لما فرت مريم الربيع الماضي هاربة منه كما يهرب الغسق من الليل أو الليل من الفجر، ظل القس جبرائيل شهرين فريسة نزاع في نفسه شديد بين ما كان وما ينبغي أن يكون، بل بين الحقيقة والخيال، بل بين واجب قدسه الله ومحكمة قدسها العقل وحبر الزمان، فهم مرة أن يتبعها مستقصيا فعادت الحكمة تملك عليه نفسه ففوض أمره إلى الله، ونفض من أمرها يده، ومن أمر ولدها أيضا، ولكنه لم ينقم عليها، ولم ينبذها من قلبه، ولم ينسها مرة في صلواته، أقام في بيته قرب كفر ناحوم معتزلا العالم والناس، ناسكا لا على شكل أجداده النساك بل ناسكا عاملا، ناسكا فلاحا.
ومرت الأيام تتلو الأيام ومريم وذكراها مقيمان في فؤاده يعطران صلواته وتأملاته، وما نام ليلة قبل أن يبتهل إلى الله من أجلها: صنها ربي قها شر الجهل وشر الأهواء وشر الأطماع وشر المستهترين من الناس، وشر المآثم والموبقات، اكحل جفنها بأحلام نعمتك، وابعث في ناظريها بهاء نورك، سدد خطواتها، وثبت في سبيل الخير والحق قدمها، يا فتاح يا رزاق! افتح لها بابا لا يحزنون من يدخلونه، ارزقها خيرا لا ينعمون من يحرمونه ولا يطغون من يرزقونه، يا حليم يا رحيم! اسبغ عليها من سوابغ حلمك، أفض عليها من فيضان رحمتك، اهدها السراط المستقيم حيث كانت وحيث حلت، وإذا كان عبدك الذي يضرع الآن إليك سعيدا في يقينه، ثابتا في إيمانه، قويما في رأيه، صافيا في وجدانه، فاهدها ربي إليه، اهدها إلي، اهدها إلى ابنها، آمين.
صلى هذه الصلاة تلك الليلة حسب عادته وأضاف إليها الجملة الأخيرة ذاكرا ولدها، صلى هذ الصلاة في السهل وهو عائد إلى البيت يفكر بمريم شيقا آسفا، ويفكر مستبشرا بما كشف له في أصيل ذاك النهار، ولما وصل إلى البيت جعل يقلب في أوراقه فعثر على الكتاب الذي كان يطلبه، الكتاب الذي بعث به إليه أخوه يوسف يوم كان في بيروت، فاستلمه بعد أن سافرت مريم إلى فرنسا، فأهمله يومئذ غضبا قانطا، ولكنه أعاد تلك الليلة قراءته.
أخي العزيز القس جبرائيل أطال الله بقاءه
أقبلك وأبثك أشواقي وأرجو أن تكون بخير، ثم أخبرك أنني اجتمعت والحمد لله بابني عارف وهو الان في لبنان، وقد سلمته كتابك وأطلعته على الآخر منك لي، فآنست منه قبولا بما تنصح، وأنا والله يشهد على ما أقول! عامل برأيك ساع سعيك في سبيل تلك الفتاة، ومتى عدنا أنا وعارف إلى الناصرة نتمم ما فيه خير الجميع إن شاء الله.
أخوك: يوسف مبارك
والآن وقد علم أن الولد ولد مريم، لم يزل حيا استحث سابق عزمه واستنهض راقد قصده وهو يعزي نفسه قائلا: ما لا يبلغ كله لا يترك جله، وكأن الله أرسل لطيفة وقد أهداها إلى ذاك البيت لتنبهه إلى واجب أهمله آثما، فنهض صباح اليوم الثاني باكرا يقول لها: تعالي معي.
وذهب ولطيفة إلى السراي في طبريا ليقابل القائمقام.
الفصل الرابع عشر
الحاج محيي الدين صاحب الكازينو بالقاهرة رجل قصير بدين لعين (نريد بالنعت الأخير ما هو متعارف من معناه بين الناس عندما يقفون عنده يجرون الياء منه معجبين، فيقولون مثلا: فلان لعين! ليصفوه بالحذق والمكر والدهاء)، فالحاج محيي الدين إذن قصير بدين لعين! وإنه وإن ارتدى الحرير لأصلب خلقا وخلقا من قماش الخيام الإنكليزي، له رأس ككرة المدفع كبير مستدير، تعلوه عمامة خضراء صغيرة، تحتها إذا أقبل جبهة عرصها خداع، وإذا أدبر سامد الرأس تبدو عكنات رقبته تحت تلك العمامة كأمواج النيل أو كغدد الفيل، وهو غليظ الشفتين كذلك وعريض الوجه لحيم، أما أنفه المشوه فيكاد لصغره يضيع في وجهه، وعيناه الصغيرتان الزايغتان تنفران من أنفه، وشاربه المقصوص هو بين ذاك الأنف وتلك الشفة كخيال قضيب بين كهف وكثيب.
صفحة غير معروفة