وفي اليوم التالي تناولت مريم من يد سيدتها تذكرة سفر إلى مرسيليا وأخرى إلى مصر في الدرجة الثانية، وكتاب توصية إلى جمال الدين باشا أحد مدراء البنك الإفرنسي هناك، وغلافا فيه عشرون ذهبا أجرتها.
ودخلت شرلت إذ ذاك تقول: العربة في انتظار. - وهل أنزل الصندوق؟ - نعم. - الله يوفقك يا مريم، شيعي مريم إلى المحطة يا شرلت. - لا لزوم لذلك مدام، لا لزوم، أنا أقدر أن أعتني بنفسي. - حسن، بن فوياج - قولي للحوذي يا شرلت أن يوصلها إلى محطة «ليون».
ولكن مريم لا تحب أن تسافر إلى بلادها، بل لا تريد أن تترك باريس، فإن لها من يعينها فيها على رغبتها، وينبغي أن تراه، ما العمل؟ ما التدبير؟ أطرقت الفتاة مفكرة بينا العربة تسير بها إلى المحطة، فلاح لها فكر بعث الأمل في عينيها، ولما وقفت هناك، أنزل الحوذي صندوقها وحقيبتها فاستلمهما أحد الحمالين، ولبث ينتظر أمر السيدة المسافرة.
صرفت مريم الحوذي ووقفت على الرصيف حائرة بائرة كأنها نسيت أمرا أو أضاعت شيئا، ثم استدعت حوذيا آخر وأمرت الحمال أن يعيد أمتعتها إلى العربة. - لا أقدر أن أسافر الليلة.
ونفحت الحمال بقطعة من النقود وأعطت الحوذي اسم النزل المقيم فيه نجيب مراد.
ولما وصلت إلى ذاك النزل الفخم في قلب المدينة استأجرت غرفة فيه وسألت عن ابن بلدها فقيل لها: إنه سافر. - متى سافر؟ - مساء البارح مدام. - وإلى أين؟
فعمد الكاتب إلى سجل يقلب في صفحاته، ثم قال: لا نعلم مدام، لم يعطنا المسيو مراد عنوانه.
الفصل الثاني عشر
صعدت مريم إلى غرفتها مساء ذاك النهار فخلعت ثياب السفر، ثم اغتسلت وصففت شعرها وجلت أظافرها، ثم ارتدت ثوبا من الحرير الأحمر الغامق تحجبه وتظهره غلالة من الخرج الأسود الفخم وهو الثوب الوحيد من نوعه عندها، لبسته مرة واحدة فقط، وذلك ليلة زارت ال «أبرا» ونجيب مراد، فبدت فيه مكشوفة الأذرع والترائب وسلسلة الذهب ذات الأيقونة الحندقوقية في عنقها، وقد ظللت مؤخره ظلال خفيفة من ضفائر شعرها الأسود الكث المضفور في شكل يزدري العناية والتكلف مسترخيا مستمسكا، تدخل الطية منه في الطية مائجة، كأنها حيات في أحجارها وقد بدت الرءوس من خلال ثنياتها.
وقفت مريم بانحراف أمام المرآة، وقد مالت بوجهها تنظر إلى الصورة المنعكسة هناك فأعجبها منها قدها، وأنيق جانبها، وانسلاك كتفها، والضفائر المسترخية فوق جيدها، ونزلت إلى البهو الكبير وهي كما يقال فتنة للعالمين تتناول العشاء، فاستقبلها رئيس الخدم في الباب محني الرأس باسما. - هل مدام وحدها؟ - نعم.
صفحة غير معروفة