجول أنا في المحلات، وأعود إليه في ميعاد الغداء، فنترك القهوة ونتوجه إلى مطعم من اثنين أحدهما معتدل السعر وهو «الموفينبيك» والثاني أرقى بكثير وهو فندق «البوريفاج» الذي يذكرنا بالفخامة القديمة، فإذا دخلنا بهوا فهو يسلمنا إلى بهو آخر، إذا دخلنا غرفة الطعام نجدها تؤدي إلى شرفة مترامية الأطراف تطل على البحيرة، وكنا نحب أن نستمتع من آن لآخر بهذه الفخامة العريقة، وكنا أحيانا نأخذ المركب من أمام الفندق ويسير بنا إلى اتجاه فيفي ومنترو، ونظل ننظر بانبهار إلى الجبال الخضراء وإلى البيوت المبعثرة فوقها ذات الأسطح الهرمية الحمراء التي تميزها، ونظل نسبح الله على ما أعطاه لهذا البلد من جمال وكنت من فرط سعادتي أردد كلمات الشاعر الغنائي عبد الوهاب محمد:
مش بس أيامي بتحلو
دي العيشة والناس والجو
وكان ينظر إلي باسما سعيدا لسعادتي.
وعلى رغم أننا نأخذ رحلة المركب كل عام إلا أننا لا نكف عن الانبهار بجميل صنع الله. ونعود إلى الفندق، فيأوي إلى فراشه للراحة بعد الغداء، وأستأنف أنا جولاتي في «السوبر ماركت » لإعداد طلبات العشاء، ثم أعود مع الغروب فأجده قد استيقظ وجلس في الشرفة الواسعة المطلة على البحيرة، راميا ببصره إلى سلسلة الجبال التي تلوح على الشاطئ الآخر منها وهي منتج «إيفيان» في فرنسا، ثم لا تلبث الأنوار أن تتلألأ هناك، ويكتمل جمال المنظر، ويوحي للكاتب بكل ما هو جميل، وتتسابق الكلمات إلى رأسه، ومنها إلى قلمه، ويناجي الله، ثم يحلو له أن يردد قصيدة أمير الشعراء «صحبة الكتب» التي يحفظها عن ظهر قلب ثم ينام على أحلى نغم؛ على أنغام الشعر الجميل.
ولنا في لوزان أصدقاء سويسريون، ولكن في أخلاقهم دفء الشرق، وهذا ليس بمألوف في سويسرا، وكانوا يعتبرون أنفسهم أوصياء علينا؛ فهم دائما يعرضون خدماتهم، ويضعون وقتهم وسياراتهم تحت تصرفنا، ويحملوننا عند العودة أنواع «الشيكولاته» للأولاد والأحفاد.
أما السفير المصري في الأمم المتحدة منير بك زهران والسيدة حرمه فكانا يدعواننا إلى منزلهما في جنيف أو يأتيان إلى لوزان ليدعوانا على الشاي في ال «بوريفاج»، وفي يوم عودتنا إلى القاهرة نتناول الغداء عندهم في جنيف، ويرحبان بنا ترحيبا لن ننساه مدى الحياة، ثم يصحباننا إلى المطار، ويتولى موظف في السفارة عنا إجراءات السفر ولخمة الحقائب، ونصل إلى الطائرة خفاقا لا نشعر بتعب السفر بالمرة.
وكان السفير يفتح له قاعة كبار الزوار في الوصول وفي العودة، ومن سويسرا كنا نزور لندن، وكنا نحب عراقتها وجمالها وطابعها الخاص، وكنا نحرص على أن نزور الريف ونستمتع بجماله كلما أمكننا ذلك، وفي المساء نذهب إلى المسرح، ويبهرنا التمثيل، وأحيانا توضح لنا حركات الممثلين وروعة أدائهم ما يكون قد استعصى علينا فهمه.
وقد قال لي الأستاذ الأديب علي شلش وكان يقيم في لندن: «إنني قابلت كثيرا من الأدباء والكتاب هنا، ولم يفكر أحد منهم في الذهاب إلى المسارح، مع أن المسرح الإنجليزي من أعظم منارات الثقافة في العالم.»
وكان ثروت دائم الزيارة للصحفي الكبير الأستاذ علي أمين في محل إقامته، وكان مقيما أو منفيا في لندن، وكان شقيقه أبو الصحفيين الأستاذ مصطفى أمين محبوسا في القاهرة، وكانت هذه الزيارة تعتبر من الجرائم التي لا تغتفر، وبعث علي أمين مع ثروت برسائل إلى زوجته الصحفية المعروفة خيرية خيري؛ ليطمئنها على نفسه وهو وحيد في بلد غريب.
ولما علت بنا السن كنا نذهب إلى الإسكندرية، ولكن بدلا من السباحة كل يوم أصبحنا نذهب إلى قهوة التريانو في محطة الرمل وهي على الرصيف، ويختار زوجي مائدة محددة تحت شمسية ويقضي فيها فترة الصباح. وعلى رغم أن رسائل التهديد بقتله كانت تصله في هذه الأيام إلا أنه كان يصر على أن يجلس على هذا الرصيف المكشوف من كل جهة، وعبثا حاولت أنا وحارسه الخاص أن نرجوه أن نذهب إلى مكان مغلق ولكن لا فائدة، حتى إن الحارس قال له: «أنا مكلف بحمايتك، ولكني أريد أن أرى ابني الذي لم ير النور بعد وفي هذا المكان المكشوف لا آمن على حياتك.» وبقينا على رصيف التريانو طوال المدة، وكان يسعد عندما يحييه المارة ويعرفونه بأنفسهم، ويتكلمون معه، ويبدون إعجابهم بمقالاته، وكانوا من مستويات مختلفة ومن جميع الأوساط والأعمار؛ فكان منهم أساتذة في الجامعة، ومنهم طلبة من الشباب، ومنهم سيدات وآنسات، ومنهم «سائقو تاكسي وسائقو ترام» يحيونه بحرارة وبابتسامة عريضة، وكنت أتساءل: «كيف لهؤلاء السائقين وهم على قدر بسيط من التعليم أن يعرفوا كتاب المقالات الأدبية والسياسية؟» وكان يقول لي: «الحمد لله أن حياتي لم تذهب هباء.»
وكانت تأتي معنا حفيدتنا «ياسمين» وهي في التاسعة من عمرها، ولتقطع الملل كانت تحصي عدد الذين يسلمون على جدها ويحيونه، ويظل هذا هو شغلها الشاغل طوال إقامتها معنا في الإسكندرية، وأما في المنزل فكانت تتسلى بأن تصنع «كيكة» لا تؤكل، أو «تورته» لا تنظر، أو شيكولاته مخفوقة. والغريبة أنها تكون أيضا مرة المذاق. وكنت أقول لها ارحمينا! في حين كان جدها يقول لها إنه لم يذق شيئا أحلى مما تصنعه، على رغم أنه لا ينطق إلا صدقا.
وكان معروفا عن ثروت عند الأصدقاء أنه لا يحب أن يبقى في الأفراح أكثر من ربع ساعة أو نصف ساعة إذا اضطر أن يجامل من معه على المائدة. دعينا مرة إلى فرح وتأخرنا فيه، ولما نزلنا سألنا السائق متعجبا ماذا حدث؟ فقلنا له السبب، وهو أن الداعي ظل على الباب ينتظر رئيس الوزراء، ورئيس الوزراء تأخر؛ فاضطررنا للبقاء حتى يترك الباب ونستطيع الهروب.
وفي فرح آخر في مصر الجديدة قطعنا مسافة في ساعة تقريبا وقبل الوصول بدقائق أعلن المذيع في الراديو عن حلقة من حلقات «عازف الحب والألم» وهي قصة حياة أبي في أواخر السبعينيات، وطبعا كنت أحب أن أسمعها، ولكننا وصلنا، وقبل أن ندخل من باب المبنى رأيت الزفة تسير أمام الباب الخارجي ولكن من الداخل ورأيت أم العروس، وهي صديقتي، فوقفت على الباب وقبلتها وهنأتها وعدت إلى مكاني لأنتظر انتهاء الزفة لنستطيع الدخول، وإذا بثروت يقول لي: ألم تقبلي صديقتك؟ - بلى. - ألم تهنئيها؟ - بلى. - إذن هيا بنا.
كل هذا ونحن على الباب الخارجي لم ندخل بعد، وعدنا أدراجنا واستمعنا إلى الحلقة في الراديو ونحن في طريق العودة. والمفروض أن السيدات تحب أن تستعد للأفراح؛ فتفكر فيما تلبس، ومتى تذهب إلى «الكوافير»، ومتى تتجمل أو تحاول أن تتجمل، كل هذا يأخذ وقتا طويلا فهل تساوي الدقائق القليلة التي قضيناها على باب الفرح كل هذا التعب؟!
والحمد لله أنه قرر بعد ذلك عدم الذهاب إلى الأفراح نهائيا، ولكن هناك أفراح لا نستطيع أن نرفضها؛ فأصحابها من أعز الأصدقاء وأقربهم إلى قلوبنا، وكنت أقوم أنا بهذه المهمة وحدي مندوبة عنه، ولم تكن هذه الأفراح كثيرة بل كانت في أضيق الحدود.
وكان دائما يهتم بملبسه، ويختار الألوان المتناسقة، ويقول: «إن هذا الاهتمام معناه احترام الذات واحترام الغير.» وعندما يخرج من البيت صباحا مرتديا «بذلته» البيضاء كان كثير من أصدقائه وزوجاتهم يقولون له: «إن «البذلة» البيضاء لائقة عليك جدا.» وعندما يعود إلى المنزل يعيد علي الإطراء الذي سمعه، فأجيبه: «فعلا أنت تبدو جميلا في «البذلة» البيضاء.» وهذه الكلمات الحلوة لم أنطق بها إلا عندما وصلنا للكهولة، وأظن أنها لم تكن ذات تأثير يذكر عنده.
وكان يعنف شباب الأسرة إذا وجد مظهرهم ليس كما يجب، وكان يحب أن يرى شعرهم في شكل لائق ولا يهملون في حلاقة ذقنهم. وحدث أن اجتمع أربعة من شباب الأسرة وكانت مهمتهم أن يوزعوا دعاوى فرح «عمر رضوان» ووصلوا إلى باب منزلنا، وأخذ ينظر كل منهم للآخر ليختاروا الأليق منظرا؛ حتى يتفادوا تعنيف ثروت، وأخيرا اختاروا «طاهر أباظة»، وسلمه الدعوى، ولكنه لم ينج من الانتقادات الحادة، ولكنها أبوية، وكانوا يتقبلونها برحابة صدر وبحب كبير.
ولما كبر أبناؤه ظل يتابعهم وكان يقر عينا إذا رآهم بخير، ويشتعل قلبه بالوجل إذا مسهم سوء، ولكن «دسوقي» تولى عنه إدارة أرضه في «غزالة» وحمل عنه هذا العبء، وأصلح منزل الأسرة هناك، الذي كان آيلا للسقوط؛ على مسئوليته الشخصية، وجعل من الحديقة آية في الجمال والتنسيق، ودسوقي ابن بار يحس بكل ما يقض مضجع أبيه، ويسارع إلى مشاركته فيه وتخفيف الوطأة عنه، وفي مرة حاولت أن أقنع زوجي أن نسافر أسبوعين إلى سويسرا كما هي عادتنا، ولكن «دسوقي» قال لي: لا تلحي عليه؛ فقد وهن جسده ولا يحتمل متاعب السفر مهما كانت التسهيلات التي تقدم له عندما يسافر هنا أو في جنيف.
وفي الشهور الأخيرة من مرضه استأذن «دسوقي» من عمله ولازم أباه وبقي إلى جانبه يحايله ويلاطفه حتى ينفذ أوامر الأطباء؛ فقد كان له دراية ليست عندي في إقناعه بأن يأكل وهو مضرب عن ذلك، وفي أن يوافق على العلاج الطبيعي الذي يرفضه، وفي أن يقنعه بأخذ الدواء الذي يضيق به، كل هذا بصبر وبرفق، وفي نفس الوقت كان يحاول أن يهيئني للمصير الذي لا مفر منه. أما أمينة فهي تجسد المثل الذي يقول «كل فتاة بأبيها معجبة» فهي معجبة بمبادئه وأخلاقه، ومعجبة بأدبه الذي ينادي بالحرية دائما، وبالتفاؤل الجميل الذي تتسم به طباعه، وينضح على كل كتاباته، وتحب فيه صراحته ومرحه وسرعة بديهته ، وتشترك معه في هذه الصفات، والتشابه كبير بينهما، فهما دائما النقاش، ولكن كلا منهما يقدر الآخر، وأمينة لها قلب كبير يتسع لحب الناس جميعا، والحيوانات أيضا، ويعتبر حبها لأبيها حبا ممزوجا بالتقدير والإعجاب، أمينة شفافة النفس، مرهفة الحس، طاهرة القلب، تقرأ باللغتين العربية والفرنسية منذ طفولتها، وهي أديبة ومحبة للجمال، يصل كرمها إلى حد مبالغ فيه، وتساعد المكروبين ما وسعها ذلك، ويحبها الأطفال لنقاء سريرتها ومرحها، وهي لها أفكار خاصة بها لا يتفهمها كل الناس؛ فهي واسعة الأفق لا تعترف بالصغائر، وذلك يجعلها في نقاش دائم مع بعض الناس، وفي المجموع هي إنسانة رقيقة طيبة القلب رفيعة الخلق.
أما معاملته لأهل بيته من العاملين فهي معاملة الأب لأولاده، ويسمح لهم بأن يناقشوه ويفصحوا عن آرائهم السياسية، ويصحح لهم الفكر الخاطئ، لكن برحمة، والرحمة عنده لا تتعارض مع الصوت العالي.
وفي السنوات الأخيرة احتاج إلى من يساعده في ارتداء ملابسه، ويحفظ أدويته الكثيرة ولا يخطئ فيها، وكان هذا الشخص هو «عادل» وهو يعمل عندنا منذ عشرين عاما، وإذا جاء طبيب ننادي «عادل» ليذكر له أسماء الأدوية ومواعيدها؛ حتى يزيدها أو ينقصها. وكان «عادل» لا يدخر وسعا في خدمة زوجي، وفي الشهور الأخيرة كان لا ينام الليل، ويسهر على راحته مع الممرضات إذا كان في المستشفى، وكان أمينا غاية الأمانة؛ فقد حدث أن جاء طبيب كبير إلى البيت وبعد أن كشف هم بالانصراف، فمشيت معه إلى الباب الخارجي وأعطيته ظرفا به الأتعاب المناسبة لمكانته وعدت إلى الغرفة، وإذا «بعادل» يعطيني مبلغا من المال ويقول لي: وجدت هذا المبلغ على الأرض أمام الباب فأدركت أنها الأتعاب سقطت من الظرف؛ فأسرعت إلى التليفون وشرحت للطبيب ما حدث، فلو أن «عادل» لم يكن أمينا لكان موقفنا محرجا للغاية، وقد كتب ثروت هذه القصة في الأهرام.
وكان «ناصر» شقيق عادل يخدم «ثروت» في غياب أخيه، وله نفس الخبرة، وكانا يتبادلان المبيت في المستشفى؛ لأنهما أعلم من الممرضات بما يريح «ثروت»، وكان الأخوان يناقشانه في الدين ويستمع لهما، ولكن إذا لم يعجبه الكلام فإنه يشرح لهما «يسر ولا تعسر!»
أما حسن الطاهي وأخوه أحمد فقد بدأت خدمتهم له منذ عشرين عاما، رعاهما وأحسن معاملتهما وقدم لهما خدمات لا ينسيانها طوال العمر، ومجاملة لحسن سافر من القاهرة إلى طنطا ليحضر عقد قرانه، وعند رحيل ثروت مباشرة توافد إلى بيتنا مئات المعزين، وكان عمل حسن وأحمد من الصباح إلى منتصف الليل، وبقي الحال كذلك أربعين يوما ورفضا بإباء وإصرار أن يأخذا مكافأة مالية على العمل الشاق الطويل.
وإما إبراهيم السائق فقد كان يسمح له بالتدخين في المسافات الطويلة؛ لأنه يعرف كيف يكون حال المدخن إذا لم يستطع التدخين. ولإبراهيم قصة، ففي يوم اجتماع الجمعية العمومية لاتحاد الكتاب - وكان ثروت رئيسا له حينذاك - دخل السائق بين الأعضاء فسمع أحدهم يصف «ثروت» بما ليس فيه؛ فثارت ثائرته، ورد على العضو بعنف وجرأة؛ فغضب العضو وذهب إلى مكتب ثروت وشكا له السائق، فأمر ثروت بإحضاره وقال له كيف تجرؤ أن تكلم الأعضاء بهذه الجرأة؟ فقال له: «إنه وصفك بما ليس فيك.» فأجابه: «المفروض أن تكلم الأعضاء بكل توقير واحترام!» وأجبره على الاعتذار، وقبل العضو، ومرت المشكلة بهدوء دون أن يحاسب العضو أو حتى يعاتبه.
