ولم يستطع أن يفوه بكلمة أخرى، خنقته العبرات، ولكن مريم لم تحفل به: أي نعم، تلبسون المسح وتذرون على رءوسكم الرماد ثم هللوا، هللوا، ادخلوا مجد ربكم آمنين. والله لأذبحنك وأذبح ابني وأذبح والده لو كان لي أن أراه، وألبس بعد ذلك المسح وأذري على رأسي الرماد وأعيش على الخبز المبلول بالماء فأموت قديسة وأدخل مهللة مجد ربي، إذا كانت الحياة لعنة في الأرض فمجد ربي أضحوكة ذميمة، دعني في شقائي، اتركني، إليك عني.
وخرجت إلى المصطبة قدام الباب فجلست هنالك تسند رأسها بيديها وتتأمل أمرها ومصيرها.
فلحقها القس جبرائيل وأخذ يدها بيده فرفعت رأسها حانقة ناقمة ثم أحنته يائسة مستسلمة، فقال يخاطبها: انهضي يا مريم وادخلي غرفتك تستريحين قليلا، انهضي الله معك، فمشت وإياه نحو الغرفة. - ادخلي رضي الله عنك، نامي قليلا، استلقي على فراشك لقد أتعبتك النزهة، واطردي من قلبك مثل هذه الأفكار التي جرحت بها قلب والدك، اطردي من فكرك كل ما يؤلمك ولا يعينك على الشفاء من مرضك، نامي يا بنتي قليلا تستريحي.
ثم جاء يخاطب القس بولس قائلا: لا تكلمها بالأمر الذي تحدثنا به، دعني أعالجه وأعالجها وحدي.
الفصل الثالث والعشرون
دخل فريد إلى البيت راكضا ينادي الماما، فأمسكه القس بولس وأجلسه على ركبته يقبله، ويقول: الماما نائمة الآن، ألا تحبني يا ابني؟ - من أنت؟ - أنا أبوك.
فهز فريد رأسه مشككا ثم قال: لا، لا، عمي القس جبرائيل قلي البابا ساب ظليف. - صحيح يا ابني، واليوم نراه إن شاء الله. - اليوم؟ البابا؟ البابا كمان؟
وجعل يصفق بيديه طربا. - أي نعم. - ومن أي بزي؟ - من حيفا. - وأين هيفا؟ - حيفا عند البحر. - البحر في تلهوم؟ - لا، لا، البحر بعيد،
فهز فريد رأسه عابسا. - لا يزي البابا اليوم.
وكان الصغير مصيبا في ظنه؛ لأن عارف مبارك سافر من حيفا ذاك النهار إلى الناصرة فبات في بيته هناك، وعول على أن ينهض باكرا فيركب العربة إلى طبريا فيصل إلى بيت عمه في الغور قرب الظهر، وليلة كان في بيته بالناصرة قص على والديه بعض قصة مريم وابنها وأخبرهما بما هو عازم، فسكت أبوه مطرقا واستشاطت أمه غيظا. - جننت يا عارف، والله بالله! إذا فعلت هذه الفعلة؛ إذا تزوجت بهذه الفتاة الساقطة لا ترى وجهي فيما بعد، رح اعمل ما تشاء، عمك مجنون، وقد أصبت بعدوى جنونه، ابن مبارك يتزوج براقصة ساقطة، بل بخادمة من خادمات بيته ، يا ربي يا ربي! أي ذنب اقترفنا ليكون هذا قصاصنا؟ أستحلفك بالله وبأجدادك يا عارف أن تقلع عن قصدك، أن تسمع كلمتي، أن تعمل بإرادتي؛ إكراما لأمك الحزينة، عد إلى رشدك، ارجع غدا إلى أشغالك بحيفا، اترك هذه الفتاة وشأنها، اتركها لعمك القسيس المجنون، هو يخلصها ببركاته وصلواته.
صفحة غير معروفة