وقد حكى لي إبراهيم السائق أيضا بكل زهو أنه أوصل «ثروت» إلى البنك الأهلي ولم يجد مكانا يوقف فيه السيارة إلا في صف ثان، ولما جاء عسكري المرور وضع على السيارات التي أمام سيارته مخالفة وعلى السيارات التي خلف سيارته مخالفات وترك سيارته ولم يقترب منها، ولما عاد ثروت ورأى كمية المخالفات الموضوعة ورأى سيارته بدون مخالفة تعجب وقال للسائق: كيف يكون ذلك؟! فأجاب السائق: لما رأى العسكري هيبتك ووقارك لم يقترب من سيارتك. فما كان منه إلا أن نادى على العسكري وسأله لماذا لم تضع مخالفة على سيارتي؟ فارتبك العسكري ولم يجب فقال له: تعال وأد عملك كما يجب، وقل لي: كم قيمة المخالفة؟ ثم دفعها وأمر السائق بالسير بين دهشة العسكري وذهوله، وقال السائق: إن مثل هذه الحادثة تكررت أكثر من مرة وعلى طرق مختلفة.
وقال لي السائق أيضا: إن سيارة ثروت كانت 131 ومرت بجانبه سيارة «مرسيدس» على أحدث طراز فقال السائق: أما كان يجب أن تركب أنت المرسيدس؟ فأجابه ثروت على الفور: أنا ثروت أباظة سواء ركبت المرسيدس أم ركبت عجلة. والسائق يحكي وكله فخر بأنه يعمل عند إنسان يعرف واجباته ويعطي البلد حقها، ولا يستغل الحكومة حتى في مخالفة.
وكان كل العاملين في المنزل يقولون: إنهم لم يشعروا قط أنهم خدم، وكلهم يعملون عنده منذ أكثر من عشرين عاما ولم يشعروا منه إلا بكل حب ورعاية.
حب وتقديس
كان حبه لأبيه تقديسا أكثر منه حبا، وإعجابه وانبهاره بلا حدود، وكنت إذا رأيته مهموما أو صامتا أحاول أن أخرجه عن صمته، ويكفي أن أحدثه عن أبيه؛ فينطلق وتعاوده الذكريات، ويقص علي عنه قصصا كلها إنسانية وشموخ، وتصرفات كلها رحمة؛ فمثلا في طفولته وكان عمره لا يتجاوز الثانية عشرة عنف عاملة في المنزل، ودفعها بيده؛ فبكت وسندها شامل من ناحية وسامح من الناحية الأخرى ليضخما الأمر، وذهبا بها إلى دسوقي باشا وشكت له «ثروت» فما كان من دسوقي باشا إلا أن نادى ابنه الأكبر وقال له ستفعل بك مثلما فعلت بها. ولكن الخادمة رفضت بطبيعة الحال واكتفت بهذا الحكم كترضية لها.
وتقول لي زينات شقيقة ثروت إنها فعلت نفس الشيء مع خادمة أخرى وهي طفلة فقال لها أبوها: هل لأن الله حكمك عليها تتصرفين بهذه الطريقة؟! ولو كنت أنت في مكانها هل ترضين بهذه المعاملة؟ ويحكي لي زوجي أن أباه كان يأخذه معه إلى مطعم الأمريكين وصالة «جروبي» ويقول لي: إنه لم يذق حتى الآن أحلى مما كان يأكله في هذين المكانين أيام الطفولة. وكيف كان يجلسه مع كبار الشعراء والأدباء، وكيف كان يطلب منه الجلوس مع كبار زواره من الوزراء حتى ينزل هو من الدور العلوي ويستقبلهم، أظن أن كل هذا كون شخصية الابن، وكون اتجاهاته في الحياة وكون حتى طريقة كتاباته بعد ذلك، وكانت مزيجا من الأدب والسياسة.
وأما بالنسبة لوالدته فكان الأثير عندها؛ لأنه جاء بعد ثلاث سنوات من الانتظار والقلق، وأضفت عليه من حنوها وحبها ما يجعله يملك الدنيا وما فيها. شكا لها يوما من ضائقة مالية ألمت به؛ فلم تتردد عن أن تقول له: «أنا وما أملك فداء لك.»
وما من مرة ألمت به ضائقة مالية إلا وفتحت له أبواب السماء تحيطه برحمة الله وستره. وللأسف ليس من حقي أن أسترسل في التفاصيل.
وكانت فخورة به إلى أبعد الحدود، ولا يفوتها عمل من أعماله الإذاعية أو التليفزيونية. ولما اختارها الله إلى جواره كان ثروت في الثالثة والأربعين من عمره، وبدا متماسكا أول الأمر، وفي يوم استيقظ في الصباح وأخذ يجهش بالبكاء من أعماق قلبه، فأخذت أهدئ من روعه ولكني قلت له: للأسف لا أستطيع ان أعوضك عنها؛ فالأم لا تعوض. ولكن يعلم الله أنني حاولت.
ترعرع «ثروت» و«شامل» في بيت كله محافظة على القيم والشرف والنزاهة، فشربا من هذا النبع الصافي، وكانا في شبابهما من شباب الأحرار الدستوريين ثم جاءت الثورة وحلت الأحزاب إلى أن حكم أنور السادات فأعاد الحياة السياسية، واختار «شامل» حزب الوفد واختلفت آراؤهما السياسية في الشئون الداخلية والخارجية ف «ثروت» من المؤيدين و«شامل» من المعارضين، وكانت تقوم بينهما مناقشات حادة إلى أن قال «شامل» لا داعي للمناقشات في السياسة؛ فكل منا له رأيه الذي لن يحيد عنه؛ وتجنبا المناقشة في السياسة بقدر الإمكان.
و«شامل» دخل مجلس الشعب سنة 1976م، وبقي فيه حتى سنة 1979م، وكان من المعترضين على «معاهدة كامب ديفيد»، ثم عمل رئيسا لمجلس إدارة شركة المساهمة للأقطان وبقي بها إلى سنة 1990م، وكون علاقات مع العملاء اليابانيين والسويسريين، وأصبح مرجعا للعاملين في قطاع القطن على مستوى مصر كلها.
و«صفية النقراشي» هي زوجة «شامل» التي تساعده دائما وتقف إلى جانبه، وأصبحت أباظية بالأقدمية وبحبها لأهل زوجها، وهي كريمة «محمود فهمي النقراشي» باشا رئيس الوزراء ما قبل الثورة، والذي قال للإنجليز في أوج مجدهم: «اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة!» وهي ذات خلق رفيع وثقافة متشعبة.
وأنجبا «هدى» و«إبراهيم» أما هدى فهي على خلق عظيم، حصلت على الدكتوراه في الأدب الفرنسي وأصبحت أستاذة في كلية الآداب جامعة عين شمس.
وأما إبراهيم فهو الطيبة بعينها، ويتمثل بالقيم والأخلاق القويمة، يعمل الآن في «تورنتو بكندا» ولا أستطيع أن أذكر أولاد الدسوقي باشا دون أن أذكر أخاهم الخامس «سامح أباظة» فهو ابن بنت شقيقة الدسوقي باشا، توفيت والدته بعد ولادته بقليل؛ فضمه دسوقي باشا إلى أولاده فصاروا جميعا إخوة، ولا أقول كالإخوة، بل إخوة فعلا، لم يفرق الوالدان بينهم في المعاملة ولا في الحب، وسمعت من «زينات» و«كوثر» شقيقتي ثروت عندما تتكلمان عن طفولتهما تقولان «نحن الخمسة ...» وكان سامح من شباب الأحرار الدستوريين، وشرب السياسة من منبعها، وله ذاكرة قوية، يعرف تواريخ تأليف الوزارات وأسماء الوزارات، ونعتبره الآن مرجعا في تاريخ مصر.
أما شقيقتاه فهما عنده المثل الذي يجب أن تكون عليه المرأة الفاضلة وهما «زينات» و«كوثر» وقد تحلتا بالقيم والأخلاق، وترعرعتا في بيت كله ود وإخلاص؛ فاكتسبتا طهارة النفس والعلو عن الصغائر، والتزمتا بما تعلمتاه من طيبة الأم وترفعها، ومن جلال الأب وتمسكه بكل ما هو سام ونبيل. وتزوجت زينات من طوسون أباظة، ووقفت إلى جانبه وشرفت أهلها بكل معنى هذه الكلمة، وقادت سفينتها بعقل وحكمة، وأنجبت «أبا بكر» و«دلبار» وهو اسم تركي على اسم والدة شوقي باشا، ونشأتهما على الصراحة والصدق.
وأما «كوثر» فقد تزوجت من «الدكتور أحمد عبد العزيز» ابن الطبيب الذائع الصيت في النصف الأول من القرن الماضي «الدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل» وسافرت معه إلى أمريكا في أول حياته العملية. وعلى رغم أنها كانت صغيرة السن إلا أنها عرفت بفضل نشأتها كيف تكون مشرفة وكيف تكون أما حازمة وحانية في نفس الوقت، وكانت نتيجة هذا الحزم وهذا الحنو فتاتين هما مثال للأخلاق وحسن الطباع وغزارة العلم، وهما الدكتورة «سناء إسماعيل» و«وفاء إسماعيل» وعجبنا جميعا كيف تستطيع كوثر التي تزوجت في السابعة عشرة من عمرها أن تربي أبناءها هذه التربية المثالية! وأما ابنها «عبد العزيز إسماعيل» فهو من ألمع أبناء جيله، عمل في البنوك وفي الأعمال الحرة، وبرز فيها جميعا.
والذي يسترعي النظر في أولاد دسوقي باشا أن حبهم الشديد وإعجابهم به يكاد يصل إلى التقديس، ترى كيف استطاع دسوقي باشا أن يترك كل هذا التأثير في نفوس أولاده؟! ترى ما الذي خصه به الله ولم يخص به باقي الآباء؟ تمنيت دائما أن أجد جوابا لهذا السؤال.
وأما حب الناس له فهو ما زال موجودا إلى الآن تتوارثه الأبناء عن الآباء والأجداد، حتى إنه عندما دخل «شامل» الانتخابات عام 1975م، نجح نجاحا ساحقا، وقال له الناخبون نحن ننتخبك من أجلك ومن أجل ذكرى والدك، وذلك بعد وفاة دسوقي باشا بعشرين عاما، وعلى رغم استعداء المسئولين في تلك الحقبة الفلاحين على أصحاب الأرض.
والترابط والحب يجمع بين أولاد دسوقي باشا، فإنني أذكر أن قلت لزوجي يوما: «أنا أحب أختيك.» فأجابني بتحد وحماس على الفور: «طبعا فهما محترمتان ومهذبتان ...» وهنا قاطعته: «خلاص بطلت أحبهم!» وأشهد لأختيه وأضم لهما صفية زوجة شامل وأقول: إنني شعرت منهن بعد رحيل زوجي باهتمام زائد ورعاية وحب أكثر بكثير مما كنت أتوقع.
وصلته ب «ماهر أباظة» هي صلة قرابة وصداقة وحب نما منذ الطفولة الأولى، وصداقة الطفولة لها مكانة خاصة في قلوب الناس ولا تنتهي ولا تنسى، وعلى رغم فارق السن البسيط بينهما إلا أن «ماهرا» كان يعامله باحترام، وهذا هو أدب زمان. وعندما وصلا إلى شهادة البكالوريا (الثانوية العامة الآن) نزلا من الإسكندرية إلى القاهرة ليتقدما إلى الجامعة، وأقاما في منزل دسوقي باشا، ولم يكن به أحد لأن أهل البيت جميعا كانوا في المصيف، فبقيا ثلاثة أيام لا يأكلون إلا العنب. وقبل ماهر في كلية الهندسة، وثروت في كلية الحقوق، ومشى بهما الزمن إلى أن تزوج مني. وكان ماهر - وهو عمي - لا يزال في كلية الهندسة لأن سنوات الدراسة تزيد فيها سنة عن كلية الحقوق، وكان ماهر وأخي محمد - وكان في كلية التجارة - يلازماننا عندما نذهب إلى السينما، وكنا أحيانا نتناقش أنا وزوجي في السيارة ، فلا ينطق الضيفان؛ خوفا من أن تسوء الفسحة، وفي الأغلب كانا يتحيزان لزوجي لأنه هو الذي يدفع، وكانا يدخران مصروفهما لسهرات أهم من السينما. ويحضرني قصة طريفة حدثت لهما وماهر في سن السادسة عشرة وأخي في الرابعة عشرة؛ فقد كنا في الصيف في الإسكندرية وأخذهما عمي «عثمان» إلى قهوة التريانو في محطة الرمل ثم أعطاهما جنيها ليحجزا به «لوجا» في السينما للعائلة، وذهبا وأمام شباك التذاكر طلبوا منهما جنيها وقرشا.
ولم يكن معهما هذا القرش فعادا إلى عمي «عثمان» ووقفا أمامه صامتين فقال لهما: «ما لكما؟» فأجاباه بأنه لم يكن معهما قرش ليكملا به ثمن «اللوج»، فاندهش وقال لهما كيف لا يكون مع شابين مثلكما قرش؟ وأعطاهما القرش وحجزا التذاكر ولكنهما عادا من محطة الرمل إلى الشاطبي سيرا على الأقدام.
ونعود إلى صداقة ثروت بماهر، فأذكر أنه في اليوم الذي أنعم فيه الرئيس حسني مبارك على ماهر بوشاح النيل دخل علينا الغرفة وكان ثروت على فراش المرض، فأشار إليه بكلتا يديه أن يقترب منه، ثم قبله قبلة كلها حب وسعادة.
وحدث أن فقدت هدى أباظة زوجة الدكتور عثمان خليل عثمان ابنا شابا في مقتبل العمر وفي كامل صحته وفي ثوان، ومن هول ما أصابها رفضت أن ترى أو تستقبل أحدا، وأغلقت حجرتها عليها وانفردت بآلامها، وقالت: «لو جاء أحد يعزيني لتركت المنزل.» وأخبرت زوجي بحالتها فانزعج وأعطاها كل العذر فيما تفعل، وبعد دقائق أمسكت سماعة التليفون وطلبت ابنة عم أبي «هيام» وهي في سني، وأخذت أتفق معها على أن نذهب سويا للعزاء؛ فإذا بثروت يصرخ قائلا: أنتما تعلمان أنها لا تستطيع أن ترى أحدا ومع ذلك تصممان على زيارتها! - هي وقفت إلى جانبي ومن واجبي أن أقف إلى جانبها. - أنتما تذكرانني بال... وقال كلمة لم أفهمها ولم أسمعها قبل ذلك ولكن معناها أننا نفعل مثل الذين يذهبون إلى المآتم ليأكلوا فيها. - هي قضت معي أنا وإخوتي شهرا في الربعماية وقت رحيل أمي، وكنا أطفالا حينذاك وكان كل همها أن تواسينا وتخفف عنا، فكيف أتركها الآن؟
فصرخ مرة أخرى وأقسم قسما غليظا. - كيف تقسم كل هذا القسم على أداء واجب؟ فأعاد جملته بنفس الحدة.
فأسقط في يدي، إذ إنه من المضحك أن يكون واجب عزاء سببا في نقاش بهذه الحدة بعد زواج دام خمسين عاما، ولم أقف إلى جانبها في الكارثة التي حلت بها ولكن على الرغم مني، ولما فكرت وجدت أن معه كل الحق، فقد فكرت أنا في نفسي وفي الدين الذي في عنقي، أما هو فقد فكر في الأم الثكلى وفي مأساتها المروعة، وأشفق عليها أن تتحمل ما لا تطيق.
وكلما عدت من واجب عزاء كنت أطلب من زوجي بل وأرجوه ألا يفتح بيتنا لعزاء السيدات حينما ينتهي عمري؛ فانا أدرى الناس بما يحدث في هذه الاجتماعات.
فالحديث عن «الموضة» والأزياء، وعن طلاق فلانة، وخيانة فلانة، والظاهرة الغريبة أنهن يتعمدن أن يتجملن ويتأنقن خصيصا لهذه المناسبات، وقد سمعت بأذني كلمة «فرصة سعيدة.» تقولها سيدة لأخرى لم تقابلها من زمن بعيد! وقلت لزوجي قد تحاول إحداهن أن تتقرب إليك بحجة مواساتك وتخطط لتأمين حياتها إذا كانت بلا زوج؛ فيضحك ويقول لي: «أتلاحقينني حتى بعد عمر طويل؟» ثم يصمت قليلا ويقول لي: «إنني أدعو الله أن يكون يومي قبل يومك.»
وقد علمتنا الحياة أن حزن الرجال يشتعل كالنار المضرمة، وسرعان ما يصبح رمادا ثم يخمد، فسيجد في البحث عن زوجة أخرى، فإن كان شابا فالحجة احتياجه لمن تربي أطفاله، وإن كان شيخا فالحجة احتياجه للرعاية والمؤانسة، وعلى كل حال فهو يبحث عن زوجة. أما النساء فحزنهن أطول وأعمق، يتمزق قلبهن ولا يلتئم، وأغلب السيدات يعشن على ذكرى أزواجهن، ويكرسن حياتهن لتربية الأطفال، وبعض منهم تتشح بالسواد مدى الحياة، حتى يلحقن بأزواجهن في دار البقاء. وعندما أواجه زوجي بهذه الأفكار يقول لي: «لا ارتداء السواد ولا استمرار الترمل يرجع الزوج، وكل هذه عادات ليست من الإسلام.» وطبعا لا أوافقه.
وعندما أكتب عن وفاء الزوجات للأزواج بعد رحيلهم أضع أمام عيني عمتي؛ فقد ظلت تتشح بالسواد منذ توفي زوجها سنة 1934م حتى توفيت هي سنة 1973م. وعلى رغم أنني أعرف أن ارتداء السواد لا يعني شيئا ولا يدل على الوفاء؛ فالزوجة المخلصة ترتدي السواد والزوجة الخائنة كذلك وربما يطول حدادها بسبب تأنيب الضمير، وعلى رغم أنني أعرف أن ارتداء السواد لا يعيد الراحلين؛ إلا أنني في قرارة نفسي كنت أعجب بوفاء عمتي.
أصدقاؤه
وكانت علاقته بأم كلثوم علاقة عائلية منذ طفولته الأولى؛ كانت صديقة والديه، وكانت تقضي شهور الصيف في رأس البر في عشة ملاصقة لعشة دسوقي باشا والد ثروت، ورأته طفلا شابا إلى أن ذاعت شهرته وكبر اسمه. ويحكي لي ثروت أن والدته دعت أم كلثوم على الغداء، وقالت لها: أنا عاملة لك مفاجأة على المائدة، رأت أم كلثوم طبقا مغطى فكشفته، ولما عرفت محتواه صرخت وقالت: «حميض! أهلا يا حميض، والله زمان يا حميض!» واستمرت في دعاباتها إلى آخر اليوم. والحميض هو نبات ينبت في الريف لا يعرفه أهل المدينة، ولكنها هي تربت عليه، فهو نبات شيطاني يصنع كما تصنع السبانخ، ولكنه أكل الفقراء في الريف، وعندما أتت إلى القاهرة منعت دخول الحميض إلى بيتها نهائيا. وتذكرني هذه القصة بما قاله الدكتور طه حسين لثروت إنه كان لا يأكل إلا العسل الأسود أثناء دراسته بالأزهر؛ لرخص ثمنه، لكنه عندما استقرت حالته المالية منع دخول العسل الأسود إلى بيته على الإطلاق. وحكى لي ثروت أن أم كلثوم ذهبت مع أسرته إلى قريته غزالة لتقضي أياما معهم هناك وكانوا يسهرون حتى الصباح، وفي يوم وعند طلوع الفجر وقفت أم كلثوم في الشرفة وأذنت أذان الفجر؛ فتوافد أهل القرية إلى منزل دسوقي باشا، ووقفوا مذهولين يستمعون إلى صوت أم كلثوم وهو يعلو في أجواء غزالة.
وكان «عبد الله بك فكري أباظة» شقيق «دسوقي» باشا يدعو يوم شم النسيم من كل سنة أم كلثوم وأولاد إخوتها وأولاد إخوة زوجته وعائلة دسوقي باشا إلى قضاء يوم كامل على مركب في النيل، وكانت الرحلة تبدأ وقت طلوع الفجر وحتى غروب الشمس، وكانت أم كلثوم تضفي على الرحلة البهجة والمرح ثم تغني أجمل الألحان، وتسعد الحاضرين وتشجيهم طربا، فمن منا لا يتمنى أن يكون من الحاضرين؟!
وحدث لثروت حادث سيارة بسيط من سنوات بعيدة، وجاءت أم كلثوم وأمضت معه صباح يوم بأكمله، وكانا يتكلمان في الأدب والشعر والفن.
وعرف طه حسين، وبدأت هذه المعرفة الشخصية بأن جاءه صديقه «أمين يوسف غراب» بعد ظهور روايته «هارب من الأيام» وقال له تعال انزل معي لنزور الدكتور «طه حسين» فهو بعد أن قرأ روايتك وأعجب بها يريد أن يراك، فأسرع ثروت والسعادة تملأ كيانه وذهب مع صديقه إلى بيت عميد الأدب العربي، ومن هنا بدأت بينهما علاقة جميلة؛ فقد رعى عميد الأدب العربي «ثروت» وكتب عن رواياته «شيء من الخوف» و«هارب من الأيام» و«قصر على النيل» و«ثم تشرق الشمس» و«لقاء هناك» وقال بإخلاص: «إن ثروت أباظة أحسن من صور الريف المصري.» واستمر في قراءة جميع رواياته بل ويعيد قراءتها من وقت لآخر، وأحبه حبا أبويا، وأعجب بأدبه وفنه وعظيم خلقه، وظلت هذه العلاقة إلى آخر يوم في حياة طه حسين، وكان عندما يتأخر ثروت عن زيارته يقابله بهذين البيتين:
إن كنت أزمعت على هجرنا
من غير ما ذنب فصبر جميل
وإن كنت تبدلت بنا غيرنا
فحسبنا الله ونعم الوكيل
وبعد رحيل الدكتور طه حسين أسرع ثروت إلى «راماتان» وقابلته زوجته وقالت بالفرنسية (مسيو أباظة، لقد كان يحبك كثيرا). وأما الأستاذ الكبير والأديب العالمي نجيب محفوظ فمنذ زواجي وأنا أرى زوجي يرفع سماعة التليفون الساعة الرابعة من كل يوم ليتكلم معه، وظلت هذه المكالمة تحدث على مدى سنوات طويلة إلى أن تعذر على الأستاذ نجيب محفوظ استعمال الهاتف. وكان ثروت يعتبر «نجيب محفوظ» من أستاذته والرائد في فن الرواية، ولم يترك حرفا خطه قلم نجيب محفوظ إلا وقرأه بإعجاب. وكان ثروت يذهب كل يوم خميس إلى منزل نجيب محفوظ ثم يتوجهان معا إلى قهوة في العباسية، وكانت السهرة حينذاك في منزل الفنان الكبير الأستاذ «أحمد مظهر» وكانت تدور بينهم أحاديث شيقة ومتنوعة، أعتقد أن كل محبي الأدب يتمنون أن يستمعوا إليها.
وقد قال له الأديب العالمي مرة: «لو أن عشرة قراء يقرءون لي مثلك بكل هذا الوعي وبكل هذا التعمق لاكتفيت بهم.»
وفي سهرة من هذه السهرات قال زوجي لأستاذه: ألم يكتب أحد عن الشرعية في مصر فأجابه فعلا لم يكتب أحد. - إذا فسأكتب أنا عنها.
وقرأ كتب الأئمة الأربعة باحثا عن بطلان زواج البكر إذا تم بغير رضاها؛ وكانت رواية «شيء من الخوف».
وحينما تعرض نجيب بك لحادث الاغتيال أسرع ثروت إلى المستشفى ولم يتمالك نفسه من البكاء فقال الأديب العالمي: «هل أنت الذي أصبت أم أنا؟»
وكان حب ثروت لنجيب بك حبا نابعا من أعماق قلبه وكان إعجابه به إعجابا ليس له نظير وابتدأ هذا الإعجاب منذ ظهور رواية «القاهرة الجديدة» سنة 1944م.
ولما حصل نجيب محفوظ على جائزة «نوبل» اهتزت مصر كلها فخرا وفرحا، وكرمه الرئيس حسني مبارك في حفل كبير، تكلم فيه ثروت بدافع من حبه وعميق تقديره.
ولا يسعني إلا أن أقول: إن العلاقة بينهما كانت مبنية على الحب والتقدير المتبادل على مدى خمسين عاما.
وأما علاقته مع الكاتب العظيم توفيق الحكيم فقد بدأت منذ طفولته عندما كان يقرأ كل الكتب التي تصدر في تلك الآونة من تأليف «عبد القادر المازني» و«طه حسين» و«توفيق الحكيم» وكان هذا الأخير له مكان معروف في شارع قصر النيل يجلس فيه في الصباح، وكان «ثروت» يمر به ويكتفي بالنظر إليه من بعيد، إلى أن جاء يوم وكان توفيق الحكيم خارجا من مبنى الإذاعة فتعارفا، وكان مما قاله توفيق الحكيم لزوجي: «إنني أستمع إلى تمثيلياتك عن أقاصيص العرب، ولا أخرج إذا عرفت أنها ستذاع.» ولم يصدق «ثروت» كما كان يقول لي.
وكانت هذه هي بداية الكاتب «ثروت أباظة»، وبعد ذلك بسنوات اتصل الود بينهما وأصبح توفيق الحكيم يعتبر «ثروت» ابنا له يأتمنه على أسراره المالية ويكل إليه رعاية صحته أيضا، حتى إنه عندما كان يمرض كانت السيدة التي ترعاه وتقيم في المنزل تتصل بثروت في الهاتف حتى يسرع إلى نجدتها ويأتي بالطبيب، ورشح له الدكتور «أحمد عبد العزيز إسماعيل» الطبيب المشهور وأصبح المعالج له على مدى سنوات طويلة.
وجاء الصيف وتوفيق بك يحب أن يذهب إلى الإسكندرية، ولكن الأحوال المالية لم تكن على ما يرام؛ فعليه التزامات كثيرة جدا لا يعرفها إلا المقربون إليه، وتصادف أن طلبت ممثلة معروفة من «ثروت» أن تشتري منه رواية لتمثلها في السينما وكانت تتصل به تليفونيا، وكنت أتلقى أحيانا المكالمة ولكن لم ترحني طريقتها، فقلت لزوجي: «لا أريدك أن تتعامل معها.» وهذا بدافع إحساس داخلي لا أكثر ولا أقل، ولما ضيقت عليه الخناق رضخ لإرادتي وزارته هذه الممثلة في اليوم التالي في جريدة الأهرام وكررت الطلب فقال لها: «إن عند توفيق الحكيم بك رواية يريد أن يبيعها؛ فتعالي معي نذهب إلى مكتبه فهو مجاور لمكتبي.» فقالت له: «أنا لا أستطيع أن أدفع له ما سيطلبه مني.» فقال لها: «ضعي ما معك على مكتبه وسنرى ما يقول.» وعندما دخلا طلبت منه الرواية ووضعت نقودها أمامه؛ فتردد قليلا ثم تمت الصفقة. وهكذا ارتاح توفيق بك وارتحت أنا.
وفي الإسكندرية كان ثروت يخصص لتوفيق بك يومين في الأسبوع من الصباح وحتى المساء، يتناولان طعام الغداء في مطعم في وسط البلد، ثم يذهبان إلى السينما من 3 إلى 6، ثم يكملان السهرة في نادى السيارات. وحدث أن كان لي طلب سريع لا يحتمل التأجيل ولكنه على الرغم من ذلك طلب مني تأجيله على رغم أهميته؛ لأن هذا اليوم هو يوم توفيق بك. ولا أخفي أنني ثرت وغضبت وأعلنت غيرتي من توفيق الحكيم. رن جرس الباب عندنا فردت أمينة، وسمعت خادمة توفيق الحكيم تبكي وتطلب أن ينجدها «ثروت» بطبيب، وكان في جلسة بمجلس الشورى بعيدا عن أي تليفون؛ فأسرعت أمينة إلى سيارتها وقررت أن تذهب إلى أبيها، ولكنها لم تكن تعرف الطريق، ولأن في داخلها إصرارا فقد انطلقت وسألت المارة وعساكر المرور حتى وصلت في النهاية، وما إن رآها أبوها حتى تملكه القلق وسألها في لهفة عن سبب مجيئها فقالت: «إن توفيق بك مريض ويريد طبيبا.» فطلب فورا الدكتور «أحمد إسماعيل» وتقابلا بعد دقائق في منزل توفيق بك الحكيم، وظل يعوده يوميا إلى أن تماثل للشفاء.
وأما الأستاذ الكبير «عباس محمود العقاد» فقد كان صديقا لوالده «دسوقي باشا أباظة» وكان مثلا أعلى «لثروت» من حيث الجرأة والشجاعة والخصومة الشريفة، وكان يحضر ندواته مع الشاعر الأستاذ «العوضي الوكيل». وحدث يوما أنه حدد لناشر ميعادا في بيته، ولكن الناشر تأخر خمس دقائق، فما كان من العقاد إلا أن أمر خادمه بأن يصرفه ويقول له إنه تأخر عن الموعد خمس دقائق وكاد الناشر أن يعود أدراجه لولا أن الخادم أخبر العقاد أن «ثروت أباظة» مع الناشر؛ فعاد إلى حجرة الاستقبال وأمرهم بالدخول، وقال: «لولا أن «ثروت» معك ما قابلتك.» والمعروف عنه الصراحة والاعتزاز بالنفس المبالغ فيه. وله قصة طريفة ومشهورة جدا، وهي أنه عندما كان مقررا للجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب في الستينيات عرض عليه شعر حديث فنظر إلى الورقة وبسرعة قال: يحول إلى لجنة النثر.
وكان الصحفيان اللامعان «حسين وأحمد أبو الفتح» صديقين لأبي، واستمرت علاقتنا بهما حتى اضطرا إلى مغادرة مصر نهائيا بعد الثورة؛ لأن كتابات «أحمد أبو الفتح» كانت تحرج السلطة. فقد كان «أحمد أبو الفتح» يشارك الضباط الأحرار اجتماعاتهم وكان مثلهم ثائرا على حكم الملك فاروق ومتفقا مع مبادئهم تماما، ولكن بعد وصولهم للسلطة لم ينفذوا الديمقراطية التي كانوا ينادون بها؛ فبدأ «أحمد أبو الفتح» يكتب في جريدته المصري ويهاجم الدكتاتورية، وانتهى الأمر بمغادرته وطنه ليقيم هو وشقيقه حسين في جنيف لسنوات طويلة.
وكنا حينما نزور «جنيف» نتصل بهما ويدعواننا دائما إلى منزلهما ويكرماننا ما وسعهما ذلك، وكانا يحتفلان بنا ليلا ويتجنباننا نهارا ؛ خوفا علينا من غضب الضباط في مصر، وخصوصا أن سيدة من أصدقائهما اعتقلت في مطار القاهرة لأنها كانت في ضيافتهما في جنيف. ومنذ ذلك اليوم تجنبا المصريين حتى لا يسببا لهم إحراجا.
وكان لأحمد أبو الفتح آراؤه الخاصة؛ فهو معارض عنيد، وكان «ثروت» يدخل معه في مناقشات سياسية ملتهبة، وكان «أحمد أبو الفتح» يتمسك برأيه، ولكن يناقش بهدوء في حين يتحمس ثروت، ويعلو صوته مجلجلا، وأتوقع أنا أن تنتهي هذه الصداقة التي أعتز بها وخصوصا أن زوجة «أحمد أبو الفتح» «ثريا عكاشة» شقيقة العظيمين «ثروت عكاشة» و«أحمد عكاشة» صديقة قريبة إلى قلبي، وكنت أخشى على هذه الصداقة أن تدمر من حدة المناقشات، ولكن في اليوم التالي تعود المكالمات التليفونية كما كانت وكأن شيئا لم يكن، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
وكان له صلة قوية جدا بأستاذه الدكتور «عثمان خليل عثمان» وكان الدكتور عثمان يدرس له القانون الدستوري في كلية الحقوق، وكان يستضيفه في بيته ويشرح له ما استعصى عليه فهمه، وكان يتناول عنده كل ليلة طعام العشاء؛ فزوجة أستاذه «هدى أباظة» كريمة «عبد العظيم بك أباظة». ويستمر الحال على هذا المنوال إلى أن تقترب مواعيد امتحانات آخر العام، فيطلب الأستاذ من تلميذه أن ينقطع عن زيارته لأنه هو الذي سيضع الامتحانات، وقال له: «إذا أخفيت عنك أسئلة مما سيجيء في الامتحان أكون قد ظلمتك، وإن أطلعتك على هذه الأسئلة أكون قد خالفت ضميري.» وانقطع التلميذ عن زيارة أستاذه العظيم حتى انتهت الامتحانات.
وقد طلبت حكومة الكويت من الدكتور «عثمان خليل» أن يضع لهم دستورهم وسافر فعلا هو وعائلته وأتم عمله على أعلى مستوى، وبقي هناك أربعة عشر عاما، وكلما أراد العودة إلى مصر استبقته الحكومة بإصرار، وقد أحاطته بكل تقدير واحترام.
وأما رجل الأعمال «طارق حجي» فقد أحبه «ثروت» واعتبره ابنا له، وكان يستمتع بالحديث معه عبر التليفون الذي يدوم وقتا طويلا، ويتطرق الحديث إلى الأدب والشعر؛ فطارق حجي على رغم أنه اقتصادي معروف وكان أول رئيس مصري لمجلس إدارة شركة «شل» إلا أنه أديب وذواقة من الطبقة الأولى، وكنا إذا دعينا عند «طارق حجي» في بيته مع شخصيات أجنبية هامة كان يتركهم لفترة ويدخل مع ثروت في حوار عن المتنبي وابن الرومي والبحتري إلى أن يصلوا إلى أمير الشعراء أحمد شوقي، وكان هذا هو الحديث الممتع بالنسبة لهما، وكان طارق حجي يهدي «ثروت» كتبه عن الاقتصاد، وهي كتب قيمة جدا يعرض فيها المشاكل وهي كثيرة ومعها الحلول والعلاج، وقد قرأناها وأعجبنا بما تحويه هذه الكتب من كنوز. وأما زوجته فهي سيدة رقيقة وجميلة وعلى خلق وقفت إلى جانبه منذ بداية حياته العملية وحتى وصل إلى هذه المكانة.
وأما عن موسيقار الأجيال الأستاذ محمد عبد الوهاب فقد عرفه ثروت وهو ما يزال طالبا في كلية الحقوق، وكان قد دعاه الفنان الكبير إلى منزله في الهرم، وأسمعه مطلع قصيدة «مضناك جفاه مرقده» وكان لم ينته من تلحينها بعد، وكان «ثروت» يقول لي: «لقد غنى عبد الوهاب لي وحدي.» وبعد ذلك اتصلنا عائليا عندما تزوج من السيدة «نهلة القدسي» ودعانا كثيرا في بيته الأنيق في الزمالك، وكنا نقابل كثيرا من كبار الصحفيين، ويسعد زوجي بلقائهم، وكانت السيدة نهلة القدسي تشع على البيت أنسا ومرحا فهي مضيافة ممتازة تشعر كل مدعو بأهميته.
وعندما عين الموسيقار محمد عبد الوهاب عضوا في مجلس الشورى كان الاتصال بينهما بالتليفون مستمرا.
وعندما كان يعود من باريس في نهاية الصيف كان يبعث له بأجمل الهدايا، وإذا مرض «ثروت» سأل عنه الموسيقار باهتمام وسأل عن أدق تفاصيل المرض، ودعوناه مرة على العشاء وكان اليوم قريبا من يوم ميلاده ففاجأناه «بتورته» مكتوب عليها تهنئة له وبها شمعة واحدة، وغنينا له «سنة حلوة يا جميل» وإذا به يشاركنا الغناء؛ فخفتت أصواتنا ولم يبق إلا صوته وكأنه آت من السماء، وكان معنا المطرب «محمد ثروت» الذي تبناه الموسيقار بعد وفاة المطرب «عبد الحليم حافظ» وكان يحتضن موهبته، وطلب منه في تلك الليلة أن يغني أغانيه القديمة مثل «مين عذبك» «لما أنت ناوي تغيب على طول» «امتى الزمان يسمح يا جميل» ويغني محمد ثروت ببساطة وتلقائية ولا يتعمد أن يرجوه المستمعون أن يغني، وكان عبد الوهاب عندما يتكلم فهو قيثارة شجية ينطق بالحديث المنمق الجميل الساحر.
وقد حضرنا معه مرة حفلة في مسرح الموسيقى العربية وتكلم الخطباء والمثقفون، وتكلم عبد الوهاب فكان أكثرهم وضوحا وأكثرهم تألقا.
ولا أستطيع أن أتكلم عن أصدقاء «ثروت» ولا أذكر ذلك الصديق الوسيم المبتسم دائما ذا الوجه الطفولي والقلب الصافي وهو الكاتب الكبير «يوسف السباعي»؛ فقد كان صديقا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، ووقف إلى جانب زوجي في الأوقات الحرجة، وقفات كلها حب ومساندة، وكانت تجمعهما كثير من الصفات المشتركة هي الطيبة وصفاء النفس ومساعدة العدو والحبيب.
وأذكر أن الكاتب العظيم الأستاذ «أنيس منصور» وكان رئيسا لتحرير مجلة آخر ساعة أرسل لي صحفيا لأكلمه عن كتابي «أبي عزيز أباظة» وسألني الصحفي لمن تقرئين من الكتاب؟ قلت أقرأ لنجيب محفوظ ثم لزوجي. وبعد شهور دعونا الكاتب الكبير «يوسف السباعي» وأسرته على الغداء، فما إن رآني حتى قال لي: «قرأت في آخر ساعة حديثا أجروه معك ولم أر اسمي بين الكتاب الذين تقرئين لهم.» فأسرتني هذه البساطة وهذه التلقائية؛ فهو لم يتردد في أن يعاتبني لأنه خال من أية عقد ويتكلم على سجيته. والحقيقة أنني لم أجد ردا، ولكن زاد إعجابي به وحبي له. وأذكر أنه كان في مستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية لمدة شهر وكان «ثروت» يزوره كل يوم إلى أن عوفي وخرج وهو في صحة جيدة، وكان أبنائي يحبونه - والصغار يشعرون بالصفاء والطيبة عند الكبار فينجذبون إليهم - ابنتي أمينة وهي في سن المراهقة لا تجد طريقة لتظهر بها حبها له إلا أن تهديه لوحا من «الشيكولاته» وكان يسعد جدا بهذه الهدية، وكان يفخر جدا أنها تحرم نفسها منها ليفرح هو بها، وكان يحكي لي ولزوجي أثر هذه الهدية البسيطة عنده.
كان لثروت صلة قوية بالكاتب الكبير «أنيس منصور» وفي فترة من الفترات كنا ندعى عنده على العشاء مرة أو مرتين في الشهر، وكان هو وزوجته الفاضلة - وهي صديقة عزيزة - يحتفيان بضيوفهما أيما احتفاء، وكنا نلتقي عندهما بالفنان العملاق صلاح طاهر وزوجته العظيمة رحمها الله، وكنا نسعد بأحاديث الوزير السابق «زكريا توفيق عبد الفتاح» وزوجته الصديقة العزيزة «فتنة كامل» وكنا نستمتع بغناء «فايزة أحمد» الأصيل على نغمات عود زوجها الموسيقار الكبير «محمد سلطان» وقضينا عندهما أجمل الأوقات. وزوجة الكاتب الكبير أنيس منصور سيدة عظيمة ومشرفة ذكية وعطاؤها بلا حدود، والغريب أنها تجمع بين صفتين قلما يخص بهما الله شخصا واحدا وهما الجمال الباهر وخفة الظل.
وكان زوجي شديد الإعجاب بكتابات كاتبنا الكبير وكان دائما يقول في أحاديثه الصحفية والإذاعية إن كتاب «صالون العقاد» من أعظم الكتب التي صدرت في هذه الحقبة.
ويقول أيضا إنه يعجب بغزارة قراءته وبتنوعها، وبغوصه في أعماق ما يقرأ، وبقدرته على الاحتفاظ بها في ذهنه ثم يبسطها ويسقيها لقراء عموده اليومي رشفة رشفة؛ حتى تسهل على غير المتخصصين، وأما كتبه فهي خلق وإبداع، وقد اصطلى الأستاذ «أنيس منصور» بنيران حكم الستينيات، وكان ثروت معه بقلبه وبعواطفه.
والسفير «بكر عبد الغفار» كان زميلا لزوجي في كلية الحقوق وصديقا من أعز أصدقائه، والغريب أنهما ولدا في يوم واحد من نفس السنة، 28 يونيو سنة 1927م، وحدث أن دعي ثروت إلى مؤتمر في إسبانيا، ودعي في نفس المؤتمر المهندس الفذ العبقري «حسن فتحي»، وكلم «ثروت» صديقه السفير «بكر عبد الغفار» وطلب منه أن يحجز لنا في فندق قريب من المؤتمر، فما كان من السفير إلا أن دعانا ومعنا أمينة للإقامة في منزله في مدريد، ولما وصلنا كان في انتظارنا في المطار السفير والسيدة الفاضلة حرمه وهي «رقية الباسل» حفيدة المناضل العظيم «محمد الباسل»، ومن أول لقاء لي معها قامت بيننا وحتى الآن صداقة أساسها التفاهم والتقارب والحب.
وأما الدكتور العالمي «أحمد عكاشة» فبدأت صداقة «ثروت» له بعد هزيمة 67، فقد أحس بانقباض مستمر، وعدم رغبة في النوم، وعدم رغبة في الطعام؛ فتوجه إلى الدكتور «أحمد عكاشة». وبعلاج طويل استطاع أن يشفيه من الاكتئاب الذي أصابه، واستمر على العلاج ثلاثين عاما خوفا من عودة الاكتئاب مرة أخرى. وكان يقول لي: «أي مرض أهون علي من الاكتئاب.» وبعد مدة طويلة اشتكى للدكتور «أحمد» من عارض ألم به فقال له سأغير العلاج، ولكن «ثروت» لم يستجب للأدوية الجديدة؛ مما جعله يذهب إلى طبيبه في بيته - وهذا ما لا يحدث مع الأطباء - ولكن للصداقة أحكام، واضطر الدكتور «أحمد» أن يعيده إلى دوائه القديم، واستمرت الصداقة واستمر الحب والإعجاب المتبادل، كل هذا ولم تتدخل المادة في هذا العلاج الطويل الذي دام سنوات.
كانت صلته بالأستاذ المرحوم «عبد الفتاح الشناوي» صلة كلها عواطف جميلة، وكان مديرا لمكتب أبيه عندما كان وزيرا للأوقاف، كانا يعودان إلى الماضي أثناء مكالمات تليفونية طويلة ويومية ويتذكران معا شعر الشعراء الذين كانوا يتوافدون على منزل دسوقي باشا في العباسية، وصلة أخرى تربط بالماضي وهي صلته بالأستاذ «السيد هاشم» وهو من ذوي قرباه نسبا ومن أسرة دينية في الشرقية. وكان عندما ينتهي اليوم الدراسي يتجولان معا في أجواء الشعر عامة وأجواء شعر شوقي خاصة، وكانا في فترات الإجازة الصيفية يتولاهما ناظر مدرسة غزالة الإلزامية الأستاذ «أحمد الفراعيش» رحمه الله ويعلمهما ويقوم لسانهما للنطق العربي الفصيح الصحيح، وأما في القاهرة فكانا يحضران المحافل الأدبية والندوات الشعرية، وأشرفا معا على تلقين ممثلي الفرقة القومية نطق الشعر وحفظه على الوجه الأكمل عندما كانت الفرقة تمثل مسرحية «الناصر» الشعرية، تأليف أبي الشاعر «عزيز أباظة»، وظل الاثنان قرابة الشهر متفرغين لهذه المهمة حتى ضج مرتادو منزل «دسوقي باشا» من غياب زوجي عن البيت طيلة هذه المدة، وكتب له الأستاذ الشاعر «العوضي الوكيل»:
قد جئت أهفو للقاء فقيل عند زكي طليما
شهرا هنالك ما سئمت ولا تركت هناك يوما
يا بن الكرام، لكم نلوم وما نراك سمعت لوما
لكنه دأب الشباب يعوم في الشبهات عوما
وكتب له أحد الشعراء عندما حصل على شهادة التوجيهية وهي تعادل الثانوية العامة الآن من باب المزاح:
نجحت في التوجيهي
ونلت ما تبتغيه
وصرت في العلم تحكي
علي بن نبيه
وكان أحد الشعراء يمتدحه بما صاغه الشاعر العربي القديم في أحد الولاة:
بلغت لعشر مضت من سنيك
ما يبلغ السيد الأشيب
فحظك فيها جسام الأمور
وحظ لداتك أن يلعبوا
وكان «علي بك خليل» شيخ الإذاعيين عفيف اللسان رقيق المشاعر من أشد المعجبين «بثروت» كإنسان وككاتب، وفي كل يوم اثنين من كل أسبوع - وهو اليوم الذي تظهر فيه مقالة «ثروت» في الأهرام - يكلمه في التليفون مكالمة كلها حماس وإعجاب وحب، ويدعو له أن يظل يكتب بهذه الجرأة في السياسة، وبهذا الخشوع في الدين، وهو صادق وعادل في الحالتين، وبطبيعة الحال كان الإعجاب من الطرفين ف «علي بك خليل» من رواد الإعلاميين في مصر ومن أعظم الشخصيات التي عرفناها.
وأما عن مجلس الشورى فقد عمل فيه ثروت ثمانية عشر عاما وكيلا له، وكان الدكتور «مصطفى كمال حلمي» رئيس المجلس بشخصيته المتواضعة وأدبه الجم وقلبه الكبير المليء بالحب والصفاء؛ من أقرب الناس إلى قلب ثروت، وكان يكن له بدوره احتراما وحبا وإعجابا لا مثيل له، وظلت هذه الأخوة وهذا التفاهم طوال هذه السنوات، ولا يمكنني إلا أن أذكر ما فعله الدكتور «مصطفى حلمي» في جنازة «ثروت» فقد سافر إلى «غزالة» ومشى من المنزل وحتى المقابر في طريق طويل جدا غير ممهد، ولكنه أصر على السير حتى ودعه الوداع الأخير، ولن ننسى ذلك الموقف للدكتور الإنسان.
وقد قامت صداقة وطيدة بينه وبين «فرج بك الدري» الأمين العام لمجلس الشورى، وكان أساس هذه الصداقة هو الإعجاب المتبادل، والحب المتبادل، وكان الاتصال التليفوني بينهما يوميا على مدى السنوات الطويلة التي قضاها ثروت في المجلس. وفي مرضه الأخير أحاطه المجلس ورئيسه والأمين العام بكل رعاية، وقدما له - وبطيب خاطر - كل ما احتاجه مرضه الطويل من تسهيلات، ومن تكاليف يعلم الله أنها باهظة، ولو لم يتحمل مجلس الشورى كل هذه الأعباء الرهيبة لما استطاع هو أن يتحملها ماديا، ولكن الله شاء أن يظل إلى آخر لحظة في حياته عزيزا مستورا.
وكان «ماجد بك عمارة» هو المشرف على مكتب وكيل مجلس الشورى، وهو في درجة وكيل أول وزارة، وكان يعتبر «ثروت» أخا كبيرا له ، وكان يسهل كل الأمور حتى إنني كنت أسميه بصانع المعجزات، وكان متدينا ومخلصا لعمله، وبعد وفاته حل محله «مصطفى بك عمر» وهو وكيل وزارة أيضا وقد تفانى في عمله، واعتبر «ثروت» والدا له وتعامل معه بضميره وقلبه وبكل إخلاص وحب، وكان «محمد بك عبد الحليم» وهو وكيل وزارة أيضا من أعضاء المكتب، وقد مد له «ثروت» مدة الخدمة بعد المعاش أكثر من مرة لأنه كفاءة وجدير بذلك. وأما الأستاذ «طارق حمودة» فقد كان سكرتيرا خاصا له، وثقته بطارق كانت بلا حدود واستشف فيه الذكاء وعامله كابن له أيضا.
أما السيدات فكن السيدة «زينب الجرف» وهي وكيلة وزارة أيضا، والسيدة «سهير مشهور» والسيدة «عزة محيي» والسيدة «نجلاء عبد الحميد» والآنسة «هايدي عوض» والسيدة «عزة أباظة» وكان مكتب ثروت تسوده روح العائلة ويملؤه التفاهم والوئام، وهكذا كان شأن ثروت؛ يشع الحب والأمان في كل مكان يحل فيه.
وإذا تكلمت عن صداقته بالدكتور العملاق «عبد العزيز الشريف» فهي صداقة بدأت من أواخر الستينيات وفي أول زيارة للعيادة بدأ الدكتور يتكلم في مواضيع بسيطة، محاولا أن يهدئ مريضه حتى يشعر بتحسن قبل أن يبدأ الكشف، وهذه ميزة ميزت الدكتور العظيم «عبد العزيز الشريف»، ثم يبدأ الكشف بكل دقة وأمانة، ثم يشخص المرض بالعلم والمنطق.
وكان من مميزاته أيضا أنه شديد الإيمان بالله ولا يبخل بوقته، ويشعر المريض أنه إنسان وليس «حالة» ويسأله عن تفاصيل التفاصيل حتى يلم بالحالة الصحية والحالة العامة، أما السيدة الفاضلة زوجته فهي ابنة خاله، وقفت معه وساندته حتى تخرج وسافر إلى لندن؛ ليحصل على الدكتوراه، وظلت إلى جانبه حتى أصبح أعظم طبيب في مصر.
وأما الدكتور «أحمد عبد العزيز إسماعيل» فهو زوج شقيقته الصغرى «كوثر» فكانت تربطه به صداقة من نوع خاص؛ فكان كل منهما يحب الآخر ويقدره ويعجب به، ولكنهما كانا دائمي النقاش، فالدكتور أحمد يكتب في الأهرام مقالات طبية عظيمة، يطرح المشاكل ويطرح في نفس الوقت الحلول، وكان «ثروت» يقول له مازحا: «مالك ومال الكتابة أنت طبيب عظيم ومشهور؛ فاترك لنا الكتابة.» ولكن الدكتور «أحمد» لا يقتنع ويستمر في كتاباته.
وكان بين زوجي وبين الكاتب الكبير «عبد الرحمن الشرقاوي» صداقة من نوع خاص، فهما مختلفان في الآراء السياسية بدرجة كبيرة، ولكن يجمعهما الأدب والشعر وتعمقهما في بحور اللغة العربية، وكان يدور بينهما دائما نقاش حاد تعلو فيه الأصوات، وتعلو حتى يصبح النقاش نارا حارقة، ولا يتنازل أحدهما عن رأيه، وبعد قليل تعود الصداقة كما كانت والنار تصبح بردا وسلاما.
وكان ل «أمين يوسف غراب» مكانة خاصة في قلب ثروت، وكان يزورنا كثيرا ويحضر معه دائما «شوكولاته» معينة لأولادي وكانوا يحبونها، وكانوا ينتظرون زيارته بفارغ الصبر، حتى إنه عندما زار أمينة في المستشفى وكان الجراح الشهير حينذاك الدكتور «مصطفى الشربيني» يستأصل لها الزائدة؛ حينما رأته - ولم تكن قد أفاقت من التخدير بعد - قالت له أين «الشوكولاته»؟ وعلى رغم نظرات أبيها لها فإنها قد أعادت السؤال مرات متكررة، وعلى رغم أن عمرها لم يكن يتجاوز السابعة إلا أننا آخذناها على إصرارها في طلب «الشوكولاته» من أمين غراب.
ودامت علاقتهما طويلا حتى وفاة «أمين غراب»، والواقع أن «أمين غراب» هو الذي عرف الدكتور طه حسين بثروت.
ومن معارفه المقربين أيضا الدكتور «إبراهيم ناجي» الطبيب الشاعر، وكان عضوا في جماعة أدباء العروبة التي كان يرعاها «دسوقي باشا أباظة»، وكان الدكتور ناجي يرى الطالع بالأرقام، ورآه لثروت وهو لا يزال طالبا في الجامعة وقال له: إن اسمك سيجوب الآفاق وليس آفاق مصر وحدها ولكن ستتعدى حدودها، وستكون شهرتك واسعة وأنت في سن الشباب.
وكان من أصدقائه أحمد بك الطاهري ومحمود محمد محمود بك رئيس جهاز المحاسبة ابن محمد باشا محمود الذي عرض الإنجليز على والده محمود باشا سليمان الملك ولكن أبى، وكان يحب أن يمزح معهما وهو بطبيعته حاضر النكتة سريع البديهة، ولكن «محمد محمود بك» كان لا يتجاوب معه وكان يقول له: «يا ثروت بك ولدت في بيت لا يعرف المزاح ولم نمزح في حياتنا قط.»
وكان أصدقاؤه جميعا أكبر منه سنا بكثير حتى إن صهره الدكتور أحمد عبد العزيز إسماعيل قال له ضاحكا: «أنت لن يكون لك أصدقاء بعد قليل من الزمن لأنهم سيتركونك ويذهبون عند ربهم واحدا تلو الآخر.»
ومن أصدقائه «أحمد باشا عبد الغفار» وهو صديق والده، وكان وزيرا في وزارات ما قبل الثورة حين كان ثروت أباظة في المدارس الثانوية، ولكن أحمد باشا عبد الغفار عندما كان يدخل نادي السيارات في الإسكندرية في أوائل الخمسينيات كان يسأل بصوته الجهوري عن «الشلة»، وكانت «الشلة» مكونة من محمد علي علوبة باشا، عبد المجيد إبراهيم باشا، جعفر بك النفراوي، برهان بك نور، والشاب ثروت أباظة الذي لم يكن قد بلغ الخامسة والعشرين.
وكان صديقا على رغم صغر سنه لشعراء جماعة أدباء العروبة التي كونها والده دسوقي باشا أباظة وكان رئيسا لها، ومن هؤلاء الشعراء العوضي الوكيل - محمود غنيم - مصطفى حمام - طاهر أبو فاشا - أحمد مخيمر - أحمد عبد المجيد الغزالي.
وأشهد أن الكاتبة الكبيرة «إحسان كمال» والفنان الكبير «أحمد خميس» كانا مثالا للوفاء والإخلاص وسمو الخلق والحب الصادق، كما لا يمر عيد أو مناسبة دينية أو مناسبة عائلية إلا وكانا أول المهنئين، حتى استطعت أن أميز صوتهما وأعرفه من قبل أن يذكرا اسمهما، وفي المرض كانا أول السائلين، ولم ينقطع سؤالهما عنه إلى آخر يوم في حياته.
وقد ساند «ثروت» شباب الأدباء في أوائل حياتهم الأدبية وخصوصا الدكتور عبد العزيز شرف، والكاتب الصحفي فتحي سلامة، والكاتب المعروف عبد العال الحمامصي، والكاتب الصحفي فخري فايد، وتتبع أعمالهم ورعاهم إلى أن أصبحوا من كبار الكتاب، أما الكاتب الصحفي محمود فوزي فقد اقترب منه عندما ألف كتاب «ثروت أباظة الفلاح الأرستقراطي» وتقابل معه عدة مرات وعرف منه الكثير عن حياته الأدبية والعائلية، وبقي نفس الود والحب معهم جميعا إلى آخر يوم في حياته، ولا يمكنني إلا أن أكتب عنهم؛ فهم قد تغلغلوا في حياته، وأصبحوا جزءا منها، وللأسف ليس عندي تفاصيل عن مشوارهم الطويل معه، وقد حاولت أن أعرف منهم أكثر ولكن لم أتمكن من ذلك.
وبالنسبة للكاتب الكبير الأستاذ «يوسف جوهر» فقد كان يحمل له كل احترام وكل تقدير، وكان الأستاذ «يوسف جوهر» أمين صندوق اتحاد الكتاب، وظلت صلتهما قوية وودية إلى آخر يوم في حياة «يوسف جوهر»، وكان يداوم على الاتصال به في الأعياد المسيحية، وعندما احتاج إلى عملية دقيقة في عينيه طلب من ثروت أن يكلم رئيس الوزراء ليسافر على نفقة الدولة؛ وسافر فعلا، وكان يكلمه من أمريكا ليشكره وعاد وقد نجحت العملية.
الأستاذ «صبري السيد» كان سكرتيرا للكاتب الكبير «يوسف السباعي» ويوم اغتياله في قبرص كان ثروت في مبنى الأهرام فصدم صدمة مزلزلة، وتوجه إلى حجرة مكتب الفقيد وربت كتف الأستاذ صبري والدموع تنهمر من عينيه ثم عاد إلى مكتبه.
وبعد أيام قال للأستاذ صبري «لا أحد يعرف صلتك القوية بالفقيد مثلي فتعال واعمل معي.» وقد كان، وعمل معه، وكان كله وفاء وإخلاص، وكان موضع ثقة؛ حتى إن ثروت كتب له توكيلا باستلام كل مستحقاته من الناشرين ومن الإذاعة والتليفزيون والسينما.
وظلا على هذه الحال من الحب المتبادل والثقة المتبادلة إلى أن ترك ثروت مكتبه في الأهرام وعين وكيلا لمجلس الشعب، وظل الود قائما.
وكان له صداقة مع الأستاذ «حمدي صالح» الذي عمل معه على مدى اثنين وعشرين عاما، منذ كان سكرتيرا عاما لاتحاد الكتاب، ثم نائبا للرئيس، ثم رئيسا له من 1984م إلى أن قدم استقالته سنة 1997م.
وكان الأستاذ «حمدي صالح» مديرا عاما للاتحاد؛ الأمر الذي أتاح له أن يشهد عن قرب الجهود المخلصة المضيئة التي بذلها ثروت، والتي أثمرت كثيرا من الإنجازات والخدمات الجليلة، التي كانت خير شاهد على حسن قيادته للاتحاد وأعضائه إلى بر الأمان بشجاعته في اتخاذ القرار وبوقوفه دائما إلى جانب الحق، والتصدي بشدة لمواجهة الباطل وقهر الظلم. ولا شك أن كل هذه الصفات التي اتسم بها يسرت السبل للارتقاء بالاتحاد، والنهوض برسالته التي أنشئ من أجلها.
وقد كتب لي الأستاذ حمدي صالح عن أهم ما تحقق من أعمال، فقد أنشا مسجدا في مدخل مقر اتحاد الكتاب ، وعندما تم تأسيس الاتحاد لم يكن هناك مقر له، وكان الجهاز الإداري يقوم بأعماله في مكتبه بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وفي مقر دار الأدباء أيضا، إلى أن استطاع «ثروت أباظة» باتصالاته الواسعة الحصول على شقة في شارع عبد الخالق ثروت، مارس الاتحاد أعماله وعقد اجتماعاته بها ثم استقر بنا المقام في المبنى الحالي بالزمالك منذ عام 1981م بموافقة من مجلس الشورى بوصفه المالك للعقار، وذلك بإيجار رمزي قيمته جنيه واحد سنويا استجابة لرغبة الأستاذ ثروت أباظة.
كان حجم المركز المالي للاتحاد هو مبلغ 2149 جنيها لا غير، وكان للجهود المكثفة التي قام بها ثروت أباظة وسعيه الدءوب دون غيره الفضل في إصدار القانون رقم 19 لسنة 1978م بتخصيص نسبة 2٪ لصندوق الاتحاد من المؤلفات والمصنفات الأدبية، وكذلك 5٪ من كتب التراث، بالإضافة إلى الدمغات التي فرضت لصالح الاتحاد بفئاتها المختلفة؛ مما أدى إلى دعم المركز المالي وزيادة موارده سنة بعد أخرى، إلى أن أصبح أكثر من المليون جنيه حين تركه ثروت أباظة سنة 1997م.
واستطاع أيضا الحصول على دعم من موازنة الدولة مقداره 250 ألف جنيه ليكون أساسا في صندوق للمعاشات والإعانات للأعضاء اعتبارا من أول يناير سنة 1995م، كما استطاع أن يحصل على إعفاء للكتاب والأدباء من ضريبة المهن غير التجارية، نتيجة للاتصالات التي أجراها كاتبنا الكبير بالسادة الوزراء المختصين، صدر القانون رقم 157 لسنة 1981م، بإعفاء الكتاب والأدباء من الضرائب عن التأليف والترجمة والمقالات والأحاديث الثقافية والإذاعية، ولا يزال هذا الإعفاء ناقدا حتى الآن يتمتع به كتاب مصر وأدباؤها، سواء كانوا من بين أعضاء اتحاد الكتاب أو من غيرهم.
علاج أعضاء الاتحاد على نفقة الدولة
لم يدخر الأستاذ ثروت أباظة وسعا في الحرص على استصدار القرارات الوزارية اللازمة لعلاج المرضى من الأدباء على نفقة الدولة، داخل مصر أو خارجها وفقا لظروف كل حالة، وقد استمر في حرصه على القيام بهذا العمل الإنساني النبيل، حتى بعد استقالته من رئاسة الاتحاد، لا بالنسبة لأعضاء اتحاد الكتاب فحسب ولكن لكل من يلجأ إليه من أدباء مصر وشعرائها.
إنشاء جمعية للإسكان التعاوني
قامت عدة مشروعات لخدمة الأعضاء وأسرهم من أهمها توزيع أراض بمدينة 6 أكتوبر بأسعار رمزية.
إنشاء مكتبات ببعض المحافظات
كما قام بتأسيس وتجهيز عشر مكتبات في بعض محافظات مصر كنواة لتحقيق هدف عام من أهم أهداف الاتحاد، وهو نشر الثقافة والتشجيع على القراءة والاطلاع.
الاتفاقيات والمعاهدات الثقافية
في هذا الصدد، وبمقتضى الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت بين اتحاد كتاب مصر وعدد من اتحادات الكتاب الأجنبية، تم تبادل الوفود الأدبية وتنظيم اللقاءات الفكرية والأدبية بين المصريين والأجانب؛ مما كان له أكبر الأثر في التعريف بأدباء مصر ومفكريها وشعرائها والتعرف على نظرائهم من الأجانب.
سجل الوصايا الأدبية للأعضاء
أنشأ ثروت أباظة سجل الوصايا الأدبية مستوفيا بكافة الجوانب القانونية وما يترتب عليها من حقوق مالية لأعضاء الاتحاد، وكان أول من تقدم بوصيته الأدبية في السجل الكاتب الكبير توفيق الحكيم، ثم تلاه الأديب العالمي نجيب محفوظ.
وبعد، فهذا قليل من كثير، وإذا كان اتحاد كتاب مصر لا يزال موجودا على الساحة يواصل رسالته بعد استقالة ثروت أباظة، فذلك مرجعه إلى الأساس المتين الذي وضعه من اليوم الأول الذي تولى فيه مهامه ومسئولياته، كما تشهد بذلك جميع السجلات والوثائق الموجودة لدى الاتحاد، والتي ستظل تتحدث عن بصمات صاحبها وأياديه البيضاء، والتي حاولت - كشاهد عيان - أن أذكر بعضا منها للحقيقة والتاريخ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
وفي آخر انتخابات له في اتحاد الكتاب نجح بإجماع الأصوات، ولكنه شعر بالغدر فقدم استقالته من الاتحاد؛ فإذا بخصومه الذين كانوا يعارضونه يندمون على أيام رئاسته ويتمنون لو تعود هذه الأيام التي كان فيها الاتحاد صلبا متماسكا.
رحم الله كاتبنا الكبير الغائب الحاضر المغفور له ثروت أباظة وأنزله منازل الصديقين والأبرار، إنه سميع مجيب. •••
بدأت علاقة المستشار «على كمونة» به وهو لا يزال في المدارس الثانوية في السادسة عشرة من عمره، وكان شديد الإعجاب بجميع أعماله من مقالات، وقصص قصيرة وروايات طويلة، ويحفظ أيضا تاريخ صدورها، وكان يزوره في مكتبه في الأهرام ويسعد بالحوار معه، ثم استمرت الزيارات حتى عين ثروت وكيلا لمجلس الشورى ، وفي يوم جرى الحديث عما حدث في روسيا مع سقوط الشيوعية فقال «علي كمونة»: أنت كتبت سنة 1970م مقالا تنبأت فيه بسقوط الاتحاد السوفيتي. فقال ثروت أنا لا أذكر هذا المقال، فجاء علي كمونة إلى مكتب ثروت في مجلس الشورى في اليوم التالي ومعه المقال فنشره ثروت في جريدة الأهرام وكتب في مقدمته هذا المقال كتبته سنة 1970م وأنشره بدون تعليق.
وحدث منذ ثلاث أو أربع سنوات أن طلبه في التليفون المستشار «علي كمونة» مساء وقال له «كل سنة وأنت طيب» فقال له: وما المناسبة؟ فأجابه عيد زواجك، فتضايق ثروت أننا نسينا هذه المناسبة وقال لي: اطلبي «تورتة» فورا ولنحتفل بهذا اليوم. ولام نفسه ولامني على هذا النسيان وكانت هذه هي السنة الوحيدة التي نسينا فيها تاريخ يوم زواجنا.
ويقول لي علي كمونة وهو رئيس نيابة النقض إنه عندما قرأ كلمات السيدة عائشة رضي الله عنها التي قالتها على قبر أبيها أول الخلفاء الراشدين أبي بكر الصديق: «لما عشت للدنيا مذلا بإعراضك عنها وللآخرة معزا بإقبالك عليها صغر في عينك ما كبر في أعين الآخرين.» عندما قرأ هذه الأوصاف رآها تتمثل تماما في أخلاق ثروت، وأنه يمكننا أن نقول فيه نفس هذه الكلمات. وقال لي أيضا إن زوجي قال له مرات متكررة إنه لو لم يتزوج مني لما تزوج أبدا، وقال لي أيضا: إن الأديب العالمي نجيب محفوظ عندما سمع بخبر الوفاة قال على الفور: أخلاقه ليس لها مثيل ولن تتكرر، وإن دوره في الرواية الطويلة يحتاج إلى بحث مطول بعيدا عن المذاهب السياسية.
وكان يقول لزوجي: إن أغلب الكتاب يبدءون فقراء ثم يصبحون أغنياء إلا أنت بدأت غنيا ثم انتهى بك الأمر إلى الفقر؛ وذلك لأنك بعت أرضك لتعيش، لأن قلمك كان حرا جريئا لم تنافق السلطة ، ولم تحن رأسك، ولم تتنازل عن رأيك ولم تكتب إلا ما يمليه عليك ضميرك.
وقال لي علي كمونة أيضا إنه سمع من ثروت أنه بعد صدور كتاب «ابن عمار» وهو أول كتاب له قابله النقاد بسكوت تام فقال لتوفيق بك الحكيم عما في قلبه من هذا السكوت، فأجابه الكاتب الكبير: لو كنت ذهبت إلى كازينو وتشاجرت هناك لكتبت عنك كل الصحف والمجلات، ولكن لم يمر وقت طويل حتى قررت وزارة التربية والتعليم كتاب «ابن عمار» على تلاميذ الشهادة الإعدادية في الستينيات؛ وكان تعليق توفيق بك «مبروك يا ثروت لكن كيف أخذوا كتابك ولم يأخذوا كتابا من عندي؟» وقال لي علي كمونة أيضا إنه زار يوما ثروت في مكتبه في مجلس الشورى ودخل عليهما المستشار «فرج الدري» أمين عام المجلس وقال ل «ثروت» لقد وصل المجلس سيارات جديدة ولك بطبيعة الحال واحدة منها فشكره ثروت وقال: «إن سيارتي ما زالت في حالة جيدة ولا داعي للسيارات الجديدة.» ولكن السائق استاء من هذا القرار لأن السائقين يفخرون بأنهم يقودون سيارة «آخر موديل».
وسمع علي كمونة من ثروت أن الأستاذ لويس عوض قال له مرة: أتعرف لماذا نحن لا نكتب عنك؟ طبعا أدرك ثروت أن (نحن) تعود إلى النقاد اليساريين وقال له: لا، لا أعرف. - لأن الدكتور طه حسين كتب عنك مقالات متعددة في بداية حياتك الأدبية فهل ولدت عملاقا كالتليفزيون؟
قد ساعدني الأستاذ «علي كمونة» في البحث عن مقالات أريدها بالذات، ولا أجد الشجاعة في البحث عنها في مجلدات أعمال ثروت الكاملة التي أصدرتها هيئة الكتاب، ولكنه أحضرها لي بعد بحث طويل ومجهود شاق.
وقد أمدني أيضا بمعلومات عن زوجي لم أكن أعرفها، ولكنه عرفها من زيارته له في مكتبه بجريدة الأهرام ثم في مكتبه في مجلس الشورى، وقد استعنت ببعض هذه المعلومات في سياق الحديث عن زوجي ف «لعلي كمونة» مني كل الشكر والعرفان.
وسأتوقف هنا ولا أتكلم عن العام الأخير الذي قضاه متنقلا بين البيت ومستشفى الصفا، وكانت تدهشني تلك النظرة الحادة التي تنبعث من عينه، وكانت قبل مرضه نظرات حانية بل مدللة «بكسر اللام الأولى» لن أتكلم عن تلك الأيام العصيبة، ولكن لا يفوتني أن أذكر العناية الفائقة التي وجدناها في المستشفى ومن مديرها الدكتور أشرف المليجي ومن هيئة تمريضها سواء كانت في غرفته أو في العناية المركزة، ومهما قلت فلن أعطي الأطباء الذين عالجوه حقهم من الشكر والعرفان فقد عالجوه بعلمهم وبقلبهم وعلى رأسهم الدكتور حمدي عبد العظيم والدكتور محمد مشالي والدكتور مازن نجا والدكتور شريف سمير وبمباشرة الدكتور العظيم محسن إبراهيم.
ولا أنسى لثروت مدى وعيه وإدراكه وبعد نظره بأن طلب أن يودع كل أعماله لدى دار المعارف لترعاها وتنشرها له، وكأنه كان يشعر باقتراب موعد الرحيل.
وكان في السنوات الأخيرة سريع التأثر لدجة البكاء، وهذه الحالة معروفة للأطباء، ولكن في شبابه لم يكن كذلك، وإنما رأيته يبكي أنا وأولاده في يوم هزيمة 5 يونيو، فاجأناه جالسا في الصالون ومعه الراديو يجهش بالبكاء بصوت مرتفع؛ صعق الأولاد لأنهم كانوا يرونه دائما كالطود الشامخ، والمرة الثانية عندما شاهد في التليفزيون جلسة مجلس الأمة التي أعقبت عدول الرئيس جمال عبد الناصر عن التنحي ورأى عضوا موقرا يرقص في حرم البرلمان فرحا لعودة الرئيس؛ بكى حزنا على ما آل إليه الحال في بلده مصر التي يجري حبها في كل قطرة في دمائه.
ولكني أحاول أن أنسى هذه الفترة - ويا ليتني أستطيع - ولن أنهي كتابي عن زوجي إلا بالكلمات الجميلة فقد كانت فترة زواجنا غير تقليدية ولم يكن ما يربط أحدنا بالآخر العشرة كما يقولون، وكما هو الحال في معظم الزيجات، وإنما كان يربطنا الحب الحقيقي، ولا يمكنني أن أقول إن اثنين وخمسين عاما وهي عمر زواجنا كانت كلها سعادة في سعادة، ولكن أستطيع أن أقول إنها كانت كلها حب في حب فقد كان كل منا يحمل للآخر مشاعر جميلة وأحاسيس صادقة، استطعنا بها أن نجتاز الصعاب، وأن نواجه الأعاصير الجارفة التي تهب على كل البيوت فتقتلعها، ولكنها لم تستطع أن تقتلع الحب الذي بيننا، إلى أن ودع الحياة وتركني وأنا لا أذكر إلا أجمل الذكريات، ولن أنسى ما أحسسته في حياتي الزوجية من مشاعر وعواطف أعتبرها ذخري في الحياة وأغلى كنز يعينني على الأيام. وكانت خلافاتنا في أول الزواج تبدأ بأن تزلزل الأرض زلزالها، يتكهرب الجو، وتثور البراكين، ثم تخمد النار رويدا رويدا إلى أن يخيل إلينا أن النار لم تكن إلا ماء عذبا يترفرق في جدول صاف.
وهكذا انتهى كتاب «زوجي ثروت أباظة» وطويت صفحاته، كأنها في لمح البصر، لكن تبقى كلماته وأعماله تملأ الدنيا، وتضيء في سماء الأدب العربي. وأحمد الله سبحانه وتعالى أن منحني في حياتي ما جعلني أفخر به؛ فقد كان أبي عزيز أباظة وكان زوجي ثروت أباظة.
أبي ثروت أباظة
بقلم أمينة ثروت أباظة
كان أبي بالنسبة لي الحب والحنان والحماية والحصن الذي أتحصن به من الناس والأيام، ولكني هنا لا أريد أن أتحدث عن علاقتي بأبي؛ فإني أعتبرها خصوصيات لا أحب أن أتناولها، وإنما ما أريد التحدث فيه هو جانب من جوانب شخصيته، وهو الشجاعة والجسارة وقول الحق، وهي ميزات نادرا ما نجدها في الناس، فكلمة الحق قالها ثروت أباظة حينما كان الحق لا يقال بل لا يجرؤ أحد على التفكير فيه، قالها في فترة كانت السجون مفتوحة على مصراعيها، والمعتقلات تفتح ذراعيها للداخلين، والمخابرات تعمل بجد ونشاط للتجسس على المصريين، وليس على الأعداء، كان التصنت على التليفونات شيئا عاديا حتى إن الناس كانت تتكلم ب «السيم». في هذه الفترة اعتقلت ابنة خالتي زينب في مدرستها ولم تكن تتجاوز الخامسة عشرة، وكانت المدرسة من أهم المدارس في الإسكندرية، تدار بإدارة إنجليزية؛ اعتلقت لأنها قالت لزميلتها في الفصل ابنة الليثي عبد الناصر «إن عمك جرد الناس من أموالهم وأخذ مال النبي.» وأغلقوا عليها غرفتها لمدة شهر، لا يخرجونها إلا لتذهب إلى المحافظة لاستجوابها، إلى أن استطاع أخوها أن يفك أسرها. هكذا كانت مصرنا في الستينيات، لم يمدح ثروت أباظة وقتها السلطة، ولم يتملقها، وإنما حاربها ولم يعترف بها أبدا، واعتبر أن السلطة قد اغتصبت البلاد اغتصابا، وقد قالها في روايته «شيء من الخوف» وصاح بأعلى صوت: «جواز عتريس من فؤادة باطل!» هكذا كان أبي، كان يقول الحقيقة ويعلم الله كم كانت الحقيقة محفوفة بالمخاطر! ويعلم الله كم من ضحايا كلمة الحق سقطوا في أيدي الزبانية وذاقوا التعذيب والأهوال وهم شهود على هذه الفترة العصيبة من تاريخ مصر! وقد اتهم بعض الناس أبي بأنه تملق الرئيس أنور السادات والرئيس حسني مبارك، أما كان الأجدر به يتملق ويسترضي حكم الطغيان الذي كان يقصف الأقلام بل ويقصف الأعمار أيضا حتى يأمن جانبه؟ لكنه أيد الرئيس السادات والرئيس مبارك عن اقتناع لأنهما أعادا للإنسان المصري إنسانيته، وللمواطن حريته، ولم يتدخلا في رأي جريدة مؤيدة كانت أو معارضة. ترى أكان من الممكن أن تصدر جريدة مثل جريدة الأسبوع أو جريدة العربي اللتين تفردان صفحات متعددة للهجوم على الوزراء وانتقادات حادة لكثير من المسئولين؟! هل كان يمكن تصور هذا في الستينيات؟!
من المؤكد أن المحررين كان سيكون مآلهم وراء الشمس.
كتب تحدثت عنه
الدين والفن في أدب ثروت أباظة: تأليف مهدي بندق.
الأعمال الروائية والقصصية لثروت أباظة: تأليف إبراهيم سعفان، ومحمد قطب.
قضية الحرية عند ثروت أباظة: تأليف عبد العزيز مصطفى.
القصة القصيرة عند ثروت أباظة: تأليف حسين عيد.
ثروت أباظة في مرايا الآخرين: جمع المقالات وأعدها الأستاذ صبري السيد.
النماذج البشرية في أدب ثروت أباظة: تأليف الدكتور عبد العزيز شرف.
ثروت أباظة الفلاح الأرستقراطي: تأليف الكاتب الصحفي محمود فوزي.
وقد تحدثت عنه أيضا «رسالات دكتوراه» متعددة منها رسالة دكتورة وجيهة محمد المكاوي خريجة آداب قسم اللغة العربية جامعة الإسكندرية، والباقي من الجامعة المصرية ومن الجامعة الأزهرية. •••
كتب ثروت مقالا في بداية حكم الرئيس السادات «في أي شيء صدق» وكان الحكم لا يزال سائرا على نظام الحكم السابق، والذي تحول رويدا رويدا وبحكمة شديدة من حكم مغلق إلى حكم الانفتاح، كتب هذا المقال حين كان الحكم لا يزال مغلقا وكان مقالا جريئا صادقا، وهذا هو المقال.
في أي شيء صادق؟!
وفي أي شيء صدق؟!
أية غريبة أن يقال ما يقال؟ وما المآل وقد سرق أمننا، ولص كرامتنا، وامتص دماء أبنائنا، وأهدر على رمال سيناء شرف مصر والعرب، وتاريخ أمة ومستقبلها؟
وفي أي شيء صدق حتى يصدق في ذمته؟!
قال: «ارفع رأسك يا أخي.» وحطم كل رأس فكر في الارتفاع أو فكر فقط، وأبى أن يجعل أحدا من الناس أخا، بل أرغم الجميع أن يكونوا عبيدا له أو هم أعداء.
قال ديمقراطية، ثم فشا وحده مسعورا، منفردا بالحكم، مسئولا وحده عن كل خفقة نفس في البلاد.
وقال قضينا على الإقطاع؛ فإذا بأصحاب الملايين في عهد الرأسمالية كانوا لا يتجاوزون أصابع اليدين عددا، فأصبحوا خمسمائة نتيجة لعهده، ثروة الواحد منهم مهما تبلغ من الضآلة تلتهم ملايين الإقطاع جميعا والإقطاعيين.
وقال ثورة بيضاء، ثم أهدر دماء الشباب في حروب اليمن وحربي سيناء من أجل مجده الشخصي، ومن أجل خراب مصر في دمائها ومالها وكرامتها.
وأسال الدماء في خسة غادرة مجرمة وراء أسوار السجون والمعتقلات.
قال الشرف، وهدد الرجال في عفة زوجاتهم وشرف بناتهم وأخواتهم.
قال تكافؤ الفرص، وأغدق الأموال على أبنائه، حتى لقد كان الواحد منهم يلهو بقيادة طائرة لا يحلم أغلب الشعب أن يركبها مرة في حياته، وتقدمت ابنة له تفكر في شراء أرض يتجاوز ثمنها مائة وخمسين ألف جنيه، ولقب ابنه بالمليونير في إذاعة لندن، وسكب أموال الدولة على إخوته وعلى كلابه من ماسحي أحذيته، ولاعقي نعاله؛ فهم ينبحون باسمه حتى اليوم، وقد فجعتهم فيه الفاجعة، وزالت من أفواههم دماء الشعب التي أتاح لهم أن يمتصوها، تؤيدهم في نباحهم فئة أخرى اعتدى عليهم في المعتقلات وجعل زوجاتهم بلا عائل لطول حبس الأزواج ولحبس المال عنهم، ومع ذلك ينبحون باسمه مع كلابه النابحة.
لأن الحكم الجديد، قال الله.
وقال الحرية.
وقال القانون.
ونفذ ما قال وانتصر.
في أي شيء صدق؟!
قال: «الرجل المناسب في المكان المناسب.» ثم اختار أهون الناس وجعل منهم رؤساء على العمالقة، ووضع في أغلب المناصب رئيسا جاهلا لأن الجهلاء هم علماء النفاق؛ فانهار العمل في الحكومة وفي القطاع العام. وحين قال محافظ من علمائه: أعط القانون إجازة رقي إلى وزير؛ لأنه عبر عن شعار الدولة.
في أي شيء صدق؟!
دعا إلى الاشتراكية وعاش، وعاش خدمه والمحظوظون من أتباعه عيشة تتضاءل عندها عيشة الفجار من العاهرين في الرأسمالية، فسمعنا عن فواكه تأتي بالطائرات، وعن سيارات نقل تحمل الفراء والسجاجيد، ويعلن هذا علينا حين يغضب على الفاعل ويستر علينا حين يترضاه ويضع رأسه تحت قدميه.
ألا إلى غير رجعة يا زمن الهمس والصراخ، والنوم المفزع، والقلق الشائع، والخوف المبيد، والعرض المباح، والدم المسفوك، والشرف الجريح، والتاريخ الممزق، والأمل المظلم، واليوم الكالح، والغد العبوس، والحق المضاع.
ويقولون: اكتموا على السرقات أن تذيع، فإنها إن شاعت أحجمت أموال العالم عن مصر والانفتاح، جهلوا الحقيقة، لن تأتي الأموال وأصحابها يعرفون أن اللصوص هنا تتخفى وراء الأستار، تحمل معها التشكيك في أمانة بلادنا، يوم تتكشف الحقائق ويعرف العالم أننا أصبحنا على الطريق القويم، شريفة أيدينا، واثقة نفوسنا، مطمئنا اقتصادنا، يأتي إلينا أصحاب الأموال شرفاء واثقين مطمئنين، الحق دائما بالدول أجدر.
وقد كلفه هذا المقال منصبه كرئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون التي قفز توزيعها في عهده إلى أرقام تفوق التصور؛ حتى إن شيخ الصحفيين مصطفى أمين قال له: «لقد صنعت من الفسيخ شربات.»
فقد أقاله الرئيس السادات من منصبه إظهارا لغضبه، وقد طلب منه الأصدقاء أن يكتب مقالا آخر يعتذر فيه عن المقال السابق، ولكنه رفض رفضا قاطعا، وقال: «دون ذلك الموت!» وبعد فترة عين في جريدة الأهرام رئيسا للصفحة الأدبية، وبقي فيها سنوات طويلة إلى أن عينه السادات عضوا في مجلس الشورى في أول تكوينه، وقبل رحيله بسنوات كانت كتاباته كلها شفافية ونورانية وخشوع ولا يخلو مقال من مقالاته من الاستشهاد بالقرآن الكريم، وكتب عن الرسول بحب غامر وإيمان عميق، وكتب مقالات متعددة ومتتالية مناديا بأن يعود الأزهر الشريف للأزهر، وكتب أيضا عن التآخي بين المسلمين والمسيحيين، وعن مكانة مريم العذراء وابنها عيسى عليه السلام في القرآن.
هذه مقتطفات من مقالاته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد اختار الله سبحانه وتعالى أن يكون حامل رسالته بشرا من البشر ، ليس له أية معجزة إلا معجزة القرآن التي ذكرها سبحانه بقوله:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (سورة الحجر: 9) وقد فعل وصدق وعده جل وعلا.
وانتقل القرآن بنصه وحرفه من القلوب إلى الألسنة إلى الجلود والعظام إلى المطبعة؛ فتم له الحفظ.
والنبي الكريم الذي حمل إلينا الرسالة رسول بشر، يقول تعالى في سورة الإسراء في الآيات 90 وما بعدها:
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا
صدق الله العظيم.
فمعجزة النبي
صلى الله عليه وسلم
إذن أنه بشر رسول، وأن الله لم ينزل ملكا رسولا؛ لأن الأرض ليس بها ملائكة يمشون مطمئنين.
وقد جاءني خطاب من رجل مؤمن يحس في نفسه غصة: إن النبي عليه الصلاة والسلام يتصرف تصرف البشر، وليس تصرف الأنبياء، وهذا ما دعاني أن أسوق إليه وإلى من شاء هذا الحديث. إن معجزة النبي يا أخي أنه بشر وأنه رسول فهو بشر حين يقول: «حبب إلي الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة.» وهو رسول لأنه لم يعتد على حرمة ولم يرتكب حراما ولا إثما، وهو بشر حين يأمر بالحرب ليرد بها الأعداء عن دينه، وهو رسول حين لم يثخن في الأرض ولم يعذب الأسرى، وحين راح يلتمس الأسباب للعفو عنهم، وهو بشر إنسان أب حين سمع أن علي بن أبي طالب يريد أن يتزوج على ابنته فاطمة؛ فيصيح: اللهم إني غاضب، اللهم إني غاضب، اللهم إني غاضب. فهو غاضب لأنه بشر، ولأنه يحب ابنته كما يحب البشر بنيهم وبناتهم، ولكنه نبي ورسول أمين وشريف؛ لأنه لم يقل إن زواج علي بأخرى على فاطمة يغضب الله، أو أنه يخالف الدين، أو أنه يقع زواجا باطلا. وهو بشر حين تدمع عينه لموت ابنه، ولا يستطيع أن يخفي ألمه العميق للكارثة، وأية كارثة أفدح من فقدان ابنه وهو قطعة منه؛ فهو يبكي على رغم علمه أن ابنه رفع إلى الجنة التي يعد بها الله على لسانه المتقين من عباده، وأي عباده أعظم تقوى من طفل ما زالت الأكتاف تحمله؟ وهو يبكي لأنه بشر ولكنه رسول الله في القمة العليا من الإيمان ومن الثقة بربه وبدينه وبما أنزل إليه حين يحاولون تعزيته بقولهم: «إن الشمس خسفت لموت إبراهيم.» فإذا الرسول يقول: «أيها الناس، إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس» (رواه مسلم). وهو بشر حين يتطيب حتى لا يشم الناس منه إلا أجمل رائحة، وهو رسول حين يأبى أن يترك لبنيه أي مال يعينهم على الحياة، وهو بشر حين يزور فاطمة ويجدها نائمة وبجانبها علي، إن غطى الرداء الذي يتدثران به الأقدام منهما كشف عن صدريهما، وإن غطى صدريهما كشف عن أقدامهما، وتأخذه الشفقة على ابنته وزوجها لأنه بشر، ولكن لأنه رسول لا يبحث لهما عن مال - لو طلبه لانهال عليه من المؤمنين - وإنما يقول لهما «ألا أدلكما على خير من هذا: قولا سبحان الله ثلاثا وثلاثين مرة والحمد لله ثلاثا وثلاثين مرة والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرة.» فلأنه رسول حمل كلمة الله التي تطمئن القلوب دثر ابنته وزوجها بكلمات الله وطمأنينة القلب.
وكتب يهاجم دخول الحزب الشيوعي الانتخابات:
وهل هناك أكثر خبلا من قوم يرشحون أنفسهم للانتخابات والأصوات التي يريدون أن يحصلوا عليها كلها أصوات مؤمنة تؤمن بالله وباليوم الآخر، منهم المسلمون الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وخاتم النبيين ويقيمون الصلوات، ومنهم المسيحيون الذين قال عنهم سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم:
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (المائدة : 82).
وكتب ردا لأحد الإخوة المسيحيين ردا على مقالة له: وأقدم بين يدي القراء هذا الخطاب الذي وصلني من الأستاذ حليم فريد تادرس:
استجابة لطلبك الغوص والإنقاذ بعنوان «وا أزهراه» (أهرام 7 / 8) وسؤالك أين أزهرنا؟ وهو أزهرنا أيضا نحن - المسيحيين - أقباط مصر وليس أزهر المسلمين فحسب؛ لأنه أولا: مجمع لحماية الدين الإسلامي الذي كفل لنا نحن - المسيحيين - حرية العقيدة والاعتقاد، وهما أسمى ما يملك الإنسان ووضع قوله تعالى:
لا إكراه في الدين
عنوانا لمعاملاته مع غير المسلمين. ثانيا: خطب فيه أقباط مصر سنة 1919م ضد الاستعمار الإنجليزي. وهو ثالثا الذي خضع له الحكام والأمراء، وتزعم الحركات السياسية الكبرى وكان حربا على الظلم والطغيان وعونا على الحكام الظالمين حتى 23 يوليو، وهو الذي حفظ ما بقي من التراث العلمي والعربي. رابعا: وقاوم عوامل الانحلال والضعف والعجمة خلال العهد العثماني، وهو خامسا ومن قبل ومن بعد جامعة كبرى للتربية والتعليم الدينيين أقول استجابة لطلبك الغوص والإنقاذ، والآن الأزهر هو أزهر جميع المصريين.
آثرت أن أنشر هذا الخطاب من بين سيل الخطابات التي جاءت إلي، وقد أختلف مع الأستاذ حليم في بعض تفسيرات، ولكنني ولا شك معجب بخطابه هذا كل الإعجاب، وكم يسعدني أن أنشره معبرا عن رأي إخواننا الأقباط الذي يعتبرون الأزهر حاملا الرسالة القومية التي تعين العرب أجمعين في شرق الأرض ومغاربها! وإني لأرجو أن يجد الأزهر في هذا المقال ما يستنهض عزيمته فيعود إلى الحياة العامة التي يفتقده فيها العرب فلا يجدونه، ولله الأمر من قبل ومن بعد (الأهرام 28 أغسطس 1989م).
وكتب في مقال يهاجم الإخوان المسلمين: أنتم تحاربون أقباط مصر على رغم أن رسول الله أوصانا بهم خيرا. ولم لا، وقد تزوج منهم؟!
وكتب مقالا يستغيث فيه من تدهور اللغة العربية بين تلاميذ المدارس، وحتى بين خريجي الجامعات ، وطالب المسئولين بزيادة التركيز على حفظ الشعر؛ فهو سيقوم بنفس النتيجة، وإذا به يفاجأ برسائل كثيرة تصله من آباء مسيحيين يطالبون فيها أن يحفظ أولادهم القرآن مع المسلمين ليتوافر لهم النطق الصحيح واللسان القويم.
ومقالة أخرى عن الأزهر
منذ سنوات كتبت عدة مقالات طالبت فيها أن يعود الأزهر إلى الأزهر، وصرخت: إن العالم تملؤه الجامعات المدنية ولكن ليس في العالم إلا أزهر واحد استضاءات بفيض أنواره جنبات الشرق أجمع، وألقى شعاعه إلى كل مناحي الدنيا، وكان هذا الأزهر أمينا على فقه القرآن والدين الحنيف، واللغة العربية هي السبيل إلى فهم القرآن والدين، وحسبنا ما جاء في كتاب أخينا عبد الرحمن الشرقاوي عن الإمام الشافعي نقلا عن الثقاة من أنه كان يقيم فترات طويلة في البادية؛ ليستقيم لسانه العربي ويصبح جديرا بأن يتصدى لما تصدى له، حتى استقام له مذهب يتبعه فيه حتى اليوم قوم لا يحيط بهم حصر، وطالبت في ذلك الحين أن تعود الكليات الدينية إلى سابق العهد بها، وأن يصبح حفظ القرآن شرطا لدخول هذه الكليات؛ فإن خوفي على اللسان العربي عند الناشئة وعند المهتمين بشئون الدين الإسلامي، فأولئك إن لم يحفظوا القرآن فإننا على مدى سنوات قليلة لن نجد قارئا، وإن وجدناه فلن نجد متفقها في الدين يخلف الأئمة الأعلام الذين يضيئون اليوم ساحات الأزهر والحياة في طول البلاد وعرضها فأين الكليات التي ستخرج مثل هؤلاء الأعلام؟ وكيف يتخرجون اليوم وهم لا يحفظون القرآن؟ وقد كان حتما فيما مضى حفظ القرآن لمن يريد أن يكون من الدعاة، وكان حتما أيضا على طلاب دار العلوم الحصول على الثانوية الأزهرية للدخول إليها، فجميعهم كان من حفظة القرآن الكريم، ومنذ ألغي هذا الشرط ألغيت اللغة العربية من المدارس وأصبح الذين يدرسونها ضعافا بصورة تدعو إلى الحسرة والألم.
برقية تعزية من الرئيس حسني مبارك في وفاة ثروت أباظة
بعث الرئيس حسني مبارك إلى الدكتور مصطفى كمال حلمي رئيس مجلس الشورى برقية تعزية ومواساة في وفاة المرحوم الأستاذ ثروت أباظة وكيل المجلس قال فيها: «تلقيت بمشاعر الحزن والأسى نبأ وفاة المغفور له الأستاذ ثروت أباظة وكيل مجلس الشورى بعد حياة حافلة بالعطاء، أخلص فيها لوطنه ولأهله، وأثرى فيها الفكر والأدب المصري والعربي، وحمل فيها بأمانة وصدق مسئولياته كعضو وكوكيل لمجلسكم التشريعي، وترك بكل ذلك رصيدا هائلا من التقدير في قلب ووجدان كل مصري وكل عربي، وأود أن أتقدم لكم - ومن خلالكم لأعضاء مجلسكم الموقر - بخالص التعزية في هذا المصاب الجلل، داعيا الله عز وجل أن يتغمد الفقيد برحمته، وأن يدخله فسيح جناته وأن ينزله منازل الشهداء والصديقين جزاء لما قدم لوطنه وأمته.»
الشورى ينعى ثروت أباظة
الحكومة:
كان مثالا للالتزام الوطني وقدوة للأجيال القادمة.
الأعضاء:
دافع عن حقوق البسطاء كسياسي وأديب.
نعى مجلس الشورى في جلسته التي عقدها صباح أمس ثروت أباظة وكيل المجلس، وقد ألقى الدكتور مصطفى كمال حلمي كلمة في بداية الجلسة قال فيها إنه يعز عليه أن ينعى زميلا عزيزا وبرلمانيا لامعا ووطنيا صادقا، سعد به مجلس الشورى منذ إنشائه وحتى رحيله. وقال إن أباظة أثرى المكتبة العربية بأكثر من أربعين مؤلفا حلقت شهرتها في الآفاق، عززت قيم المجتمع السامية.
وتحدث ممثل الحكومة السيد كمال الشاذلي وزير مجلسي الشعب والشورى فقال: إن مصر فقدت بوفاته أحد علمائها الكبار فكرا وأدبا وسياسة، أثر في الثقافة المصرية.
أضاف الشاذلي قائلا: إن الدولة كرمته، وقد تم اختياره عضوا بمجلس الشورى، حيث تم انتخابه وكيلا له، ولم يكن هذا تكريما له فقط ولكنه مثال للأجيال القادمة لتتعلم منه الكثير. وتحدث ممثل الأغلبية محمد رجب فقال: إن الحزب الوطني فقد رجلا كبيرا وقيادة شريفة حرص منذ زمن طويل أن يكون النائب والكاتب، القادر على أن يضرب المثل في العمل والإخلاص للوطن. وقال الدكتور رفعت السعيد ممثل الهيئة البرلمانية لحزب التجمع: إن مصر فقدت شخصية كبيرة، كان مقاتلا عن الحق، لم يعرف الخوف يوما، دافع عن الحق في المجلس وفي رواياته.
وقال: مهما قلنا فلن نقدم له مثل ما قدم، ويكفيه أن يرحل شجاعا.
كما نعى الدكتور شوقي السيد الراحل ثروت أباظة فقال: إنه برحيل ثروت أباظة فقدت مصر الكثير والكثير، فقد رحل رجل قوي وشريف ساهم في إثراء المكتبة العربية.
وتحدث السيد صفوت الشريف وزير الإعلام فقال: إن مصر فقدت رجلا وأديبا ومفكرا كبيرا عبر بصدق عن مصر وعن شعبها ورئيسها، وقال: إنه كان عضوا فاعلا في مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وكان في مقدمة من كرمهم الرئيس مبارك، وسوف يظل ثروت أباظة بفكره وشجاعته حيا بيننا.
وقال النائب محمد فريد زكريا: إن مصر فقدت منبرا ثقافيا كبيرا منذ كان رجلا قويا في الحق، حريصا على مجلسه الذي شرف بعضويته.
وقدم الدكتور أسامة شلتوت رئيس حزب التكافل العزاء لمجلس الشورى ولأسرة الفقيد.
كذلك تقدم عبد المنعم الأعصر رئيس حزب الخضر بالعزاء للمجلس في الفقيد.
وتحدث الدكتور إسماعيل الدفتار فقدم العزاء بدوره في رحيل ثروت أباظة، مثلما قدم المستشار عبد الرحيم نافع العزاء أيضا في الفقيد. وقال فهمي ناشد ممثل حزب الوفد: إننا ننعى فيه القامة القيمة وننعى ذلك الفارس الذي يضرب بسيفه كل الزيف؛ فقد كان مدافعا عن القيم وعن الحق، وكان رمزا شريفا لأعضاء مجلس الشورى. وأشاد بدوره في حصول مجلس الشورى على حقوقه الدستورية والتشريعية.
وقال وكيل المجلس عن العمال السيد محمد مرسي: إن مصر فقدت أديبا كبيرا أثر في الوجدان المصري والحركة السياسية المصرية بشكل غير مسبوق.
أما المستشار فرج محسن رئيس اللجنة الدستورية بالمجلس فقد قال: إن الراحل كان من أوائل المدافعين عن الوطن وأمنه، فقد هاجم الإرهاب في عنفوانه. وأضاف: إن ثروت أباظة قدم للثقافة المصرية الكثير.
وتحدثت دكتورة فرخندة حسن رئيس لجنة التنمية البشرية، فأشادت بمواقفه السياسية والبرلمانية.
كلمة الدكتور مصطفى كمال حلمي في تأبين ثروت أباظة
حياته متعددة الجوانب
جمع كريم، ولقاء كريم يحمل معاني الوفاء لعلم من أعلام الأدب والثقافة هو المرحوم الأستاذ ثروت أباظة.
لقد عايش الراحل الكريم مراحل هامة من مراحل تطور الحياة السياسية والاجتماعية في مصر في حقبة هامة من تاريخها، فقد عاصر النظام الملكي، ثم سقوط هذا النظام، وقيام ثورة 23 يوليو 1952م وإعلان الجمهورية، وعايش التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العميقة التي صاحبت هذه الثورة وغيرت وجه الحياة في مصر، وفي المنطقة كلها، فصدر قانون الإصلاح الزراعي والقوانين الاقتصادية، وامتدت مجانية التعليم لتشمل التعليم الجامعي، وقامت حركات التحرر في العديد من الدول العربية والأفريقية، وخاضت مصر حروبا متعددة، حتى كان نصر أكتوبر العظيم عام 1973م الذي حقق فيه جيش مصر البطل تحرير ترابنا الوطني، ثم تبعته اتفاقية السلام. ومر النظام السياسي في مصر بتجارب، بداية من الحزب الواحد إلى تعدد الأحزاب في دستور 1971م، والتأكيد على حرية الصحافة وإلغاء الرقابة عليها، ثم كانت مرحلة إعطاء الأولوية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية المتواصلة من خلال خطط إنمائية طموحة تهدف مشروعاتها وبرامجها إلى تحقيق التوازن بين الريف والحضر، والعمل على توفير الخدمات الأساسية للمواطنين كافة، مع رعاية محدودي الدخل.
لقد عايش الراحل الكريم مختلف تلك المراحل الهامة من تاريخ مصر وكان له رأيه فيها وهو ما أعلنه وعبر عنه دائما في كتاباته ومقالاته وقصصه، والتي كانت تتصف جميعها بالإضافة - إلى سموها اللغوي - بالصراحة التامة قبولا أو رفضا أو نقدا، ولكن الركيزة الأساسية في كتاباته كانت رفضه للظلم والقهر السياسي والاجتماعي، والتصدي لهما، وانحيازه الكامل للديمقراطية والحرية؛ حرية المجتمع، وحرية الفرد، حرية الرأي والتعبير، والدفاع عن قيم المجتمع الرفيعة وتقاليده السامية.
وحياة ثروت أباظة حياة ثرية متعددة الجوانب؛ فهو الأديب العملاق، والكاتب المتميز، والوطني الصادق، والبرلماني اللامع، الذي اختاره كتاب مصر ومثقفوها رئيسا لاتحاد كتاب مصر لفترة طويلة، بالإضافة إلى ما شغله من العديد من المواقع والمسئوليات كعضو في المجالس القومية المتخصصة، والمجلس الأعلى للصحافة، والمجلس الأعلى للثقافة، ومجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون، ونادي القلم. وقد كرمته الدولة بجائزة الدولة التشجيعية، وجائزة الدولة التقديرية، بالإضافة إلى أرفع الأوسمة والجوائز.
وقد أثرى الراحل الكريم المكتبة العربية بالعشرات من مؤلفاته التي حلقت شهرتها في الآفاق، كما أثرى الحياة الثقافية والفنية والسياسية بكتاباته التي لم ينقطع عنها حتى آخر مرحلة من مراحل حياته الثرية، وذلك كله بالإضافة إلى أدائه البرلماني الرفيع كعضو وكوكيل لمجلس الشورى.
وليس في الإمكان أن نحيط في هذه المناسبة بكل جوانب الراحل الكريم في ثقافته، وأدبه، وإنسانيته، ووطنيته، ومكانته الرفيعة، وريادته لأكثر من مجال.
ففي ذمة الله، وفي رحابه أيها الراحل الكريم، ودعاء المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته؛ جزاء لما قدمه لوطنه وأمته من جليل الأعمال.
وأتقدم لأسرة الراحل الكريم وذويه وزملائه ومدرسته الأدبية والثقافية بخالص العزاء، داعيا المولى عز وجل أن يلهمهم الصبر والسلوان.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
كلمة الأديب العالمي نجيب محفوظ في تأبين ثروت أباظة
الأديب لا يموت
كان أديبا كبيرا نبيلا، وصديقا كريما؛ ذلك هو الراحل العزيز ثروت أباظة الذي لم أكن أتصور أن أتخلف عن حفل تأبينه باتحاد الكتاب الذي يدين بوجوده لهذا الرجل قبل أي إنسان آخر، لكنه الزمن الذي قضى علي بالعزلة شبه الكاملة بعد أن ضعف بصري، وقل سمعي، ووهن جسدي.
وإذا كان وضعي هذا قد حال اليوم دون تواجدي في هذه المناسبة القريبة من قلبي، فإن نفس هذا الوضع قد حال في السنوات الأخيرة دون تواصلي مع الصديق الراحل، خاصة بعد أن أقعده المرض هو الآخر وحال دون زياراته الدورية لي، وقد كنا نتغلب على ذلك الوضع بالاتصال الهاتفي في البداية، ثم حين تعذر ذلك بعد ضعف سمعي لم أكن أجد وسيلة للاطمئنان عليه غير الرسائل البرقية التي كان يرد علي بمثلها، وها أنا ذا اليوم في هذه المناسبة لا أجد من وسيلة لتأبين الصديق سوى هذه الرسالة.
ولقد صدمت في وفاة ثروت أباظة صدمة ما زلت غير قادر على تخطيها، فقد كان ثروت أباظة بالنسبة لي صديقا وأخا قبل أي شيء آخر، وقد عرفته في البداية كاتبا موسوعيا من خلال مقالات كنت أقرؤها له قبل أن ألقاه، وحين لقيته أدهشني صغر سنه الذي لم يكن يتناسب مع عمق كتاباته، وكأن ذلك اللقاء كان موعدا مع القدر الذي شاء أن تبدأ به صداقة امتدت طوال العمر وتخطت كل العقبات، من اختلاف الآراء فيما بيننا سواء قبل الثورة أم بعدها، أم ظروف الحياة التي لم تنجح في أن تباعد بيننا، إلى أن تمكن الموت وحده من ذلك، ولو إلى حين، يعود بعده التواصل إلى أبد الآبدين.
ولقد تحول ثروت أباظة من كتابة المقالات النقدية والثقافية إلى الرواية، فكان أحد أكبر كتابها في اللغة العربية بأسلوبه الجزل وغزارة إنتاجه، وقد تميزت رواياته بالمستوى الفني الرفيع وبالنجاح الجماهيري الواسع في آن واحد، ولم يختلف على قيمته الأدبية أحد، في المقدمة كان عميد الأدب العربي نفسه الدكتور طه حسين الذي أشاد بأدبه وبمستواه الرفيع.
ولم يكن ذلك غريبا على أديب تعلم الشعر في طفولته وحفظ دواوين أحمد شوقي في صباه وأثرى الأدب الروائي في سنوات نضوجه.
وقد كان لثروت أباظة أخلاق الفرسان من الشجاعة والمروءة والشهامة والكرم، تلك الفضائل التي باتت نادرة في عالمنا اليوم، وقد خابرته في مواقف كثيرة بعضها سياسي والآخر إنساني، فكان مثالا للشجاعة والإقدام في الأولى، والكرم والأخلاق في الثانية، وقد عرف عنه ذلك خصومه قبل أصدقائه؛ فكانوا يلجئون له في الشدائد لمعرفتهم بشهامته وكرم أخلاقه، وكثيرا ما كنت أنا شخصيا وسيطا في مثل هذه المواقف التي لم يكن يتردد فيها ثروت أباظة عن تلبية حاجة من يلجأ إليه، فأين لنا مثل هذا الفارس في عصر طغت فيه المصالح الشخصية؟ فصرنا نقيم الرجال طمعا في مصلحة، ونهاجمهم طمعا في مصلحة أخرى، لقد رحل الآن ثروت أباظة ولم يعد يملك نفعا ولا ضررا، فهل حان الوقت لكي نعطيه حقه من التقييم الموضوعي الذي لا يعتمد على مواقفه السياسية في الحياة، وإنما على قدرته وموهبته الفذة في الأدب؟ إن الأديب لا يموت فأعماله خالدة بعد رحيله، لكن المجتمعات السليمة وحدها هي التي تستطيع تقييم أدبه بما يستحق؛ فتفيد به الأجيال التالية، أو تصد نفسها عنه بالتحيز وعدم الموضوعية، فلا تسيء إليه بقدر ما تسيء لتاريخها الأدبي.
رحم الله ثروت أباظة وجزاه على ما تركه لنا في هذا العالم من خيرات، وألهم أسرته الصبر والسلوان، ومنحنا الصبر إلى أن نلقاه.
مواقف للأستاذ أنيس منصور
ذهب رجل شجاع فصيح بليغ، هدفه الصدق، وأسلوبه الأدب، وأمله الشرف، وبرغم اشتغاله بالصحافة فقد عمل بشروطه هو؛ فكان قوي العبارة، متين البناء، وقدم إلى الأقلام عبارات القدماء التي لم يعد أحد يستخدمها بهذه القوة والجمال؛ حرصا منه على إحياء القديم الأنيق في لغتنا البديعة، وكثيرا ما كان يستدعي شعراء قدامى لمعنى جديد، فأسعفه الشعراء والبلغاء، ولم يكن استعراضا لكنوزه الأدبية واللغوية والفقهية والقانونية، وإنما هي قدرته على أن يوظف الماضي في خدمة الحاضر، ولم يكف عن نقد فلول الناصرية والشيوعية، وعلى الرغم من أن الشيوعية قد تلاشت من الدنيا فلا زال لها ذيول وبؤر سامة في مصر.
فلم يكن كاتبنا الكبير ثروت أباظة ضيق الأفق، أو متعصبا ضد الشيوعيين أو الناصرين أو الهجاصين، وإنما كان ضد القيود، وضد التعصب، وضد الكذب، وكلها صفاتهم. وكما كان ثروت أباظة غيورا على الفن والصدق والجمال؛ كان غيورا على الإسلام ودينه، ولم يغفل لحظة واحدة عن المتربصين بالإسلام باسم الإسلام أيضا، وكان ثروت أباظة جنديا منضبطا برغم مرضه الثقيل عليه وعلينا؛ فلم يتخلف عن جلسات مجلس الشورى إلا نادرا، وكنا نشفق عليه داخلا خارجا، لكنه قرر أن يمشي على قدميه إلى قبره، لم ينتظر النهاية وإنما كان إذا أحس بدنوها اتجه إليها، فما أقرب الألم لصاحب القلم!
والذين لم يعرفوا «ثروت أباظة» إلا أخيرا، لم يدركوا فيه المرح والنكتة والحكايات التاريخية وميلاد أكثر الأدباء والفنانين في بيت أبيه الأديب دسوقي باشا أباظة، ولا عرفوا ولائم «العدس الأباظي»، ولا كيف احتفل بأول مكافأة عن أول قصة نشرتها له في مجلة «الجيل» سنة 1961م، أما الأجر فكان خمسة جنيهات، وأصر على أن يتقاضاه، وأقام وليمة تكلفت مئات الجنيهات! فالفلوس لا تهم ولكن المكافأة عن العمل الجميل المنشور هي التي تهم كثيرا. مات فلاح الباشوات وباشا الأدباء، وفارس الصدق، وعابد الجمال. إنه الألم مراد القلم.
ثروت أباظة الفنان الإنسان
شعر: محمد التهامي
أدار حياته عرضا وطولا
يحاول بعد هامتها وصولا
وداس لظى مسيرتها بعزم
أحال سعيرها ظلا ظليلا
هو الفنان مهما عاندته
يطوع في العناد المستحيلا
فقد بسمت لطلعته الليالي
وجرت في مباهجها الذيولا
وحلق فوقها بدرا وليدا
تدق لنور غرته الطبولا
وفي ظل الكبار حبا كبيرا
يفوق على بديهته الفحولا
ولما غبروا الميزان فيها
وذاق لطعمها طعما بديلا
تدفق في مسيرتها عطاء
كذا من كان معدنه أصيلا
وفاض بيانه فنا جميلا
أتاح لعيشنا معنى جميلا
فما في قسوة الأيام خوف
إذا لفتت لعبرتها العقولا
أطل على منابرنا بفكر
يعلم حامل القلم الأصولا
إذا آمنت في يوم برأي
فقل! لا شيء يمنع أن تقولا
وإن أيقنت في صدق فقلها
حرام عن يقينك أن تميلا
ولو أذنت وحدك في فلاة
ستبقى في مجاهلها دليلا
وإن سلقوا بألسنة حداد
وضجوا حولنا قالا وقيلا
فإن الحق غاية كل حي
وويل للذي ضل السبيلا
غدا يا ثروت الغالي نراها
خليلا مغرما يلقى خليلا
عرفنا فيك قلبا سال حبا
يعز على الخلائق أن يزولا
ولو غطت منابعه المنايا
يفيض برغم قسوتها سيولا
ويملأ عطره الدنيا وتبقى
أمام عميق حبكم قليلا
غرست الحب يغمرنا صفاء
ويسعد عمرنا جيلا فجيلا
فتحت لعالم الأدباء صدرا
أتاح لهم على سعة نزولا
تجمع شملهم فيه اتحادا
عظيم القدر مثلهم جليلا
وما مثل الأديب صفاء روح
وعذب مودة وهوى نبيلا
وفي الأدب الوفاء يشع شمسا
تدوم له ولا ترضى الأفولا
ستحيا في وفاء الكل عمرا
يجاوز دورة الأفلاك طولا
تهش لنا وتشبعنا رضاء
ونلقى عند بسمتك الحلولا
تساندنا إذا كنا شبابا
وتسندنا إذا كنا كهولا
أخذت هذه الأبيات من شعر أبي الشاعر عزيز أباظة في رثاء أحب الناس إلى قلبه وأعزهم على نفسه:
يحدثني قلبي وقلبي مصدق
ونحن بأرض شعت الطهر والسنى
بأنك عند الله في خير منزل
رعاك فأدنى واجتباك فأحسنا
فما كنت إلا رحمة لي ونعمة
وروحا وريحانا وهديا ومأمنا
وكنت لي الظل المقدس والجنى
فأمسيت قد روعت في الظل والجنى
أروح على نار وأغدو على جوى
فيا لمصاب قد أصاب فأثخنا
هذه الأبيات الموجعة أبعثها إلى زوجي ثروت أباظة في عليين.
مختارات من إهداءات ثروت أباظة
كلمة حق
إلى زوجتي أم أمينة ودسوقي
هذه روايتي العشرون أقدمها فكأني أقدمها إلى نفسي، فقد كنت لي على مدى أربعين عاما أمنا عند الجزع، وحصنا عن الضائقة، وسكينة عند الروع، وحبا لا يخالطه من، ووحيا كأنه نور من السماء، وحدبا إذا تجهمت الدنيا، وإشفاقا حين تنبت الأشواك في الطريق، وكم مرت بنا من الأيام أشواك فكنت أنت الورود فيها! وكم لقينا من الحياة ظمأ فكنت أنت الورد الصافي والماء الطهور!
إليك بجانبي كل دعائي إلى الله أن يمد في عمرك، لتكوني لي ولابنتك الحياة التي لا حياة لنا إلا بها، فثلاثتنا يشعر عن يقين أنه هو أنت، وحسبنا أن نكون نحن أنت.
ثروت
إهداء إلى نعمت ماهر أباظة
إلى ابنتي التي أعتز بجمالها وأخلاقها ونبوغها وليس بأبيها ماهر بك.
ثروت أباظة
إهداء إلى ماهر أباظة
إلى أخي وصديق عمري الرجل شريف الرأي والفكر والمقصد ماهر أباظة حبا وتقديرا.
ثروت أباظة
ثروت أباظة طفلا.
ثروت وعفاف أباظة ليلة الزفاف.
ثروت أباظة وزوجته وابنتهما أمينة.
ثروت أباظة يقبل ابنته أمينة.
ثروت أباظة وحفيدته عفاف وابنه دسوقي.
ثروت أباظة إلى يساره زوجته ثم ابنته أمينة ثم حفيدته عفاف وإلى يمينه جيهان حتاتة زوجة ابنه دسوقي ثم حفيدته ياسمين.
الرئيس حسني مبارك يصافح ثروت أباظة.
ثروت أباظة يتكلم في مجلس الشورى.
أم كلثوم على ظهر الحمار وبجانبها ابنة أختها سعيدية معهما ثروت أباظة طفلا في قريته غزالة.
ثروت أباظة مع توفيق الحكيم ويوسف السباعي وصلاح طاهر.
ثروت أباظة يقبل نجيب محفوظ.
حمدي عباس مدير عام النشر في دار المعارف يوقع عقد ملكية دار المعارف لكل أعمال الكاتب الكبير.
صفحة غير معروفة